في هذه المراجعة لرواية الناقد المغربي اللامع نكتشف كيف استطاع الناقد المرموق أن يجلب إلى روايته الكثير من رؤى الناقد الذي تحول معه النقد إلى إبداع خالص، دون أن يتخلى عن نصاعته المنهجية أو عمقه الفلسفي. كما نتعرف عبرها على الكثير من إشكاليات ازدواجية اللغة، وقضايا الهوية، والعلاقة الملتبسة والمعقدة مع الآخر

عبد الفتاح كيليطو في «تخاصم الصّور»

ت: إسماعيل أزيات

عبد الحق أنون

إذا كانت الرواية تناسب عموما نموذجا أصليا من الأدب الحكائي وتمثيلا كونيا لما يبدو لنا يشبه مثال السرد الأكثر تميّزا وانتظارا، فثمّة رواية أخرى كالرواية المغربية ذات التعبير الفرنسي تبتعد عن النموذج وتتميّز بطريقة تفكيرها الخاصة بها. تبدو الرواية الغربية للأوروبي فعلا ثقافيا عاديا تماما، كونيا، يتّسم ببداهة لا جدال فيها، في المقابل، يمكن للرواية المغربية أن تمثل مصدر اختلال وظيفي وأحكام زائغة لأنّها تطرح ظاهريا مشكلتين: الأولى بالنسبة للذين يكتبونها والأخرى بالنسبة للذين يقرأونها.

من المرجّح أنّ هذه الوضعية تًُعزى بشكل أساسي إلى الظواهر المرتبطة بالاختلافات بين الثقافتين أولا، ولكن أيضا وخصوصا إلى ظواهر الازدواجية اللغوية. هذه الحقيقة المعقدة أنتجت أدبا روائيا أصيلا أبرزه النقاد منذ السبعينيات.

إنّ فعل إنتاج السرد المغربي ذي التعبير الفرنسي مشبع بعمق بهذه الباثولوجيا المميّزة للأجيال الأولى من الكتّاب الذين تجسّد الرواية عندهم شكلا من الوعي المفاقم. الإصرار الذي أتى لاحقا بردّة الفعل بواسطة الكتابة الشعرية والروائية يظهر، بشكل مفارق، كعلامة التزام ثقافي للكاتب ويصير ضربا من ضمانة. إنه يجسّد أيضا، وأبعد من تعبير صريح وفظ، استغلالا أدبيا للغة الفرنسية كاشفا عن تعقد الاختيار، عن علاقة اللغة بالأنا وبالعالم. حتى وإن بدت الوضعية مؤاتية لتواصل بين ـ ثقافي، فإنّ تصوّر، ولو فكريا، أنّنا لسنا وحدنا أسيادا في أوطاننا، يصبح نوعا من علم أمراض خالب يلخّص الوضعية المفارقة للكاتب المغربي في صراعه مع لغته الثانية. يكتب عبد الله العروي: "لا فكر إلاّ بالآخر... ماذا يعني العرب بداهة عندما يقولون الآخر؟ يعنون الغرب"(1) .

كانت قضايا الهوية، الثنائية اللغوية، الاقتلاع، المثاقفة، الكولونيالية... إلخ باستمرار، تنبثق من جديد على سطح السرد الذي أصبح، بفعل ذلك، وسيلة للتعبير والوعي الثقافيين الحادّين. نجم عن ذلك دوما هذا الإحساس بوجود تنازع نفساني والذي يؤدي استخدام اللغة الفرنسية إلى أن يجعله أكثر فتكا ـ هذا ما لم يكن يصلح أيّ شيء، لأنّ اللغة السردية هي اللغة الكولونيالية أيضا. فالأثر المأمول من خلال الكتابة الأدبية الناطقة بالفرنسية عند جيل كامل من الكتاب المغاربة، هذه الهتافات المتمرّدة الموجّهة خصوصا للمستعمر السابق ولنخبته المثقفة(2)، تتجاوز التفسير اللغوي لتحدّد موقفا يخلق بين الأطراف موضوع الخلاف، بين هذين الطرازين من الأفراد، الواحد كاتبا في لغة الآخر، صلات وروابط بدأنا بالكاد وبفضل تطوّر العقليات، نميّز تعقدها.

