هذه قراءة ثقافية نقدية شيقة لكاتب وشاعر من الجزيرة العربية يسائل نصوص صنع الله ابراهيم من منطلق يكشف عن الكثير مما تنطوي عليه نصوصه من مرتكزات، وكيف يكشف جدل التاريخ والسيرة والجسد عن الكثير من طبقات المعنى المضمرة في هذه النصوص، وخاصة في رواية (العمامة والقبعة).

صنع الله إبراهيم: التاريخ، السيرة، الجسد

قراءة ثقافية

علي الدميني

تنهض إستراتيجية بناء النص الإبداعي في روايات صنع الله على تضافر اشتغالات "تناص" خطابات متعددة المرجعيات، تعمل على تخصيب بنية النص وتوجيه فاعلية خطابه صوب آفاق قد تلمع مباشرة على السطح، لكنها دائماً تحمل في أغوارها العميقة دلالات ثرية ومتشابكة، ونشير هنا إلى ثلاثة عناصر رئيسة من تلك الاشتغالات:
أ – التاريخ: ويشمل ما جرى التعاطي معه كوثائق ذات حمولات متعددة، سياسية، اجتماعية، فكرية، ثقافية الخ.. وما يندرج ضمن ما يسمى بالمعلومة المبثوثة في وسائل الإعلام المختلفة، والمدونات التي أطلع عليها الروائي، وتلك التي عمل على إيهامنا بحقيقتها في خطابه الروائي، بما يفتح الباب أمام القارئ للتساؤل عن اشتباكات عديدة حول علاقة الرواية بالتاريخ، وما يتعلق بوسمنا للنص بأنه كتابة تاريخية أو روائيه؟

ب – السيرة الذاتية: وتتمثل في مستواها الأول كحياة عاشها الكاتب واشتغل على إعادة أنتاجها روائياً، فيما يتضمن مستواها الآخر فاعليات المخزون المعرفي للكاتب، في كافة تجلياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتحوله إلى وعي نوعي يوجه بوصلة تشكيل الخطاب الروائي، حتى غدا ظل الروائي (بكل حمولاته) حاضراَ في مخيال استقبال القارئ لإنتاجه!!

ج – الجسد (الحسية الجسدية): والمتابع لروايات صنع الله سيلاحظ أن رواياته لا تنشغل غالباً على نسج علاقات الحب التي تنشأ بين المرأة والرجل في خضم حياتهم الاجتماعية، والتي عادة ما تهيؤنا لاستقبال تطورها إلى الحسية الجسدية، ولكن العديد من رواياته قد عمدت إلى توظيف الحسية "الأيروتيكية" بنبرة عالية، دون أية ممهدات وجدانية لها! وهذا ما يدعونا إلى التساؤل حول الدلالات المختبئة في تلك العلاقات الجسدية، وفيما إذا كان النص الروائي سيعبر فقط عن إمكانية حدوثها – واقعياً أو تخييلياً - في أي زمان أو مكان، أم أن النص سيستحثنا لقراءة ما يقبع خلفها من حمولات دالة أخرى؟

ومن خلال متابعاتي المستمرة لنتاج "صنع الله" الروائي، رأيت أن محور ثلاثية "التاريخ، السيرة، الجسد" يستحق قراءة ثقافية لهذه المرتكزات في إبداعه، لا يقل أهمية عن ما أنجزه الناقد والمفكر الكبير "محمود أمين العالم" في كتابه (ثلاثية الرفض والهزيمة) الذي اشتغل فيه على بعض أعمال الروائي. وحيث أننا محكومون هنا، في ظل ظرفي المكان والزمان، بضرورات الإشارة والاختزال، فقد اخترت روايته الأخيرة "العمامة والقبعة" لأن تكون مداراً للحديث عن تلك العناصر الثلاثة، مع الإشارة ما أمكن إلى أعماله السابقة .

"العمامة " و"القبعة" أنموذجاً
لا يمكننا أن نهيئ أنفسنا لقراءة تحليلية أو تأويلية لرواية "العمامة والقبّعة" - التي نشرتها دار المستقبل العربي في الربع الثاني من عام 2008م - دون التوقف أمام عتبة لوحة غلافها التي نفذها "محي الدين اللباد" مستعيناً في ذلك بدمج لوحات ثلاث لرسامين فرنسيين، حيث اتكأ في تركيبها على إبراز محور تتابعي موجه بسهم من أسفل الجهة اليمنى إلى أعلى الجهة اليسرى للغلاف، منطلقاً من لوحة الرسام (سينيه) المتمثلة في احتضان امرأة لرجل شرقي وهي تتطلع (رغم الاحتضان) إلى أفق آخر يخترق منظور عينيها ويحمل صورة رجل في وسط الغلاف يرمز إلى بونابرته (لوحة بيير غرين) وهو يضع يده اليمنى على أخص سمات الحسية الذكورية، بينما تتكئ على كتف بونابرت الأيمن امرأة مطمئنة إلى وجودها، وهي تنظر بهدوء فاره إلى الأفق البعيد
!

ويمكن قراءة تلك اللوحة التركيبية في دلالاتها على العلاقة الملتبسة ما بين السارد الشرقي في الرواية وبين السيدة الفرنسية " بولين ليسلي فورييه "، زوجة أحد ضباط الحملة، والتي أقامت علاقة جسدية وتعاطفية مع السارد مثلما أقامتها مع " بونابرته "، ولذا يمكننا النظر إلى اللوحة، كعلامة على التباس العلاقة بين الشرق والغرب، وهو ما سنفصل فيه لاحقاً. ويتوازى مع تلك التكوينات المتعددة على غلاف الرواية، ما يستلفت نظرنا في حروف كتابة عنوان الرواية " العمامة" و" القبّعة " والتي استعارت حروف طباعة استخدمها "نابليون" في نشر بياناته وأوامره الموجهة إلى المصريين. وهذا الحرف يشدنا بشكل لافت إلى تشكيل حرف "الواو" الخانع والمنحني ما بين الاسم الأول " العمامة " والاسم الثاني " القبّعة " وكأنما يرمز بشكل مبكر لانحناء الأول للثاني !!

هذا الغلاف، وإن كان هدية من الرسام للروائي، إلا انه يعبر عن تواطؤ ضمني بينهما للتعبير عن موقف يعارض أراء كثير من المثقفين العرب والأجانب الذين يرون أن الحملة الفرنسية على مصر كانت تعبيراً تاريخياً عن أهم لحظات التماس الثقافي الإيجابي بين الشرق العربي المتخلف، والغرب التنويري، هيأت للشرق لحظتها أن يبحث عن ذاته الجديدة وحداثته الموعودة، عبر أحداث ذلك التماس أو التصادم!! صنع الله إبراهيم، في عمله هذا، قام باستخدام تقنية كتابة مذكرات يومية، تماهى المؤلف خلالها مع السارد الكلي (العليم) للنص، من أجل إعادة تدوين سرديات تفاصيل الحملة الفرنسية وخفاياها، باحثاً فيما لم يتضمنه كتاب الجبرتي عن تلك الحملة " عجائب الآثار في التراجم والأخبار "، ومستفيداً من خزانة كبيرة من الكتابات والوثائق (تاريخية وروائية وسينمائية) قاربت ذلك المعترك، ومنها كتابات لكل من علي مبارك، والرافعي، والأمريكي كريستوفر هيرالد، والفرنسي هنري لورنس، وغيرهم (الرواية ص 329 وما بعدها).

