يحفر هذا النص الفني التسجيلي بمرارة عذاب المناضلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي مصورا بالتفاصيل الدقيقة حجم الجحيم الذي يعيشه المعتقل في تلك الأقبية حيث لا الليل ليل ولا النهار نهار. زمن ساكن موحش يتطابق مع عذاب جهنم مع توثيق تسجيلي لزمن الأحداث. قطعة فنية حقيقية من أدب السجون.

المسكوبية) رواية العدد(

أسامة العيسة

الإهداء:
إلى باسل، الذي كان عليه هو الآخر أن يكتوي بالمسكوبية، وعمره 15 عاما.

 

خطبة الكتاب
لَوّ تتكلم الجدران
استيقظ أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان نزيل سجن أريحا، بحراسة بريطانية- أميركية، مبكّرا صباح يوم الثلاثاء 14 آذار (مارس) 2006، على أصوات عشرات الآليات العسكرية الإسرائيلية التي ضَرَبت عدة أحزمة نارية على مبنى المقاطعة الذي يَضُم السجن، وبعد أكثر من عشر ساعات من البثّ المباشر الذي تابعه ملايين المشاهدين في العالم، اعتقل ورفاقه، وفي الوقت نفسه دمر أحد المباني التاريخية التي ارتبطت، مع بنايات مشابهة، ليست فقط بتاريخ الفلسطينيين الوطني، ولكن، وربما الأهم، بالذاكرة الثقافية الفلسطينية، ونسبيا العربية.

كان هذا المبنى السجن، آخر البنايات التي هدمتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهي التي عُرِفَت باسم (حصون تارجت) لدى بنائها من قبل سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، لتكون مراكز أمنية وعسكرية للقوات البريطانية، مُوّلَت بمبالغ مالية من مستحقات الضرائب تجمعت لدى حكومة الانتداب، وكانت خاصة بالعرب مواطني البلاد، فلم تجد حكومة الانتداب أفضَل من استثمار الأموال المخصصة لرفاهية سكان فلسطين العرب إلا بناء هذه الحصون، التي حملت اسم المهندس البريطاني الذي بناها، بعيدا عن مراكز المدن الفلسطينية، وعلى مشارفِها، مع اشتداد الانتفاضات الفلسطينية المتلاحقة، يُغَذّيها استمرار الانتداب وتبيان أهدافه بالعمل من أجل إنشاء وطن قومي لليهود. وهكذا وجدت سجون داخل هذه المعسكرات في مختلف المدن الفلسطينية، وأبرز حصون تارجت تلك التي بُنيت في نابلس، والخليل، وبيت لحم، ورام الله، وجنين، وأريحا وغيرها.

قد يبدو أمراً له دلالة، أن حصن تارجت في نابلس، بني إلى جانب القشلاق العثماني (القشلة)، الذي كان بني على نفقة أهالي نابلس عام 1876م، خارج بلدتها القديمة، بعد أن ضاق الأهالي بتصرّفات جنود بني عثمان، وكأنه كتب على الفلسطينيين، تمويل رموز قمعهم بأنفسهم.

في هذه الحصون- السجون، زجّ بمزيد من السياسيين والمقاومين والشعراء، وَسِيق كثيرون إلى منصّة الإعدام، ومن بينهم شاعر شعبيّ لم يُعرف إلا باسمه الأول وهو عوض: وفي ليلة إعدامه، وكانت عام 1936، التي شهدت إضرابا فلسطينيا استمرّ ستة أشهر، أمسك بقطعة فحم، وخطّ على جدران الزنزانة قصيدة شعبية أصبحت شهيرة فيما بعد يقول مطلعها: "يا ليل خلّي الأسير تا يكمل نواحه"، ومنها نعرف أنه سبقه إلى حبل المشنقة اثنان من أشقائه، وأنه، مثلما فعل معظم ثوّار ذلك الزمن، باع ذهب زوجته ليشتري سِلاحاً وينضمّ إلى الثوار، وَضَمّن قصيدته موقفاً سياسياً واعيا تجاه القيادات السياسية الفلسطينية التقليدية في تلك المرحلة.

واكتشف هذه القصيدة زملاء عوض في السجن، فحفظوها عن ظهر قلب، ثمّ انتشرت بشكل واسع في فلسطين آنذاك، وخلال جهوده التوثيقية للأدب الشعبي الفلسطيني، أعاد نشرها الشاعر توفيق زياد في بداية سبعينيات القرن الماضي، وغنّتها بعد ذلك بسنوات فرقة فلسطينية حملت اسم (العاشقين) ووضع موسيقاها حسين نازك.

لم يكن عوض حالة فريدة في تلك الثورة التي استمرت ثلاث سنوات (36-1939). كثيرون غيره لاقَوا المصير نفسه، مثل الشيخ فرحان السّعدي الذي لاحقه البريطانيون، حتى ألقوا القبض عليه في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1937، وقدم بعد يومين لمحكمة عسكرية في حيفا، حكمت عليه بالإعدام شنقا، ونفذت قوات الاحتلال البريطاني هذا الحكم بعد يومين أيضا، وهكذا استشهد الشيخ فرحان وعمره يزيد على الثمانين. ومثل الشيخ يوسف سعيد أبو درة، أحد قادة الثوار نظيفي اليد والسلوك، اعتقله الجيش الأردني الذي كان بإمرة الجنرال البريطاني جلوب يوم 25 تموز (يوليو) 1939م، وسلّمه الجنرال للسلطات البريطانية التي أعدمته في القدس يوم 30 أيلول (سبتمبر) 1939م. وكان أبو درة وبطولاته، في ظرف سياسيّ معقد، وإمكانيات شحيحة، موضوعا لقصيدة كتبها الشاعر الشعبي نوح إبراهيم، الذي ذاع صيته في فلسطين وخارجها، ويحسب له أنه رصد بشكل فني يثير الإعجاب، كثيرا من المحطات التاريخية الهامة، وكان حاضرا بشعره وصوته، ومن أشهر قصائده تلك التي كتبها بعد إعدام ثلاثة من الثوار في سجن عكا يوم الثلاثاء 17 حزيران (يونيو) 1930، وهم عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي. وللشاعر إبراهيم طوقان قصيدة حول الحدث الذي هز فلسطين (..والعالم العربي) آنذاك. أما مطلع قصيدة نوح إبراهيم فهو "مِـن سجن عـكّا طِلعت جنازة". ثمّ قُدّر لنوح إبراهيم أن يصبح هو الآخر نزيلا في سجن عكا، مثل شخصيات سياسية وثقافية عديدة. وأصدر نوح قصائده في كتيب اطلع كاتب هذه السطور على نسخة نادرة من طبعته الأولى، محفوظة لدى إحدى العائلات، كتب على غلافها الداخلي "مجموعة قصائد فلسطين المجاهدة - نظم وتلحين نوح إبراهيم الشاعر الشعبي الفلسطيني وتلميذ القسّام - حيفا- فلسطين - تحتوي على القصائد والأزجال الشعبيّة الاجتماعية الوطنية والحماسية والأسطوانات الشعبية الجديدة التي تصدر قريبا - حقوق الطبع والتأليف والتلحين محفوظة وخاصة".

الاحتلال البريطاني حظر قصائده، ومنع تداول أغانيه بتاريخ 22 شباط (فبراير) 1938م، وِفق أمر من مراقب المطبوعات البريطاني جاء على النحو التالي: "استنادا إلى الصلاحية المخوّلة لي كمراقب للمطبوعات بمقتضى نظام الطوارئ، أنا أوين مريديت تويدي أحظر طبع ونشر النشرة المحتوية على مجموعة أشعار نوح إبراهيم المطبوعة خارج فلسطين والمعروفة باسم "مجموعة أناشيد نوح إبراهيم" في فلسطين، وأحظر أيضا استيراد تلك النشرة إليها وآمر بضبط ومصادرة جميع نسخ تلك النشرة المطبوعة أو المنشورة أو المستوردة خلافا لهذا الأمر".

وكتب نوح عن فترة سجنه أنه "كان عددنا يتزايد حتى بلغ مائتي معتقل، كلّهم من خيار الشباب الوطنيين، والرجال العاملين والعلماء الأجلاء. وكانت التهم التي وجهت إلينا "مفبركة" وعجيبة جدا، يكفي إثبات أحدها، أن يذهب بنا إلى المشنقة، حسب القوانين الجديدة".

ولم يعش نوح إبراهيم طويلا، فلحق بالشاعر عوض، عندما استشهد في إحدى المعارك التي وقعت شمال فلسطين، وكان ذلك يوم 31/10/1938م، وعمره لم يتجاوز 28 عاما بعد أن التحق بالثورة حاملا سلاحه، لا قلمه أو صوته فقط.

وحسب إحدى الروايات، فان طائرة بريطانية رصدته ومجموعة من رفاقه قرب قرية طمرة في الجليل، وقصفتهم، فاستشهد نوح إبراهيم مع كل من: محمد خضر قبلاوي وعزّ الدين خلايلة، إضافة إلى الشهيد (أبو رعد)، وهو من السوريين الذين تطوّعوا في الثورة.

وَلَمْ يقتصر دخول السجون، على الثوار أو الشعراء الراديكاليين، لكنّه امتدّ أيضا ليشمل مثقفين، لم تربطهم علاقة وثيقة بالعمل المسلح، مثل الباحث الفلسطيني، من أصل لبناني، توفيق كنعان (1882-1964م)، الذي يعتبر رائدا حقيقيا في مجال الفولكلور الفلسطيني والعربي. ووجد كنعان نفسه مع شقيقته وزوجته نزيل السجون البريطانية، مثل عشرات مِن المثقفين.

وتعتبر الصحافية والأديبة سَاذَجْ نصّار، أول امرأة مثقفة تعتقل في حصون تارجت، وكان ذلك في شباط عام 1939، وأمضت نحو عام في السجون. وسَاذَجْ زوجة نجيب نصّار صاحب صحيفة الكرمل، الذي كان يطلق عليه لقب "شيخ الصحافيين" ودعا أثناء العهد العثماني، إلى ضرورة عقد حلف صداقة مع إنجلترا، وليس مع ألمانيا، ما جعل العثمانيين يصدرون حكما بالإعدام عليه.

هادن نصّار الاحتلال البريطاني، لكنه عاد ووقف مع الحركة الوطنية ضدّ سياسة هذا الاحتلال، ووقفت بجانبه زوجته سَاذَجْ، التي ، كَتبَ لها زوجها، وهي في السجن، رسالة لطيفة مليئة بالحبّ، ذكر فيها أنه إذا لم يدخل التاريخ بسبب صحيفته (الكرمل)، فسوف يدخله بسبب زوجته التي تعتبر أوّل سيدة تدخل زنازين الاحتلال البريطاني.

وبعد إنشاء إسرائيل عام 1948، أصبحت حصون تارجت موزّعة بين الأراضي التي تسيطر عليها الدولة العبرية الوليدة، وتلك التي أصبحت تحت السيادة الأردنية، واستمرّت الدولتان في استخدامهما للمهمة نفسها، كسجون، وفي الدولة العبرية، كَتب محمود درويش القصائد التي ستضعه على سلّم الشهرة فلسطينيا وعربيا في سجونها، وفي الأردن أصبح من المفارقات أن كثيرا من سجناء الرأي، وجلّهم من المثقفين، غادروا السجون إلى مناصب رفيعة مثل الوزارة أو مناصب أخرى، بعد تصالحهم مع النظام.

وبعد سقوط ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية في يد الدولة العبرية في حزيران (يونيو) 1967، تحوّلت حصون تارجت، إلى سجون مورس فيها التعذيب الأشدّ قسوة. وكان على أجيال متتالية من المثقفين والكتاب الفلسطينيين، أن يدخلوا هذه السجون، مثلما حدث مع من سبقوهم، وسمي بعضها، مثل سجن الخليل، بالمسلخ.

وفي الفترة الأولى من الاحتلال، "تخرّج" من هذه السجون، شعراء مهمون في حركة الشعر الفلسطيني المعاصر، مثل خليل توما الذي كتب في السجون أحد أهم المجموعات الشعرية التي صدرت في الأرض المحتلة بعنوان "أغنيات الليالي الأخيرة"، وصدرت المجموعة القصصية الفلسطينية الأهمّ للكاتب محمد عليان، الذي كتبها في السجون، ومن الكتاب الذين صقلتهم تجربة السجون، محمد أبو النصر الذي استشهد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد خروجه من السجن، أما توما وعليان فتوقفا عن الكتابة.

وكُتِبَت عشرات الأعمال في السجون، أو عنها، وإن كان هناك اختلاف في تقييم سويّتها الفنية. وعندما تأسست السلطة الفلسطينية عام 1994، استلمت أولا مدينة أريحا، وحصن تارجت فيها، وحوّلته إلى مقرّ لقيادتها العسكرية، والى سجن، وكذلك فعلت مع باقي الحصون، التي كان أشهرها رام الله، الذي أصبح مقرا لرئيس السلطة، وأعطت لكل واحدة من هذه المقرات اسم "المقاطعة".

خلال أقلّ من عامين قُتِلَ في هذه السجون أكثر من 20 سجينا سياسيا، وفتحت السجون لتستقبل المزيد من المثقفين، وكتبت في هذه السجون من جديد قصائد شعرية عن المرحلة الجديدة مثل ما كتبه الشاعر حسنين رُمانة، وأرسل بعضه لي وهو نزيل سجن أريحا، دون سابق معرفة بيننا، وفعل رُمانة مثل الشاعر نوح إبراهيم، فحمل البندقية غير مكتف بالقلم، وتمكّنت منه المخابرات الإسرائيلية، بعد سنوات من المطاردة، واغتالته يوم 1 كانون الأول (ديسمبر) 2003، بهدم بناية متعددة الطوابق عليه، تحصّن فيها داخل مدينة رام الله.

وبعد سنوات قليلة، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، أصبحت مقرّات السلطة عرضة للقصف والتدمير الإسرائيلي، فدمرت جميعا، ولم يبق منها إلا تلك الموجودة في أريحا، التي استلمتها السلطة أولا، فكانت أخر ما دمر في العملية التي شاهدها العالم بأسره على شاشات التلفزيون، ومعها هدم جزء هام من التاريخ السياسي والثقافي الفلسطيني، وما لم يشاهده العالم بقايا كتب ومخطوطات شعرية وأدبية خطّها السجناء السياسيون قبل تدمير سجنهم. وعندما وصلت السجن بعد أيام من تدميره، كانت هذه البقايا ما زالت تحت الركام، فأخذت بجمعها، كواحد جرّب الاعتقال، ويمكن أن يقدّر أهمية ما يخطّه السجناء على الأقل بالنسبة لهم.

وفي ظِلّ نكبة مضى عليها أكثر من 60 عاما، واحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة وأراض عربية أخرى، مضى عليه أكثر من 40 عاما، وقبل ذلك بكثير، منذ الاحتلال البريطاني على فلسطين، يمكن تصور العدد الهائل من الفلسطينيين الذين جرّبوا السجون.

في هذا النص، محاولة للإمساك بلحظات عاشها كاتبها، في شهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل) 1982، في معتقل المسكوبية بالقدس، وهو إحدى أولى البنايات وأعظمها خارج أسوار القدس القديمة، التي استولت عليها سلطات الاحتلال البريطاني، لتزجّ فيها، وفي غيرها من السجون، بأعلام ثقافية وسياسية فلسطينية وعربية، من بينهم شعراء ومؤرخون وصحافيون وسياسيون.

مِن الذين جرّبوا الاعتقال في معسكرات الاعتقال البريطانية، الأديب الفلسطيني نجاتي صدقي، والمؤرخ والسياسي أكرم زعيتر، والمثقّف الجزائري محمود الأطرش، والقانوني حنّا عصفور، والنقابيّ ميشيل متري، والعلامة عجاج نويهض، واللبناني حسن ملك، والمفكر الاشتراكي جبرا نقولا، والقاصّ خليل بيدس، وآلاف الفلسطينيين والعرب من مختلف الطبقات.

وهو ما فعله الكيان الصهيونيّ وما زال، في لحظات فارقة من زمن ما، مع أجيال عربية جديدة، في مكان يرنو إليه الله كل يوم مرتين، والبشر في كلّ الأوقات، ويبدو مُعَلَقا بين السماء والأرض، مثلما يعلق المعتقلون على جدران تبدو صماء، وإن تكلمت فلن يسمع أحد.

لم أفعل في هذا النص الذي وصلني، من كاتبه المجهول، الذي لا أعرف لماذا اختارني، لتحريره، غير التأكّد من المعلومات التوثيقية، وزيارة الأماكن الواردة في النصّ، أكثر من مرة، رغم ما اعترى ذلك من صعوبات، بسبب الإجراءات المشدّدة لقوات الكيان، التي تستهدف المكان الفلسطيني، وشطبت بعض المعلومات والأسماء، لظنّي، أن الوقت لَمْ يحن، للكشف عن معلومات قد تبدو أمنية، وتشكّل خطورة على أصحابها، وسمحت لنفسي بتمويه بعض الأسماء الحقيقية التي ترد في النص، لأسباب مختلفة، وليعذرني صاحبه، الذي لم أجد طريقة للتواصل معه، بعد أن أودع صفحات مخطوطته، في رقبتي، بصمت ودون سابق معرفة، وغادر دون أية التفاتة، لي، أو للخلف، وكأنه يريد أن يتخلّص من ماض يؤرّقه.

ولأن النصوص، بعد أن تُحَرّر، يضفي عليها المحررون، الكثير مما لديهم، وبما قد لا يروق لأصحابها، فيتذمّر هؤلاء، وربما يتنكّرون، غاضبين لنصوص، أعطوها الكثير من وقتهم وأعصابهم، فإنني سمحت لنفسي، بوضع اسمي على هذا المؤلف، مشيرًا إلى أنني أتحمل المسؤولية عن نشره، وعما ورد فيه، خصوصا تلك التعليقات ذات الطابع السياسيّ، التي خط بعضها الكاتب المجهول، وفعلت مثله في ثنايا الصفحات، لأحافظ على الأسلوب نفسه. ربما لم يكن لها داع، لكنني أثرت تثبيتها، لوضع القارئ في خلفية المناخ السياسي الذي ساد وقت وقوع أحداث هذه الرواية، وهي لا تعكس بالضرورة موقفا سياسيا.

وفي النهاية، هذا هو النصّ، بعد أن لعبت فيه أصابعي.

 

غُرفة رقم 12

1
هذه غُرفة رقم 12، وأخيرا غرفة رقم 12. كان الوقت ليلا، واضح أنه كان كذلك، كيف عرفت؟ هل ما زلت أستطيع أن أُميز بين الليل والنهار؟ نعم ما زلت، أو خيل إليّ ذلك: الليل ليل والنهار نهار! هل ما زالا كذلك؟

وقفت بالقرب من باب الغرفة الحديديّ بقضبانه الطولية. كانت الضجّة عالية في الغرفة. لم يأبه لي أحد. انتبهت فجأة إلى لحيتي النابتة. تحسستها. لأول مرة تصل إلى هذا الحجم، لم تكن غزيرة. كان أول عهدها بالنموّ، وبهذا ذكرتني بأنني أصبحت رجلا. أردت مرآة أقف أمامها لأرى كيف أصبح شكلي، لكنني كنت قبل كلّ شيء أريد أن أجلس. أن أمدّ رجلي، وأضع ظهري على حائط، وأحاول أن استجمع نفسي.

كنت ما زلت مصدوما، تختلط داخلي مشاعر الفرح ومشاعر أخرى من الصعب تحديدها، ولا أريد من أي أحد أن يقف على حقيقة مشاعري، أو أن يضبطني متلبسا بفرحي، بولادتي من جديد. كنت أخاف أن يصادروا مشاعري ويحرموني منها، ويعيدوني إلى قبري مرة أخرى. أريد أن أختلي بنفسي وأن أختلس لحظات تفكير، وضبط لتوازن مشاعري. سَتُكتب لي حياة جديدة لا شك، وسأعيش لأتذكر تلك الأيام ثقيلة الوطأة.

تقدمت خطوات. وجدت الغرفة مستطيلة متطاولة، فيها صفان متقابلان من الآسرّة المعدنية، وبينهما حركة دائبة للسجناء. فُوجِئت بهيئاتهم الغريبة، وبلغتهم: هل هم يهود؟ كانت معنوياتهم مرتفعة،  يظهر ذلك مِن حركتهم الطبيعية، يدخنون ويضحكون، ويصرخون على بعضهم، دون أن يمنعهم أحد. كان أمرا مفاجئا لي. أخذت أتلفت حولي، خشية من وجود محققين أو شرطة. تذكرت ما حدث معي في الأيام الأولى في زنزانتي الانفرادية، عندما حاولت الحديث مع جاري في الزنزانة، الذي تعرّفت عليه بالطرق على الجدران. كنا نتفاهم، وندير حديثا طويلا، لا تقطعه سوى وجبات التحقيق والتعذيب. وعندما حاولت يوما، أن أنادى عليه بصوت خفيض، فتح باب الزنزانة فجأة، وأغلقه أحدهم بجسمه الضخم. كنت ضئيلا جدّاً أمامه. جرّني من قميصي الممزّق إلى الممرّ الضيق بين الزنازين، وكوّمني في زاوية، وحدث ما حدث: كلّ خبطة من قدمه الكبيرة على جسدي يلحقها بسباب بلغته الروسية.

هذا لن يحدث هنا. هنا سجناء يجلسون متمددين على الأسرّة، يأكلون أو يدخنون أو يطالع الواحد منهم في كتاب بين يديه. أردت أن أجد زاوية على أحد الآسرة لألملم نفسي: كيف وصلت إلى هنا؟ هل انتهت أيام العذاب في الزنازين؟ كنت مُمدّدا متهالكا في زنزانتي، أقرأ الأسماء التي حفرت على جدرانها الكالحة الخشنة، عندما فتح الباب الصغير، وسدّه جسم ضخم، وخلفه وقف آخرون، يسمع من حركة المفاتيح في أيديهم صرير، خُيل إلي أنه عال ومزعج. سأل مسؤول، ساخرا ومتهكما، وكأنه لا يعرف:

ـ كم فدائيا هنا؟

ولم ينتظر رجل الشاباك الإجابة. أشار إليّ أن اتبعه، وولّى ظهره، وسار، بينما أمسك بي اثنان من مرافقيه الشرطة، دون أن يقيّدا يدي. دخل مكتب رجال المخابرات، وتركني مع الاثنين خارجا. ربما لا تصلح كلمة توتر لوصف وضعي النفسي في تلك اللحظات. تمنيت أن يكون هناك خطأ جعلهم يخرجونني من زنزانتي إلى ما تصورت أنه جولة جديدة من التحقيق، وتخيلت كيف سأقضي مشبوحا هذه الليلة الماطرة الباردة، في الساحة، التي تعتبر زنزانتي بالنسبة لها جنة، كما حدث في أيام كثيرة سابقة.

لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا أقف خارج الغرفة التي يصعب نسيان ما كان يجري فيها، وكلما حاولت أن أحرّك أحد أطرافي، أتعرّض للكمة على رأسي أو جنبي، أو رفسة على إحدى رجلي. مِن الصعب تحديد الزمن أو مَعْرِفَة الوقت. الزمن في السجن غير الأزمان في الخارج، وزمن الزنزانة غير زمن الشبح، وهذا غير زمن التحقيق، وهذا غير زمن شبح الكرسي، وهذا غير زمن تعذيب الخزانة، وهذا غير ذاك وذاك غير هذا. الزمن نسبيّ، فكيف عرف آينشتاين ذلك دون أن يُسجن؟

أطل المحقق الذي اقتادني قبل قليل حاملا ملفا في يديه، وأشار إلى الاثنين، دفعاني أمامهما. تيقنت أنني سأعود إلى الساحة من جديد. سيضعون كيس الخيش الغارق بالبول على رأسي، ولن يكتفوا بِواحد، سيضعون كيسا آخر فوقه، ويربطون يديّ من الخلف، وسيختارون مزراب ماء ويوقفونني تحته. لماذا المزراب، والمطر ينهمر بغزارة؟ إنني أسمع صوته. تذكرت ما يقوله الإنجليز عن أن "السماء تبكي قططا وكلابا"، وهو ما قاله لي أستاذ اللغة الإنجليزية بعد سنوات: إنه المقابل العربي لتشبيه مطر السماء، وكأنه ينزل مدرارا من فوهات القرب. هل كان المطر ينهمر فعلا؟ أم أنني كنت أتخيل؟ أين حدود الواقع؟ كنت مصرّا على الاحتفاظ بانتباهي الدائم، حتى لا أقع في أي خطأ أمام المحققين. أتذكر ما كنا نتداوله في خلايانا: إذا قلت قصة للمحقق يجب أن تصدّقها بتفاصيلها، لأنه سيظلّ يسأل الأسئلة نفسها. أيّ خطأ سيؤثر على أصحابٍ ومناضلين. الصراع مع المحققين صراع إرادات. هم أقوى بطشا، لكن الإرادة الأقوى تنتصر في النهاية.

الدماغ لا يكفّ عن التفكير في الزنازين، ستتذكر أمورا كنت نسيتها ، وتفاجأ بأنك تذكرها أو أنها حدثت معك فعلا. الدماغ يبقيك على قيد الحياة في السجن. دون هذا العضو العجيب في الجسم، لا توجد حياة. كل أعضاء الجسم تتألم من آثار الجروح والرّضوض، وهو وحده يسليك، يُؤْنِس وحدتك، يُخيفك ويُشجّعك، يحضر لك وجوه عائلتك، والفتاة التي تحبّها، والتي ابتسمت لك ذات يوم بِخفر، ولا تعرف أين أصبحت الآن، والتي تمنيتها ولم تطلْها، والتي أحببتها وكرهتك، والتي أحبتك ولم تراعِ مشاعرها. يُذَكِّرك بوجوه الأصدقاء الذين ينتظرونك، ويفخرون بصمودك، ستكون لهم مثلا، يقنعك بأنك قوي، أقوى مما كنت تتصور عن نفسك، بأنك ما زلت تعيش، رغم كل ما حدث معك، من يستطيع أن يبقى لو مَرّ بتجربتك؟.

رغم جسدك النحيل، بقيت كما أردت أن تكون. رأيت كِبارا يفخرون بشواربهم الكثة التي تعتلي شفاههم، يقبِّلون قدم المحقق. كُنت تدرك نقاط الضعف الإنساني، لكن الإفصاح عن أي شيء في التحقيق كان محرّما.

انتبهت على أيدي الشرطيين اللذين لا يكفان عن دفعي، والساحة خلفي. حاولت اختلاس النظر إلى المشبوحين من المعتقلين الجدد، لكن أحدهما نهرني دافعا رأسي إلى الأمام:

ـ لا تنظر خلفك!

وقفنا أمام باب طرق عليه أحد الشرطيين ليفتح، أخذ يهمر ويرفع صوته بشتائم على أشخاص يسميهم بالاسم، لعلهم زملاء له خلف هذا الباب. دخلنا ثلاثتنا، ونظر إليّ شرطي كان يجلس خلف مكتب. تفحّصني بقرف، ربما شمّ رائحتي أو تقزّز من شعري الطويل المنفوش من كثرة ما تعرّض للشدّ في الأيام الماضية، حتى خلت أنه سيقتلع من جذوره.

تركني الشرطيان عند زميلهما، بعد أن عاكسا شرطية سمينة كانت تجوس أمام المكتب، لكنّها ردّت بشتائم جنسية. كان ذلك أمرا طبيعيا بين الشرطة أنفسهم، أو ضدّ السجناء، وبدا لي أنها اللغة التي يفهمونها، وأنها من مستلزمات المهنة. وتذكرت لماذا كان يُضرب المثل الشعبي حول أخلاق ثلاث فئات تبدأ أسماء مهنهم بحرف الشين، أولهم في الترتيب هو  الشرطي ثم السائق (الشُفِير) وأخرهم العاهرة (الشرموطة).

قبل ذلك بأربع سنوات، عندما كان عمري 13 عاما، كنت معتقلا في معسكر الجيش الإسرائيلي في بيت لحم، واسمه (البَصَّة)، ومعي عدد من قادة الطلبة في جامعة بيت لحم. كان أبو الفهد، الضابط العراقي اليهوديّ الضخم، ضخم الجثة والرأس والشارب والأطراف، يحتضن مجنّدة صغيرة تكاد تذوب بين ذراعيه، يَمُرّ مِن أمام غرفتنا وينظر إلينا ويضحك. كنت أدرك أنه يستفزنا، ولكني لم أدرك حجم الاستفزاز الذي يمكن أن يشكله تصرفه لزملائي المعتقلين من الجامعة. وفي أجواء الاستفزاز هذه، وأبو الفهد يمرّ من أمامنا مقبلا ويعود مقبلا، بدت السخرية تسري في أجسادنا، وفوجئنا بوليد يقول بصوت خفيض هامس:

ـ ادخلها إلينا.. شوية!

ولا نعرف كيف سمع ما قاله. ترك أبو الفهد عصفورته الصغيرة تسرّح شعرها بيديها، ونادى على جنديّ يحمل المفاتيح، وطلب منه فتح الغرفة، وطلب منا الوقوف جميعا ووجوهنا إلى الحائط، وأراد أن يعرف من هو صاحب الجملة. حاول بعضنا أن يقول إنها لم تصدر مِن غرفتنا، ولكن الضابط الذي أمضى سنوات عمره الأولى في موطن أكراد العراق قال وهو يفتل شاربه الضخم:

ـ عيب على هالشارب إن لم أُلقنكم درسا إذا لم تقولوا من هو قليل الحياء الذي بينكم.

وبالطبع رفضنا جميعا الإشارة إلى وليد، واقتادنا خارج الغرفة، وعندما عدنا لم نستطع النوم لعدة ليال، بسبب ما تعرّضنا له من ضرب.

وعندما أصبح أبو الفهد يمرّ وهو يهصر المجنّدات تحت ذراعيه، يضع أقرب واحد فينا يده على فم وليد، كي لا يتكلم، ولكننا جميعا نطلق النكات التي تطفو على شفاهنا فجأة، ولا نعرف من أين أتت. أما أبو الفهد، فلم يعد يسمعنا، أو لم يرد ذلك، مدفوعا على الأرجح بغرور شرقيّ تدغدغه مراقبتنا لما يفعله مع العصفورة اليهودية الغربية الشقراء.

 

2
والآن، وأنا في معتقل المسكوبية بالقدس، في لحظة فارقة في اعتقالي، منقولا مِن الزنازين وقِسم التحقيق الذي نسمّيه المسلخ، يبدو أنني لم أسمع الشُرطية وهي تأمرني بشيء، فدفعتني بقوة نحو زاوية فيها مقعد طويل، وفهمت منها أن عليّ أن أنتظر، وهي لا تكفّ عن الشتم، كما فهمت أنها طلبت مني ذلك ولم أنتبه، لأجرّب كم هي قوية عضلات الشرطيات الإسرائيليات.

لكن معاملتها رغم هذه القوة تختلف عن أيام الزنازين، ورغم شكلها الغليظ الذي تبدو فيه كأحد الفتوّات، بدأت أعرف أنني في مكان آخر. وعندما جلست ونظرت إليها، بدا لي أن في ملامحها طيبة رغم خشونتها، ولا أعرف من أين أتاني هذا الشعور تجاهها، فهل كنت أحتاج إلى دليل على أنني في مكان مختلف عن الزنازين؟ تذكرت اختلافها عن صاحبة الوجه الطفوليّ، صديقة المحقّق، التي دخلت غرفة مكتبه وأنا أقف ووجهي إلى الحائط. جلس خلف المكتب، وطلب مني الجلوس على كرسيّ أمام مكتبه، بينما كانت تقف هي خلفه تداعب شعره بيديها.

قال لي وهو منشرح: احكِ القصة!

أجبته: أخبرتك انه لا توجد قصة لأحكيها.

ـ كلهم اعترفوا عليك.

ـ إنهم يكذبون.

ـ أنا زهقت، هل تريد أن تحكي أم لا؟

ـ قلت لك: لا توجد قِصة.

نهض مِن خلف مكتبه، وطلب مني أن أخلع البنطال، الذي كان فضفاضا، بسبب مصادرة الحِزام قبل الدخول إلى الزنازين. نظرت إليّ مجندته التي بدا وجهها محايدا، فقال لي: تريد يافا أن ترى عورتك. أنت لا تعرف الوضع الذي وصلت إليه، امرأة، ويهودية، تتصبب على عورتك، مو عيب عليك؟

كنت أعددت نفسي لأكثر من هذا، وكنت مصمما على الصمود، فخلعت البنطلون، لكنه هزّ لي بعصا صغيرة في يده، طالبا أن أخلع القطعة التي تغطيني، والتي كانت بيضاء فاصفرت بسبب منعي من التبول أثناء الشبح، فخانتني عضلات المثانة.

تلكأت في خلع القطعة، وفوجئت بما تحتها، ما زال لي ذلك العضو الذي نسيته، لكنه كان غافيا ومختبئا في كهفه لا يكاد يُرى، ويبدو أن المحقق فوجئ هو الآخر، وأطلق ضحكة مجلجلة:

ـ سأصحيه لك يا ابن الشرموطة!

تقدم إليّ من خلف مكتبه، وطلبَ مني رفع يديّ وشبكهما خلف رأسي. لم أكن أعرف ماذا ستكون الخطوة المقبلة، ولا متى ينتهي ما يحدث، ولا لماذا أصلا يلجأ إليه المحقق، وماذا يريد بالفعل. فوجئت بِضَرّبَة قوية من عصاه أسفل بطني فصرخت، وبحركة لا شعورية وجدت نفسي أغطّي المنطقة بيدي، لكنه لكمني على وجهي وألقاني أرضا، وطلب مِن مجندته تكتيف يديّ خلف ظهري، وأنا أَئِن من الألم. جلس على رجليّ كي لا تتحركا، واستمرّ في ضربي في تلك المنطقة بخفة، وأنا أتألم. شعرت بأن عيني تنزّان دما، فتوقعت أن تقفزا من مكانهما.

وفجأة رأيته يقف وهو يقهقه ويقول لي: انظر: لقد استيقظ!

كان منظره يثير الضحك حتى لواحد مثلي رأى الموت بعينيه قبل لحظات، أو هكذا خيل إليّ، وقلت في نفسي: ما هذا المجنون؟ لكني نظرت إلى حيث كان ينظر بانتصار، ففوجئت بما رأيت. طلب مني الوقوف، ولم أقو، فحملني وأوقفني وقال لمجندته: هل رأيت عضو ابن الفاعلة! ثم خاطبني: قلت لك إن يهودية سترى عَوْرَتك، اخص عليك!

انتبهت على الشرطية الغليظة تطلب مني الوقوف وأن اتبعها. سارت أمامي ووقفت أمام غرفة واسعة وطلبت من سجناء يقفون على الباب، خاطبتهم باللغة العبرية، أن يبتعدوا حتى تتمكن من فتحه، وبدا حديثها معهم وديا وكأنهم أصدقاء. فتحت الباب ودفعتني إلى الداخل. أدركت أنني في غرفة رقم 12، فلم أصدق نفسي. كلّ السجناء يعرفون غرفة رقم 12، ويسمّونها (المِعبار)، فهي التي يجلبون إليها بعد أن ينهوا التحقيق، تمهيدا لنقلهم إلى الغرف الأخرى، أو إلى سجون أخرى، ويُنقل إليها السجناء اليهود الذين يستعدون للخروج في إجازات من السجون حسب قوانينهم، كما تستقبل الحشاشين والزّعران الذين تقبض عليهم الشرطة في ليل القدس، حتى يتقرّر مصيرهم في اليوم التالي.

 

3
كنت فرحا عندما أُدخلت إلى الغرفة، لكنني ظللت خائفا أن يكون ذلك نوعا من الخطأ، وأن تتم إعادتي إلى الزنازين من جديد. ولم أستطع أن أعتاّد بسهولة على جَوّ الغرفة. لم أجد مكانا أجلس فيه لألملم نفسي، وأحاول أن أتوقع ماذا سيفعلون.

وجدت نفسي تائها بين الحشاشين والسجناء السُفليين، ومعظمهم من اليهود، كما أدركت بعد دقائق من وجودي في الغرفة التي بدأت أستشعر كم هي عجيبة باختلافها عن غرف السجون الإسرائيلية الأخرى. كنت أتفرّس في وجوه السجناء وهم يتحرّكون في الغرفة التي بدت مثل سوق شعبي في مدينة شرقية عتيقة. عرفت أن شكلي غريب، وشعرت براحة عندما قلت لنفسي: أستطيع الآن أن أستحمّ، ولكن كيف؟ نظرت حولي لأعرف مكان الحمام فلم أستدل عليه. أخبرت نفسي بأن العقبة الكبيرة ذللت، وأنا هنا، أخيرا في الغرفة رقم 12، وكلّ شيء آخر سيكون سهلا، مهما كان صعبا. تصوّرت أنني هبطت على كوكب آخر: كل شيء يهون عن تلك الزنازين.

انتبهت فجأة إلى رجل طويل القامة يرتدي ملابس السجن البرتقالية، دون باقي السجناء، ويتحرّك كثيرا، ولا يكفّ عن التدخين، وينظر حوله وكأنه يبحث عن أحد. التقت نظراتنا فجأة. عرف كلانا أنه يبحث عن الآخر في هذا الجو الغريب. تقدّم نحوي. أدرك من هيئتي وقذارة مظهري أنني آتٍ من هناك. أجلسني على حافة سرير وضع عليه أغراضه، وقدّم لي نفسه: كمال جَمّاعين، من قادة حركة فتح الشباب في السجون، اعتقل قبل عدة أعوام، وحكم عليه برزمة مؤبدات، وهو محتجز الآن في سجن نفحة الصحراوي في النقب، الذي يضمّ أصحاب الأحكام العالية من المعتقلين الفلسطينيين. أخبرني أنه نقل من سجن نفحة تمهيدا لنقله إلى المحكمة العسكرية في تل أبيب، لِيُقَدِم شهادته في قضية أمجد أبو جبين.

كانت شهرة أمجد أبو جبين في تلك الفترة، وقبلها بسنوات، تجاوزت فلسطين إلى الإقليم وإلى العالم. كان أحد أعضاء الخلية التي قادها كمال جَمّاعين، والتي نفذت عدة عمليات فدائية. وسافر أبو جبين، الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى بلاد العم سام، وعندما ألقي القبض على الخلية، أخبرني كمال أنه تم تحميل أمجد، البعيد في أميركا، كثيرا من التهم، في اعترافات أفرادها، لأنه بعيد، ولن يطوله الأذى. ولكن أميركا اعتقلته وزجّت به في أحد سجونها. ولم يكن أحد يتوقع تطورات القضية لاحقا، عندما تقدمت إسرائيل بطلب لأميركا لتسلم أبو جبين، الذي أصبح موضوعا مفضلا لوسائل الإعلام طوال سنوات النظر في قضيته، حتى تم تسليمه أخيرا، ووصل إلى معتقل المسكوبية، وانتهى التحقيق معه قبل دخولي إلى تلك الزنازين بفترة قصيرة جدا.

المسافة من نفحة إلى المسكوبية كانت بالنسبة لكمال جمّاعين مثل رحلة بين عالمين. كان فرحا بها، رغم مشاق السفر. وخلال النقل فيما يسميه الأسرى بالبوسطة، يتعرّض الأسير إلى الإهانات والضرب، وغالبا ما تكون البوسطة مركبة كبيرة، زنزانة كبيرة مغطاة، لا توجد فيها سوى فتحات صغيرة جدا. وهي تشبه الخزّان المغلق، الذي يستخدم لنقل الأسرى، والذين يتحملون داخلها أبشع أنواع الإذلال والعقاب، ويتعرّضون للضرر الصحي، فهي مليئة بالأوساخ وتنبعث منها الروائح الكريهة.

لكن كمال الآن في المسكوبية، ويلتقي مع واحد يمكن أن يتحدّث معه ويسأله عن الأخبار والأوضاع، ويحدّثه أيضا عن أخبار السجناء في سجن نفحة الذي كان ينظر إليه كمنفى. ومن المهم نقل أخبار الأسرى هناك إلى الأسرى في السجون الأخرى والخارج، وإحدى طرق ذلك ما يمكن أن يفعله أمثال كمال لدى تنقلهم من نفحة إلى المحاكم أو سجون أخرى.

قدم لي كمال بعض الفواكه، لكن آخر شيء كنت أفكر فيه هو الأكل، ليس لأنني لست جائعا، ففي الزنازين لم نكن نعرف الشبع، لكني لم أكن استعدت توازني بعد، وبدا لقائي به كأنه حلم، ودليلا على انتقالي من عالم الزنازين إلى غُرفة رقم 12، مع الفرق بين العالمين.

أخذ كمال يحدثني عن دراسته في جامعة بير زيت، وعن بدايات تشكيل حركة الشبيبة الطلابية في الجامعة، وهي الذراع الطلابي العلني لحركة فتح في ذلك الوقت. لم يكن العمل الطلابي غريبا عليّ، وكنت أحد ناشطيه آنذاك، ولم أحاول أن اظهر له حجم ما أعرف. أردت منه أن يتحدث، يعبر عن نفسه، يحقق ذاته في الحديث إلى فتى يستعد لدخول العشرينات، ويمكن أن يتعلم من أحد قادة الحركة الأسيرة الشبان. أخبرني عن بداية تشكيل الخلية التي ضمت في عضويتها عددا من الفتيات. تَزَوَج كمال المُسلم إحداهن وهي مسيحية، وقال لي وهو يحاول نقل رسالة تربوية ونضالية: "كلهن كن عزيزات عليّ، أخوات ومناضلات، جميعهن تساوين لدي في المعزة، وعندما تزوجت إحداهن، لم يكن ذلك لأني فضلتها عليهن، ولكن لأنه لا بد من الزواج بواحدة". كانت مجموعة الفتيات، ومن بينهن زوجته، في معتقلات في سجن الرملة للنساء، دون أن يكون بينه وبينهن تواصل.

ورغم انتمائه إلى الجناح العسكريّ لحركة فتح، ظهر أمامي كمثقف، وكدودة كتب. قال لي إنه في منزله في مخيم الجلزون، تناثرت الكتب في كل مكان: في غرفة النوم، والمطبخ، وحتى الحمام، وعبر أمامي عن حماسة أجيال من الفلسطينيين وعشقها للكفاح المسلح من أجل طرد المحتل. وقال: "هل تعلم أننا ونحن صغار لم نكن نكنّ تقديرا لفاروق القدومي (أبو اللطف) رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، لأن مجال عمله هو الدبلوماسية والمؤتمرات، التي لم تفد قضيتنا بشيء. عرفنا أن دوره مهم، لكننا أحببنا دائما من اغبرت أجسادهم بتراب معسكرات التدريب".

حاولت أن أناقشه، أنا الذي كنت متشبعا بمواقف راديكالية من قيادة منظمة التحرير أسميها، مثل تيار عريض من الراديكاليين آنذاك، بالقيادة اليمينية المهادنة، إن قادة المنظمة ليسوا بالإخلاص الذي يتصوّره. لكن إدراكي لحساسية أي نقد لقيادات التنظيمات، خصوصا في السجن، كان يمكن أن يؤدي إلى إشكاليات بين السجناء، جعلني اطرح أمامه شكوكا، عن طريق أسئلة غلفتها بقدر كبير من الكياسة، وكان من الذكاء ليعرف توجهي السياسي المناقض للخط الرسمي لقيادة المنظمة.

قال إن سنوات السجن، وبعد الحكم عليه، وتعوّده على روتين معين في السجن، جعلته يقرر أن يعيد قراءة كل النظريات والأديان والأيديولوجيات بتجرّد كبير، ودون مواقف مسبقة، وإنه يمضِي سنوات السجن التي ستكون طويلة، في البحث والتمعّن. لقد قرأ ماركس ولينين والإسلام والمسيحية واليهودية وسيد قطب، وما زال يبحث.

