في هذه الرسالة المفتوحة من مثقف عراقي إلى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي جر بلادة إلى جريمة احتلال العراق، واخترع الأكاذيب لتسويغ تلك العملية الاستعمارية البشعة، يكشف لنا عن الثمن الفادح من الأرواح البشرية والأموال لتلك الجريمة، ليس فقط بالنسبة للعراق ولكن أيضا لمقترفي جريمة احتلاله.

جرائم احتلال العراق وأكاذيب تسويغها

رسالة مفتوحة الى توني بلير Tony Blair في الذكرى العاشرة لغزو العراق

رمـيـز نظـمي

"وعدنا العراق بحكومة ديمقراطية, وسوف نسلمه إياها، وعدناه بفرصة إستخدام ثروته النفطية لتحقيق الرخاء لجميع مواطنيه وليس للنخبة الفاسدة، وسنفعل ذلك، سنبقى معهم ماداموا يفتقرون الى مساعدتنا حتى يتم انجاز المهمة" هذا ما قاله توني بلير (Tony Blair) في 17 تموز/ يوليو 2003.

هذه الرسالة موجهة إليكم ليس فقط لكونكم قد شاركتم في احتلال العراق ولكن أيضاً لأنكم تمثلون المؤسسة الحاكمة الأنغلو سكسونية، ولأنكم رمزًا للأسلوبين الجديد والقديم للإمبريالية وسياستها العدوانية بما في ذلك التنكر بصفة "التدخل الانساني".

لقد مرت عشر سنوات طوال منذ أن غزا جورج بوش (George W. Bush) معكم العراق، وماذا كانت النتيجة؟ العراق الآن نموذج الدولة الفاشلة، لقد هلك عشرات الآلاف من الأبرياء وشُرد الملايين وتنتهك حقوق الانسان على نطاق واسع؛ فقد ذكرت تقارير منظمة العفو الدولية  إن "قوات الامن الحكومية استخدمت القوة المفرطة ضد المتظاهرين وحتى المسالمين منهم، بعضهم قتلوا رمياً بالرصاص، وألقي القبض على الآخرين وعذبوا، واعتقل آلاف الاشخاص؛ العديد منهم اعتقلوا في السنوات السابقة واحتجزوا بدون تهمة ولا محاكمة، وبقي التعذيب وسوء المعاملة متفشيان، وحُكم على مئات الاشخاص بالإعدام، وأعدم العديد منهم إثر محاكمات جائرة، وأعدم عشرات السجناء". أصبح الفساد مستشرياَ ومستوطناَ وفقا لمنظمة الشفافية الدولية، فالعراق الان من بين أكثر الدول فساداً في العالم. لقد دمر الاحتلالُ العراقَ مهد الحضارة وأحد أغنى البلدان في العالم.

فبدلاً من الحرية والديمقراطية والتسامح والكرامة والتنمية والأمل والوحدة والمجتمع المدني والازدهار، فإن مصطلحات أخرى باتت ترتبط في أذهان الناس بالعراق، مثل ساحات القتل وحمامات الدم والتطهير العرقي والجثث والإعدامات الغوغائية والاغتصاب والطغيان والرعب وفرق الموت والتقسيم والرشاوي والتعصب ومنع التجول والتخلف والكآبة والذل.

هناك اعتقاد شائع أن غزوكم واحتلالكم العراق قد فشل فشلاً ذريعاً، وفي واقع الحال أن نجاحه كان باهراَ. إن جلب الديمقراطية والحرية والرخاء وتحويل العراق الى منارة اشعاع لم تكن الأهداف الحقيقية للحرب اطلاقاً، بل كان هدفها الاستراتيجي هو تحطيم العراق باعتباره تهديداً محتملاَ لمصالحكم الامبريالية الجديدة ومصالح اسرائيل.  كان القضاء على أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة في العراق، وقطع صلته المزعومة مع تنظيم القاعدة ما هي إلا ذرائع مضللة لحربكم العدوانية على العراق.

هذا الخطاب له أربعة أهداف مترابطة. الأول هو إظهار إن الهدف الحقيقي من الحرب كان تدمير العراق، إنها كانت حرباً من أجل اسرائيل وليس لصالح مواطنيكم، كانت حرباً للامبريالية بضمنها "المجمع   العسكري الصناعي" وليس لصالح الديمقراطية. الهدف الثاني هو بيان أن الخطة لتغيير النظام في العراق قد سبقت الهجوم الإرهابي الذي حصل في 11 أيلول/ سبتمبر 2001. الهدف الثالث هو إثبات أن قيمكم التي تتشدقون بها لا تستحق الاتباع، وفي الواقع إن التقاليد العربية والإسلامية هي أكثر سمواً. أما الهدف الرابع فهو فضح أكاذيبكم المتكررة وخداعكم المتواصل".

