في خضم التحولات الثورية العربية تسلط الباحثة الضوء على استعلاء الطغمة السياسية والدينية الحاكمة في السعودية، وكيفية تعاملها مع حقوق الإنسان، وتهشيمها للكيان الاجتماعي الوطني لصالح فرديات تنصر التطبيع مع الاستبداد وتستثمر تجارتها في سوق التفرقة المجتمعيّة.

السعودية: منطق «أحيا ويموت الوطن»

مضاوي الرشيد

بينما لا يزال الحلف السياسي الديني المبني على المنظومة القديمة بين النظام السعودي والمؤسسة الدينية الخاضعة لسيطرته قائماً دخلت منظومات جديدة تكرس استمرارية الحكم المتفرد على خلفية نزع أي فرصة لتمثيل شعبي يشرك المجتمع وأطيافه المتنوعة في صنع القرار.

تتمثل المنظومة الجديدة في تزاوج بين رأس مالية اخترقت السوق السعودية بزخم قوي وفرضت على أرضية غير شفافة لا يوجد فيها تكافؤ فرص واضح وصريح من جهة ومن جهة أخرى عملية مبرمجة ومتقنة لتفتيت المجتمع وتغذية روح فردية طغت على الساحة السياسية والاجتماعية.

إن تناولنا أولا المنظومة الرأسمالية الفجة فسنجد انها غذت روح التسلق والتملق واقتناص الفرص التي توفر الثراء الفردي أولا والعائلي ثانياً. فالكل يحاول الوصول إلى هدفه الاقتصادي الذي يضمن مكانة اجتماعية ورأس مال معنوي وأبهة ووجاهة تمكنه من البروز وتصدر المساحات التجارية ثم الاجتماعية وتعمل شرائح مهيمنة اقتصاديا من باب العمل الفردي والذي يفتح له المجال لاحتكار الساحة أما عن طريق علاقة حميمة مع الممسكين بصناعة القرار السياسي ومفتاح النجاح الاقتصادي عن طريق احتكارات وامتيازات تمنع للاقرب من السلطة والأكثر موالاة لها.

أو تكون بعض هذه الشرائح غطاء خارجياً لاستثمارات السلطة ذاتها تحت قناع القطاع الخاص الوهمي المحمي من المتمكنين سياسياً.

خذ مثلاً ضغط السلطة على هذا القطاع لسعودة الوظائف عن طريق مراسيم وقرارات تظل وهمية لا تخضع لها المؤسسات الاقتصادية والتجارية خاصة وأنها تظل تعزل اليد العاملة المحلية عن سوق العمل وتساهم في ارتفاع معدلات البطالة بينما تمنح السلطة السياسية تأشيرات العمل لملايين من اليد العاملة الاجنبية الذين يجدون الوظائف في هذا القطاع الذي لا تتجاوز نسبة العاملين السعوديين فيه 10% في أحسن الأحوال.

هذا التناقض يجعلنا نشكك في إعلانات السعودة ومراسيمها الموسمية والتي فشلت حتى هذه اللحظة في توطين العمل خاصة في القطاعات غير الحكومية.

ويدخل اقتصاد السوق المفتوح إلى ساحة اقطاعية بكل ما تعني هذه الكلمة لتخلق اضطراباً على الصعيد السعودي الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى محورية المنظومة الفردية ومنطقها مما يعطل العمل الجماعي بل يشل قدرة المجتمع على تنظيم نفسه في حلقات ضغط من أجل الوصول إلى أهدافه وحياة كريمة مرفهة في ظل أكبر دولة نفطية في المنطقة العربية.

منظومة فردية النجاح تمت تغذيتها وتنميتها في ظل النظام السعودي الذي يتعامل مع المجتمع وكأنه موزاييك متفرق لا يجتمع على قضية من أهم قضايا العصر الحياتية وهي فرص العمل والسكن والتي تبقى غير مؤمنة لشريحة كبيرة من الشباب الذين يعانون من البطالة المزمنة وشحة المساكن المتوفرة للبادئين بحياة أسرية مستقرة فيصعب على هذا الموزاييك المشتت التحول إلى الحراك الجماعي بعد تنمية جيل كامل على منطق الفردية والوصول إلى الأهداف عن طريق العلاقات الشخصية والزبونية التي فرضتها ممارسات السلطة المتفردة على المجتمع كوسيلة وحيدة من أجل الوصول إلى أهداف معينة.

