في سرد ممتع وبسيط وعميق يتغلغل القاص المصري الشاب في أعماق الرجل الباحث عن حب وحنان، والعاهرة المستلبة التي وجدت في عرض الشاب مساحة لتعود إلى إنسانيتها وحلمها في بيت دافئ ورجل واحد يعيد إليها أدميتها المستباحة.

ليلة صيف هادئة

أحمد عبد المنعم رمضان

كانت تقف كل يوم بنفس المكان, هذا الشارع الهادئ الذي لا ترتاده إلا السيارات الفارهة والعربات السريعة... كانت أنيقة مثلها مثل الشارع, تقف بعدما تصبغ وجهها الأبيض بألوان تنير ظلمة الليل وترسم ابتسامة صافية, ليست كابتسامات العاهرات, ابتسامة محبة رقيقة,  ثم تثنى إحدى ركبتيها بينما تعوج خصرها كاشفة عن انحناءات جسدها الغض وردفها الممتلىء, مبرزة نهديها النافرين من بين ملابسها القليلة.

وكان يقف بنفس الموعد من كل يوم بالجهة المقابلة من الطريق, لم يكن من أبناء هذا الشارع, ولا من عابريه المعتادين. رآها ذات مرة, كان ما لبث أن أنهى علاقة عاطفية امتدت لسنين, بعدما اكتشف أن محبوبته مازالت ترتبط بصداقة بعض زملائها الرجال, كان ملتزما أو متعنتا, لم يحب قاسم أمين أبدا, أمرها من قبل أن تنقطع عن كل من تعرف من أبناء الجنس الآخر, وعدته كثيرا, وأخلفت كذلك... حتى علم صدفة بكذبتها البريئة أو الخبيثة, وهو لا يطيق الكذب, فألقى بعلاقتهما في النهر وهما يعبرانه بين العشاق الهائمين في ليل هادئ بهيم... مشى كثيرا وهو يقلب فى صفحات ذكرياته الطازجة ويرى صورتها فى وجه كل المارة بالشوارع... كاد يعود إليها, يرتمي بين أحضانها ويقبل شفتيها الكاذبتين بلذة واشتياق... كان طفلا بريئا, يكره الكذب ويلعن الكاذبين... طال المشي ومر الزمان متهاديا وكادت عيناه تفضحانه بدموع كتمها تحت ستار جفونه... إلى أن وصل هذا الشارع الهادئ المظلم, ليختبئ بين ضلوعه ويحتمي بجدرانه العتيقة. وجدها على الجانب الآخر, وكأنها تنتظره, تبتسم ... لم تكن تبتسم له, فهي اعتادت ألا تبتسم إلا لراكبي السيارات, إنه وقت العمل وللعمل قدسيته... جذبته الابتسامة المرسومة بلون أحمر داكن يلمع على سطح لوحة بيضاء تتزين بعيون بنية وشعر أسود يتطاير خفيفا على جانبى اللوحة بين نسمات الهواء الشحيحة.    

وقف بالجانب الآخر من الطريق, وظل ينظر إليها بإعجاب مفرط محملقا في تفاصيلها الرقيقة, لم تمر محبوبته بعيونه قط منذ أن لامست عيناه الصورة المرسومة بالجانب الآخر... كلما تحركت يمينا, تحرك موازيا لها... وكلما مالت يسارا, مال على نفس خطاها, تركت السيارات ورفعت عينيها لهذا الواقف على جانب الرصيف المقابل, التفتت إليه مبتسمة, ابتسامة مغايرة, ابتسامة غير مرسومة, حقيقية, لا تستطيع أن تحدد أيهما أجمل, فكلاهما خطاف... رد الابتسامة مرتبكا وظل ثابتا بمكانه, لم يعبر الطريق... وقفت سيارة أمامها, تحدثت إلي سائقها, وما لبثت أن مشت السيارة بعيدا تاركة الفتاة بنفس مكانها المعتاد, نظرت إليه نظرة داعية, ولكنه لم يأت... عقدت شفتيها ثم عادت لتبتسم لراكبي السيارات إلى أن ركبت إحداها وخرجت من الصورة بعدما علقت بخياله.        

ذهب إلى بيته مشيا, ترنح بالشوارع كالسكران بعدما عجزت أقدامه أن تحمله أكثر من ذلك, وعاد ليرتمي على سريره ويغمض عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا ويغوص مع أحلامه بطيفها الخلاب وجسدها الملهب وعيونها الأخاذة. قضى ليلة ليلاء بحضن جديد دافئ وعميق. كان أول يوم يقضيه بعيدا عن محبوبته السابقة, ولكنه لم يذكرها ولم يحلم بها, لاحظ أنه لم يحلم بها أبدا!!

