يستبين الكاتب العلاقة المتواشجة ما بين الانسان كجوهر وبين معاني "الجسد"، "فالهوية الشخصية" مرتبطة "بالهوية الجسدية" التي تُشَكِّل الوجه "الفيزيقي". طبعاً للجسد طرق خاصة للتعبير والتواصل، وهي لغة تمزج بين الإيحاء والمجاز، بل إن الجسد هو من يمنح الوجود الانساني حضوره المادي.

الجسد شرارة حراك...الجسد أيقونة تغيير

رشيد عوبدة

على سبيل التقديم:
يصعب إن لم نقل يستحيل أن نَتَّعَرّف الانسان كجوهر مجرد من دون المرور عبر بوابة "الجسد"، "فالهوية الشخصية" مرتبطة "بالهوية الجسدية" التي تُشَكِّل الوجه "الإمبريقي" أو "الفيزيقي" للإنسان. طبعاً للجسد طرق خاصة للتعبير والتواصل، وهي لغة تمزج بين الإيحاء والمجاز، بل إن الجسد هو من يمنح الوجود الانساني حضوره المادي، ليصبح بذلك هذا الوجود الانساني وجودا جسديا.

الجسد لم ينظر له دائما على أنه رمز للوجود الانساني بل نظر إليه أيضاً على أنه واجهة مختلف التحولات التي يعرفها المجتمع، لذلك طالما كان الجسد عنوانا لنمط العلاقة التي يقيمها الأفراد فيما بينهم. إلا أننا تعودنا منذ مدة، ليست بالقصيرة، على معاملة مفهوم "الجسد" بنوع من الحيطة والحذر، فهو مرة اعتبر محط إثارة وإغواء، وهو في مرات كثيرة تم اتخاذه سلعة لجني ربح مادي من وراء استثمار طراوته (الرقص، الإعلانات الإشهارية، الدعارة...)، مثلما وُجِدَت شعوب قدّست الجسد وتعاملت معه تمجيداً (الفراعنة نموذجا) واحتفاء بقدراته...

ونحن إن كنا نُوَظِّف هنا مفهوم "الجسد" فذلك تمييزاً له عن باقي المفاهيم التي تشكل مترادفات لغوية، كمفهوم "البدن" ومفهوم "الجسم": على اعتبار أن كلمة "الجسم" المقصود بها كل ما يشغل حيزاً فضائياً أي له طول وعرض وارتفاع، أما كلمة "بدن" فالمقصود بها الجسم الذي لا روح فيه ولا نفس، ويبقى المقصود "بالجسد" ذلك البدن الذي به روح والذي تحبل سلوكاته بكثير من المعاني والدلالات، لذلك طالما نظر الفلاسفة الى الانسان على أنه مُكَوَّن من ثنائية الجسد والروح.

ولئن كان الجسد معطى طبيعياً إلا أن الثقافة المجتمعية منحته دلالات جديدة، لهذا رأينا كيف ان نظرة الشعوب للجسد - شأنها شأن مقاييس التعامل معه - متعددة ومختلفة باختلاف ثقافات المجتمعات، وتعتبر عمليات التجميل والختان والترييض... سلوكات ثقافية الغرض منها اضفاء طابع الثقافة حتى على الجسد بما هو معطى طبيعي في الإنسان، بل هناك من أصبح مهووساً بالبحث في هويته الجسدية سواء عبر عمليات "التحول الجنسي" أو عن طريق ممارسة الشذوذ عليه.

بذلك نخلص الى أن الجسد يتحدد كصيغة للحضور المادي للإنسان في العالم، فالجسد هو تجسيد، أي انتقال من المستوى التصويري/ اللامادي المرتبط بوعي الإنسان بذاته إلى المستوى الواقعي/ المادي. إلّا أن هذا لا ينبغي أن يُفهم منه اختزالية الإنسان في الجسد، فالإنسان كذكرى مرت من هذا العالم لكن جسده ليس كذلك، فكثيراً ما نتذكر شخصاً رغم أن حضوره المادي كجسد غير متحقق بفعل الموت أو الغياب، فالجسد يصعب فعلاً اعطاؤه دلالة موحدة، والتفكير فيه ليس وليد اليوم بقدر ما أن حضارات قديمة، عُرِف عنها امْتِهانها للتأمل والتفكير، تناولته بالدرس والتحليل.

الجسد "نثانة" عند اليونان
لقد اعتبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية موطناً للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولازال الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات المجتمعية.

