يتناول هذا النص المترجم عن الكردية علاقة الإنسان بالمحيط الضاغط في زمن الرعب واصطياد البشر في زمن الدكتاتور فتتحول الخمر بديلا وملاذا يزيد من إحباط الإنسان ويعزله قليلا.. قليلا حتى يجد نفسه وحيدا تماما بسرد سلسل وممتع وعميق.

من الأدب الكردي

شــــامَــــــرد

هــزرفــان

ترجمة: سامي الحاج

 

صب كأس العرق الرابعة، أضاف قليلاً من الماء فحوّل نقاءه الى بياض عكر. التقط قطعتي ثلج ووضعها في الكأس دون ان يحول نظره عنها، احتشدت جوانب الكأس بقطرات ندى بلون الثلج. نظر بحب وشوق الى كأسه المملوءة ثم رفعها بحنو ظاهر الى شفتيه، مرر لسانه على حافة الكأس وبشفتيه رشف قليلاً من العرق. ارتسمت ملامحه بابتسامة رضى خفيفة. بالكاد أبعد الكأس عن شفتيه فعاد وقربها مرة ثانية وأخذ كرعة طويلة هذه المرة وكأنه ينهل من ماء بارد بعد مشقة طريق بعيد، أفرغ نصف الكأس في جوفه، إمتقع لون وجهه وتقلصت أساريره وكأنه استشعر ألماً مفاجئاً. مجّ طرف سيجارته، توهجت جمرتها، سحب الدخان عميقاً مع الهواء الى رئتيه ثم عاد ونفثه كدخان منجم فحم فخيّمت سحابة منه فوق رأسينا. تنهد بأرتياح ثم راح يحدق في عينيّ مباشرة. كان يريد العودة الى حديثنا السابق وبعض ذكريات صديقنا شــامَــرد. قال:

- نعم يا ابن العم.. ذات يوم... أي يوم فكلها أيام الله، كانت أمسية خريفية منعشة، كنت وصديقي (بنكين) جالسين في المقهى الواقع أسفل التَـكْـيـة نتناول الشاي ونترقب أن يأتي صديقان آخران لتكتمل الشلة للعلب دورين من الدومينة.

بداية جاء شـامَـرد، كان يدعى شاكو، شَـكرو، كَـرَم شاه، على أية حال هذه كلها كانت أسماؤه وكانت له أسماء أخرى أيضاً. جاء وعلامات القلق بادية على محياه. سلّم علينا وألقى بجسده على الكرسي المتهالك كمّن يُدفع اليه دفعاً ولولا التصاقه بالحائط لوقع على ظهره. رحبنا به مذهوليْن، فسأَلنا بينما هو يرد على ترحيبنا به:

- أبا خوشتفي، أليس لديك في البيت شيئاً نشربه؟

- بلى، لدي عبوة خمسة ألتار خمرة محلية من صنع قرية (أَرادِن) مختومة لم تفتح بعد... أجبته.

- ومع ماذا تُشرب الخمرة؟ سأل ثانية.

- الخمرة خفيفة، يمكن شربها مع تفاحتين أو ربما بعض حبات الرمان.. أجبته مرة أخرى.

هز رأسه ورشق الهواء بأبتسامة، ثم قال:

- عيوني أنت، أبا خوشتفي. إذن اذهب الآن واجلب تلك الخمرة المحلية مع شئ من ثمار الرمان، يجب أن نشرب اليوم وننسى همومنا.

- ربما ليس لدينا هموم.. قال بنكين ضاحكاً وهو يمازحه.

رد عليه شـامَـرد بهدوء وقال:

- إعلم أن من لا همّ له اما مجنون او انه كائن اخر، ألا يصيبكما الهم إذا كنت أنا كذلك؟!

أيدته وقلت:

- حقاً ما تقول، يجب أن يتضامن الاصدقاء مع بعضهم.

نظر الي موافقاً وقال:

- أبا خوشتفي، أرجو أن تجلب تلك الخمرة المحلية، لكن لا تنسى الرمان. نحن سنشرب ولا يهم بعدها إن كان بنكين سيغتم أو لا، أبعده الله عن الغم فأنا أحبه كثيراً.

بنكين أخذ الامرعلى محمل الجد فقال:

- شاكو! لقد كنتُ أمزح يا رجل!

كفيلسوف، راح شـامَـرد يحدق في عيوننا، وبعد أن شعر أننا متأهبان لسماع جوابه الفلسفي جداً، قال:

- بنكين، صدقني لا فرق بين الجد والهزل، كلاهما واحد. كلام الهزل يبنع من أعماق النفس أكثر من كلام الجد. لن يموت أحدنا من أجل الآخر فكل واحد منا لديه همومه ولكن هموم كل واحد منا تثقل كاهل الآخرين أيضاً. المهم الآن أن نذهب ونرتوي من شرب الخمرة المحلية فنغدو مثل طيور أوآخر الخريف التي تأكل ثمار التفاح المتعفن الساقط تحت الشجر وقد تخمرت وتشبعت بالكحول، فتبدو مبتهجة جميلة في سكرها، تلعب جذلى وتدور حول نفسها وعندما تسمع حركة ما تقفز الى أقرب غصن وهي تنظر بجرأة الى القادم، لكنها حينذاك تماماً تكون طريدة. ولكن مِمَ نخاف نحن؟ فنحن فرائس منذ الازل، هكذا هي الحياة، البعض طرائد والاخرون صيادون!! هيا يا عزيزي أبا خوشتفي، ولكن لا تنسى الرمان.