وإذْ اعتدنا على اشتغال "صنع الله إبراهيم" على الوثيقة والتاريخ، والسيرة الذاتية، كمواد متداخلة مع متخيله السردي المرتبط زمنيا بالواقع المعاش، إلا أنه هنا أختط استراتيجيه مغايرة، حيث ذهب بمتخيله كاملاً (زمنيا ومكانيا، وشخوصا وأحداثا) إلى قلب التاريخ ذاته دون أية علاقة نصية دالة على ترابط الزمنين الحاضر والماضي، حيث غاص (الراوي/ السارد) في التاريخ للقيام بمهمتين مزدوجتين لسرد النص:

أولاهما عملت كعين سيّرها "الجبرتي" لترصّد الأخبار والحوادث، وكتابة مسوداتها ليطلع عليها الجبرتي ويختار منها ما يراه مناسبا لمنهجه، وثانيتهما تمثلت في تدوين هذا السارد العليم لمدونته الخاصة به والتي حملت رؤيته وموقفه (التاريخي والآني) من كل ما جرى إبان الحملة الفرنسية على مصر! وحول اهتمام صنع الله بهذا البعد السردي للتاريخ، أشار في حوار نشرته جريدة " البديل " في 24/1/2008م قبيل صدور الرواية، إلى أنه كان يخطط لكتابة رواية تاريخية(أو بالأصح رواية تستند على الحكاية التاريخية) منذ أكثر من عشرة أعوام، وأنه انشغل بالبحث في الكثير مما كتب عن الحملة الفرنسية على مصر، تفاعلاً مع التحضير للاحتفال بالمئوية الثانية لذكراها في عام 1998م.

وقد كان بإمكان الروائي أن ينتهج إستراتيجية كتابية ذات بعد تحليلي أو سجالي مباشر للوثيقة وللتاريخ المتعلق بذلك الحدث، لإيصال وجهة نظره حيال موضعة "الحملة " في مكانها الذي يميل إليه، ولكنه كروائي ماهر يعرف قدرة السرد والتخييل على النفاذ إلى وجدان المتلقي، عمد إلى استثمار موهبته في صياغة عمل روائي في شكل "يوميات (على ضفاف التاريخ) " تبدأ في يوم الأحد 22 يوليو 1798 ظهراً، حين بلغت جيوش "بونابرته " قلب القاهرة، ليتمترس السارد في قلب الحدث، واصفاً حالة من الرعب والمقاومة .. من الهروب والمهادنة .. من القلق والتأمل، عمت مفاصل حركة الشارع المصري وقواه المتعددة. وينهي تلك اليوميات ما بين يوم الثلاثاء 18 أغسطس حين ورد الخبر بسفر الفرنساوية ونزولهم المراكب من ساحل أبي قير، ويوم الاثنين 31 أغسطس1802م حين عاد السارد إلى منزل أستاذه " الجبرتي " ليطلب الأستاذ منه أن يضع عنوانا جديدا لتاريخه للحملة بعنوان " مظهر التقديس بذهاب الفرنسيس"، بدلاً من عنوانها الأول، وحين يتساءل الراوي: أهو كتاب جديد؟
 يجيبه الجبرتي "جديد قديم، ويرد عليه الراوي: "لم أفهم  !!

وتتبدى لنا كلمة "لم أفهم" معادلاً لحضور رواية "العمامة والقبعة" لأنها ستكون شكاً في (التاريخ) وإعادة لكتابته (إبداعياً) في الآن ذاته، ومبرراً لذهاب الروائي إلى محاورة القناعات التي استقرت حول تلك الحملة واستهدافاتها، ومن ثم طرح تساؤلاته حولها، من جديد.

رواية "العمامة والقبعة" لا تموضع مرجعيتها في مرحلة الحملة الفرنسية على مصر وحسب، وإنما تقوم – كعمل إبداعي - بتحفيزنا على رؤية مرجعيتها في راهننا المعاصر والآني تحديداً، وكأنما التاريخ يعيد نفسه،، حين استغلّ القطب العالمي الأوحد المتمثل في "الولايات المتحدة الأمريكية" كل أخطائنا المتراكمة خلال العقدين الماضيين (من مآسي الحرب العراقية الإيرانية إلى احتلال الكويت في عام 1990م، وحتى هجمات "القاعدة" على برجي التجارة العالمية في نيويورك)، فعمل الاستعمار الجديد على استعادة وجهه القديم، الساعي إلى الهيمنة على مصادر الثروة وتعميق استتباع الشعوب والحكومات لأهدافه الآنية والإستراتيجية، تحت رايات متعددة، منها شعار "محاربة الإرهاب" في " افغانستان"، ونزع أسلحة الدمار الشامل، وشعار تمدين البلدان المتخلفة، واستنبات "الديمقراطية " في ربوعها القاحلة عبر احتلاله للعراق!

كثيرون – طبعاً - لا يتفقون مع فكرة إعادة التاريخ لنفسه، ومنهم ماركس الذي قال:" التاريخ لا يعيد نفسه، ولو فعل ذلك لكان في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة !"، ذلك لأن أي أمة من الأمم (بحسب حسام فاتح محمد) لو تعرضت لنكسة معينة في تاريخها، وعادت وحصلت نفس النكسة مرة أخرى وبالظروف نفسها، وبالشكل نفسه، فهذا أمر مضحك، لأن هذه الأمة لم تستفد من تاريخها، أي لم تراجع التاريخ!! ولذا أذهب في قراءتي هذه، إلى أن صنع الله قد توقف أمام تلك الملهاة، ليجسدها في عمل إبداعي عميق الدلالة على تكرار المأساة بنفس الصورة، في تاريخنا العربي والإسلامي المديد!

 العمامة الشرقية" واحدة، تعرفها الحكومات الاستعمارية جيداً، مهما كان لونها " دينياً " أو "مدنياً"، وتجيد التعاطي مع حمولاتها ومرموزاتها الدينية والمدنية على السواء، وفق مركزية رؤية استشراقية / استعمارية محددة، تعرف كيفية تطويعها والإفادة منها على المستويين الرمزي والمادي في آن. من أجل ذلك فإن صنع الله – الذي يعيش بيننا اليوم – قد عمل على إبداع كتابة روائية استعادت مناخ "الحملة الفرنسية على مصر "، وكأنه يكتب رواية تعبر عن واقعنا المعاش الآن، لتؤكد على تشابه الحالين والمآلين معاً!

