تحملنا هذه القصائد الى غياهب الحرب، ومن خلال نقترب من شاعر أمريكي يصارع الشاعر داخله الجندي، ولعلنا أمام شاعر مناهض للحرب لأنه عاشها كجندي لذلك يتأجج هذا الصراع في زاوية الرؤية بل ويتمظهر أكثر في دقة الحس البصري. وقد شارك براين في حرب العراق والتي خسرت فيها أمريكا جنديا ربما لكنها ربحت شاعرا..

خمس قصائد

براين ترنر

ترجمة: حيدر الكعبي


 

مراقبة بالناظور

بناظور ليوبولد 40 في 60 مليم

أتفحص سماء حلبجة

ماسحاً بنظري السقوف الممتدة مسافة ألفي متر.

فأرى امرأة في ثوب أخضرَ براق

تقف بين هوائيات التلفزيون وأطباق الستلايت

تنشر الغسيل على حبل لامرئيّ

 

أراها تكسو الأمواتَ ثيابَهم،

أراهم يقفون صامتين وهي تُلبسهم ثيابهم،

فيما يحلق الحمام في الأعالي،

وترتفع من الأرض دفَقات من الدخان الأسود.

إنها ترحب بعودتهم الى الأرض المتصحرة

تمنحهم ثياباً بلون اليوسفيّ والزبرجد

وقمصاناً من القطن مصبوغةً بالأزرق.

 

إنها تأمل أن يميلوا باتجاه النسيم

لكي تنفخ الرياحُ فيهم الأجسادَ التي كانت لهم ذات يوم،

فإذا هم ثانية نساءٌ منتفخات الأثداء بالحليب،

ورجالٌ في نحافة الرعاة،

وأطفالٌ يدخلون جرياً في العدسات المحدبة للأفق.

 

 

ســـوق الأســلحة

في منتصف الليل تُسْدَلُ المصاريعُ الحديدية

وتُغْلَقُ الأبوابُ بإحكام، وتتسلل القطط المتوحشة

الى مخروط الضوء المطوّق بالعَتَمة

أسفلَ مصباح الشارع.

وفي الداخل، يلفّ (أكبر) رشاشةَ كلاشنكوف بقطعة قماش،

كأنه موسيقيٌّ يقمّط بوقاً مصفّحاً بالفضة.

 

ثمة محاقن زيت ومسدسات وقذائف آر بي جي—

يدسها جميعاً تحت سطح خزانة.

 

أهو تاجر في السوق السوداء؟ أم هو في المقاومة؟

لا فرق، فقتل الأمريكان يضع الخبز على المائدة،

ويأتي بنقود تزيد على ما يقبضه المرء في عام كامل.

إنه لن يسمح لنفسه بالتفكير بأصدقاء طفولته—

ذوي البدلات الزرقاء التي تجلب الموت

وهم يُقتلون ببنادق كان هو من زيَّتَ مواسيرها بيده.

 

و(أكبر) الآن يحرك الشاي بالملعقة،

ثم يحمل طفله—حبيباً ذا الأعوام الأربعة —الى سريرٍ صغير

تعلوه نجوم صناعية مضيئة مثبتة في السقف.

وفي آخر الليل حين يرعبهما الرصاص،

يستنجد (حبيب) بأبيه، فيقول له هذا:

"لاشيء. مجرد قرع طبول. مجرد موسيقى جديدة."

ثم يشير الى النجوم الصناعية التي تزين السقف،

ويشرح للطفل كيف تسافر تلك النجوم المضيئة

من هذا المكان المظلم الى ذاك.

 

 

خِزانـةُ الوَجَـع

لم يبقَ هنا سوى الوجع،

وسوى الرصاصِ والألم،

وسوى النزفِ حتى الموت،

وسوى لعنات الجرحى

وشتائمِهم وتجديفاتهم

لم يبق هنا سوى الوجع.

 

صدّقْ ما تراه عيناك.

حين ترى صبيّاً في الثانيةَ عَشَـرة

يدحرج رمانةً في غرفتك،

أو حين يفتح قناصٌ ثقباً في جمجمتك،

أو حين يترجل أربعة رجال من سيارة أجرة

في الموصل، ويمطرون الشارع بالرصاص،

صدّقْ ذلك.

 

إفتحْ خزانة الوجع،

وانظر ما فيها من سكاكينَ وأنياب.

إفتحْ خزانة الوجع،

وتعلّـمْ كيف يأتي الرجال الأشدّاء

ليصطادوا الأرواح.

 

 

موقع المراقبة رقم 71

بلد، العراق

 

يستريح البوم في عرائش العنب البريّ.

وتلمع أشجار اليوكالبتوس.

ومن المنارة ينطلق صوت.

 

لكل حياةٍ لحظتُها.

عبّاد الشمس يلتفت جهةَ الفجر،

والأبقار تخور في حقول القمامة.

 

وقد رأيتُه في الظلال.

راقبتُه في دائرة الضوء التي تجلبها بندقيتي.

وسمعت طنين أغنيته في ذباب الرمل.

وقد صفا ذهني تماماً الآن.

 

 

هنا، أيتها الرصاصة

إنْ كان ما تريدينه جسداً،

فخُذي إذنْ هذه العظامَ والغضاريفَ واللحم.

خذي الأمنياتِ المخبّأة تحت زنجيل الترقوة،

والصماماتِ المفتوحةَ للشريان الأبهر،

وتواثبَ الأفكار في شبكات الأعصاب،

خذي دفقةَ الأدرنالين التي تشتهين،

والطيرانَ الذي لا يمكن وقفُه،

والاختراقَ المجنون داخل الدفء والدم.

ولكنني أتحداكِ أن تُنهيْ ما بدأتِ.

فهنا، أيتها الرصاصة،

هنا أكمل الكلمةَ التي تجلبين،

وأنت تئزين في الهواء،

فيما أنعى أنا الرقبةَ الباردةَ لماسورة البندقية،

وأقدح متفجراتِ لساني للرشاشات التي في داخلي،

ففي كل دورةٍ تدورينها تتوغلين أعمقَ فأعمق،

فهنا، أيتها الرصاصة،

هنا

ينتهي

العالم

في

كل

مرة.