ترصد القاصة المصرية ذلك التعلق الشجن العميق بالحياة وأماكن النشأة وتندب السنين التي مرت كالبرق من خلال امرأة مسنة ذهبت تبحث عن سنواتها في بيت الطفولة المندثر والذي تراه وحدها بلغة عذبة وبناء فني متماسك.

3 شارع حسن القاضي

سماح تمّام

هذا هو عنوانُ البيت.. لا شك لديها برغم تغيِّر كلِّ المعالم حوله. هي على يقين ولكن، على غير ما اعتادت، كلَّ الأبوابِ مغلقة.

تلتفتُ لتبحثَ عن الجرَّار القديم الذي كانوا يلهون فوقه وهم أطفال في قطعة الأرض الخالية، ولكن أين هي الآن من هذا البرج الكائن بدلاً منها؟

تنظرُ في الشرفة.. ها هو كرسي جدِّها في المكان نفسه والمائدة بجانبه، عليها ورق نتيجةٍ قديم اعتاد أن يطويه بعناية ليكون عوضاً عن الكبريت كنوع من التوفير، حيث كان يشعله من فتيل المصباح السهاري الصغير ثم يشعل به البوتاجاز... هو إذن العنوان وهي لم تخطئ.

يدورُ في ذهنها مطلبٌ غريب: أن يريها أحد قاطني البيت جلباباً لجدتها حتى تتأكد أنه العنوان، فسوف تعرفُ بصماتِ أمها فوق الجلباب. كانت مهمتُها دائماً أن تقصَّ جزءاً منه حتى يناسب قامة جدتها القصيرة وتصنع من القماش المستخرج جيوباً له. لا يفارقها اليقين أنها قد تجدُ في ركنٍ ما علبةَ السجائر والولاعةَ وكيسَ النقود والسماعةَ التي كانت جدتُها تضعها بعناية في الجيوب التي تصنعها الأم.

تلتفتُ ثانيةً في اتجاه مخزن الحديد لعلها ترى الحارس لتسأله عن نادية ومسعد، فلا شك أن أباهم بواب البيت القديم قد رحل. لو رأوها سيعرفونها حتماً وسيكون هذا خير دليل أنها لم تخطئ العنوان.

تشمُّ رائحةً تخرجُ من الدار تجعلُ الحنين إلى دخوله يدبُّ في أوصالها بشدة.. رائحة الفشار الذي كانت تعدُه زوجةُ عمها عند كل لقاء أسبوعي، وليست مصادفة أن تشمَّ هذه الرائحة ويكون اليومُ هو الخميس.. يومهم المعتاد للاجتماع. هو المنزل إذن لا محالة، والسيدةُ لا تكلُّ عن إعدادِ كلِّ ما هو شهي من أجلهم.

لم يظهر أحدٌ بعد، بعينيها تذهب لنهاية الشارع.. قد تلمحُ عمتَها التي تسكن على مقربةٍ تأتي سيراً على الأقدام كعادتها، أو تلمح عمتَها الأخرى بصحبة زوجها في سيارته. يكادُ اليأسُ يتسربُ إليها، فلا أحد في مرمى البصر. تهمُّ بالانصراف، ولكن يسترعي انتباهها سماعُ صوتٍ ما.. إنه الزهر وقشاط الطاولة.. إذن عمها جالس بالداخل يلعبُ كعادته مع ولده، ولو اقتربت ستسمع صوت مشاحناتهما وصوت التلفاز العالي الذي لا يلتفت له أحدٌ غالباً.

آه لو يُفتح البابُ لترى مَا بالداخل. هذه الجرائد المُلقاة وبجوارها قلم ونظارة وكلها مفتوحة على صفحة الكلمات المتقاطعة.. هواية عمها الأثيرة. لو استطاعتْ رؤيتها ستعرفُ خطَّه بالتأكيد وتتيقن أنه العنوان، ولكن كيف لها هذا؟

تلمحُ من وقفتها البيتَ الصغيرَ الملحق بالبيت الكبير، تتذكر أن قاطنه كان صديق طفولتهم وله أخت تصغره بأعوام، لو رأوها قد يعرفونها فتتأكد أنها لم تضل الطريق. تلتفتُ مرةً أخرى لمخزن الحديد لعل حارسَه يأتي فتسألَه عن العنوان.. ليتهم لم ينزعوا اللوحةَ المثبتة على البيت من الخارج لكي لا تظلَّ هي فريسةً لخيالاتٍ لا تدري صحتَها من وهمها.

لو كان اليوم هو الجمعة لرأت أباها قادماً قبل الصلاة متكأً على عصاه كعادته للزيارة. كان طقساً اعتاد عليه منذ سنوات ولم ينقطع عنه أبداً ولكن للأسف ليس هذا يوم الجمعة... يجولُ بخاطرها هاجسٌ آخر: لو استطاعتْ الدخولَ ولو لدقائق لترى أرضيةَ الدار.. لو كانت من الخشب ستتأكدُ أن العنوانَ صحيح، وقد ترى أمَّها وهي منحنية تنظفها قطعةً قطعةً بمادة خاصة لهذا الغرض لعلَّ حماتَها ترضى عنها.

لو كان اليومُ عيداً أو ذكرى ميلاد أحد أفراد العائلة لرأت دون شك آثار الاستعداد لإحياء اليوم، فالدار تعني لهم الاحتفال بكل المناسبات الجميلة، وعدد الحاضرين تعجزُ عن حمله كلُّ المقاعد الموجودة، والجميعُ يتحدثون في نفَسٍ واحد، وابنة عمها لا تكلُّ عن الحركة ولا تفارقها الابتسامة ولا تُشعر أحداً أنها مجهدةٌ رغم أنها ترتدي كالعادة حذاءها ذا الكعب العالي.

ألمُ قدميها يتزايدُ من جراء وقفة الانتظار هذه، ولا أمل في رؤية أحد ليخبرها هل هذا هو العنوان حقاً أم لا.

تهمُّ بالانصراف بعدما استبد بها اليأس، لكن صوت نباح كلب وصوت طفلة صغيرة تلاعبه أيقظا الأمل بداخلها من جديد. تُهرع في اتجاه البوابة تنادي الفتاة. تترددُ الفتاةُ خوفاً في أول الأمر، ولكنها تتنبهُ إلى أن البوابة الحديدية مغلقة فلا ضرر من أن تتحدَّث من خلفِها لترى ما الذي تريده هذه السيدة.

تسردُ للفتاة أسماءَ بعض الأشخاص وتروي لها بعض الأحداث التي كانتْ تحدثُ بالدار، فتردُّ الفتاة:

- سمعتُ أشياء كهذه أو تشبهها من جدتي، ولكني لم أشاهدْ هؤلاء الأشخاص قط... أعتقد أن هذا ليس العنوان.

لا تريدُ أن تصدقَ أن هذا الأملَ الأخيرَ قد تبدد أيضاً. تنظرُ حولها في حيْرة، ولكنها تلتفتُ فجأةً للفتاة تسألها عن اسم جدتها التي سمعتْ منها. يخفقُ قلبُها عندما تنطق الفتاةُ الاسم. نعم.. تعرفُه جيداً، فهو لابنة عمها.. تلك المبتسمة ذات الحذاء ذي الكعب العالي.

يا إلهي! أهذه حفيدتها؟ أين ذهبت السنين؟

تتيقن أخيراً أنها أخطأت العنوان فتلقي بنفسها في أول سيارة أجرة، وتقول لسائقها:

- اذهب بي إلى المقابر فمن أعرفُهم هناك.. الأحياءُ هنا لا أعرفُهم.