وفي هذه الرواية التي جهد مبدعها في إلقاء الضوء على ملامح ماضٍ يعيد تكرار ذاته، يضعنا في أتون حالة الكشف عن شعارات الحملة الفرنسية التي أعلنت رغبتها في تمدين شعب مصر وتحريره من حكم المماليك، واستعارت لها لبوساً دينياً- بحسب اللحظة التاريخية - غدا من خلاله، " بونابرت " مسلما ً يفتي باسم الإسلام لتبرير بسط هيمنة المستعمر على أوطاننا واستنزاف مقدرات شعوبنا وكسر إرادتها، إلا أن الراوي قد فتح عيني كاميرا تصويره على مكوناتنا الثقافية الذاتية الهشة التي مكنت الآخر من استغلالها لإيهامنا بصدق نواياه.

لذلك التقطت عينا المصور كثيرا من تجليات الدروشة واستغلال موقع الدين الإسلامي في نفوس الناس، فخاطب منشور "بونابرت" المبكر تلك الحالة حين قال: "إن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم (..) إن الفرنساوية مسلمون مخلصون لحضرة السلطان العثماني" (الرواية - ص 16)، ومنها أيضا فتوى الأزهر حول الختان وشرب الخمر للفرنسيين المسلمين (الرواية - ص177)، وكذلك ما تكلم به أئمة المساجد من أن "بونابرته " رأى الرسول في منامه، فوعده بونابرته بأن يُسْلِم ولكن بعد عام، فوافقه النبي على ذلك (الرواية - ص134) !!

ويمكن للمتتبع لتفاصيل الرواية الاستشهاد بالكثير من دلالات معضلات تلك البنية الثقافية، التي تمظهرت في علاقة " العمامة " - كرمز لمكانة بعض المتنفذين من رجال الدين أو السياسيين في شرقنا - " بالقبّعة " رمز المستعمر، وتماهيها مع الغالب، والسعي إلى تسويقها لدى عامة الناس. وفي هذا الصدد نطالع ما نشره أعضاء الديوان ا لخصوصي من (العلماء) المختارين من السلطة الفرنسية، وما تبنوه من مبالغات بشأن "بونابرته " وحبه للإسلام وللمسلمين، وأنه سيبني لهم مسجداً عظيماً بمصر، لا نظير له في الأوطان!! (الرواية - ص 183). أما مسألة " الأقليات " العرقية والدينية، فقد أخذت موقعها بشكل لا فت في الرواية، حيث دونت ما تعرضت له الأقليات من عنت وتمييز تاريخي طويل، مثل عدم السماح لهم بلبس العمامة الخضراء أو الحمراء أو البيضاء وقسرهم على لبس العمامة السوداء، ومنعهم من ركوب الخيل والبغال وتحديد مركوبهم "بالحمير " على أن ينزلوا عن ظهورها حين مرورهم بالمساجد، وسوى ذلك من ممارسات (الرواية - ص25) !!

هذه الممارسات الإقصائية عمّقت في وجدان الأقليات مشاعر كره العثمانيين والمماليك، بل والحقد على أشقاءهم المواطنين، ودفعتها إلى الاصطفاف بقوة إلى جانب الفرنساوية، حيث تشير الرواية في ص (283) إلى أن الفرنساوية ,و أعوانهم، وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام، تطاولوا على المسلمين بالإهانة !

وإذا ما أمعنا النظر في كتاب حياتنا وتاريخنا، وقارنا بين صفحات الحملة الفرنسية، والغزو المعاصر لبلداننا، فإننا نرى أن عمق مأساتنا لا تكمن فقط في أننا كنا دائماً ضحايا لأطماع واستهدافات الآخر،الذي استنزف طاقاتنا - بشكل مباشر، أو غير مباشر في مواجهته، أو بصراعنا حول تلك المواجهة، ولكنها تكمن في أسباب ذاتية عديدة، يمكن لنا أن نشير إلى أبرز تجلياتها:
أولهما: الاستبداد الشمولي في كافة تبدياته الثقافية والاجتماعية والسياسية، الذي قام بتوظيف "الشعار " الديني أو المدني لخدمة توجهاته، بشكل ديماغوجي وقمعي، فتسبب في أعاقة إمكانية استنبات بذور عقلانية المعرفة والاهتمام بالتفكير العلمي والعملي التواصلي، ومضى إلى احتكار مفاعيل وآليات تطبيق قيم ونظم العدالة والحرية والديمقراطية، مما عمل على تغييب ثقافة التسامح والحوار واحترام حقوق الإنسان، بما فيها احترام حقوق الأقليات العرقية أو المذهبية، أو الثقافية أو السياسية.
وثانيهما: استمرارية تسييد مفاعيل الثقافة الخرافية والتقليدية، وممارسة كافة أشكال التمييز والإقصاء المجتمعي، في حياتنا اليومية، مما أدى إلى استنزاف قوانا وممكنات نهوضنا الحضاري في صراعات وسجالات وحروب داخلية حول الخلافات الدينية والمذهبية، والعقائدية الوضعية على حد سواء!

(1) التاريخ والرواية:
شكّلت الأحداث السياسية الناظم الأساسي لجل أعمال صنع الله إبراهيم، باعتباره مبدعاً ومثقفاً عضوياً، وناشطاً سياسياً سابقاً، ولذلك فإن كل ما يتعلق بالتاريخ السياسي المعاصر لعالمنا العربي، من مدونات الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، والتجربة التسجيلية الذاتية، والوثيقة، واليوميات، وقصاصات الأخبار، وغيرها، قد وجدت موقعها الأثير في مختبره الروائي، فسعى من جهة أولى " إلى تقويض النمط والنموذج، وطمح إلى جعل الكتابة داخل الجنس الروائي مفتوحة .." (محمد برادة – الأدب العربي: تعبيره عن الوحدة والتنوع، مركز دراسات الوحدة العربية 1987)، ومن الجهة الأخرى فإن هاجس صنع الله في إنتاج " كتابة موازية للتاريخ المزيف " – قد حرضته وباستمرار على كشف ونقد تجاوزات الممارسات والقناعات الخاطئة المتلبسة بشعار الأيديولوجيا القمعية، مهما كان لونها، من أجل كتابة الحقيقية كما رآها، أو آمن بها الروائي، أو تلك التي يتغيا إعادة الاعتبار لها
!