تشكل رواية "تخاصم الصور"(3)، لعبد الفتاح كيليطو مظهرا ممثلا، على جانب من الأهمية، لتطوّر الكتابة المغربية. هذا الكتاب المسلّي والرّصين في آن، يجسّد موقفا من طراز مختلف. فبتمثل هذه الرواية لتاريخ العقليات وللتاريخ حصرا، تنغمس في نوع من لذة الكتابة عن الذات ولأجل الآخر.الكتابة وقد تحدّرت من نسج اتصال بين اللغة الأجنبية مع إحداثيات الواقع الأهلي، تكشف في الحال عن نزعتها الثقافية، بالرّغم من أنّ وجود "أنا" يتمّ إدراكه كعلامة على السيرة الذاتية. الأمر الجوهري لا يغيب مطلقا عن النظر، وككلّ كتابة سردية، تتجاوز هذه الرواية الصغيرة الجدال القديم بعض الشيء حول الاختيار المشتبه به للغة الفرنسية، والذي أصبح هو نفسه موضوعا للفكر المغربي، لتفضي إلى مسألة مركزية: مسألة المعنى ومسألة التمثيل شبه الثقافي للعالم من خلال التخييل الروائي أو التخييل الذاتي.

تحمل "تخاصم الصّور" خاتم مؤلف أهلي مسلّي، بخلاف ما كان يجري في روايات الجيل الأول والجيل الثاني من الكتاب المغاربة، الذين تغرق الكتابة عندهم في ضرب من ضغط نفساني و "وعي شقيّ" بالذات. مع كيليطو، نحن أمام نص "نظيف" ذي نغمة باسمة والذي يقترح علينا تجربة جديدة من السرد الأدبي الناطق بالفرنسية: تجربة كاتب يملك لسانين، مستريح في جلده (أقصد في جلديه الإثنين معا!).

السارد في "تخاصم الصّور" بخلاف الأكثرية من أمثاله، اتخذ موقفا أكثر "عقلانية" ولم يعرض بتباه، عبر السّرد، لهذه الحركة النفسانية العنيفة من الثورة، لجنسية مرتبكة ومشوّشة أو لمصرع فظيع للأب، رغم وضعية ازدواجية اللغة التي يوجد فيها والتي لا مناص منها، يتأسّس السرد عنده على معايير احترام القيم الأصلية، احترام حق الاختلاف الثقافي وحيث تضمين النادرة يتوارى لفائدة الانشغال بالحقيقة. هذه النزعة، على أية حال، قليلة الوجود في الرواية المغربية، تقرّر المظهر الجديد للكتابة الروائية، والنزوع الذي يقطع مع بعض التقليد وبالتأكيد ينتج أسلوبا (...) إنّ هذا النمط من الكتابة يتبنّى مسعى استعاديا ليس دون قرابة مع الملفوظ النرجسي الإثني والذاتي (حيث "أنا" مستمرة ومستديمة). الكتابة الروائية ذات التعبير الفرنسي، مع الكتاب المغاربة، وكيليطو على وجه الخصوص، كلّما انتمت إلى إعادة بناء للطفولة المستنجدة بالذاكرة، تنكفئ بشكل منظم في ماض أهلي. التمفصل المزدوج لـ "أنا" و "للماضي" يضفي مذ ذاك على الخطاب الذي أصبح ضامنا لنفسه، اكتفاء هوية تبحث عن نفسها.

مهما بدا هذا الأمر مفارقا، فإنّ الروائي المغربي، بكتابته في لغة الآخر، هو على الدوام يبحث عن إيجاد موقع له في حياته، في ثقافته، في بيئته وفي ذاكرته. يسمح السرد بلغة أجنبية للكاتب المغربي باستثمار الاختلاف والتموقع تجاه الآخرين، طبعا، لا يمكنه إلاّ أن يقنن خطابه الخاص به حتى يغدو مقبولا في عالم الآداب. إلاّ أنّ العمليات المتنوعة التي يتحمّلها الكاتب عندئذ، تبين رغبته في أن يمثل أمام العالم بخصوصيته الثقافية(4) ، لكن أيضا بإرادته في جعل هذه الخصوصية إطارا اتفاقيا للسرد. هذا التفكير المقترن بفكرة أصالة ثقافية يجب انتزاعها، تساعد على بزوغ تخييل ذاتي حيث الرؤية تتمّ من الداخل. فالمغامرات التي يتمّ الزعم بأنّها حدثت، تُقدّم كأنّها الحكم الحاسم الحصري لمواطن أهلي معنيّ صميميا بفصل اللحظات القوية لحياته وجعلها رموزا تنفتح على آخر حميمي، يرغب الكاتب في استعادته وتقاسمه مع قرائه.