نظر مرة أخرى الى كأس العرق وكأنه يريد ان يقول (لقد تركت هذه منسية) مدّ يده ورفع الكأس الى فمه، قال:

- أريد أن أشرب الليلة وأسكر حتى تأخذوني الى البيت محمولاً مثل شـامَـرد.

كرع الشراب مرة واحدة ثم وضع القدح جنب زجاجة العرق من نوع أوزو المستدقة العنق وملأه ثانية، أضاف اليه  قليلاً من الماء وقطعة واحدة من مكعبات الثلج. ثبت سيجارة مارلبورو طويلة بين شفتيه وبعقب سيجارته السابقة أشعلها ثم أطفأ المحترقة في المنفضة. نفث ما في صدره من دخان السيجارة، أعقبها برشفة من العرق، ثم استدرك حديثه:

- ذهبت وجلبت عبوة الخمرة وعشر حبات رمان من البيت. انطلقنا بسيارة شـامَـرد البيجو العتيقة، ميكروباص تسع ثلاثة صفوف من المقاعد. ابتعدنا بضع مئات من الامتار خلف البيوت ثم اوقف سيارته عند منعطف شجرتَيْ السدر، محل لعب طفولتنا وقال:

- هنا، دعونا نشرب هنا.

طوينا المقاعد الوسطية ونصبنا مائدة شربنا. ملأنا الاقداح بالخمرة المحلية، خمرة أَرادِن، وشربنا. شربنا ومزمزنا معها حبات الرمان. مذاق طعم الرمان المُـز وخمرة العنب الاسود كان لذيذاً جداً على اللسان، كنا لا نشعر بالوقت وهو يمضي ونحن نكرع كؤوس الخمرة.

في لحظة ما، لا أدري ماذا كان الوقت بالضبط، نفدت خمرتنا المحلية، قضينا على الالتار الخمسة! كانت الدنيا قد أظلمت. عيوننا تدور في محاجرها وأرجلنا إعتراها الوهن. تثاقلت ألسنتنا وهي تنطق بكلمات غير مترابطة. قال شـامَـرد:

- أبا خوشتفي، ماذا بقي؟

- لم يبق شئ! أجبته.

- أتدري عبوة العرق أظهرت موقفاً بطولياً ولكن للأسف لم يبق منه شئ. ليتها كانت نبع قَـشـيـلو(**). ماذا نفعل بكل ماء نبع قَـشـيـلو؟ ينحدر في التربة ويروي اشجار التفاح والعنب، وحتى ينضج العنب ونقطفه ونعصره ونحوله خمراً تصوروا كم من الجهد سنبذل! لو كان قَـشـيـلو ينبع خمراً لشبع المرء من شربه.

أجبته:

- شـامَـرد، لقد شبعنا من شرب الخمرة، تاخر الوقت وعلينا العودة الى بيوتنا الآن.

- ثكلتك أمك ماذا سنفعل إذا ذهبنا الى البيت؟.. قال.

كانت الدنيا قد أظلمت، قلت: سنذهب الى البيت على أية حال، شغّل سيارتك ودعنا نذهب، لا يمكننا أن نبيت في الخارج.

قال: نعم لئلا تفترسنا الضواري، وهل نحن خرفان! فلنغدو طرائد مثل الطيور السكرى، طرائد للذئاب المفترسة. نعم نحن طرائد ولكن لأولاد العاهرة الذين يجوبون الازقة، يتمايلون ويغمزون لنسائنا، ويفتشون عن طرائد. الناس يشتغلون ليل نهار فيما هم تصلهم دنانيرهم دون أن تنضح جباههم قطرة عرق واحدة.

على أية حال أقنعْـنا شـامَـرد بالعودة وفي النهاية أجلسناه خلف مقود السيارة وجلست أنا الى جانبه، وبعد لأي قال: المحرك لا يشتغل! راقبته في محاولاته وأدركت أنه لا يستطيع العثور على مكان مفتاح التشغيل. أعنته فدخل المفتاح مكانه. دار محرك سيارتنا ولكن شـامَـرد قال: لا أكاد أرى شيئاً، يجب أن تمسك أنت بالمقود.

أجبته: شـاكو يا رجل! أنا لم أقد سيارة في حياتي.