وقد بقي صنع الله يحوم حول "حمى التاريخ " حتى تسلل إلى أعماقه في رواية " العمامة والقبعة "، لكي يشتغل خلال عشرة أعوام على كتابة مدونة سردية حفلت (كحكاية) ببعض أوجه الشبه وبالاختلاف عن كتاب أستاذه "الجبرتي"، عبر استنطاق العديد من كتابات تاريخية أخرى، لانجاز هذه الرواية التي تطرح أمامنا سؤال التاريخ والرواية، وفيما إذا كان صنع الله قد كتب مؤلفاً في التاريخ، أم كتب نصا روائيا يقوم، وفق متخيله السردي، على الإفادة من مدونات التاريخ؟

عدد كبير من الكتب والكتابات، قاربت سؤال الرواية والتاريخ، ويحضرنا منها (عربياً) ما تم تقديمه من أوراق بحثية في ملتقى القاهرة الثالث للإبداع (2005م)، وما حفلت به حلقة النقاش النقدي في جامعة قطر في نفس العام عن ذات العنوان. وقد تعددت وجهات النظر حيال هذا المحور، ولكننا سنشير إلى وجهتي النظر الأشد تعارضاً حيالها، حيث تنطلق الأولى من أن العمل الروائي " فعل حكي ومحاكاة للتاريخ " و"أن الرواية تاريخ، والتاريخ رواية " منطلقة من منظور أيديولوجي يؤكد على ضرورة استلهام العمل السردي للتاريخ، كاحتفاء بما يحمله تاريخ الأمة من بطولات وقيم وأحداث ".أما الموقف الموازي في القطبية المغايرة، فيرى أن الرواية فضاء للكتابة الإبداعية تتحاور فيها الخطابات ومنها خطاب التاريخ، ويشير في هذا الصدد د. محمد براده إلى أن التاريخ في "الروايات العربية كان استحضاراً لفترات زاهية أو شخصيات فذة..و لكننا نجده اليوم عنصراً جوهرياً في التحليل والنقد ومحاولة استيعاب المتغيرات"(المصدر السابق)، كما يؤكد على "حق الكاتب في تغيير حوادث التاريخ وتأويلها، لأن الحقائق التاريخية وحدها لا ترضي العقل، ولكن الفن يتدخل في هذه الحقائق،فيغيرها ويؤلها جمالياً، فتصير حقيقة فنية بعد ما كانت حقيقة تاريخية (المصدر السابق).

يرى د. فيصل دراج أن "الرواية هي ذاكرة المقموعين والمهمشين، وذلك يتفق مع ممارسة الروائي الكبير الراحل عبد الرحمن منيف الذي اشتغل في العديد من رواياته على قراءة التاريخ بعين نقدية فاحصة، من أجل توظيفه في بنية الخطاب الروائي، بعيداً عن لذة "نستالوجيا" إعادة كتابة التاريخ، حين عمل على زحزحة مفهوم البطولة الفردية من التاريخ، وما حفلت به رواية المغامرة من إعلاء لعظمة البطل المركزي وذكائه، وذهب إلى إبراز مشاهد واقعية منسية من بطولة شخصيات ومجاميع بشرية مهمشة، ومنها النساء (بتصرف مما ورد في الجزيرة نت – المعرفة – 3/10/2004م). ونستطيع القول بأن " صنع الله "ضمن اتكائه على التاريخ في الكثير من أعماله، كان منحازاً لبطولة المهمشين والمقموعين وخاصة ما نقاربه هنا في روايته "العمامة والقبّعة ".

يقول صنع الله "المؤرخ الجيد هو روائي"، وتوصيفه للمؤرخ "بالجيد" يعني ذلك المؤرخ الذي يفتح عينه وبصيرته لربط الحكاية التاريخية بمناخها الإنساني والثقافي والاجتماعي والسياسي، وتحريرها من أن تبقى تدوينا لموقف السلطات القوية حتى تكون تعبيراً عن حركة وتضحيات ومعاناة المجاميع البشرية المهمشة، وقلة هم المؤرخون الذين عنوا بشمولية هذا المعنى. ولذلك أميل إلى الرؤى النقدية التي ترى أن العمل الروائي المتكئ على الخطابات والنصوص التاريخية، هو عمل إبداعي مغاير للكتابة التاريخية، ينهض عبر إعادة قراءة التاريخ ونقده، وتقويضه أيضاً، متوسلاً بآليات بناء خطاب جمالي مغاير.

الحكاية "إذن " تشكل الهيكل الرئيس لأي كتابة، حتى لو كانت مقالة صغيرة، إلا أن المؤرخ أو الكاتب لا يتغيا منها إثارة مكامن الجمال أوالدهشة في المتلقي بقدر ما يتغيا إيصال فكرته بأقصر طرق التعبير عنها. أما الروائي فإنه يقوم بعملية تثمير للحكاية وإعادة إنتاجها في خطاب سردي، يحررها من حقيقة مرجعيتها الواقعية أو التاريخية أو أوهامها الثقافية، ويضعها في مستوى آخر من مستويات القول والتخييل، كحقيقة فنية موازية أو مناقضة للحقيقة التاريخية أو الواقعية. ولذلك لا يمكننا هنا أن نسائل "صنع الله " عن حقيقة مسودة الكتابة التي حررها "مصري" تلميذ " الجبرتي"، لإنجاز هذه الرواية، ولا عن حقيقة أية حادثة أخرى وردت في ثناياها، كتجربة علاقة السارد مع جارية "الجبرتي" أو مع الفرنسية "بولين" كمثال!! في رواية " القبعة والعمامة " لم يعد التاريخ أحد الخطابات التي دأب الروائي على الاشتغال على توظيفها في نصوصه، وإنما غدا التاريخ (كحكاية) خطابها الوحيد، ومركز بؤرة توجيه الحدث في الزمان والمكان، فكيف عمل الروائي على تحرير الحكاية من دالها المباشر الوحيد، إلى فضاء إعادة إنتاجها في بنية خطاب سردي قادر على جعلنا نقرأها بعين جمالية وتأملية مغايرة لمكونها التاريخي؟ هناك الكثير من الأساليب والحيل الفنية التي استعان بها الروائي لتحويل هذا العمل من حقيقة تاريخية قارة إلى متخيل سردي متحرك، يمكننا الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:

(أ) حكائية الرواية وحكاية التاريخ:
منذ البداية، ومنذ غلاف الكتاب، عمد صنع الله بشكل لافت إلى تجنيس عمله تحت مسمى "رواية" كما لم يعمد إلى استخدام الهوامش للإشارة إلى توثيق الإحالات المرجعية لأية حادثة جرى ذكرها، وإنما أشار في آخر النص إلى مجموعة كتب أفاد منها، وبذلك تخفّف من عبء مساءلتنا للحقيقة التاريخية الكامنة في تفاصيله ! كما أن مهارة الروائي في اختيار "حكاية" تاريخية محددة، قابلة للحدوث في أزمنة أخرى، قد أسهم في تحرير الرواية من بعدها التاريخي "الاستاتيكي"، وفتح فضاء قراءتها وتأويلها كنص سردي يحمل معه إمكانية تجدد الحدث في أزمنة أخرى ومنها حاضر الوطن ا لعربي اليوم، الذي يعيش نفس الإشكالية التي عاشتها مصر إبان الحملة الفرنسية!

(ب‌)    الحسية الجسدية:
وظف الروائي هذه الحسية كمادة للتشويق السردي، وكحامل للبعد الرمزي الدال على جدل وتناقض العلاقات بين طرفي الصراع "الغرب والشرق "، وهو ما سنفصل فيه في الجزء الثالث من هذه الورقة.