 

4
عندما ذَكر كمال اسم سيد قطب، أبديت إعجابي بالأخير، وأخبرته بقصة تعرفي عليه، في معتقل الفارعة العسكري. طلب مني أن أحدّثه عن المعتقل الذي افتتحه المحتلون قريبا من غور الأردن، بعد أن بدأت السجون تضيق بالأعداد المتزايدة من الفلسطينيين. كنت من الفوج الثاني الذي يدخل المعتقل الذي يديره الجيش، ويفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، وقد وضع خبراء الجيش سياسة معينة فيها كثير من الأساليب النفسية للتعامل مع المعتقلين الذين يُرَحّلون إلى معتقل الفارعة، منها إعطاء كل سجين رقما، لا ينادى إلا به، ويتم تجاهل اسمه بشكل مطلق، وربما الأهم، إجبار كل أسير أن يرد عندما ينادى عليه: نعم سيدي! وكان يتعين على كل فوج من المعتقلين أن يتلقى وجبة من الضرب قبل دخوله المعتقل، بالهراوات والبساطير المعدنية.

كنا أصغر من أن نواجه هذه السياسة، لكننا قررنا كسرها بقدر ما نستطيع، عبر خطوات معينة، مثل تجاهل النداء الذي يوجه إلى الأسير الرقم، وتجاهل الرد بنعم سيدي، ودفعنا ثمنا غاليا جدا، ما زالت أثاره تظهر على أجسادنا.

أبدى كمال اهتماما بتجربتنا في الفارعة، لكي يضع زملاءه قادة الحركة الأسيرة في صورة الأساليب الجديدة التي تتبعها سلطات الاحتلال في ذلك المعتقل العسكري، والتي قدر لها بعد سنوات قليلة، مع اندلاع الانتفاضة الكبرى عام 1987م، أن تُعمم مع تنوّع المعتقلات العسكرية وانتشارها.

كل تجاهل للأوامر كان يتبعه عزل في غرفة انفرادية ووجبة ضرب عنيفة، ولم يكن يشذ عن ذلك حتى طبيب السجن، الذي كان على كل سجين جديد أن يقف أمامه على بعد أمتار، ليرد على أسئلة يطرحها عليه حول صحته، بينما هو يملأ أوراقاً أمامه، توضع في ملف السجين. كان الطبيب يطرح أسئلته بتقزّز، وعلى السجين أن يرد على كل سؤال مَسبوقا بنعم سيدي، وعندما لا يفعل، ينهض الطبيب من خلف طاولته، ومعه مساعداه، ليذكروا السجين عمليا بعقوبة تجاهل عبارة نعم سيدي، ولتتحول سماعته إلى أداة للضرب. كان الطبيب وكل مَن في السجن ينفذون أوامر مشدّدة ضد أجيال جديدة صغيرة من الفلسطينيين تنضم إلى مسيرة النضال الوطني التي طالت أكثر مما يجب.

لم يكن في المعتقل العسكري أي نوع من النظام. كان على السجين أن يعاني من ظروف النوم في الغرف، ومن الأكل، ومن افتقاد النظام في حياة المعتقلين الداخلية، ومن بطش الجنود الدائم، والعمل ساعات طويلة في إعداد النواقص في المعتقل، وما أكثرها.

وحدث فجأة، ما اعتبر تطورا "تاريخيا": فتح الكابتن (جدير)، أشهر ضابط في معتقل الفارعة، وأشدهم بطشا، غرفتنا، وقذف، وهو يضحك، كمية من الكتب، قائلا إن دولة إسرائيل رحيمة بنا، وسمحت للصليب الأحمر بإدخال هذه الكتب.

مِن الصعب الآن التعبير عن فرحتنا الكبيرة آنذاك، رغم أننا عرفنا بعد الاطلاع على عناوين الكتب، أنها جزء من السياسة النفسية المتبعة في السجن.

كانت مُعظم الكتب دينية، أو الأصح، كما اتضح لنا انصبّ التركيز على نوع معين منها، مثل كتب الجان وعذاب القبر، بالإضافة إلى كتب كولن ولسون. ومن بين الكتب الكثيرة التي صنفناها كتبا رديئة تدور حول الخزعبلات، أخرجت كتب سيد قطب، وقدّرت انه يمكن على الأقل قراءتها، خصوصا وان من بينها ما بدا أنه كتب أدبية ونقدية.

ولم تمضِ ساعة أو اثنتان حتى وجدتني أُغرم بسيد قطب، الذي شكل بكتابه (معالم في الطريق) خصما أيديولوجيا لتيار عريض وواسع في ذلك الحين. ولم أُصدّق كيف يمكن أن يكون هو نفسه الذي يكتب عن نشيد الإنشاد والشاعر اليساري كمال عبد الحليم في الكتاب الذي بين يديّ، وأنه أيضا من "اكتشف" نجيب محفوظ وعرض رواياته الأولى في المجلات الأدبية. احترمت سيد قطب كمفكر، وأحببته، خصوصا وان مفاصل حياته الدرامية وإعدامه، تغذّي المشاعر التي يمكن أن يكنّها المرء له.

وافقني كمال على بعض ما قلته عن سيد قطب، وإن بدا لي أنه يسمع ببعض ما قلته لأول مرة. وما لفت نظري في كمال ليس ثقافته أو سِعة اطلاعه، بل تفاؤله غير المحدود. قال لي إنه يفكر كل يوم، وكأنه آخر يوم له في السجن، بماذا سيفعل عندما يخرج، وإن سنوات المؤبد التي يحملها لا تهزّ تفاؤله، وكأنه كان يعرف أنه سيكون بعد أقل من ثلاثة أعوام مع عشرات الأسرى الفلسطينيين الذين أطلق سراحهم في الصفقة التي أبرمتها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل مع إسرائيل.

ظلّ يقول لي تلك الليلة: سأخرج ذات يوم! ووضعني في صورة ما سيقوله في قاعة المحكمة التي ستنظر في قضية أبو جبين. قال إنه سيحتجّ على هذه المحكمة التي تعقد في تل الربيع، الاسم الفلسطيني لتل أبيب، وسيهين القضاة، ويتحدّث عن الجرائم الإسرائيلية، ولن يشهد على أبي جبين، رغم معرفته أن المحاكم العسكرية الإسرائيلية صورية، وان الحكم يكون جاهزا مسبقا من قبل المخابرات التي تحدّد كل شيء، بينما القضاة مجرّد ديكور.

لاحظ أنني ما زلت مرهقا وبحاجة إلى الاستحمام والنوم، لكنه اعتبر وجودي فرصة للحديث، فهو سيعود مجدّدا إلى نفحة، ولن تسنح له فرصة أخرى للقدوم إلى سجن آخر. وكنت أعرف أنه لن يأتيني النوم هذه الليلة، التي نقلتني من عالم إلى آخر، ولم يكن ممكنا أن نستمر في الحديث دون أن ننتبه إلى ما يدور حولنا، فَروّاد الغرفة يزدادون مع تقدم الليل، ولا يكفّ السجناء اليهود عن إحداث الضجيج. قال لي إنهم لا يشكلون أيّ خطر، وإن بعضهم، عندما تحدث معهم بالعبرية، استغربوا كيف نتحمل كل التعذيب الذي نتعرض له. وأخذنا شيئا فشيئا نخرج من عالمنا إلى عالم السجناء حولنا.

 

5
قال لي: انظر إلى صاحب الشعر الطويل. هو معتقل لأنه قتل زوجته، ونقل إلى هنا ليخرج في إجازة، ثم يعود إلى السجن من جديد! لفت انتباهي صاحب الشعر الطويل. كان يسير بخطوات طويلة في الممرّ بين الأسرّة، عابس الوجه، تاركا لحيته تنمو دون تشذيب، يدخّن بشراهة، وطوال الليلة لم أره يتبادل الكلام مع أي أحد، سوى حديث قصير بين الوقت والآخر عن السجائر، مع كمال، وسجن نفحة، وكيف يمكن تحمل السجن دون إجازات.

والواقع أنني فوجئت عندما علمت بإجازات السجناء اليهود، وشرح لي كمال أن ذلك امتياز للسجناء اليهود الجنائيين، فبعد قضاء فترة في السجن، يصبح من حقهم الخروج ليومين أو أكثر، ثم يعود الواحد منهم إلى السجن من جديد، وقال: إنهم سجناء مرفّهون، ورغم أنهم أبناء ليل وبلطجية وقتلة، إلا أنهم لا يستطيعون تحمّل الظروف التي نعتقل فيها. عليك أن تفخر بنفسك!

الحركة تزداد في الغرفة، وكل فترة نصادف وجوها جديدة، لكن فجأة وجدنا أنفسنا نتجمع مع الآخرين بالقرب من باب الغرفة، نراقب أحد السجناء اليهود، وهو صاحب وجه وديع، ويبدو من هيئته وملابسه كرجل أعمال شاب ينتظره مستقبل باهر. كان يشمر عن أحد ذراعيه، ويحمل في يده اليمنى شفرة حلاقة حادة، ويعمل بهدوء في حفر أخدود صغير في ذراعه اليسرى المكشوفة، بينما يمسك زميل له، بكأس بلاستيكي تحت الذراع يستقبل الدّماء.

لم يكن يتألم، بل كان يتحدّث مع زملائه بالهدوء الذي يحفر فيه، وبعد أن يمتلئ الكأس يقترب من باب الغرفة ويدلقه إلى باب حديدي مجاور مغلق، إلا من فتحة صغيرة في أعلاه، علمت أنها غرفة شبيهة بغرفة رقم 12، لكن للنساء.

وبعد أن تصل الدماء من تحت الباب الآخر إلى غرفة النساء، تصرخ إحداهن وترجوه أن يتوقف. وقد تكرر المشهد مرّات، حتى خلت أنه سيخر صريعا، واقتربت منه مشدوها، فلاحظت أنه يعرف ما يفعله جيدا؛ يحفر أخدوده في منطقة حساسة، بين مجموعة شرايين، يحرص بمهارة ألا يقترب من أحدها، يفعل ذلك وكأنه يلهو.

ما هذا الذي يحدث؟ هل هو حقيقة أم تخيل؟

قال لي كمال إن الذي يجسد المشهد الدموي أمامنا أحد رموز العالم السفلي في إسرائيل، وهو متورّط في عالم الجريمة المنظّمة، ومتّهم بعدة جرائم قتل. والفتاة التي تصرخ حبيبة سابقة له، تزوجت من رأس عصابة منافس، قتل في عملية غامضة، وهما يعبران، هو بدمه، وهي بصراخها وتوسلاتها، عن مشاعرهما تجاه بعضهما، وعن تبادل العتاب والتهم بالغدر والخيانة والحبّ والعشق. لكنه شعر بأن تفسيره ليس مقنعا بما فيه الكفاية، فتابع قائلا: بعد قليل ستحضر الشرطة وتأخذه إلى المستشفى خارج السجن، وهناك يكون في انتظاره، بناء على ترتيب مسبق، أحد أعوانه، ليزوّده بكميات من المخدرات، يهربها إلى هنا بعد علاج جرحه.

قلت: أسمع أن المدمن يمكن أن يُشَرِح نفسه بالشفرة أو السكين، عندما يحتاج إلى المخدر ولا يجده، لكن هذا يحفر في ذراعه دون أن يتألم، ولا يبدو أنه يعاني من نوبة احتياج للمخدرات. أمر غريب!

قال إنه لاشك فقد الإحساس في بعض مناطق الجسم نتيجة الإدمان، واكتسب خبرة في جرح نفسه. وأمام تبرّمي وعدم فهمي، أضاف أنه لا بد أن يكون هناك سببٌ علميّ يفسر ما يحدث.

وصل عدد من رجال الشرطة ووقفوا قرب الباب، وتعاملوا مع العاشق المدمّى بكل هدوء، وطلبوا منه أن يجهّز نفسه لنقله إلى المستشفى. انتبهت إلى فتى حضر مع الشرطة وانهمك في تنظيف أرضية الممرّ من الدماء. حدقت فيه. خيل إليّ أني اعرفه. وعندما رفع رأسه وهو ممسك بالممسحة، عرفت أنه جميل، ابن صفّي في مخيّم اللجوء الذي ولدنا فيه. نظر إليّ وعرفني. كان اعتقل قبلي بشهور، وها نحن نلتقي في هذه الليلة العجيبة. ابتسم جميل. لاحظت أن السجن زاد وجهه اصفرارا، وإن لم يُغيّر من ملامحه البريئة بعد.

لم يستطع جميل أن يحدّثني بوجود رجال الشرطة، ولكن نظراتنا قالت أشياء كثيرة، وعرفت أن خبر انتهائي من التحقيق، وخروجي من الزنازين، سينتشر، بطريقة ما، وسيعرف المعنيون بذلك، كما تنتشر أخبار السجناء، بسرعة البرق أحيانا، دون أن يكون مخططا لها.

فتح رجال الشرطة الباب الحديدي، وخرج العاشق ابن الليل بعد أن ضمّد جرحه بشاش أبيض.

 

6
تفرق الحشد من أمام الباب، وبقيت أنا وكمال. حاولنا أن نعرف إن كانت هناك سجينات عربيات في غرفة النساء. سأل كمال عشيقة صاحبنا باللغة العبرية، فطلبت منه أن ينتظر. وبعد قليل جاءنا صوت نسائي عربي طلب أن يتعرف علينا. كانت فتاة من إحدى العائلات المقدسية المناضلة، زجّ الاحتلال في سجونه بثلاثة من أبنائها، في فترة مبكرة، وهدم منزل العائلة وشتت أفرادها.

عرفت الفتاة. كانت هي التي يأتينا صوتها تصرخ وتتألم، ونحن مشبوحون في ساحة الزنازين، وكان صراخها "يمزّق نياط القلب"، كما يقولون. كان عذابا إضافيا أن نسمع صوت فتاة تتعذّب ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئا.

لم يكف صوت صراخها عن الوصول إليّ في ساعات الفجر، وأنا في الزنزانة. كنت أضرب رأسي في الحائط الخشن: أي هوان هذا! لم أكن أتوقع أن أكون ضعيفاً إلى هذا الحدّ أمام صوتها. كنت أومن بضريبة المقاومة، وبأن العار هو الاحتلال، وليس نواح فتاة مقدسية في ظلمة فجر بارد قاس، في حقبة احتلال، ليس هو الأول للمدينة، وسيصير، في يوم ما مجرّد أسطر في صفحات تاريخها. لكن الواقع لم يكن كذلك، وظلّ نواح الفتاة، الذي يشبه الاستغاثة، يتردّد لديّ في فترات عمريّة لاحقة، وعندما كنت أذكر ذلك لأصدقاء مقربين من المثقفين، معتبرا حزنها المعتق "أمانة في أعناقنا"، كنت أواجه بعدم الفهم، وأحيانا بالسخرية، وكان بعضهم يعتبرني "ساذجا". 

لم أُذَكّرها بصوتها في ليل الزنازين الحزين، وبحجم تأثيره علينا، وتولّى كمال الحديث الصعب معها، الذي يتم من وراء "حجاب". كنا نقف عند باب غرفة رقم 12 الحديدي، المطلّ على رواق ممتد في السجن، وقوفا غير آمن، فشرطة السجن تتحرّك في الرواق، وبين فترة وأخرى يفتح باب غرفتنا؛ أما هي، فتضع وجهها الذي لا يكاد يبين منه شيء، على فتحة صغيرة في باب غرفة النساء، مثبتة فيها قضبان حديدية، تجعلها أصغر.

سألها كمال إن كانت تحتاج لأي شيء، وقلت لها إن هناك احتمال أن أخرج قريبا، بعد أن انتهى التحقيق معي، وسألتها إن كانت تريد إيصال رسالة إلى الخارج. لم يكن حديثنا متواصلا، فكلما تقدم شرطي نحونا، كنا نبتعد وتبتعد، رغم أنها لا تستطيع رؤية حركة الشرطة من كوة بابها. لكنها مثل جميع السجناء، ربما طوّرت أجهزة استشعارها الخاصة التي تناسب ظروف السجن، حيث تتحول كل حركة قدم، أو صوت، أو همسة شرطي، إلى معاني تحللها أجهزة استشعار السجين، وتتلقى الإجابة فورا، ومع الوقت، تصبح النتائج أكثر دقة.

ولم نكن نحن فقط من يحاول الحديث مع غرفة النساء، فكثير من السجناء اليهود يتحدثون مع سجينات يهوديات، ويخوضون معهن، بهذه الطريقة المعقدة من التواصل، التي يفصلها صرير الحديد، وحركة السجانين، أحاديث غريبة عن السجن والحشيش والقتل، ولا يتحرّجون من تبادل الألفاظ الجنسية.

لم تكن فتاة الزنازين هي العربية الوحيدة في غرفة النساء. كانت هناك سجينات جنائيات، لكل واحدة منهن قصة، تريد أن تسمعنا إياها، فالأسير للأسير نسيب، على الأقل في مثل الظروف التي وجدنا أنفسنا فيها.

كان الباب يفتح بين فترة وأخرى ليدخل زائر جديد جلبه رجال الشرطة من الليل الذي يموج بالحركة. كثير من هؤلاء السكارى والحشاشين كانوا يكملون هنا  ما بدأوه في شوارع المدينة المقدسة، وكنت أعجب لقدرتهم على تهريب المخدرات. قال لي كمال: ما دام الأمر ليس متعلقا بالسياسة والأمن، فكلّ شيء جائز في سجون إسرائيل!

 

7
في مِثل هذا الجو، كانت منطقة الباب هي الأنسب لمواصلة الحديث، وتشمم الأخبار مع غرفة النساء. كنا أول من يعرف بالقادمين الجدد. وكان لديّ سبب آخر يجعلني ملازما لمنطقة الباب، أريد أن أرى "جميل" مرة أخرى، أريد أن أساله عن نفسه والآخرين من المعتقلين القاصرين في مثل سنه، من أبناء المخيم، رفاق الطفولة، المعتقلين منذ عدة شهور، وكذلك عن أية أخبار من الخارج. أريد أن آخذ معي وأنا خارج أكبر قدر من الأخبار، فهناك من سيسأل ويهتم، وربما ينتظر. شجعني على ذلك أن "جميل" كان يظهر من بعيد وهو يمسح الممر، لكنه لم يكن يملك الحرية في التحرّك كما يشاء، أو الاقتراب منا، فعيون الشرطة عليه. وحين استطاع أن يقترب أخيرا، أخبرني وهو يتلفت حوله أنه وأصحابه محتجزون في غرفة يطلقون عليها اسم "غرفة الأشبال" لحداثة سنهم، وإنهم جميعا ينتظرون محاكماتهم لترحيلهم إلى السجون المركزية. ووجه إليّ سلسلة أسئلة متتالية عما جرى معي، وهل اعترفت، وهل لديّ قضية؛ ثم قال بعد أن سمع الإجابة بثقة: اطمئن. ستخرج بعد أيام. غدا أو بعده سينقلونك إلى غرف السجن. لا تقلق. سيكون الوضع هناك أفضل، وستخرج من هناك إلى الحرية. أبو العزّ في الغرف، وسيكون في انتظارك.

سألته: ألا يزال هنا؟ طالت إقامته في المسكوبية، ألم ينقلوه بعد إلى السجون المركزية؟

لم أنتظر الإجابة، كان جميل، وبطرفة عين، يبتعد وهو يمسح أرضية الرّواق، ويذوب بعيدا. بدأت اشعر بالبرد. لم أكن ارتدي غير قميص بال، لأنهم صادروا سترتي. كما أن الشعور بالقرف من شكلي ورائحتي ظلّ يلازمني منذ دخولي الغرفة. كنت أحكّ شعري بشدة. أريد أن أستحمّ. ولم يكن الحمام يفرغ بسبب العدد الكبير الذي أصبح داخل الغرفة، ولم تكن هذه هي الصعوبة فقط، فلم أجد مع كمال غيارات داخلية.

حاول أن يقنعني بأن أؤجل فكرة الحمام ليوم الغد، لأنني قد أنقل إلى غرف السجن، وهناك كلّ شيء متوفر لدى الشباب. تظاهرت بالاقتناع، وحجزت دورا لأدخل الحمام لأقضي حاجة، وعندما أصبحت داخله، شعرت بقرف متزايد من القذارة، وقررت أن استحم بالماء البارد، وأقنعت نفسي بأن أنظر إلى ذلك كوجبة واحدة أخرى من الوجبات التي تستخدم كتعذيب في الزنازين. لن يضيرني أن أتحمل هذه الوجبة الأخيرة. لتكن حلاوة خروجي من الزنازين.

خلعت ملابسي وحاولت ألا أنتبه لوساختها، وبدأت أملأ دورق المياه البلاستيكي بالماء وأدلقه على جسدي، وأنا انتفض من البرد، ومن الخوف، مثلما كان يحدث، عندما يفتح باب الزنزانة في ساعات الفجر، ويمسك بي  الشرطي من قميصي، ويدفعني أمامه، ويفتح بابا آخر ويرميني تحت حنفية ماء، ويطلب مني أن أخلع كل ملابسي، وفتح الماء، بينما يقف مبحلقا في كل أنحاء جسمي وكأنه يريد أن يفترسني، وعندما أرتعد مِن البَرد وأحاول الخروج من تحت الماء، يفاجئني، برمي ليفة إليّ، وقطعة صابون، ويطلب مني أن أستحم من جديد، وهو لا يكف عن التحديق. ثمّ يطلب مني التركيز في فرك جسمي بالليفة على مناطق معينة، ويرفض أية محاولة للمناورة، ويأمرني بالعودة إلى الماء البارد. كنا نخشى دائما من الميول الشاذة لدى الشرطة، ونتنبه لأية محاولة اعتداء متوقعة، فننسى برودة الماء. ولا يقتصر طقس حمّام التعذيب على الماء البارد، فبعده يأتي دور الدوش الساخن الحارق، ثم يتبعه البارد فالساخن وهكذا، حسب ما يقرّره المحقق.

أنا هنا وحدي أمام جسدي أدلق عليه ماء باردا، لكن خلاياه ميتة مستكينة، أخشى ألا تصحو أبدا. تذكرت بفرح أنني سأشعر بدفء بعد الحمام البارد، كما كان يحدث بعد عودتي من طقس التعذيب إلى الزنزانة. كنت أشعر بدفء منعش لذيذ، فترسّخت في ذهني العلاقة بين الماء البارد والدفء الذي يتبعه.

 

8
وضعت ملابسي على جسدي المبلل، وخرجت. وجدت مجموعة من السجناء متجمعين حول كائن قصير يرتدي الشورت، قال كمال: هذا محمد الجابري!

هذا هو محمد الجابري، أشهر زعران القدس. كنت أتصوّره طويلا عريضا، يربي شنبا مخيفا، لكنني وجدت أمامي مخلوقا قصيرا، يؤدي حركات مضحكة، ويطلق قفشات تجعل من حوله من سجناء، عربا ويهودا، يقهقهون.

أضفى وجود الجابري في الغرفة جوا مختلفا، وعندما عرف أنني وكمال معتقلان سياسيان أبدى احتراما نحونا، وسأل إن كنا نحتاج إلى أغراض أو سجائر. شكرناه وطلبنا منه إن كان يستطيع، من خلال شبكة اتصالاته بين الغرف، أن يؤمن لنا السجائر من المعتقلين السياسيين في غرف السجن، وأن يخبرهم بوجود اثنين من السياسيين في غرفة 12 يحتاجون إلى سجائر وملابس داخلية وأية أشياء أخرى يمكن توفيرها. لكن الأمر العاجل هو السجائر.

كانت علاقات الجابري داخل السجن متشعبة، وبدا قادرا على تنفيذ أمور كثيرة، ولم نكن نحتاج إلى اختباره لنعرف ذلك، فحين يستل سيجارة محشوّة بالحشيش أمام الجميع نعرف حدود قدرته على التصرف. وقد رأيته ينشغل بإخراج حبوب بيضاء يهرسها ويلفها في سيجارة مع التبغ ويعزم علينا: جَرّب هذا الصاروخ!

لم نكن نجرّب، ويعرف هو أننا لن نفعل، لكنه يؤدي ذلك بنوع من المبالغة في الترحيب، وواجب الضيافة في السجن، الذي كان نزيلا شبه دائم فيه، وكانت حركة دخوله وخروجه من السجن تكاد تكون مضبوطة، فيتمّ توقيفه 24 ساعة أو 48 ساعة، ثم يخرج ليعود بعد ساعات أو يوم أو يومين مقبوضا عليه. كان كثير الشجار مع رجال الشرطة، ويحدث جلبة في كلّ مكان يوجد فيه، لكنه لم يكن محلّ ثقة زملائه من أبناء الليل الذين كانت تسري بينهم إشاعة حول علاقته بالشرطة، وأنه يعمل مخبرا لديها. ولم يكن أي واحد من الليليين يجرؤ على مواجهة الجابري بهذا الاتهام، فرغم شكله الذي لا يوحي بقوة ما، إلا انه كان يتمتع بقوة جسدية ومعنوية بدت دائما غالبة.

وبعد سنوات، أصبح الجابري بالنسبة لي نموذجا للاستشهاد على تحوّلات المحتلين المغلوبين على أمرهم، مع استمرار وطأة الاحتلال. ومن عرف عنفوان الجابري في سجن المسكوبية أو في البلدة القديمة في القدس، لا يمكن أن يتصوّر تحوّله، عندما اندلعت الانتفاضة الأولى بعد سنوات. ابن الليل هذا، الذي كان بعيدا كلّ البعد عن أيّ عمل وطني، رغم انه ابن لاجئين هجّروا من قريتهم عام النكبة، وجد نفسه يقدم على عمل ما زال يُحيّر كل من عرفوه. ببساطة، وذات يوم من أيام البلدة القديمة في القدس في زمن الاحتلال، قتل الجابري جنديا من حرس الحدود الإسرائيليين عرف بتنكيله بناس القدس، لكن زميلا للقتيل عاجل الجابري برصاصة، فخرّ صريعا بجانب الجندي القتيل.

أيّ احتلال، تتوسع مع استمراره الدائرة التي تناهضه. وفي حالة الاحتلال الإسرائيلي، وبحكم طبيعته الاستيطانية والتوراتية التي ترى في الآخر نوعا من الأغيار يحلّ ماله وأرضه ودمه، لم يتمكن من عقد تحالفات مع أية فئة أو طبقة من الشعب الفلسطيني، وإذا كان حقق نجاحات في تجنيد عملاء، إلا أن أيا منهم لم يكن عميلا "أيديولوجيا"، رغم جرائمهم والخدمات التي قدموها له.

طوال سنوات، أخذت تنضم إلى المقاومة فئات جديدة، تزداد باطراد، مع توحّش الاحتلال وتغوّله، وظلت الأرض المقدسة، على مواعيد لا تنتهي من نزيف دماء يساريين وإسلاميين ومسيحيين ومستقلين وأبناء ليل، أطفالا، وشبانا، ونساء، فعلوا ما يمكن أن يفعله أيّ شعب تحت الاحتلال، لكن الظروف لم تكن مواتية أبدا لتحقيق أحلامهم.

 

9
بعد فترة، اقترب منّا الجابري، وسلمنا السجائر التي استطاع تهريبها بطريقته. أشعلت سيجارة، هي الأولى ذات الفلتر بعد سجائر الزنازين القليلة النتنة. كانوا يوزّعون على كل سجين 3 سجائر في اليوم، عندما يكون المعتقل في زنزانته وقت التوزيع، أما إذا كان في التحقيق أو مشبوحا في الساحة، فيحرم من الأكل والسجائر والماء وقضاء الحاجة. وكان توزيع السجائر طقسا مهما في الزنازين، أهمّ بكثير من الأكل، فخلال الأيام الأولى، وعندما يكون الضغط والتعذيب والتحقيق مكثفا في بدايته، يكون آخر شيء يفكر فيه السجين هو الأكل. المعدة لا تعود تلحّ في طلب أي شيء، تنسى نفسها، تنسى أنها معدة، والرأس يصاب بصداع دائم، والجسم يعاني من هزال، والشهية تموت، ولا تبقى سوى السجائر.

كانت السجائر التي تُوَزّع من نوع رديء، أردأ نوع في السوق، بل ربما لا يباع في السوق، بل ينتج خصيصا للسجون. السيجارة قصيرة ودون فلتر، يسميها المساجين (الخنتريش). ومثلما كانت وجبات الطعام في الزنازين مبتسرة عن تلك التي توزع في غرف السجن، فان حصة سجين الزنازين من السجائر أقل. عند توزيع السجائر، كنت تسمع صرير المفاتيح في يد السجان، وتحسب خطواته وهو يتقدّم نحو زنزانتك، وتعرف بالضبط متى سيكون أمام الباب، يفتح الطاقة الصغيرة، ليسلمك سيجارة، ويشعلها لك. ومن طريقة إشعال السيجارة، تُكوّن فكرة عن طبيعة السجان المناوب، مدى شراسته، وتطرفه، وانحرافه، واستعداده لفتح باب الزنزانة، لينهال عليك ضربا، دون أيّ سبب.

أركادي كان أغرب سجان، وهو من النوع الذي يحتاج المرء في تفسير سلوكه، إلى الاستعانة بالتحليل النفسي. كان من الواضح، مع طول عمله كسجان، أنه تماهى مع مهنته، وأصبح سجينها، فهو في الزنازين يعيش مثل السجناء، ويدخن الخنتريش. وفي نَوْبَتِه لم يكن يحظى سجناء الزنازين بسجائرهم كاملة: يفتح طاقة الباب الحديدي، ويستل سيجارة السجين من العلبة، ويشعل عود الثقاب، وبينما يكون السجين مستعدا لتسلم سيجارته، يغير أركادي رأيه، وتعود السيجارة إلى علبتها، أو إلى فمه مشتعلة.

كنت عندما أتمدد على فراشي الرقيق في الزنزانة، أفكّر أحيانا في أركادي وآخرين مثله من السجانين: كيف يعيشون حياتهم خارج هذا الجحيم؟ كيف يمكن أن يكون شخصا آخر بين عائلته وأطفاله؟ هل هو أركادي نفسه، الذي يجرّ الشبان إلى غرف التحقيق، ويثبتهم للضرب عندما يطلب منه المحقق ذلك، ويضع أكياس الخيش النتنة على رؤوسهم، قبل إيقافهم ساعات في الساحة؟ أين سيهرب من أركادي الذي رأى بعينيه شبانا فلسطينيين يموتون في هذه المقبرة التي يعمل فيها؟ كيف يعود إلى الحياة من جديد، عندما يغادر باب السجن؟

كنت مفتونا بالتحليل التي ورثناه عمن سبقونا، وشكل قناعة لنا بأننا في قيودنا أكثر حرية، من كلّ أركادي، وأيّ أركادي، وكم كان تصرّف بعض المحققين القساة يخلق عندي مجالا للضحك والسخرية، ويجعلني أتحسس نقاط ضعفهم، عندما يقرر محقق، حتى يؤثر نفسيا علي، قبل عودته إلى منزله، أن يمر على الزنزانة، بكامل أناقته، وهو يحمل حقيبته، ويضع نظارته الشمسية على عينيه، أو رأسه، أو يمسك بها، بتظاهر واضح، بيديه، ويقول: كيفك الآن يا بطل، لا تريد أن تحكي القصة، لا يهمّ، لا نجبرك على شيء، كما ترى، نحن احتلال ديمقراطي، ابق هنا، أما أنا فسأكون بعد قليل في حضن عشيقتي!

وبعد أن يقيس تأثير وقع كلامه علي يقول: لا تعرف طعم النساء، تراك لم تجربهن ولا مرة، لو كنت مكانك، لما بقيت في هذا المجتمع ولا لحظة، كنت سأهاجر إلى مواطن الشقراوات.

لم يكن ينتظر إجابة، ولا أنا، في ظرف الآسر، كنت أرغب في قول شيء. وأهم ما تعلمناه ألا نحكي أمام المحققين، وإذا اضطررنا، أن نختصر، بكلمة نعم أو لا. المحقق يريد أن يعوّدك على الحديث، الاسترسال، لذا يجب أن ترفض، ألا تقبل شرب فنجان قهوة يطلبه لك، أن تكون متيقظا دوما، ألا تشعر بوقع كلامه الناعم، أن تطرد أي إحساس آمن يريد أن يزرعه فيك. لا يوجد خلاص من زنزانتك إلا أن تكون نفسك، صاحب قضية، تريد أن تنتصر على محقّق يجب أن تراه مجرّد خادم، يدافع عن قضية خاسرة.

أين هو منك؟ نذرت نفسك لقضية عادلة. حتى لو لم تكن فلسطينيا، فإن خيارك سيدفعك إلى هذا الموقع. أنت تمثل الإنسان الحر في كل مكان، بغضّ النظر عن جنسه أو لونه أو موطنه. حفرت على زنزانتك ما حفظته من الكتيبات المتداولة في الخلايا السرية "الإنسان أخو الإنسان"، أنت جزء من منظومة حالمة بجنة الإنسان على الأرض، من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية إلى موسكو وبرلين. وهو برغي في عجلة. مسمار في آلة تدوس مَن أمامها. مجرّد رقم في سلطة الرأسمال الذي يريد أن يبتلع الدنيا. هو ضحية له. جميعهم هنا ضحية، مجرّد أرقام في معادلة، لهم دورهم الوظيفي في تلك المنظومة البالعة، يهاجرون إلينا من كلّ أنحاء العالم، هم المتحرّكون، ونحن الثابتون، هم البراغي، ونحن ملح الأرض، هم وظيفيا في منظومة، ونحن في نسيج منظومة مضادة.

هكذا كنت تفكر! أنت في مواجهته، بِضعفك وهَوانك، وبَرّدَك وخَوفك، وجَزعك، وخِشيتك، وتَرددك، وجُبنك، ونِسيانك، وتَذكرك، وحُبك، وكُرهك، وحِقدك، وغَبائك، ونَزقك، وكَنعانيتك، وعُروبتك، وأُمميتك، وإيمانك الأعمى بالثورة العالمية، ومُستقبلك الدراسيّ الضائع، وذُنوبك الصغيرة، وجرائمك الكبيرة، وقريتك التي هدموها، ومخيّمك، ووالدك الذي كان يراك هلفوتا، وقصصك، ومقالاتك، وحبّ الأصدقاء وحسدهم، وشكّهم بشطحاتك، ومؤامراتهم الصغيرة، بعلاقتك الملتبسة بأمك، بفقرك، وكتبك، بمنحرفي اليسار وانتهازييه، ومفرطي اليمين، بغرفتك الصغيرة في المخيم، بسريرك المكسور الأرجل، بحبات المطر التي تنزّ من السقف، بدماء من سبقوك، بجسدك الذي قد يخونك، فتقدمه طوعا ورغبة في موت، هو حياة بالنسبة لك.    

تعرف انك مراقب في زنزانتك، أو هم على الأقل يستطيعون ذلك. تدرّب نفسك على التذكر، تجري امتحانات لذلك. تروي قصصا لا تنتهي. تضع برامج لما ستفعله بعد خروجك من هذا المستطيل الذي وضعوك فيه. تصادق الفئران التي تعيش في الفتحة وتستخدمها لقضاء الحاجة. تضع معادلات رياضية لتحلّها. يجد سجين الزنزانة شيئا يعينه على الحفر على الحائط أو الباب. تنشغل طوال أوقات مقتنصة لتنقش على الباب شعارات كنت تؤمن بها، تؤكد على الصمود وعدم الاعتراف.

كيف استطعت كتابة كلمات مؤثرة من آبيات شعرية، وأسماء شهداء سقطوا في أقبية التحقيق؟ لا تعرف. المهم انك استطعت، حرفا حرفا، بقطعة حجر صغيرة. أين وجدتها؟ في الفتحة القذرة في الزنزانة؟ هل يمكن أن تكون الفئران التي تأتى من الفتحة وتجوس في الفضلات هي التي جلبتها لك؟ هل فكر المحققون الذين عزلوك عن الدنيا كلّها في الزنزانة، أن الفئران أصبحت نقطة الوصل بينك وبين العالم؟ لا شك في أنها تجوس أنابيب المجاري في هذه المنطقة من القدس، وتعود إليك في النهاية، محملة بالأخبار، لكن عجزك عن فهمها لا يجعلك تستفيد من خدماتها المجانية، بل تتسلى أحيانا بمطاردتها لقتلها، أو البحث عن أي شيء تغطي به الفتحة القذرة، التي تجعلك تعيش مع فضلاتك بعد أن تخرجها منك.

تحاول أن تمنع نفسك عن التفكير بعائلتك. يجب ألا تجعل أية نقطة ضعف تؤثر عليك. لكنك لا تنجح. تستحضر من تحبّ لتثبت لنفسك أنهم لا يستطيعون المرور إليك من أية نقطة ضعف. المحققون لا يملّون من محاولة اختراق نقاط الضعف، وهم جميعا يحفظون عن ظهر قلب أمثالا عربية عديدة وآيات قرآنية، هي جزء من برامجهم التدريبية قبل التحاقهم بعملهم. يقول لك المحقق الذي يلعب دور الصديق في مواجهة الآخر الشرير: لماذا لا تحكي القصة، احكِها يا أخي، أنا أريد مصلحتك، لماذا تحمي رفاقك؟ لو كانوا هنا لباعوك، ماذا ستستفيد؟ واضح أنك طيب، ومحترم، وابن ناس، وليس وجه بهدلة، يا أخي كل عين تبكي ولا عين أمي تبكي، أليس هذا ما تقولون؟ يا أخي حط رأسك بين الروس، وقل يا قطّاع الروس! امش الحيط الحيط، وقول يا ربي الستر! الشهر الذي ليس لك فيه أي شيء، لا تعدّ أيامه!

 

10
لا أعرف بجانب أيّ حائط كنت أسير، في غرفة رقم 12، عندما نبهني كمال، وأعادني من عجلة التذكّر التي دائما ما تشغل السجين. كان متيقظا، نشطا، يريد أن يستغلّ كل دقيقة من وجوده هنا، لأنه يعرف أنه سيعود في النهاية إلى سجن نفحة، حيث تمرّ الأيام بشكل أبطأ، والمنازعات التنظيمية بين المعتقلين تستهلك الأعصاب، وتثير أسوأ الغرائز الانتقامية. كان يدرك أن الفجر يأتي مسرعا، وأن الصباح على وشك الإعلان عن نفسه، وربما هو أو أنا سيغادر هذه الغرفة الغريبة. بدأنا معا نلمس العد العكسي لنهاية لقائنا غير المتوقع في غرفة سجن غريبة في المدينة المقدسة، عندما أعادت الشرطة السجين العاشق الذي دلق الدماء على باب غرفة النساء، بعد أن تلقى الإسعافات في المستشفى، واخذ كثير من السجناء اليهود تجهيز أنفسهم، استعدادا للخروج، لقضاء إجازاتهم.

كنت أنا أيضا جاهزا للنقل إلى غرف السجن، على الحالة التي أنا فيها، فليس لديّ أغراض لألملمها، وإنما استعد لأرمي ما ارتدي من ملابس ممزّقة، وملابس داخلية قذرة، إلى أقرب مكان أحصل فيه على بديل.

في مثل وضعي الذي لم يستقرّ بعد ـ والاستقرار في السجن مجازيّ، وهو مثل أمور كثيرة، أمر نسبي ـ لم أمنع نفسي من الاستفسار من كمال جمّاعين، عن الوضع في سجن نفحة، والعلاقات الداخلية بين الأسرى، خصوصا وأن حديثه عن قراءاته المتعددة المنفتحة، بدا متناقضا مع ما هو معروف، مما كنّا نسميه الإرهاب الفكري في السجون. وكان الصدام سريعا بين القيادات وعدد غير محدد من الأعضاء الذين دخلوا السجون فتيانا وشبانا، ووجدوا أمامهم فرصة للقراءة والمراجعة، والفتنة بالأفكار اليسارية الرائجة آنذاك، وكان من نتيجة هذا الصدام، اضطهاد تعرض له أسرى في السجون.

لم أتمكن من فرملة فضولي، حدثت كمال بما يجول بخاطري، وذكرت له أسماء أشخاص عرفتهم بعد إطلاق سراحهم، أو سمعت بهم، كانوا ضحية "إرهاب فكري" من زملائهم، وقلت: أعرف صديقا خرج من السجن ومعه ندوب على وجهه، من ضربه بالشفرات، عندما كان يقرا كتابا ممنوعا بأمر القيادة، وهو في المرحاض.

لم يعارضني كثيرا كما توقعت، وقال إن جميع الأسرى في سجن نفحة، من أصحاب الأحكام المرتفعة جدا، وان كثيرا منهم راكموا تجارب مُهمّة من فترة وجودهم الطويلة في السجون، فالعلاقات الداخلية تختلف عن سجون أخرى. ورغم ما يمكن أن يقع مِن حوادث هنا وهناك لفرض الرأي الواحد، إلا أن الجميع متفقون، على الأقل، على حرية القراءة، ما دامت سنوات السجن ستكون طويلة، أكثر بكثير مما توقع أي من الأسرى.

ورغم ذلك أبدى تفهما لما يجري من تصارع في السجون، معيدا ذلك إلى أوضاع الفلسطينيين المعقدة، بتعقيد قضيتهم، والتحزب الفصائلي، والمصالح الشخصية للقيادات، وظروف الاعتقال الموضوعية، حيث يسعى الأسرى إلى تنظيم حياتهم الداخلية، آخذين بالاعتبار حساسيات كثيرة عائلية، ومناطقية، وحزبية.

قال: "السجن انعكاس للعالم خارجه، عالم صغير، تتكثّف فيه التناقضات. الأسرى بتناقضاتهم وخلافاتهم وأمزجتهم، يواجهون قهر الاحتلال، وتدخلات القيادات من خارج السجن، والضغوطات العائلية. كلّ مشاكل الدنيا فوق رؤوسهم، ومع ذلك فهم مطالبون بان يكونوا دائما رموزا".

وضع يده على كتفي وقال ممازحا: "أبو عمّار ليس الأب الوحيد في هذه الثورة، لكلّ تنظيم يوجد أب. نحن مجتمع أبوي، هل تفهم معنى ذلك؟ ستفهمه من خلال التجارب، عند أي منعطف كبر أو صغر، ننسى كلّ النظريات التي آمنا بها، ونرفع لواء الأبوات. ستكتشف يوما مدى الهوّة بين ما تقرأه وبين الواقع. أرجو أن تكتشف ذلك قريبا، حتى لا تكون الصدمة كبيرة عليك".

سألته بكثير من الكياسة إذا كان يعتقد أن هناك من يحتكر الوطنية فأجاب مبتسما: "من هو ذلك الفصيل الذي لا يحتكر الحقيقة عندنا؟ كل مِنّا لديه حقيقته التي لا تقبل النقض. شعار كلّ مِنّا: أنا وبس والباقي خسّ، آلا تقول لنفسك الآن عنّي: هذا الذي يهرف بما لا يعرف، كلنا يا صديقي أنصاف آلهة".

لا أعرف كم مرة قطعت الغرفة وأنا أسير معه، نتحدث في كلّ شيء وعن أي شيء، ولا أعرف الآن كيف أن الوقت سمح للحديث في مواضيع متنوعة وكثيرة من السياسة والدين إلى التاريخ والمقاومة والماضي والمستقبل، ولكن كلّ شيء يحدث في السجون، خصوصا في المسكوبية.

 

دويلة المسكوب في القدس

1
يُعتبر مبنى المسكوبيّة الضخم، من أولى البنايات التي شُيدت خارج بلدة القدس القديمة، في شارع يافا، شمال شرق أسوار البلدة التاريخية، ليصبح أحد معالم مدينة كانت تخطو بخفر نحو الحداثة. كان المبنى حدثا بكلّ المقاييس، في مدينة تغلق أبوابها مع غروب الشمس، خوفا من غارات البدو وغزواتهم. وفي فترة تطوّر لاحقة للمدينة التي تضم بعضا من أشهر البنايات الدينية داخل أسوارها، فتحت ثغرات في الأسوار تسمّى الواحدة منها (خوخة) يدلف منها من يتأخر بعد إغلاق الأبواب مع غياب الشمس. ويدلّ المبنى على تعاظم الدور الروسيّ في فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث برزت الإمبراطورية القيصرية كحامية للأرثوذكس رعايا الإمبراطورية العثمانية.

الإمبراطورية البيضاء التي ارتبطت بوشائج ثقافية ودينية متنوعة مع الأرض المقدسة، كان لها تأثير مثير وكبير على النهضويين العرب في بَرّ الشام، وخاضت حربا ضدّ الإمبراطورية العثمانية، تحوّلت إلى حرب عالمية صغيرة، انضمت إليها دولٌ مؤثّرة أخرى، عرفت باسم (حرب القِرم)، في العام 1853م، واستمرت ثلاث سنوات. السبب يتعلّق باختفاء النجمة الفضية من مغارة كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، التي يعتقد أن السيد المسيح ولد فيها، وقد اعتبر ذلك تعدّيا على حقوق الأرثوذكس في الكنيسة، لصالح اللاتين.