لقد اعتبر "سقراط" أن الجسد متعفن وأن الروح طاهرة، بل إنها هي من تحفظ للجسد طهارته لكنه حالما يتعفن فهي تغادره بالموت إلى نبعها الطاهر، لهذا كان سقراط كثير الميل إلى التجرد من انفعالات الجسد وشهواته، وهو الذي عرف بإهماله لنفسه وانشغاله بالبحث في الموت والحياة فيما بعدها، بل لقد كان يتمرن على تجنب الشهوات الجسدية واعتزالها مفضلاً الموت كطريق للانفصال النهائي عن الجسد لإدراك الجواهر في ذاتها وصفاتها، فهو يعتبر أن الموت ماهو إلا حياة مؤجلة لا تعدو أن تكون مجرد انفصال للروح عن الجسد، والحياة ما هي إلا موت بالقوة يمارسه الفيلسوف بإهماله التام لكل ما يتطلبه الجسد من ملذات وعناية بالمأكل والمشرب والملبس والجري المبالغ فيه وراء المتع والشهوات. إن "سقراط" يعتبر أن "الروح سيد يأمر، لأنها جوهر إلهي غير قابل للتحلل والفساد، والفساد عبد مطيع ومرصود للفناء"(1)، يقول سقراط "الروح التي تحلّ في الجسد تجلب له الحياة، ولا يمكن أن تحصل على نقيض صنيعها الذي هو الموت".(2).

على نفس المنوال سار التلميذ "أفلاطون" صاحب "نظرية المُثُل" على نهج أستاذه "سقراط"، فكما قسم العالم الى عالم للمثل وعالم للحس قسم الإنسان إلى روح وجسد/ عقل وحواس، ومثلما اعتبر أن الجسد هو في الأصل خاضع للحاجات العامة اعتبر الروح هي من تسمو إلى عالم المثل لبناء معرفة متعالية عن كل ما هو حسي، بل لقد ألغى جسد المرأة واعتبره مجرد آلة لِلتَّفْريخ والإنجاب، وهو في ذلك لم يُلْغِ جسد المرأة كرها، كما يتبادر إلى الأذهان، بل لعدم ثقته بالحواس.

وإذا كان "أفلاطون" قد فَضَّل الرّوح/ العقل على الجسد/ الحسّ مُعْلِياً من شأن الأول ومُحَقِراً من شأن الثاني فإن تلميذه "أرسطو" في معرض تناوله لثنائية "الجسد/ النفس" لم يسع الى المفاضلة بينهما، بل اعتبر أنهما جوهراً الإنسان، وأن وجود هذا الأخير(الإنسان) لايمكنه أن يتحقق ولا لماهيته أن تكتمل إلا بهما معا، وهنا نستحضر أن تصنيف النفس/ الجسد مرتبط بالتصنيف الأنطولوجي: الهيولى/ الصورة إذ لا انفصال بينهما ولا استقلال، فهما وجهان لعملة واحدة.

عموماً فالفلاسفة اليونانيون كثيراً ما نظروا الى الجسد على أن محركه والمتحكم فيه هو النفس، بل إنه عنصر عاطل من دونها، وهو انطولوجيا أدنى مرتبة منها أيضاً، وابستمولوجيا فهو يشكل عائقاً أمامها لبلوغ المعرفة مثلما أنه اكسيولوجيا/ أخلاقيا فهو يمثل مصدر فساد ورذيلة.

المعرفة، الفكر والجسد في الفكر الحديث
النظرة إلى الجسد قد تغيرت شيئا ما في الفلسفة الحديثة التي أحدثت طفرة حقيقية في تناولها لثنائية الروح والجسد. لقد اتخذ "ديكارت" هدفا لتأملاته التمييز بين الروح والجسد، فهو يُسَلّمُ أولا أن الشيء الذي يحتفظ ببداهته واستقراره ويتعالى عن الشك هو الفكر المحض المستقل والمتميز عن الإحساسات، أي ذلك الفكر الذي لا يحتاج إلى الجسد، يقول ديكارت في كتابه "تأملات": "أوثر أن انظر هنا في الخواطر التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها، حيث عكفت على البحث في كياني. حسبت أولا ان لي وجها ويدين وذراعيين، وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان، وهو الذي كنت أدّلّ عليه باسم الجسد، حسبت أيضاً انّني أتغذى وأمشي وأحس وأفكر، ناسِباً للنفس جميع هذه الأفعال(3).