(ج) استراتيجية افتراق الروائي عن المؤرخ:
يورد (سارد النص) في الرواية (ص 20)، بأن الشيخ الجبرتي في " طياراته " (ملاحظاته العامة) كان يركز على الأحداث البارزة ويتجنب الحديث عن الأمور الشخصية، أما هو فقد قرر ألا يقلده
.

وهنا تكمن استراتيجية افتراق الكاتب الروائي عن المؤرخ، بانشغاله على بناء معمار متخيل سردي يعنى بالحياة اليومية التي قامت على أطرافها عناوين الأحداث التاريخية للحملة الفرنسية، لإبراز حركة الإنسان الفردية والجمعية في المكان والزمان على خلفية الحدث، راصداً بأناة تفاصيل حياة الناس في حارات القاهرة القديمة، من القلعة إلى بولاق، والأزبكية، والموسكي، والغورية، والصنادقية، إلى بر إنبابة، والمطرية، وغيرها.

وعلى ثرى هذه الأمكنة تتصارع مكونات نسيج المجتمع الفاعلة، التي يتجاذبها مشايخ يحنون إلى حكم العثمانيين، وزعامات للمماليك تسعى إلى استعادة جاهها،، تشاركهم في ذلك الصراع زعامات أخرى ترى الحل في التعاون مع الفرنسيين من أجل استقلال مصر مستفيدة من تحرك الأقليات المقموعة تاريخياً. كما يغتني المشهد الكلي للرواية بتفاصيل حياة الأشخاص البسطاء، من أولاد الكتاتيب، والفقهاء، والعميان، والمؤذنين، وأرباب الطوائف، وصولاً إلى جارية الجبرتي، وحنا المسيحي الذي عشق فتاة مسلمة!

(د) توظيف جاذبية الكشف عن الحقيقة:
استنادا إلى وثائق تاريخية أخرى لم ترد في كتاب الجبرتي، اشتغل الروائي على توظيف السارد للعمل مع الفرنسيين كمترجم، وكمرافق للقوات الفرنسية في حملتها على المدن الفلسطينية،من أجل لعب دور الكاشف لتناقضات الخطاب الإعلامي المصاحب للحملة، الذي سعى إلى التغطية على هزائمه في معارك المواجهة مع القوى المصرية العديدة، ومع المدن الفلسطينية، والتي أنكسر على أسوارها في "عكا
".

(هـ) الصراع الخفي بن الروائي والمؤرخ:
عملت لعبة إسناد مهمة رصد الحوادث وتدوين مسوداتها للتلميذ "مصري" دوراً بالغ التشويق في متابعة الصراع الخفي بينه وبين أستاذه " الجبرتي "، بما أحال مركزية مصداقية التوثيق من الأستاذ إلى التلميذ (الروائي هنا)، وقد تبدت بعض ملامح التباين بينهما فيما يلي:
*  صراعهما من أجل إطلاع كل منهما على ما كتبه أو خبأه الآخر، ومن ذلك عدم ذكر الجبرتي لحادثة إعدام " محمد كريّم " الذي كان على رأس مقاومي الاحتلال الفرنسي.
*  اكتشاف السارد بأن أستاذه الجبرتي لم يدون اسمه (أي الجبرتي) ضمن الأربعة عشر شيخاً الذين اختارهم الفرنساوية كأعضاء في المجلس الخصوصي كنواب للشعب، ويقول " سألته ومن هو الرابع عشر؟ لم يجب وتشاغل بالقراءة (ص117).
* تدوين ما قاله الجبرتي عن أحد المشايخ المقاومين للفرنساوية (الجوسقي) من أن التكبر هو ما حمله على معارضة الفرنسيين (ص 72)!!.
*  اكتشاف السارد بأن أستاذه قد أوجز الحديث عن المشايخ المقتولين في القلعة ولم يذكر أسماءهم (ص 74).
*  قيام الجبرتي بتعديلات على مسودة كتابه الأصلي في التاريخ للحملة الفرنسية على مصر، وطلبه من تلميذه (السارد) بتغيير عنوان الكتاب من" عجائب الآثار في التراجم والأخبار" إلى "مظهر التقديس بزوال الفرنسيس "، من أجل كسب ود العثمانيين بعد اندحار الفرنساوية! وسوى ذلك من تفصيلات تغرينا بمتابعة قراءة النص، لاكتشاف المعالم التي خالف فيها التلميذ أستاذه الجبرتي !!

(ثانيا) - السيرة الذاتية:
في عدد من رواياته، استخدم صنع الله تجربة السيرة التسجيلية الذاتية، بدءا من رواية " تلك الرائحة " التي هرّب قصاصاتها الأولى من سجن الواحات مابين عامي 60-64م، مدوناً فيها أجزاء من مأساة الصراع بين عبد الناصر، واليسار المصري، الذي تبدّى في تبني عبد الناصر لأبرز أطروحات اليسار المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، بينما عمل على تغييب كوادرهم في السجون، بعد أن تعرض الكثيرون منهم إلى التعذيب الذي أودى بحياة بعضهم، ومن أبرزهم شهدي عطية .

وسنتوقف قليلاً هنا أمام "نجمة أغسطس " كأنموذج لتوظيف صنع الله لتشابكات الخطابات في داخل نصه الروائي(ومنها السيرة الذاتية) والتي أصبحت إستراتيجية نصية في معظم أعماله، حيث بنى درامية النص وجمالياته عبر المحاور الرئيسة التالية:

*  التوسع في استخدامه للمواد ذات البعد التاريخي أو التسجيلي، حين استعان بريبورتاج صحفي عن بناء السد العالي، أعده مع بعض أصدقائه الصحفيين حين زاروا موقع السد،وتضمنيه لمقاطع من دراسات فنية في الرواية عن ميخائيل أنجلو الرسام والنحات. وقد توقف د.حسين حمودة خلال عرضه لكتاب الناقد المغربي حسين حيران المعنون ب "مستويات البناء الروائي في (نجمة أغسطس) " أمام ما حدده الناقد المغربي من دلالات تضئ التعالقات الرمزية بين عمل كل من الفنانين (أنجلو وصنع الله) بالتماثلات التالية:

المسيح يشير إلى شهدي عطية،

 الكنيسة تشير إلى النظام السياسي

 الصخر يشير إلى السد

 والنحت يشير إلى الكتابة. (مجلة فصول، ص 289،مارس 1987م) .

* الاستمرار في تسريب بعض تفاصيل عذابات معتقلي الواحات، للتأكيد على الوجه القمعي للسلطة رغم إنجازاتها الكبيرة، ومن ذلك الحديث عن حالات تسلل عدد من كوادر اليسار المصري – عبر منطقة السد العالي - إلى السودان، (ولعل صنع الله لم يشف غليله من كتابة تاريخ المعتقلات التي عاشها، فعاد ثانية إلى إصدار كتابه " يوميات الواحات " في عام 2005م لاستكمال كتابة موازية ل "حكاية " ذلك التاريخ).