إن تزايد ظهور الأدلة التي تثبت ادعاءات العراق، بأنه تخلص من أي أسلحة دمار شامل هي التي دفعتكم لغزو العراق، وبعبارة أخرى، السبب الذي جعلكم تقررون الذهاب الى الحرب هو عدم وجود أسلحة الدمار الشامل وليس وجودها، حيث انكم بدأتم تدركون بأن العقوبات الوحشية المفروضة على العراق منذ عام 1990،على أساس إنه يمتلك اسلحة دمار شامل، لم يعد بالإمكان استمرار فرضها، لقد بدأ المجتمع الدولي، بما في ذلك لجنة الامم المتحدة للرصد والتحقيق والتفتيش (UNMOVIC)، بالتوصل لاستنتاج مفاده ان العراق خال من اسلحة الدمار الشامل، وبالتالي سيتعين رفع العقوبات، وقد أبلغ رئيس اللجنة، هانز بليكس (Hans Blix) مجلس الامن قبل شهر من الغزو أن " اللجنة لم تعثر على أية أسلحة من هذا القبيل"، كما قال بليكس في مقابلة أن "هنالك اشخاص يضعون العراقيل أمامي في واشنطن، هؤلاء الاوغاد ينشرون الاشاعات المغرضة حتى في وسائل الاعلام"، وقد اعترف أحد وزرائكم بأنكم تجسستم حتى على مكتب الامين العام للأمم المتحدة.

ووصف دينيس هاليداي (Denis (Halliday مساعد الامين العام للأمم المتحدة العقوبات بأنها "ابادة جماعية"، وعندما قيل لمادلين اولبرايت Madeline Albright)) بان العقوبات قد تسببت في وفاة نصف مليون طفل عراقي أكثر من الاشخاص الذين توفوا في هيروشيما، قالت أولبرايت "إن هذا ثمن مناسب"، وكما قالت أرونداتي روي Arundhati Roy)) "يتضور المدنيون جوعاً حتى يتم قتلهم".

حتى مراسل البي بي سي جون سيمبسون (John Simpson) أقر بأن احتلالكم للعراق تضمن "مستويات بشعة من الفساد وسوء الإدارة". والأهم من ذلك اعترف اندي بيربارك (Andy Bearpark) الذي عينتموه كنائب لبول بريمر (Paul Bremer) حاكم العراق بعد الاحتلال "إن منح أنفسنا الحق في غزو بلاد أخرى وقتل الناس يضعنا أمام مسؤولية أخلاقية"، وأضاف "غياب التخطيط السليم في العراق يعد إهمالاً إجرامياً". وذكر بيربارك كذلك "إن العراق كان يمتلك قدرات بشرية هائلة قبل أن نذهب ونحطمها".

لا شك إنكم تذكرون، بعد حرب الخليج الأولى عام 1990، إن العراقيين أنفسهم من أعادوا في فترة قصيرة بناء بلدهم بعد أن دمرتم قطاعاته الحيوية مثل الكهرباء ومصافي النفط وتكرير المياه وبدالات الهاتف.. لربما لو لجأ العراق إلى شركات هاليبورتون (Halliburton) ولوكهيد مارتن Lockheed) Martin) وبيكتل (Bechtel)  والبترول البريطانية (British Petroleum) لما حصلت حرب الخليج الثانية. هل إن من قبيل الصدفة أن يكون مسؤولون كبار يرتبطون مع المجمع الصناعي العسكري مثل ديك تشيني (Dick Cheney) من شركة هاليبورتون وبروس جاكسون (Bruce Jackson) من شركة لوكهيد مارتن من ضمن المحرضين على الغزو؟ ومن نافل القول إنه بعد الغزو منحت كلا الشركتين عقوداً ببلايين الدولارات.

