هي أقرب للقراءة العاشقة لهذه التجربة الشعرية السورية والتي تعيش "اغترابها" في "منفى" السويد، لكن ميزتها الفرادة. وهو ما يدفع شاعرا عراقيا ل"تلصص" لذيذ على قصائد شاعر يبني أفقه الشعري من خلال "تناصات" خاصة مع تجارب كونية أهلت قصائده الى إعلان خصوصيتها المتفردة.

«القندَلفت» الذي حمل شمعَ البِلاد

كريم راهي

لا أكتبُ عادةً في نقدِ الشعرِ، لكنني أكتبُ في مناسباتٍ نادرة، كي أسجّلَ إعجاباً بهذا الشأنِ أو ذاك تفرضهُ عليَّ شروطُ اللحظةِ الشعريّة.

ما يشدُّني لنصوصِ الشاعر (حنّا حيمو)،الذي أخصهُ بمكانةٍ إنسانية لديَّ، غيرَ كونِهِ شاعِراً، استعاراتُهُ ومفرداتُهُ الخاصة التي قلّما أمكَنَ لآخر أن يشاركهُ فيها، أكثرَ مما تشدّني أغراضُ الشِعرِ فيها. يبدو الأمر هنا كما لو أنه انتهى مُبَكّراً من اختيار شكلِ نصّه واستراح من عناء التجريب.

ورُغم نظرةِ الريبةِ والتشكّكِ - والانتقاص أحياناً- التي ينظرُ بها الشعراءُ لما يكتبهُ نُظَراؤهم، باعتبار أنّ واحدهم لا يرى الآخرَ إلا من خلالِ معاييره التي يعتبرها مقياساً، إلا أنني أتّفقُ على أنَّ بعضَ أشياءِ (حنّا) تخصُّهُ دون غيره، وأنّه وجد لنفسِه بعضَ الفرادةِ. منطقتُه محرّمة وتفاصيلُ نصوصِه خاصّةٌ به كما أن مَكتوبهُ يُسمَعُ منطوقاً. وأرى أنَّ من مسؤوليتي كمتذوقٍ للشعر، لا كشاعِر، أن لا أكيلَ لهُ مدحاً في غيرِ مكانِه. هذا إذا أُخِذَ كلامي عمّا سأقولُهُ عن شعرِهِ على أنّه مديح.

الشعرُ في كلِّ أشكالِه، صورٌ في وعاء اللغة، يميّزُهُ عن غيرهِ من فنون الكتابة أنّه غيرُ معرّف تماماً، لكنّه يقع في مكانٍ شاخص. لا شكل لهُ ولا قانون غير أنّه منضبطٌ ضمن خواصّ مادّة هي أشبهُ ببلازما النار التي لا تتشابه فيها لحظتان من الاضطرام.

من هذه البداهة التي قد يتَّفِقُ الكثيرون ممن حملوا عبءِ الكلمةِ معي بشأنِها، أنطلقُ فأقولُ أنَّ الصُورَ عند هذا الشاعرِ تأتي في جُملٍ مشدودةِ العُرى، بطريقةٍ تخصُّ تأريخَ ذائِقَتِه اللغوية هو وحده لا سواه، (القندَلَفتُ) الآراميّ الذي فارق الحاضِنةَ العربيةَ منذ صِباه، حاملاً معَهُ ما أمكَنَ من شموعٍ سيوقِدها في منفاه، وصارَ ما يشّدهُ إليها وهو في بدايَةِ عقدِهِ الخامس، خيطُ الحنين المُنَدّى بدمعٍ يكاد ينوبُ في الكثير من نصوصهِ عن المكابرة. يُذكِّرُ هذا بـ(سركون بولص)، عرّابِنا المهاجر، الذي إن كانَ شاعِرُنا قد أفلتَ من فخاخِ (محمود درويش) قبلَه، فإنّهُ لم يفلت منهُ.

بل هو يسقط أحياناً في مكائِدِه من خلال ما يَشي بِهِ من مفرداتٍ وتركيباتٍ ترتبط بالمكان (البلد)، لا الأصولِ الأثنية لمهاجرٍ وجدَ نفسه خاسِراً، في رحلة البحث عن الألدورادو، إلاّ من اللغةِ، أداةِ الشعرِ، تلك الفضيلة التي ميّزت نصوصَه الأخيرة في وطنِهِ البديل، بعد أن اختارَ شكلَ قصيدته المعلن في مطبوعِه الأوّل (الهواء ثُلثا زُجاجتي ونديمي البحر)، الذي أصدرهُ مؤخراً من منفاه.