الكتابة الروائية عند كيليطو ليست فقط عملا فيه كشف ذاتي، بقدر ما هي تمثيل للاختلاف الإثني. يواجه الكاتب، نتيجة هذا الوضع، تلقيا مزدوجا: من جهة، تقدّم الرواية مجموع أحداث ووضعيات اجتماعية وعائلية يشتغل فيها كلّ النسق الموضوعاتي والثقافي وذلك لجعل القارئ الأجنبي يفهم بشكل جيّد ميكانزمات العالم الأهلي ومميّزاته. من جانب آخر، لمّا يتعلّق الأمر بالقارئ الأهلي، فإنّ الحدث الروائي موضوع داخل وضعية اجتماعية (وحتى شعبية) حيث يبدو كمكوّن له حظوة في سرد الأحداث العائلية، التي تهمّنا جميعا، صائغا ملفوظا معطى، موضوعا محسوبا بعناية، يقول "أنا"، وحيث الهوية تتناسب مع جميع القراء الأهليين. لكن، بمعزل عن هذا التواطؤ المضمر الذي يتمكّن الكاتب من إقامته مع قرائه، هل الأمر يتعلّق حقا بأحداث؟ أم أنّ مجرّد تصرّف في إطار اليومي يشكّل مغامرة مع تعريفها الثقافي المسبق؟

لا يمكننا سوى التساؤل عن حقيقة السرد عند كيليطو: أهو رواية؟ هذا الجرد من المغامرات المتلاحقة، هذا التجميع اللامنتهي لحوادث صغيرة يسندها "التعليق" و "المقالة الروائية"(5) ، Eai romanesque، مع إضافة سمات الشخصية الاجتماعية والجماعية في تعاقب أفعال رمزية لها ترقبها الذي لا ينتهي؟ أم هو عرض لهيمنة السيرة الذاتية الدائمة التي تكرّس قول السارد الموثوق به بإدماج إدراكه العميق (ضرب من الاستبطان) للفاعل الأهلي الذي يوجد في قلب الخطاب؟

في كلّ الأحوال، منذ اللحظة التي يوضع فيها التعليق في جسم الجملة السردية وبتضخيم آثاره، يُجهض التخييل لحساب الوقوف أكثر على التماعات السلوك التي تشكل النسيج الضّام للرواية وللبحث الإثنوغرافي. توجيه النظر إلى هذا القصد يكشفه استثماره الأقصى. تعود نفس المعالجة على الدّوام، الحدث ليس شيئا آخر سوى إظهار سلوك نوعي معمّم انطلاقا من وضعية اجتماعية أصيلة، بحيث يصبح موضوع تحليل ويظهر دوما كأنّه صدى كثيف الحضور لحقيقة أهلية ستظلّ قائمة في شكل شذرة مقال في الوعي المزدوج للخطاب الروائي.

فعلا، إنّ السلوك، باعتباره شكلا من أشكال المطالبة بالاختلاف الإثني وبديلا عن الحدث، هو الذي يمثل هنا مادّة أولية للسرد. هذه المادة الأولية يتمّ تناولها في الحال وتنقيحها من خلال تعليق عالم، الشخصية تغادر عندئذ مظهرها التخييلي وتتصرّف على اعتبار أنّها كائن اجتماعي وإثني وتسجيل هذه السلوكات يتمّ، بشكل متضامن، في النطاق الأهلي النوعي.

لا ننسى أنّ الممارسة، في مجال السرد الأدبي، تتغيّر وتقبل عدّة قواعد. إلاّ أنّ العمل الروائي المغربي المشيّد بواسطة الذاتية الإثنية، وقد تموضع في منطقة الاستكشاف والتجريب الحكائي و "اللسان المزدوج" المكرّس، يقدّم السلوك الفردي كما السلوك الجماعي في شكل فعل لافت للنظر، غير مفهوم وحتى غير متوقع، والذي يصبح، بفعل عدم ملاءمته مع لغة السرد، المولّد للحدث، لـ " th matisation" "جديدة للعالم"، وبالتالي للمعنى الإجمالي للنص. السرد، هنا، ليس في خدمة الحدث، إنّه تمظهر دينامي لعالم السلوكات الأهلية ولقيمها الإثنية. الخطاب وإرادة الشرح اللتان ستقطعان السرد على الدّوام هما الدليل على وعي ثقافي يقظ يعزز المسار السردي من خلال التضعيف الخطابي للحدث المتحدّر من الحياة اليومية.