أخبرتم الكونغرس الأمريكي في 17 تموز/ يوليو 2003 "ما أجوف ما سيكون عليه اتهام أمريكا بالامبريالية عندما ينظر إلى هذه البلدان الفاشلة (العراق وأفغانستان) وقد تحولت من الإرهاب إلى الازدهار ومن الدكتاتورية إلى الديمقراطية ومن عدم الاستقرار إلى الهدوء والسكينة"، تعطي هذه العبارة مثالاً آخر على خطبكم الفارغة.. إن الفشل الذريع في تحقيق أي من هذه الأهداف الرنانة هو دليل آخر على صلابة الاتهامات الموجهة إلى أمريكا الامبريالية. من فمك أدينك.

احتلاكم العراق - كجزء من السياسة الامبريالية (فرق تسد) - قد حول العراق الى دولة طائفية. فخلال حكم البعث تسلم القيادة 55 قائداً (الكوتشينة الشهيرة)ً، 36 منهم ينتمون الى الطائفة الشيعية، وهذا يكذب مقولة ان النظام السابق كان يقوده السنة. كان النظام استبداديا لكن شموليته كانت متساوية حيث كان يعاقب كل الذين يعارضونه بغض النظر عن طائفتهم او عرقهم سواء كانوا سنة او شيعة او اكراداً. ولم يكن العراق يعرف قبل احتلاله الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، فغالبية الجيش العراقي كانوا من الشيعة. وخلال الحرب الايرانية العراقية (1980-1988) وعلى الرغم من الدعاية المكثفة من السلطات الايرانية الدينية الشيعية الا أن العراقيين الشيعة أظهروا أن وطنيتهم قد تجاوزت أي مشاعر اخرى اذ كانوا يقفون جنباَ الى جنب مع السنة والمسيحيين من ابناء وطنهم، وهم يدافعون عنه بإخلاص.

ان رغبتكم الشديدة في شن حرب ضد العراق بأي ثمن، جعلتكم تفبركون ملفات سبقت الغزو لغرض ترويج الحرب والحصول على موافقة جمهور غير مقتنع بها. وتبين فيما بعد إن الملفات –والتي كان من المفترض أن تقدم أدلة على تهديدات العراق القاتلة– كانت تحتوي على أكاذيب وتظليل بل وحتى مادة مسروقة من أطروحة طالب!!، ومن بين هذه الاكاذيب كان التأكيد على أن العراق يمتلك اسلحة دمار شامل والتي يمكن إطلاقها في غضون (45 دقيقة)، مما جعل الصحف البريطانية  تنشر عناوين مثيرة من مثل "يبعد البريطانيون 45 دقيقة عن الموت".

كانت عبارة (45 دقيقة) محيرة، لماذا لم تكن (30) او (60) دقيقة؟ ثم تبينت حقيقة الأمر حيث اسْتخدِمت هذه العبارة مسبقاً في سياق الحرب في العراق. فبعد الحرب العالمية الاولى عندما احتلت إمبراطورتيكم العراق ونكثت وعودها، ثار العرب والاكراد في العراق، ولإخضاعهم استخدمت الامبراطورية اسلحة الدمار الشامل. وفي اطار حرص تشرشل Churchill))على الاستفادة من مثل هذه الاسلحة قال "أؤيد تأييداً شديداً استخدام الغازات السامة ضد القبائل غير المتحضرة"، وقد كتب بومبر هاريس Bomber Harris)) المشير في القوة الجوية الملكية في عام 1924 ان "العرب والاكراد الآن يعرفون نتائج القصف الحقيقي في الاصابات والاضرار، فخلال (45 دقيقة) يمكن ان تمحى قرية كاملة ويُقتل أو يصاب ثلث سكانها "، وقال كذلك "ان الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب هو مفهوم اليد الثقيلة". ويبدو انكم استوحيتم الـ (45 دقيقة) من عدد دقائق بومبر هاريس الشريرة.

وقد صادق بومبر هاريس Bomber Harris)) على التأكيد الذي أدلى به هاينريش فون ترايتشكه (Heinrich von Treitschke) - السياسي الالماني اليميني- في قوله "لمعاقبة قبيلة زنجية ينبغي حرق القرى – فمن دون اعطاء امثلة من هذا النوع لن نحقق اي شيء، واذا كان الرايخ الالماني قد طبق القانون الدولي في مثل هذه الحالات ، فلن يكون ذلك من قبيل الانسانية او العدالة بل من قبيل الضعف المخزي". يعتمد الحكم الامبراطوري أساساً على ترويع المواطنين الذين يعتبرون أقل شأناً ومن أصول دنيا. "ليس قطرة دم مقابل قطرة دم، بل براميل وبراميل من القذارة التي تجري في اوردة الزنوج مقابل كل قطرة دم تسيل(من بريطاني)"، كان ذلك قسم الانتقام الذي ادلى به المشير كارنيت وولسلي (Garnett Wolseley) وفيسكونت (لقب نبيل Viscount) الامبراطورية البريطانية  ضد الهنود المتمردين في القرن التاسع عشر.