* الكشف عن الوجه القمعي للأجهزة الأمنية في مصر والاتحاد السوفيتي، والتي لم تغفل عن التواجد في ورشة عمل كبرى لإنجاز هذا المشروع الضخم، حين عمل الجهازان كل من موقعه على إقامة سد عالٍ يحد من تواصل العمال والفنيين المصريين مع زملائهم من الجانب الآخر، خارج مجالات العمل، وذلك يدلل على هشاشة العلاقة بين النظامين المصري والسوفيتي أيضاً، ويفسر ما حدث بعد 1970م من تباعد بينهما في عصر السادات!!

* رصد معاناة العمال المصريين في بناء السد، حين انتشر بينهم وباء الكوليرا دون سواهم من العاملين فيه، وذهابه لاستدعاء تاريخ الفراعنة لتشبيه عمال السد بأجدادهم الذي بنوا الأهرامات تحت جلد السياط، كما لمّح على استحياء إلى معاناة " أهل النوبة " الذين طمرت مياه السد قراهم والكثير من آثارهم ومحت ذاكرتهم وتاريخهم المكاني تماماً!

لذا، فإن الرواية تشير بجلاء إلى أن عمال بناء السد العالي قد أنجزوا مهمتهم الضخمة في الطريق إلى إشراق "نجمة أغسطس " التي وعدت بها ثورة يوليو من عام 1952م، لإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولكن تلك النجمة بقيت غائبة عن المشهد تماماً!

بعد ذلك مضى صنع الله، مستفيداً من تجربته الثقافية وسيرته الذاتية التي اشتملت على دراسة الإخراج السينمائي في موسكو عام 1974م، لكتابة رواية "بيروت ..بيروت" كرحلة قام بها إلى بيروت، للبحث عن دار نشر تطبع كتابه، وخلال ذلك البحث تعرف على مخرجة لبنانية (مسيحية) أسندت إليه كتابة التعليق على فلم تسجيلي يكشف ما يقبع خلف مآسي الحرب الأهلية في لبنان، التي اشتعلت ما بين عامي 1974- 1989م.

وفي نفس المسار أصدر رواية "وردة " المبنية على خلفية رحلة قام بها إلى "عُمان " من أجل البحث عن أصدقاء له من كوادر الجبهة الشعبية في عمان، وعما جرى لهم في حرب "ظفار "، ومن ثم ربط التجربة بوثائق استقاها فيما بعد من حرب الأخوة الأعداء(من الحزب الاشتراكي) في عدن عام 86م.

وخلال رحلته الإبداعية الغنية، أفاد من أرشيفه المعلوماتي الخصب المستند على المعلومة المنشورة في الصحف والكتب والميديا، لإنجاز العديد من الروايات الأخرى مثل " اللجنة "، و"ذات " و"شرف"، حتى عاد في" حالة تلصص" الصادرة في عام 2007م إلى السيرة الذاتية، ليكشف عن سر اهتمامه بالتاريخ متأثراً بوالده الشغوف بالتاريخ والحكي، وليذهب إلى أقاصي الشفافية في تدوين تجارب سيرته الذاتية وتجارب والده مع المحيط العائلي، والنسوي بالتحديد!!، كما توج اشتغاله على السيرة الذاتية لإنتاج خطابه السردي بروايته (أمريكانلي) "أمري كان لي "، الصادرة عام 2005م، والتي استندت إلى رحلة ثقافية قام بها إلى أمريكا تلبية لدعوة تلقاها من إحدى جامعاتها .

(ثالثاً) الحسية الجسدية:
" أ " - يشير غالي شكري، في كتابه الهام (أزمة الجنس في الرواية العربية) – بالرغم من نبرته الأيديولوجية العالية– إلى أن "الجنس" في المجتمعات البدائية لم يكن مشكلة بحد ذاته، وإنما كان استجابة طبيعية للرغبة في استمرار الحياة الكامنة في النبات والأشجار والإنسان، ولذا كان الناس في طقوسهم الاحتفالية يعبرون عن رمزية " الجنس " الوجودية بالرقص حول حفرة يقذفون فيها الرماح، دلالة على عملية الخصب والنماء والحياة (الكتاب – بتصرف، ص 8). كما يذهب غالي (باتكائه على مراجع تاريخية) إلى القول بأن الجنس بعد ذلك قد أصبح إشكالية في مرحلة العبودية وما بعدها من المراحل، حيث مارس القوي عنفه ضد الأضعف، ونال المرأة من ذلك النصيب الأكبر، حتى اليوم.

ولذا يمكننا أن نرى أن ما أبرزته سرديات التراث العربي المدون مثل "ألف ليلة وليلة"، وما حفلت به الثقافة الشعبية بسيرها وأمثالها، من صور متعددة للجنس، لا يعبر عنه كحاجة طبيعية للرجل والمرأة في الواقع مثلما في المتخيل السردي، وإنما كدلالة على تلبية الشبق الذكوري، والتأكيد على قوى الغلبة للرجل على المرأة!

لكن الأمر قد تبدل في العالم، وخاصة في الدول المتقدمة، جراء المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أعادت تكوين مرتكزاتها الفكرية والثقافية وتطلعاتها، فتبدى تصوير "الجنس" في آدابها الحديثة على أنه تجسيد للكثير من معاني الحياة وفي مقدمتها الحرية، وتم ا لتعبير عنه – كما يقول غالي شكري – " في إطار رمزي يسمو به إلى مستوى الرمز، فيما أدبنا العربي ما يزال في تعبيره عن هذه الظاهرة يقتصر على دلالاته الاجتماعية أو النفسية" (بتصرف - ص 317).

وكلام غالي شكري، يفتح الباب أمامنا للقول بأن اشتغال روايات "البرتو مورافيا" وروايات هنري ميللر " وسواهما، على موضوعة " الجنس "، سيغدو تأكيداً ثقافياً ورمزياً يدلل على معنى حرية التكافؤ والاختيار بين شخصين، ضمن حاضنة ثقافة مغايرة لواقعنا العربي (المختلف)، الذي ستتبدى فيه محاولات تصوير الجنس في العمل الإبداعي كدلالات على مظاهر الكبت النفسية والاجتماعية أو محاولات لكسرهما.

 وسنقرأ تحت هذا المعنى العديد من الروايات، من نجيب محفوظ (السراب) ويوسف إدريس (بيت من لحم)، إلى ليلى بعلبكي (أنا أحيا)، وكوليت خوري (أيام معه) وحيدر حيدر (الزمن الموحش)، حتى نصل إلى بعض رواياتنا السعودية مثل "حي العدامة" و"الشميسي" للدكتور تركي الحمد، ورواية رجاء الصانع "بنات الرياض"، ورواية صبا الحرز "الآخرون" ورواية بشائر محمد "ثمن الشكلاته"، وغيرها.

غير أن هذا المنظور (في سياق تجربة الرواية العربية) قد جرى عليه الكثير من علامات الإبدال، فظهر في بعض الأعمال السردية كدلالة على تجسيد معنى تلك الحرية المتخيلة، لدى كاتبات مثل غادة السمان، وأحلام مستغانمي، وكذلك فيما دفعت به في روايتها "اللوز" - الروائية الجزائرية التي تكتب باسم مستعار "خديجة" في فرنسا- إلى مدى أبعد حين سعت إلى أن تكون الرواية (في جانبها الحسي) تعبيراً عن حرية الحب والحياة والاستمتاع بها، وتوجيه رسالة ضد الكبت الذي عانته المرأة .