خرج في اليوم التالي بعد غروب الشمس متوجها لنفس الشارع ووقف بنفس المكان وظل منتظرا ساعة أو يزيد, حتى جاءت, كانت تركب (تاكسي), تجلس بالمقعد الخلفي, خرجت وانحنت  لتحاسب السائق, فتدلى نهداها قليلا, عادت إلى موقعها المعتاد, تماما كالأمس, رسمت ابتسامتها الساحرة وانتظرت زبونها, لمحته, فنظرت إليه مباشرة في عينيه وابتسمت ابتسامتها الأخرى, الحقيقية, وكادت تدعوه أن يأتيها. تحولت ابتسامتها إلى ضحكة وهى تمعن النظر فيه, وهو يكاد ينفجر احمرارا من شدة الخجل والارتباك. وقفت أمامها سيارة, فالثانية, فالثالثة, وهى لا تركب, ثم عاتبته بنظرة حزينة وركبت بالسيارة الآتية.

عاد يقف أمامها في كل يوم دون أن ينبس بكلمة, ويعود إلى سريره حالما بليلة, أو بعمر كامل بين أحضانها.       

 مر الأسبوع وابتسامتها إليه تصغر يوما بعد يوم, حتى ضاقت به وبوقفته المستمرة دون أن يكلمها كأنه مراقبها أو ولى أمر يتابع ابنته الضالة... فعبرت الطريق إليه ووقفت أمامه وجها لوجه وتأملته مليا ثم قالت بصوت رقيق( إيه ؟؟), لم يجبها وغاص بتفاصيلها الناعمة, قالت له (معكش فلوس, مش كده؟؟), أجابها بإيماءة من رأسه ثم أخرج من جيبه ورقة بمئة جنيه, فضحكت ضحكة غير عاهرة, ضحكة بسيطة, لا تتردد قهقهتها في السماء, فأشارت له بيدها أن يرجع الورقة إلى جيبه... ثم أضافت (طب عندك مكان ؟؟), فأجابها بنفس الإيماءة السابقة أن لا... قالت (بس ديه مشكلة, أنا كمان معنديش مكان)

(تحبى أعزمك ع العشا؟؟)

ابتسمت ابتسامة صافية, لم تبتسم مثلها من سنين وقالت له (عشا؟؟ بس كده؟؟).

أجابها محمر الوجه (لو مكانش عندك مانع).

قالت منغمسة فى ابتسامتها (لاء معنديش)... ثم أضافت (أنت غريب أوى).

ابتسم لأول مرة منذ بداية الحوار وحلت ابتسامته محل الوجوم ثم هز رأسه موافقا... شعرت أن الأمور تسير بمسار لم تعتده من قبل ولكنها تتمناه, فتجهمت للحظة وقالت بحدة (على فكرة, أنا مكنتش كده, بس حصلى ظروف, اللى حصل أنى...), فوضع سبابته على شفتيها مسكتا إياها حتى إحمر أصبعه من أثر لونهما الجذاب, فعادت لوجهها الابتسامة البريئة وإن تخللها بعض الخوف, فقالت (أنا ممكن أبطل الشغل), فلم يعلق, ثم سألت ملحة (هو أنت عايزنا نكمل مع بعض؟؟), وضع يده على كتفها ضاما إياها إلى صدره الخشن.

وقفت أمام فاترينة مظلمة لأحد المحال المغلقة ورأت صورتها مرسومة على سطحها الزجاجي, فمدت يدها بجيب سرواله وأخرجت منه منديلا ووقفت تمسح من فوق ابتسامتها لون شفتيها الداكن وأخرجت لسانها يتحسسهما ويمسح  بقايا الأحمر ثم نظرت إليه نظرة بريئة لا تليق بعاهرة. أزاحت ذراعه من جوار جسده ووضعت ذراعها بينهما والتصقت به كأي معشوقة تحتضن عشيقها. أغمضت عينيها واستنشقت نفسا عميقا برائحة لم تعرفها من قبل, ابتسمت بعيون مغمضة سارحة بأحلام كانت بعيدة, وشفتين غير ملونتين وشعر متناثر تحت نسمات شحيحة في ليلة صيف بدت هادئة, أو أكثر من هادئة.