اطلقت قوات الاحتلال على العراقيين لقب (زنوج الرمال)، وكان حرقهم من الواجب –فالعادات القديمة لا تتغير–  حيث أحرقوا الالاف في الفلوجة عندما أسقطوا عليهم الفسفور الابيض وهو سلاح من اسلحة الدمار الشامل. وقد كتبت ريفربندRiverbend)) – وهو اسم مستعار لشابة عراقية ومبرمجة كمبيوتر –  في مدونتها "بغداد تحترق" عن فظاعة فلم وثائقيٍ قائلة:

 "وأخيراً استجمعت ما يكفي من الشجاعة لمشاهدته إذ تحققت فيه أسوأ مخاوفي. كادت مشاهدته أن تشبه الغزو لأنني شعرت كأن أحدهم قد زحف الى ذهني وأحيا كوابيسي. تتابع صور الرجال والنساء والاطفال الذين أحرقوا حتى تفحمت جثثهم. الطريقة الوحيدة لتميّيز الذكور عن الاناث والاطفال عن البالغين كانت عن طريق الملابس التي يرتدونها... الملابس التي كانت سليمة بشكل تقشعر منه الأبدان، وكأن كل جثة قد تم حرقها حتى العظم، ومن ثم ألبست ملابسها اليومية بعناية وود– فهذا ثوب النوم المنقط ذو الياقة المزركشة... والطفلة الصغيرة ببجامتها القطنية... والاقراط  المتدلية قليلاَ من الآذان الصغيرة".

رشح كتاب ريفربند– وهو تجميع من مدونتها "بغداد تحترق" –في عام 2006 لجائزة صامويل جونسون، وهي أكبرجائزة بريطانية للكتب غير الروائية. وقد انضمت ريفربند بعد سنة واحدة الى سيل النازحين من المهندسين والاطباء والعلماء وأصحاب الكفاءات الاخرى الذين اضطروا الى مغادرة العراق هرباَ من المآسي ومن "تدخلكم الانساني" الذي تعرضوا له. لا يزال نزيف العقول قائماً فقد دَمر الغزو والاحتلال البلاد بأكثر من طريقة واحدة.

قبل حرب الخليج الاولى، كان هناك الآلاف من الطلبة العراقيين يدرسون في الجامعات الغربية بمنح دراسية من حكومتهم (النظام الذي قلبته)، ومن المحتمل ان يكون عددهم الأعلى من بين الطلبة الاجانب الذين كانوا يدرسون في المملكة المتحدة، أين هم الآن؟

إن مقتل (3000) من سكان نيويورك في أحداث 11/9، تسببت حقاَ في غضبٍ ساحق، وكان ردكم على هذا العمل الوحشي هو شن الحرب، هل خطر ببالكم أن قتل مئات الالاف من العراقيين الابرياء سوف يخلق رد فعلٍ مماثل بين العراقيين واتباعهم من العرب والمسلمين؟ ربما كنتم تظنون إن الأذى والغضب والحزن مشاعر لا يحس بها سوى الغربيين، او ربما اشتركتم بالرأي القائل من دون حرق "زنوج الصحراء" لا يمكن تحقيق شيء يذكر.

لماذايعُد قتل المدنيين في نيويورك عملاً ارهابياً ويُعد قتل المدنيين في بغداد والفلوجة والنجف أضراراً جانبية؟ وبصرف النظر عن الحجم او المدة، فأن الفرق الوحيد بين الهجوم الارهابى في 11/9 وحرب العراق أن الأول ارتكبه أشخاص يعترفون بأنهم قتلة بينما الثاني ارتكبه قادة إدعوا أنهم صالحون.