ويستشري منطق الفردية ليشمل كل القضايا المطلبية من بطالة وحقوق انسان وامرأة وغيرها. فالعاطل يفتقد إلى آلية تنظيمية شبابية تجعله متمكنا من المطالبة الجماعية بحقوق فردية مفقودة وكذلك في مجال حقوق الانسان حيث تتمركز قضية مساجين الرأي على أعلى لائحة المطالب الشعبية وتعرف بعض شرائح المجتمع ان خروج سجين ما من زنزانات النظام لا يرتبط بحراك شعبي عريض بل بعلاقات مشخصنة مع من يملك مفاتيح السجون وخطابات توسل تستجدي الروح الابوية المزعومة للنظام ومكارمه الملكية.

فخروج سجين من ضمن لائحة سجناء الرأي لا يحصل نتيجة ضغط شعبي حيث اقتصرت مسيرات اهالي المساجين على حلقة ضيقة ولم تنجح حتى اللحظة في اخراط المجتمع باطيافه المتنوعة في عملية الضغط على السلطة السياسية وتبقى اكثرية المجتمع صامتة متفرجة على مسيرات محدودة ينظمها الناشطون. أما في الأسواق التجارية أو في الشوارع حيث تصطدم هذه المسيرات باعداد هائلة من رجال الامن تفوق المعتصمين بنسب مرتفعة جداً. وقد نجحت المنظومة الفردية السعودية في عزل المجتمع عن القضايا الكبيرة العالقة بل انها جعلت من بعض الشرائح يلومون الضحية المسجونة دون محاكمة علنية عادلة رغم كل الجهود التي تبذلها مؤسسات غير رسمية وجهات حقوقية معروفة نشطة في العوالم الافتراضية. فكما ان الانتهازية الفردية الاقتصادية قد نجحت في تشتيت الجهد الجماعي نجد ان المنظومة ذاتها تمرست في اقصاء العمل الاجتماعي والحراك السياسي المجتمعي فلا توجد قضية يلتف عليها طيف كبير في المجتمع من قضية المساجين السياسيين إلى قضية حقوق المرأة.

ويفرض منطق الفردية السعودي مبدأ الوصول إلى الهدف عن طريق الاتصال المباشر مع السلطة أو وكلائها وليس عن طريق العمل المشترك وكفلت هذه المنظومة انقسام المجتمع حول كل قضية تطرح على الساحة وان كانت قيادة امرأة للسيارة او زواج قاصرة او اطلاق سراح سجين سياسي سجن تعسفياً مروراً بقضايا الإصلاح السياسي الجذري. فحتى سجناء الرأي يقسمون المجتمع ولن تجد شريحة كبيرة مستعدة أن تعمل جماعياً لاطلاق سراح هؤلاء.

فالإسلامي حتى هذه اللحظة يرفض التواصل من أجل اطلاق سراح شيعي أو ما يدعى ليبرالي وكذلك الشريحة المقابلة ليست مستعدة أن تخوض معركة مع النظام من أجل سجين سياسي إسلامي تعتبره إرهابيا بل هي تحشد الرأي العام من أجل تثبيت صورة كل سجين سياسي كسجين يسجن على خلفية إرهابه المزعوم والصادر من السلطة وإعلامها ويظل الوضع هكذا رغم محاولات شخصيات حقوقية أصبحت الآن مشهورة بسبب صبرها وحراكها وتخطيها للخط الوهمي الذي نجحت السلطة السياسية في رسمها على الخارطة المجتمعية السعودية السياسية والحقوقية والاجتماعية.