"ب " - تتبدى صور "الجنس"، بدرجات مختلفة، في بعض الأعمال السردية العربية التي رامت استخدامه كرمز تعبيري عن تعقيد علاقة الشرق بالغرب، مثل إشارة توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق " إلى أن المرأة الفرنسية التي عاش معها بطل الرواية (عاطفياً وجسدياً) لم تتفوه بكلمة " أحبك "، في أية لحظة، طوال تلك العلاقة ! مثلما تضمنت رواية " الحي اللاتيني (سهيل إدريس) تعبيرها عن تلك الأزمة حين رفض الشاب العربي تقبّل فكرة أن يكون أبا للجنين الذي حملت به صديقته الفرنسية "جانين " منه، ودعاها لإجهاضه!

أما علاقات بطل رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " (الطيب صالح) فهي أشهر العلامات الدلالية على تلك العلاقة المعقدة بين الجانبين، والتي انتهت بقيامه بقتل أحدى عشيقاته، وعودته موصوماً بالجنون إلى قريته البدائية في السودان، وانتهاء بموته غرقاً في النيل، كدلالة على رغبته في تسسميم الواقع بقناعاته أو رغبته في تخصيب ذلك الواقع بأسئلة الشك والتأمل في مآلات تجربته!!

" ج "الحسية الجسدية في روايات صنع الله:
اشتغل صنع الله على تصوير الحسية الجسدية في معظم أعماله، كغيره من المبدعين الروائيين، وبالرغم من تمظهراتها العديدة كتعبير عن الحاجة البيولوجية (لا الوجدانية) للإنسان، إلا أنه كان يقوم بتوظيفها كحامل دلالي للتعبير عن أزمة ما، ويمكننا أن نتوقف عند بعض أشكال توظيفه لها، فيما يلي:

الاستمناء الذاتي والعلاقات المثلية: وقد ظهر التعبير عن جزئها الأول في أولى رواياته " تلك الرائحة " كدلالة على غياب الحرية وعنف سلطة القهر، مما اضطر الضحية إلى سلوك دروب غير سوية للتعبير عن رفضها للقهر، وعن ذاتها واحتياجاتها، كما برزت تلك الحسية الجسدية كعلاقات شاذة، أضطر لممارستها المقموعون في السجون، مثلما تجلّت في رواية " شرف ".

العلاقات العفوية والمستحيلة: ويمكن النظر إلى تفاصيلها في روايته " نجمة أغسطس"، حين تنشأ علاقات إنسانية طبيعية بين بعض العاملين المصريين والموظفات الروسيات في إدارة إنشاء السد العالي، لكنها لا تبلغ ذروتها العاطفية ولا الحسية، فيعبر عن ذلك احد أبطال النص بقوله " هذا آخر ما يجب التفكير فيه، وإلا وجدت نفسك في القاهرة،بينما ستوضع الروسية على أول طائرة ذاهبة إلى موسكو" (ص 17). وهنا تأخذ العلاقات الحسية المستحيلة، أبعادها الرمزية للتعبير عن عدم إمكانية قيام العلاقات الطبيعية بين المجتمعين، المصري والسوفيتي، لأن قوى ال (كي جي بي) السوفيتية والمباحث المصرية عملتا معاً(كل بطريقته) على إعاقة كافة أشكال تحقق تلك العلاقات بين الطرفين (ويمكن تفهم أبعاد الرمزية في هذا التصوير حين نتذكر أن صنع الله كان عضوا في" حدتو" أحد أبرز الأحزاب الشيوعية في مصر آنذاك)!

الحسية كحامل فني ودلالي: في العديد من روايات صنع الله، يتبدى لنا من خلال القراءة الأولى أنه حين اشتغل على المادة الوثائقية (التاريخ، السيرة)، استشعر ثقل متنها فأجال النظر في ممكنات الحيل الفنية العديدة، التي يمكن بواسطتها التخفّف من كثافتها، فعمد إلى توظيف "الحسية الجسدية " لتعمل وفق مستويين، أولهما كعنصر تفتيت للكثافة، وثانيهما كعنصر جذب للقارئ !

غير أن الأمر عنده لا يقف أمام تلك الضرورات التحريضية للقراءة وحسب، ولكنه يأخذ أبعاداً دلالية أعمق، يمكننا الإشارة إليها من خلال بعض أعماله:

في رواية "بيروت ...بيروت" اتخذ "الفلم التسجيلي" لخفايا الحرب الأهلية اللبنانية موقعه المركزي في بنية خطاب النص، فبدا لنا أن الروائي وقد استشعر "ثقل " مادة الفلم كنص مقروء، عمد إلى إدماجه في تفاصيل رحلته إلى بيروت للبحث عن دار نشر لكتابه، ومن ثم قام بتوظيف علاقته الجسدية مع "لميا الصباغ " زوجة صاحب دار النشر!

لكننا سنرى أنه بتشغيل هذه الحيلة الفنية لن يقف أمام" ثقل المادة، وجذب القارئ"وحسب، بل سيأخذنا صوب منطقة أشد خصوبة ترينا أن تلك العلاقة الجسدية مع "لميا " زوجة صاحب دار النشر، كانت تنتهي دائماً إلى عدم إمكانية الاكتمال من جانب السارد تحديداً!

لماذا يحدث ذلك؟

هنا نضع أيدينا على مكمن ترميزها كعلاقة بين طرفين يحمل كل منهما ثقافة وموقفاً سياسياً مناقضاً للآخر، حيث تكشف الرواية عن تفسخ قيمي تعيشه "لميا" توظف عبره الحسية الجسدية من أجل بلوغ أهداف أخرى، ويتضح هذا من خلال علاقتها المثلية بصاحبتها، ومن خلال العلاقة بسارد النص، حين تبوح له في حمأة مقدمات العلاقة الحسيه، بأن صاحب دار النشر (زوجها) قد وافق أخيراً على طباعة كتابه، بواسطة دار أخرى ستحصر نشره وتوزيعه فقط على إخواننا العرب في إسرائيل!!، وبذلك تنكسر العلاقة الحسية ولا تبلغ ذروتها.

وبالرغم من نجاح الروائي في إضفاء البعد الرمزي على وظيفية الحسية الجسدية في عمله هذا، ورغم ما حققته رواية "بيروت .. بيروت" من حفاوة نقدية وانتشار، إلا أنني أرى أنها عانت من إشكال فني بارز، حين قضى هامش الرواية (سردية رحلة بيروت) على متنها (الفلم) الذي بقي خارج الرواية، وغدا المكونان كنصين متجاورين لا معاشرة بينهما، وبقي منهما فقط موقف السارد من رمزية " لميا"، وموقفه من مقاطعة التطبيع الثقافي مع إسرائيل، والذي توّجه برفض استلام جائزة الرواية العربية في مؤتمرها في القاهرة في عام 2005م.