 تهاجم اسرائيل باستمرار الفلسطينيين مستخدمةً الأسلحة الفتاكة الأكثر تقدماً التي يمكن ان تنتجها تقنياتكم. لقد أدانت بعثة برئاسةالقاضي ريتشارد غولدستون (Richard Goldstone) اسرائيل "لارتكابها جرائم حرب وانتهاكها القانون الانساني، وقد تصل هذه الى جرائم ضد الانسانية". كان ردكم المعتاد على فظائع اسرائيل هو دعوة كلا الجانبين الى ضبط النفس، ولكن عندما يرتكب 19 مقاتل يحملون شفراتٍ للقطع عملاً ارهابياً تكون ردة فعلكم هي شن حرب "ليس لها مثيل" تقتل مئات الالاف من الذين "لم يرتكبوا اي خطأ" –هذه عبارتكم – عدا كونهم مسلمين.

إن التنظيم الذي أرتكب الهجوم الارهابي في 11/9كانت وكالة الاستخبارات الامريكية CIA ووكالة الاستخبارات البريطانية MI6قد دعمتاه– ان لم تكونا أسستاه – لأجل محاربة الاتحاد السوفيتي في افغانستان. ووفقاً لجون بيلجر(John Pilger) المحقق الصحفي المعروف: "إن مدير وكالة الاستخبارات الامريكية وليام كيسي (William Casey) كان قد دعم خطة وضعتها وكالة الاستخبارات الافغانية ISI لتجنيدالاشخاص من جميع أنحاء العالم للانضمام إلى 'الجهاد' في أفغانستان. ودُرب أكثر من 100,000 من المقاتلين الاسلاميين في باكستان بين عامي (1986 - 1992) في معسكرات تشرف عليها وكالتا الاستخبارات الامريكية والبريطانية، كما دربت القوة الجوية الخاصة SAS مقاتلين – أصبحوا فيما بعد مقاتلي القاعدة وطالبان – على صنع القنابل وفنون القتال الاخرى. وقد تم تدريب قادتهما في وكالة الاستخبارات الامريكية في فيرجينيا، وهذا ما كان يسمى بعملية العاصفة (Operation Cyclone) والتي استمرت فترة طويلة بعد انسحاب السوفييت في عام 1989".

تشير التقديرات الى أن الولايات المتحدة دفعت خلال الفترة ما بين عامي ( 1978-1992) ما يربوعلى 20 ملياردولار لتسليح وتدريب وتمويل 'المجاهدين'. كان الهدف تقويض الاتحادالسوفيتي ليس فقط من خلال محاربة وجوده في افغانستان ولكن ايضاً لتعزيز 'الاسلام' بين مسلمي وسط الجمهوريات السوفيتية الاسلامية أي تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان. كتب جورج كرايل (George Crile) المراسل الامريكي والمحقق قائلاً:"بحلول عام 1985 كان البرنامج الأفغاني قد حصل على أكثر من 50٪ من ميزانية وكالة المخابرات الامريكية لإجمالي العمليات، وفي غضون عام يتضخم المبلغ مرة أخرى ليصبح ما يقارب 70٪ ". اعترف ريتشارد ميرفي (Richard Murphy) وزير الدولة السابق في الولايات المتحدة قائلاً: "لقد أنتجنا الوحش في افغانستان". أنت صنعتم الوحش وعلى العراقيين الابرياء والعرب والمسلمين أن يتحملوا العواقب. ساعدت أفعالكم الوحش بطرائق اخرى أيضاً، حيث إنكم وفرتم البيئة التي يمكن أن ينمو التطرف فيها ويترعرع.  قبل الغزو لم يكن هنالك تنظيم للقاعدة في العراق ولكن الآن وبفضلكم أصبح منتجاً ومصدراً للإرهاب.