انتهت حرب القرم، ذات الأسباب الظاهرية التافهة، بنتائج عظيمة، كانت لها تأثيرات جانبية عالمية شديدة الأهمية، كما يذكر المؤرخ (فيشر) في كتابه المرجع (تاريخ أوروبا في العصر الحديث)، منها أنها خلقت الظروف الملائمة لتحرير الأمّتين الألمانية والإيطالية، كما حرّرت مقاطعتين للنمسا بالإضافة إلى نهر الدانوب. كما كانت لها فوائد أخرى لنساء بريطانيا، فالسيدة البريطانية (فلورنس نايتينغيل)، التي نشأت في ظروف حياة فكتورية ناعمة، هجرت وطنها وتوجّهت إلى مواقع الحرب لتمريض الجرحى.

يعلق (فيشر) على ذلك بأن السيدة "رفعت بمثالها الحيّ هذا، وبنموذجها المتأجج إبّان الحرب وبعدها، مركز صناعة التمريض بين مواطناتها، ربما بما كان أقوى من أيّ تأثير فرديّ آخر، فكسبت للنساء حقّ الدخول في مهن مفيدة جدّية. وجرأة هذه السيدة الخارقة في تحدي التقاليد، وانخراطها في عملها الجديد لتخفيف الآلام البشرية، إحدى المكافآت القليلة التي عوّضت عن التدمير والتخريب والتبديد التي أحدثتها حرب القرم".

مبنى المسكوبية كان من نتائج الحرب أيضا، وكان يوصف بأنه دولة داخل دولة، إشارة إلى عظمته. وهو يعود إلى عام 1857م، بناه الروس كمجمّع للمصالح الروسية، يضمّ نزلا للحجاج الذين يجدون فيه كل شيء، من المستشفى إلى الكنيسة وحتى المحكمة والسجن، وجمعيها أبنية فخمة ذات هندسة معمارية مميزة، بنيت من الحجارة المحلية.

وشكّل تشييد المسكوبية، التي أخذت اسمها من وصف مَسّكوبي، الذي يطلقه المحليون الفلسطينيون على الشخص الروسي، حدثا بكلّ المقاييس، وهو ما يمكن أن نستدلّ عليه من الشهادات التي كتبت وقت تشييده، مثل ما خطّته اليزابيث فن، زوجة جيمس فن، القنصل البريطاني في القدس خلال الفترة 1846-1863م.

تذكر فن وهي مأخوذة، أنه في شهر أيار (مايو) 1857، وصل إلى القدس مبعوث من قبل الحكومة الروسيّة، مشيعاً بين السكان أنه حضر لشراء أرض لإقامة مستشفى روسيّ، سبق أن حصلت بلاده على أذن ببنائه من السلطان العثماني بعد حرب القرم، وأنه أحضر معه سبعة ملايين روبل لهذه الغاية. وتعقّب فن وهي مندهشة، خصوصا وأنها عانت وزوجها من الحصول على أرض في القدس خارج الأسوار: "أُصِبنا بالدّهشة، عندما وجدنا المبعوث الروسيّ، خلال أسابيع قليلة، قد اشترى قطعة الأرض خارج أسوار المدينة، تقع شمال غرب القدس، وأنه بالإضافة إلى ذلك حصل على القسم الأكبر من أرض الميدان المجاورة التي تتحكّم بالزاوية الشمالية الغربية للقدس، والذي كان يعتبر متنزّها للسكان، ومكانا للاستعراضات العسكرية والاحتفالات الرسمية بالأعياد الدينية والحكومية".

أول شيء فعله الروس هو إحاطة الأرض، ومساحتها 32 دونما، (الدونم ألف متر مربع) بسور حجري، ثم باشروا ببناء كاتدرائية الثالوث الأقدس، بسبع قباب مطلية بالرصاص، وكنيسة أصغر على اسم القديس إسكندر نيفسكي، ومشفى، ودار قنصلية تضمّ مسكنا ومكتبا للقنصل الروسي، ومساكن للبعثة الروسية الدينية، ونُزِل للحجاج الروس مجانا يتسع لألف وخمسمائة شخص، وآخر لنزول الأشراف الروس، وثالث للنساء يستوعب ألفي امرأة، ومقرّ للأسقف الروسيّ، ومنازل للكهنة والمعلمين والموظفين الروس.

وظلّ الذهول ملازما لفن وهي تكتب: "بقيت هذه المسالة غامضة بالنسبة للجميع، فلا أحد قادر على التصديق، أن الحكومة التركية في استنبول يمكنها أن تقبل التفريط بهذه الأرض ذات الأهمية الكبرى لسكان القدس والموقع العسكريّ الاستراتيجي المهمّ جدا". ثمّ تبين أن الأرض كانت هبة من السلطان العثماني، للقيصر الروسيّ، بعد توقيع اتفاق السلام بينهما في باريس عام 1856م إثر حرب القرم.

وبلغت تكاليف بناء المسكوبية مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير في حسابات ذلك الوقت، لكن للإمبراطوريات حسابات أخرى تتضاءل أمامها أية حسابات مادية. وقد تعاظم الوجود الروسيّ في فلسطين لاحقا، حتى أصبح الروس يملكون 2% من أراضي فلسطين التاريخية.

يقع المبنى على بعد نحو كلم واحد، من باب الخليل، الباب الرئيس للقدس القديمة، المشرع على الغرب، وكان تشييده إيذانا بتأسيس ما عرف بالقدس الجديدة خارج الأسوار. وفي عام 1887م، شيد في المسكوبية نزل أخر على نفقة الجمعية الفلسطينية – الروسية الإمبراطورية، التي كان يرأسها آنذاك شقيق قيصر روسيا إسكندر الثالث.

وتتوفر لنا شهادة نادرة حية لأحد أبناء القدس، هو الموسيقيّ واصف جوهرية، الذي يشير كيف كان المقدسيون يخرجون من منازلهم الضيقة في البلدة القديمة التي تغلق أبوابها مع ساعات المساء، إلى منطقة المسكوبية لقضاء الأوقات ترويحا عن الأنفس. و وصف جوهرية بلغته الخاصة عمارة المسكوبية التي جمعت بين الأساليب الفلسطينية التقليدية والروسية: "هذه العمارة العظيمة تحتوي على عدد كبير من العمارات المتفرّقة، وكلّ عمارة تحتوي على طابقين، مخصصة لشيء خاص، وكان شكل بنائها، كما يتضح للعيان لغاية يومنا هذا، هندسة عربية، أي عقد صليب في غاية القوة والإتقان. وعرض الحائط لكلّ هذه العمارات لا يقلّ عن المتر والنصف، وشبابيكها معمولة من الدرفات القزازية إنما مزدوجة، أي من خارج الحائط، ثم درفات مثلها من داخل الحائط ليتسع الفراغ بينها ويمنع البرد بحسب الطريقة الروسية".

ولمسات الطريقة الروسية، كما يسميها جوهرية، تظهر أيضا في الأرضيات التي وضع عليها "الخشب الكثيف. والجدير بالذكر أن هذا الخشب للأرض كان يغطى بالدهان الكثيف، دهان زيت، ويعاد دهنه في كلّ سنة، فيصبح وكأنه بلاطة واحدة، وإنما دافئة تمنع الرطوبة والبرد حسب الطريقة الروسية". ويتذكّر جوهرية، الذي كتب مذكراته وهو يحتضر في بيروت، بعيدا عن القدس، في سبعينيات القرن العشرين: "أن جميع هذه العمارات داخلها صوبّات للتدفئة يشعل فيها الحطب، وهذه الصوبات جيئت خصيصا على النمط الروسي بحجم كبير جدا ولا يوجد لها مثيل في أيّ من عمارات الدول الأخرى بالقدس".

وتتخلل العمارات التي يضمّها مبنى المسكوبية، "البساتين وغابات أشجار السرو والصنوبر والزيتون، ومحاطة بسور ضخم من الحجر، يحدّها من الشرق المتنزه البلدي، ومن الغرب شارع الكنتورة ملك الروس أيضا، ومن الشمال طريق مياشعاريم، ومن الجنوب شارع يافا العام، فتصور يا أخي ساحة هذه العمارة ضمن الأربعة المبنية أعلاه".

ويقدّم جوهرية وصفا لداخل المسكوبية: "في منتصف هذه العمارات تجد الكنيسة الروسية المشهورة، فما من أحد من أهالي مدينة القدس إلا ويعرف صوت أجراس قبة هذه الكنيسة الجميلة، خصوصا عند الساعة الرابعة من بعد ظهر كلّ يوم من السنة. ولسور هذه العمارات أربعة أبواب رئيسية، في كل جهة من الحدود الأربعة باب واحد، وأهمها الباب الشرقيّ الذي يؤدي إلى مدينة القدس".

ويلقي جوهرية ضوءا أوسع على حال المسكوبية أيام عِزّها: "ونحن صغار، كان يسمح للشعب بدخول الباب الشرقي، والتفسّح في البساتين تحت الأشجار لغاية موعد الصلاة عند الرابعة من بعد الظهر، وكان الحرّاس من العبيد الأقوياء، وكنا نشاهد بعض الكلاب النادرة الكبيرة الحجم تقارب علوّ الجحش ولونها أسود حالك، ولها شعر جعديّ، وهي من بلاد الروس... أما في أيام عيد الفصح المجيد، فكان يسمح لأولاد أهل المدينة أن يدخلوا المسكوبية ويصعدوا إلى جراسيات الكنيسة ليدقوا الأجراس، وهكذا كنا نترقب هذه الفرصة وندق الأجراس والنواقيس المختلفة الأصوات بكل فرح وسرور".

والمفارقة أن جوهرية، الذي عٌرف بظرفه، يذكر بهذه المناسبة: "كان المرحوم والدي يغضب لهذا الإكرام والجود من قبل الروس لأولاد المدينة ويقول: أما كان من الأفضل أن يقدّموا لكم شيئا من النقود أو الحلوى بمناسبة العيد، بدلا من هذه المخاطرة والصعود إلى قبب الأجراس العالية"؟ ولم يكن والد جوهرية، وهو أحد أعيان أرثوذكس القدس في زمنه، يتخيّل انه سيأتي زمن، يصبح فيه صعود أولاد المدينة إلى أجراس المسكوبية حلما لا يتحقّق، بل مجرد الاقتراب من أسوارها سيعرّضهم للمساءلة، وربما للاعتقال.

 

2
لَمْ يتأخر الزّمن الجديد الذي انتظره الفلسطينيون كثيرا، بعد سنوات عجاف مريرة عاشوها في نهاية الحكم العثماني، خصوصا سنوات الحرب العالمية الأولى التي أسموها (السفر برلك)، أي السفر عبر البحار. وعندما وصل الجنرال البريطاني ادموند ألنبي، قائد الفرق العسكرية البريطانية، فلسطين، بتاريخ 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917، اختار أن يعلن بدء الاحتلال البريطاني على فلسطين، بعد ثلاثة أيام، من أمام قلعة القدس التاريخية، بالأحكام العرفيّة. وأطلق ألنبي عبارته المفاجئة وهو يخطب بالقرب من باب الخليل، اقرب أبواب المدينة المقدسة للمسكوبية: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، فأثار الانزعاج لدى مستقبليه الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين، وأيضا في أنحاء مختلفة من العالم العربي. ويمكن الاستدلال على ذلك مِن قصيدة كتبها أحمد شوقي ردّا على ألنبي قال فيها: يا فاتح القدس خلّ السيف ناحية / ليس الصليب حديداً كان بل خشبا.

ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى عرف الفلسطينيون أن الحرب لم تنته بالنسبة لهم، وأيضا بالنسبة للروس، الذين أصبحت إمبراطوريتهم حمراء، ووضع البريطانيون أيديهم على أملاكهم في فلسطين، ومِن بينها تلك الدرّة المسكوبية، التي تحوّلت إلى أحد المراكز الأمنية للاحتلال الجديد، وأضحت سجناً استقبل أفواجاً جديدة من المثقفين والسياسيين ورجال الدين المسيحيين وعلماء الدين المسلمين، ورموز الحركة الوطنية، واستخدمت مرافق أخرى منها للشرطة البريطانية والعدلية، وبعضها كمستشفى حكومي.

مِن بين الذين اعتقلوا في سجن المسكوبية الكاتب نجاتي صدقي الذي يُقدّم شهادة عما آلت إليه، وتحوّلها إلى سجن: "للمسكوبية مدخل جنوبي يؤدّي مباشرة إلى المستشفى الروسي، المستشفى الحكومي في عهد الانتداب. وتقع إلى جانبه دار الاستقبال، فالمكاتب الإدارية للروس (دوائر العدلية)، فالقنصلية الروسية (المحاكم)، فدار الكهنة ودار النساء، فدار الأشراف الروس (دوائر البوليس، والسي.أي.دي.) أي دائرة تحرّي الجرائم... وتتصف ساحة المسكوبية بكنيسة كبيرة مشيدة وفق الطراز الكنسي الروسي الجميل، ذات قباب سبع مصفّحة بالرّصاص، تعرف باسم (سفياتايا ترويستا) أي الثالوث الأقدس، وكنيسة أصغر تعرف باسم كنيسة الكسندر نيفسكي (1220-1263م)، من مشاهير القادة الروس، فاتح السّويد والدانمرك ومحرّر الروس من الجزية التترية، وأحد القديسين في الكنيسة الروسية. والى الشرق من هاتين الكنيستين دار الحجاج من عامة الروس"، وهذه الدار هي التي حوّلها البريطانيون إلى (السجن المركزي).

ويضيف صدقي أمورا أكثر تفصيلية عن وضع المسكوبية عندما اعتقل فيها عام 1931 ".. فالمسوق إلى السجن المركزي، بيت الحجاج الشعبيين الروس سابقا، يقطع ساحة المسكوبية في حوالي مائة متر تقريبا انطلاقا من دار المحاكم، ويجتاز حاجزاً من الأسلاك الشائكة، ثم يسير في طريق منحدرة، إلى أن يبلغ حاجزا من الأسلاك الشائكة، ثم يسير في طريق منحدرة إلى أن يبلغ حاجزا آخر من الأسلاك، ثم يقف أمام باب صغير من القضبان الحديدية، فيطأطئ رأسه علامة دخوله باب الخنوع والمذلّة، ويلج الباب ليجد نفسه بين يدي سجانيه، فيطبّقون عليه الإجراءات الروتينية، مثل التسجيل، وإعطاء الرقم، وحلق شعر الرأس، وارتداء اللباس الأزرق (إذا كان سجينا عاديا)، أو الاكتفاء بالتسجيل (إذا كان موقوفا أو سجينا لاعتبارات سياسية)... ثم يقودونه إلى غرفة المحكومين إذا كان محكوما، أو غرفة الموقوفين إذا كان لا يزال رهن التوقيف".

ومن أبرز الذين اعتقلوا في سجن المسكوبية، اثنان من قادة العصابات الثورية الفلسطينية عرفا بلقبي (العرميط) و(أبو جلدة)، وذاع صيتهما باعتبارهما، بالنسبة للفلسطينيين، ثائرين على الظلم البريطاني وتنامي نشاط الحركة الصهيونية، بينما يراهما الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية من المجرمين "الأشرار" وقطاع الطّرق. وفي مذكراته، يشير إريك شارون، الزعيم الإسرائيلي المشهور، إلى أنه عندما كان صغيرا كان يرتعد خوفا من اسمي (أبو جلدة) و(العرميط) وأنه كان يخشى الذهاب إلى القدس مع والديه ليتلقى علاجا لمرض أصاب عينيه رعبا من صيت الاثنين. ولفتت شخصيتا الاثنين، عددا من الكتاب الفلسطينيين والعرب، من بينهم محمود الأطرش المغربي، وهو عربيّ جزائري نشأ في مدينة يافا، وأصبح من قيادات الحزب الشيوعي الفلسطيني في فترة الانتداب البريطاني، وتعرّض للاعتقال، وأبعدته سلطات الانتداب عن فلسطين بحجة انه (أجنبي) و(مغربي). في ربيع عام 1931م، كان الأطرش نزيلا في سجن المسكوبية، وتتوفّر صفحات من مذكراته نشرتها عام 1970مجلة الجديد التي تصدر في مدينة حيفا، يتطرق فيها للقائه مع أبي جلدة والعرميط، في ساحة السجن ينتظران تنفيذ حكم الإعدام. يكتب الأطرش: "شاهدت رجلين بألبستهما المدنية مكبّلين بالحديد بأيديهما وأرجلهما، وقد ظهرا وكأنهما أسدان غير آبهين في سيرهما ذهابا وإيابا داخل تلك الساحة بأثقال الحديد الذي يكبلهما". وتقدّم الأطرش منهما وعرفّهما بنفسه وهويته الحزبية فأجاب أحدهما "وكان قمحيّ اللون، عريض المنكبين، طويل القامة، نحيل الوجه، يبدو وكأنّه أكبر سنا من رفيقه: اسمي أبو جلدة". ووقع ذلك على الأطرش كما يكمل، "وقوع الصاعقة، ولاحظ هو ورفيقه عليّ ذلك، وكنت قرأت وسمعت الكثير عن أعماله وصاحبه في الجرائد". وحسب الأطرش، "كان اسم أبو جلدة على لسان كلّ فلسطيني وموضع فخره، كان بائعو الخضر والفواكه والخبز، والعمال كلّهم يتغنّون باسم هذا الرجل الذي أرهب الإمبرياليين البريطانيين وأصدقاءهم من الصهيونيين وأقلق مضاجعهم ردحاً من الزمن، لأنهم كانوا يرون فيه النواة الأولى للكفاح الجماهيري المسلّح ضدّ انتدابهم. وها هو اليوم في قبضتهم، وكان يوم اعتقاله وصاحبه من الأيام السعيدة لدى الغاصبين وأعوانهم".

أما العرميط فيصفه الأطرش بأنه "ورديّ الوجه أشقر الشاربين والشّعر متوسط القامة"، وكان حريصا على التحدّث إلى الأطرش مقدّما شهادة للتاريخ: "أعلمني أبو جلدة أنه كان يريد إقامة فرق مسلحة، لا كما يقولون للنّهب، بل لمقاومة الاحتلال، ومن أجل استقلال فلسطين، كم أرسلنا  الرسائل إلى جريدة فلسطين وباقي الجرائد العربية لنطلع الأمة والشعب على أعمالنا ونوايانا هذه. لقد تهرّب منا الزعماء والأعيان وتبرؤوا من أعمالنا ومن مشاريعنا التحرّرية هذه".

وينقل الأطرش غضب العرميط على القيادات الفلسطينية التقليدية التي لم تكن تتخذ موقفا ضدّ الانتداب. أما أبو جلدة فينقل عنه الأطرش قوله: "الآن يريد الإنكليز أن يظهرونا بمظهر قطّاع الطرق، أجل، لقد أوقفنا بعض القطارات، لكن لم نمسّ أحدا بأذى، ولم نأخذ الدراهم إلا من المستعمرين والأغنياء، لا للتنعّم بها، بل لننظّم العصابات المسلّحة بها، ولم نأخذ سوى ما نحن بحاجة إليه. إننا لسنا بأشقياء ولا بقطاع طرق، بل طلاب حق، والله يشهد على ذلك".

وأمضى الأطرش ساعة مع الاثنين يقول إنها مرّت وكأنّها دقائق، وعندما طلب السجّانون من الأطرش ورفاقه الدخول إلى غرفهم ودعهما "والألم يحزّ في نفسي، ومنذ ذاك اليوم لم أشاهد سوى العرميط بعد بضعة أشهر عن بعد، وقد شحب لونه وهزل جسمه".

أما نجاتي صدقي فعاصرهما في سجن المسكوبية، وكتب عن ظروفهما وكيفية إعدامهما في السجن نفسه: "... وذات يوم من سنة 1932، اقتيد العرميط أولا إلى المشنقة، وبعد ساعة اقتيد أبو جلدة إليها، مارّاً بصفين من البوليس الإنكليزي وهم يهتفون: هيب..هيب..هوراي". وكان مدير سجن المسكوبية مستر ستيل "هو الذي يتولى تنفيذ أحكام الإعدام، ويتقاضى عن كلّ محكوم بالموت خمسة جنيهات، إضافة إلى راتبه".

وفي فترة الاحتلال البريطاني لم تكن المسكوبية هي السجن الوحيد في القدس، فبالقرب من قلعة باب الخليل، حوّل البريطانيون بناية أثرية هي (القشلاق) إلى سجن، وهي إحدى المآثر العمرانية القليلة التي خلّفها إبراهيم باشا، في القدس، عندما احتلّ بلاد الشام، حاملا طموح والده محمد علي الكبير ومشروعه، وأصبح اسم السجن، وما يزال، سجن (القشلة)، وهي كلمة تركية تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود، أو الحصن أو القلعة.

 

3
مع انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، واندلاع الحرب عام 1948، أضحت المسكوبية جزءا من الأحياء العربية، غرب مدينة القدس، التي وقعت في قبضة العصابات الصهيونية. وسقطت المسكوبية التي كانت جزءا من منطقة أطلق عليها اسم (بيفنغراد)، بسرعة، ضمن خطة (المذراة) التي وضعتها العصابات الصهيونية لاحتلال الأحياء العربية خارج أسوار البلدة القديمة. و(بيفنغراد)، هي القطاع الأمني البريطاني الرئيسي في القدس، ضمّت بالإضافة إلى المسكوبية، مكتب البريد المركزيّ ومباني اعتبرت إستراتيجية. ومن الأمور المثيرة للأسى أن (بيفنغراد)، سقطت في يد العصابات الصهيونية خلال عشر دقائق فقط، وتفسير ذلك سهل جدا، لأنه تم بتواطؤ القوات البريطانية، التي غادرت المنطقة في 14 أيار (مايو) 1948. وأصبحت المسكوبية، وجميع الأحياء العربية غرب المدينة، المعروفة بالقدس الجديدة، تعرف باسم مصطلح إشكالي هو: القدس الغربية، وهكذا قسّمت القدس لأول مرة في تاريخها.

ولم تعِد دولة إسرائيل، التي تأسست في ذلك الحين، المسكوبية إلى الاتحاد السوفيتي وريث الإمبراطورية القيصرية، رغم اعترافه السريع بها، وإنما واصلت استخدامها كمركز أمني مثلما فعلت حكومة الانتداب. وأصبحت المسكوبية مركزا للشرطة، وسجنا إسرائيليا، غرب المدينة، وتحوّلت القشلة، إلى سجن ومركز للقوات الأردنية التي سيطرت على القسم الشرقي من القدس.

وفي حزيران (يونيو) 1967، أصلحت إسرائيل ما اعتبرته خطأ لا يغتفر، باحتلال القسم الشرقي من المدينة وضمّه إلى إسرائيل، وإعلان القدس "عاصمة أبدية وموحّدة لدولة إسرائيل والى الأبد"، وسيطرت على (القشلة).

وعادت المسكوبية إلى دورها الذي مارسته منذ الاحتلال البريطاني، وأخذت تستقبل أفواجا جديدة من المقاومين والمقاوِمات للاحتلال الجديد. ولم تكن المسكوبية وحدها تضطلع بهذا الدور، فمراكز التحقيق والسجون التي يعتقل فيها العشرات من الشبان الفلسطينيين، توزّعت على مختلف السجون داخل الضفة الغربية، والأراضي التي احتلت عام 1948.

وتميزت المسكوبية بأنها الأسوأ في انتهاك حقوق الأسرى الفلسطينيين، وما لبثت أن حازت على صفة (المسلخ) التي أطلقها عليها الأسرى، بسبب شدّة التعذيب الذي مورس عليهم في زنازينها. وفي أقبية التحقيق في المسكوبية، احتجزت الأفواج الأولى من المثقّفات الفلسطينيات، اللواتي انضممن إلى حركات المقاومة الفلسطينية، واللواتي تعرّضن، بالإضافة إلى التعذيب التقليدي كالضرب، إلى الانتهاكات الجسدية، التي وصلت في أحيان إلى الاغتصاب أو التهديد به، وظلّ هذا الملف، غير مفتوح بالقدر الكافي، بسبب الثقافة المجتمعية المحلية.

وجُرِبَت على الأفواج الأولى من المعتقلين، من داخل الأراضي المحتلة، أو من الفدائيين المتسللين، في زنازين المسكوبية، أساليب التحقيق البدائية الأولى القاسية لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) الذي وجد نفسه، بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، أمام عدو مختلف، هو العمل الفدائي، ولم يكن جاهزا بالقدر الكافي لمواجهته. وأدى التعذيب الشديد، إلى سقوط عديد من الشهداء، وتحول قاسم أبو عكر (أبو خالد) إلى رمز ارتبط اسمه بالمسكوبية.

اعتقل أبو عكر من منزله في القدس أوائل شهر آذار (مارس) 1969م، وخضع لتحقيق قاس في المسكوبية، أدّى إلى استشهاده في 23-3-1969. أشكال التعذيب التي خضع لها أبو عكر، كانت متنوعة وقاسية، واعتقلت زوجته كنوع من الضغط عليه للإدلاء باعترافات، وبعد أسبوعين أخبرها المحققون بأنهم قرروا إطلاق سراحها بكفالة والدها، وعندما وصلت المنزل، لم تكن تدري أن خبر مقتل زوجها سبقها إلى هناك، لكنها استشفته من الوجود المكثف للأقارب والجيران والناس، ومع ذلك لم يخبرها أحد بما حدث حتى اليوم التالي، عندما أخبرها والدها بأن زوجها استشهد، ودفن في الليل، بحضور عدد محدود من الأقارب، في مقبرة باب الساهرة، التي طوّقها جنود الاحتلال، وحوّلوها إلى ثكنة عسكرية، كي يتمّ الدفن بهدوء، وبتكتم.

توفرت شهادات لرفاق لقاسم، حول أيامه الأخيرة، جمعها الباحث عبد العليم دعنا الذي ذكر أسماء المتسببين في قتل أبو عكر وهم: "رئيس طاقم التحقيق شاؤول ماركوس، الذي عمل محاميا فيما بعد، مع الضابط (جويلي) أو أبو هاني، وحاييم، أحضروا من معتقل التحقيق في صرفند لخبرتهما في التعذيب والتحقيق. كان يقود التحقيق الكولونيل أبراهام والميجر إسحق، والميجر أبو داود، والميجر باروخ".

شاهد عيان نقل عنه: "كنت مع معتقلين آخرين، منهم إسحق مراغة (أبو جمال)، وشاكر القواسمي، وقاسم أبو عكر (أبو خالد) في غرفة بالطابق الرابع الأخير في المسكوبية، وكانت المخابرات، وعلى رأسها شاؤول ماركوس، بلباسه المدنيّ، ينقلون المعتقلين إلى التحقيق من غرفة إلى أخرى، وقد كان الطابق الرابع بأكمله للتحقيق، حيث كانت غرف للشَّبْح، التعليق في الهواء على ماسورتين مثبتتين في جداري الغرفة المتقابلين، وأخرى للتعذيب الجسديّ وأخرى للتحقيق. كثيرون جرى التحقيق معهم تحت التعذيب والضرب الجسديّ وهم عراة... التقيت بقاسم عدة مرات، وكان يبدو منهكا من جراء التعذيب والجوع وقلة النوم، تملأ وجهه الكدمات. كانوا يرغمونه على الوقوف على رِجْلٍ واحدة، ويداه مرفوعتان إلى الأعلى، أو يضعون كرسيا على كتفيه، ويسقط قاسم على الأرض من الإعياء، ويسقط عليه الكرسي، وكان السقوط إيذانا ببدء جولة جديدة من التعذيب، تبدأ بالضرب بالأيدي والرّكل بالأرجل ـ حركات كاراتيه- وعندما يتعب أحد المحققين ينصرف ليحلّ محله آخر، يوبّخ سلفه على قساوته، وبالتالي ينصح الضحية بأن يحكي ليتخلّص من التعذيب، وإلا سيتركه ويأتي ذلك الشرير ـ عزرائيل- وبأقلّ من عشر دقائق أحيانا، يأتي محقق ـ معذب- آخر، وتتكرّر الجولات وتستمرّ، وهكذا حال قاسم ومن كان معه من المعتقلين. وكان ماركوس مبدعا في عمليات الرّفس بمقدمة حذائه على أعضاء المعتقلين التناسلية وفي البطن والخاصرتين، وكان قاسم أبو عكر أحد الضحايا".

إسحق مراغة، الذي استشهد لاحقا في السجن، يوم 16-11-1983م، قال: "في يوم من الأيام، نقلتني المخابرات من الطابق الرابع ـ غرف التحقيق- إلى غرفة رقم 2، في ساحة المسكوبية القديمة، حيث جمعنا يومها في تلك الغرفة بعد جولة طويلة من التعذيب الشديد، وكان في الغرفة أيضا محفوظ أبو جابر، وعلى سرير أخر كان قاسم أبو عكر يتلوّى ويصرخ من الألم في منطقة البطن، وكانت أورام في وجهه وكدمات زرقاء وسوداء تملأ جسده، وكان يردد: اخوي أبو جمال بدّي ابني يطلع بطل. واستمرّ هذا الوضع أربع أو خمس ساعات، لا أحد يعرف بالضبط، وخفت صوت قاسم إلا من الأنين والألم. وبعد صراخ ومناداة طويلة ودقٍّ على الأبواب، حضرت الشرطة، وعندما شاهده أفرادها يتلوّى من الألم، أدركوا خطورة حالته، وتمّ استدعاء الممرّض، وعلى الفور توقفت أية حركة لقاسم، ولم نعد نسمع صوتا له، وأحاطت به الشرطة والمخابرات والممرّض، وأخرجوه محمولا على نقّالة، ولا ندري إن كانوا قد أخرجوه حيّا أم ميتا، ولم نسمع ولم نر قاسم ثانية، ومن خلال حديث الشرطة عرفنا أنه قد استشهد".

وفي كلّ الظروف كانت المسكوبية، مجرّد محطة، وان كانت شديدة القسوة، في حياة المعتقلين والمعتقلات، فهي مركز للتحقيق أو التعذيب فقط. وبعد انتهاء التحقيق يتمّ نقل الأسير أو الأسيرة إلى سجون أخرى. وكان الانتقال إلى هذه السجون، يشكل نقلة "نوعية" في حياة المنقول، لأنّ السجن الجديد، رغم ظروفه السيئة، أفضل من المسكوبية التي لا تحكمها أية أنظمة، ولا يعرف فيها الأسير الليل من النهار، ويعيش معلّقا بين حياة غير مؤكّد أنها ستكتب له، وموت يلوح في كلّ لحظة.

لكن الأمور لم تكن تسير بالنسبة للانتقال بعد انتهاء التحقيق، بسهولة روتين متوقع، فبعد إخراج الأسير من الزنازين إلى غرف سجن المسكوبية، يتعيّن عليه الانتظار فترة، لا يعرف أحدٌ مداها، لينقل إلى السجون المركزية الأكثر تنظيما. وفترة الانتظار هذه تعتبر سيئة بالنسبة للأسرى، لأنّها تحمل نذر إعادتهم إلى الزنازين من جديد، وإلى ظروف الاعتقال اليومية الصعبة، مع السجناء الجنائيين، وكثير منهم سجناء يهود.

ومثلما حدث في فترة الانتداب، لا يعرف عدد الذين مَرّوا بتجربة المسكوبية من فدائيين، ومثقفين، وسياسيين، لينتقلوا بعدها إلى السجون الأخرى، بينما تبقى المسكوبية مشرعة لاستقبال أجيال وأفواج جديدة، يجري الشاباك عليهم تجاربه التعذيبية، لانتزاع الاعترافات.

وكان راوي هذه الحكاية، واحدا، فردا، من جيل، كتب عليه أن يجرّب زنازين المسكوبية!

 

ثلوج آذار

1
لا يَعرف جنود الاحتلال الذين ينقلون المعتقل إلى المسكوبية، من حيث تم اعتقاله، إلا الضرب والدفع والنهر والشتم في التعامل مع المعتقل.

لَمْ يتم نقلي إلى المسكوبية مباشرة، في تلك الليلة (29 آذار (مارس) 1982)، التي حاصر فيه الجنود، بقيادة رجل الشاباك المنزل، الذي تجمّع فيه أكثر مِن 15 صديقا، كانت زيارة عدد منهم عادية، ومثلما يحدث في كلّ ليلة، لم يكن المنزل يخلو من الأصدقاء، لكن بعضهم حضر بناء على ترتيب مسبق، وكانوا ينتظرون معي، أن ينهي الآخرون زيارتهم، لنعقد اجتماعا ضروريا عشية يوم الأرض الذي يصادف اليوم الأخير من شهر آذار كلّ عام، لوضع ترتيبات لازمة لإحيائه.

كان الجوّ باردا جدا، رغم أن الربيع أعلن عن نفسه "رسميا" في الحادي والعشرين من شهر آذار، بالانقلاب الربيعي، وبأيام مشمسة دافئة. لكن، كما أصبحت أتنبه في الأعوام اللاحقة، تكون فلسطين على موعد دائم مع أمطار غزيرة وعواصف، وفي مرّات نادرة ثلوج، في نهاية آذار، وفي كل مرة يثير ذلك عجب الناس وتندّرهم، ويقول الواحد منهم للآخر متعجبا: "معقول أن يحدث هذا؟ كل هذا البَرّد والمطر الذي لم نعرف مثله في عزّ الشتاء"!

لا أذكر إن كنا في تلك الليلة ونحن نتحدث في السياسة، تطرقنا بعجب لِبرودة الجو الذي كان يقلل منه دخان السجائر الكثيف والأنفاس الحارة، وحرارة النقاشات في الغرفة، وإن كان أكثر من واحد سعى بطريقته لتوفير التدفئة، مثل إشعال نار من الأخشاب في الخارج وإدخالها بعد أن تصبح جمرا، أو تدبير كاز لمدفأة عتيقة، بينما انشغل آخر في إصلاح التلفزيون الذي كنا نطلق عليه وصف "التلفزيون المشاغب" الذي لا يعمل إلا بالضرب، وكان الشباب يفهمون عليه أكثر مني، وربما كان بعضهم يقيم في المنزل أكثر مني، فهو مفتوح لهم في الليل أو النهار.

وسط هذا الجو، تنبهنا متأخرين، لسيارات الجيش، التي دخلت مخيم الدهيشة وحاصرت المنزل، لكننا لم نفاجأ بالطّرق الشديد على الباب الرئيسي، وعندما أخذنا نتنبّه، أحرق بعضنا ما معه من أوراق يعتبرها خطيرة، ونزلت لأفتح الباب، فدخل كريم، وهو الاسم الذي يكنى به رجل الشاباك الذي يقع مخيم الدهيشة أمنيا ضمن مسؤوليته، وخلفه مجموعة من الجنود، مستعدين ببنادقهم لأي طارئ. وفي مِثل هذه الحالات، تكون السيطرة كاملة لرجال الشاباك، بخبراتهم الميدانية الواسعة في ملاحقة الحركة الوطنية، وتدريبهم الجيد، وإتقانهم العربية باللهجة المحلية، واطلاعهم على الثقافة العربية والدين الإسلامي.

دفعني كريم أمامه، وطلب من الشباب الخروج من الغرفة، وإبراز بطاقاتهم الشخصية، وقال ساخرا:

- اجتماع..؟ بشوف كلّ الحبايب متجمعين! لكن ليس لديكم حسّ أمني. يا الله حضروا حالكم، ستأخذون درسا كي لا تكرّروا مثل هذا الخطأ!

طلب من الجنود تقييد الشباب، بوضع المرابط البلاستيكية في أيديهم، بعد تثبيتها خلف ظهورهم، ونقلهم إلى السيارات العسكرية، ثم نظر إليّ: أما أنت فستكون حصتي.

قادني أحد الجنود إلى سيارة أخرى غير تلك التي وضعوا فيها الشباب، الذين التقيت بهم، بعد فترة قليلة، عندما وصلت السيارات العسكرية، إلى مقرّ الحكم العسكري في بيت لحم، وهو أحد (حصون تارغت). تمّ إنزالنا من السيارات في جوّ من الإرهاب، كما هو حال مراكز التوقيف التي يسيطر عليها الجيش، ولا تحكمها أية قوانين. وتلقينا أول وجبة من الضرب من قبل الجنود الذين أوقفونا ووجوهنا إلى جدار طويل.

لم يطل وجودي مع الشباب، الذين أخذ بعضهم، وسط الضرب والإرهاب الذي يشيعه وجود الجنود، يطلقون النكات والضحكات همسا، وهي تتولّد بشكل غريب في ظروف مأساوية.

نقلت إلى مكان آخر، بينما بقي الشباب، كما علمت، بضعة أيام في مركز التوقيف العسكري المسمى محليّا (البصّة)، تعرضوا خلالها لاعتداءات فظيعة، وثّقوها بالصور عندما خرجوا، وتظهر على أجسادهم أثار الضرب المبرّح. أما أنا فوضعوني في قفص حديديّ مستطيل بحجم غرفة صغيرة، طالما خبرته قبل هذه المرّة، وكان ذلك تمهيدا لنقلي إلى المسكوبية للتحقيق.

يقع القفص الحديدي في ممرٍّ رئيسٍ للجنود والضباط، الذين لا يوفر معظمهم فرصة المرور دون شتم المعتقل الموجود في القفص، أو لكزِه بطرف البندقية أو صفعه، وربما يتجمّع أكثر من واحد لإذلال المعتقل وضربه أو البصق عليه أو الإتيان بأي شيء أخر لإهانته.

عادة ما يقف أحد الجنود بجانب القفص، ليقوم بدور الحراسة. وبعد فترة ليست طويلة من وجودي في القفص، استطعت أن اقدّر أن الجندي الحارس كثير التبرّم،

 وبدأ يدير حديثا معي، وعرفت أنه قادم حديثا من روسيا، التي شهدت بعد سنوات هجرة يهودية واسعة منها، وأن آخر شيء كان يرى نفسه فيه هو أن يقف حارسا على فتية معتقلين بتهمة مقاومة الاحتلال. وبشكل لم يكن متوقّعا، أخذ الجندي يبدي اشمئزازه عندما يتوقف أحد الجنود المارين بالقرب من القفص، من اعتقال واحد في سنّي. وتشاجر مع أكثر من جنديّ أراد توجيه إهانة للمعتقل داخل القفص، الذي كنته.

مع مرور الوقت صَعّد الجندي من غضبه، وعبّر عن ذلك بالصوت وحركة اليدين، وأخذ الجنود المارّون يتجنبونه، وكان ذلك من حظي، فتكوّمت في إحدى الزوايا، محاولا لملمة نفسي، لأفكر في الأسباب التي دعتهم لاعتقالي، وإن كان لذلك علاقة باعتقال ثلاثة من الأصدقاء، قبل أسبوعين، أرسلوا أخباراً لتوخّي الحيطة والحذر.

كنت قلقا بشكل استثنائي على أنطون، الذي التقيت به قبل ساعات من اعتقالي، ووضعنا الخطوط العريضة ليتحرّك كل منا في منطقته من أجل إحياء يوم الأرض، وقرّرنا ألا نخضع لقرارات القيادة، التي لم ترَ حينها ضرورة لأيّ تصعيد.

لم يكن أنطون، رغم شخصيته القيادية الملفتة، من النوع الذي يميل إلى التمرّد على قرارات القيادات. هذه المرة، كان الأمر مختلفا، بعد أن أصبحت السياسات المتردّدة لقيادتنا، تشكّل عاملا منفرا بين الطلاب الذي نعمل بينهم. أكثر من هذا، أخذت التصرّفات القيادية التي لم نكن نفهم سببا لها، غير خشية القيادات من المواجهة مع الاحتلال، تهدّد ما كنّا أنجزناه بتشكيل لجان الطلبة الثانويين، من أطر بدأناها في القدس وبيت لحم، وامتدّت إلى رام الله ومدن أخرى. وكنا نخوض تنافسا حادا، مع فصائل العمل الأخرى على كسب الطلبة إلى صفنا، وكلّها تملك شعارات كبيرة تدغدغ أمزجة الطلبة.

بالنسبة لي ولأنطون، سيكون يوم غد اختبارا مهمّا، بعد أن جهّزنا النشرات، وكتيّبات أخرى عن يوم الأرض، ووزّعنا علب الدّهان على زملاء ليكتبوا ليلا على الجدران عبارات تدعو لإحياء اليوم. وجهزنا أنفسنا حتى للفصل من قبل القيادة، والإعداد لتشكيل تنظيم أردناه أكثر ثوريّة. لكنّ ما حدث لي قد يؤثر على خططنا، خصوصا إذا تم اعتقال أنطون من منزله في جبل الزيتون بالقدس.

فكرت أكثر بعائلة أنطون اليونانية، خصوصا والدته، التي تصوّرت أنها غير قادرة على تحمّل ما يمكن أن تتحمّله أمهاتنا الفلاحات واللاجئات، رغم أن العائلة تُعَرِّف نفسها كعائلة فلسطينية، وهو  نفسه، ولد في القدس، ولغته الأولى هي العربية.

كثير من الوشائج ربطتنا معا، فكلانا حضر إلى العمل الوطني، من باب الثقافة والاطلاع والفكر: هو من أجواء عائلته المتوسطة الحال، المثقّفة، التي تنتمي إلى طائفة عربية الطابع، وأنا من شوارع المخيم، ومنزل العائلة المتداعي، وأصغر ابن لوالدين أميين، من سلالة فلاحين معتّقة، وجدا نفسيهما، في لحظة زمنية فارقة، يقتلعان من أرضهما ويسكنان الخيام. وكثيرا ما أذكر مناقشاتنا البدائية، في شوارع القدس، ليثبت كلّ منا للأخر من هو أكثر فقرا وكدحا، وبالتالي أكثر ثورية.

تنّبهت إلى مشاجرة كبيرة بين الجندي الروسيّ وشخص آخر يبدو أنه القائد المناوب. أخذ الجندي يشتم ويبصق على الأرض، ويستهزئ بدولة إسرائيل، وهو يشير إليّ، ولم يتمكن القائد من تهدئته وهو يقول إنهم كجيش لا علاقة لهم بمثل هذه الاعتقالات، وإنهم ينفّذون قرارات جهاز الشاباك، وإنني معتقل على ذمة هذا الجهاز. وتعالت الأصوات بينهما، وكانت أكثر وسيلة يعبر بها الجنديّ الغاضب هي البصق، البصق على إسرائيل، التي تعتقل "ولدا" صغيراً مثلي، وعلى اليوم الذي أتى فيه إلى هنا.

 

2
لَم يَطل وجودي كثيرا في القفص. تلقّى الجنديّ أمرا بفتحه وتسليمي لزملاء آخرين له، قيدوا يدي إلى الخلف، وعصبوا عينيّ، وساقوني إلى الساحة الخارجية، وزجّوا بي في خلفية سيارة عسكرية. استطعت أن اقدر أنني ملقى وسط خلفية السيارة، وعلى المقاعد من الجانبين يجلس جنود. في مثل هذه الحالات، تتنبه كل حواس المعتقل المعروفة وغير المعروفة، ويحاول بطريقته تجنب ضربات أقدام الجنود غير المتوقعة، والأهم هو أنه يحاول الإمساك بالوقت، بالزمن، ليعرف الوجهة التي ينقل إليها. وليس هو فقط من يشغله الزمن، بل الجنود أيضا، فعادة ما تسلك السيارة العسكرية طرقاً طويلة، أو تلفّ وتدور في طرق معينة، لتتأخّر في الوصول إلى هدفها، في محاولة، دائما ما تكون فاشلة، للتمويه على المعتقل، كي لا يعرف السجن الذي ينقل إليه.

الطريق إلى المعتقل، أو النقل من معتقل إلى آخر، كثيرا ما تكون صعبة، وتترك أثارا نفسية وجسدية على المعتقل الأسير، الذي يكون حملا صغيرا وسط مجموعة من الجنود المستنفرين، الذين يجعلون منه طوال الطريق تسليتهم المفضلة. ورغم أنهم أطالوا المسافة، ومضى عليّ أكثر من عشر ساعات، منذ اعتقالي، مُعرّضا للبَرد وعدم النوم، إلا أنني عرفت، عندما توقفت السيارة، أننا وصلنا المسكوبية أخيرا.

