يحقق الباحث المغربي في هذه الدراسة التوازن الحساس والمرتجي بين التحليل والتنظير، فتتجلى جوانب النص التجنيسية في حوارها الخصب مع عوالمه وإضافاته الأساسية، ومع البصيرة القارئة القادرة على الغوص في ثناياه والكشف عن طبقات المعنى الثاوية فيه، بصورة تضيء حياة الكاتب وتكشف عن آليات عمل نصه معا.

الــمــحــكــي الأركـيـولـوجــي

في «حفريات في الذاكرة، من بعيد» للدكتور محمد عابد الجابري

حسن المودن

«صناعة حكايتك الخاصة غير ممكنة إلا في حالة وجود ارث»

 (جاك دريدا: أطياف ماركس)

 

نفترض أن المرحوم محمد عابد الجابري كان يكتب ذاته وارثه العائلي في كتابه: حفريات في الذاكرة، من بعيد(1) وهو يفكر في شكل أدبي مختلف عن الأشكال الأوتوبيوغرافية التقليدية (الأتوبيوغرافيا، المذكرات، الاعترافات، التخييل الذاتي)، ويبدو كأنه يوظف، عن وعي أو عن غير وعي، أشكالا سردية عائلية متنوعة(الرواية العائلية، رواية الأصول، محكي الانتساب العائلي ...) مع انتهاكها وتجاوزها في الوقت نفسه.

1 ــ المحكي الأركيولوجي وإضفاء المعنى على الذاكرة:
ونقترح أن نسمي هذا الشكل الأدبي الذي يميّز حفريات الجابري بــ "المحكي الأركيولوجي"، مفترضين أنه شكل سردي يعيد تجسيد روابط الذات بالعالم العائلي، مركزا على ما بقي من الوقائع والذكريات المتعلقة بمرحلة محددة، تتأملها الذات الكاتبة انطلاقا من الحاضر، ممارسة نوعا من الحفر الأركيولوجي، سعيا الى "اعطاء معنى لمعطيات الذاكرة" (ص8).

 وما يدفعنا الى هذا الافتراض مؤشرات جوهرية، من أهمها:
* أن أول سؤال يفتتح به الجابري تقديم كتابه هو: "هل يتعلق الأمر بجنس في الكتابة جديد، أم بمجرد اسم اخر يضاف الى قائمة الأسماء التي تطلق على جنس أدبي معروف منذ القديم، يسمى تارة بــ "السيرة الذاتية" وأخرى "اعترافات" وثالثة بــ "مذكرات" ...؟" (ص 7). وفي الحوار الذي نشر في نهاية الكتاب، يوضح الجابري أكثر فيقول: "على أنني اخترت اسما لما كتبت يختلف عن الأسماء الرائجة تجنبا لكل التباس. لقد قمت بــحفريات في الذاكرة ... فالأمر لا يتعلق بمجرد سرد وحكي وإطلاق العنان لــ "ثرثرة الذات" ... ولا بمجرد اطلاق العنان ــ الى حد ما ــ للذاكرة لكي تتقيأ ما فيها"(ص 227).

وما يقصده المؤلف، في التقديم كما في الحوار، بحفريات في الذاكرة هو هذا العمل الذي يتطلب بحسبه العناصر الاتية: أولها التركيز على مرحلة تمتد من الطفولة الأولى الى الانخراط في "سلك الرجال"، ثانيها استحضار ما بقي من الذكريات والوقائع الشخصية والجماعية صامدا في النفس، ثالثها قراءة أركيولوجية في هذه الوقائع والذكريات الشبيهة بالقطع الأثرية، رابعها عملية اعطاء معنى لهذه الوقائع والذكريات كما يعطى المعنى للقطع الأثرية(ص 7 ــ 8 ).

* أن الكتاب: حفريات في الذاكرة، من بعيد يتألف من تقديم نظري، ومن خمسة فصول تركز على قراءة أهم الوقائع والذكريات التي بقيت صامدة في النفس، ومن فصل فريد مكرس لذكرى تتعلق بالأم كانت قد اختفت ثم عادت الى الظهور، ومن نصوص ــ مذكرات كان قد كتبها الكاتب في مرحلة شبابه، ومن حوار كان قد أجري معه من طرف كاتبين مغربيين: حسن نجمي وعلى أنوزلا حول هذا الكتاب نفسه، ومن ملحق صور متعلقة ببعض شخصيات الزمن الماضي وأمكنته ...