إدعيتم بأن أحداث 11/9 قد أثرت بشكل كبير على قرار خوض الحرب، ومع ذلك، منذ عام 1990 كانت مجموعة من صقور المحافظين الجدد وأغلبهم من الصهاينة، وغيرهم من اليمينين يخططون بحماس لتغيير النظام في العراق. وكان الاعضاء الفاعلون في الولايات المتحدة ضمن هذه المجموعة هم ريتشارد بيرل (Richard Perle) و بول وولفوفيتز (Paul Wolfowitz) ودوغلاس فايث (Douglas Feith) وإليوت أبرامز(Elliot Abrams) وايرفلويس ليبي (Lewis Libby) (الملقب بإسم سكوتر Scooter) وديفيد فورمسر(David Wurmser) وتشارلز فيربانك الصغير(Charles Fairbank JR). ساهم أعضاء من هذه المجموعة في صدور وثيقة سياسية في عام 1996 سميت "الكسر القاطع"      (A Clean Break) والتي وصفت تغير نظام الحكم في العراق بأنه "هدف استراتيجي اسرائيلي مهم". ارتبطت المجموعة كذلك مع مشروع القرن الامريكي الجديد (PNAC) والذي أسس عام 1997 وكان أهم أهدافه احداث تغيير النظام في العراق. كان من بين مؤيدي مشروع القرن الامريكي الجديد صقور آخرون مثل ديكتشيني (Dick Cheney) وودونالد رامسفيلد(Donald Rumsfeld) وجون بولتون (John Bolton ) وزلماي خليلزاد (ZalmyKhalilzad).  عندما أصبح شريككم جورج بوش الابن (George W. Bush) رئيساً عام 2001 اخترق إدارته جميع الاشخاص المذكورين أعلاه وشغلوا مناصب عليا ذات طبيعة حساسة والتي من شأنها أن تسمح لهم بتنفيذ مخططاتهم.  ووفقاً لكلِ من البرفسور ديفيد التايد (David Altheide) وجنيفرغرايمز(Jennifer Grimes) من جامعة أريزونا قام مشروع القرن الأمريكي الجديد تقريباً بمفرده " بتطوير وبيع وتشريع وتبرير الحرب مع العراق". ومن الجدير بالملاحظة إن المجموعة لا يبدو إنها تمثل بالضرورة وجهات نظر الأمريكيين اليهود، حيث صوت 76% منهم ضد بوش (Bush) في عام 2004، ومرة اخرى حوالي 78% منهم صوتوا لصالح أوباما (Obama) عام 2008، بالرغم من انه كان ضد الحرب على العراق.

تعرضت مخططات المحافظين الجدد وتعاونكم معهم الى انتقادات شديدة حتى من أعضاء من حزبكم، على سبيل المثال إن تام دالايل (Tam Dalyell) العضو المخضرم في حزب العمال والأب السابق لمجلس العموم والذي وِصفَ بأنه "من أكثر سياسي جيله مبادئاً وشرفاً واصراراً" قال "هذه سلة قمامة من مفكري جناح اليمين محشوة بصقور أصلهم دجاج –  وهم الرجال الذين لم يسبق لهم أن رأوا أهوال الحرب قط ولكنهم يحبون فكرةالحرب. رجال من أمثال تشيني، الذين هربوا من الخدمة العسكرية في حرب فيتنام. هذا مخطط لسيطرة امريكا على العالم، نظام عالمي جديد من صنع ايديهم. هذه عمليات تفكيرأمريكيين متعصبين يريدون السيطرة على العالم. تروعني فكرة ان رئيس الوزراء العمالي البريطاني قد ضاجع طاقماً يتخذ هذا الموقف الاخلاقي".

وُصِف اثنان من الزمرة هما ريتشارد بيرل (Richard Perle) واليوت ابرامز(Elliot Abrams) بالجرذان. ورداً على ذلك ذُكر في مجلة "الامة" (Nation) وهي واحدةمن أقدم المجلات الامريكية السياسية  والثقافية: "لاتحقروا الجرذان هذه الحيوانات الجيدة عن طريق المقارنة، فهذان الرجلان وحلفائهم من المحافظين الجدد سياسيون مجرمون وليسوا جرذاناً. هؤلاء تنتظرهم الكثير من المساءلات للإجابة عنها في محكمة التاريخ وفي قفص الاتهام.

كيف يمكنكم وأنتم الذين كثيراً ما نشرت وسائل الاعلام ايمانكم المتفاني بالمسيحية أن تتحالفوا مع سياسيين مجرمين؟  ليس الايمان مجرد اعتقاد محصور بالذهاب للكنيسة أيام الأحد، والصلاة وقراءة الانجيل وانشاد التراتيل، بل هو طريقة حياة مصحوبة بإيمان مع أعمال صالحة واتباع الوصايا العشر بضمنها "لا تقتل".  كيف يمكنكم طلب الخلاص ودماء الرضع والأطفال والنساء والرجال الابرياء تلطخ أيديكم؟  لقد أدان كل من البابا ورئيس أساقفة كانتربري الحرب.  وذهب رئيس الأساقفة ديزموندتوتو (Desmond Tutu) وبطل معاداة التمييز العنصري أبعد من ذلك عندما دعا الى محاكمتكم ومحاكمة شريككم جورج بوش في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.