إنّه لعبر سيرورة "th matisation" وإبراز السلوك الأهلي أو الفضاء العائلي، تُنجز الكتابة الروائية. نشهد عند كيليطو ضربا من عرض لتخصيص مرجعي، لمّا يُوضع في سياقه الخاص، يتضخم ليصبح غاية في حدّ ذاته. إنّ مركز الاهتمام، انطلاقا من هذا التضخيم، موجّه تدريجيا نحو عمل التميّز الثقافي، وبسبب ذلك، يجد الحدث التخييلي نفسه عمليا باطل المفعول. الحوافز ذات الحمولة الإثنية، تصبح إذن الأهداف الحقيقية للسرد وسلوكات الشخصيات عناصر مولّدة للمعنى الإجمالي للنص.

كلّ شيء صيغ لإزالة وهم التخييل، لقد تمّ التعبيرعن سلوك "الشخوص" التي تعكس السّمات الأساسية للجزء الأكبر من المجتمع المغربي، بتنسيق مختلف الوضعيات السردية، هذه الأخيرة هي قصدا متنافرة ومتجاورة بالنسبة لقارئ متعوّد على حبكة مبينة لها بداية ونهاية، لكن الذي يضمن التماسك والالتحام هو الحضور الدائم لـ "أنا". هوية المؤلف هي، بعمق، متورّطة، إنّها تحمل إسهاما ذاتيا يمسّ المعنى العام لجميع الجمل. هذه الهوية المتحدّرة من رؤية للعالم، يتمّ التعبير عنها في النص الناطق بالفرنسية بطراز من الوعي بالاختلاف. هذا الوعي الذي يرمي إلى اختصار، إن لم يكن إلغاء الحلم التخييلي المتغيّر لتشييد الواقع الأهلي كـ "حقيقة روائية" ملموسة.

مع "تخاصم الصّور"، ينجح كيليطو في التعبير عن الميزة النوستالجية والأوتوبيوغرافية للنص المتشظي، المتفجّر، ترابطه يضمنه الإدراك الموثوق به لسارد يقول "أنا" والذي يرغب في أن يكون النّاطق بلسان منظومة من القيم الثقافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ عبد الله العروي، الايديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، 1995، ص 35. كتب عبد الكبير الخطيبي أيضا في "الذاكرة الموشومة" Mmoire tatoue: "النداوة الأسطورية لهذا اللقاء مع الغرب تعيدني إلى ذات الصورة المتذبذبة للآخر، تناقض العدوان والشغف"، منشورات دونويل، 1971، ص 8.
(2) ـ في الحقيقة، ليست الرواية المغربية على الأرجح كتابا سهل القراءة.
(3) ـ LaQuerelle des Images , Edition Eddif , casablanca , 1995
انظر أيضا الكتاب الذي يضم النصوص السردية لعبد الفتاح كيليطو: "حصان نيتشه"، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، توبقال، 2003.
(4) ـ حين يتعلّق الأمر بتقديم شخصية للقارئ، فليس من خلال صورة مادية أو معنوية ينجز السارد ذلك. يتمّ التقديم بشكل غير مباشر في سياق الحدث اليومي أثناء جريان سلوك ما.
(5) ـ لنذكّر بأنّ كيليطو يؤثر كثيرا استخدام Eai. كلّ إنتاجه تقريبا كُتب ضمن هذا الشكل.
"المقصود من مصطلح th matisation حسب موسوعة ويكيبيديا ما يلي": وجه أسلوبي يقتضي أن يجري تكرار عنصر، عموما في بداية الجملة او البيت الشعري، ثم بعد ذلك يًُرجع إليه ويًُستعاد بهدف جعله أكثر بروزا وظهورا، وأيضا هو إجراء لساني يستوجب وضع على رأس الجملة واحدا من عناصرها (مهما كانت وظيفته) ليُجعل منه جذر هذه الجملة. (المترجم).
  

المصدر:
Abdelfaah Kilito: Les origines culturelles d un romain magr bin , Abdelhaq Anoun , Editions L Armaan , 2004 , P: 7 _ 18
"تجدر الإشارة إلى أننا قمنا بترجمة أجزاء من مقدمة هذا الكتاب ومن فصله الأول تعريفا به وتحفيزا على قراءته"، خصوصا وأنّ المقاربة النقدية المبسوطة فيه، على قدر من التميّز والعمق والجدّة. (المترجم) عبد الحق أنون أستاذ باحث في الأدب العام والمقارن بكلية الآداب بالجديدة (وسط المغرب).