لقد اقتنصتُ، في لحظةِ تمكّنٍ من النصّوص، بعضاً من استخداماتِه لغريب الاستعاراتِ فاكتشفتُ أن وراءَ ذلك تأثرٌ بهيكلٍ لُغوي يتوسطُ الضبابَ، بعيدٍ ومتَّسِع، لكن غيرَ شاهق. ولكي أضفي بعض المصداقيّةِ على ما أقول فإني سأتناول بعضاً من آخرِ ما قرأتُ لهُ من نصوصٍ، تلت كتابَه الشعري المذكور، الذي أعتبرُهُ خَطوته الجادّةَ الأولى في الشعرِ ومتاهَتِه.

سأبدأُ من اللغة الكنسيّة التي يغترفُ الشاعرُ من بحرِها المديدِ فأقول، لا يُخفى أن سنوات الطفولة الأولى التي تشكّل مخيلة الإنسان تُكوِّن في العادةِ طبقةَ الخزين المعرفي الأساس الذي لا يفنى إلا بفناءِ الإنسان نفسِه، لخصوبة الذاكرة أولاً ولطراوتِها. من هذه الذاكرة ومن تلك المخيّلة هنالك ما ترك أثرَهُ الكبيرَ على مفرداتِ شاعرنا التي لم يَخلُ واحدٌ من نصوصِه منها.

في الكثير من تلك النصوص أيضاً، وجدتُ أنّ الشاعر يُقيم بتلك الأدواتِ، حواريّاتِهَ الصائِتة مع ذاته، مرّة بطريقة المونولوج الداخلي، في نص (وحيد) مثلاً، وأخرى تشبه طريقة الحوار الصامت مع صورتِهِ في المرآة، كما في نص (هذا مكانُك). فيما لم أرَ الشاعرَ يتحدّث عن نفسِهِ قطُّ على إنّهُ الشخص الثالث في المحكيّة.

أما في دايالوجاتِه الموجّهةِ للأنثى، نصوصٍ مبهمة الـ ( القصد) أو تلك التي يشي به عنوانها (على مرمى شبق) ، فالأمرُ يأخذُ مَسلكاً آخرَ أكثرَ تشبُّثا، الأنا هنا تقفُ في مواجهة الأنتِ، لا هروبَ صوبَ ضميرٍ غائبٍ أو مُخاطَب. وكأنَّ الأمر خوفٌ من ضياع هذا الجسد- الوطن البديل، أيضاً، الذي ينتمي الشاعِرُ إليهِ كُليّاً في اللحظةِ ذاتها.

يشذُّ عن هذا القليلُ، مثلُ نَصّي (الأرملة) و (قندلفت) اللذان كتبَهُما بهاجس الإشفاق ومن الجهة المستقرة في داخِلِه، كما لو أنّهُ كانَ ينظر لامرأتين مختلفتين لكنهما متشابهتان في همّ الإنتباذ القسري للذاتِ المقهورة.

إن حنّا في أغلبِ حوارياتِه مع المرأة، يكتب في القسم الأعظم منها، بحريّة أكبر وبلا رقيبٍ شرقِيٍّ على الذهنيةِ المحرَّمة، بسببٍ من جرعة الهواء الكبرى التي يتنشَّقُها. نصوصه الإيروسية، المكتوبةِ بلغة الحبِ المُستعارةِ من مرجعيّتهِ الكنسية، كما أسلفت، كما في (نشيد الإنشاد) أو الكثير من الترانيم التي حفرت منذ الصغر مكانها في وجدانِه، نصوصه تلك، جريئةٌ ومباحة كما أتيحَ لها أن تتشكّل.

إلا أن نصوصاً ظهرت بعدها أتت بشكلٍ مواربٍ لم يُتَح له فيها أن يجهرَ، باتت تفرضها شروط المحرّم لدى الجانب الآخر، مثل نصوص (شوق)، (يا صبيّة) و (بالريشة). لقد حكمَ الشاعرُ على حياتِهِ بالخراب.

في واحدٍ من أشهرِ وأحبِّ نصوص الشاعر (كافافي) إلى نفسي يقول:

"إذا كنت حياتُك خراباً في هذا المكان، فهي خرابٌ حيثما حللت".

إنني أجد أن (حنّا حيمو) قد حكم على حياتِه بالشعر.. نعم إنّهُ يقتربُ حثيثاً من منطقةٍ شديدة الوعورة والخطورة، لقد عبر الجدارَ المظلمَ وباتَ يسمعُ حفيفَ الأجنحةِ بتعبير (كازانتزاكي)، يسمعُ نفسَهُ تمرُّ في الجهة الأخرى كما يقول مواطنهُ (توماس ترانسترومر).

 

شاعر من العراق

(*)  حنّا حيمو: شاعر من سوريا يقيم في السويد، صدر له مؤخراً ديوان بعنوان الهواء ثلثا زجاجتي ونديمي البحر عن دار نون الإماراتية.