دفعوني بشدّة، فسقطت على الأرض، رفعوني وساقوني أمامهم، وأنا أعاني من تقييد يدي، وآلام السقطة على الأرض، ولا أرى أمامي، حتى رفعوا العصبة عن عيني، أمام مكتب الأحوال، وفكّوا قيدي، وعندها استطعت أن أتحسس يدي المتألمتين.

أوقفوني ووجهي إلى الجدار، وعندما انهوا إجراءات تسليمي، أمسك بي أحدهم من شعري، وأدار رأسي نحوه، متمنيا لي "نهارا سعيدا". كان النهار يعلن عن بزوغه، بالحركة التي تدبّ في المكان، وكلّ شرطي يدخل إلى المكتب، مارّاً إلى عمله في الداخل، يسأل عن هذا الواقف ووجهه إلى الحائط. بعضهم لم يكن تعجبه طريقة الوقوف، فيطلب ان أرفع يدي إلى أعلى.

بعد ساعة أو أكثر وأنا على هذه الحال، أرتعد من البَرد، أجبرني اثنان من الشرطة على خلع ملابسي كاملة، تبين أن أحدهما هو الطبيب أو الممرّض، الذي كتب ملاحظاته الطبية عنّي من خلال معاينتي عاريا، وتفحص جسدي أمام من يمرّ من أمام المكتب، بالإضافة إلى رجال الشرطة والشرطيّات.

وقفت عاريا، وجهي إلى الحائط، رافعا يدي إلى أعلى، أدور وألفّ حول نفسي، بناء على أوامر الشرطي الطبيب، الذي لم يكن خلال الفحص موجها انتباهه دائما نحوي، فهو قد ينشغل في حديث جانبي مع مارّين ومارات من زملائه، أو يجيب على تساؤل، أو يستفسر عن شي ما، ولم أكن بعريي وتعبي وغثياني وخوفي، سوى مجرّد شيء، يعلو صوت الشرطي الطبيب عليه ينهره، ويصدر الأوامر، شاتما، محقرا.

بشيء من القرف، طلب مني الشرطيان ارتداء ملابسي. غادر الشرطيّ الطبيب، وأمرني الشرطي الآخر بأن أخلع حزامي، ورباطي الحذاء، وأن أسلّم نقودي القليلة. وضع ذلك كله في الأمانات، لأستلمها لدى خروجي. وهكذا أصبحت جاهزا لنقلي إلى قسم التحقيق.

جاء شرطيّ آخر يحمل مفاتيح كثيرة، وقادني، ثمّ توقّف فجأة، وأجبرني على خلع السترة، وقذف بها إلى مكتب الأحوال، لوضعها في الأمانات، ثم واصلنا السير.

باب مكتب الأحوال يفضي إلى أروقة صغيرة، ثم إلى ساحة قسم التحقيق، الذي يضمّ الزنازين، ومكاتب التحقيق الخاصة برجال الشاباك. كان الجوّ باردا جدّا، وشعرت بنتف خفيفة من الثلج تتساقط، أو هكذا خيل لمعتقل، مستنفر الأعصاب، ودون سترة دافئة.

أوصلني الشرطي إلى زنزانة رقم 9، وفتح الباب، ثم دفعني إلى الداخل. في الزنزانة بُرْشٌ وبطانية، وجدرانها خشنة الملمس، والمرحاض فتحة في الأرض. لم استغرب سوى وجود مرآة، لونها يميل إلى السواد، وعندما تنظر فيها، يبدو شكلك موحشا. علمت فيما بعد أن هذا النوع من الزنازين رمم حديثا، لإرضاء الصليب الأحمر، ومن ضمن التحسينات التي أُدخلت، المرآة المزعجة، والمعذّبة. وبمرور الوقت على نزيل الزنزانة، يصبح تأثيرها النفسيّ السلبيّ، مخيفا، فكلما نظر إليها السجين، يرى وجها آخر موحشا غير الذي ألفه، ويتطوّر شكل هذا الوجه الوحشي، مع عدم إمكانية تسريح الشعر، وتجعده، وتغلغل الأوساخ في ثناياه، ونموّ اللحية في وجه لا يعرف الماء إلا لماما، وكل ذلك يجعل السجين في حيرة مع هذا الوجه الجديد عليه، هل هو وجهه فعلا، أم وجهٌ آخر رُكّب له دون أن يدري؟ سيكره هذا الوجه، وربما يكره أعضاء أخرى من جسده، عندما يجدها مستباحة دون أن يكون باستطاعته أن يفعل شيئا لحمايتها.

كنت في حاجة إلى النوم، لكن من الصعب أن يأتي في مثل هذه الظروف، والعقل لا يتوقّف عن التفكير، والاستعداد لما هو آت. اتخذت قرارا بأن أنام. يجب اقتناص كلّ لحظة، من أجل إراحة الجسم، وتنشيط الدماغ. رميت نفسي على البرش. لا أعرف إن كنت نمت أم لا، لكن المؤكد، أن التعب والبَرد والجوع، خليط غريب يُجبر الدماغ على إصدار أوامره للجسم بالنوم، ويحاول الجسد أن يراوغ، فيغفو لحظة، ويعود إلى انتباهته الأولى، يرصد الأفكار التي تتلاطم.

سمعت قرقعة المفاتيح. نهضت. فتح الباب، وطلب مني شرطي الخروج، ففعلت. ساقني أمامه، إلى أن وصلنا الساحة، وهناك تولاني آخر. وضع على رأسي كيس خيش تفوح منه رائحة البول، فشعرت بأنني اختنق، وقيّد يديّ خلف ظهري، وأمسك بي وسار عدة خطوات وأوقفني. إنها تثلج! الثلوج تسقط من سماء القدس في أواخر آذار. هذا الآذار الغدّار، طالما كانت علاقة أجدادنا به متناقضة، فهو مشمس وممطر، وأحيانا يسقط فيه الثلج، كما هو الحال الآن. أجدادنا توجسوا من آذار وأحبوه، والأمثال التي أطلقوها عليه تزيد عن أيّ شهر آخر. ربما كان ذلك لصلاحية اسمه للقافية.

هذا هو الشَبْحْ، بلغة المعتقلين: تَغْطِيَة الرأس، وتقييد اليدين إلى الخلف، وإيقاف المشبوح ساعات طويلة في مكان معين، وإذا بدرت منه أية حركة، يفاجئه الشرطي المناوب بضربة عصا، أو بكف مباغت على صدغه، أو يعاقبه بوضع كيس خيش آخر على الرأس، ليصبح التنفس أكثر صعوبة.

يشعر المشبوح، بعد أن يتأقلم مع الكيس ورائحته الخانقة، بأن أصعب ما يواجهه هو البَرد، الذي يتغلغل في العظام، وإذا كان جرّب الاعتقال في الصيف، يأخذ في المقارنة بين الظرفين، بين البَرد المخيف، والعرق الذي يعمي العينين، المختفيتين تحت الخيش القذر. والمعتقل في الصيف يتمنى لو أن الدنيا شتاء، وفي ظلّ البَرد الذي ينخر كلّ ذرة في الجسد، يتذكّر الصيف ويتمناه. يمكن احتمال حرارة الصيف، أما ثلج آذار هذا، الذي لم يخطر ببال، فهو يفوق القدرة على الاحتمال.

يطول الشبح ساعات طويلة، ويصبح غير الممكن ممكنا، فالمشبوح، الذي يمسك نفسه عن التبول، يأخذ، في نهاية الأمر، عند اشتداد آلام المثانة، قرارا لا إراديا بإراحتها، ومثل كل الأمور، تكون الصعوبة في البدايات. ومع مرور الساعات، تستمرّ المصاعب ، وآلام الرأس لا تُقاوم. اليدان لا شعور بهما، والكتفان والرجلان، أما العينان والأنف والآذنان، والفم، والحلق، واللسان، والرقبة، فلا توجد أية كلمات يمكن أن تعبر عن وضعها تحت الخيش. واستمرار سقوط الثلج دون التفاتة لمعاناة المعتقلين من الطبيعة والسماء والأقدار، شيء مخيف، يصل بالمشبوح إلى قرارة بئر عميق.. عميق، يبدو أنه نهاية للعالم.

لم أستطع أن أمنع نفسي من تذكر شخصين على الأقل عانيا من ثلج السجون، الأول عرفته، والثاني سمعت عنه.

كان أبو محمد، أنموذجا نضاليا بالنسبة لي وأنا طفل صغير، وطالما فسرت لي أمي سبب مشيه على عكازين بالتعذيب داخل السجون. وبعد سنوات سمعت شهادات من زملاء له كيف كان المحققون يجبرونه على خلع ملابسه، ويغمرون جزءا من جسده بالثلج، لانتزاع الاعترافات منه، وبسبب ذلك لازمه المرض، وبعد سنوات رأيته في مستشفى أوغستا فكتوريا، الذي أقيم  فوق جبل الزيتون، على اسم زوجة إمبراطور ألماني، رأيته وهو يحتضر وحيدا.

أما الثاني، فكان يذكره كثيرا صالح أبو لبن، أحد المعتقلين الذين أمضوا سنوات طويلة في السجون، قبل أن يفرج عنه. كان يذكر بكثير من الأسى زميله العجوز محيي الدين علان العوري، الذي التقاه في زنازين التحقيق في سجن رام الله، وكان شاهدا على تعذيبه بوضعه في بركة ماء أيام الصقيع، فترات متقطعة، وفي إحدى المرات لم يحتمل الجسد المنهك الماء المثلج فتوقف القلب عن الخفقان، وبرّر المحققون وفاته، بان الشرطي المناوب نسيه أكثر من اللازم في بركة الصقيع.

كثيرا ما وضعت تصورات حول لحظات العوري الأخيرة، الرجل الذي تجاوز السبعين، وشارك في ثورة 1936م، واعتقل لأول مرة عام 1968م، وأمضى في زنازين التحقيق فترة طويلة، دون أن يتمكنوا من أخذ كلمة واحدة منه، ودون أن يعرف أهله في بيت عور شيئا عنه، ثمّ اعتقل مرة ثانية، واعترف عليه، هذه المرة، اثنان من زملائه، وبقي متماسكا، حتى أسلم الروح في بركة الصقيع، وكان ذلك في آذار أيضا، يوم 2-3-1971م: ما هي المشاهد الأخيرة التي مرّت في ذهن ثوريّ عجوز، وهو ينسلّ من الدنيا، وينخر البرد جسده؟ هل تمكّن من الإمساك بلحظات سلام أخيرة، وشريط حياته يمرّ سريعا؟ هل توقّف عند مشاركته في مقاومة البريطانيين، الذين طاردوه ولم يتمكنوا منه، وعاش حتى يشهد على احتلال جديد، يقرّر محققوه قتله بطريقة غير مسبوقة.

نتف الثلج تتساقط، وأنا غير قادر على رؤيتها، لا أشعر ببياضه وأنا أشمّ الروائح النتنة تحت أكياس الخيش. هذه الروائح يزيدها الثلج نتانة. كم سحرني بياض الثلج، وكم كان يدخل البهجة في قلوبنا، نحن الصغار. عندما لم يكن يسقط الثلج في الكانونين، يطمئنني والدي: "انتظر شباط الخَبّاط". وإذا مَرّ شباط وخبّط وأرعد وأمطر، دون ثلج، نزعل كثيرا، لكننا لا نفقد الأمل، حتى لو كنا نعلم أنه واهٍ، فننتظر "آذار، أبو سبع ثلجات كبار.. ما عدا الزّغار".

كنت مستعدا أن أدفع أياما تحسم من فاتورة عمري، من أجل يوم تتساقط فيه الثلوج، لكني لم أكن أجد مَن يُقايضني. لم نكن نملّ اللعب بكرات الثلج، رغم أن سقوطه كان يشكل كارثة على دور المخيم المتهالكة. الآن أشعر بكتل هشّة تنزل من فوق، لتتهشم على جسدي الذي يرتعد، كل شيء فيه، حتى يديّ المربوطتين خلفي ولا أشعر بهما منذ فترة. يداي تعودان لتصبحا مصدر ألم مع هشيم الثلج. ولم أعد اقدّر الوضع بالنسبة لقدميّ، لم تعد لدي ثقة في أنهما ما زالتا تحملانني أم أنهما انفصلتا عني.

عندما يغطي ثلج القدس قبّة الصخرة المذهبة، وقبتي كنيسة القيامة الزرقاوين، تصبح القدس بالنسبة لي أجمل مدن العالم، وأعرف الإجابة عن سؤال طالما حيّرني: لماذا اختارها الله ليمنحها كلّ هذه القداسة؟ لكن الثلج في المسكوبية يتحوّل إلى جحيم. لا شيء مثل البَرد يمكن أن يؤثر في الجسد، ينخره حتى يشتكي الألم من الألم، ويحبس المعتقل آهاته في أعماق أعماقه، ثم يبدأ مفعول البَرد من جديد، في دائرة تصل ذروتها خلال ثوان، يشعر فيها المعتقل أنه وصل قعر العالم، واستقال من هذه الدنيا. يصبح التلاشي والذوبان في هواء القدس، حتى يأخذه ويبدّده، أمل المعتقل المشبوح في المسكوبية. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فدورة البرد لا تنتهي، إلا لتبدأ مرة أخرى وثالثة وعاشرة من جديد.

اقتنعت، لا أعرف كيف، بأن لون ثلج المسكوبية، الذي لا أراه، أسود، لا يمكن أن يكون أبيض أبدا. الناس في بلادي، لأسباب ما زلت أجهلها، يحبّون البياض ويغنّون له، لا بدّ أن ثلج المسكوبية يختلف عن ثلجنا، ثلج المسكوبية أسود، وثلجنا أبيض.

يا سماء القدس، يا من ترين كلّ شيء تحتك، كوني رئيفة بالفتى الذي نسيه الفاتحون العرب، في مغامراتهم الكبرى، خارج جزيرتهم، على طرقاتك، وها هو وحيدا يرتعد من ثلجك.

***

في يوم ما قلت لصديق: "لن يقدّر لي أبدا أن اكتب عن البرد، بَرد المسكوبية. أقرأ وأسمع عن كتّاب عباقرة. بَرد المسكوبية يحتاج إلى كاتب عبقري، هو بالطبع ليس أنا. أنا ما أزال ارتجف عندما تغضب السماء وترعد وتثلج، وترسل لنا حبّات البَرد، وأتذكر أولئك الأشخاص المشبوحين في المسكوبية".

 

3
مِن ساحة الشبح يُؤخذ المعتقل إلى غرف التحقيق، الذي يكون مكثفا، خصوصا في الأسبوع الأول. يلعب رجل الشاباك دور الشخص العارف والمطلع على دقائق الأمور، ولم يعد ذلك يعتمد على أسلوب التعذيب التقليدي، خصوصا الضرب، بل أساليب التعذيب التي توصف بالنفسية، مثل الشبح الطويل، والقصعة، والثلاجة، والخزانة، والهزّ، ووضع سماعات على أُذني المعتقل، تطلق ضربات القدر لبيتهوفن بصوت مرتفع جدا، يشعر معها المعتقل وكأن قدره انتهى فعلا. وجميع هذه الأساليب وغيرها، ثبت أنها أجدى من الضرب لانتزاع المعلومات، وبعضها خطير، مثل الهزّ العنيف الذي أدى إلى استشهاد أسرى، خصوصا في المسكوبية.

كان أبرز محقق، يحمل لقب أبو نهاد، في الخمسينات من عمره، يهوديّ شرقي، يجيد العربية ويحفظ أمثالا ونكات محلية. كان يتعامل مع المعتقلين، باستهانة، ويشعر بان لديه القدرة، على هزيمة أيّ منهم، وعلى انتزاع الاعترافات خلال فترة وجيزة. وكان يشجعه على ذلك عدم عناية فصائل المقاومة بإعداد أعضائها لتجربة التحقيق، وهو أمر مؤسف، لا يمكن فهمه، إلا لمن رأى كيف كان يحكم على العديدين من المناضلين، لسنوات طويلة، بعد اعترافات سريعة.

وكان يحلو لأبي نهاد أن يأتي إلى ساحة الشبح، ليشرف بنفسه على سير الأمور كما يريد لها، ويتدخل آمراً شرطة السجن، بالتضييق على هذا المشبوح أو ذاك، وفقا لخططه التحقيقية. وفي ساعات المساء، وقبل أن يعود إلى منزله، إذا لم يكن لديه عمل ملحّ وطارئ مع الأسرى، كان يوصي بإبقاء بعض الأسرى في ساعات الليل البارد في الخارج تحت المطر، واختيار من سيتمّ وضعه تحت المزراب، تنسكب عليه المياه دون أن تلوح لذلك نهاية.

الساعات الأولى، والأيام الأولى، هي الأهم بالنسبة للمعتقل، إذا صمد فيها، فإنه يكسر المحققين، ومهما طالت فترة التحقيق والتعذيب بعد ذلك، لن تكون مثل الأيام الأولى، حتى لو كانت أشدّ، فالأسير يتكيف مع وضعه الجديد الصعب، والملل والضيق والتخبّط يبدأ بالتسلل إلى المحققين.

وفي معظم جلسات التحقيق، يشترك أكثر من محقّق في الضغط على المعتقل، وفي أحيان كثيرة يجرون اللعبة التقليدية: الشرطيّ الطيّب والآخر الشرير، الأول يتحدث بهدوء وحنان مع المعتقل، طالبا منه أن يعترف وينهي القصة، أما الآخر فيأمر المعتقل بان يحكي القصة وإلا..! لكنّ الأمر لا يستمرّ هكذا فترة طويلة، إذا أبدى المعتقل صمودا، يتحوّل المحققان إلى شرّيرين، يفقدان أعصابهما، وينهالان بالضرب على المعتقل الذي يتذوّق لذة صموده.

بعض المحققين، يحول جلسات التحقيق، إلى سجال ونقاش مع المعتقل، للتأثير في وعيه، يعلي من شأن إسرائيل وقوتها وتقدّمها، في مواجهة عالم عربي ضعيف منهزم، ويقارن بين القيادات الإسرائيلية، ومثيلتها العربية. ويا لها مِن مقارنة!

 

4
بعد ساعات من الشبح، يقودني الشرطي، إلى الزنزانة من جديد. يعتبر ذلك استراحة، ولكنها لا تكون إلا خلال الساعة الأولى، إذ يصبح البقاء في زنزانة منفردة، نوعا من العذاب، لا يعادله أي تعذيب في الدنيا.

كل شيء في السجن نسبي، وبعد فترة اكتشفت أن بقائي في زنزانتي، أفضل من نقلي إلى زنزانة أخرى، تحت الأرض، أو إعادتي إلى الشبح من جديد، بعد أيام الشبح الأولى المريرة. قضيت في زنزانة رقم 9، عشرة أيام، أنام لابسا حذائي، مستعدّا لأي طارئ، وأنهض من البرد لأقفز، وأجلس، أخترع طريقة لحساب الأيام، وأفكّر فيما قلته للمحققين، وفي تقدير موقفي.

طالما فكرت بالعم قاسم أبو عكر، وشعرت بروحه تخيم على زنازين المسكوبية، وكأن جريمة قتله تحت التعذيب لم تحدث إلا قبل ساعات، وكنت كمن يسمع صوته يقول: بدي ابني يطلع بطل! وتملكتني رغبة لا تقاوم في أن أدير حديثا مع روحه، لو كنت أستطيع، لأقول له إن ابنه صديقي، شق طريقه، وحمل قلما، وأنقل له رسالة منه، من خالد خارج السجن، إلى والده الذي فاضت روحه في السجن. لو أن هواء المسكوبية يستطيع نقل الأحاديث بين الأحياء والراحلين، لو أن جدران المسكوبية تستطيع الحكي، لوّ أن المسكوبية تشعر وتحسّ وتمنحنا قليلا من دفء مفقود.

مِن زنزانتي، سمعت أنات أسرى، خصوصا (أبو رَمْوز)، الذي التقيته وأنا أُدخل زنزانتي لفترة وجيزة. ركز المحققون عليه بشكل استثنائي، فأبقوه طويلا تحت المطر والثلج في ساحة الشبح، كما وضع ساعات طويلة في الخزانة، وهي مكان للتعذيب يشبه الخزانة، يوضع فيها المعتقل، فلا يتمكن من الوقوف أو الجلوس أو التحرك. كما مورست بحقه جميع أساليب التعذيب، لمعرفة مصدر السلاح الذي وجد في حوزته.

كان أبو رَمْوز يعرف أنه سيمضي سنوات طويلة في السجن، فحمّلني وصايا وسلامات إلى أسرته وأبنائه؛ أما أنا فكنت ارتعد خوفا عليه من ملاقاة مصير أبو محمد، والعوري الذي قضى في بركة الصقيع.

من زنزانتي، أرّقتني استغاثة أسير جلب حديثا، كان يعاني مرضا، ولا يحتمل الشبح طوال ساعات في ليل المسكوبية البارد. لم أتمكّن من معرفة اسمه، إلا بعد أيام، عندما أدخل معتقل إلى زنزانتي، لفترة وجيزة، ففرحت به، وأخبرني، أن اسم المعتقل المريض الذي لا يحتمل التعذيب هو غسان. وكنت أعرف عائلته، ولأنني كنت أتوقع الخروج من السجن قريبا، عزمت على زيارة عائلته وإخبارهم عنه؛ وعندما حدث ذلك، كان الأمر منتهيا، فقد استشهد غسان تحت التعذيب.

لم أر وجه غسان إلا في الصور، وبعد استشهاده بسنوات، مع صور أخرى لشهداء قضوا في زنازين المسكوبية، بعضهم عانقت روحه سماء القدس فجرا وهو مشبوح، أو وهو يتحدّى ساديّة محقق هاجر إلى القدس من بلاد بعيدة، ليعذّب شبابها.

كنت دائما أتساءل: أين ستذهب دماء هؤلاء؟ مَن لهؤلاء؟ مَن سيذكرهم؟ ماذا سيكتب التاريخ عن شبان صغار، مِن نسل أولئك العرب، وجدوا أنفسهم، وحيدين، عاجزين، في طرقات المدينة المقدسة، يدافعون عن أسوارها وحجارتها، وظهورهم إلى الحائط. ما هو التاريخ؛ إن لم يكن قصص هؤلاء، وأشجانهم، وعلاقاتهم، وضعفهم، وقوتهم، وخطاياهم، وعظمتهم، وحبهم، وكرههم؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تأتيك في السجن، أو في تلك السن، ولكن بعد أن تجرّب الخيبات والهزائم، واستحالة دماء الشهداء إلى ماء بين أيدي السياسيين.

علمت من المحقّق أبو نهاد في إحدى جلسات التحقيق أن غسان يعاني من مرض في معدته، وأنهم لم يسمحوا له بتناول الأدوية إلا إذا "حكى القصة". كان أبو نهاد يجلس خلف مكتب متواضع، وغير مرتّب، برزت على سطحه عدة أشياء مَيّزت منها بسرعة مسدسا، وأمامه مدفأة كهربائية. كنت دخلت لتوي بعد أن جلبني الشرطي من ساحة الشبح، ورفع كيس الخيش عن رأسي، وأخذت أفتح عينيّ بصعوبة وبطء لكي تتعودا على الضوء بعد ساعات من العتمة الإجبارية.

قال أبو نهاد: كيفك يا فدائي؟

ثم وجه كلامه إلى الشرطي: قلت لكم تعاملوا معه دون عنف، هذا شاب لطيف وفتى مثقف، سيحكي كل شيء بهدوء.

أمرني بالجلوس على مقعد أمامه، وحاول إجباري على تناول فنجان من القهوة فرفضت متذرعا بان القهوة تسبب لي آلاما في المعدة. قال لي: إذا كنت تعاني من آلام في المعدة نستطيع أن نجلب لك طبيبا ونعطيك دواء. وأضاف بعد فترة صمت قصيرة: لن نفعل معك مثل غسان الدائم الصراخ، لم يتعاون معنا فلم نتعاون معه، وحرمناه من دوائه، أنت لا شك ستكون مختلفا.

ومثل كل جلسات التحقيق، انتهت بتخلي أبو نهاد عن قناعه الطيب، وبمناداته للشرطي، ليعيدني من جديد، مجروراً من شعر رأسي، إلى ساحة الشبح، وكيس الخيش المبلل بالبول، لتبدأ ساعات جديدة من المعاناة التي تعجز الكلمات عن وصفها.

مرّت الأيام العشرة الأولى، من التحقيق إلى الشبح إلى الزنزانة، إلى الدوشّات الباردة والساخنة، والتهديد بجلب الأم وتعريتها. ورغم الجزع والخوف والتعب والبرد الذي ينخر في العظام، كنت على ثقة، من خلال ما كان يواجهني به المحققون، انه لا يوجد لديهم ما يستوجب تمديد التوقيف.

 

أبو العلم وآخرون

1
استمرّ مسلسل الشبح المطول، ثم العودة إلى الزنزانة رقم 9. كنت أعرف أنه قريبا سيتمّ نقلي من الزنازين، بعد أن تأكدت من أن التحقيق معي انتهى؛ ومن علامات ذلك أن المحققين توقفوا عن استدعائي. وكم بدا لي هذا القُرب بعيدا، حتى نُقلت إلى غرفة رقم 12، والتقيت، كمال جماعين يوم 8 نيسان (أبريل) 1982.

تعانقنا، أنا وكمال، بعد الليلة العجيبة في غرفة رقم 12، عندما حان موعد نقلي إلى غرف سجن المسكوبية، واتفقنا على إيجاد طريقة للتواصل، وخرجت من الباب، فامسك بي الشرطي، الذي نادى على اسمي، وجرّني أمامه. كنت أعرف أنه ينقلني إلى غرف السجن، بعد ليلة الانتقال في غرفة 12. أوصلني إلى باب حديدي مُغلق، في جهته الأخرى شرطي آخر. فتح الباب، وسلمني للشرطي الجديد. كان ذلك يوم 9 نيسان (أبريل) 1982، عندما وجدت نفسي في ساحة كبيرة، تصطف حولها غرف كثيرة، وفي بعض الجوانب، ترتفع جدران تعلوها أسلاك شائكة.

طلب مني الشرطي الجديد أن أكون منضبطا وإلا فستواجهني متاعب عديدة، وأدخلني إلى إحدى الغرف. كانت غرفة مستطيلة واسعة، مليئة بالمساجين الذين يتمشّون فيها، أو يجلسون على أسرتهم، يملأون الجو ضجيجا. رأيت أبا العز في نهاية الغرفة، وهو جار وصديق من خارج السجن، في اللحظة التي تجمع حولي عدد من السجناء لمعرفة هويتي، وعندما عرفوا أنني معتقل سياسي، نادوا على "الشيخ أبو العز".

كانت  الغرفة الوحيدة التي تضمّ سجناء جنائيين وسياسيين، بينما باقي الغرف لا يوجد فيها غير سجناء جنائيين من العرب واليهود، والسبب أن المعتقلين السياسيين يتمّ نقلهم إلى سجون أخرى بعد فترة التحقيق معهم، ويفترض ألا يمكثوا في غرف المسكوبية إلا فترة وجيزة.

أخذني أبو العز، الذي يكبرني بأكثر من عشر سنوات، بالأحضان، وأدركت أنه يحظى باحترام ومهابة، ولاحظت لحية متوسطة الطّول تغطّي وجهه. قادني إلى ركن المعتقلين السياسيين، الذي يعتبر مسؤولا عنه، والذي لم يكن يضم سواه وجورج أبو شماس، الذي أعرفه أيضا من خارج السجن، وكانت مفاجأة كبيرة لي أنه محسوب على المعتقلين السياسيين، لأنه كان ابن ليل معتبراً، كما كان آخر عهدي به خارج السجن، ولم تكن لدي أية فكرة أنه يقبع خلف القضبان.

بعد السلامات، قدّم أبو العزّ شرحا سريعا ومبسّطا عن وضع الغرفة، مشيرا إلى أن السجناء الجنائيين يتولّون أمر أنفسهم، وكذلك السياسيين، من ناحية التموين مثل السجائر، أما الأكل فيتم تناوله خارج الغرفة بشكل جماعي في مطعم السجن، وأن السجناء الجنائيين، رغم مشاكلهم الكثيرة وخلفياتهم كلصوص وتجار مخدرات صغار، يكنّون احتراما للمعتقلين السياسيين، رغم عددهم القليل، وغير الثابت. وشكا من فترة وجوده الطويلة في المسكوبية، دون أن ينقل إلى السجون المركزية، حيث رسّخ الأسرى السياسيّون هناك، طوال سنوات، تقاليد تعايشٍ يوميّ بينهم.

قَدّم لي أبو العز، ملابس داخلية، ودَبّر لي حماما سريعا، مستخدِما صلاحيّاته، وطالبا بأدب من الذين ينتظرون الدور، السماح لي بدخول الحمام، كوني قادما جديدا من الزنازين.

سهرنا كثيرا، وتحدثنا، وسمعت منه ما توفر من أخبار عن الخارج، وسألني عن عائلته وعن آخرين وعن المخيم وعن تصاعد النضال الجماهيري. كان مؤلما لي بشكل خاص أن حسين عبد الفتاح استشهد، في المواجهات التي شهدها المخيم، في ذكرى يوم الأرض، وبعد يومين من اعتقالي. كان حسين ابن حارتي وزميلي في الصفّ، وهو من عائلة فقيرة جدا، كان شيطانا لا يحبّ المدرسة، وفي أول يوم دراسي لنا في الصف الأول، كان أول سؤال يطرحه على المعلم ونحن في الطابور قبل دخولنا أول حصة في حياتنا: "متى الفدوس؟" والفدوس بلغتنا هي العطلة الصيفية التي تستمرّ ثلاثة أشهر. وفي سنوات لاحقة، تخلّف في الدراسة وتجاوزته، ثم ترك المدرسة، مثل أغلبية تلاميذ المخيم الذين يفشلون في دراستهم، ودخل معترك الحياة مبكرا، وأصبحت حياته مزيجا من العمل غير المنتظم، والدخل القليل، والشيطنات الصغيرة، والسرقات الصغيرة مثل السجائر ومعلبات الأطعمة المحفوظة. وكُنت أحتاج لفترة قصيرة مع نفسي، من أجل لملمته في ذاكرتي، لكنني لم افلح، فالحديث مع أبي العزّ ما كان لينتهي بسهولة في أول ليلة.

صديقنا الثالث جورج أبو شماس، كان يشاركنا الحديث لماما، وهو لا يكاد يترك سريره، ويظل معظم وقته صامتا، ثمّ يلحّ على أبو العز، بصفته المسؤول وأمين الصندوق، أن يكون كريما أكثر في توزيع السجائر علينا. وقد بدا وجوده معنا غامضا، فتولى أبو العزّ فكّ هذا الغموض، بعد أن نهضنا نذرع الغرفة، تعبا من الجلوس.

أزالت رواية (أبو العز) الغموض ولكنها أثارت عجبي: جورج ومجموعة من تجار المخدرات الراسخين، ذهبوا إلى شاطئ عكا، بناء على تنسيق مسبق مع مهرّبين من لبنان، لاستقبال صناديق سوف تلقى بطريقة معينة في عرض البحر، لتصل في النهاية إلى المكان المتفق عليه.

فرح جورج ورفاقه عندما بدأت الصناديق بالظهور، ما يعني نجاح الخطة، رغم التدابير الأمنية الإسرائيلية، وبدا لهم أن صفقة العمر في متناول أيديهم. لكنّ ما حدث بعد ذلك، لا يقلّ إثارة، فما تحويه الصناديق لم يكن مخدرات، وإنما، وهذا ما أثار عجب جورج ورفاقه، أسلحة، فأدركوا أي منقلب وجدوا أنفسهم فيه، لأن المتاجرة بالمخدرات أهون بكثير من الإمساك بالسلاح معهم.

والمخابرات الإسرائيلية، لم تكن بعيدة، واتضح أن لديها معلومات مسبقة عن الصفقة، وأن خليل الوزير (أبو جهاد) كان يقف وراء إرسال هذه الأسلحة لرجاله، لكن التعقيدات وسوء الاتصالات بين المهرّبين على الجانبين، حولت المخدرات إلى أسلحة، وبدلا من أن تصل إلى رجال فتح، قبض على جورج ورفاقه وصناديق الأسلحة بين أيديهم. وبعد رحلة تحقيق قاسية في زنازين المسكوبية، وضع جورج ورفاقه في الغرف، وقبل وصولي إلى الغرفة بفترة قصيرة، نقل رفاقه إلى سجون أخرى، وبقي هو مع أبي العزّ الذي أضيف إلى اسمه لقب شيخ، ينتظران الفرج والنقل.

قال أبو العز إن جورج من الشبان الممتازين، سجن قبل سنوات بتهمة النشاط في الجبهة الشعبية، التنظيم الماركسي المتشدّد، وبعد خروجه من السجن، فقد الإيمان بجدوى النضال، وغيّر اتجاه حياته، لكن الاحتلال لم يسمح بذلك، دون قصد، فأعاده إلى السجن، سياسيّا مرة أخرى، رغم أنه لم يفكر بأي نشاط معاد للاحتلال. وكنت أعرفه خارج السجن، كصاحب بار، يمارس فيه الزبائن نشاطات أخرى غير تناول المشروبات الروحية، مثل لعب القمار.

عدت أنا وأبو العز إلى حيث يتمدد جورج على سريره، فقال باسما وكأنه عرف ما قاله لي أبو العز: في المرة السابقة اعتقلت لكوني من الجبهة الشعبية وعدت الآن إلى السجن محسوبا على حركة فتح رغما عن أنفي.

رد أبو العزّ على جورج مازحا: احمد ربك أننا قبلنا أن تكون منا.

قال جورج: أنتم على عيننا وعلى رأسنا، المهم ألا تبخل علينا بالسجائر.

توضع السجائر التي توزّعها إدارة السجن، بالإضافة إلى ما يصل السجين من عائلته خلال الزيارات، في صندوق واحد، ويوزعها كلّ فصيل على عناصره. وفي حالتنا كان أبو العز وليّ أمرنا. ودائما ما كان صندوق السجائر يعاني من نقص، رغم أن حركة دخول المساجين وخروجهم السريعة من سجن المسكوبية جعلته أفضل حالا منه في سجون أخرى، فكثير من المساجين، يُجلبون من شوارع القدس، لمخالفات بسيطة، ويطلق سراحهم بعد 24 ساعة، فيودعون السجائر لزملائهم.

 

2
لَم يكن لنا، نحن الأسرى السياسيين الثلاثة، تأثير كبير في الغرفة التي تعجّ بالمساجين الجنائيين، لكنهم كانوا يحرصون على تجنب أية إساءة لنا، وكنت أتضايق، عندما يلصقون صفة (أستاذ) باسمي. أثارني عالمهم، وفوجئت به، فهم يمثلون مجتمعا  مصغّرا، عن عالم القدس السُفلي، الذي لم أكن أعرفه، ولم يكن يدخل ضمن اهتمامات الحركة الوطنية الفلسطينية، وخيّل إلي أنهم أتوا من عالم آخر، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي، وأمام أبو العز: هل لدينا كلّ هذا العدد من اللصوص والحشاشين والنشالين؟

أجابني بحماسة، وكأنه اكتشف فكرة جديدة: هذا يعني أننا شعب، شعب مثل باقي الشعوب، نحن ناس مثل كل الناس.. لسنا أبطالا ولا قديسين!

أزال اختلاطي بهم، وسعيي غير المخطط للتعرف بهم عن قرب، كثيرا من الفجوات، ولعبت دور المستمع الماهر لقصصهم ومشاكلهم. كبيرهم كان يلقب (أبو العراج) ببساطة لأنه أعرج، وهو في الأربعينات من عمره، لا يكفّ عن إطلاق النكات، والتدخين، وحل الخلافات. للوهلة الأولى تصعب معرفة الصفات التي تؤهله للزعامة، غير صوته القادر على إلحاق الهزيمة بباقي الأصوات، وسعة صدره لسماع الشكاوى، وحبّه لذلك، وصبره وحنكته، بالإضافة إلى ما يمكن اعتباره العامل الأهم، وهو أنه أقدمهم في الغرفة.

ليس في أبي العراج صفات أو علامات تقليدية ظاهرة في ابن العالم السفلي، فهو أقرب إلى صورة مدرس ملتزم، أو موظف ينتمي للطبقة الوسطى، محبّ لعائلته. وقد علمت أن له ثقلا وسط عالمه، خصوصا في القدس القديمة، ولم أنجح في معرفة النشاط الذي زاوله خارج السجن، والأرجح أنه لا ينقطع عنه داخله، ويمكن حدس ذلك من التجمعات السرية في زوايا الغرفة، حين يكون جالسا ويحيط به أعوانه واقفين، مستنفرين، لا يعرف أحد ما يحدث خلفهم ولا يستطيع أن يسأل: هل هو منشغل في حلّ إشكالات؟ أم يدخن سيجارة حشيش؟ أم يخطط لعمل في الخارج؟

ما يميز (أبو العراج)، غير عرجه وصوته الجهوري، وسيجارته التي لا تفارق فمه، وداعته الغريبة، سرّ قوته وجبروته وسط أبناء الليل المقدسيين. لم يحدث بيني وبينه احتكاك، أو حديث طويل. ومرة سألني وأنا اذرع الغرفة: هل تعتقد أن الفرج سيكون قريبا؟ أجبته بحماسة: الشعوب دائما، وفي النهاية، تنتصر على مُحتليها، والاحتلال دائما إلى زوال.

ضحك وصرخ على رجاله: سمعتم يا بجم ما يقوله الأستاذ؟

نقل إليهم ما قلته، بين الجدية والسخرية، بلغته، فعقب أبو نارة الذي يجلس بعيدا: لا يغرّنك حديث الكبار، انتبه لدروسك أفضل لك، ولأهلك، أمامك طريق طويل.

عُمْر أبو نارة يدور حول الخمسين. كان طويلا وممتلئ الجسم، وربما كان أنسب من أبي العراج لتزعّم الليليين، وهو لا يخفي انتماءه لعالمهم، وعلى صدره المشرع حسب الظروف الجويّة، وشومٌ مختلفة، وكذلك على ذراعيه، ومنها سؤال "لماذا يا دنيا؟" منقوش على صدره.

في السجون، ولأسباب لا أعرفها، يكون الوشم ملازما للسجناء، وخصوصا الجنائيين. كنت قبل عام مِن اعتقالي في المسكوبية، خضت تجربة الوشم، في سجن جنين، حيث نقش سجين زميل مختصّ، وشما شبابيا على باطن ذراعي. رسم شكل الوشم أولا ، ووضع عليه مادة هي خليط من معجون الأسنان وسناج شمعة، ثمّ جهز إبرة عادية، ووضع رأسها على نار الشمعة، وأخذ يضرب بها، فتنزّ الدماء مختلطة مع المادة البدائية التي ابتكرها. وكان عليّ أن أتحمّل آلام الوخز الحاد. وبعد ذلك التهبت المنطقة التي غرست فيها الإبرة، وانتفخت عدة أيام، وعندما عادت إلى طبيعتها، ظهر الوشم الأخضر الذي يبقى ملازما للمرء طوال حياته. تساءلت عن قدرة (أبو نارة) على تحمّل وخز الإبر، وقدّرت أن بعض وشومه ربما نفذت خارج السجن، وإن كان ذلك لا يغير من آلام الوخز كثيرا.

قال أبو نارة: لو أن لديّ ابنا، لما جعلته يهتمّ بأي شيء اسمه وطن أو سياسة، السياسة تياسة، أوطاننا كلّها مباعة، والبسطاء يدفعون الثمن دائما. لم نترك ملاحظة (أبو نارة) تمرّ دون استغلالها. بثثت وأبو العز أفكارنا، في محاولة لاستقطاب أحد من الليليين لصفّنا الوطني، الذي نرى في الانضمام إليه واجبا. كانت النقاشات حول الوطن وجدوى النضال، والخيانة، والتضحية والرجولة، تتكرّر، بيننا وبين الليليين، ولا تفضي غالبا إلى نتيجة.

 

3
أولى أبو العز عناية أكثر مني  في محاولة بث ما كنّا نسميه "الوعي الوطني" بين الليليين، أما أنا فحرصت على أن استمع إلى قصصهم وحكاياتهم، شغفا بمعرفة عالمهم المجهول. كنت أعرف أن الاحتلال يتغاضى عن ترويج المخدرات بين شبان القدس، وأن هناك من يبيع الحشيش على بسطات في منطقة المصرارة، دون أن تفعل الشرطة الإسرائيلية شيئا، لكن ما كان يحيرني هو نجاح الاحتلال في استلاب هؤلاء الشباب، لأنني تربيت في شوارع المخيم، وفيما بعد طورت نظريتي الخاصة بأن الاحتلال هو الذي غيّر حياتي. ربما لو لم يكن الاحتلال موجودا، لكنت واحدا من هؤلاء الليليين. إن تجنبي مصيرا متوقعا لشخص شارعيّ مثلي تربّى في مثل ظروفي، يعود الفضل فيه إلى الاحتلال.

تنسم أبو العزّ في جمال شيئا، وكان جمال نفسه، يحبّ جلساتنا، فيترك الليليين، وينضم إلينا. كان كثير السؤال، يريد أن يعرف، يريد أن يصبح مثلنا. ميزته بين الليليين، ثقته المفرطة بنفسه، لكنها من النوع الذي لا يجاهر بها، وإنما يستطيع الآخرون اكتشافها فيه، ما يضفي عليه نوعا من الاحترام. لم يكن يثرثر كثيرا، ولم يبد حبا بالكلام، وفضيلته الكبرى هي صمته، وشغفه بالاستماع، وهو لا يعلّق عندما يكون مستمعا إلا بكلمة هنا أو أخرى هناك، للاستفسار، أو للإيحاء بشيء من الاحترام لمن يتحدث.

خلف صمته، وقفشاته اللاذعة القليلة التي يطلقها بين الوقت والآخر، كان يخفي شخصية أخرى، مبرزة في مجالها: سرقة السيارات. لم تكن أية سيارة تستعصي عليه، ولم يكن يحتاج إلى مفاتيح، لفتحها وتشغيلها. مرة سألته عن أسرار مهنته، فحاول أن يشرح لي كيف يتغلب على الزجاج، دون أن يكسره، ثم يتولى فتح الباب، والجلوس في السيارة وتشغيلها، كلّ ذلك خلال دقائق قليلة. لم أستطع أن أفهم كيف يمكن أن يفعل ذلك وكأنّه حاوٍ. واستطعت في أيام لاحقة، أن أدرك بعض أسباب الألمعية التي يتمتع بها، ومنها استيعابه الشديد، ونهمه للمعرفة، والاستفادة من تجارب الآخرين.

استمعت إليه كثيرا، وأنا أحفزه على الحديث عن عالمه وعالم رفاقه، خارج السجن، مستخدما وسائله نفسها، في تشجيع المتحدّث على ألا يتوقف. أنس فِيّ ما جعله يرتاح إلى الحديث معي، خصوصا وأنني بدوت له حديث السن، وأحتاج إلى كثير من النصح، ومعرفة أسرار الحياة. قال لي بنوع من الفخر إنه لا يسرق إلا سيارات اليهود، وإنه يتمنى أن تقطع يداه، إذا فكرتا بسرقة أية سيارة عربية. جادلته حول أخلاقية فلسفته في سرقة السيارات، قائلا إن السرقة، في النهاية، هي سرقة، ولا يفيد في شيء إلباسها أية مسوح وطنية. أوضح أنه لا يقصد أبدا أن يبدو كوطنيّ، لكنه لا يقبل لنفسه أن يسرق سيارات لمواطنيه العرب، بل إنه لا يريد أن يعود إلى سرقة السيارات أصلا، وإنما البحث عن مهنة أخرى، رغم ما في ذلك من صعوبة بالغة.

عندما أذرع الغرفة معه، أو نتحدث أثناء الخروج إلى ساحة التريّض (التي نسميها ساحة الفورة)، ينضم إلينا أبو العز في أغلب الأحيان، وعادة ما يكون ذلك في الوقت المناسب، فيلتقط الحديث الوعظي، ويكون على جمال، الذي يشعر بأنه تحدّث كثيرا، أن يصمت هذه المرة، ويستمع للشيخ،  كما كان يسميه مثل أغلب السجناء، إلا أنا، فلم أستطع هضم الصفة على أبي العز، الذي لم يكن يصلّي أو يصوم.