إن "ديكارت" يُعرّف الجسد على أنه كل ما يمكن أن يحده شكل، وهو كل ما يمكن أن يَتَحَيَّز فيحتويه مكان، لكن الفكر أسبق من الجسد معرفة، فرغم أن ديكارت سعى إلى إقامة علاقة ما بين "الجسد" و"النفس" كعلاقة بين جوهرين مستقلين ومتميزين إلا أنه كان يرمي في نهاية المطاف إلى إبراز أن على الجسد أن يخضع لسلطة العقل المنظمة لانفعالات الجسد وشهواته، وهو تصور لا يخرج عن النظرة الأخلاقية التي حكمت تصور "ديكارت"، فالانفعالات تجعل من الجسد كياناً لصيقاً بالطبيعة الحيوانية أما العقل فهو من يعمل على إعادة الاعتبار للطبيعة الانسانية.

إذا كان ديكارت يعتبر، إذن، أن الفكر هو المشكل لماهية الإنسان لا الجسد، فـ"اسبينوزا" يقيم علاقة تَوازٍ ما بين الجسد والنفس، بل إنه يسعى إلى توحيدهما معتبرا أنه ليس هناك جسد بدون نفس ولا نفس بدون جسد بل هما متوازيان لهما نفس القيمة لكنهما مختلفان من الناحية الابستيمية/ المعرفية، فالإنسان ليس وعياً وحده كما ذهب إلى ذلك ديكارت، بل هو "رغبة" و"وعي" ومن تم يتساوى فيه الجسد مع النفس.

إلى هناك تبقى نظرة كل من الفلسفة الاغريقية والفلسفة الحديثة إلى الجسد فيها نوع من الدّونِية عن النّفس، بل اعتبرت كل الأدوار البطولية من انجاز النفس/ العقل/ الروح فكيف نظرت الفلسفة الاسلامية القروسطية والفلسفة المعاصرة إلى مفهوم الجسد؟

الجسد عند المسلمين "عورة"و "فتنة"
لطالما غُلِفَ الجسد الإنساني بالطابع الأخلاقي في الفلسفة الاسلامية، فهو شهواني غريزي مُعَرَّضٌ للوقوع في الرذيلة في أي لحظة يغيب فيها العقل الإنساني أو الوازع الديني، الأمر الذي يجعل منه جسداً اغوائياً غافلا عن القيم الثقافية. بل إن الفقهاء أكدوا على ضرورة خضوع الجسد للإيمان كما الطهارة تخليصاً له من الشهوة، فالجسد هو مصدر الأخطاء والمنزلقات الأخلاقية، لذا لابد من التحوط في إطلاق العنان له. فهذا ابن مسكويه يعتبر أن الانغماس وراء شهوات الجسد وغرائزه هو بمثابة اندحار إلى مرتبة الحيوان، وإن التعفف والتعالي عن هذه الشهوات والغرائز والتحكم فيها يؤهل الإنسان إلى الإرتقاء إلى مرتبة الملائكة.

يبدو أيضاً أن الجسد ظل مُسْتَصْغَراً حتى في الثقافة الإسلامية التي رأت فيه مقياساً للتدين أو مجلبة للعار، بل إن هناك دعوات من الفقهاء إلى تحريم تصويره أو رسمه أو نحثه، بل لطالما عمّقَت الثقافة العربية الفجوة بين الجسد الذكري والجسد الأنثوي، على اعتبار أن الثاني مصدر فتنة بالنسبة للأول، كما نُظِر إلى الجسد على أن وضعه خسيس، ولا بد من تطهير نجاسته كلما رغب المسلم في الوقوف بين يدي الله.