آمن أصحاب مشروع القرن الأمريكي الجديد بالرأي القائل أن تحقيق أهدافهم سيستغرق الكثير من الوقت ما لم تحصل حادثة إذ "يحتمل ان تكون عملية التحول طويلة الأمد بغياب بعض الحوادث الكارثية وحوادث العوامل المساعدة – مثل حادثة بيرل هاربر (Pearl Harbor) جديدة".  تنبأت هذه العبارة بحصول حادثة من الحوادث (الكارثية وحوادث العوامل المساعدة) والتي حصلت فعلاً في 11/9، والتي وفرت الحجة المطلوبة لتنفيذ الخطة المبيتة لتدمير العراق وباقي القصة غنية عن التعريف.

كما يخدم حقن العراق بآفة الطائفية مصالح اسرائيل على أفضل وجه.  فعند انقسام المنطقة الى اقسام عرقية وطائفية الى ما يشبه البانتوستانات تصبح اسرائيل المسيطر على المنطقة من دون منازع.  كما تؤمن اسرائيل ان رفاهيتها على المدى البعيد تكمن في خلق مناطق محيطة تتوافق مع طبيعتها بوصفها دولة يهودية طائفية؛  مثلما لاحظ البروفسور ستيفن زونز(Stephen Zunes) من جامعة سان فرانسيسكو في قوله: "من الاهداف البعيدة المدى لهكذا مفكرين من المحافظين الجدد أن يروا الشرق الاوسط ممزقاً الى دول صغيرة عرقية أو طائفية لا تحتوي قوميات كبيرة لا دولة لها مثل الاكراد فقط بل كذلك دولة للمسيحيين المارونيين، ودولة للدروز، ودولة للعرب الشيعة ودولاً أخرى.  لا تنبع مثل هكذا سياسة من احترام حق تقرير المصير على الاطلاق فقد ظل المحافظون الجدد معارضين حازمين لرغبة الفلسطينيين في انشاء دولة، حتى ولو كانت مجاورة لإسرائيل آمنة، بل تنبع من السعي الامبراطوري لسياسة فرق تسد.  ولا يزال تفريق الشرق الاوسط يعد كوسيلة للتصدي لخطر القومية العربية ومؤخراً للتصدي للحركات الاسلامية".  لا تزال اسرائيل تتبع خطوات الصليبيين بعدم التزلف للعرب.  ومع ذلك ولكي تتجنب مصير الصليبيين تريد اسرائيل ان تضمن ان تكون سيطرتها على الشرق الاوسط دائمة.

أراد اللورد بالميرستون (Palmerston) وزير الخارجية البريطاني (1835-1841) من اليهود أن يهاجروا الى فلسطين حيث "سيوقفون أي مخطط شرير يخططه محمد علي أو من يخلفه".  وقد عبر عن رغبته هذه عام 1840 أي تقريباً قبل 60 سنة من تأسيس المنظمة الصهيونية عام 1897 فاللورد بالميرستون  كان سياسياً بارزاً فهو الرائد الصهيوني ورائد المحافظين الجدد!!

استمر مخطط اللورد بالميرستون لفلسطين الذي وضعه في القرن التاسع عشر لتُحكم حبكة مؤامرته بعد ذلك في القرن العشرين.  ففي عام 1917 أعلن آرثر بلفور (Arthur Balfour) وزير الخارجية البريطاني وعده الذي ألزم الحكومة البريطانية بتأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين.  ونصت مذكرة رسمية كتبها رتشارد مينيرتزهاجين (Richard Meinertzhagen) الضابط الكبير في المخابرات البريطانية والذي يثق به تشرشل (Churchill) والذي زامله في كلية هارو (Harrow School) على ما يأتي "بدلاً من الاعتماد على الخونة العرب – الذين لا يحسنون سوى السلب والنهب، والتخريب والقتل – على بريطانيا ان تقيم حامية من اليهود المخلصين في الأراضي المقدسة، وهم أناس أثبتوا قدراتهم القتالية منذ الاحتلال الروماني للقدس". المصطلح الفاعل هنا هو كلمة (حامية). واستلم مينيرتزهاجين (Meinertzhagen) في 30 كانون الاول/ ديسمبر 1947 بعد أربعة أيام من تصويت الأمم المتحدة لصالح تقسيم فلسطين برقية من رئيس اسرائيل تقول "ندين اليك يا صديقي العزيز بالفضل الكبير حتى انني لا أقوى سوى على القول بعبارة بسيطة: بارك الله فيك".  كم رسالة شكر مماثلة استلمتم من تل ابيب عندما غزوتم العراق؟