ويبدو لي أن الروائي بحسه الفني والثقافي العميق قد لاحظ هذه المشكلة، فعمد في رواياته الأخرى التي وظفت الحسية الجسدية إلى تجاوز معضلة المجاورة التركيبية في نص "بيروت بيروت"، لينسج تعالقات خطابات " السيرة، والوثيقة، والجسد " كبنية مؤتلفة في روايتيه الهامتين " وردة " و" العمامة والقبعة "، بطريقة حفظت لبنية السرد عنصري التماسك وجذب القارئ، ورفعت ما ورد فيهما من مشاهد " الحسية الجسدية " إلى مستوى فضاء الرمز الدلالي القابل للقراءة التأويلية.

ففي رواية " وردة"، نشأت علاقات إنسانية تبدو طبيعية بين امرأة تقود مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية في معارك "ظفار" في عمان، وبين أحد أفراد المجموعة، حتى تطورت وجدانيا وجسدياً على مدى عامين في ساحة الحرب. وحينما توجا تلك العلاقة بالزواج، فإنه لم يتحقق إلا بعد الهزيمة وهما يجوبان أطراف صحراء الربع الخالي الشرقية، كدلالة رمزية على عدم إمكانية تحقق أحلامهما الأيديولوجية والحركية .

وحيث تاهت خطوات بطلي الرواية في الصحراء، فإن السارد الذي قام بجمع مادته التاريخية للكتابة عن تلك التجربة، عبر ولايات سلطنة عمان، تقوده خطواته إلى التعرف على ابنة بطلة "الرواية "، وإقامة علاقة جسدية معها!

قد تبدو هذه الحادثة "نشازاً، على صعيد بنية السرد ومرجعيات النص الاجتماعية، ولكن المتخيل السردي قد أحال الفتاة - التي لم تعرف أبويها - " رمزاً "من خلال إصرارها على لقاء سارد النص، ومعاشرته، كدلالة على رغبة الطرفين في إعادة تخصيب الأحلام التي حملتها الأم، وماتت دون تحقيقها، حين كانت تعبر مفاوز الدروب العصية أو المستحيلة !

أما رواية "العمامة والقبعة" التي تشاكل عدداً من الروايات العربية التي استخدمت تصوير " الجنس " كمعادل رمزي للتعبير عن العلاقة المعقدة بين الشرق (العربي) والغرب كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فإن صنع الله قد وظفه هنا وفق أبعاد وجودية، وحضارية، وسياسية. ففي البعد الأول، يمكن قراءة الحسية الجسدية التي نشأت بين السارد " مصري" والفرنسية " بولين" - في رواية العمامة والقبعة - كرمز وجودي مرتبط بالبشر(المرأة والرجل) واحتياج كل منهما إلى الآخر، لإغناء معنى الحياة والتواصل، فيما بينهم، بمعزل عن اللون والجنس واللغة والمكان، بيد أن قوى الغلبة والسيطرة، التي تتلبس بمشاريع التوسع وهيمنة القوي على الأضعف، كانت دائماً تدمر إمكانات نماء تلك العلاقات الطبيعية بين البشر.

أما في المعنى الحضاري، فإن سارد الحكاية "مصري "، تلميذ الجبرتي، والحاصل على بعض المعرفة باللغة الفرنسية، يغدو من خلال "التسمية " رمزاً ل "مصر " في تلك المرحلة، التي كانت تبحث إبّانها عن ذاتها، متململة ما بين خياري إعادة استيلاد الماضي، أو البحث عن أفق آخر عبر عمليات التلاقح مع الغرب. لذلك يمكن النظر إلى أن سارد النص الذي لم يقم أية علاقات جسدية حسية مع أية امرأة مصرية، (باستثناء العلاقة العابثة والميكانيكية مع "أمة الجبرتي ") قد وصل إلى قناعة مؤداها: أن " الجنس " كرمز للخصب والولادة والنماء، لم يعد ممكناً في هذا الفضاء المحلي مهما كانت عناصره! وأن المآل الطبيعي لهذه التطلعات يكمن في العلاقة بالغرب، وجرى تصوير هذا التشوف عبر علاقة السارد "مصري " جسديا بالمرأة الفرنسية، مرموز تلك القيم.

ولكن المعنى السياسي والاستعماري هنا، معبراً عنه، من خلال موضوعة الجسد، قد أسفر عن وجهه حين انتزع "نابليون " المرأة من عشيقها المصري، لتصبح واحدة من محضياته، وتجلى ذلك النزوع الاستعماري في ممارساته، حين خان مبادئ الثورة الفرنسية " العدل والمساواة والإخاء " واستسلم لمكوناته الاستعمارية عبر ما قام به ضد الشعب المصري والفلسطيني من انتهاكات ومذابح، تم تتويجها بمقتل العلماء، والذهاب إلى استباحة معاقلهم بالخيل، في الأزهر الشريف.

إن علاقة سارد الرواية "مصري " مع الفرنسية " بولين " في تشوفها إلى أن تكون رمزاً لتجسير إقامة علاقة إنسانية طبيعية بين شخصين من حضارتين مختلفتين، مثلما في مآلات إجهاضها، لم تكن مجرد علاقة جسدية بينهما وحسب،، وإنما هي خلاصة رمزية شديدة التعبير عن عالمين، لم يجدا بعد أفقاً للتواصل المثمر ولا للتعايش المتكافئ، لذلك انكسرت العلاقة في مهدها، مثلما انكسر "نابليون " وغادر مصر، وتركها لغزاة آخرين أشد قسوة .

ولكل هذا، فإن توظيف الحسية الجسدية في الرواية قد عملت على تعزير ما يراه "صنع الله إبراهيم " من أن الحملة الفرنسية على مصر لم تكن علامة على لحظة تماس تنويري وحضاري بين طرفين، وإنما كانت حلقة ضمن حلقات المد الاستعماري على دول العالم الثالث، المثقل بفقره المعرفي وصراعات أحماله الثقافية الفائضة عن الحاجة، والتي ستظل، ولله الحمد، مستمرة ليس إلى الغد وحسب، وإنما إلى ما بعده !!

 

الإحالات الأساسية إلى المراجع التالية:
* صنع الله إبراهيم - " العمامة والقبعة " - دار المستقبل العربي - الطبعة الأولى –القاهرة -2008م.

* صنع الله إبراهيم - رواية " نجمة أغسطس " –دار الطباعة الحديثة - الطبعة الأولى – القاهرة (تاريخ الطبع غير مدون).

* صنع الله إبراهيم – بيروت ...بيروت– دار المستقبل العربي – الطبعة الثانية – القاهرة – 1988م .

* صنع الله إبراهيم – رواية " التلصص" – مجلة الكلمة – عدد 2- فبراير – 2007م.

* د. غالي شكري – أزمة الجنس في الرواية العربية - دار الآفاق الجديدة – الطبعة الثالثة -بيروت 1978م.