الجسد ورمزية الحضور في الفكر المعاصر
أما في الفكر المعاصر فنجد نوعاً من التعاطي الإيجابي مع الجسد ورفع تهمة الدنس عنه، فـ"نيتشه" يعتبر الجسد مرجعاً أصلياً لكل القيم، فهو كلية عضوية متآلفة تسعى إلى تمجيد كل ماهو بيولوجي غريزي، فالجسد -حسب نيتشه- هو عنوان انخراطنا في الحياة. وإذا كانت الفلسفات السابقة قد احتقرت الجسد واعتبرته بمثابة سجن يأسر الروح الطاهرة فيه، وهو نفس المسار الذي سارت عليه حتى الفلسفات الدينية (سواء الإسلامية أو المسيحية) معتبرة أنه مرتع الشهوات الهدامة لهذا أعلنت عليه حربا. فان نيتشه قد فتح صفحة جديدة مع الجسد بغرض إعادة الاعتبار إليه، معتبراً أنه هو الحياة نفسها بكل مظاهرها وتجلياتها، وهذا ما عبر عنه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، فالفكر هو أسوء حلقة في الفكر البشري، وهو مع ذلك مستسلم للغريزة بل إنها (الغريزة) أقوى منه، فالوعي لم يعمل إلا على اقصاء الحياة والتغيير، وذلك بترسيخ دونية الغريزة "لكم من مُعْرِضٍ عن الحياة لم ينفره منها سوى الوغد الزنيم، فعافها إذ لم يشأ أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار. ولكم استثقلت الفكر نفسه عندما رأيت شيئا من الفكر في رأس الوغد الزنيم"(4).

إن الجسد عند نيتشه ليس أقل مرتبة من الفكر، كما صنفه سابقوه، بل هو مجموع قوى تتحد فيما بينها لتشكل بذلك إرادة القوة، لهذا ما فتئ نيتشه يبشر بالانسان "السوبرمان Superman" الذي يملك الجسدا وإرادة القوة. يبدو - على الأقل - أن هناك تعارض مثلاً ما بين "اللغة"من جهة و"الجسد" من جهة ثانية، نظراً لأن وعاء اللغة قد يضيق أحيانا فيضطر الجسد فعلاً إلى خلق آليات غير لغوية لإيصال رسالته (كالرقص مثلاً)، ولعل "سيجموند فرويد" قد عمد إلى ابراز أن الجسد رغم عِلّاتِه يتكلم لغة يعبر بها عن مكبوتات الذات، وهكذا تحول الجسد مع "فرويد" إلى لسان حال المرء عندما تتقمص اللغة صفة الخفاء والاستضمار ليصبح الجسد بذلك آداة للتصريح، وهو ما أكد عليه "موريس ميرلوبونتي" أيضاً عندما اعتبر أن اللغة هي في الأصل انعكاس لتعبيرية الجسد. ورفضاً للارث الديكارتي الذي أعلى من شأن الفكر وبخس من قيمة الجسد حتى أصبح هذا الأخير رمزاً لكل دنس وتأثراً برؤية "نيتشه" و"ميرلوبونتي"، عمل "ميشال فوكو" على رصد عملية تطبيع الجسد بإدخاله لمجال الخطاب السياسي، فالجسد ليس مجرد معطى طبيعي بل هو امكانية لإنتاج اجتماعي من خلال النظم السياسية والمعرفية التي يَتَنَمَّطُ فيها، فالجسد إذن حسب "فوكو" يقع تحت تأثير عدة قوى تعمل على تطويعه، فالجنس مثلاً بما هو نشاط جسدي يمكن أن يصبح رهاناً سياسياً عندما يرتبط بتنظيم السكان من انجاب وتحديد للنسل وغيره. ويمكن قياس عملية تطويع الجسد في عدة مجالات: كمجال الإنتاج الإقتصادي، والحقوقي.

على سبيل الختم
إن الجسد لم يعد ذلك العنصر الذي يشكو من النجاسة، أو ذلك العنصر الذي يعاني من النقص لأنه محتقر عند مقارنته بالروح/ العقل/ النفس، بل إنه أضحى حافلاً بالمعاني الرمزية التي تتوارى خلف الحضور المادي للجسد، فكلما تطور تاريخ الذهنية البشرية إلا واتسعت الآفاق الدلالية للجسد، وهنا لا ينبغي اختزاله فقط في ما يستثمر لأجله في الإعلانات أو الاستثمار الرياضي أو الفني. بقدر ما ان له حمولات مرتبطة بطبيعة النظم السياسية السائدة بل ان أصبح أيقونة للتغيير كما هو في حالة الأجساد التي أصبحت تلتهب احتراقاً لتحقيق تغييرات في أنظمة سياسية طالما راهنت على قمع الأجساد كما العقول.

(أستاذ مدرس)

 

الهوامش

(1) العلوي هشام، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، ص47.

(2) نفسه ص47.

(3) رونيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة الدكتور كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت - باريس طبعة 1988، ص19.

(4) فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، دار القلم، بيروت، لبنان، طبعة 1938، ص82.