يطرح الباحث والناقد المصري هنا فكرة أن التحويل الجمالي للعلامات، حيث تبارح تحت وقع الكتابة الإبداعية دلالاتها الإشارية وتتحول إلى استعارات فنية مفتوحة على الكثير من التأويلات، هي مفتاح تأويل نص الكاتب السوداني، لأنها تكشف عن تفاعل إبداعي دائري فيه بين الأصوات، والشخصيات، والنصوص المحتملة، والنص الأصلي.

الشخصيات الفريدة تقاوم المحو

في رواية «صائد اليرقات» لأمير تاج السر

محمد سمير عبدالسلام

الكتابة تلامس مجازات الواقع، وتعيد تشكيلها، بينما يصير الواقع نفسه موضوعا للتفسير الإبداعي المستمر في رواية (صائد اليرقات) للروائي السوداني المبدع أمير تاج السر، وقد صدرت طبعتها الأولى عن دار ثقافة للنشر ببيروت، وأبي ظبي 2010؛ فالنص يتمركز حول حالة خاصة من حالات الكتابة الروائية، وتحولاتها من الخبرة الحسية المباشرة إلى عمل ذي بنية احتمالية تجمع بين الأخيلة، وإيحاءات الواقع، وما يحويه من شخصيات فريدة، وغامضة.

ويلج الراوي العالم الداخلي لشخصية (عبد الله حرفش)؛ وهو موظف أمن تقاعد بسبب حادث جعله يستخدم ساقا خشبية، وقد قرر أن يكتب الرواية حينما فتن بشخصيات كتبت من خلال خبراتها الحسية كبائع ورد بنغالي نسج قصة حول امرأة ظلت تشتري الورد عشرين عاما، وتخيل أنها ترسله لحبيب ضائع؛ ومن ثم يفتتح الراوي عالم الكتابة في وعي حرفش من الخبرة المباشرة التي تشبه تقاريره الأمنية القديمة، ثم يتوسع في المعنى نفسه في عملية الكتابة لدى شخصية الروائي (أ.ت)؛ لأنه كان حريصا على معايشة موضوع الرواية، ثم نسج الإضافات الخيالية لعلاماته، وأحداثه، والتاريخ المحتمل لشخصياته، وصيرورتها الإبداعية؛ فقد عايش تجربة السجن ليكتب عن المحتالين، وزار بيت أمونة البيضاء مغنية الزار؛ ليكشف عالم المهووسين؛ وكأن تحولات الحكي من المشاهد الغامضة المباشرة يوازي – بصورة خفية – التداخل بين حرفش ومحاولاته، واتساع تجربة اختلاط الفن بالواقع في عالم الروائي (أ.ت).

ويظل حرفش يطارد روايته المحتملة التي تشبه اليرقة بتعبير (أ.ت) في معاينته لشخصيات؛ مثل المدلك زوج عمته، والمشجع حفار القبور، وصاحب المقهى، وشخصيات روائية أخرى قرأ عنها، ويتطور وعيه بالكتابة في لقاءاته العديدة ب (أ.ت) في مقهى البئر حتى تثمر صيرورة السرد عن تحول حرفش إلى شخصية نصية جمالية في وعي المؤلف (أ.ت)، بينما يخضع إلى السلطات الأمنية، ويقطع علاقته بمسألة الكتابة بعد معايشة عوالمها الخيالية، وتأثيرها القوي في نفسه.

النص ينطوي على تأمل العلاقة المعقدة، والمفتوحة بين الفن، والواقع، ويكشف عن الوهج الإبداعي الحسي للحياة الإنسانية في تجلياتها الجزئية التي تقع بين الأداء الجمالي، والحدوث المباشر في الواقع، والعلاقة بالسلطة، والأفكار الثقافية السائدة؛ مثل فرح المدلك بأدواره المسرحية البسيطة، ثم تحريفه للنص؛ لينال مكاسب فنية أخرى لها علاقة بالسلطة، وصخب المشجعين في الملعب، وفخر حفار القبور بتكريمه، وتجاوز ذلك الصخب لقبره، أو بعث الحياة فيه في وعي حرفش. مثل هذه الخبرات التي يختلط فيها الفن بالواقع تتسع في لذة القراءة، وفي النصوص المحتملة الوليدة التي حاول حرفش أن يكتبها، ويضيف تأملاته، وأخيلته إليها حتى تكتمل اليرقة، أو الرواية التي آثر الكاتب أن يجعلها مؤجلة، وأن يحول الكاتب المحتمل نفسه إلى شخصية نصية؛ ويعكس هذا التحول دلالتين:

الأولى: اتحاد شخصية حرفش بصيرورة الكتابة الإبداعية في وعي المؤلف (أ.ت) من جهة، وفي حضوره المفاجئ في الصيرورة الكونية، والواقعية في سياق السرد الروائي لنص صائد اليرقات من جهة أخرى؛ ومن ثم فهو يتحقق جماليا في مستويات أعلى من نصه الروائي المحتمل؛ فهو بحد ذاته علامة فريدة، وديناميكية في العوالم المتجاوزة لذاتيته.