كنا نخرج إلى ساحة الفورة نحو ساعة، قبل الغداء، ويطلق الأسرى في جميع السجون مصطلح الفورة على المدة الزمنية التي يسمح بها للأسير بالخروج إلى ساحة السجن. وكلمة الفورة مشتقّة من فار فوارا وفورانا، أيّ تحرك الأسير بقصد النشاط. وتكون الحركة بشكل دائري، وهي في الغالب من اليمين إلى اليسار. ولأن الساحة عادة ما تكون صغيرة، لا يكون هناك مجال إلا الدوران فيها وكأنه يدور حول نفسه، فيفور حَرّا، ويفور دمه.

لم أكن أتصور أنه سيتغير، وتقبلت صداقته على اعتبار أنه سيبقى كما هو، لصّ سيارات، لكنّه تغير بشكل لا يصدّق. وبعد سنوات، نفذ إحدى عمليات المقاومة في القدس.

 

4
لا أزعم، مثلما أصبح أبو العز يفعل فيما بعد، أن جمال كان صديقي، لكن صديقي الحقيقيّ بين الليليين كان أبو العلم. وهو رجل تجاوز الستين، قصير، لحيته البيضاء، وتقاطيع وجهه، وحركاته، تعطيه عمرا أكبر، وتبديه رجلا عارك الحياة بنبل، وتجعل المرء يشبّهه بشخصيات سمع بها أو قرأ عنها، أو شاهدها في أفلام سينمائية، مثل عجوز همنغواي، في روايته العجوز والبحر.

ورغم، تميز أبو العلم، بهذه الأوصاف الخارجية، لم يكن مرحَّبا به كثيرا بين الليليين، ولم تكن له صداقات بينهم، ولم يحظ باحترام يناسب سنه أو تاريخه في العالم السفلي، أو نسبه العائلي، فهو ينتمي لإحدى العائلات المقدسية العريقة، التي تتوارث المناصب الدينية في المدينة المقدسة، ويمكن اعتبارها جزءاً مهمّاً من الأرستقراطية الدينية. لكنه من القسم قليل الحظ من عائلته الكبيرة والممتدّة التي لم يُبدِ فخرا بها، وكان يوضح لمن يسأله أن عائلته فيها مثل كل العائلات، من هم فوق في العلالي حسب تعبيره، ومن هم تحت، وربما تحت الأرض، حسب تعبيره أيضا.

تفصل بيني وبين (أبو العلم) نحو أربعين عاما، ولا أعرف السرّ الذي جعلنا نتقرب من بعضنا، فأستمع إليه. عندما كنا نخرج إلى ساحة الفورة، أمام غرف السجن، كنت أسير بجانبه، رائحين غادين، ولا أكفّ عن سؤاله، وهو سعيد بان أحدا يهتمّ بالاستماع إليه. كان أبو العلم، ابن ليل قديم، خبر السجون في زمن الأردن، وتعرّف على المعتقلين السياسيين من إخوان مسلمين وقوميين وشيوعيين. وروى لي مشاهداته عما تعرضوا له، وأبدى حقدا على الأنظمة العربية، وما تمارسه في السجون. ومرة قال: كنا نسجن لأننا خارجون على القانون، ونستاهل الضرب، أما أولئك المهندسون والأطباء والكتّاب والناشطون، فلماذا كانوا يعذّبونهم أكثر منا، ويبطشون بهم، مع أن الشعب كان بحاجة إليهم؟ ولم يكن ينتظر الإجابة، فهو في كلّ مرة، يجيب نفسه: العرب يا صاحبي، لا يستحقون هذه البلاد المقدسة.

مارس أبو العلم، في حياته، كلّ الأعمال الشائنة التي تخطر أو لا تخطر ببال غرّ مثلي، كما كان يقول دائما، إلا أنه لم يخن الأمانة، أو يسرق، أو يطعن أحدا في ظهره، كما كان يقول أيضا. في العهد الأردني تاجر بالحشيش، وكان مهرّبا، لكنه يعتبر نفسه مهربا صغيرا، لذا يتم اعتقاله مثل أمثاله من المهربين الصغار، أما الكِبار، فكانوا يحكمون البلد. حكى لي عن أسماء مقربة من الحكم كانت تحاول أن تحتكر تجارة المخدرات، وبعضها معروف للناس.

المثير في رواياته، كان ما يتعلق بالعَبْدة، وهي شخصية غامضة، لم يسلّط عليها الضوء كثيرا، أو حتى قليلا، وهي العشيقة الأولى، سوداء اللون، أو ربما الزوجة غير المعلنة، التي كانت لها شخصية قوية، سيطرت على اقتصاد تهريب المخدرات، وسخّرت لذلك أجهزة رسمية أمنية ومدنية، وتعاون معها نواب انتخبهم الشعب ليمثلوه ويشرّعوا له القوانين التي كانوا يخرقونها أكثر مما يخطر بالبال.

عشية حرب الأيام الستة، التي يسميها أبو العلم، حرب الساعات الست، تطوّع مثل باقي الشبان المقدسيين، للدفاع عن مدينتهم، وطالبوا بتوزيع السلاح عليهم، وعندما بدأت الحرب، كان الجيش قد غادر، وسقطت المدينة المقدسة بشكل مؤلم، في ساعات قليلة. كانت تلك الأيام الأولى من "حزيران المنحوس" هي التي لا يتوقف أبو العلم عن ذكرها، وكأنها حدثت للتو. وفي روايته لتلك الأحداث، تظهر أفضل صفاته، كمتحدّث، يحاول أن يقدم معلومات موثقة، ممزوجة بالسخرية والألم.

قال لي: اسمع، يجب أن تسمع وتحفظ في ذاكرتك. في وقت مبكر من يوم السابع من حزيران المنحوس، كان الجنرال الإسرائيلي موردخاي غور يتقدم نحو مدينة القدس من جبل الزيتون الذي يسميه أهل البلد جبل الطور، الذي يطلّ على المدينة المقدسة من الشرق. بجانب مستشفى أوغستا فكتوريا، الذي نسميه (المطّلع)، واجه مقاومة مجموعة من أفراد الجيش الأردني قاتلت ببسالة، ولم يدرك غور سبب هذه المقاومة، خصوصاً وأن الوحدات الإسرائيلية، كانت قد تقدمت بسرعة في المحاور الأخرى، ودخلت من باب الساهرة، في اليوم السابق، وفرض حظر التجوال على الناس، الذين فاجأهم التقدم الإسرائيلي السريع، في حين أن الدعاية العربية جعلتهم يصدّقون أن جيوش العرب الجرّارة ستلتقي في تل أبيب. لا تضحك؛ كلنا صدقنا ذلك!.

سألته لماذا لا يحدثني أولا عما حدث في اليوم الأول للحرب، فتابع وكأنّ لحكايته حبكة ترى البدء بما حدث في جبل الزيتون: إزاء المقاومة التي واجهها غور، طلب مساعدة سلاح الجو الإسرائيلي، فقصفت الطائرات الموقع، ما سهل عليه الطريق نحو القدس، فدخل البلدة القديمة من باب الأسباط، ووصل الحرم القدسي الشريف، ورفع العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة المشرفة، في لحظات لم تغب عن إدراكه، فبدا في غاية التأثر، ونظر إلى نفسه، كواحد من سلسلة قادة كبار كانت القدس تقع في قبضتهم في مفاصل تاريخية معينة، فيدخلون التاريخ من أوسع أبوابه.

(فيما بعد استحوذت تلك اللحظات الفارقة على وجدانه، وتلبسته في السنوات اللاحقة، وتحكّمت في نظرته إلى نفسه كقائد عسكري تاريخيّ، حتى إنه عندما أصيب بالسرطان في منتصف تسعينات القرن العشرين، تصرّف، كما يليق بقائد حربيّ مهزوم أمام المرض، لا كمريض، فأطلق على نفسه النار من مسدسه، منهيًا حياته قبل أن ينهيها المرض، في معركة بدت له غير متكافئة).

ونحن نذرع ساحة الفورة، جيئة وذهابا، وأبو العلم يضع يديه خلف ظهره، ولا يحرّرهما إلا لإشعال سيجارة جديدة، كان يسرد حكايته التي عنّ لي حينها أن اكتبها تحت عنوان (هزيمة العرب برواية أبو العلم). لا أعرف كيف قرأ أفكاري وطلب مني أن أضيف صفة الحشاش لاسمه، وأن أغير كلمة العرب بالعلم ليستقيم المنظوم والتورية، وأن أشطب كلمة هزيمة وأستبدلها بأخرى فيصبح عنوان الكتاب الذي لم ير النور (رفع العلم برواية الحشاش أبو العلم).

قال: انتقل تأثر غور برفع العلم الإسرائيلي، على ما يطلق عليه اليهود (جبل الهيكل)، ولكن بشكل عكسي، إلى مجموعة من القيادات المقدسية المحلية، ومن بينها محافظ القدس آنذاك، أنور الخطيب، الذين كانوا يراقبون، غور ورجاله، من بناية داخل الحرم اتخذت كمقر لتجمع القيادات المحلية، وهم في غاية الدهشة لسقوط ثاني الحرمين الشريفين وأولى القبلتين، بهذه السهولة.

(كان ما حدث من سقوط لرمز المدينة المقدسة، بعد يومين، من بدء الهجوم الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، التي كانت تسيطر على الضفة الغربية والقدس، أمراً طبيعياً لسير المعارك، والانتصار الإسرائيلي السريع، الذي لم يكن يتوقعه أحد، حتى إن أحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، كما روى في مذكراته، وصل القدس برفقة الشريف الأردني ناصر بن جميل، بعد أن ودّعهما الملك الحسين بن طلال، قبل أيام من الحرب، وتناولا الغذاء مع حامية أردنية جنوب القدس، على مشارف بيت لحم الشمالية، وودّعا الجنود والضباط على أمل اللقاء مع الجيش المصري في تل أبيب).

أبو العلم كان يتذكر حكاية الشقيري وأيامه الأخيرة في القدس: انتقل للإقامة في فندق الإمباسدور، في حيّ الشيخ جراح، لكن إقامته لم تطل، فولى هارباً بعد تقدّم القوات الإسرائيلية، مخلفاً وراءه بقايا خطبه الرنانة في الحشود داخل الحرم القدسي عشية الحرب، وكنت واحدا من المحشودين المتعطّشين للقتال. توعّد الشقيري العدوّ بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبدا كأنه يلقي خطاب النصر، حتى قبل أن تبدأ الحرب. وفي المؤتمر الصحافيّ الذي عقده في الفندق قال إنه لن يمانع في نقل من سيتبقى من الإسرائيليين بالسفن التي ستأتي لإجلائهم من أوروبا وأميركا، ولن يتم إلقاؤهم في البحر.

صمت أبو العلم قليلا بعد أن غضب بشكل مفاجئ على السيجارة التي كثيرا ما تنطفئ، وأعاد إشعالها: أين وصلنا في الحديث؟ آه. كلّ ذلك تبخّر في طرفة عين، وتحوّل الشقيري، إلى مادة لسخرية الإعلام الإسرائيلي الذي تحدث عن هروبه إلى عمّان متخفيًا بلباس امرأة. كنا نسمع راديو إسرائيل، ولا نريد أن نصدّق، ونصف ما يبثه بأنه دعاية هدامة.

في اليوم التالي للحرب 6 حزيران، أمر عوزي نركيس قائد المنطقة الوسطى الإسرائيلي، بتوسيع الهجوم الذي بدأ على القسم الشرقي من القدس، باتجاه المتحف الفلسطيني الذي يقع شمال أسوار البلدة القديمة. اتخذت القيادة الأردنية من كنيسة القديسة حنة (المدرسة الصلاحية) داخل باب الأسباط مقرًا لها. كان راديو العرب يطلب من مستمعيه ألا يصغوا إلى راديو إسرائيل، وتعهد راديو عمان "بأننا سنتغلب على العدو الصهيوني"؛ أما صوت العرب من القاهرة، فحسم المعركة مبكرا. يقول أبو العلم: صباح 6 حزيران، تسلل معظم موظفي بلدية القدس إلى بيوتهم، وكان من بينهم جار لنا، بعد أن امضوا في مبنى البلدية أكثر من أربع وعشرين ساعة، بسبب بدء الحرب. بعد أن اطمأنوا من خلال الإعلام الرسمي على سير المعارك، قرروا العودة إلى منازلهم، وبقي عدد قليل منهم  في فرع البلدية في محطة الإطفاء بحي وادي الجوز.

كان على من بقوا أن يروا ما يحدث على أرض الواقع، بعيدًا عما يقوله الإعلام الرسمي. وروى أبو العلم ما جرى من حديث بين مبنى البلدية وفرع وادي الجوز، تمثيلا صوتيا ساخرا لم أغفل عن ثنايا الحزن التي تخللته وحاول أن يخفيها:

مبنى البلدية: ما هو الوضع؟

الفرع: مظليون إسرائيليون يقتربون منا. دبابات إسرائيلية مرّت في اتجاه المتحف الفلسطيني.

مبنى البلدية: أنتم على خطأ. لا يمكن أن يكونوا إسرائيليين. يطلب منكم صعود البناية وتقديم وصف مفصل!

الفرع: (بعد توقف) الجنود يلبسون ملابس الجيش الإسرائيلي.

مبنى البلدية: أنتم على خطأ. هؤلاء جنودنا. الرجاء تقديم تقرير عما يجري كلّ عشر دقائق.

قدّم الموظفون الذين بقوا في فرع وادي الجوز، وصفاً للوضع، من الفرع إلى المركز، وصعد أحد الموظفين إلى سطح بناية مجاورة، وتطلع في اتجاه المتحف، واصطدم نظره بعلم أزرق وأبيض فوق برج المتحف. ومرة أخرى اتصل موظفو البلدية بالقيادة وأبلغوها بذلك. وعلق أبو العلم: العلّم مرة أخرى. فهمت لماذا غيرت اسم كتابك؟.

في تلك الأثناء، كان أبو العلم في شوارع القدس، يتنقل من حارة إلى أخرى، مع قلة من رفاقه، حتى وصلوا منطقة المتحف: وقعت معارك دامية، في لحظة تاريخية فارقة ومؤلمة من تاريخ مدينتا المنكوبة، بين قلة من المدافعين عنها والقوات الإسرائيلية المتقدّمة. تركزت أشرس المعارك حول المتحف، بسبب موقعه الاستراتيجي، وانتهت بالسيطرة على حيّ باب الساهرة. ماذا كانت أسلحتنا المتواضعة ستفعل، أمام أسلحة إسرائيل، وطيرانها؟ دخل اليهود من باب الساهرة، وسأعود يا أبو بصلة محروقة، إلى غور لأقول لك إن رفعه العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، لم يكن إلا إعلانًا رمزياً لبدء عهد جديد في تاريخ المدينة المقدسة لم ينته حتى الآن. وها أنت ترى، عشت لأجد نفسي في سجن إسرائيلي. الحرب، يا حبيبي، حسمت قبل أن تبدأ، بل قبل ذلك بسنوات طويلة، وتلك قصة يطول شرحها، عشتها وغيري في القدس!

 

5
بعد معركة المُتحف، دخل أبو العلم، إلى البلدة القديمة، كسر بندقيته وقذفها في فتحة للمياه العادمة، وهو يركض، واختبأ في أول منزل صادفه. نجا من الموت بأعجوبة، وما أن دخل أول منزل صادفه في حارة السعدية، حتى كانت قذيفة إسرائيلية تسبقه، قتلت سيدة المنزل وأطفالها الخمسة، وعلم فيما بعد أن زوجها كان من الذين غادروا مشيا إلى عمان، بعد أن تقطّعت بهم السبل، بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تلاحقهم، وتطلق نيرانها حولهم، لإجبارهم على المغادرة.

عاش أبو العلم يومين، مع الجثث الستّ، ولن يعرف أبدا، إذا كانت القذيفة التي أطلقت على المنزل، كانت تقصده هو نفسه، بعد أن رصدته قوة إسرائيلية هاربا، أم أنها أصابت المنزل، مثلما أصابت قذائف أخرى، منازل أخرى في القدس القديمة. في البداية شعر بعقدة ذنب تجاه الأمّ وأطفالها، وكان يردد: "لو أنني لم أهرب إلى هذا المنزل".

وسط الرعب، والخوف، وحظر التجوال، والفوضى، وسهولة الدّوس على الزناد، وامتلاء زوايا البلدة القديمة بالقتلى، احتار فيما يمكن أن يفعله بالجثث حوله. نظر إليّ مليا وكأنني أحد معارفه في تلك الأيام وقال: لم أدر ماذا أفعل. كان الرّعب يجري في الشرايين مع الدم، بل إنّ دمنا تجمّد ولم يبق غير الخوف والهوان، فها هم اليهود يدخلون مدينتنا، التي هجرها أكثر من نصف أهلها. في يوم 9 حزيران، وكان يوم جمعة. رفع الناس حظر التجوال بأنفسهم، ليدفنوا موتاهم. فتحت الباب، ورأيت راهبة أعرفها سابقا اسمها ماري تيريز. ناديت عليها، وعندما رأتني، خافت في البداية من شكلي. لم أكن غسلت وجهي، ولا أعرف كم ساعة نمت، ولم يدخل فمي سوى ما بقي معي من سجائر. حكيت لها بسرعة عن الأم وأطفالها، وطلبت أن تساعدني في دفنهم في مقبرة باب الرحمة، وساعدنا الجيران.

كانت الفوضى في كلّ مكان، وجنود الاحتلال، يشرعون بنادقهم. كثيرون أتوا لدفن موتاهم، وحينما مرّ موكب الجنرال موشيه ديان، ورئيس الوزراء ليفي أشكول، ومؤسس إسرائيل دافيد بن غوريون. علا تصفيق الجنود، ويهوديات أتين للتشفي بنا ورفع معنويات الجنود. وكشفت الراهبة عن الجثث الست، ورأتها اليهوديات فخفن وصرخن ولم يعد أحد يأبه بالموكب، حتى إن جندياً رأى المشهد غطّى عينيه بيده وابتعد مشمئزًا. فجأة قفز على ماري جندي إسرائيلي شاب ودفعها مهددًا برشاشهً: اخفي المنظر! فنزلت عند رغبته. وبعد أن توارى الموكب عن المشهد قالت الراهبة لأبي العلم: غطيت الجثث، ليس احتراما لهم، بل احترامًا للموتى.

واصل ديان وأشكول وبن غوريون، نزولهم إلى البلدة القديمة، ووصلوا حارة المغاربة يغلبهم الانفعال. وعمد بن غوريون، بحماسة شديدة، إلى نزع نقشٍ عربيّ إسلاميّ عن حائط البراق، ولم يعرف أحد ماذا كانوا يخططون لحارة يعود عمرها إلى أكثر من ألف عام، غنية بالمساجد والزوايا والمقامات والآثار.

رفع أبو العلم نظره، وأدار رأسه وكأنه يستعرض الأسلاك الشائكة، التي تعتلي الأسوار المرتفعة لساحة الفورة، أو كأنه يراها للمرة الأولى، ويحاول قياس ارتفاعها، ثمّ قال: لم يطل الأمر كثيرًا، ففي منتصف الليلة التالية، العاشر من حزيران، تحرّكت الجرّافات الإسرائيلية لهدم حارة المغاربة على رؤوس بعض سكانها الذين رفضوا المغادرة، لتوسيع الساحة. وطرد نحو 700 مقدسيّ من حارة المغاربة، إضافة إلى ثلاثة آلاف من حارة الشرف المجاورة، التي تحوّلت إلى حارة اليهود، وأصبحت بعض أهمّ الآثار الأيوبية والمملوكية والتراث المغربي الأندلسي المميز، ركامًا، ومن بينها المدرسة الأفضلية، ومسجد البراق. وهكذا دمّرت حارة المغاربة التي كانت مساحتها 116 دونما وفيها 136 منزلاً، وزوايا دينية أشهرها (بومدين) وأربعة مساجد ومدرسة حديثة.

ـ أراك تحفظ الأرقام المهمة جيدا؟!

ـ لم يبق لدي غير هذا العقل، وأشكر الله أنني استطعت المحافظة عليه حتى الآن.

***

في السنوات اللاحقة، تابعت حكاية حارة المغاربة، مدفوعا بحكايات أبو العلم، وتأثّره بما جرى: في السابع من حزيران، وصل شلومو غورون، الحاخام العسكري للجيش الإسرائيلي، ونفخ في البوق، ووجّه رسالة إلى الجنود قائلا: أخاطبكم من حائط المبكى، آخر أثر لهيكلنا، هذا هو اليوم الذي طالما تقنا إليه، دعونا نفرح ونبتهج.

بعد ثلاثة أيام، هُدمت حارة المغاربة، ولم يتحرّك العالم، لما اعتبره الفلسطينيون مجزرة أثرية ومعمارية وإنسانية في المكان، في حين تعامل  الإسرائيليون بصلف، وصلت إلى أن بطل عملية الهدم، إيتان بن موشيه بن انيان، الذي كان وقت الحرب ضابطًا كبيرًا في سلاح الهندسة في جيش الاحتلال، وترقى فيما بعد ليصبح قائده، أدلى بحديث لصحيفة (يروشالايم) العبرية يوم 26/11/1999، اعترف فيه بأنه قتل عددا من سكان حارة المغاربة، وأنهم دفنوا تحت الأنقاض، تحت الساحة، حيث يقيم اليهود الآن صلواتهم. واعترف بن انيان بأنه نقل بنفسه جثث ثلاثة من الذين قتلوا داخل الحارة إلى مستشفى (بيكورحوليم) الإسرائيلي. وعندما أدلى بحديثه كان عمره 81 عامًا، ويعيش في مستوطنة جيلو، التي بنتها السلطات الإسرائيلية على أراض تابعة لمدينة بيت جالا.

وزار بن انيان موقع حارة المغاربة، برفقة الصحافي الذي أجرى الحديث، ولم يبد أيّ ندم. وكشف أنه أعطى السكان ربع ساعة فقط ليغادروا منازلهم، وهو ما يخالف الرواية الإسرائيلية المعتمدة التي تقول إنهم أعطوا 24 ساعة، أو رواية أبو العلم، التي تحدثت عن ثلاث ساعات. وقال بن انيان ما يمكن أن تقشعر له الأبدان: شاهدت جثثًا تنزل إلى أسفل، فقمنا بدفنها تحت التراب. لقد هدمت حيًا كاملاً، ولم أخرج منه ذرة تراب واحدة.. تحت باحة حائط المبكى توجد تسعة عهود تاريخية مختلفة، واحدة فوق الأخرى، عندما تحفر تصل إلى مناطق فارغة. حفرت عن فترات تاريخية من أجل إلقاء كل الزبالة. هذه الجثث كانت لعرب لا ليهود، أقول هذا حتى لا يحولوا (يقصد الجماعات اليهودية) المكان إلى موقع يحظر الوقوف عليه. أتصوّر انه بعد فرار الشبان، بقي المسنون والمرضى، وربما ماتوا ذعرًا. الجثث الثلاث التي نقلتها إلى المستشفى لم تكن متضرّرة، ولو كانت مصابة هل كنت تعتقد أنني كنت سألوث سيارتي بدمائها؟  لم يكن هناك وقت لإعطاء وقت كاف للسكان لإخلاء منازلهم. كان الحدث مساء يوم السبت. ويوم الثلاثاء يصادف عيد نزول التوراة، وكان من المفترض أن يأتي مئات آلاف الناس إلى حائط المبكى. لم يكن أمامنا إلا يومان لإعداد الساحة. لقد هدمت مسجد البراق. قلت: إذا كانت فرس محمد صعدت إلى السماء فلماذا لا يصعد المسجد أيضًا؟ وطحنته بشكل جيد جدًا بحيث لم يبقَ منه أثر يذكر.

وقال إن الأوامر صدرت له شفهيًا، حتى يهدم حارة المغاربة ويقتل من بقي من سكانها، وأكد أن شخصًا وصفه برفيع المستوى قال له: إن حدثت ضجة في العالم جراء ما ستفعله، فسنقول إنك فعلت الأمر بمبادرتك الذاتية، وسنسجنك خمس سنوات، إلا أننا سنمنحك العفو في اليوم التالي. أنا من ناحيتي وافقت على ذلك، ولم أشعر بأيّ تأنيب ضمير لهدم المنازل على سكانها. أنا من عائلة متدينة، وقد آمنت بسيادة إسرائيل، وبأن المكان لنا، فلم أشعر بتأنيب ضمير.

لكنه أبدى ندمًا على تفويت فرصة تقسيم الحرم القدسي الشريف، ففي الوقت الذي كان يهدم فيه حارة المغاربة، أرسل سرية من سلاح الهندسة لتقسيم الحرم، لإعطاء "نصف المكان لليهود" كما قال، لكنّه تلقى أمرًا بوقف ذلك من حاخام الجيش غورون. وفي روايته لما حدث يقول إنه أدخل المعدات ومواد البناء إلى ساحة الحرم، وبدأ العمل ببناء جدار، وكانت الحجة أنه يريد أن يحمي قواته التي تعمل في حارة المغاربة من الفلسطينيين، لكنّ الحاخام غورون أوقفه عن العمل قائلاً: توقفوا، فأنتم تدنسون قدس الأقداس. طردته بشكل غير لائق وقلت له: اذهب مع بوقك إلى مكان آخر. توجه الحاخام إلى قائد المنطقة الوسطى على ما يبدو، لست متأكدًا من ذلك، لأنه لم يكن أمامي وقتٌ للتبوّل، وفجأة وصلني أمر بإغلاق مدخل الحرم والتوقف عن العمل. وتقديرًا لما فعله، تلقى كتاب شكر من عوزي نركيس قائد المنطقة الوسطى آنذاك، جاء فيه: أقدّم لك تقديري على عملك الرائع في إخلاء ساحة المبكى.

ولم يكن ما فعله بن انيان في حارة المغاربة، ذات يوم بعد الحرب إلا استكمالاً لسيرته كجندي نموذجيّ في العصابات الصهيونية التي أسست إسرائيل؛ ففي المقابلة نفسها اعترف، بأنه عندما كان في عصابة الإتسل، شارك في تنفيذ مذبحة دير ياسين عام 1948، بإصدار الأوامر لأفراد عصابته بقتل المدنيين، وعندما شاهد أطفالاً أصيبوا، قال لأفراد عصابته: اقضوا عليهم، وإلا فالويل لنا إن كبروا ورووا ما شاهدوه.

وقدّم بن انيان نفسه في المقابلة كابن للقدس، التي خبرها وعاش فيها. والغريب أنه تحدث كيف حظيت عائلته بعطف مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، الذي لم يبخل على والده، والمفارقة أنه يروي كيف دفع الحسيني مالاً لوالده عندما طلبه، وكان ذلك عند باب المغاربة، كما ساعد الحسيني العائلة بإسكانها في أحد المنازل عندما احتاجت إلى ذلك. وأكثر من هذا، قال بن انيان إنه ذهب يتجسس على المسلمين في الحرم القدسي مدفوعًا من عصابة الإتسل عام 1939، فكشف المصلون شخصيته، لأنه لا يعرف أداء الصلاة، وأخذ إلى المفتي فأنقذه، وأرسل من أوصله حتى شارع يافا.

***

عندما كان أبو العلم يحدثني عن قدسه التي رآها تسقط بسرعة، كان الأمر بالنسبة له كأنه حدث بالأمس. وبعد أشهر القدس الأولى العصيبة تلك، عاد أبو العلم إلى العمل الذي لا يجيد غيره. وروى لي كيف كان يوزّع المخدّرات على شخصيات مرموقة في المجتمع، من أبناء عائلات الأعيان، والمهنيين كالأطباء، وذكر لي أسماء تجعلني لا أصدق ما يقوله، فكان يبادر إلى القول: أنت صغير، ماذا تعرف عن الناس وطبيعتهم يا صاحبي؟

اعتقلته إسرائيل لنشاطه، ووجد نفسه في سجن الرملة، مع السياسيين الذين كانوا يعتقلون في العهد السابق، وبعضهم أبعد إلى الخارج، وقرّر هو، بعد سنوات قليلة من الاحتلال، أن يسافر إلى الأردن، ويعمل هناك. بدأ العمل أمام إحدى دور السينما وسط العاصمة عمان، كبائع للفستق وأنواع المكسرات الأخرى. واعتبر هذه الفترة في حياته هي الأهمّ من حيث تحقيق المكسب المالي، الذي كان يزيد في اليوم الواحد عن راتب شهريّ لموظف. وبعد أن تجمع لديه مبلغ من عمله، قرّر استثماره في مشروع العمر، فبماذا سيفكر ابن الليل؟

قرّر أن يعمل في تهريب المشروبات الروحية إلى دولة خليجية، داخل ثلاجات نقل الخضار واللحوم، ولم يكن حظه جيدا، فبعد نقلة أو اثنتين اكتشف. ورغم خسارته الكبيرة وفقدانه تعب الوقوف ساعات أمام دار السينما، لا يذكر مشروع التهريب ذاك، إلا ليقول: لم يكن هدفي سوى إسعاد الناس بإسكارهم لينسوا همومهم.

عاد أبو العلم في النهاية إلى القدس، لكنه اشمأز من الوضع. معظم الذين يعرفهم من "الوجوه الطيبة" كما يسميهم غادروا المدينة، أو زجّ بهم في المعتقلات، ولم يبق إلا المخاتير والعملاء، وحتى مستوى أبناء الليل انحدر. قال: انظر إلى غرفتنا، هل هؤلاء يُشَرّفون أبناء الليل؟ يتشاجرون على الصغيرة والكبيرة. يكفي ليكون أبو العراج زعيمهم لتعرف أين وصلوا. وبعد زفرة وتدخين ما تبقّى من السيجارة التي يحملها أضاف: كانت الدنيا غير الدنيا. كان الواحد فينا، ينقل تهريبة من مكان إلى آخر بطلوع الروح، أما الآن، فهم يعملون أمام الشرطة، ومعظمهم عملاء لها.

أما كيف وجد أبو العلم، نفسه وسط هؤلاء الذين يكنّ لهم كل هذا الاحتقار، فهو يروي بسخرية وألم: اختبأ عندي اثنان، من اللصوص، وعندما انتقلا إلى مكان آخر قبض عليهما فاعترفا عليّ، وجرجراني معهما. وأشار نحو شابين يذرعان الساحة، يدخّنان بشراهة، ولا يكفّان عن الضحك وتبادل المزاح: انظر إليهما، بعد أن أوقعا بي، يضحكان.

سألته إن كان اعترف بإيوائه لهما، فأجاب غاضبا: عيب، عيب يا صاحبي، أبو العلم يعترف! هما اعترفا، طزّ فيهما، أما أنا فأحافظ على عهودي ولا أتتنازل عن أخلاقي أبدا.

 

زميلي الإرهابي

1
الزمن نسبيّ في المعتقل. كل شيء نسبي في المعتقل. عندما تكون في الزنزانة، تكون أقصى أمانيك الخروج منها إلى غرف السجن. وعندما ينتهي التحقيق وتنضم لزملائك في الغرف، تصبح أيامك ثقيلة الوطأة. وإذا كنت تعلم أن أمامك فترة طويلة في السجن، تصبح أمنيتك الانتقال إلى سجون مركزية. أما إذا علمت أنك ستمضي أياما وتخرج، فتصبح الأيام طويلة، والانتظار أصعب، وكلما اقترب الموعد تزيد الأيام طولا، حتى يخيل إليك أنها لن تنقضي.

كنت أعلم أن أيامي في معتقل المسكوبية معدودة، وأنني، سأعانق النهار من جديد، وأسير في شوارع القدس وبيت لحم ورام الله، وأعود إلى غرفتي في المخيم. وفي غرفتنا لم يَحدث تغيير على وضعنا كسجناء سياسيين، وبقينا ثلاثة: أبو العز ينتظر نقله إلى سجن آخر بعد أن طال مقامه هنا أكثر مما يجب، وجورج لا يعرف كيف سيخرج من الورطة التي وجد نفسه فيها، ولا يعلم كم ينتظره من سنوات في السجون، أما أنا، فمع اقتراب موعد خروجي، يُحَمّلني أبو العز وجورج طلبات وأمنيات وسلامات إلى الخارج.

كنا نستغرب لماذا لم يعد يأتينا سجناء من الزنازين، حتى لا نفقد الصلة بما يجري في التحقيق، ما يؤثر على دورة المعلومات التي يتناقلها المعتقلون السياسيون من سجن إلى أخر.

في الجانب الآخر، الأوسع من الغرفة، لم يكن أي شيء ساكنا. لا نعرف كم منهم خرج، وكم دخل. وحسب الظروف، كان الجنائيّون يقرّرون الاحتفال بسجين يخرج، وتطول الحفلة أو تقصر، حسب الظروف أيضا.

فجأة، بدأت التحضيرات لديهم للاحتفال بإطلاق سراح أهمّ شخص بينهم، وهو أبو العراج، الذي خيل إلي أنه لن يخرج أبدا. طلب منا جيراننا في الغرفة حضور الاحتفال، ولم نكن نقدر أن نعتذر، كما فعلنا في مرات مشابهة، فنحن الثلاثة تربطنا علاقة معينة بأبي العراج الذي كان ينتهز الفرص ليمازحنا، أو يفتح نقاشا، أو يعرض تقديم السجائر.

انتقلنا إلى أبراش الجنائيين، وبدأ الاحتفال بتوزيع سجائر وقطع بسكويت وأشياء شبيهة لا تتوفّر بشكل دائم في السجن. ثمّ أمسك أحدهم بطبلة، لا أعرف كيف أدخلوها إلى الغرفة، وأخذ يضرب عليها، والجميع يصفق. وتقدم شخص إلى وسط الغرفة وبدأ بالرقص، وانضمّ إليه آخرون، وسط فرح استثنائيّ تعمل المناسبات التي يخترعها السجناء على خلقه.

كان أبو العراج نَجم الحفلة، وألقى الكثير من القفشات، بعضها بتأثير سجائر الحشيش، التي تناقلتها الأيدي. وتلقى أبو العراج، أمنيات بعودة سريعة إلى أحبابه في السجن، وردّ على هذه الأمنيات بصوته الجهوري: زهقت منكم يا بَجَمْ، لا أريد أن أرى وجوهكم مرة ثانية.

في نهاية الحفلة، سلمنا على أبي العراج وقال له أبو العز: كفّارة يا قبضاي. ورددت أنا وجورج كلمة كفارة ونحن نصافحه (أبو العراج) بحرارة، فهمس في أذني: عُدّ إلى دروسك، لا أريد أن أراك في أي سجن مرة أخرى؛ وكأن ما يربط بيننا عميق، رغم انه لمَ يمض على وجودي في الغرفة سوى يومين، بحساب الزمن خارج السجن، أما في الداخل، فالأمر كان مختلفا.

 

2
في صباح اليوم التالي، 10 نيسان (إبريل) 1982، خَيّم الحزن على الغرفة. جهّز أبو العراج حقيبته مبكّرا، وتحلّق حوله بعض أصدقائه، وقبل الظهر بقليل، جاء شرطي نادى على اسمه، وفتح الباب، وخرج ملّوّحا بيده. بعد خروجه خيّم صمت نسبي على الغرفة، استمرّ ساعات. وبعد العشاء، عادت دورة الحياة كما كانت. في اليوم التالي، خرج السجناء، في الساعة الثامنة صباحا، إلى قاعة الطعام، لتناول الفطور، مِثلما يفعلون كلّ يوم، وفي الساعة الواحدة بعد الظهر، ذهبوا إلى الغداء، بعضهم بتكاسل لأنه يفضّل القيلولة، وبعضهم الآخر بحماسة، لأن وجبة الفطور، في معظم الأحيان، لا تكون كافية. وبعد انتهاء الغداء، عاد الجميع إلى أبراشهم، وساد هدوء في الغرفة، لكننا بدأنا نلاحظ حركة غير اعتيادية للشرطة في الخارج. لم نهتمّ في البداية، إلا أن خبرا صغيرا تسرّب إلى الغرفة، أثار البلبلة والقلق، يشير إلى أن هجوما ما، اعتداء لم نعرف طبيعته، من قبل جهة إسرائيلية، تم على المسجد الأقصى، وان الجماهير في الخارج هبّت للدفاع عن قبلة المسلمين الأولى.

لم تمض إلا فترة بسيطة، حتى فتح باب الغرفة، ودفع رجال الشرطة عدداً من السجناء، إلى الداخل. أسرعنا إلى الباب، وأخذنا القادمين الجدد، وأجلسناهم على الأبراش، لنفهم منهم ماذا يحدث في الخارج. كانوا مجموعة متنوّعة من البشر، من مناطق فلسطينية مختلفة، من قرى رام الله، وجبل الخليل، ومن القدس، أوضحوا لنا أن متطرّفا يهوديا اقتحم الحرم القدسيّ الشريف، وفتح النار على الحرّاس، فما كان من العشرات من المواطنين الذين سمعوا بالخبر، إلا أن تركوا أعمالهم التي أتوا من أجلها إلى القدس، وتوجهوا صوب الأقصى للدفاع عنه.

ذكّرني ذلك بما حدث قبل عامين، عندما حشدنا، أنا وأنطون، رفاقنا الطلاب الصغار، وقصدنا الأقصى، لنشارك في الدفاع عنه، بعد أن أعلنت جماعة يهودية متطرفة نيّتها اقتحامه في ذلك اليوم، الذي أظهر فيه أنطون بعض مزايا شخصيته القيادية، بعد أن دخلنا إلى حرم الأقصى، وبدأنا نبث روح المقاومة في المصلين: طلب منا أنطون التخاطب بأسمائنا الحركية، تمويها على أية عيون تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، تكون مبثوثة في المكان، وكنّا نخاطبه باسم (أبو محمد) المحبّب إليه. وأنا في غرفة المسكوبية هذه، أفتقد أنطون، ولم أكن أدري أنني سأفتقده إلى أبد الآبدين؟

كانت لدى الضيوف المفاجئين معلومات عن إصابات أحدَثها هجوم المتطرّف اليهودي، في حين أن الشرطة الإسرائيلية تصدّت للتظاهرات الفلسطينية والهبّة الشعبية التي أعقبت الهجوم، واعتقلت العشرات، بعضهم بقي في مركز شرطة القشلة، في حين نقلوا هم إلى المسكوبية، متوقعين أن يكون ذلك مقدّمة لتقديمهم لمحاكم عسكرية، والزجّ بهم لفترات طويلة في السجون. استمع جميع من في الغرفة، ومن بينهم أبناء الليل، إلى روايات الآتين الجدد، ودبّت حماسة في الجميع، وخبط بعض الجنائيين رؤوسهم في الحيطان، معبّرين عن ندمهم لأنّهم ليسوا موجودين في الأقصى والقدس، للتصدّي للمحتلين.

ومع مرور الوقت، والزجّ بأسرى جدد، أخذنا نُكَوّن صورة أوضح عما يجري، وتأكّد لنا سقوط عدد من الشهداء والجرحى، وأن جماهير الضفة والقطاع هبّت، في انتفاضة جديدة ضدّ الاعتداء الجديد على الأقصى.

ولاحظنا أن الأجواء في المسكوبية، توتّرت، وأنّ رجال الشرطة والحرّاس، أصبحوا أكثر عدوانية، ومنعوا أيّ أسير من الاقتراب من الأبواب. وفكّر السجناء بالإقدام على خطوات احتجاجية، وبدأنا نبحثُ الأمر في جلسات موسعة: ماذا يمكننا أن نفعل إزاء ما يجري في الخارج. واقترح بعضنا الإضراب عن الطعام، أو على الأقل رفض وجبة العشاء، كخطوة أولية حتى تتضح الأمور، وتمّ الاتفاق على عدم الخروج إلى العشاء.

وقبل العشاء بفترة وجيزة، حدثت مفاجأة غير متوقعة: فُتح الباب، وكان جميع السجناء ينظرون دون أن يقتربوا منه، فدفع الشرطي بعنف رجلا إلى داخل الغرفة، وساد صمت عميق في الغرفة، لدقيقة، وكأن كلّ واحد منا يريد أن يتأكد بنفسه من هوية القادم الجديد، الذي تبين لنا جميعا انه لم يكون سوى (أبو العراج)، الذي هاله الصمت فصرخ بطريقته: مرحبا شباب، وعدتكم بالعودة، وها أنا أعود، ولكن هذه المرة كسياسيّ! وكرر كلمة سياسي أكثر من مرة بتنغيم وهو يحرّك جسمه وكأنّه يرقص، أو يشير إلى مفارقة ما، أو شيء يستحقّ الضحك، فضجّت الغرفة بالحركة، واندفع كثيرون في اتجاهه لعناقه، وللتأكّد من أنّه نفسه الذي ودّعناه ليلة أمس، واحتفلنا بخروجه اليوم.

قال أبو العراج إن الدنيا مُوَلعة في الخارج، والمواجهات مشتعلة، وإنه اعتقل عندما سمع بالاعتداء على الأقصى وهو خارج من السجن، وبدلا من أن يتوجّه إلى منزله، نزل مع الجموع إلى الأقصى، في حين كان رجال الشرطة وجنود الاحتلال يسدّون الطرقات في البلدة القديمة، ويوقفون كلّ من يشتبهون به، ويطلقون النار على المتجمعين داخلَ أروقة الأقصى وساحاته. وقدّر أبو العراج أن الوضع لن يهدأ في الأيام التالية، وبدا متحمسا، وقال: هذا الأقصى! اليهود مجانين إذا فكروا بأننا يمكن أن نتنازل عنه.

وعندما حان ميعاد العشاء، فتح رجال الشرطة الباب، ووضعوا ما يحملونه بالقرب منه، ولم يقترب أحد من السجناء الذين عليهم الدور، ليستلموا الأكل ويوزعوه على باقي السجناء. ودون تخطيط، اندفع عدد مِن السجناء وحملوا الطعام وقذفوه خارجا، فأصاب بعضه رجال الشرطة، وكان ذلك إيذانا بمواجهة بين السجناء والشرطة. حضر مسؤول الشرطة المناوب، وأراد، معرفة أسماء الذين قذفوا الطعام، خلال خمس دقائق، ولم يكن السجناء بحاجة لأية مهلة، لأن الموقف في مثل هذه الحالات، هو أن يلتزم الجميع الصمت، ويكون من المستحيل، الإفشاء بأية أسماء.

بدأت فرق من الشرطة، مسلّحة بالهراوات، تتجمع أمام الباب الذي فتح، وطُلب من جميع السجناء الخروج إلى الساحة والوقوف مرفوعي الأيدي على جدار الغرفة الخارجي. تقدم المسؤول يحيط به بعض رجاله، وسار خلف السجناء المصطفين على الجدار، وتم سحب عدد من السجناء خارج الصفّ، بناء على تخمينات بعلاقتهم بما حدث، إلى خارج الساحة، وكان من بينهم (أبو العراج) الذي أراد أن يؤكد للآخرين بطريقته ما يحدث له، فسمعناه ينهر شرطيا حاول جرّه من يده: ابعد يدك، أنا أسير لوحدي! لكن الشرطي لم يمتثل له، وجرّه غصبا وهو يضربه، فشعر السجناء بأن الدور سيكون عليهم، بعد أن سمعوا أصوات الأبواب تفتح وتغلق، وأدركوا أن زملاءهم نقلوا إلى التحقيق، ولتلقّي وجبات من الضرب.

بدأ رجال الشرطة ضرب السجناء بالهراوات، فأخذوا بالصراخ، ولم يستمر الأمر طويلا. توقف الضرب، وفتح باب الغرفة، وطلب من السجناء الدخول ركضا، مع التنبيه عليهم، بالالتزام بالنظام، وإلا سيكون ردّ شرطة السجن قاسيا. ضحكنا، وتذكّرنا أبو العراج، وشجاعته، ومفارقات الزمان الفلسطيني.