ولأن الكتاب عبارة عن حفريات تستتبع حفرا أركيولوجيا، فان ذلك يعني أننا أمام كاتب ــ سارد من طينة أخرى، نقترح تسميته بالكاتب ــ السارد الأركيولوجي، فمهمته لا تتحدد في السرد فحسب، بل انه يحفر بحثا عن الوقائع الدالة والقطع الأثرية النفيسة، مع العمل على قراءتها وتأويلها سعيا الى بناء معنى، منطلقا من الحاضر في اتجاه الماضي.

 * أن هناك عنوانا فرعيا: من بعيد مصاحبا للعنوان المركزي: حفريات في الذاكرة ففي الحوار المذكور يوضح الكاتب المقصود بهذا العنوان الفرعي فيقول: "أنني جئت من بعيد، من عصر اخر، من وضعية أخرى، ولنقل ولدت في ظروف تنتمي الى القرون الوسطى، بينما أنا أعيش الان ظروفا تنتمي الى مشارف القرن الواحد والعشرين"(ص 232).

من خلال هذا العنوان الفرعي: من بعيد يبدو الكاتب المعاصر وريثا اشكاليا، وهذه احدى أهمّ خصائص محكي الانتساب العائلي(2)، التي يستثمرها المحكي الأركيولوجي: بالنسبة الى عنصر الزمان، فالكاتب المعاصر قادم من زمان بعيد، اذ نشأ في ظروف تنتمي الى القرون الوسطى، لكنه وقت كتابة محكيّه هذا يجد نفسه في زمان اخر ينتمي الى عصر الحداثة وما بعد الحداثة. وبهذا، يبدو الكاتب الوريث كأنه منقسم بين الزمن الماضي والزمن الحاضر. وبالنسبة الى عنصر المكان، فان محكي الانتساب العائلي يأتي متعلقا بذلك المكان الأصل، مكان الكينونة الأولى، المكان الذي يقرر شرعية الانتساب. وهذا المكان هو مدينة فجيج، واحة مهمشة كأنها ضائعة في أرض الصحراء. والكاتب الوريث، وهو ينفصل عن هذا الفضاء الأول لينتقل الى وجدة فالبيضاء ودمشق ثم الرباط، يبقى محتفظا دوما بذلك الوعي الشقي بهامشية فضائه العائلي الأصلي، ويبدو كأنه ممزق بين فضاء حضري حداثي وبين فضاء قروي بدوي محكوم عليه بالاختفاء والضياع.

وبالنظر الى العنصرين معا، الزمان والمكان، يبدو أن مهمة الكاتب المعاصر هي أن يحفر بحثا عن ما تبقى من اثار ذلك الزمان وذلك المكان، أي أن يعطي معنى لذلك الزمان الماضي، وأن يعيد الحياة الى ذلك المكان الأول. وهذه المهمة هي التي تجعل الكاتب المعاصر، باعتباره وريثا اشكاليا، يخضع في كتابة ذاته و "روايته العائلية" لما يسميه لوران دومانز بالقلق الأركيولوجي، لأن الأمر يتعلق بمهمة صعبة تستلزم اكتشاف ما تبقى من حياة، من معنى، من ذلك الزمان الماضي، من ذلك المكان البعيد. وإذن، اذا سلمنا بأن هذا الكتاب ينتمي الى هذا النوع الجديد في الكتابة، والأوتوبيوغرافية خاصة، الذي نقترح تسميته بــ "المحكي الأركيولوجي"، فان السؤال الذي يفرض نفسه الان هو: فما هي أهم خصائص هذا النوع من المحكي، انطلاقا من: حفريات في الذاكرة، من بعيد؟

2 ــ «رواية عائلية» فريدة من نوعها:
نفترض أن "الرواية العائلية"(3)، التي يحاول السارد الأركيولوجي أن يعيد بناءها انطلاقا من مجموعة من الوقائع والذكريات، هي رواية عائلية فريدة من نوعها، ذلك أن الأمر هنا هو على عكس "الرواية العائلية"، كما يفهمها فرويد ومارت روبير من بعده، فلا يتعلق لا بالطفل اللقيط ولا بالطفل المعثور عليه، بل انه يتعلق بطفل ذي وضع أو ذي ارث اشكالي، كما يظهر ذلك من العناصر الاتية:

• أن " صاحبنا "، كما يسميه هذا المحكي الأركيولوجي المكتوب بضمير الغائب، لم ينشأ نشأته الأولى في بيت عائلي يضمّ الأب والأم متصلين بل انهما منفصلان، فقد كان أبوه قد طلّق أمه وهو ما يزال جنينا في بطنها، ولم يكن لها ولد اخر غيره، ولا زوج اخر ينافسه عليها، وخاصة في طفولته الأولى. وهكذا "نشأ صاحبنا،...، نشأته الأولى عند أخواله، وكان جده وجدته لأمه، علاوة على أمه وخاله، يرعونه رعاية فائقة"(ص 25). لكنه في طفولته الثانية، بعد زواج أمه، سيعيش في بيت أهل أبيه، وسيتلقى العناية نفسها من جده وجدته من أبيه، وبعد ذلك سيعيش مع أبيه في وجدة. وهو ما يعني أن هذا الطفل قد عاش مع أبويه، ولكن بشكل منفصل ومتتابع، كأنما الظروف قد ساعدته، بعد أن شبع من أمه، أن ينتقل الى حضن أبيه ليستقر فيه مدة أطول كذلك. وقد عاش مع كل واحد منهما بطريقة مختلفة كثيرا عن الطريقة التي يعيش بها الأطفال مع ابائهم وأمهاتهم.

• أن علاقة "صاحبنا" بأمه كانت علاقة اشكالية: من جهة أولى لأنه لم يعرف الفطام كما يعرفه باقي الأطفال، ففي غياب الأب كان الطفل يشعر بأن أمه هي له وحده، ولم يكن هناك أب ينافسه عليها، وعاش مدة الرضاعة فترة أطول ... لكن الفطام الحقيقي الذي عاشه يتعلق بواقعة بقيت راسخة في النفس، وهي الواقعة الأولى التي يفتتح بها المحكي: الواقعة التي تتمثل في تلك "الدفعة" التي تلقاها من أمه التي كانت تغزل، وهو يحبو نحو تلك المنطقة الوحيدة من جسم أمه، تلك الفجوة ما بين رجليها، التي لم تكن في متناوله، "والتي كانت تشكل بالنسبة له المجهول الأكبر"(ص 12). ومن جهة ثانية، لأن صاحبنا سينفصل عن أمه في سن السابعة عندما ستتزوج أمه برجل اخر، لينتقل هو الى الاستقرار في بيت أبيه، وليعاشر أباه في مدن أخرى. ومن جهة ثالثة، لأن صاحبنا، وهو صغير، لم يتأثر كثيرا عندما علم بوفاة أمه، وإحساسه بفقدان الأم، وبقيمة الارث المادي الذي تركته له عند صديقتها ـ قريبتها، لم يحسّ به إلا في كبره. وهذا ما يفسر لماذا خصّ الكاتب أمه بفصل اخر خاص في نهاية الكتاب سماه: "فصل فريد". وفيه يحاول أن يعبّر عن احساسه بنوع من التأخر الفكري الابيستيمولوجي عندما يستحضر الفرق بين ردّات فعله ازاء موت أمه بين ذلك الماضي وهذا الحاضر.

• أن صاحبنا قد نشأ بين عائلتين: عائلة أمه وعائلة أبيه. وهما معا عائلتان عريقتان، كل واحدة لها ارثها الذي تفتخر به كرأسمال رمزي: كان أهل أمه أهل علم يفتخرون بانتسابهم الى العالم الشهير سيدي عبد الجبار الفجيجي، في حين كان أهل أبيه، آل جابر، أهل سيف، وينظر اليهم سكان المدينة «بوصفهم "جبابرة" يصعب انقيادهم»(ص 24). وهذا الارث العائلي المزدوج المتناقض يجعل صاحبنا وريث ارث اشكالي: العلم / السيف. ولنتذكر أن الجابري في شبابه كان موزعا بين العلم والسياسة الى أن قرر في كبره تطليق السياسة وتكريس حياته للعلم.