الثانية: استمرار فاعلية الأنساق الثقافية المهيمنة على الشخصيات؛ فالمبدع (أ.ت) يظل يستلهم، ويتأمل في حالة تقتضي الحذر، بينما يعود حرفش قسرا إلى عمله السابق، ولكنها ليست عودة مطلقة؛ إذ يصاحبها اكتسابه لأخيلة الكتابة، وعوالمها الفريدة.

وأرى أن القيمة الفنية في نص (صائد اليرقات) تكمن في مبدأ التحويل الجمالي للعلامات؛ فأي شيء، أو شخصية، أو إيماءة، أو مكان يقبل أن يصير موضوعا جماليا استعاريا رغم جذوره الواقعية، إلى الحد الذي يومئ فيه النص إلى اسم الرواية، أو بعض الإشارات الكامنة إلى المؤلف نفسه؛ وكأنه يحيلنا دوما إلى صيرورة الإبداع في مستوياته التي تتداخل فيها حركية النص، والعناصر الكونية في آن.

وتكشف الرواية عن سمة دون كيشوتية خفية تنطوي عليها الكتابة الروائية نفسها؛ فمثلما عايش دون كيشوت الواقع من خلال تأثير قراءاته حول الفروسية؛ فإن كتابات المؤلف، ومحاولات حرفش انطلقت من المعايشة الواقعية لبذور الأفكار الجمالية التي تنمو من إضافات الوعي، واللاوعي للتجربة؛ ومن ثم تتجلى السمة الدون كيشوتية هنا في التباس التجربة الجزئية بين الواقع، والوعي المبدع، والتشكل الفريد للمغامرة، أو الحدث؛ فالولوج الفني للواقع يمثل بحد ذاته تجاوزا للمعاني المستقرة، وتأكيدا للاحتمالات النسبية المعرفية حول الإنسان.

يرى ميلان كونديرا في كتابه (فن الرواية) أن التيمات الوجودية الكبرى التي ناقشها هيدجر قد عبرت عنها الرواية بطرق فنية خاصة، وأن ما يميز دون كيشوت لسرفانتس هو لغتها النسبية الغامضة، وفهم العالم من خلال تعددية الحقائق النسبية فيه، وقد كان يبدو بلا حدود (راجع / ميلان كونديرا / فن الرواية / ترجمة د. بدر الدين عرودكي / الأهالي للطباعة والنشر / دمشق ط1 / سنة 1999 من ص 12: 15).

لقد أشار كونديرا إلى معاينة الخبرة الجمالية في صورها الإبداعية الفريدة خارج الحدود، والأحكام؛ وهو ما تجلى في تلك اليرقات، أو البذور الفنية الوليدة التي تجلت في نص أمير تاج السر، وتحولت بفعل الوعي المنتج إلى تجارب محتملة تقاوم الحدود، والأنساق الثقافية المهيمنة. إنها كتابة تؤكد مبدأ الاحتمال أيضا؛ فهي تحاول القبض على بكارة العلامات، والشخصيات، والضمائر في سياق خيالي غير معروف سلفا؛ فالصيرورة المحتملة هي التجربة، وهي ما يتجاوز اليرقة؛ الكتابة هي التحول المنتج لليرقة، وليست اليرقة نفسها كمعبر طبيعي غير واع للتجربة المحتملة في صورتها الأرقى؛ إنها ما يحيط باليرقة من روائح، وأخيلة، وصور، وعوالم فريدة.

لقد كشف نص (صائد اليرقات) عن التجليات الحسية للكتابة، وتداخل الأصوات، والضمائر، أو توحدها في البحث عن هوية جديدة تتجاوز انفصال الأنا، والآخر، وتؤسس للتناول الفني للحياة كمادة سردية مرنة، أو قيد التشكل دائما حتى تتحول إلى بنية محتملة، ومتجددة في آن.

 ويمكننا رصد أربع تيمات فنية رئيسية في النص؛ هي:

أولا: إعادة تمثيل العلامة بين الفن، والواقع.

ثانيا: تداعيات الشخصيات الفريدة.

ثالثا: الهوية الجمالية بين الأنا، والآخر.

رابعا: التفاعل المنتج بين الراوي، والشخصية، والنص.