 

3
في 11 نيسان (أبريل) 1982، وقد مضى على اعتقالي 14 يوما، منها 13 يوما في المسكوبية، وهي فترة قصيرة، لم أكن أتوقع أبدا أنها ستكون حافلة، إلا عندما بدأت أخطّ سيرتها.  كان يوما مقدسيا عاديا في ظل الاحتلال: الجنود، وحرس الحدود، والشرطة، ورجال ونساء من أجهزة الأمن الإسرائيلية يملئون طرقات البلدة القديمة، وكالعادة يوقفون الشبان الفلسطينيين، يدققون في هوياتهم، ويعتقلون أو يوقفون لساعات أو يسمحون بإكمال الطريق. وعلى أبواب الحرم القدسي، كانت نقاط التفتيش تمارس عملها، ويضيق الجنود على الداخلين، وخصوصا الشبان. وسط كل هذا الجو غير العادي، الذي أصبح عاديا، دخل الحرم القدسي، زائر غير عاديّ، فتح نار رشاشه ليستشهد فلسطينيون ويصاب آخرون. كان المعتدي هو الجنديّ الإسرائيلي: ألان هاري غولدمان (39 عاما).

الطلقات الأولى التي أطلقها من رشاشه، أصابت الحاج محمد صالح اليماني (65عاما)  فقتلته، وهو أحد حراس الحرم القدسي. وعندما انتشر الخبر، تدفّق الفلسطينيون في القدس، إلى شوارعها، يهتفون ضد المساس بالأماكن المقدسة، وتجمّع عدد كبير منهم في باحات الحرم، ليكونوا في مرمى رصاص جنود الاحتلال الذين طوقوا الحرم واقتحموه، وفتحوا النار عشوائيا على المتظاهرين.

في مثل حالة غولدمان، يصعب التصديق، على الأقل بالنسبة للفلسطينيين، أنه عمل بمفرده. وتشير صحيفة الفجر، في عددها الذي صدر صبيحة اليوم التالي ـ وكانت موادها تخضع للرقابة العسكرية المشددة ـ إلى أنّ من وصفتهم بثلاثة مدنيين إسرائيليين، أطلقوا النار، بعد اقتحام غولدمان للحرم، ما أدى إلى استشهاد فلسطيني آخر، هو جهاد إبراهيم بدر (21 عاما). وكانت حصيلة الضحايا، بالإضافة إلى الشهيدين، 60 جريحا، أصيبوا برصاص غولدمان وشركائه المدنيين، وبرصاص جنود الاحتلال.

الشيخ سعد الدين العلمي، رئيس الهيئة الإسلامية العليا، عقد مؤتمرا صحافيا، وتلا بيانا باسمها، استعرض فيه نماذج مما تعرّض له المسجد الأقصى منذ العام 1967. ولم يكن ما تحدث عنه العلمي، لأسباب غير مفهومة، هو أهمّ الاعتداءات، وهو على الأرجح لم يعتمد على أرشيف مهني، وركز على ما مر به مسؤولو الأوقاف الإسلامية في الفترة الأخيرة، من تلقيهم رسائل تهديد عبر الهاتف، وأخرى مكتوبة، ومن وضع قنبلة وهمية مع إحدى هذه الرسائل. وطالب العلمي سلطات الاحتلال بإعادة مفتاح باب المغاربة، أحد أبواب الحرم القدسي، الذي صادرته بعد الاحتلال، وأعلن عن بعض القرارات:

ـ "دعوة المواطنين في الأرض المحتلة إلى الإضراب العام لمدة أسبوع ابتداء من اليوم، وبهذه المناسبة نعلن رفضنا للإدارة المدنية وروابط القرى، ولن نسمح لليهود بالصلاة في الحرم الشريف، ونؤكد تمسكنا بقيادتنا الشرعية والوحيدة منظمة التحرير الفلسطينية".

ـ "نحمّل السلطات المسؤولية عن جميع الأحداث، ابتداء من حريق الأقصى عام 1969، وما تلاها من حفريات واعتداءات متكررة حتى حدوث مجزرة اليوم".

ـ "نستنكر مساندة الجيش بإطلاق الرصاص على المواطنين وتهريب المهاجمين للحرم القدسي الشريف، بل ومنع المواطنين من دخول البلدة القديمة والسماح لليهود فقط بالدخول مع أسلحتهم".

ـ "إننا في هذا الوقت العصيب نطالب الأمتين الإسلامية والعربية، بتحمل جميع مسؤولياتها، فقد آن الأوان لسماع صوت الأقصى الجريح".

أعرب زميلنا أبو العلم عن فخره بقرابته للشيخ العلمي، وقال محاولا نظم كلمات أقرب إلى اللغة الفصيحة المؤثرة:

- رأيت؟ الشيخ سعد الدين سَيُوَلّعها، كفى تجبّرا وظلما يا إسرائيل!

ردّ على بيان العلمي، مكتب مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، معلنا استياءه من تحميل المجلس الإسلامي الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عما وقع في الحرم، من اقتحام للجندي غولدمان أولا، ثم اقتحام جنود الاحتلال وسقوط الشهداء والجرحى. ورأى البيان، أن المجلس الإسلامي، يحاول "استغلال المأساة التي يمكن أن تحدث في كلّ مكان وفي كلّ زمان، للتحريض ضد إسرائيل". ..وأن "على المجلس الإسلامي أن يسجل أمامه أنه ينشر افتراء بالرغم من كونه مؤسسة دينية"،..و"عليه أن يذكر أن أيام المفتي أمين الحسيني، عميل هتلر، قد مضت إلى غير عودة".

لم يكن بيغن قد نسي أمين الحسيني بعد!

وفي واشنطن، أعربت وزارة الخارجية الأميركية، عن أسفها وإدانتها لاقتحام المسجد الأقصى، وأصدرت بيانا تبنت فيه الرواية الإسرائيلية، فالحادث "من فعل شخص مختلّ هو حاليا في أيدي السلطات الإسرائيلية". وأملت الخارجية الأميركية "في نزع فتيل أي بؤرة توتر جديدة"، وحثت جميع الحكومات والشعوب في الشرق الأوسط على عدم تنفيذ أية أعمال عنف، يمكن أن تزيد الخسائر في الأرواح.

ولم تكن الأخبار الساخنة مصدرها ما يجري في القدس فقط، فالجيش الإسرائيلي، أعلن انه ألقى القبض على اثنين من الفدائيين، اجتازا الأراضي الأردنية إلى الضفة الغربية، وبحوزتهما كمية من الأسلحة والمواد المتفجرة. وفي بيروت، أعلن عرفات، ما اعتبر أمرا هاما، ركزت عليه وسائل الإعلام الإسرائيلية بشدة، وأبرزه راديو إسرائيل في نشراته الإخبارية المتتالية. ألقى عرفات كلمة في اجتماع للجبهة الشعبية، قال فيها إن القوات الفلسطينية، تنتظر هجوما إسرائيليا على الجنوب اللبناني، وإن هذه القوات "لن تسمح لأيّ جندي إسرائيلي التقدم داخل لبنان"، وأنها تلقت منذ وقف إطلاق النار سلاحا متطورا، وأنها ستلقن إسرائيل درسا لن ينسى.

 

4
أردنا أن نبحث خطوات نضالية مقبلة إزاء ما تعرّضنا له، واحتجاجا على الاعتداء على الأقصى. وشعر أبو العزّ، بما لنا من مكانة كسجناء سياسيين، أنّ علينا أن نعلن موقفا. ولكن، بعد ما تعرض له السجناء، هل يمكن أن تنجح أية خطوات تصعيدية؟ طرح هذا السؤال، وشاركنا المعتقلون الجدد في الحوار، واتفقنا على تأجيل أية خطوات حتى يزيد وضوح الصورة عما يجري في الخارج.

كانت ليلة صعبة ومؤلمة، لكنها دافئة، شعر فيها جميع مَن في الغرفة بوحدة حال غريبة، يبدو أن الجميع كان بحاجة إليها، وساهمت القفشات التي لم يكفّ السجناء عن إطلاقها حتى ساعات متأخرة، عما جرى، في إثارة مشاعر فياضة، هي مزيج من الأحاسيس الوطنية، والوجدانية، والحياتية.

كان الغائب الحاضر في تلك الليلة هو أبو العراج، وخيّمت على أحاديث السجناء تراجيديا خروجه من السجن جنائيا، ثم عودته سياسيا بشكل مفاجئ، ونقله إلى العزل الانفرادي.

رغم أن السجناء كانوا أعلنوا الإضراب عن وجبة العشاء ورفضوا استلامها، إلا أن بعضهم فكر في إكرام الأسرى الجدد، وجمعت صفائح الخبز الفطير، وهو خبز دون خميرة، وزع مع الوجبات في عيد الفصح اليهودي (بيسح) الذي بدأ قبل أيام. ويعرف هذا العيد أيضا، بعيد الفطير وعيد الحرية وعيد الربيع، ويستمر الاحتفال به سبعة أيام. وتُتلى خلاله (الهاغاد)، لتروي قصة العبودية والخلاص التي ترمز إلى خروج بني إسرائيل من مصر، وتشمل صلوات شكر للرب من سفر المزامير وفصول مختارة من المشنة والتلمود.

في السجن، ارتبط العيد أكثر من أي شيء أخر بخبز الفطير، الذي لا يخبز غيره في إسرائيل، طوال أيام العيد، ويتناوله الإسرائيليون تذكارًا للخبز الفطير الذي أكله بنو إسرائيل لدى خروجهم من مصر وهم على عجلة من أمرهم، وفقا للمأثور الديني.

وبما أننا أسرى من يعتبرون أنفسهم أحفاد بني إسرائيل، الذين يحتفلون بذكرى ما يسمونه التحرر من ربقة الاستعباد الفرعوني الذي استمر أكثر من مائتي عام، كان علينا تذوق خبز الفطير، غصبا وقهرا. ولم يكن يروق للمعتقلين تذوق هذا النوع من الخبز، ولم يكن طعمه يشجع على تناوله، لذا كان يتجمع الكثير منه في زوايا الغرفة، جمع في تلك الليلة، ووضع في أطباق واسعة، دُبِرَتْ اتفاقا، وسكب عليه الشاي، فأصبح طريا مثل الفتيت، فأقبل السجناء على الأكل، مستحسنين الطبق المخترع، وكانت معنوياتهم مرتفعة، واستكثر بعضهم ما اعتبره فرحا استثنائيا، وقال: خير اللهم اجعله خيرا، بعد الفرح يأتي النكد، ماذا يخبئ لنا النهار؟

وطلع النهار، وبدت بقع الشمس في مواقع مختلفة من الساحة، نراها من الشبابيك، وخيل إليّ أن الشمس في هذا الصباح محايدة، دون إحساس. وفي موعد الفطور، انتظمنا في طوابير الخروج، يحمل كل منّا كأسا بلاستيكية في يده. سار أمامنا بعض رجال الشرطة، وكذلك خلفنا وعلى جانبي الطابور، كما يحدث كلّ صباح، لكن الأمر بدا مختلفا فقدرنا أنه بسبب ما حدث ليلة أمس.

مررنا من الساحة، عبر الباب المفضي إلى غرفة الطعام التي نتناول فيها وجبتي الفطور والغداء، وبجانب الباب كانت في انتظارنا مفاجأة غير متوقعة: في غرفة احتجاز صغيرة تسمى القفص، واجهتها التي تطلّ على الرواق من الحديد، وتستخدمها الشرطة للطوارئ، كان هناك شخص له لحية طويلة، وشعر أطول، يشبه واحداً في حالة سكر، يمسك الحديد بيديه، وما أن رأى مرور أول سجين في الطابور، حتى أخذ بالصراخ وإطلاق الشتائم، فتدخل ثلاثة من الشرطة ووقفوا أمامه، وطلبوا منا أن نسرع، وهم يشتمون ويلوّحون بالهراوات ويضربوننا بها.

عرفنا هوية الشخص، واستوعبنا بسرعة ما يحدث. وعندما جلسنا على الطاولات الطويلة في قاعة الطعام، لم يكن حديث السجناء إلا عن الجنديّ الذي اقتحم المسجد الأقصى بالأمس، ووصفته المصادر الإسرائيلية بأنه مجنون، كما يحدث عادة مع المقتحمين السابقين واللاحقين للمسجد، أو المعتدين على المدنيين الفلسطينيين.

كظم كثيرون غيظهم، وهزّوا رؤوسهم وكأنهم يتوعّدونه. فضلت مجموعة من السجناء السياسيين عدم الحديث علنا عن الموضوع، مؤجلين ذلك حتى العودة إلى الغرفة.

عبأنا كؤوسنا بشاي لا طعم له. ورغم طعمه السيئ، وقذارة الطناجر، إلا أن السجناء يحرصون على شربه مع الأكل، وتعبئة كؤوسهم وهم يغادرون، حتى لو لم يكن يحمل من الشاي إلا اسمه، ليرشفوا منه على أبراشهم، بتلذذ غريب.

 

5
استمرّت غرفتنا في استقبال السجناء الجدد، خصوصا من المجاورين للحرم القدسيّ، مثل الأفارقة الذين يقطنون في منطقة باب المجلس، أحد أبواب الحرم، والنَوَر (الغجر) الذين يسكنون في باب حطّة، أحد أشهر أبواب الحرم. كانوا أقرب إلى الحرم، ومشاركتهم في الاحتجاجات كانت مكثفة، وتحوّل أحد المعتقلين الجدد، واسمه أمون، إلى نجم في غرفتنا سويعات قليلة، فهو رغم إصابته في وجهه، وظهور بقايا الدّم تحت عينيه، كان دائم الحركة والمرح، يريد أن ينقل أكبر قدر من المعلومات عما جرى في الخارج، ولم يكن يخجل أو يمانع من أن يناديه أحد ممازحا أو مناكفا، أو ليقيس درجة تقبله للمزاح، بـ "يا نَوَري"، وعندما يسمع هذا النداء يلبيه صائحا "النَّوري آت". وأبدى أمون جلَدا غريبا، وسط تلك اللحظات الفوارة في سجن المسكوبية، ليستغل أية نكتة أو تعريض مبتسر عن أصله النوَري، ولكي يتحدث بفخر عن نَوَر القدس. قال ردا على مماحكة من أبي العلم: نحن في القدس منذ 400 عام، أي قبل كلّ عائلات الحسب والنسب فيها، عددنا الآن ألفان، وقبل حرب الأيام الستة كنا أربعة آلاف. الحرب شرّدتنا، وجعلتنا لاجئين، مثلما حدث مع أجدادنا في حرب 48.

قدّم أمون رواية جديدة عن أصل النوَر؛ فهم من قبيلة بني مرّة العربية، تشتتوا اثر انتهاء حرب البسوس، التي استمرّت أربعين عاما، وهاموا على وجوههم في الصحارى العربية. لكن أبا العلم، الذي يطلق على النوَر اسم الزُطّ، اعترض على ذلك قائلا إنها محاولة للبحث عن هوية جديدة، كردّ فعل على نظرة سكان القدس، فردّ عليه أمون ساخرا: اندلعت حرب البسوس التي يتغنّى بها العرب، بعد مقتل كليب على يد جدّنا جساس، ردّا على قتل كليب ناقة البسوس، خالة جساس. أبناء عمومة يتقاتلون أربعين عاما من أجل ناقة! هل الانتساب إليهم مشرف إلى حدّ تنكره علينا؟ لا نريد هذا النسب! ثمّ أضاف: سأزيد معلوماتك: اسمنا الأصلي، ليس النَوّر أو الزُطّ، كما تُعرِّض بنا، بل الدوم، ونحن نتحدث لغة الدوماري.

أجابه أبو العلم بسؤال استنكاري: يعني تعترف أنكم لستم عربا!

لم يؤثر نقاش أبو العلم، الذي بدا استفساريا أكثر منه عدائيا، في أمون وفخره بهم وبمجاورتهم للحرم القدسي، وحفاظهم على لغة خاصة بهم، وان كانت في طريقها إلى التلاشي، وتقديمهم رموزاً غنائية في فلسطين والأردن، واحترافهم بعض المهن كالحدادة، والرقص. وفيما اعتبرته اعترافا جريئا قال أمون: نعم، كانت جدّتي ترقص، ووالدها يضرب على الدف. الفلاحون والبدو يعرفون "أمون الغجرية". أطلق أبي اسمها على شقيقتي الكبرى، التي توفيت في سنّ مبكرة، مثل أعداد كبيرة من أطفال النَوَر، بسبب الفقر وانعدام الرعاية الصحية، ولشدّة حبّه لابنته، ولأمه الراقصة، أعطاني الاسم، وها أنا بينكم ببشرتي السوداء، وشفتيّ الغليظتين، وشعري المجعّد، وبصوتي الحنون، الذي من شدة حنيته، إذا سمعه البوم غار منه!

توقفت عند ما قاله أمون، عن موت أطفال النَوّر صغارا، وقلت: أنا أيضا مات نصف إخوتي صغارا، مثل أطفال كثر في المخيمات. أتعرفون أن 40% من شعبنا ماتوا في المخيمات بين عامي 1948-1965م؟ إنها حرب إبادة مستمرة علينا.

لم يترك ذلك صدى، وكأنّ موت الفلسطينيين هو الأمر العادي، هو القاعدة، والحياة هي الاستثناء.

ورغم أن أمون حاز إعجابا بين المعتقلين، بصفات كثيرة لديه برزت مرّة واحدة، إلا أن أهمّ مأثرة وجدت حماسة واستحسانا، هو تمكنّه من تهريب عدد من صحيفة الفجر المحلية معه إلى غرفتنا، فتناوبتها الأيدي بكثير من الحذر، ومنها عَلِمنا أنه في يوم 12/4: عمّ الإضراب الشامل الضفة الغربية وقطاع غزة، وانطلقت المظاهرات في مدن فلسطينية مختلفة، وأغلقت الشوارع الرئيسة بالحجارة، وإطارات الكاوتشوك المشتعلة، وتصدّت قوات الاحتلال للمتظاهرين، وأصابت العديد منهم، واستمرّت في إغلاق المسجد الأقصى لليوم الثاني على التوالي. وفي القدس، تصدّى جنود الاحتلال، ووحدة مكافحة الإرهاب، لمسيرة سلمية، تقدّمها رجال دين مسيحيون وعلماء مسلمون، انطلقت من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة، في اتجاه الحرم القدسيّ، وتمّ اعتقال 37 من المحتجين، منهم من زجّ به في غرفتنا، وغرف المسكوبية الأخرى.

كانوا خليطا بشريا متنوعا: صغار وكبار، متعلمون وأميون، مسلمون ومسيحيون، متديّنون ويساريون، ريفيون وآخرون من الطبقة الوسطى المدينية التي بدأت تتآكل، جمع بينهم ما تعرّض له الأقصى. وأبرقت الهيئة الإسلامية العليا، والمؤسسات المقدسيّة، إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، محتجّة على تفريق القوات الإسرائيلية للمسيرة.

ازداد الوضع في القدس سخونة، وإذا كانت الشخصيات الاعتبارية اكتفت بمسيرة سلمية قمعت، فإنّ المقدسيين خرجوا في عدّة مظاهرات، وخاضوا مواجهات مع قوات الاحتلال، أسفرت عن إصابة خمسة من المتظاهرين، و12إسرائيليا، وأصيب مصوّر صحافي إسرائيلي يعمل لشبكة تلفزة أميركية بعيار ناري. وأُلقيت في الساعة الخامسة والنصف مساء، قنبلة حارقة باتجاه دورية إسرائيلية، كانت تمرّ في درب الآلام، أدّت إلى جرح جنديين.

كان منظر جنود الاحتلال، في شارع الآلام، الذي يعتقد أن المسيح سار عليه في لحظاته الأخيرة، مؤلما ومستفزّا باستمرار، وكأنّ التاريخ يكرّر نفسه، مع مواطني المسيح، وأحفاد من حكموا عليه بالموت.

يتكوّن درب الآلام من 14 مرحلة، لكن أروعها، بالنسبة لي، هي المرحلة الثانية، وتحديدا نصف قوس بديع، عرف باسم قوس (هو ذا الرجل)، وهو بقايا قوس بناه الإمبراطور أدريانوس تذكاراً لدخوله مدينة إيليا كابتولينا التي أقامها بعد هدم مدينة القدس وطرد اليهود منها عام 135م. وأخذ القوس اسمه من جملة للحاكم الروماني بيلاطس يشير فيها إلى المسيح قائلاً: "ها هو ذا الرجل". ويصل نصف القوس هذا بين كنيستي الحكم والجلد، والزاوية النقشبندية، التي تضمّ أيضًا مسجدًا لأتباع هذه الطائفة الصوفية التي تُمَثِل بشكل أساسيّ المقدسيين الذين قدموا من أوزبكستان، ويعرفون باسم عائلة البخاري.

وفي حي الثوريّ، حاول شبان قلب سيارة إسرائيلية، ما أدى إلى جرح سائقها، وأنقذه جنود حرس الحدود الذين أطلقوا النار على الشبان. أين أنت يا شيخ (أبو ثور)؟ أين ثورك وأسطورتك، أيها القطب الصوفي؟ كنت مقاتلا مع صلاح الدين، يا شهاب الدين أبو عباس أحمد بن جمال، ولكنّهم حولوك إلى أسطورة، تستخدم ثورك لتلبية احتياجاتك، إذا أردت شراء شيء تكتب ورقة وتضعها في رقبة ثورك، فينزل من مرتفعك إلى حانوت في القدس، ويجلب المراد ويعود. ماذا أنت فاعل الآن، وأنت في قبرك في الثوريّ الذي يحمل اسمك، بالمحتلين الجدد؟ هل تعلم أنهم سرقوا أسطورتك أيضا؟ أديبهم الكبير، شموئيل يوسيف عجنون، الذي نال في عام 1966، جائزة نوبل للآداب بالتقاسم مع الكاتبة اليهودية السويدية نيللي زاكس، كتب أسطورتك في كتابه (إلى هنا) بعنوان (أبو ثور).

[لعب القدر لعبته مع عجنون (1888-1970)، غير المحبّ للعرب: شقيقته دفورا تزوّجت من بارون ألماني اسمه موريتس فينر. ابنتهما إستر تزوجت الفلسطيني جواد النشاشيبي بعد أن وقعت في حبّه، واعتنقت الإسلام، وعاشت في القدس الشرقية بعد عام 1948، لكنّها عادت إلى اليهودية فيما بعد، بعد زواج النشاشيبي من امرأة أخرى].

في أبو ديس، اعتصم عدد من الأهالي في المسجد، وفي مخيّم الدهيشة، تحدّى المواطنون حظر التجوال، وأغلقوا شارع القدس- الخليل، ورشقوا سيارات الاحتلال بالحجارة، وأصيب ستة من المتظاهرين برصاص المحتلين.

في نابلس، اضرب أهل جبل النار، ورشقوا سيارات الاحتلال بالحجارة، وأصدرت المؤسسات بيانا مندّدا، وأصيب ثلاثة برصاص جنود الاحتلال، ونتيجة تعرضهم للضرب المبرح خلال الاعتقال. واحتجزت قوات الاحتلال، عشرات من فعاليات نابلس ومحيطها في مقرّ الحكم العسكريّ، وفرضت حظر التجوال على مخيم بلاطة، ولم يهدأ الناس، وتظاهروا حتى ساعات المساء.

وفي جنين، ورام الله، والبيرة، وطولكرم، وبيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور، والخليل وجبلها، وصوريف، وقلقيلية، ورفح، وخان يونس، انتفض الفلسطينيون، وتظاهروا، واحتجّوا، وعقدوا الاجتماعات، وأصيبوا، واعتقلوا.

وفي بتّير، قطع الشبان خطّ سكة الحديد المارّ بقريتهم، بالحجارة الضخمة، ورشقوا القطارات الإسرائيلية بالحجارة.

وفي الخليل، توفي الحاج توفيق عيسى الزّغل (74 عاما)، عندما أُبلغ بصورة مفاجأة، عن إطلاق سراح ابنه جودي، المعتقل منذ خمس سنوات. [لماذا لم يمهله الزمن لحظات فرح؟ ربما زغرد قلبه الذي لا يحتمل، فتوقف عن الخفقان]. الأخبار الجميلة تُميت والأخبار المفجعة تُميت، ولا خيار!

الفلسطينيون كعادتهم، لم ترضهم المواقف العربية، ونشرت صحيفة الفجر على صفحتها الأولى خبرا عنونته (ردّ الفعل السعودي على أحداث الأقصى!) جاء فيه: "تمثل رد الفعل السعودي على أحداث المسجد الأقصى التي وقعت أمس، بقيام الملك خالد بإرسال رسائل إلى رؤساء الدول الإسلامية الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، في حين أذاعت الإذاعة السعودية في جميع نشراتها الإخبارية أسف الخارجية الأميركية لما وقع للذين عانوا بدنيا وفكريا من هذه الأحداث على حد تعبيرها؟".

الفجر نشرت أيضا، كلمة لها على الصفحة الأولى عنونتها (أعمال جبانة)، وصفت فيها اقتحام الحرم بالعمل الجبان ورأت أنه "لا يمكن بأيّ حال من الأحوال، أن يعتبر حادثا فرديا معزولا، خطط له وقام بتنفيذه فرد واحد، سارعت بعض الأوساط الإسرائيلية إلى اتهامه بالحمق والجنون، كما أعلنت دوائر الأمن الإسرائيلية بأنه أميركي الجنسية، رغم أنه جندي إسرائيلي".

[فيما بعد عُرِفَت هوية غولدمان، الأسترالي الجنسية].

"فمنذ أيام ومنشورات التهديد تلصق على جدران المسجد الشريف تتوعّد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم تسمح الجهات المختصة لبعض الجماعات اليهودية الدينية المتطرفة بالصلاة في المسجد المبارك". ..."وقبل عامين، وبالتحديد في أيار 1980، كشف النقاب عن خطة لتخزين أسلحة وأدوات متفجّرة في المدينة القديمة بقصد نسف المسجد المبارك، وقيل وقتها إنه قد تم اعتقال بعض الأشخاص، وإن تحقيقا سريا قد تم معهم". ..."وكما هو متوقع، لم يعرف أحد أيّ شيء عن مجريات ذلك التحقيق، هذا إذا كان قد تمّ أي تحقيق أصلا..".

في تلك الأيام، كان أحد أشكال المقاومة، هو نشر استنكارات في الصحف لإجراءات الاحتلال من قبل المؤسسات الفلسطينية التمثيلية، بشكل أو بآخر، للمجتمع المحلي. وفي عدد صحيفة الفجر نشر على الصفحة الأولى إعلان من بلدية غزة: "عقد المجلس البلدي في غزة جلسة طارئة لبحث الاعتداء الغاشم على الشعب العربي الفلسطيني وانتهاك مقدساته". ويعلن المجلس أنه قرّر "الإضراب الشامل" لمدّة أسبوع، وتوجّه "بنداء إلى العالمين الإسلامي والعربي أن يتحركوا، فقد بلغ السيل الزّبى".. "كما يناشد المجلس الضمير العالمي بمساعدة الشعب العربي الفلسطيني في قضيته العادلة". ووقع البيان- الإعلان المدفوع الأجر رئيس بلدية غزة رشاد الشوا، ونائبه شفيق مشتهى، وأعضاء المجلس: صبحي فرح، والدكتور أكرم مطر، وفائق النخّال، وحمدي عابد، وأحمد حسن الشوا، ورفيق بسيسو، وبهجت سكيك.

ونشر الحاج أمين النصر، رئيس بلدية قلقيلية، وأعضاء المجلس البلدي، استنكارا، وكذلك فعل، محمد موسى عمرو، رئيس بلدية دورا، والحاج حجازي مضية، رئيس بلدية حلحول بالوكالة. ونعى آخرون الشهيدين اليماني، وبدر، مثل إلياس فريج رئيس بلدية بيت لحم، وأعضاء المجلس البلدي، وموظفو البلدية و"جميع أهالي وسكان المدينة"، وحنّا الأطرش، رئيس بلدية بيت ساحور، ورئيس وأعضاء مجلس أمناء جامعة بيت لحم، ونقابة عمال وأصحاب مشاغل الحدادة والألمونيوم بالقدس، ورابطة الجامعيين وإدارة معهد البولتيكنيك بالخليل، ونادي الهلال المقدسيّ، واتحاد معلمي وكالة الغوث بالضفة الغربية، ورئيس وأعضاء جمعية سلوان الخيرية. وعادة ما تكون صيغ الاستنكارات والنعي متشابهة، لأنّها تحدد، من قبل إدارة الصحيفة، إلى حد ما، لكي توافق الرقابة العسكرية الإسرائيلية المشددة المفروضة على الصحف.

في بيروت، دعا ياسر عرفات، إلى اجتماع عاجل للمؤتمر الإسلامي، واستنكر كامل الشريف، وزير الأوقاف الأردنيّ الاعتداء على الأقصى، وقال مضر بدران، رئيس الوزراء الأردني، إن المطلوب "ليس وقفة عربيّة فحسب، بل وقفة إسلامية لمواجهة أعمال إسرائيل"، ووصف محمد يماني، وزير الإعلام السعودي الاعتداء بأنه عمل خطير للغاية، وبعث الملك خالد رسائل إلى نظرائه العرب الملوك، والرؤساء، والأمراء، طالبهم بإعلان الإضراب يوم الأربعاء المقبل، ودعاهم إلى الوقوف بجانب إخوتهم الفلسطينيين وإلى مؤازرتهم بالتوجه إلى الله بالدعاء لهم بالنصر؛ وأعرب كمال حسن علي، وزير الخارجية المصري، عن اعتقاده، بان الاعتداء عمل جنونيّ، وأبدى علي، الذي تحدث للصحافيين، بعد اجتماعه مع الرئيس مبارك، تفهّما للإجراءات الإسرائيلية في القدس، لأنها تستهدف الحفاظ على حرمة الأماكن المقدسة.

وأدانت واستنكرت الصحف الخليجية، الاعتداء على الحرم القدسي، وأكدت الصحف التونسية جميعها، أن الاعتداء ليس عمل شخص واحد، أو شخص مجنون. وشجبت باكستان، ووصفت الاعتداء بالبشع، وقلقت اليونان، وأدان وزير خارجيتها الاعتداء، وأكد على ضرورة الحفاظ على حرمة الأماكن المقدسة. واتهمت الصحف الإسرائيلية، حكومة بيغن، بالتهاون مع المتطرفين اليهود، ودعت صحيفة هآرتس، إلى مراقبة المتطرفين، وقالت جيروسالم بوست، إن تصرفات هؤلاء تعطي انطباعا بأنهم فوق القانون.

في التاسعة والنصف مساء، شيّع العشرات من سكان القدس القديمة، جثماني الشهيدين صالح اليماني، وإبراهيم بدر إلى مثواهما الأخير، وسط حصار عسكريّ مشدّد، فرضته قوات الاحتلال حول الحرم القدسي، وباب الأسباط، وأصرّ المشاركون على الصلاة على الجثمانين في الحرم، وعندما خرجوا حاملين الاثنين على الأكتاف، فرضت قوات الاحتلال حظر التجوال، حتى انتهاء مواراة الشهيدين الثرى في مقبرة باب الرحمة، لصق سور القدس الشرقي.

مصادر الشرطة الإسرائيلية، ذكرت أن غولدمان، تلقّى تدريبا أساسيا خاصا يعدّه الجيش الإسرائيلي للمهاجرين الجدد المتخطين لسنّ الجندية. ورفض المتحدثون باسم الشرطة، إعطاء أية تفاصيل عنه، ورفضوا الإفصاح إن كان أوحى خلال التحقيق معه، بأنه مدعوم من منظمة متطرّفة، وأكّدوا أن التحقيق معه ما زال مستمرا، لكن الصحف الإسرائيلية قالت، إنه عثر في غرفته في أحد الفنادق التي نزل فيها بالقدس الغربية، على خريطة للحرم القدسي، ومنشورات لحركة كاخ بزعامة الحاخام مئير كهانا، وكشفت يديعوت أحرونوت أنه استدعى للخدمة في 28 آذار. كهانا أعلن أنه قرر توكيل محام للدفاع عن غولدمان، وأصدر بيانا باسم كاخ، بأن هذا القرار يأتي رغم عدم وجود أية صلة بين غولدمان وكاخ.

إسرائيل كانت تحارب على جبهات مختلفة: الناطق باسم حكومة بيغن، هدّد بوقف الانسحاب من سيناء، إذا خرقت مصر نصوص اتفاقية كامب ديفيد، وبيغن نفسه أعلن أن حكومته تلتزم "بضبط النفس" فيما يتعلّق بالوضع على الحدود اللبنانية، لكي تتيح لأميركا تهدئة الموقف، ولاري سبيكس المتحدّث باسم البيت الأبيض صرّح بأنّ الوضع في الشرق الأوسط ما زال متوترا. وزير الدفاع الإسرائيلي شارون قال إن المنظمات الفلسطينية جمعت نحو 600 صاروخ مدفعي، ونقلت نيوزويك، أن شارون أبلغ السفارة الأمريكية في تل أبيب، بأن الجيش الإسرائيلي، سيحتلّ جنوب لبنان، ويصل إلى بيروت، وسيهاجم القوات السورية الموجودة في لبنان "إذا اقتضى الأمر".

[بعد أشهر "اقتضى الأمر" أكثر مما توقّع أحد، وسالت دماء كثيرة!]

 

6
اتخذت الشرطة إجراء احتياطيا، حتى لا يحدث أيّ احتكاك، بين السجناء وغولدمان، وطلبت من كلّ سجين ينهي تناول طعامه، الخروج وحده، مُسرِعا، ثم يتبعه آخر. وعندما خرجت حاملا كأسي، اختلست نظرات باتجاهه: كان مطأطئا رأسه وشعره الطويل ينساب إلى الأسفل، وأمامه يقف رجال الشرطة.

عندما تجمعنا في الغرفة، ذرعتها مع أبي العز، ونحن نفكر في ماذا سنفعل. كان علينا أن نفعل شيئا. ها هو الإرهابي معنا، في يدنا، وبخطة محكمة سننال منه. هكذا كنا نفكر متحمّسين، ونتخيّل ماذا ستكون ردة فعل مواطنينا في الخارج، إذا تمكنّا من إنهاء حياة من كان حديث الساعة آنذاك. لا شكّ في أنه عمل سيهزّ العالم.

بحث الأمر مع آخرين في زوايا الغرفة المختلفة، ونحن نحاول ألا نظهر أننا نخطّط لأمر ما، رغم معرفتنا أن باقي السجناء ينتظرون ردّة فعل منا على ما حدث ويحدث في الخارج، مع اندلاع الهبّة الجماهيرية، انتصاراً للقدس والأقصى. نوقش الأمر من جوانب مختلفة، وعادة ما يتمّ في مثل هذه الحالات تكليف معتقل يحمل تهما ثقيلة وينتظره حكمٌ قاس بالاضطلاع بالمهمة. وفي السجون المركزية، عندما يعدمون عميلا مثلا، يفعل ذلك أسرى متخصصون، ويتمّ وضع جثة العميل في وسط الغرفة، وفي أول دورة لشرطة السجن لعدّ السجناء، المعروف بلغة السجن باسم (التمام)، يتقدّم الأسير المحكوم بالمؤبد أو بعدّة مؤبدات، ويُسَلِّم نفسه للشرطة، معلنا انه يتحمّل مسؤولية مقتل العميل، رغم أنه قد لا يكون فعل ذلك عمليا.

بالنسبة لوضعنا في المسكوبية، كان الأمر أكثر تعقيدا: أنا تنتهي فترة توقيفي بعد ثلاثة أيام، أمّا (أبو العز)، فكان متوقعا أن يحكم عليه ما بين 3 إلى 5 سنوات، والمؤهل في مثل حالتنا لتبني عمل يقتل فيه غولدمان هو جورج، لكنّه كان ابعد شخص يمكن أن يشاركنا هذا العمل. حتى المشاورات التي أجريناها، وكان يعلم بها، لم يشارك فيها. لا شك أنه يلعن في نفسه الصدفة التي قذفت به إلى السجن سياسيا دون أن يقصد، بعد أن طلّق السياسة، وحالته النفسية جراء هذه الصدفة كانت مقلقة وتجعله متبرّما من كل شيء.

السجناء الجدد أغلبيتهم غير مسيّسين أو تابعين لتنظيمات محلية، ولا يملكون إلا العواطف الوطنية، ولم نكن نعلم، إلى أيّ مدى يمكن أن يشكل وضعهم في الصورة خرقا أمنيا من قِبلنا، فنحن لم نكن على معرفة وثيقة أو غير وثيقة بالسجناء الجدد، ولا نعرف إذا كانت الشرطة زجّت بينهم عملاء للتجسس على الأسرى.

بعد أن قَلَّبْنا جوانب الموضوع المختلفة، لم نُحدّد من سينفّذ المهمة، لكن ملامح الخطة اتضحت أمامنا، بعد أن أنهكنا جوانبها بحثا: في الصباح، عندما نتوجه إلى قاعة الطعام، نبدي انضباطا شديدا عندما نمر من أمام زنزانة التوقيف المحتجز فيها غولدمان وحيدا، ونرصد عدد رجال الشرطة الذين يقفون أمام الزنزانة، الذين قدّرنا أنهم سيكونون أقلّ عددا عن اليوم، لأن الإجراءات تكون في العادة أكثر تشددا في السجن خلال الفترة الأولى. وبعد الإفطار، وأثناء العودة، نكون جميعا نحمل الشاي الساخن في كؤوسنا، ويتقدم السائرون في أول الطابور بانتظام ودون إثارة أية ريبة، في حين أن ثلاثة أو أكثر في آخر الطابور، وهم داخل المطبخ، يفتعلون جلبة فيما بينهم، فيتدخل رجال الشرطة، ويلفت ذلك انتباه أفراد الشرطة أمام زنزانة غولدمان، وربما يتوجه بعضهم إلى المطبخ، وربما لا، لكن انتباههم سيتشتت ولو للحظات، تتمّ خلالها، مهاجمة غولدمان ورشقه بالشاي الساخن، ما يفقده توازنه، فيسهل ذلك الإمساك به وتثبيته في القضبان وقتله بتوجيه ضربات متتالية على رأسه، مع خنقه بشدّ رقبته على القضبان الحديدية.

لم يفكر أحد بحظّ الخطة من النجاح، خصوصا في تحقيق هدفها، وهو قتل غولدمان، لكنّ المعنويات المرتفعة والحماسة كانت تغطي على الاحتمالات السيئة.

في تلك الليلة، وبينما سادت المشاعر المتضاربة لدينا بين الحماسة والترقب والتوتر والانتظار، ودون أن نتوقع، فُتِحَ باب غرفة السجن، ووقف شرطي يحمل ورقة فيها قائمة أسماء، وبجانبه وحوله وقف عدد آخر من زملائه، مدججين بالسلاح والهراوات، وأخذ ينادي على أسماء أسرى يطلب منهم الوقوف أمامه، ونادى على اسمي.

قادنا رجال الشرطة أمامهم، إلى الساحة، ومنها أخرجونا إلى الرّواق المؤدي إلى قاعة الطعام وغرفة 12 والغرف المجاورة لها، وبدأت أعصابي تخونني، وأنا لا أعرف إلى أين نتجه، وكان الأمر أصعب مما أحتمل عندما فُتِحَ قسم الزنازين، وسلمنا، أنا وزملائي، لشرطة الزنازين.

هل هو تحقيق جديد؟ هل تسرّب نبأ الخطة إليهم بهذه السرعة؟ وأسئلة أخرى عديدة، أخذت تتناطح في مخيلتي.

 

7
العودة إلى الزنازين بعد الخروج منها، أمرٌ  قاسٍ جدا. يبدأ الأسير استعداده لمواجهة ما هو مُقبلٍ عليه، مِن عزل وشبح وضرب وضغط، ويأخذ في حصر القضايا التي يمكن أن تشكّل مدار التحقيق معه. لدى مرورنا في ساحة الزنازين، لحظت بطرف عيني، الأسرى المشبوحين، فسرت رعدة في جسدي، ووطّنت النفس على تقبل الأصعب. دفعنا رجال الشرطة أمامهم، وبدأنا النزول إلى سرداب تحت الأرض، فتنبّه أحدهم فجأة، وأوقفنا، وأخرج من جيوبه عصابات، أغمض بها عيوننا. بعد دقائق قليلة أُجبرت على التوقف، وسمعت صرير مفتاح، وباب يُشرع. رُميت داخلا، وطلب مني نزع العصبة عن عيني.

لم أحتج إلى وقت طويل لأعرف أين أنا: هذه الزنزانة تختلف عن باقي الزنازين. أدركت أنها تلك التي تسمى من قبل الأسرى، مع زنزانة مجاورة لها: زنزانتا المنفى. في هذه الزنزانة، لا يمكن أن تعرف الوقت نهارا أم ليلا، فهي مغلقة إلا من فتحة صغيرة في السقف، ولا يوجد فيها إلا جردل لقضاء الحاجة، ويتمّ عادة وضع الأسرى الذين يخضعون لتحقيق قاسٍ فيها، خصوصا في الأيام الأولى للتحقيق.

كُنت أدرك أنه لا يوجد ما يستوجب وضعي في هذه الزنزانة، وهو لم يحدث في فترة التحقيق السابقة القاسية معي، ما أثار قلقي. لم يكن في الزنزانة أيّ شيء يمكن الاستلقاء عليه، سوى بُرشٍ متآكل. خلعت الحذاء ووضعته تحت رأسي، وتمدّدت على البرش، شاعراً بأرضية الزنزانة الباردة الجافة، أرتعد من البرد. ولم أتمكّن من التمدّد إلا دقائق معدودة، فالبرد توغل في العظام. وقفت، ثم قصدت زاوية الزنزانة القصيّة. جلست مُقرفصا، ضامّا رجليّ إلى صدري، بواسطة يديّ، علني اكتسب شيئا من الدفء.

غدا سيكون يومي السادس عشر في السجن، ولم يبق على توقيفي إلا يومان، فإما أن يفرجوا عني، أو يمددوا التوقيف، إذا كان لديهم جديد يحققون فيه. سأحتمل ما تبقى في هذه الزنزانة، وربما ينقلونني منها، إلى الزنازين الأخرى، وهي أفضل حالا، وسيمرّ الوقت سريعا، وإذا بدأوا تحقيقا جديدا معي، فأنا أيضا سأكون مستعدّا، ولكن ماذا سيحققون؟ جهدت طوال الساعات اللاحقة وأنا مقرفص، أو ناهض أذرع الزنزانة، أن أقنع نفسي، بأن زجي في هذه الزنزانة هو مجرد إجراء احترازي فقط.

الضوء الأصفر الباهت، في الزنزانة، الذي لا يطفأ أبدا، يعمي العيون، ويساهم في عدم معرفة الوقت. بدأت أُقدّر أن الفجر سيبزغ بعد قليل، ولكن ما أهمية ذلك بالنسبة لي، أنا القلق الذي تتصارع الأفكار في رأسه، وبعدما كان يعلم أنه سيخرج من رطوبة السجن وبرده، إلى غرفته في المخيم، رغم عيوبها الكثيرة، تعقّدت الأمور معه فجأة، بدخول غولدمان على الخطّ، والمجيء به معتقلا في المسكوبية.

ما دام النوم لا يأتي بسهولة، أخذت أفكر في تمضية الوقت، ونسيان اللحظة التي أعيشها، وبدأت أبحث عن أيّ شيء في الزنزانة، لكي أنقش به على جدرانها، مثلما فعل من سبقوني، من معتقلين. عثرت على حجر صغير، لم يكن مهيئا لأحفر به على الجدران الناتئة، ما جعلني أبدأ في تجهيزه، وجعل أحد جوانبه حادا. أثار ذلك ارتياحي، لأنه سيأخذ مني مجهودا ووقتا، وكنت بحاجة إلى ذلك، حتى أشغل نفسي بأي شيء يمكن أن ينسيني البرد، والأفكار المتلاطمة داخل رأسي.

 

8
في الخارج، غزة اشتعلت يوم 13/4!  سقط الطفل سهيل غبن (7 سنوات)، من معسكر جباليا، شهيدا، وجرح أكثر من خمسين، عندما فَتح جنود الاحتلال نِيران أسلحتهم على مظاهرة ضخمة شارك فيها أهالي جباليا والنصيرات. وامتدّت موجة الغضب إلى أنحاء غزة كافة، ووصفت مصادر إسرائيلية ما حدث بأنه لا مثيل له منذ الاحتلال عام 1967، وفرضت قوات الاحتلال حظر التجوال على رفح. واستمرت التظاهرات طوال اليوم، وعقد مؤتمر شعبي في الجامعة الإسلامية، حضره نحو ألف شخص، تدارس فيه الحضور الاعتداء على الأقصى، ومنعت قوات الاحتلال التي طوقت مكان المؤتمر، المؤتمرين من تنظيم مسيرة سلمية. واعتصمت سيدات غزة، في مقرّ جمعية الصليب الأحمر الدولي، من الساعة الثامنة والنصف إلى الحادية عشرة، ثم انتظمن في مسيرة صامتة جابت شارع عمر المختار، متوجّهات إلى مؤتمر الجامعة الإسلامية، لكنّ الطوق العسكري حال دون انضمامهن.