• واللافت للنظر في هذا المحكي تلك العلاقة الخاصة بين الطفل وأجداده من أمه كما من أبيه، فالرعاية التي تلقاها صاحبنا في طفولته الأولى كانت من جده وجدته من أمه وهما مسنان، "فكان الطفل الصغير مؤنسهما، لا بل قرة أعينهما" (ص 25)، وفي طفولته الثانية عاش في بيت جده وجدته من أبيه، بل ان جدته من أبيه هي التي أصرت أن يكون اسمه "محمدا"، لا "عبد الجبار" كما أراد أخواله تيمنا بجدهم العالم المشهور سيدي عبد الجبار الفجيجي، و"عابد" هو اسم أحد جدوده من أبيه، وهو من أعلام آل جابر. ويتضح من كل هذا أن اسم صاحبنا بالكامل متعلق بأجداده من أبيه، وأن طفولته، في مختلف مراحلها، قد قضاها بين أجداده، من أمه كما من أبيه. فهل يمكن أن ندعي أن هذه الخاصية في طفولة صاحبنا هي التي جعلته في كبره يكرس حياته الفكرية والعلمية للتراث، للأجداد والأسلاف؟

• تبقى خاصية أخرى في هذه الرواية العائلية، وهي أن مدينة فجيج التي نشأ فيها صاحبنا نشأته الأولى تتألف من القصور، وكل قصر يضم مجموعة من العائلات قد يكون أصلها العائلي واحدا، وهو ما يفسر أن القصر بأكمله أشبه بالبيت العائلي الواحد: "كان كل شيء معروفا ... فالسكان يعرف بعضهم بعضا، يعرفون أنسابهم وما يملكون، وما يخفون وما يظهرون" (ص 66).

• والخاصية الأخيرة في هذه الرواية العائلية أن البيت العائلي الواحد في قصر من قصور فجيج تعيش فيه كائنات مختلفة، انسانية وحيوانية، مرئية ولامرئية، وترتبط في ما بينها بعلاقة العشرة والمساكنة: "الأطفال والأمهات والاباء والاخوة والأقارب، والحيوانات والطيور والزواحف والحشرات والجن والملائكة والقمر والنجوم، كل هذه الكائنات كانت تسكن فضاء واحدا تربطها مع بعضها علاقات الألفة والمعاشرة، علاقات "المعرفة": الجميع يعرف القمر، والقمر يعرف الجميع."(ص 19).

 3 ــ رواية الأصول: الفرد باعتباره طبقات من الهويات المتتابعة
 نفترض أن رواية الأصول(4) في المحكي الأركيولوجي تسمح بإعادة بناء هوية فريدة ومتعددة في الوقت نفسه، ذلك لأنه بإعادة بناء حيوات متفرقة للآباء والأجداد والأسلاف يكتشف الكاتب ــ السارد الأركيولوجي في ذاته استمرار هويات هي آيلة الى الاختفاء والضياع. فالقراءة الأركيولوجية، باعتبارها أداة جوهرية في ادراك الذات، توفر للكاتب ــ السارد نمطا سرديا لينحكي، أي ليحكي ذاته، وتوفر له أدوات تأويلية من أجل أن يفهم ذاته وأن يدركها، وتسمح له الشخصيات التي يستحضرها بالتعرف الى ذاته. ومن خلال هذه القراءة الأركيولوجية يتأسس، شيئا فشيئا، تصور عن الفرد باعتباره "طبقات من الهويات المتتابعة"(5)، أي باعتباره "هوية فردية متعددة".

وإذا ما حاولنا تتبع مختلف الهويات التي ورثها صاحبنا، فسنجدها متعددة ومتتابعة: في طفولته الأولى نشأ في حضن أمه، وكانت مهنتها ممارسة الغزل والنسيج، ونشأ بين أهل أمه، وهم، كما ذكرنا، أهل العلم والقلم. وفي طفولته الثانية نشأ في بيت أهل أبيه: كان أبوه تاجرا ومناضلا في اطار الحركة الوطنية، وكان أهل أبيه أهل التجارة والسيف، كما أسلفنا.