أولا: إعادة تمثيل العلامة بين الفن، والواقع:
يبدو كل من الواقع، والفن في (صائد اليرقات) كعلامات قيد التشكل، والتأويل بصورة مستمرة؛ فالشخصيات تنتقل من الخبرات الحسية إلى الوعي، ثم إلى النص الوليد أو اليرقة، أو إلى النص ذي البنية المحتملة / الرواية، وقد تنتقل الشخصية من عمل إبداعي لآخر محتمل؛ مثل شخصية (إيفا) في رواية للمؤلف (أ.ت)، وقد تشكلت بصورة تأويلية مختلفة عن الأصل في وعي حرفش، وقد تصير الصور الانطباعية عن الواقع بدايات لرواية جديدة؛ فقد تخيل المؤلف صاحب مقهى (البئر) كضحية، أو مضحي، بينما عززت الصيرورة السردية من المدلول الثاني في وعي البطل. إن الوعي المبدع ليولد من الشخصيات، والأحداث، والأماكن حضورا فنيا آخر مختلفا حين يمتزج بالمخيلة، والتأملات، والتوقعات، والمعايشة الواقعية الجمالية، وهي ليست معايشة الاكتشاف، أو المعرفة الآلية؛ فهي تحاول تلمس روح التجربة، وأطيافها المحتملة؛ كي يتشكل النص.

لقد أعاد حرفش تمثيل شخصية المدلك/ زوج عمته انطلاقا من مبدأ الذوبان في النص، والطفرات المفاجئة في حياته، والتي منحته حياة، ووهجا جديدا؛ فقد اندمج في دور الغياب عن الوعي في المرة الأولى بتعاطيه المخدر، ثم تحول إلى الإعلانات، وتمتع بسفر إلى الإمارات، ثم خرج عن النص في المسرحية الثانية لكاتب يساري؛ لينال مكاسب فنية أكبر، ويتوحد بالعنصر الثقافي المهيمن؛ فهو يقع في تناقض مستمر؛ بين الخروج من حالة التهميش، وتأسيس هوية شخصية جديدة، ومتوافقة مع الثقافة السائدة. أما شخصية المشجع/ حفار القبور فقد أولها من خلال المرح الذي يزودوج بالموت، أو الكآبة، وكأنه يعيد تمثيل أفكار المؤلف (أ.ت) حول تداخل الموت، والحياة، أو الوجود، والعدم.

وتصل إعادة تمثيل العلامة إلى ذروتها حين تتطابق توقعات، وأخيلة المؤلف (أ.ت) عن حرفش/ صائد اليرقات بمساره الواقعي، واضطراره للتخلي عن الكتابة، والعودة لعمله بوعي جديد؛ فقد اتفقت تمثيلات الكتابة مع تحولات الواقع، واتحد وجود حرفش الواقعي بوجوده النصي الجديد في هذا المستوى، وتعددت أطيافه في الإضافات الاستعارية الملازمة لتداعيات الكتابة.

هل يتشكل الواقع وفق مبدأ فني؟

إن اليرقة التي حاول حرفش أن يكمل كتابتها قد اكتملت حين صار هو موضوعا للكتابة، وإعادة التمثيل؛ وهو ما يعكس تلك الإمكانية البديعة في النص بأن كل شيء قد يصير علامة جمالية.

ثانيا: تداعيات الشخصيات الفريدة:
للشخصية علاقة وثيقة بتداعيات الكتابة في نص (صائد اليرقات)؛ فهو نص توليدي للشخصيات الفريدة التي تتجلى في حضور إبداعي استثنائي من جهة، وفي شكول تأويلية عديدة، وتواريخ استعارية لا نهائية؛ فالشخصيات هنا هي يرقات متحولة، وغير ساكنة أبدا، وهي متجاوزة للخبرة الحسية رغم أنها تتولد منها؛ فالشخصية لا تموت عند أمير تاج السر، ولكنها تولد باستمرار، وتستنبت في الوعي المبدع، وتخلف أثرا يؤسس له النص في وعي القارئ النموذجي وفق تعبير (إيكو)؛ فالسارد يبني شخصياته من خلال تميزها الواقعي، والمجازي، وتحولاتها الممكنة في العالم الداخلي للقارئ.