دم الجرحى الذي سال في غزة، أثار قلقا في الضفة الغربية، واتصل مصطفى عبد النبي النتشة رئيس بلدية الخليل بالوكالة، بالمسؤولين في جمعية الهلال الأحمر في الخليل، وبرشاد الشوا رئيس بلدية غزة، وبالمسؤولين في جمعية الهلال الأحمر بغزة، لبحث إرسال أطباء وسيارات إسعاف ومواد طبية، وكميات من الدماء المجمّدة لـ "نجدة الإخوة الجرحى في حوادث القطاع".

والقدس أضربت لليوم الثالث على التوالي، وشهدت عدة تظاهرات. في الحادية عشرة والنصف قبل الظهر، تظاهر نحو 300، وساروا من البلدة القديمة، إلى خارج الأسوار، واشتبكوا مع الجيش الإسرائيلي قرب المتحف الفلسطيني. قمع الإسرائيليون التظاهرة بعنف، وأصابوا عددا من المتظاهرين، أحدهم أصيب بارتجاج في المخ، واعتقلوا 35، زجّ بهم في المسكوبية، وفي محكمتها مَثَلَ 29 شابا مقدسيا بتهمة التظاهر ورشق الحجارة وزجاجات المولوتوف، كانوا محتجزين معنا ومنهم: عماد حافظ غوشة، وعادل أحمد دعسان، وأحمد محمد النوري، وخالد يحيى الكرد، وخليل الحلبية، ومحمود ديب، وريتشارد زنانيري، وعباس كمال نويران، وماجد عطا جودة، وجميل بدوي الرجبي، وخليل أبو غنام. وفي ساعات العصر، تظاهر شبان القدس، في باب الأسباط، وأحرقوا الإطارات، ورشقوا السيارات الإسرائيلية بالحجارة. المصادر الإسرائيلية أعلنت إصابة إسرائيلي بجراح طفيفة، واعتقل عدد من الغاضبين المقدسيين، وعقد الشيخ سعد الدين العلمي، مؤتمرا صحافيا قال فيه: "لدينا أدلة قاطعة على أن مجموعة من المسلحين اليهود شاركت في تنفيذ الاعتداء على الحرم الشريف، لا مسلح واحد فقط". وشهد الشيخ محمد سعيد الجمل، رئيس ديوان المحكمة الشرعية، أنه رأى بأم عينيه مسلّحين، يطلقون النار نحو قبة الصخرة، ونوافذها الزجاجية، بقصد التخريب، ورآهم يطلقون الرصاص على المواطنين الذين حاولوا دخول المسجد عند عملية الاقتحام. وذكر أنور نسيبة، رئيس مجلس إدارة شركة كهرباء محافظة القدس، أن التحقيق الذي أجراه خبراء المجلس الإسلامي الأعلى، يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي، استخدم أنواعا من قنابل الغاز المحرّمة دوليا.

في الخليل، قمع الجيش الإسرائيلي تظاهرات عدة، وحطّم أقفال المتاجر، بمعدّات الأكسجين، لكسر الإضراب الشامل، إلا أن أصحاب المحلات، ركّبوا أقفالا جديدة، واستمرّوا في الإضراب. وفي حلحول، نفذ جيش الاحتلال، حملة اعتقالات واسعة، بعد دهم منازل المواطنين وتحطيمها، والاعتداء عليهم، وشارك المستوطنون في الاعتداء على المدينة، التي فرض عليها حظر التجوال. وفي الظاهرية، استمر حظر التجوال لليوم الثاني على التوالي، ونفذت حملة اعتقالات واسعة، وظلت صوريف، معزولة عن العالم، مع استمرار الإضراب الشامل، وإغلاق منافذ البلدة.

في بيت لحم، استمرّ الإضراب، رغم فتح المحلات بالقوة من الجيش الإسرائيلي، الذي أجبر ركّاب السيارات على النزول منها، وتنظيف الشوارع من بقايا أيام الغضب. واستمرّ الإضراب في بيت جالا، وبيت ساحور، والخضر، واستمرّ حصار مخيم الدهيشة، وفرض حظر التجوال على سكانه.

في نابلس، واصل جبل النار التحدّي، واستمرّ الإضراب، رغم تحطيم أقفال المحلات، وتصدّت قوات الاحتلال لتظاهرات عديدة في البلدة القديمة، وأصيب عديد من الجرحى، وأُعيد إلى مستشفى رفيديا الجريح أسامة مدحت عديلي (17 سنة)، الذي كان نقل إلى مستشفى تل هشومير، قبل أيام، بعد إصابته بنزيف حاد في رأسه، نتيجة تعرّضه للضرب المبرّح، ونصبت قوات الاحتلال الحواجز في الطرق المؤدية إلى جامعة النجاح، لليوم الثاني على التوالي، ومنعت الطلبة من التوجه إلى الجامعة، واعتقلت 25 منهم. واستمرّ حصار مخيم بلاطة، لليوم الثالث على التوالي، وجمع جيش الاحتلال الرجال والأطفال من سن 10-70 عاما، في ساحات المخيم، للتحقيق والتنكيل بهم. وفي طوباس، وفي جنين، وفي طولكرم، وفي رام الله، استمرّ الإضراب والتظاهرات، والإصابات، وتحدّي الاحتلال الذي حاول كسر الإضراب بفتح المحلات عنوة.

في نيويورك، اجتمع مجلس الأمن الدولي، ليبحث الاعتداء على الحرم القدسيّ، بطلب من المغرب ومجموعة من الدول المستقلة. واعتبر الدكتور كلوفيس مقصود، مراقب الجامعة العربية في الأمم المتحدة، أن الاعتداء "ينبع من عقيدة إسرائيل الكامنة في احتقار السكّان العرب"، وسخر من كون المعتدي "مجنونا".

في باريس، أدانت محافل دينية يهودية الاعتداء على الحرم القدسي، واجتمع إبراهيم الصوص، ممثل منظمة التحرير في فرنسا، مع رئيس بلدية غرينوبل، ووصف الاعتداء بأنه انتهاك لحرمة الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.

في غور الأردن، اجتاز فدائيان الحدود، شمال مستوطنة ارجمان، والقيا قنبلة باتجاه دورية إسرائيلية، وتمكنا من الانسحاب. وفي إسرائيل، أبلغ بيغن وفدا من حيروت: هناك مجال لإعادة النظر في مسالة الانسحاب من سيناء؛ أما شارون فقال للجنة برلمانية: إسرائيل قد تعيد النظر في مسالة علاقاتها مع مصر. و.. صحيفة دافار قالت إن إسرائيل تعتزم بناء20 مستوطنة في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر. وفي الصحف الفلسطينية، استمرت إعلانات الاستنكار، وبيانات نعي الشهداء التي أضيف إليها اسم، شهيد جباليا الطفل. وفي جنوب لبنان ساد الهدوء، وكتب مراسلو الصحف الأجنبية أن "إسرائيل أرجأت هجومها المتوقع في هذه المرحلة".

[لم يكن أطفال صبرا وشاتيلا يعلمون بما يُدَبر لهم!]

 

9
بعد فترة لا يعرف طولها الزمني أبدا، فُتِحَ باب الزنزانة، ليزجّ بها ضيف جديد: رجل يدور عمره حول الستين، أبيض الشعر، يميل وجهه إلى الاصفرار، ما يشير إلى الفترة الطويلة التي مكثها في الزنازين. تعارفنا سريعا، ورغم أنه بدا متعبا، لأنه أتى من جولة تحقيق قاسية، إلا أنه كان فرحا بلقائه بمعتقل أخر، وكانت سعادته أكبر عندما عرف هويتي وأنني قد أخرج قريبا، لِيُحمّلني رسائل شفهية إلى عائلته.

اسمه أبو عوض، وهو من العشائر البدوية، التي تقطن في برّية القدس، وتعرّضت منذ بدء الاحتلال، لعمليات تهجير منظّمة لزرع مستوطنات يهودية، وقُدر له أن يكون شاهدا على ملحمة العصف بالمكان الفلسطيني، واستحداث جغرافية جديدة بقوة الحديد والنار، والفكر التوراتي. ينتمي أبو عوض إلى مجموعة سكانية فلسطينية فريدة، قاومت الاحتلال بطريقتها، من خِيامها ومَضاربها، دون أن تكون لديها مقومات كثيرة تساعدها على الصمود، ولم تتنبه إليها فصائل العمل الوطني الفلسطيني لتأطيرها سياسيا، وبقيت على هامش المجتمع الفلسطيني، مجموعات تصغر أو تكبر، تحافظ منذ آلاف السنين على الوجود الفلسطيني، فتَمُرّ الجيوش الغازية والفاتحة مخترقة وجودها، تقتل ما تقدر عليه من هذه المجموعات، ومَن يبقى منها يُواصل ري نسغ التاريخ والعادات والحياة المتواصل على هذه الأرض، وفي حين يرفد الغزاة والفاتحون المجتمع والكيانات السياسية بالنخب الدينية، والسياسية، والثقافية، تبقى المجموعات البرية هامشية، تأخذ من كل فاتح جديد ما يناسبها من هويته، وتضيفها إلى الهوية التي تحافظ عليها، ولا يتمّ ذلك إلا بدفعها في كل مرة، من المرات الكثيرة، مزيداً من الدماء والدّموع، وكأنها في معاندة لا تتوقف مع القدر، تصنع قدرها الخاصّ في تلك البرية، التي تعددت أسماؤها: برية عبر الأردن، صحراء يهودا، صحراء البحر الميت. هذه البرية، التي قدمت للبشرية أهم ملاحمها الدينية المكتوبة.

عندما قابلت أبا عوض، كان وأمثاله من البريين، يعيشون فصلاً بالغ التعقيد، مع غزوة صهيونية، بدأت قبل إسرائيل، بتسيير الرّحلات إلى مضاربهم في البراري والصحاري، باعتبار البريين أحفاد بني إسرائيل القدامى، الذين حافظوا على الوجود اليهودي في الأرض المقدسة، وتعريف المهاجرين الجدد إلى فلسطين بعادات هؤلاء، ومقارنتها بما ورد في الكتاب المقدس. لكن الأمر لم يطل كثيرا، عندما حَمَل البرّيون السلاح، مثل باقي مواطنيهم، وخاضوا الثورات المتعاقبة، ولم تنته القصة بتشريدهم من مضاربهم الأولى عام 1948، وملاحقتهم بعد عام 1967، إلى حيث استقرّ كثير منهم قريبا من البحر الميت ونهر الأردن، وهذه المرة لاقتلاعهم وبناء مستوطنات يهودية.

أعلمني أبو عوض، بآخر إخبار ساحة الشبح وغرف التحقيق، وحدّثني عن مجموعة جديدة تخضع للتعذيب والضرب العشوائي، واستطعنا معا أن نُقَدِر، أنها من الشباب الذين أخرجوا معي من غرفتنا، عزز ذلك ما قاله أبو عوض عن ذلك الذي يتحدى شرطة السجن وهو مشبوح في الساحة، ولا يكفّ عن الصراخ والمماحكة ذاكرا اسمه الذي لم يحفظ منه أبو عوض إلا صفة النوري.

قلت: هو إذن أمون النوري إذن. وحدثته عن حماسته وحِسّه الفكاهي، واستنتجنا أن الضرب الذي يتعرّض له أمون وزملاؤه لم يكن المقصود منه الحصول على معلومات، بل كسر شوكة غير المسيّسين وغير المنتمين إلى فصائل وأحزاب، وتلقينهم "درسا مُرّا".

أخبرني أبو عوض أنه مضى عليه أكثر من 30 يوما في التحقيق، وروى عن أساليب تعذيب وحشية مورست ضده، بسبب بندقية قديمة تعود إلى العهد الأردني وجدها الإسرائيليون بحوزته، وتمحور التحقيق معه حول إذا كان يخفي أية أسلحة أخرى. ولم يريدوا أن يصدّقوا أبدا روايته، عن أنه عندما احتلّ الجيش الإسرائيليّ ما تبقّى من فلسطين عام 1967، أخفى بندقيته تحت الأرض، ولم يستخدمها أبدا. تلك البندقية بقيت له من ذكرى حرب حزيران، وكان مُجنّدا في الجيش الرسميّ، في معسكر أعلى وادي القلط، على طريق القدس- أريحا القديمة. وعندما بدأت الحرب، ومعها بدأ الطيران الإسرائيلي قصف معسكرات الجيش، أخذ ورفاقه يردّون على مصدر النيران، ببنادقهم القديمة، وذخيرتهم المتواضعة، ولكن بكثير من الحماسة. قال أبو عوض: أمضينا الشهور السابقة على الحرب، في أوضاع مزرية. الإجازات توقفت، والأكل أصبح شحيحا، والحياة العسكرية ازدادت صعوبة، وكنّا ننتظر ذلك اليوم. احتلّ الطيران الإسرائيلي الأجواء، وعندما تمكن أحدنا من إسقاط طائرة إسرائيلية بقذيفة، ورأينا اثنين من طياريها يسقطان قبالة وادي القلط، كان ذلك إشارة لنا على أننا سننتصر، بل إلى قناعتنا التي لم تتزحزح بالنصر، وتحرير ما فقدناه في العام 948ا. تطوّع أحد الشبان وركب دراجة نارية، وذهب لجلب الطيارين أسيرين. سبقته طائرة إسرائيلية وانتشلتهما.

لم يطل بِنا المقام في المعسكر، جاء من وبّخ كلّ من أطلق النار، وطلب مِن كل واحد فينا إحصاء ما أطلقه من رصاص، وتسجيله، حتى يحسم من رواتبنا، القليلة أصلا، وكانت الأوامر مشدّدة: لا إطلاق نار، وطلب منا أن نُجهّز أنفسنا، ونحمل ما تبقّى من ذخائر، وأن نصعد في شاحنات لنتجه إلى منطقة النبي يعقوب، شمال القدس، حيث أُعلمنا أن المعركة الحاسمة ستكون هناك. تشجع بعضنا وسأل: ماذا سنفعل إذا قصفنا الطيران الإسرائيلي؟ قيل لنا: عندما يحدث القصف، فان الشاحنات ستتوقف على جانبي الطريق، حتى يهدأ، لتجنب سقوط الأرواح المتوثبة للمعركة المقبلة، والمهم هو الوصول إلى النبي يعقوب. لم نستوعب هذا الشرح. كان الطيران الإسرائيلي يحوم حولنا، والشاحنات المتجهة إلى النبي يعقوب تزداد، والطيران الإسرائيلي يراقب ويضرب هنا وهناك. وفي منتصف الطريق، قصف الطيران الشاحنتين الأولى والأخيرة، وتعطلت القافلة، وفجأة بدت الجموع تهدر مقبلة مذعورة: مدنيون، ونساء، وأطفال، وشيوخ، وشباب، جموع تتجه نحو الشرق، وبدا وكأن الطائرات الإسرائيلية هي التي تحدّد اتجاه الطريق، ووتيرة السير، تقصف على الجانبين، وتقتل أعدادا محدودة، لإثارة الذعر، حتى وجدت نفسي مع غيري مِن زملائي، وسط هذه الجموع، نصل إلى بداية وادي القلط، عند عين فارة، وننزل الوادي الخطير، متجهين نحو أريحا، في حالة نزوح ثانية، بعد عام 1948، وهذه المرة باتجاه شرق الأردن.

كنت انظر إلى الوادي فلا أرى إلا رؤوس النازحين: بحر هائج من الرؤوس، عدد كبير لا يمكن إحصاؤه. كيف حدث هذا؟ لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة سببا. لماذا يجربون النزوح مرة أخرى؟ سؤال سيبقى بلا إجابة. كيف نترك الوطن مرة أخرى؟! حالة جنون سندفع ثمنها غاليا. أبديت استيائي مما يجري، وهو أمر بدا غريبا، في تلك اللحظات، والطيران الإسرائيلي، يواصل القصف المحدود، ويطمئنّ بطريقته على سير القافلة، أو قوافل الناس التي تنضمّ إلى النازحين، وسط الصراخ، وتعثّر المشي في الوادي، ونحيب من فقد عزيزا عليه، بكرات اللهب الإسرائيلية، فيضطر مع آخرين إلى حمله، أو التوقّف لتقرير مصير الجثة. قررت أنني لا يمكن بأي حال أو لأي سبب مغادرة أرضي. مئات السنين وأجدادي يجوبون صحراء البحر الميت، ولن أصبح لاجئا على آخر الزمن. وعندما وصلنا دير القلط، نظرت إلى أحد زملائي واسمه يعقوب جريس، وكنت أعرف موقفه الرافض للنزوح، وقلت له: لنتجه جنوبا من هنا، إلى منطقة النبي موسى، نخترق صحراء البحر الميت، أنا إلى ربعي، وأنت إلى بيت ساحور. كان يعقوب مُجَنَدا جديدا، مكلّفا بخدمة العلم، ومتحمّسا للحرب، ولم يكن يخطر بباله، أنه لن يقدّر له أبدا المشاركة في القتال، غير إطلاق النار في معسكر وادي القلط.

وافق يعقوب، وأبدى حماسة لتلك المغامرة، ولم نتمكّن من إقناع عدد أخر من زملائنا بالعودة معنا والبقاء وعدم النزوح إلى شرق الأردن. سرت ويعقوب وحدنا. طلبت منه التخلص من سلاحه، ووافق كارها، واحتفظت أنا ببندقيتي. مررنا على المعسكر الذي غادرناه قبل ساعات، بدا وكأنه مهجور منذ زمن بعيد، وقطعنا شارع القدس- أريحا، ودخلنا في الجزء الآخر من صحراء البحر الميت. كنا منهكين من التعب، والعطش، والجوع. عثرنا في طريقنا على قمح تركه أصحابه على بيدر، فأخذنا نفركه بأيدينا ونأكل منه، ليعيننا على السير، وقررنا المبيت في إحدى المغر، لنواصل المسير في صباح الغد، وعندما استيقظنا فجرا، كانت المغارة، تعجّ بالناس، معظمهم من الجنود المنسحبين، الذين تقطّعت بهم السبل، وقرّر قائدهم الانسحاب بهم إلى شرق الأردن، للالتحاق بالجيش، وجرى نقاش بيننا وبين القائد، الذي طلب مِني ومِن يعقوب الامتثال لأوامره، والسير معه نحو الشرق. قلت له: سنبقى هنا في أرضنا، ولن نصبح لاجئين. أجاب: إذا لم تأتيا معنا فسأقتلكما، كمخالفين للأوامر العسكرية. وفي هوجة النقاش، الذي شارك فيه آخرون، قصف الطيران الإسرائيلي المغارة، فتشتت الموجودون، واتجهت مع يعقوب إلى الجنوب الغربي، بينما سار القائد مع ما تبقى من جنوده نحو الشرق. [وفيما بعد قُدر لي أن التقي هذا القائد في عمّان مصادفة، وأبدى اعتذاره عما بدر منه، وقال لي: كنت حكيما لأنك خالفت أوامري، كم كنت واهما! الحروب لا تدار هكذا].

وعشت أنا ليمسكوا ببندقيتي، ولأعتقل في القدس التي كنت شاهدا على ضياعها، ولا أعرف من هو الجاسوس الذي وشى ببندقيتي المخبأة تحت الأرض.

عندما كان أبو عوض يتحدث، أدركت بسرعة صفته كراو ماهر، وهي صفة مهمّة في السجون، وفي الزنازين خصوصا، وأكثر أهمية في الزنازين الانفرادية، ولا أعرف كيف تخيلت المشاهد التي جعلها أبو عوض، خلفية لروايته، وكأنها إعادة استنساخ لرواية العهد القديم، عن أريحا وأسوارها التي تتحطّم دون رحمة، على يد يوشع بن نون، بعد أن تلقّى معلومات من رحاب العاهرة، خائنة قومها.

بعد أن دهمنا الإرهاق، تناوبنا أنا وأبو عوض، النوم على برش الزنزانة الوحيد، وعندما صحوت وجدته مقرفصا قرب الباب، يحاول إخفاء ارتعاده من البرد، بعد أن تخلّى عن قميصه ووضعه عليّ وأنا نائم، أو شبه نائم. طفرت دمعة من عيني جهدت في إخفائها.

 

10
تسلينا كثيرا في محاولة معرفة الوقت الذي يَمُرّ ونحن في الزنزانة المقبرة، التي بدت خارج الزمان والمكان. كان أحد أساليبنا في تحديد الوقت، هو مواعيد وجبات الطعام التي تُقَدَمْ لنا، مع أنها في الزنازين لا تقدم بانتظام، أو في أوقات محدّدة، كما هو الحال في غرف السجن، ما يجعل أيّ تحديد للوقت تقريبيا.

قَدْرّنا أن اليوم هو 14/4: كانت الانتفاضة في الخارج تتصاعد. الضفة الغربية وقطاع غزة في حالة إضراب لليوم الثالث، والقدس لليوم الرابع، والدول العربية، باستثناء الجزائر، تشهد إضرابًا شاملاً. شوارع الضفة وغزة تحولت إلى ساحات لمواجهة قوات الاحتلال. في سعير سقط عشرات الجرحى، جراح بعضهم خطيرة، وفرضت قوات الاحتلال حظر التجوال على القرية، وشنّت حملة اعتقالات، ولجأ كثيرون إلى الجبال، واستمرّ حظر التجوال على حَلّحُول، ورفح، والظاهرية، ومخيمات: الجلزون، وبلاطة، وجباليا، والنصيرات.

في غزة، اقتحمت قوات الاحتلال مستشفى الشفاء، واعتدت على الزوّار والجرحى، ومنعت رشاد الشوا وأعضاء المجلس البلديّ، من زيارة الجرحى، وعندما اعترض الدكتور محمود الزّهار، رئيس الجمعية الطبية على تصرفات الجنود، تعرّض للضرب. وأضرب الموظفون العرب في وكالة الغوث، وتظاهر الناس في دير البلح، وخان يونس، ومعسكرات اللاجئين، ورشقوا سيارات الاحتلال بالحجارة.

المسكوبية مزدحمة بالمعتقلين، تم تقديم 30 شاباً للمحاكمة بتهمة المشاركة في الأحداث الأخيرة، وقبل يومين تم توقيف 29 شابا لمدة أسبوعين، ولم نكن ندري، ونحن في زنزانتنا المعزولة أيّ شيء عنهم.

وتوالت الاستنكارات مِن: المجلس الرّعوي لطائفة اللاتين بالقدس، ولجنة وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية بغزة، والجمعيات النسائية والنقابات والكليات والمعاهد التعليمية، وغيرها.

وأضربت الدول العربية والإسلامية، استجابة لنداء العاهل السعودي، إلا أن الجزائر امتنعت واكتفت بالإضراب لمدة 15 دقيقة. في هذه الدول توقفت الملاحة الجوية في المطارات لمدة 12 ساعة، وأُغلقت الدوائر الرسمية، والمؤسسات العامة والخاصة، وانقطعت الاتصالات الهاتفية مع العالم الخارجي. 

وتعليقاً على الإضراب كتبت صحيفة القدس، ممارسة تقليدا فلسطينيا نحو المواقف العربية: "وهكذا أعلنتم الإضراب أيّها الأشقاء، من المحيط إلى الخليج، فشكراً لكم من أعماق قلوبنا لأنكم أديتم الواجب (فكفيتم ووفيتم)!".، ورغم ما يفهم من عدم اقتناع الصحيفة بالإضراب كوسيلة كافية، إلا أنها عَبَرت عن أسفها من موقف الجزائر لأنها "لم تشارك العرب استنكارهم".

البابا يوحنا بولس الثاني قال: "دواعي القلق تتزايد إثر الاضطرابات الأليمة في المدينة المقدسة، بعد العمل المزعج الذي وقع في المسجد الأقصى وأسفر عن وقوع ضحايا أبرياء وتسبب في حوادث أخرى محزنة".

وفي عَمّان، أعلن رؤساء الطوائف المسيحية في الأردن عن إلغائهم احتفالات عيد الفصح المجيد، تضامنا مع أهالي الأرض المحتلة، وكنت أعرف كم هي مهمة الاحتفالات الشعبية بعيد الفصح، على الأقل في فلسطين، فهو العيد الكبير الذي يأتي في سياق شهر كله أعياد تعود على الأرجح، إلى عهود تعدد الآلهة الوثنية، ويٌطلق عليه شهر (الخميس) أو شهر (الخمسيات)، يبدأ بـ (خميس البيض)، حيث تعمد الفلسطينيات المسلمات والمسيحيات إلى صَبغ بيض الدجاج، بطرق بدائية وبمواد متوافرة في الطبيعة، مِثل قشر البصل والأعشاب الخضراء، أو زخرفته، ليوزع على الأحباب والجيران؛ وخميس أخر للحيوانات: تحية للأبقار والأغنام وحليبها؛ وخميس الفتيات، أو عيد النيروز. وكانت الفتيات خلاله يذهبن في الليل، أو عند الفجر إلى حقول الحنطة النامية، وإلى الجبال لجمع الورود البرية كشقائق النعمان، ووضعها في الماء، لغسل شعورهن وأجسادهن، ولكي "يستحممن بالندى"، وهو تعبير مجازي، حيث تذهب النساء مبكراً في هذا الشهر الربيعيّ، وتكون رطوبة الندى عابقة في الأجواء، فتلتصق بالأجسام؛ و"في شهر الخميس الصبية بتملي القميص"، كما كان أجدادنا يقولون.

وهو لم يكن شهر الخميس فقط، إذ يسمّونه أيضا (شهر الجمعات)، ففي كلّ يوم جمعة مناسبة: هناك (جمعة الحزانى) للنساء الوحيدات كالأرامل والعجائز واليتيمات والعازبات، و(جمعة الأموات)؛ وهو شهر المواسم التي سنّها صلاح الدين الأيوبي مثل موسم (النبي موسى) في برية القدس، وموسم (النبي روبين) قرب يافا، وموسم (النبي صالح) قرب الرملة، وموسم (المنطار)، وكانت بمثابة استنفار شعبي للرجال والنساء في المناطق الفلسطينية الرئيسية، تحسّباً لأي غزو صليبي محتمل، استغلالاً لأعياد الفصح.

وتقرّر قصر احتفالات الفصح، على الشعائر الدينية، ما يعني إلغاء المسيرات الكُرنفالية، خصوصا في سبت النور، عندما يخرج النور المقدس من كنيسة القيامة، إلى المدن والقرى الفلسطينية المختلفة. ولن تُنظّم المسيرات وعروض الرقص بالسيوف، ولن تُردّد الأهازيج العديدة، وهي مِن تراث يمتدّ إلى قرون، يُحَمّل اليهود دم المسيح، ويكتسب ذلك معنىً خاصاً بسبب الاحتلال الإسرائيلي. لن يردد الشبان في رام الله، وبيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا، والطيبة، وأريحا، وعابود، وغيرها:

"سبت النور وعيّدنا / عيدنا عيد سيدنــا / سيدنا عيسى المسيح / والمسـيح فـادانـا / بــدمـــه اشتــرانا / وإحنا اليوم فراحا / واليهود حزانى". ولن يهتف المشاركون في زفة النور، تتقدّمهم الفرق الكشفية، بحماسة، وبصوت مرتفع، ليسمعوا أصواتهم لجنود الاحتلال "يا يهود يا يهود / عيدكم عيد القرود / وعيدنا عيد المسيح".

مجلس الأمن استأنف مناقشاته، بعد الجلسة الأولى التي تحدّث فيها حازم نسيبة مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة، ومهدي مراني مندوب المغرب الذي قرأ رسالة باسم العاهل المغربي. و29 بعثة دبلوماسية في واشنطن أغلقت مقار بعثاتها تضامنا مع الفلسطينيين، ومسلمو الاتحاد السوفيتي أدانوا الاعتداء، وأعلنت الحكومة الفرنسية أنها تتابع بقلق بالغ ما يجري، وأنها تأثرت من الأحداث، وتوقف العمل في البعثات الدبلوماسية العربية بباريس. وأعرب الرئيس الأميركي ريغن عن أسفه لأن "أحد الأشخاص غير المتّزنين، قد سبب اضطرابات وأعمالا مخلة بالنظام في الضفة والقطاع". وعشية زيارة شارون للقاهرة، أكدت مصر تمسكها بكل شِبرٍ من أراضيها، وأنها لن تسمح بالتلاعب بحدودها كما حددتها اتفاقية 1906، بين مصر والحكومة العثمانية.

القادة السوفييت بعثوا لعرفات رسالة بشأن جنوب لبنان المتوتر، بينما أكدت صحيفة أزفستيا أن إسرائيل تستعد لهجوم واسع.

ولم يأخذ أحد الأمر بالجدية المطلوبة!

 

مَطَر القدس

1
لا أعرف كم هي المدة التي أمضيتها مع أبي عوض أسمع حكاياته البرية وأغانيه البدوية ومواويله عن الوطن والحبّ والشجاعة، عندما فَتَحَ شرطي باب الزنزانة، ونادى على اسمي، وما إن اقتربت من باب الزنزانة، حتى شدّني من شعري ودفعني أمامه. بعد عدة خطوات طلب مني الوقوف وكأنّه تذكر شيئا، ووضع عصبة على عيني، وأخذ يدفعني مِن الخلف. وعندما أمرني بالتوقف، وأنا أعاني من أثار لكزاته على ظهري، أزال العصبة، ووجدت في ذلك مناسبة كي أقتنص أية فرصة لمعرفة أين أنا، واستطعت أن أميّز من مكاني في إحدى زوايا ساحة الزنازين، عددا من المعتقلين المشبوحين، ورؤوسهم مغطاة بأكياس الخيش.

كان آخر ما أتمناه هو العودة إلى الشبح. ووسط ذهولي وجزعي، امسك الشرطيّ بيدي وثبتهما أسفل ظهري، وقيدهما بقيود بلاستيكية، قاصدا أن تكون ضيقة جدا على الرسغين، ثم وضع كيس الخيش برائحته النتنة على رأسي. وها أنا أعود من جديد إلى العذاب الذي لا يُحتمل. وبدأ الوقت يمضي بطيئا جدا، ومعه يزداد الشعور بالبَرد والتعب والاختناق.

حاولت أن أُهَوِّن على نفسي، وأن أستعد لمواجهة جديدة فُرِضَت علي. صحيح أنني أعود إلى الشبح من جديد، وأشعر بالبرد، لكن لا يوجد ثلج مثل المرة الأولى، وإذا كنت استطعت تحمل تساقط الثلج على رأسي، فأنا بالتأكيد سأحتمل الوضع الجديد.

حاولت التغلّب على إرهاق الشبح، بالارتكاز على رِجل، والوقوف على رِجل أخرى، وأصبحت أكرّر ذلك باستمرار. وعندما لم ينهرني أحدٌ قدّرت أنه لا يوجد شرطي في المكان، فتحليت بشجاعة دبت فجأة، وأخذت أتحرّك بضعة سنتيمترات، ثم أعود مكاني، وبينما كنت أمارس رياضتي الجديدة للتغلب على وضعي الصعب، فوجئت بجلبة قدّرت أنّها صادرة عن مجموعة من رِجال الشرطة، يقتربون مني، ولم أعِ إلا على أيد كثيرة تنزل على كتفي وظهري وتدفعني أمامها.

عرفت أنهم يتجهون بيّ إلى مكاتب التحقيق، لكن المفاجأة، أن الجالس في الغرفة، لم يكن من المحققين، بل كريم ضابط الشاباك الذي اعتقلني، والذي طلب مني أن أظلّ واقفا أمامه، بعد أن نزع عن رأسي كيس الخيش، وخاطبني بملل: لا تريد أن تحكي القصة، أنت حرّ، فنحن لسنا بحاجة إلى حكيك لكي نعرف عنك وعن تنظيمك. لدينا هناك في القيادة مَن يُخبرنا بكلّ شيء، وأولا بأول، عنك وعن أنطون..

وصمت لحظات ليرى أية انفعالات على وجهي لذكره اسم أنطون: أنتم حتى الآن لا تخيفوننا، نحن أكبر من حجارتكم والشعارات التي تدهنوها على الجدران. أنصحك بالاهتمام بدروسك، فهو أفضل لك ولنا، لأننا لن نرحمك في المرة المقبلة.

وبحركة بدت تمثيلية، ضغط كريم على زرّ جرس أمامه ونظر إليّ قائلا: سترى الآن صديقا لك، نستضيفه هنا لتعرف أن اليهود أنجاس لا ينامون ولا يجعلون غيرهم ينامون!

فتح الباب، ودخل منه شرطيّ يجرّ أمامه معتقلا يحاول أن يتماسك، بدت عليه آثار العنف، ولم يكن سوى أنطون، الذي علمت فيما بعد أنه كان أحد المشاركين بفعالية في الهبّة التي تلت اقتحام الأقصى. نظر إليّ بنظرة تؤكد أنه ما زال متماسكا، وبادلته النظرة نفسها، فيما قال كريم: أنتما لا تعرفان بعضكما! حسنا. لا يهمّني ماذا ستقولان؟

ثم نظر إليّ مخاطبا: سيبقى رفيقك في ضيافتنا فترة أطول.

وضغط على زرّ الجرس، فحضر شرطي وسحبني أمامه. حاولت أن أختلس نظرات إلى الخلف، إلى أنطون، لأبثّ له رسائل سريعة تعينه على الصمود، لكنّ الشرطي كان أسرع مني، وهو يدفعني إلى مكان آخر غير الزنزانة أو غرف السجن.

 

2
لا أعرف كم بابا فُتح، وكم بابا أُغلق، حتى أوصلني الشرطي إلى المكان الذي دخلت منه إلى المسكوبية. لم يعد يهمني استفزاز رجال الشرطة الداخلين والخارجين إلى مكتب الأحوال، أو من يُعَرِّج منهم إلى الغرفة التي أجلس فيها. أخذت صورة أنطون لا تفارقني، وكذلك نظرته الواثقة. أعرف كم بذل من جهد خلال ثواني معدودة لإيصال رسالة لي من خلال عينيه. أدركت أنه في غياب أنطون، سيكون عليّ جهد مضاعف، وأن أول شيء يتوجب عليّ فعله، بعد مغادرتي هذا المكان، هو الاتصال بمسؤولي الخلايا الطلابية، ولملمة الوضع، ومحاولة عدم إيجاد فراغ خلّفه اعتقال أنطون، الذي سيبقى مشهد دخوله غرفة التحقيق والتقاء نظراتنا، حاضراَ في ذهني سنوات طويلة لاحقة، خصوصا بعد أن افترقت طرقنا.

[اتخذ أنطون موقفا متشددا، لا أجد له تفسيراً، عندما حَمَلَ إليّ من القيادة لوما شديدا لاتهامي أحد رجال الصفّ الأول بأنه يحابي أقرباءه في المنح الطلابية التي تصلنا من الأصدقاء الأمميين، وطلب مني أن أعتذر. كنت بدأت حملة ضدّ القيادة، وأنا أعرف أنني أسير في طريق لا رجعة عنه، لكنّ موقف أنطون وغيره مِن الأصدقاء كان مُحيّرا، فهم وإن أبدوا تفهّما، وأحيانا حماسة لآرائي، رأوا في ما أبثّه نوعا من الهدم الذي يتوجب أن أُعاقب عليه. وافترقنا، ذهبت في الطريق إلى آخره، وإلى العمل بعيدا عنهم.

وهو ما حدث لأنطون، لكن في ظروف أُقَدِّر أنها كانت أصعب، عندما بعث إلى الخارج، ليساهم في قيادة فرع للحركة الطلابية في عاصمة عالمية، لكنه اصطدم بواقع الفساد المستشري هناك بسرعة غير متوقعة، فانزوى، وانطفأت جذوته بشكل لا يمكن أن يُصَدِّقه من عرفوه. وقبل ذلك وصلتني منه رسائل شفهية عديدة، طالبا العمل معا في مكاني الذي اخترته، لكن موقفه السابق، لم يساعد أبدا في بناء الثقة من جديد. وما زال رجع صوته الأخير يتردّد في أذني، عندما عاد في إجازة صيفية، ولم أكن رأيته منذ سنوات طويلة. كنت أمشي في شارع صلاح الدين، الشارع الرئيس في القدس خارج الأسوار، عندما أخرج رأسه من شباك حافلة تسير على الشارع وصرخ باسمي الحركي (ربيع القرمطي) بِصوتٍ عالٍ، وما إن تنبهت إلى مصدر الصوت، الذي بدا حماسيا وشجيا، حتى كانت الحافلة تبتعد، وأنطوان يلوّح لي بيده من النافذة.

بعد هذا اللقاء الهوائي غير المتوقع، بفترة قصيرة، وصلني الخبر الصاعق، فبعد عودته من إجازته لإكمال دراسته، قضى أنطون في حادث سير مروّع هناك، وعاد إلى القدس جثة هامدة، لكنها عودة زاد من مأساويتها، تنكر زملاء أنطون السابقين له. عاد إلى تراب القدس بهدوء مبالغ فيه، وكأنه لم يملأ شوارعها يوما صخبا ورفضا، ولم يطبع المناشير، ويحرّر صحفا سرية، وكأن الذي خرج من الكنيسة في رحلته الأخيرة، لم يكن يوما أبو محمد.]

كان الشرطي الذي يقف خلف الكاونتر في مكتب الأحوال كثير التبرم، وبدا مشغولا بالبحث عن أشياء معينة، ثم أخرج ما يخصني من أغراض، وضعها أمامي، مثل الحزام، ورباط الحذاء، وبعض القطع النقدية، وسألني بغلظة إن كان هذا كلّ شيء، ولا أعرف كيف تذكرت السترة فجأة، وسألته عنها، فنزل إلى أسفل الكاونتر ليبحث مجددا، حتى وجدها. نظرت إلى السترة وكأنّها شيء غريب أراه لأول مرة، وحاولت أن أكتم ابتسامة، متسائلا في داخلي: ماذا ستكون حاجتي إليك الآن، أين كنت أيام الثلج والبَرَد أيتها السُترة؟

أخذت كلّ شيء أخذوه مني لدى دخولي المسكوبية، إلا ما تبين لاحقا أنه أهم شيء، وهو بطاقة الهوية، التي لا يستطيع الفلسطيني أن يتنقل في بلاده بدونها. وعندما طالبت بها قال الشرطي: المسألة لا تخصنا، إنها تخص المخابرات.

حاولت أن أجادله، متسائلا ماذا سأقول لأي شرطي أو جندي يوقفني ويطلب الهوية؟  سيعيدني إلى هنا بالتأكيد، بعد أن أتلقى وجبات من الضرب. لم يرد الشرطي أن يسمع، وقال بحزم: هل تريد أن تذهب إلى بيتك، أم طابت لك الإقامة عندنا، وترغب في العودة إلى الزنازين؟

لم ينتظر الإجابة، وأومأ للشرطي الذي يقف خلفي بأن يسحبني ويرميني خارجا، ووجدت نفسي أنظر إلى المسكوبية من الخارج، من مكان نهاريّ يعلن عن ربيعيته، رغم غيوم قليلة في السماء.

توجّهت صوب الشرق. على بعد أمتار، وقرب مبنى البلدية وحديقتها، مررت بعاهرات شارع يافا، متقزّزا من أشكالهن، ومن تخصصهن في اصطياد الزبائن العرب، بينما للزبائن اليهود عاهرات أخريات مختلفات في كلّ شيء.

أردت تجنب الجنود والشرطة، خصوصا الشرطيات المتخصصات في إيقاف الشبان العرب، للكشف عن الهويات، وتسجيل اسم ورقم هوية أيّ عربي يصادفنه، وإذا وقع أي حادث لاحقا، فان المخابرات والشرطة تعتقل كلّ صاحب اسم سجل، ليمرّ بفترات الاعتقال والتحقيق، حتى يثبت لهم أنه لا علاقة له بالحادث، وأن كل ذنبه أنه مرّ في الشارع.

أشكال العاهرات اليهوديات وشعورهن المنفوشة، نبهني إلى شكلي الغريب، وشعري الذي كنت أحس ببقايا الألم من شدّه. أخذت أهرول مسرعا وأجتاز المنطقة الوهمية التي تفصل بين القدسين الغربية الجديدة، الأقدم احتلالا، والشرقية المعتقة الأحدث احتلالا، متجها نحو باب العامود، الباب الرئيس لبلدة القدس القديمة، وهو بمثابة وسط البلد.

لم أكن أعرف ماذا ستكون وجهتي التالية. الهبّة ما زالت مستمرة، ومخيّم الدهيشة يخضع لحظر التجوال، ودماء حسين عبد الفتاح، تبعتها دماء أخرى. أي من الزملاء سأذهب إليه؟ أعرف أن جميع بيوتهم مفتوحة. متى سأواصل نشاطي؟ كنت أحتاج إلى فترة بسيطة لألملم نفسي، أردتها قصيرة جدا أمام الشغف الذي لا يقاوم جذوة العمل.

أصبحت خطواتي أكثر اتساعا وأنا أسير بمحاذاة سور القدس. السماء ربيعية ملبّدة بالغيوم. تمنيت أن ينزل المطر. تحسست سترتي التي حرمت منها في برد الزنازين. هطل المطر. وقفت ونظرت مليا إلى السماء حتى ابتلّ وجهي بحبات الماء الرقيقة. غمرني الإحساس الذي أعرفه كلما سرت في شوارع القدس تحت المطر.

ما أجمل القدس في المطر!

وصلت مطعم العكرماوي في المصرارة. جلست قبالة باب العامود. حاولت أن أتمتّع بأكبر قدر بحمص العكرماوي، أفضل حمص في فلسطين. أمام المطعم وحوله انتثرت مجموعات من العمال الذين لم يحالفهم الحظ في الظفر بربّ عمل يهودي، ويبدو أنهم لم يفقدوا الأمل في وصول من يحتاج إلى عمالة مؤقتة، رغم أن الظهر يأتي بخطى مسرعة، ونهار العمل في طريقه إلى التبدد. يأتي عمال المياومة، غير الدائمين، منذ ساعات الصباح إلى المصرارة، التي تحول جزء منها إلى سوق عمل، يعرض فيها العمال الفلسطينيون أنفسهم، لأرباب العمل اليهود، الذين يأتي الواحد منهم ويسأل عمن يجيد العمل الذي يريد إنجازه، ويختار ممن يتدافعون إليه أو إلى سيارته أكثرهم قوة، أو عافية.

كانت المصرارة هي المكان الأنسب لتضم سوق الرجال هذه، حيث يعرض العمال عضلاتهم ومهاراتهم، فهي نقطة التماس الأقرب إلى القدس الغربية، وتحديدا إلى حيّ مئة شعاريم، أقدم الأحياء اليهودية في القدس، ومنذ عام 1948 وحتى 1967، وجدت بالقرب منها بوابة مندلباوم، المنفذ الوحيد بين القُدْسَيّنْ.

لم أكن أعرف أين سأبيت هذه الليلة؟ ولم أكن أعرف أنني بعد بضعة أيام فقط سأكون على موعد جديد مع الاعتقال؟ في سجن رام الله هذه المرة ، وكأنني حبيس دائرة مغلقة، لا فرار منها، كواحد من جيل، قدر له أن يعرف بلاده من خلال المعتقلات.

السماء تمطر. القدس تتبلل بالمطر. وأنا استنشق هواء ربيعيا بكرا.

ما أحلى مطر القدس، المدينة التي يرنو إليها الله من عليائه مرتين في اليوم، والبشر ينظرون إليها في كلّ الأوقات، مدينة الحب والحرب والسلام والاغتيالات، مدينة المطر، والقدر.

 

3
تطلّعت إلى باب العامود أمامي، الباب الرئيس المفضي إلى البلدة القديمة، والذي يبدو كقلعة، ويعتبر هذا الباب والساحة التي أمامه، والفسحات الخضراء على جوانبه، شيئا يشبه "وسط البلد" في المدن الأخرى، وتمارس الفلاحات الفلسطينيات، بزيهن التقليدي، أمام الباب تقليدا يعود إلى زمن بعيد، حيث يجلسن لبيع منتجاتهن من الخضار والفواكه التي تزرع بالطرق التقليدية، دون استخدام الأسمدة الكيماوية، ولكنهن يتعرّضن لهجمات شرطة بلدية القدس الإسرائيلية، فتحدث مطاردات يومية أمام الباب بين الفلاحات المتمسكات بإرث جداتهن وشرطة الاحتلال.