من هذه الشخصيات محمد القحطاني وعبدالله الحامد وسليمان الرشودي وكلهم يهددهم الاعتقال والاستجواب المزمن والسجن كما حصل مؤخراً للقاضي المتقاعد سليمان الرشودي. وتلعب السلطة لعبة إخراج أحد السجناء ومن ثم سجن آخرين في سلسلة من المناورات لتشتت الرأي العام تحت مظلة منطق لا يعرف أبجدياته سوى القائمين على وزارات متخصصة في حبك مسلسلات الاعتقال والترويج لها حسب مفهوم مصلحة السلطة ذاتها.

وبينما تشتد حملات المناصرة لهؤلاء خاصة في العوالم الافتراضية نتيجة العمل الجاد الحقوقي الذي يشرف عليه حلقة صغيرة من الناشطين إلا أن جهدهم حتى هذه اللحظة يصطدم مع منطق الفردية المتأصل والذي نعتبره إفرازاً سلبياً من إفرازات السلطة الفردية ذاتها والتي لا تقبل بإشراك المجتمع في صنع القرار والمشاركة السياسية.

فيلقي المتملقون من الشرائح المنتفعة اللوم على السجين السياسي نفسه بدلاً من أن ينخرط في حراك يؤصل لمستقبل أمني غير مزاعم الأمن والأمان التي يتغنى النظام بها ويلوح بشعاراتها أما سياسياً أو عن طريق الفئات الدينية المنتفعة منه والتي تغدق وتتشدق بخطاب ديني يحرم العمل الجماعي خاصة إن كان في نصرة المظلومين ويحلله إن كان في سبيل حشد الطاعة للسلطة ذاتها. فتحول العامل الديني إلى وسيلة قمع تستجدي الخطاب الالهي من أجل تثبيت دعائم سلطة سياسية لا تخضع لأي محاسبة أو رقابة وتتمرس في انتهاك حقوق الإنسان دون أن تواجه مساءلة أو حساباً. ويقوم منطقها المتأسلم على مبدأ التحضير للآخرة بعمل الحسنات الدنيوية والتي لا تتضمن العمل الجماعي في صالح العدالة والعيش الكريم. فجحيم الدنيا من متحانات الاله العصية تحت مظلة نظام ينتهك الحقوق فجاء خطاب التحضير للآخرة كوسيلة نفعية يستفيد منها النظام في تأمين صمت المجتمع عن اختراقاته وانتهاكاته للشأن العام وتغذية النجاة الشخصية. فاجتمعت منظومة نفخ الجيوب وتكديس الارباح الفردية في الحسابات البنكية مع منظومة تكديس الحسنات الفردية في حسابات يستفيد منها الفرد في بنك الآخرة.

وتزاوج هنا منطق الربح الشخصي الرأسمالي مع الربح الديني الفردي ليكرس مفهوم الفرد الذي ينجو دون اي عمل جماعي يؤمن حياة كريمة في هذه الدنيا. وهنا تم إسقاط الممارسات السياسية الاقتصادية للنظام على الخطاب الديني الذي ينفي العمل الجماعي كوسيلة للمطالبة بالحقوق الشرعية المشروعة وتكدست فتاوى تحريم وتجريم مثل هذا العمل تحت مظلة مفتي الديار السعودية من باب نفي الفتن واستتباب الأمن والأمان الوهميين حيث انتهاكات النظام واضحة ولا نحتاج إلى بيانات احصائية. رغم تعتيم وسائل الإعلام الرسمية والعالمية على الموضوعات الحساسة في السعودية فشرعن النظام نتيجة الازدواجية الفردية الاقتصادية والدينية لمنطق جديد نختصره في شعار "أحيا ويموت الوطن" رغم أنه قد ينطبق على شريحة معينة نعتبرها من الأحياء الأموات.

واجتمع الاقتصاد الفردي مع الخطاب الديني ليعزل المجتمع ويهمشه ويحرمه من عمل جماعي لنصرة قضايا لا يزال النظام السعودي يجزئها ويقزمها ويفرضها كحقوق صغيرة لا تتطلب العمل الجماعي الوطني الذي يصهر المجتمع بكل أطيافه في منظومة تتصدر فيها القضايا الكبيرة هرم الاولويات للجميع.

 

كاتبة وأكاديمية من الجزيرة العربية