المنامة تحتفي باليوم العالمي للغة العربية

بنسقٍ جمالي يستعيد الذاكرة العربية الأصيلة، وفي مباغتات لغوية لافتة، احتفت "المنامة.. عاصمة الثقافة العربية للعام 2012م" إحدى صباحات دجنبر الماضي باليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة بالتعاون ما بين وزارة الثقافة والمركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، حيث لبى الدعوة كلٌ من معالي وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع عبدالرحمن محمد العويس من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومعالي وزير الثقافة الأردني سميح المعايطة، وبحضور أمين عام وأعضاء من مؤسسة الفكر العربي، ممثلي اليونيسكو، رؤساء المجامع اللغوية والمثقفين الأكاديميين المهتمين بالعلوم اللغوية. واستدعى هذا الاحتفاء ملامسات متداخلة ومتواليات ثقافية تستنبط واقع اللغة العربية وقضاياها، وتُجاذِب في فضاء لغوي إشكاليات هذه اللغة ومعالجاتها الآنية.

 وضمن بعض المشاهد الشعرية والتمثيلية القصيرة، استوحى الشباب إيقاعًا خاصًا باللغة يدمج جديدها الرصين والمتمكن بحديثها الأليف الشفاف، وذلك بالموازاة مع إطلاق سلسلة من الفعاليات والأحداث، التي شاركت في تقديمها الإعلامية البحرينية إيمان مرهون. إذ افتتحت معالي وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة مرحبةً: "نعيش اليوم استثناء خاصًا باللغة بعد إدراجها كلغة عالمية سعينا طوال الأعوام السابقة معالجتها ومعاينة قضاياها، نريد اليوم أن نكون بداية أخرى تمارس فيها اللغة حياتها وحيويتها كي تصل للأجيال القادمة، وأن نحافظ على هذه الهوية بفرادة تكوينها وتشكيلها"، مبديةً سعادتها بأن تكون المنامة في عاصمتها الثقافية تحتفي بهذا الحدث الذي يُعلَن للمرة الأولى، ومشيدة بالحضور الذين شاركوا المنامة احتفائها العربي "نمتلك لغة جميلة بأصولها وحروفها وتشكيلها، وبإمكاننا أن نروج لهذا الجمال بلغته ونسعى للتمسك بحضاراتنا العربية وإيجاد حضاراتنا الآنية من خلال هذه اللغة". وقد أتبعت كلمتها مشاركة واسعة من الحضور الذين تناول كل واحد منهم توصيف اللغة متفقين جميعًا على أن اللحظة قد حانت لنقد هذه اللغة والخروج من قيدها الذي عاشت فيه طويلاً، وتفعيلها كلغة حياة ومعايشة توازي الثقافات الشعبية الأخرى وتنافسها.

وقد شاركت الكاتبة اللبنانية رشا الأمير خلال هذا الحفل بمحاضرة خاصة حول اليوم العالمي للغة العربية استعادت فيها مراكز القوة والتسلسل الحضاري الذي عاشته اللغة انطلاقًا من حضارة بابل ومرورًا بحلب، الدولة العثمانية والأتراك على شكل حكائي كسرت فيها رتابة التناول إلى مساحات تفاعلية، وتطرقت إلى مناطق قوة هذه اللغة وتحقيقها لحضارات متتالية لم تكتفِ باستيحاء اللغة، ولكنها انتقلت إلى الشكل الحروفي كما حدث لدى الفرس، الأتراك وغيرهم، والذين كانوا يجدون في هذه اللغة منهلاً علميًا بقي يؤصل دور لغته حتى من خلال رفد العلوم، كما كان في جامعة الطب بلبنان وفي مصر، قبل سقوط فكرة الترجمة، التي استغنى فيها المفكرون المترجمون عن أدوارهم عائدين أدراجهم إلى بلادهم الأصيلة، واكتفاء العرب بنهل العلوم بلغتها الأم بعيدًا عن أعمال الترجمة والبحث. وأشارت الأمير في حديثها إلى أن هذه المشكلة أثمرت عن مناطق تخلخل في اللغة العربية وتراجع في قوتها، متسائلةً: "أين الخطأ في لغتنا؟ إن كنا نملك أدواتها، إمكانياتنا الاقتصادية والحضارية، العقول البشرية، فأين الخطأ؟"، كما استعرضت مجموعة من النتاجات الأدبية القيّمة مشيرةً إلى توقف المعجم اللغوي عند "لسان العرب" وعدم استحداث أي معجم آخر يتلاءم مع إيقاع العصر والمتغيرات التي تعرضت لها اللغة. ودعت في ختام محاضرتها إلى ضرورة تحمل المسؤولية اللغوية واستحداث قرارات تربوية وسياسية وشخصية من شأنها تدعيم العلاقة ما بين اللغة وأبنائها.

أتبع العرض، محاضرة أخرى تناول فيها د. عوض هاشم اللذين مشروع "كتاب العين" الذي كان يبحث فيه الفنان الراحل د. أحمد باقر عن تنظيرات حول اللغة العربية بتراكيبها الشكلية وكاليغرافيتها وملامحها المرسومة والمنطوقة، ومن جانب علمي تطرّق الدكتور عوض هاشم إلى هذه النظرية وعلاقتها بالتكوين البيولوجي والتركيبة البشرية، حيث دعيا مؤسسة الفكر العربي لتبني مثل هذه النظرية والسعي في بحثها ودعمها كعملٍ لغوي فريد يضفي إلى علوم اللغة نظرية أخرى.

 وقد اختتم حفل اليوم العالمي للغة العربية فعالياته بتكريم غيابي لاختصاصي الأدب الحديث "هُوَ فيونغ" فيتنامي الأصل، والمهندس ذي الأصول السورية "باتريك مغربنة" لقيامها بتكريم أعمال الشاعر العربي الكبير أحمد المتنبي والعديد من الموشحات الأندلسية والغنائية إلى ترجمة فرنسية رصينة تعتمد التفعيلة اللغوية الفرنسية، مما ساعد على نقل اللغة الشعرية العربية في قالب متجدد يمكن تدارسه عالميًا. كما أعلنت معالي وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة عن إطلاق مسابقة "النص واللحن والأداء" التي تدعو فيها للتغني بالشعر الفصيح واستعادة هذا النمط الغنائي بأداءاته الفريدة والمتمكنة، حيث تستمر هذه المسابقة حتى العام المقبل في مثل احتفالية اليوم العالمي للغة العربية. وقد رافق الحفل معرض تشكيلي للفنان الراحل د. أحمد باقر الذي عُرِضَت فيه مجموعة أعمال فنية تشكيلية للمرة الأولى بعنوان "حروف لم تُقرَأ" في نداءات بصرية حروفية.

تجدر الإشارة إلى أن اليوم العالمي للغة العربية قد تم إقراره في الدورة 190 للمجلس التنفيذي التي انعقدت بين الثالث والثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بمقر المنظمة في باريس. وقد اختير هذا اليوم تحديدًا لمصادفته صدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يقتضي باعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقررة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية، وذلك في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973م.