ويطلق الغربيون على أهم أبواب القدس، (باب دمشق)، في إشارة إلى علاقة هذا الباب بعاصمة الأمويين، ولكونه مشرعا تجاه دمشق للآتين منها أو الذاهبين إليها، في عصر الآفاق المفتوحة الغابر، وهو مثل أبواب أخرى للقدس تحمل أسماء مدن، مثل باب يافا الذي يطلق عليه أيضا اسم باب الخليل وأحيانا باب بيت لحم.

ولا يمكن إغفال البعد الرمزي في الاسم في الربط بين القدس والأمويين، الذين ارتبطوا بالمدينة المقدسة بشكل قدري إلى حد كبير، وكانت منطلقا لصعودهم السياسيّ والتاريخي، بعد الفتح العربي للمدينة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي أوكل إدارة المدينة لهم، وفيها اتفق معاوية بن سفيان مع عمرو بن العاص، على العمل للإطاحة بالخليفة الراشديّ علي بن أبي طالب، وهو الحدث الأهم الذي طبع التاريخ الإسلامي بطابعه، وظل مؤثرا فيه حتى الآن.

واللافت في أمر هذا الباب، الذي يشبه قلعة أمنية، أن الفلسطينيين، ظلوا يطلقون عليه، طوال قرون اسم (باب العامود)، والسبب يعود للإمبراطور الروماني أدريانوس الذي أعاد بناء مدينة القدس، بعد هدمها من قبل سلفه تيطس، وأطلق عليها اسم (ايليا كابتولينا) عام 135م، وهي التي عرفها العرب والمسلمون باسم (إيلياء)، ووضع داخل الباب الرئيس للمدينة الجديدة عمودا من الجرانيت الأسود ارتفاعه 14 مترا، يحمل تمثالا له، وأصبح العامود معلما بارزا لمدينة القدس، ونقشت عليه المسافات بين القدس والمدن الأخرى.

ولا يُعرف ماذا كان يطلق الرومان على هذا الباب، لكن الذاكرة الجمعية الفلسطينية أسمته (باب العامود)، ولم تؤثر في هذه التسمية، كما اتضح، من استمرار الاسم حتى اليوم، الفتوحات والغزوات العديدة التي تعرّضت لها فلسطين، والأسماء الكثيرة التي أطلقت عليه، ومنها (باب نابلس)، وهي تسمية أهل الخليل له، لأنه متجه نحو مدينة نابلس.

والطريف أن الفلسطينيين الذين حافظوا على اسم (باب العامود)، وكأنه رمز للتمسك بهوية متحولة ومتطورة ومستوعبة، استهدفت بالغزوات والفتوحات، وأنهار الدماء التي سالت على شوارع المدينة المقدسة وأرصفتها ووديانها، لم يهتموا بسبب التسمية، أو لماذا يطلقون عليه هذا الاسم، ولو وقف متطفل بالقرب من الباب وسأل عينة عشوائية عن سبب التسمية، لحصل على إجابات صحيحة نادرة، وهو في الأغلب لن يحصل على شيء.

بقي اسم باب العامود غامضا، حتى تم اكتشاف خريطة مأدبا الفسيفسائية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، في المدينة الأردنية التي تقع بالقرب من العاصمة عمّان. الخريطة أرضية فسيفسائية لكنيسة الروم الأرثوذكس في المدينة، تضمّ مواقع رئيسية في فلسطين والأردن ومصر، ومن بينها بالطبع خريطة لمدينة القدس، التي تبدو في مركز الأرض المقدسة كما يقدمها واضعو الخريطة الهامة. وتعود هذه الخريطة إلى القرن السادس الميلادي، وفيها يمكن رؤية شوارع مدينة القدس التي ما زالت حتى الآن نابضة بالناس وبالحجيج، والشوارع المسقوفة والأقواس والشبابيك. ووفقا للخريطة فإنها تبدأ من باب العامود الذي رمزت إليه برسم لعمود أدريانوس، ما جعل المختصين يتأكدون من وجود هذا العامود والباب الذي يحمل اسمه، ليس فقط في الذاكرة الجمعية الفلسطينية التي حمته من الضياع، ولكن بوجوده بالفعل على أرض الواقع.

لكن الباب الذي ينتصب الآن مشرعا على التاريخ وجغرافية المدن، يعود إلى الفترات الإسلامية، خصوصا المملوكية والعثمانية، ورمّم أخر مرة عام 1538 في عهد السلطان سليمان القانوني الذي أطلق على نفسه ألقابا عديدة منها (مالك رقاب الأمم) و(ثاني سليمان في العالم) بعد الملك سليمان الذي سخر الحيوانات والطيور، وتظهر هذه الألقاب على النقوش المتناثرة في القدس.

عمود أدريانوس الذي عثر عليه في الحفريات الأثرية أسفل باب العامود نقل إلى مكان آخر، ولكن بقي "عامود" آخر بجوار هذا الباب، اسمه إبراهيم شبانة، احد أشهر صعاليك القدس، ويسميه بعض معارفه تحببا حارس باب العامود، بينما لقبه الأشهر خصوصا بين المثقفين هو (الصاحب)، لترداده هذه الكلمة دائما كلازمة عندما يخاطب صديقا أو شخصا يعرفه، وأحيانا عابر طريق.

شبانة بائع الكتب والمجلات والصحف المخضرم في باب العامود، لكن دوره أكبر من مجرّد بائع صحف، فخلال سنوات طويلة، كان يعير المجلات والكتب والصحف لمن لا يقدرون على دفع ثمنها، فيقرؤونها ثم يعيدونها إليه بعد أيام، دون أن يدفعوا شيئا. ورغم أنه قليل الكلام، وحديثه لا يشي بأنه يمكن أن يكون كاتبا أو مثقفا، إلا أنه خاض غمار تجربة نشر فريدة من نوعها، خصوصا في سنوات الاحتلال الأولى، في سبعينات القرن العشرين، عندما كان يشرف ويعد كتيبات صغيرة حول المغنين والممثلين، ومواضيع شبيهة، كالتعارف بين الجنسين، وما يجب أن يحدث في ليلة الزفاف. ويصرّ على أنه أعدّ بنفسه هذه الكتيبات، رغم تشكيك كثيرين في ذلك. وقد استطاع أن يمدّ جسورا مع القراء من خلال رسائلهم التي كان ينشرها في سلسة الكتيبات التي تصدر تباعا.

وأولى شبانة، الذي كانت الصحف الفلسطينية التي تصدر في القدس تنشر له خواطر شعرية وأدبية، مجاملة له على الأغلب، اهتماما بعلاقة خاصة ربطته مع عبد الحليم شبانة المعروف باسم عبد الحليم حافظ، مشيراً إلى مراسلات بين الاثنين لأسباب فنية وعائلية، باعتبار أنهما من عائلة واحدة، ولكن أحدا لا يصدق العلاقة المزعومة بين بائع جرائد في القدس ومطرب مشهور في القاهرة، وحتى إبراهيم نفسه كان يدرك ذلك، لكنه محبّ وعاشق للعندليب الأسمر، ومتتبع لنشاطه، وبينهما مراسلات، فما الذي يضير في أن يكون قريبا له أيضا؟

وعندما توفي عبد الحليم حافظ، فتح له إبراهيم شبانة بيت عزاء في القدس، وأعلن ذلك في الصحف المحلية، واستقبل فيه محبيه. وقبل أن أُعتقل، سألت شبانة عن علاقته بعبد الحليم، فناولني مخطوطة كتاب كان يعده للنشر حول علاقته به، مطبوعة وممنتجة يدويا، كصفحات تنتظر الطباعة، وتحوي صورا له ولعبد الحليم حافظ، بعضها صور نادرة للعندليب وهو ينزل من طائرة في مطار القدس، وكان ذلك قبل الاحتلال في حزيران (يونيو) 1967 [ما الآن فلم يعد المطار مطارا، وتحوّل إلى آخر شيء يمكن أن يصبح عليه مطار، لقد حوّله الإسرائيليون إلى حاجز عسكري، هو أكبر حاجز عسكري في الضفة الغربية ويفصل بين مدينتي رام الله والقدس]، وطلب مني إبراهيم أن أعدّ الكتاب للنشر، متوسما فيّ قدرة على ذلك. وكان شبانة يصدر بيانا في ذكرى وفاة عبد الحليم، يُذّكِر الناس به، ويضع على البيان الذي يوزعه باليد على الذين يمرون من باب العامود، صورته بجانب صورة العندليب.

عندما رآني مقبلا، رسم ابتسامة هادئة على وجهه، وقال بصوت خفيض كعادته عندما يتحدث: أين أنت يا صاحب؟ وسألني بصيغة شبه اتهامية فيها لوم عما فعلت بكتابه عن عبد الحليم، وهل أنهيت قراءته وتصحيحه وتحريره كما طلب مني. قلت له: بدلا من أن تقول لي حمدا لله على السلامة، تسألني عن عبد الحليم؟ لقد خرجت لتوّي من المسكوبية. فوجئ بما أخبرته به، وقال إنه لم يدر باعتقالي، وألحّ أن أجلس بجانب بسطته، وأشرب فنجانا من القهوة، وغيّر كلامه نحو ما كانت تشهده القدس وباقي المناطق، وسعي بلدية القدس الإسرائيلية لطرده من مكانه، وقال: "القدس لم تعد هي القدس. يريدون أن يرحلونا من هنا، لكني شخصيا سأبقى، حتى لو كنت العربيّ الأخير في القدس، سأبقى هنا حارسا باب العامود". والصحف المتناثرة حول إبراهيم، على بسطته، تتحدّث عما يجري، وجهاز الراديو الصغير الخاص به يبثّ أخبارا عن أيام القدس العصيبة.

 

4
بينت نتائج التحقيقات الأولية التي تجريها السلطات الإسرائيلية أن غولدمان لم يكن الوحيد الذي أطلق النار على المواطنين في الحرم القدسي، وحسب راديو إسرائيل (النشرات الإخبارية يوم 15/4)، فان أحد الشخصين اللذين استشهدا يوم الحادث، سقط نتيجة العيارات النارية التي أطلقها غولدمان، ومن بين تسعة أصيبوا، فإن ثلاثة أو أربعة أصيبوا برصاص غولدمان، وعينت المحكمة المحامي رون بار أون للدفاع عن غولدمان، الذي صرح للراديو بأنه يعتزم بناء دفاعه على ما أسماه اللامسؤولية العقلية لموكّله، وبأن المتهم أراد تنفيذ عمل مثير، ولكن لم تكن لديه النية للقتل.

واستمرت المظاهرات في الضفة والقطاع، ودخل الإضراب يومه الرابع، واستمرّ حظر التجوال على حلحول، والظاهرية، ورفح، وسعير، ومخيمات الدهيشة، والجلزون، وجباليا، والنصيرات، وفٌرض على أحياء في غزة، وعلى بلدتي أبو ديس والعيزرية بعد تجدّد التظاهرات فيهما، وأغلقت سلطات الاحتلال عديدا من المؤسسات، واستمرت الاعتقالات، وضرب المواطنين.

وفي أريحا، قرر الحاكم العسكري، إغلاق متجر جميل النبر، ومتجر شلاش النجوم، مدة شهرين، لأنهما أغلقا، رغم الإنذار الموجه إليهما من الحاكم العسكري بعدم الإضراب. وأغلقت أيضا محال أخرى، واعتقل 16 شابا رشقوا جنود الاحتلال بالحجارة، وهم يكسرون أقفال المحال المضربة بالقوة.

رؤساء الطوائف المسيحية في نابلس زاروا رئيس بلديتها بسام الشكعة، ليؤكدوا استنكارهم للاعتداء على الأقصى، وسلطات الاحتلال تمنع الشكعة، من مغادرة منزله، بعد إقالته من منصبه. وأقالت سلطات الاحتلال أيضا كريم خلف رئيس بلدية رام الله، ورئيس بلدية البيرة، التي احتجز موظفوها طوال الأيام الماضية لالتزامهم بالإضراب ورفضهم التعاون مع الإدارة الإسرائيلية للبلدية، التي عينت حديثا بدلا من الإدارة المنتخبة المقالة [سيأتي وقت ينسى فيه هذا الموقف لموظفي البلدية، ولن يتم حل قضية بعض الموظفين إلا في العام 2008 وبشكل غير عادل من قبل المجلس البلدي المنتخب من ممثلي حركة حماس وقوى وطنية أخرى]. ومددت المحكمة اعتقال سبعة شبان من القدس، وأفرجت عن 27 شخصا آخر، اعتقلوا منذ الأحداث، وقررت عقد جلسة مقبلة للنظر في قضية عدد مِن الشبان.

وطالب عدد من ضباط الجيش الإسرائيلي شارون بتمكينهم مِن الرد بصورة أشدّ على ظاهرة رشق السيارات الإسرائيلية بالحجارة.

وفي القدس، عُقد مؤتمر شعبي في مقر شركة كهرباء القدس، تحدث فيه ممثلو المؤسسات في المدينة المقدسة، وتحدث شاهد عيان قائلا: "الشرطة أخرجت المجرم، ووفرت الحماية له. إنها عملية مدبرة ومقصودة، ومخطط لها، وأكثر من شخص تعاون مع المجرم، رأيتهم يطلقون النار على الأقصى من عدة جهات".

وعُرِضَت في المؤتمر، قنابل الغاز المدمع التي ألقاها الجنود الإسرائيليون على المواطنين في ساحات الحرم القدسي، ووردت إلى المؤتمر برقيات تضامن من المؤسسات والأندية في الأرض المحتلة.

واصدر حاييم ميلسون، حاكم الضفة الغربية، الذي جلب من وظيفته الأكاديمية في الجامعة العبرية، لتحسين صورة الاحتلال، قراراً بإغلاق عدد من الجامعات الفلسطينية [سيحظى ميلسون بعد سنوات بثناء من كتاب عرب مشهورين لـ "جهوده الأكاديمية"].

وصرّح عصام عواد، المهندس في الحرم القدسي، بأنّ قبة الصخرة، أصيبت بنحو مائة رصاصة، وقال: "يبدو للوهلة الأولى أن الأضرار التي لحقت بمسجد الصخرة المشرفة ليست خطيرة جدا، إلا أنها من الناحية الفنية قد تكون صعبة الترميم، ..الفسيفساء والأخشاب والجسر المزخرف والآجر المكسوّ بالزجاج ومواد السقف المصنوعة من الألمنيوم في القبة أصيبت بأضرار، وإصلاحها سيستغرق بعض الوقت".

انفجرت عبوتان ناسفتان في محطتي انتظار للجنود الإسرائيليين إحداها في مفترق طرق قرب أسدود، والثانية في مفترق طرق قرب عسقلان ولا إصابات.

في باريس، انتحر لوي دو غرينغو، وزير خارجية فرنسا الأسبق، بإطلاق النار على نفسه من بندقية صيد.

عاد شارون من مصر، دون حلّ الخلاف حول الحدود، وسيصل كمال حسن علي، وزير الخارجية المصري إلى إسرائيل في الأسبوع المقبل.

في جنوب لبنان، اقتحمت قوة كوماندوز إسرائيلية، بلدة برعشيت، ونسفت ثلاثة منازل، وخطفت لبنانيا إلى داخل المنطقة التي يسيطر عليها سعد حداد. وهناك اشتباكات في الجنوب بين قوات حركة أمل وحزب البعث، العراقيّ الهوى.

نِمت أول ليلة لي خارج المسكوبية، على سطح كنيسة القيامة، المكان المسيحي الأكثر قداسة في العالم. كنت انوي المبيت في المسجد الأقصى. نزلت إلى بلدة القدس القديمة، بعد أن ودعت إبراهيم شبانة، مُرهقا مُتعبا خائفاً، لم أرد أن أتحرك كثيرا دون بطاقة هوية. بعد الاحتلال تحول الفلسطينيون إلى أرقام، لا يتحرك أحد إلا وهو يحمل رقمه معه.

التقيت أبراهام في سوق خان الزيت، وهو شارع قديم منذ القدس الرومانية. لم تكن معرفتي به وثيقة، لكنها تسمح بأكثر بكثير من تبادل التحيات وعبارات المجاملة. كان أبراهام واحدا من المجموعات التي كنت أتحرّك ضمنها، تتقاذفنا شوارع القدس، ومقاهيها، ومدارسها، وأحزابها، وصحفها، وشِلَل مثقفيها، ولا أعرف كيف حضر أبراهام، في مشهد القدس آنذاك. كان واحدا من طائفة الأحباش الأرثوذكس: شاب إثيوبي يطرح أفكاراً ثورية، فضيلته الكبرى هي الاستماع، دائم الابتسام، يحبّ أن يجلس على أرصفة الشوارع، يحني ظهره أو يسنده على حائط. أطلق عليه بعض الأصدقاء اسم منغستو على اسم الزعيم الأثيوبي منغستو هيلا مريم (حكمه: 1974-1991)، لكن معظمنا سماه أبرهة الأشرم، لسهولة هذا الاسم الشائع في الأدبيات الإسلامية عن الملك الذي ارتبط بعام الفيل وحجارة السجيل، عندما حاول هدم الكعبة عام 570م، ليحوّل أنظار القبائل العربية إلى أسواق صنعاء. ولاقى الاسم الذي أصبحنا ننادي به أبراهام قبولا لديه، وشاع بينا، لأنه لم يكن محل ثقة لدينا، لأسباب غير محددة، وافترضنا، دون سبب وجيه، أن وجود ابن هذه الطائفة الضعيفة المنزوية على نفسها، بيننا، قد تكون له صلة بالشاباك، لكن شعور كل منا بأنه لا يريد أن يَظلِمه دون إثبات، منعنا من اتخاذ موقف من هذا الناشط الصموت في نهارات القدس ولياليها.

قال لي إن نزولي إلى المسجد الأقصى في ظلّ الإجراءات الإسرائيلية المشددة، سيكون أمراً معقدا وفيه مجازفة، وقادني إلى دير السلطان فوق كنيسة القيامة، ورتب لي حماما، وتركني أنام في إحدى غرف الدير المتداعية، تزكم أنفي رائحة طعام غير مستساغة تفوح من غرفة متداعية أخرى. وكنت بحاجة إلى أن أرتاح، أن أضع رأسي على أي مكان وأنام، بنوع من الأمان النسبي، دون أن اقلق من أن أحدا سيستدعيني للتحقيق، أو يضع كيسا على رأسي ويشبحني.

قبل أن أغفو، قال لي أبرهة: سأدعك تنام، وسألني إن كنت أحتاج شيئا، لأنه سيخرج ويعود بعد ساعات. سألته ممازحا إن كانت لديه ثقة بأن السقف لن يسقط عليّ وأنا نائم. لم يقلقني وجودي مع أبرهة، فأنا خارج للتوّ من عند الشاباك، ولم أفعل شيئا بعد، يستوجب المساءلة منهم.

نِمت نَوّمَاً عميقا في دير السلطان، الذي يفصل بينه وبين بطريركية الأقباط باب صغير لكنّه مفتوح على إشكالات كبيرة بين الأقباط والأحباش الأرثوذكس الذين استولوا على مفاتيح دير السلطان ليلة عيد الفصح عام 1970م، وعلى جانبي هذا الباب يسود التحفز بين أبناء العقيدة الواحدة، رغم أن ما يجمعهم أيضا ليس فقط العقيدة، ولكن الشكل والمزاج والملابس المتواضعة. من جهة الأقباط يبدو المكان وكأنه حيّ صعيديّ، حجّاج أقباط بأرديتهم التقليدية المصرية، حضروا لإحياء عيد الفصح، وهم يُستقبلون بكثير من الحفاوة من قبل الرهبان الأقباط، رغم الحديث الذي يتم عن حرمان كنسي أو ما يشبه لهم مِن قبل الأنبا شنودة الذي يحظر عليهم زيارة القدس، وفي الجهة الأخرى كان يجلس عدد قليل من الأحباش في خيمة نصبوها بجانب دير السلطان، الذي يبدو وكأن معجزة إلهية تحول دون سقوطه.

ولم تكن سيطرة الأحباش على دير السلطان، بمساندة مِن السلطات الإسرائيلية، المرة الأولى التي توجب على الأقباط تجرّع مرارتها، فعندما احتل الصليبيون القدس، انتزعوا الدير من الأقباط، الذين يعود وجودهم في القدس إلى القرن الرابع الميلادي، عندما وصلت أول قافلة قبطية للمشاركة في تشييد كنيسة القيامة، ودخلت مجموعات قبطية كبيرة مع السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره على الصليبيين، وأعاد القائد المنتصر الدير إلى الأقباط، ومنذ ذلك الوقت حمل لقبه وأصبح يعرف بدير السلطان.

عندما صَحَوت بعد ساعات، تحدثت مع عدد من الأقباط، لكن شعورا مني، باحترام مضيفي الأحباش الذين لم تكن لديّ أية وسيلة للتفاهم معهم غير هز الرؤوس، جعلني أجلس أغلب الوقت في خيمة الفصح المزركشة الألوان، وأمامنا أفواج تنزل من باب صغير إلى كنيسة القيامة.

عاد أبرهة مساء جالبا طعاما. جلسنا أمام الخيمة، وتحدثنا في مواضيع عديدة، وقدم لي شرحا سريعاً عن طائفة الأحباش، وقال لي إن الأحباش عاشوا أياما مجيدة في الأرض المقدسة، قبل أن يتقهقر وضعهم، وخسروا كثيرا من أملاكهم، أثناء الحكم العثماني، لأنهم لم يكونوا يملكون الأموال لرشوة الولاة العثمانيين حتى يحتفظوا بتلك الأملاك، في حين أن طوائف أخرى عزّزت وجودها، ليس فقط عن طريق الرشوة، ولكن أيضا بتدخلات الدول الكبرى، و"النفوذ النسائي" لدى العثمانيين. وردا على استفساراتي فَسَر النفوذ النسائي، بدور زوجات الولاة والحكام اللواتي عزّزن بطرقهن دور طوائفهن الأولى قبل إسلامهن.

وحكى لي عن تصرفات بعض الأصدقاء معه، التي اعتبرها غير لائقة، قائلا وأسنانه شديدة البياض تومض، في ظلام وجهه الأسمر: أنا فلسطيني وأثيوبي وقبل كلّ ذلك أنا أُممي، ولا يهمني موقف أصدقائك الأغرار، ما دام القياديون الكبار يرحبون بي؛ ما يهمني هو القضية الكبرى، لن التفت إلى الصغائر.

 

5
16/4:
في اليوم السادس للإضراب العام في الأراضي المحتلة، بدا أن الأمر يأخذ منحى تصعيديا كبيرا. في يوم الجمعة هذا سقط شهيدان في قطاع غزة هما: سلمان عبد الله حلس (16 عاما)، وإسماعيل إبراهيم أبو نمر (18 عاما) من خان يونس، وكان القطاع يشهد يوم غضب اتخذ طابعا دمويا.

وأُقيمت صلاة الغائب على أرواح الشهداء، في الحرم القدسي، الذي أدى فيه المصلون، صلاتهم، في ظروف معقدة من الحصار والإجراءات الإسرائيلية، التي حالت دون دخول أي شخص لا يزيد عمره عن 30 عاما إلى باحات الحرم. واعتقل الجيش الدكتور عبد الله خوري مدير مستشفى الهوسبيس، بتهمة عدم تسجيل أسماء الجرحى الذين نقلوا إلى المستشفى، وأَفرجت المحكمة عن عدد من شبان القدس منهم: أنطون شكري، وفيصل الطويل، وحاتم الجعبة.

واستمر حظر التجوال على مناطق واسعة في الضفة وغزة، وأُعيد فرض هذا الحظر على المناطق التي رُفِع عنها جزئيا أو كليا. وخرجت المظاهرات الغاضبة في القدس، والخليل، وطولكرم، وجنين، والبيرة، ودورا، وصوريف، وبيت أُمْرّ، وإذنا، والشيوخ، وترقوميا. وفي بيت جالا قررت الهيئات الدينية والرسمية والشعبية إلغاء جميع الاحتفالات بمناسبة عيد الفصح المجيد، والاكتفاء بالمراسم الدينية. وفي نابلس تفاعلت قضية اعتقال حسام يعيش، سكرتير البلدية، المحتجز منذ عدة أيام في السجون الإسرائيلية، وشكّلت هيئة من المحامين للمراجعة بشأن اعتقاله، والمطالبة بالإفراج عنه، وكذلك لوقف الإجراءات والمضايقات بحقّ رؤساء الأقسام والموظفين واحتجازهم يوميا لإرغامهم على العمل بأوامر من الضابط العسكري الإسرائيلي المعين لإدارة البلدية.

السعودية أَلمحت إلى احتمال استخدام سلاح البترول للضغط على الغرب، على لسان علوي درويش كبال وزير البريد والبرق والهاتف. وتواصلت المحادثات بين بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية والمسؤولين الإسرائيليين، دون حلّ للخلافات بين الطرفين، وطالب بيغن، مصر، بوثيقة التزام باتفاقية كامب ديفيد.

أعربت الحكومة الفرنسية مجددا عن مخاوفها إزاء "أعمال العنف" في الأراضي العربية المحتلة، وطالبت باستخدام كافة الوسائل لاحترام حقوق الإنسان فيها، واحتج الاتحاد العام للعمل، والاتحاد الفرنسي للعمل على ممارسات إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة. وأعلنت فولتا العليا، أنها شعرت بصدمة عميقة إزاء العمل المتعمّد بالاعتداء على الأقصى، وأدانت ما أسمته العمل البربري الذي أودى بحياة ضحايا أبرياء، وخصصت مساجد الاتحاد السوفيتي، خطبة الجمعة للمسجد الأقصى.

مردخاي غور، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، قال لصحيفة معاريف: "عناصر إسرائيلية خلقت التوتر الحالي على الحدود الشمالية بهدف إقامة دولة كتائبية في لبنان". وقال الصحافي موشيه كول في تقرير نشرته دافار: "تصرّفات إسرائيل في الأراضي المحتلة تُخجل اليهود في شتى أنحاء العالم".

تجددت الاشتباكات في بيروت بين حركة أمل وحزب البعث الموالي للعراق، وأسفرت عن 57 قتيلا ومئات الجرحى، وتدخلت منظمة التحرير لوقف الاشتباكات التي اندلعت بين الطرفين في الجنوب، ثم امتدت إلى بيروت.

وبرافدا تقول: الهجوم الإسرائيلي المرتقب يستهدف إما ضرب المواقع والمخيمات الفلسطينية، أو القوات السورية.

وأنا في ليلتي الثانية على سطح كنيسة القيامة، وصلني خبر صاعق: قُتل أمون النَّوري، في المسكوبية. إدارة السجن قالت إنه انتحر، وهو تبرير روتيني تقدّمه السلطات الإسرائيلية لأيّ حادث من هذا النوع يتعرّض له أسير في سجونها، أما بالنسبة للفلسطينيين فهم يوجهون الاتهام فورا إلى سلطات الاحتلال بقتل الأسير، نتيجة التعذيب الشديد، أو بتصفيته بشكل متعمد. وفي حالة أمون النوَري، كنت أكثر واحد على وجه الأرض لديه قناعة أنه لا يمكن أن ينتحر، ومن المؤكد أنه قتل على يد شرطة المسكوبية أو مُحققيها، في ظلّ أجواء التوتر التي كانت تشهدها، والإجراءات العقابية بحقّ المعتقلين.

شعرت بحزن شديد من الصعب وصفه الآن، ففي الأيام القليلة التي تعقب الإفراج عن الأسير، أيّ أسير، يكون عادة تحت وَطأة إحساس لا يقاوم بأنه يحمل معاناة الأسرى ومطالبهم ورسائلهم إلى الخارج، وأنه مُثقل بمهمة إيصالها إلى كل الناس، والى كل مكان، لعل ذلك يخفف عمّن تركهم خلفه شيئا.

هذه المهمة نوع من إسكات مؤقت للضمير، ومُسَكّن لشعور بالذنب، غير محدد، مردّه أنه خرج من الجحيم تاركا آخرين يكتوون بناره. ومع الأيام يكتشف أن الأمر لا يحتمل ذنوبا لم ترتكب، وتصمت وخزات الضمير.

"أمون النَوَري .قُتل.. استشهد.. صُفي.. سَقط كبطل"؛ هذا ما رددته لنفسي مرات عديدة هذه الليلة والأيام التالية، وقلته لآخرين وأنا أسير متحمّسا في جنازته التي خرجت من الحرم القدسي بعد يومين، وفيها غلبتني المشاعر وقلت هامسا لأمون، وأنا على ثقة من أنه يسمعني: لا أعرف إن كنت في حياتك القصيرة حققت شيئا من أحلامك، أو أنه توفر لديك الوقت لتحلم، لكنني أعرف يقينا أنك تخرج في رحلتك الأخيرة مِن المكان الذي أحببته أكثر من أي شيء آخر.

 

6
17/4:
ودخل الإضراب يومه السابع، واستمر حظر التجوال مفروضا على مناطق عدة، واستمرّت قوات الاحتلال في فتح المحالّ بالقوة، واستمرّ سقوط الجرحى. ومنعت سلطات الاحتلال شخصيات عربية من الجليل والمثلث، من دخول المناطق المحتلة، لمدة 11 شهراً، وتمكّن توفيق زيّاد رئيس بلدية الناصرة، وعضو الكنيست، وأحد رموز الحزب الشيوعي الإسرائيلي، على رأس وفد من رؤساء المجالس المحلية العربية داخل الخط الأخضر، مِن الوصول إلى الحرم القدسي، والالتقاء مع الشيخ سعد الدين العلمي.

أُعلِمت مسبقا من أصدقاء اتصلوا بي، بعد أن عَلِموا مِن أبرهة بخروجي من السجن، أن توفيق زيّاد سيأتي، واقترحوا أن أضعه في صورة ما يجري في المسكوبية، بدلا من أن يسمع منهم. كنت التقيت زيّاد، الذي اكتسب شهرته كأحد شعراء المقاومة مع محمود درويش وآخرين، ثلاث مرات أو أربع في السابق، أوّلها قبل سنوات في الناصرة. كان يُنَظِّم صيف كلّ عام مُخيما للعمل التطوعي لإعمار مدينته، ولا أعرف نوع الرياح التي حملتني إلى الناصرة في ذلك السن، ربما كان أحدها شغفي بالبحث عن كُتبٍ جديدة، كان الاحتلال يحظر توزيعها في الأراضي التي احتلها عام 1967م، وأحدها أيضا رغبة المبكرة في التعرّف على من يقال عنهم عرب 48، وتوثيق العلاقات معهم، باعتبارنا شعبا واحدا.

في تلك الأيام، تمتع زيّاد بكاريزما طاغية، وتأثيره تجاوز أنصاره، وجعله شخصية جماهيرية، رغم أن ارتباطه بصفة إسرائيلي، بعضويته في الكنيست والحزب الشيوعي الإسرائيلي، لم يكن مَبلوعا كثيرا. وفي مخيمات الناصرة التطوّعية، رَسّخ نفسه كخطيب مُفوّه، خلال خطبه الطويلة والمثيرة التي تشبه العروض الاستعراضية، كان كلّ جسمه يتحرك، وسط التصفيق الحاد، وهو يَسخر من السلطات الإسرائيلية، ويشتم قادة إسرائيل، ولا يتورّع عن استخدام كلمات نابية، مُركزا على صفاتهم الشخصية. في مُخيم ذلك الصيف، كنا مجموعة صغيرة، لكنها عجيبة، أتت من الضفة الغربية وقطاع غزة دون تخطيط، لنتعرف على أخوة الدم الذين سبقونا في الاحتلال، كما كان لكل واحد منا شغفه الخاص الذي قاده إلى عاصمة الجليل الفلسطيني. كنا شخصيات متنوعة، من مدرس ينتمي فكريا إلى الإسلام السياسي، إلى ممثلة أصبحت بطلة الشاشة الصغيرة الأردنية، تتذمّر من النوم في الخيام، وتصحو، وتنفرد بعيدا ملتفة ببطانية، لديها وسواس قهري لجلب انتباه الآخرين، كأنها لا تستطيع أن تعيش دون نظراتهم، وتعليقاتهم، وعندما كنت أجلس خارج خيمتي في الليل، وأرى صديقها عازف العود يقترب من بطانيتها، ترفع رأسها وتقول لي: لا تنظر يا ولد!، يا دودة الكتب. أيها الكاتب الصغير، اكتب عني يوما ما، وستصبح مشهورا!

سلوك الممثلة الصاعدة آنذاك، اقلق المدرّس، لكنه كان يكتفي بالاعتراض الناعم، دون إثارة القلاقل، ويفعل ذلك لعلمه بتوازن القوى، الذي ليس لصالحه. ونحن نعمل في شوارع الناصرة قال لي مرة: يمكن أن أحرّرها، ومن يعرف؟ يمكن أن أتزوّجها أيضا. سألته عن معنى تحرير ممثلتنا، فقال: أنت غرٌّ جاهل، أنت لا تدري كيف كان كثيرون من قرويينا يذهبون إلى يافا للعمل، يافا التي كانت تعيش عِزّاً لم تشهده أية مدينة أخرى، ويلتقون مع نساء من مختلف الجنسيات، جئن من خلف البحار البعيدة، وقذفتهن أقدارهن إلى المدينة التي تموج بالحركة والعمل، ولا أحد يعرف أصلهن وفصلهن. تزوّج كثيرون من فتيات الميناء اللواتي كن يضطررن إلى التفريط بالكثير. بعد أن  يحرّروهن بالزواج يعشن عفيفات طاهرات. هذا هو تحرير النساء الضالات. هل فهمت معنى التحرير؟ قلت: كنت أعتقد أن التحرير يخصّ الأوطان! أجابني: تحرير النساء يشبه تحرير الأوطان، الإسلام يا صديقي الغرّ، لديه أجوبة وحلول لقضايانا الوطنية والجنسية. لكنّ المدرس لم يتحدث ولو مرة بجرأة، مع الممثلة الصاعدة، مثلما كان يتحدث معي في شوارع الناصرة.

في الليل، أجلس ساهما، في الظلام، أنظر إلى الناصرة التي تلمع بالأضواء بعد يوم عمل في شوارعها مضى سريعا، وأخاطب نفسي: هل كانت هذه البلاد لنا فعلا، والمخيم واللجوء لم يكن قدرنا، وأنه فصل دخيل على حياتنا؟ هل كنا بشرا مثل كلّ البشر، وناسا مثل باقي الناس؟.

في ذلك الصيف التقيت القاص زكي العيلة، الآتي من غزة، وحدثني وآخرين عن الصراعات التي شهدتها غزة بين الإسلام السياسي وأنصار الدكتور حيدر عبد الشافي رئيس الهلال الأحمر، وكتب العيلة في تلك الأيام، في صحيفة الاتحاد الحيفاوية تحليلات عن تلك الأحداث وقعها باسم "مراقب"، ربما خشية مِن تعرّضه للقمع مِن جهة ما، عندما يعود إلى منزله في مخيم الشاطئ. واستمع المدرس باهتمام لما ذكره العيلة، وتمتم بصوت خفيض: "كان يمكن أن تُحَلّ الأمور بهدوء. صحيح أنه يجب ألا تُترَك الساحة للشيوعيين، لكنني لا أوافق على العنف تجاه أبناء المجتمع الواحد".

في الأيام اللاحقة تشجع المدرس على توجيه الانتقادات للشيوعيين، وأصبح منظره مألوفا وهو يناقش شبابا وشابات من عرب 48، من مشايعي زيّاد المتحمسين؛ ومع اقتراب مغادرتنا للمخيم بعد أيام، تحولت بعض جلسات النقاش إلى شكل من أشكال الصراخ وتبادل الاتهامات الحادة.

انتظرت توفيق زيّاد مُبَكِّرا في الحرم، انتحيت به جانبا، وحدثته بإيجاز عن معاناة المعتقلين في المسكوبية، وقلت له: قتلوا أمون، ومعنى هذا أن هناك قرارات بالقتل اتخذت لفرملة الهبّة الجماهيرية، وقد يسقط غيره. قال: هم مجرمون وأولاد قحاب، لن يكفوا عن ارتكاب الجرائم، وسأثير الموضوع في الكنيست. واتفقنا أن نلتقي لاحقا في مكتب فليتسيا لانغر، المحامية اليهودية التي تدافع عن المعتقلين الفلسطينيين، لمحاولة عمل شيء من أجل المعتقلين.

وفي نيويورك، استمرّت المشاورات التي بدأتها الولايات المتحدة، حول مشروع قرار "معتدل" يندد بالاعتداء على الحرم القدسي، وأعلن عن استئناف الدورة السابعة غير العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، بشأن القضية الفلسطينية، التي كانت تعقد بتحفظ منذ تموز 1980. سفراء 6 دول إسلامية، التقوا في واشنطن الرئيس ريغن، وأعربوا له عن غضبهم للاعتداء على الحرم، بينما أعرب هو عن أسفه وأسف جميع الأميركيين حول "العنف الذي ارتكبه فرد مخبول".

ومصر لا ترى موجبا لإضافة ملحق آخر لكامب ديفيد، ومساعد وزير الخارجية الأميركي يعلن أن انسحاب إسرائيل من سيناء سيتمّ في موعده المحدّد، وكمال حسن علي يقول إن عودة علاقات مصر مع العرب لن تكون على حساب إسرائيل.

ورغم الجهود لتثبيت وقف إطلاق النار، استمرت الاشتباكات الداخلية في بيروت، وأسفرت عن 20 قتيلا و50 جريحا.

لم يُقَدَر لي أن التقي توفيق زيّاد، عند لانغر أبداً، وبعد 8 سنوات التقيتها في مكتبها، 14 شارع كورش بالقدس الغربية، قبل أن تُغادر البلاد نهائيا وتعود إلى بلادها ألمانيا التي أتت منها، متخلّية نهائيا عن إسرائيليتها. كانت في حالة تصالح كبيرة مع النفس، وسعيدة لأنها حاولت ألا تكون مِثلهم، وبدت فرحة بشكل خاص، في صورة جمعتها مع زوجة نيلسون مانديلا، زعيم جنوب إفريقيا المعتقل، وبِدرعٍ خشبي أهداه لها أولاد مخيم الدهيشة، تقديرا لدفاعها عن المعتقلين. 

لم أعد إلى دير الأحباش. الأصدقاء دبروا لي مبيتا في بيت شبه سري، قرب عناتا، شمال القدس، البلدة التي أخذت اسمها من إلهة الكنعانيين (عناة).

 

7
18/4:
اليوم وَدعنا أمون. كانت قوات الاحتلال سَلّمت جثمانه لأهله في الليلة الفائتة، على شرط أن يتمّ دفنه بهدوء، في ساعات الفجر، وبحضور عَدد محدود من أقاربه. ورغم تشديد الحراسة على منزل أمون، ومنطقة باب حطّة، إلا أَن الشباب تمكنوا من "سرقة" الجثمان وتخبئته في الحرم القدسيّ، حتى ظُهر اليوم التالي، حين شيّعته جماهير غفيرة إلى مثواه الأخير، وصنعت يوم غضب جديد في القدس، بعد الدفن في مقبرة باب الأسباط، وحرص المشيعون، بكثير من الجهد لتهدئة الشبان، أن يكون هادئا إلى حد ما. تحصن فتية وشبان ونساء وأولاد وبنات النَّوَر على جانبي باب الأسباط، وَوَقَعت مواجهات عنيفة بين حاملي الحجارة وجنود وشرطة الاحتلال، وحقّق الطرف الأوّل نصرا لا مثيل له، بحَرق مركز لشرطة الاحتلال في باب الأسباط، ورفع آخرون الأعلام الفلسطينية على أسوار الحرم وعلى قبة الصخرة، وكأنهم يتحدون رافع أول علم إسرائيلي عليها، الجنرال غور.

أجبرت الحجارة جنود الاحتلال، على مغادرة أماكنهم على أبواب الحرم الرئيسة، وإفراغ ساحة البراق من المتطرّفين اليهود، ووصلت حجارة رفاق أمون ورفيقاته إلى هناك. وتوسعت المعركة إلى أحياء القدس القديمة، خارج أسوار الحرم، في حادث نادر ليس كثير الوقوع مثل: باب حطة، وحارة السعدية، وعقبة الخالدية. وسقط عشرات الجرحى، وأصيب نحو ثلاثين من شرطة الاحتلال. وفي ذلك اليوم شاركت وحدات الاحتلال المختلفة في المعركة، ومن بينها مروحية تابعة للشرطة أطلقت النيران من السماء على المصلين في الحرم.

استمرت المعركة نحو أربع ساعات، أعاد الإسرائيليون بعدها احتلال بلدة القدس القديمة مرة أخرى، وانتشر جنود الاحتلال على أسطح المباني، وَوَضَعوا الحواجز الثابتة والطيارة في الطريق إلى الحرم، واعتقل العشرات، ووجدت نفسي أُخفر مِن جديد ولكن هذه المرّة، إلى سجن أخر غير المسكوبيّة.

وفي بيروت، استمرّ النزيف الأخوي: كانت القدس التي ودعت أمون النوَري، تَرنو إلى ما يجري في بيروت، ويدها على قلبها، وهي تعيش انتفاضة استمرّت عدة أيام، وتحاول لملمة نفسها بسرعة، بعد أن كَتَبَت صفحة دموية جديدة، لن تكون الأخيرة، في سِفْرها الملحمي؛ صفحة مِن ملحمة مدينة قدرية، سَلبت لُبّ أكثرية البشر، تنوء بِثِقَلِ تاريخها، وحجارتها، وهوائها، وسمائها، وأرضها، وبَشَرها، وغُزاتها، وفاتحيها، ومجانينها، ولياليها، ونوَرها، وشيوخها، وأرمنها، وصوفييها، وصعاليكها، وأحباشها، وأسوارها، وأنبيائها.

ستصبح صفحة مطوية، على الأرجح، لن يذكرها أحد!

 

استهداءات
ـ المفصل في تاريخ القدس، عارف العارف، القدس، مكتبة الأندلس، 1961م.

ـ القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الأول من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية 1904-1917، تحرير وتقديم: سليم تماري وعصام نصار، مؤسسة الدراسات المقدسية، القدس، 2003م.

ـ جولة في تاريخ الأرض المقدسة، حنا جقمان، القدس، 1996.

ـ القدس 1948: الأحياء العربية ومصيرها في حرب 1948، تحرير سليم تماري، مؤسسة الدراسات المقدسية وبديل، القدس، 2003م.

ـ تاريخ أوروبا في العصر الحديث: 1789-1950، فيشر، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة، 1967م.

ـ مذكرات نجاتي صدقي، تقديم وإعداد حنا أبو حنا، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2001.

ـ الأسرى الفلسطينيون في السّجون الإسرائيلية بعد أوسلو (1993-1999)، عيسى قراقع، جامعة بير زيت، 2001م.

ـ القدس: مدينة بلا أسوار، عوزي بنزيمان، ترجمة محمد ماضي، وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر، القدس، 1976.

ـ أحياء أعيان القدس خارج أسوارها في القرن التاسع عشر، شمعون لندمان، دار النشر العربي، تل أبيب.

ـ جولة في تاريخ كنائس القدس، حنا عيسى ملك، مكتبة القلعة، القدس، 2005.

ـ مع صلاح الدين في القدس، أنور الخطيب التميمي، القدس، 1989.

ـ الشيخ أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة، أحمد منصور، الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت، 2003.

ـ مجلة الجديد، حيفا، العدد المزدوج لشهري تشرين الثاني وكانون الأول 1970م.

ـ الصحف الفلسطينية، أعداد شهر نيسان (إبريل) 1982.

ـ صحيفة يورشالايم العبرية، يوم 26/11/1999م.

ـ ولا حتى بمساعدة الاسم عجنون، عكيفا الدار، صحيفة هآرتس، 24/9/2008م. 

ـ لقاءات مع يعقوب جريس، وصالح أبو لبن، وتحسين يقين، وملكي سليمان، وعبد العليم دعنا، وبسام الشكعة، وخالد أبو عكر.