ولكل شخصية فريدة أثر تأويلي متجدد، وممتد؛ فبائع الورد الذي صار كاتبا أحدث تحولا غير واع في مسار حرفش من كتابة التقارير الأمنية إلى الكتابة الروائية عقب إصابته، وشخصية زاريبا الروسية المقهورة المتمردة على التاجر تطل من رواية إيفا؛ لتشير إلى تناقضات الحب، وتحولاته لدى بطل الرواية نفسه، ويشير المشجع إلى بهجة خفية لاواعية، ومستمرة رغم موته، بينما يتناقض المدلك بين موقعه الهامشي، وصعوده المتخيل، وتتنازع أخيلة الضحية، والمضحي شخصية صاحب المقهى، بينما تشير الكاتبة س إلى الشاعرية الأنثوية الممزوجة بإيماءات الطبيعة، وإلى تحول اليرقة في بروز جسدها في النص؛ أما الصحراويون الذين يحاكون فعل ولادة الناقة، وآلامها، أو فعل التناسل لدى الجمل فيؤسسون لأخيلة جمالية جديدة في القراءات التأويلية الممكنة؛ وكأنهم هنا يعيدون بعث دور الساحر القديم بصورة هزلية ساخرة، وتشير شخصية ولد البني / المخرج الموريتاني في رواية إيفا إلى الازدواجية ، وانشطار الهوية الثقافية، والعلاقة المعقدة بين المحلي، والعالمي.

إن إمكانية التأويل المتجدد للشخصية هي جزء من بنيتها الفريدة في النص؛ وكأن الكاتب يومئ إلى العمق الاستثنائي الفريد في الشخصية الإنسانية، وأنه منبع لا ينضب للكتابة، والتأمل، وتأكيد فكرة الامتداد الروحي، ومقاومة النسيان، أو المحو، أو العدم من خلال سمة الاختلاف الفني.

ثالثا: الهوية الجمالية بين الأنا، والآخر:
تسعى شخصيات الرواية إلى تكوين هوية جمالية جديدة متجاوزة لحضورها الواقعي، ولكن بطرق متنوعة، وفي سياقات مختلفة لا يمكن فصلها عن الآخر؛ فالهوية الجديدة هنا ذات مدلول إبداعي اجتماعي؛ فالبطل عبد الله حرفش يعيد بناء ذاته من خلال شخصية كاتب الرواية المحتمل، ويتداخل حضوره الجديد مع كتابات الروائي (أ.ت) ونصائحه، وكلماته الموحية، وتأملاته، ومغامراته التي ترتكز على معاينة التجربة، والتنقيح الخيالي لها، وحفار القبور المشجع يفخر بالجريدة التي نشرت خبر تكريمه، ويحرص على المدلول الاجتماعي للخبر، ويشكل من خلاله صورته الأخرى، وصاحب المقهي يتحول إلى ضحية أو مضحي في وعي المؤلف، وحرفش؛ وكأن الهوية الأخرى تطارد سمة الغموض في أي شخصية واقعية، أو فنية، والمدلك يكتسب هويته من خلال إعلان التليفزيون، وصعوده الاجتماعي الشكلي، والفتاة س تفخر بروايتها في قصر الجميز؛ أما المؤلف (أ.ت) فيؤثر التحويل المستمر لذاته عبر وسيط الكتابة، واتساع الخبرات الحياتية المباشرة التي تظهره كممثل ما بعد حداثي يمارس فنه خارج إطار الكتاب؛ ليصير في النهاية مؤلفا؛ وكأنه صائد متمرس لليرقات، أو الصور والأفكار الروائية، وقد توحد بصورة حرفش الخيالية؛ ليجددها في عوالم الوعي، واللاوعي.

رابعا: التفاعل المنتج بين الراوي، والشخصية، والنص:
ثمة تفاعل إبداعي دائري في النص بين الأصوات، والشخصيات، والنصوص المحتملة، والنص الأصلي الذي يحيل المروي له إلى التداخل بين صوت حرفش / الراوي، وشخصيته النصية في وعي المؤلف كصائد لليرقات، وكذلك صوت السارد الأول للنص الذي يشير إلى صائد اليرقات داخل الواقع السردي، وفي عنوان الرواية نفسه؛ وهو ما يؤكد ثراء أصوات النص، وعلاماته، وأصالة التداخل المنتج لدلالات جديدة في أبنيته الفنية.

ينتقل السارد من صوت حرفش، إلى صوت يزدوج فيه سارد المؤلف (أ.ت) بوعي حرفش كقارئ، وكذلك وعي قارئ النص أيضا في المقاطع التي أوردها من رواية (على سريري ماتت إيفا) للمؤلف (أ.ت)، ثم ينتقل إلى أفكار حرفش الوليدة، أو يرقاته، ثم إلى يرقة الفتاة س، أو روايتها، ثم البروز الجمالي الأخير لرواية مكتملة يكتبها (أ.ت) عن حرفش بعنوان (صائد اليرقات)؛ وكأننا أمام تصاعد سردي سيمفوني تتداخل فيه النغمات حتى تصنع بنية جمالية ممكنة.

 

مصر

 msameerster@gmail.com