قال: إما أن تمسك بالمقود أو أن تبيتوا هنا الليلة. أنا سأدعس دواسة الوقود، لا تخف فأنا أعرف قياسها، سنقودها على مهل.

قبل موقف السيارات بمائة متر وعند دار الحاج حميَ قلت: شـامَـرد أوقف السيارة!

- ورأسك العزيز، أنا لا أعثر على المهجوم الذي يوقفها!

وبعد جهد جهيد وقبل أن ترتطم السيارة بالحائط توقفت. لم أعرف إن كان هو الذي كبح جماحها أو أن أطاراتها إرتطمت بحجرٍ ما. خرجنا ولكننا، كما قال هو، كنا أفضل حالاً داخل السيارة، فقد كنا نترنح يمنة ويسرة.

ولأن بيت بنكين كان يقع أسفل الحي فقد استدار وانحدر متمايلاً في الطريق.

بلسانه المتلعثم قال شـامَـرد: إذهب أنت يا أبا خوشتفي، سأنام في باحة منزل حميَ!

- لا، لا يجوز. سأرافقك الى بيتكم، ستموت من البرد هنا.

- لا تأخذني الى البيت لا أريد العودة الى ذلك الجحيم، المكان دافئ في باحة دار حميَ، ثم أنني سأتغطى ببردعة حمارهم.

لكنني دفعته أمامي برفق وعندما أصبحنا أمام باب دكان مَـمْ المضاء كانت أسلاك الهاتف المركزي مدلاة على الارض، قال وهو يرفع قدمه لأجتيازها بهدوء: إفعل ما بدا لك ولكن حذاري أن تخبط بهذا السلك أو تقطعه، هذا سلك الحكومة!

- ها قد إجتزناه فلماذا نقطعه إذن؟

- يا رجل، الآخرون يقطعونه وأولاد القحبة يأتون ويضربوننا أنا وأنت!

توقف عند جدار تنور سَـميَ وقال: هذا أفضل مكان، عصراً كانت سَـميَ تسجر التنور لتخبز وما زال التنور حامياً، سأنام هنا. إذهب أنت وكف بلاك عني لا أريد العودة الى البيت.

كان مجرى الماء في الشارع فقط يفصلنا عن بيتهم، دفعته بأتجاه البيت فقال لي: أرجوك دعني أموت هنا في هذه الساقية ولا تأخذني الى البيت، أن أفطس ككلب أفضل من حياة الجحيم تلك، أرجوك لا تأخذني للبيت بهذه الحال.

لكنني إجتزت به المجرى وصعدت به درجات البيت وطرقت له الباب.

فتحت زوجته الباب، نظرت الى شـامَـرد وقالت:

- هذا أنت ثانية! جئتني نصف آدمي، مسطولاً.

لحظتها رأتني فقالت:

- أنت جئت معه يا أبا خوشتفي؟ أقسم لولا إكراماً لك فأنني لم أكن لأدعه يجتاز عتبة الباب. كم أقول له: شـاهـو، إشرب ذلك السم الهاري في البيت لكنه يصر على تناوله في الخارج.

التفت شـامَرد إلي، ومن شدة ترنحه إستند الى الحائط، وقال:

- إنها تكذب!

سألتها:

- ئاميَ، هل حقاً ستسمحين له بالشرب في البيت؟

- نعم، مهما يكن فأنه أفضل من التسكع في الازقة.

كان ذلك اليوم أكبر انعطافة في حياة شـامَـرد. وهكذا رحنا نقيم جلسات شربنا في غرفته المنعزلة. وعندما كنت أدخل كان هو ينادي على زوجته: ئاميَ، أين غرفة أبا خوشتفي؟ فترد عليه: لا أحد يدخل غرفة العرق، وهي لكما وحدكما، لقد نظفتها.

مرة أخرى تناول كأس العرق وراح ينظر اليها بعشق وهيام، ثم رفعها بحنو وكأنه يريد الاعتذار لتأخره عنها، تطلع في وجوهنا وقال: نخبكم ونخب ذكرى البطل شـامَرد. الكريم الذي لم يمتلك يوماً ما يمكنه البذل منه بسخاء. الملك الذي كان مجرداً من السلطان وفي بيته مظلوم، الملك الذي لم يكن له خدم ولا حشم، السخي الذي لم ير جيبه ممتلأً يوماً.. نخبكم وفي صحتكم.

لم يدع الكأس تغادر شفتيه حتى ارتشف آخر قطرة عرق، ثم سارع وملأ الكأس السادسة وهو يقول: أرجوكم لا تؤاخذوني، لم أترك لكم من العرق شيئاً. فاليوم أنا شـامَردكُـم.

 

(*) شـامَـرد: كلمة مركبة بمعنى الملك السخي.

(**) قَـشيـلـو: واحد من أشهر وأكبر ينابيع المياه في منطقة بامرني بمحافظة دهوك في كردستان العراق. يمتاز بمياهه العذبة الباردة صيفاً، الدافئة شتاءاً.