ويمكن أن نقول ان هذه العناصر مجموعة (العلم والغزل والنسيج والخياطة والتجارة والقلم والسيف ...) هي العناصر الجوهرية التي ورثها صاحبنا من أصوله وأجداده، وشكلت هويته متعددة وفريدة، وهي التي تفسر كيف بقي الكاتب المعاصر لمدة طويلة موزعا بين الكتابة والصحافة والسياسة، بين العلم والقلم والنضال. ويبدو الكاتب ــ السارد الأركيولوجي كأنه لا يمكنه أن يتصور هويته في الوقت الراهن(وقت الكتابة) إلا في علاقة بكل تلك الوجوه التي ينتسب اليها (الأم، الأب، الجد والجدة من الأم، الجد والجدة من الأب، الحاج محمد فرج، المهدي بن بركة ...).

وبعبارة أخرى، فالهوية في المحكي الأركيولوجي تتميز بالتعدد، وتتأسس في شكل طبقات من الحيوات المتتابعة: حياة في عائلة الأم / حياة في عائلة الأب، حياة المسيد / حياة المدرسة، حياة في البادية(فجيج)/ حياة في المدينة(وجدة، البيضاء، الرباط)، حياة داخل الوطن / حياة خارج الوطن، حياة في الصحافة/ حياة في التعليم ...

4 ــ محكي الانتساب العائلي: احياء «الجماعة الحميمية الهاربة»
يتميز المحكي الأركيولوجي بنوع من الحنين الى زمن ماض هارب، ويحاول أن يقول ضياع أو اختفاء زمن يصعب النفاذ اليه أو استعادته وتفكيكه كاملا. وتبقى مهمة الكاتب ــ السارد الأركيولوجي هي محاولة احياء ذلك الماضي الهارب دون التحرر تماما من الاحساس بضياعه.

 ومن هنا، نفترض أن أهم خاصية في محكي الانتساب العائلي يستثمرها المحكي الأركيولوجي هي: اعادة الحياة لتلك "الجماعة الحميمية الهاربة". والمقصود بها اقرار الكاتب ــ السارد بانتسابه الى جماعة معينة: مدينة فجيج، قصور فجيج، عائلة ال جابر من جهة الأب، عائلة الأم التي تفتخر بانتسابها الى أهل العلم، أصدقاء الطفولة، الحركة الفكرية السياسية الوطنية. والمقصود بــ "الجماعة الحميمية الهاربة" أن الكاتب ــ السارد الأركيولوجي يكتشف أنه يملك في دواخله "جماعة سرية حميمية"، أي أن هذا الأخير، وهو يصطدم بأن هذه الجماعة قد رحلت وغابت وماتت، يكتشف نسخة أخرى من هذه الجماعة قد بدأت "تختفي" و"تهرب" من دواخله، فتكون مهمته اعادة اعطاء الحياة لهذه الجماعة التي تتميز بأنها جماعة حميمية جدّ شخصية، أي أنها أشدّ ارتباطا بشخصية الفرد.

وإذا ما حاولنا التعرف الى أعضاء هذه "الجماعة الحميمية الهاربة" عند صاحبنا، فسنجد أن الأمر يتعلق أولا بجماعة العائلة: وان كانت للأم كما للأب مكانة مهمة في هذه الجماعة، فان للأجداد من الطرفين معا، وأساسا من طرف الأم، مكانة خاصة. وهناك صورة يستحضرها الكاتب ــ السارد لها أكثر من دلالة، تجعلنا نفهم لماذا كرّس الجابري حياته الفكرية والعلمية لدراسة تراث الأجداد ساعيا الى إحيائه وإعطائه معنى جديدا: "انه مشهد جدة أبيه التي كان يدعوها "نانّـا حنّـا"، والتي كانت قد عاشت أزيد من مائة سنة (...) كانت تمسكه بيديها وتلح عليه في الجلوس على حجرها، وعندما كان يفعل يحسّ وكأنه جالس وسط مجموعة من العظام" (ص 21).

أما الجماعة الثانية، فهي الجماعة الفكرية السياسية الوطنية، على رأسها الحاج محمد فرج: لما أصبح صاحبنا يلقب بالمفكر في كبره راح "يستعرض في ذهنه شريط حياته، لعله يعثر فيه على ما يستحق أن يؤول اليه شرف هذا اللقب. أخذ يرجع القهقرى بتاريخ حياته الفكرية حتى اذا وصل مرحلة الطفولة انتصبت في مخيلته، لا بل أمام بصره، صورة ذلك الرجل الذي يرجع اليه بالفعل فضل غرس شجرة العلم في مسقط رأسه فجيج ... انه الحاج محمد فرج"(ص 71). لكن بالطبع هناك شخصيات أخرى، وخاصة في مرحلة الشباب، لها مكانة كبرى ضمن هذه الجماعة الفكرية السياسية الحميمية التي تحتفظ بها الذات في دواخلها، وعلى رأس هذه الجماعة الثانية المهدي بن بركة. كما يمكن أن نتحدث عن جماعات حميمية أخرى، من مثل جماعة الصداقة، ويكفي أن نستحضر ذلك الطفل الصغير، صديق صاحبنا في طفولته، والذي مات في ظروف مأساوية، وكان لموته أثر كبير في النفس، وما كرّسه الكاتب من كلمات لهذا الصديق وذكراه، تبدو كأنها محاولة لإعادة الحياة الى صديقه الذي كان يحبّه، والذي كان يلعب معه عندما امتدت مخالب الموت لتختطفه.

5 ــ وختاما:
يمكن أن ننتهي الى أن المحكي الأركيولوجي في كتاب الجابري: حفريات في الذاكرة، من بعيد يتميز بالعديد من الخصائص التي نذكر منها:

* في المحكي الأركيولوجي، يسبح الكاتب ــ السارد في أعماق الذاكرة الفردية والجماعية، مصحوبا

 بأحاسيس الفقدان والحداد.

* في هذا المحكي الجديد، يبدو الأمر كأنه يتعلق بأركيولوجيا العوالم البعيدة المهمشة والأزمنة الماضية

 المختفية.

* ما يميّز المحكي الأركيولوجي أنه يعرّفنا الى وجوه اختفاؤها الى الأبد من مسلمات المؤرخ، ووحده الحفر الأركيولوجي يعود بوجوه كان مصيرها الضياع والاختفاء.

* يبدو أن مهمة المحكي الأركيولوجي هي أن يعيد الاتصال الى خيوط العشيرة التي انحلت وانفصلت، هذه الخيوط التي من دونها لا يمكن للفرد أن يتعرّف الى ذاته، ولا أن يدرك ذاته، فبدون ارث عائلي لا يمكن أن تكون لك حكاية خاصة.

 

 هوامش:
 (1)ــ محمد عابد الجابري: حفريات في الذاكرة، من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت، 2004.

(2) ــ محكي الانتساب العائلي مصطلح ابتكره دومينيك فيار سنة 1996 في مداخلة شارك بها في ملتقى حول: " وضعيات الرواية المعاصرة "(6 ــ 13 يوليوز 1996)، ونشرت هذه المداخلة في شكل نص تحت عنوان: " انتسابات أدبية " في كتاب جماعي:

Dominique Viart : Filiations littéraires, in : Jan Baetens et Dominique Viart(direction) : Etats du roman contemporain, Ecritures contemporaines2, Lettres modernes Minard, Paris, 1999.

ومحكي الانتساب العائلي شكل أدبي جديد ازدهر في الرواية الفرنسية منذ الثمانينيات، وهو قد أتى ليحلّ محلّ الأشكال الكرونولوجية للأتوبيوغرافيا والتخييل الذاتي، وليتقدم في شكل بحث أركيولوجي في أنساب الذات، من أجل استكشاف الماضي العائلي، ومن أجل بناء معرفة بالذات انطلاقا من الوجوه العائلية: الاباء والأجداد. وقد وظف لوران دومانز هذا المصطلح في كتابه الهام:

 Laurent Demanze, Encres orphelins, Josi Corti, Paris, 2008

(3) ــ " الرواية العائلية" مصطلح نفساني وضعه مؤسس التحليل النفسي س. فرويد في نص أصدره سنة 1909 تحت عنوان:" رواية العصابيين العائلية". وتعني " الرواية العائلية " في التحليل النفسي تلك الاستيهامات التي من خلالها تقول الذات خياليا روابطها بآبائها، فالرواية العائلية هي حكاية تبتكرها الذات من أجل أن تخلق لذاتها حكاية عائلية.

(4) ــ وتعتبر مارت روبير أول من وظّـف هذا المصطلح النفساني في قراءة الأدب، والرواية أساسا، في كتابها الصادر سنة 1972 تحت عنوان: " رواية الأصول، أصول الرواية".

(5) - Laurent Demanze, Encres orphelins, Josi Corti, Paris, 2008, p 59.