هل هنالك عجب في أن العرب يؤمنون أن اسرائيل زُرعت في قلب أمتهم لتعيق أية محاولة لإقامة الوحدة العربية ولإحداث أي تطور حضاري حقيقي؟  ان العداء الانغلوسكسوني للوحدة العربية راسخ القدمين، فقد حاربت الامبراطورية محمد علي باشا في القرن التاسع عشر عندما وحد مصر مع بلاد الشام وحاول اقامة دولة حديثة.  أما في القرن العشرين فقد هاجمتم الرئيس جمال عبد الناصر مع وكيلتكم اسرائيل لاستهلاله في تحديث مصر وتوحيدها مع سوريا لتأسيس الجمهورية العربية المتحدة.

وما إن تأسست الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 حتى أنزلتم جنودكم في الأردن ولبنان لإحباط التطلعات المتحمسة للوحدة بين الجماهير العربية. وكانت الملكية التي أقمتموها في العراق قد أطيح بها؛ وكان من المؤمل للجمهورية العربية المتحدة التي تضم مصر وبلاد الشام والعراق بمواردها الهائلة الثقافية والانسانية والمعدنية والاقتصادية وموقعها الاستراتيجي أن تحتل موقعاً قوياً مع كونها دولة قومية كريمة لأنها مثلت تحدياً لمصالحكم الامبريالية؛ فأعددتم لتدميرها ووأدها في مهدها.  فأنتم تعدون الوحدة العربية والتقدم العربي "مخططاً شريراً" لا ينبغي السماح بانبعاثه.  ومع ذلك لا يزال حلم الوحدة العربية قائماً، فالوحدة العربية والمجتمع العربي النابض بالحياة سيمثلان منارة حقيقية للرقي.  وسيعم السلام من خلال احترام الذات، ويعم الرخاء من خلال العدالة الاجتماعية، وتسود الكرامة من خلال التآخي، وتعم السماحة من خلال التواضع، وستكون مدن الاسكندرية وبغداد والنجف والقاهرة ودمشق والقدس – وهي أهم المراكز التاريخية للحضارة والمعرفة في العالم –مدناً من مدنها.

وكما شهد نعوم تشومسكي(Noam Chomsky ) مؤخراً: "اعتادت الولايات المتحدة وبريطانيا بوجه عام على دعم الأصولية الاسلامية دعماً قوياً لإيقاف القومية العلمانية، وهذا هو همهما الحقيقي."  بعبارة أخرى، ان التهديد الاستراتيجي الحقيقي الذي تدركونه هو الوحدة العربية والتقدم.  ويتضح هذا كذلك في مساندتكم بعيدة المدى للأنظمة الرجعية المظلمة.

لا ينبع دعمكم لإسرائيل من حبكم لليهود بل من المصالح السياسية ومن مشاركتكم لها في رغبتها المحمومة في ارتكاب جرائم الحرب ضد العرب، فمعاداة السامية جزء لا يتجزأ من ثقافتكم.  فحتى تشرشل (Churchill) المشهور بمناصرته الصهيونية كتب يقول: "انهم (أي اليهود) يغرون الآخرين باضطهادهم... وكانوا مسؤولين جزئياً عن المعاداة التي يعانون منها"  وقال جون ادامز (John Adams) الرئيس الثاني للولايات المتحدة ما ان يهب اليهود الى فلسطين حتى "يتلاشى بعض من حدة شخصيتهم وغرابتها وربما يصبحون بمرور الوقت مسيحين موحدين ليبراليين."  ومن المعلوم ان الرئيس الامريكي هاري ترومان (Harry Truman) الذي اعترف بإسرائيل بعد دقائق من تكوينها لم يسمح لليهود ان يدخلوا منزله، اما نكسون (Nixon) فقد وصف اليهود بأنهم "شديدو العدائية وغلاظ وبغيضون."

وعلى العكس من ذلك لا تنبع معاداة العرب لإسرائيل من أية كراهية دفينة لليهود بل سببها سياساتها العدائية وقهرها للفلسطينيين. وفي الحقيقة كتب الاستاذ مارك كوهين (Mark Cohen)البروفسور في جامعة برنستون: "عاش اليهود بأمان تحت حكم العرب المسلمين في القرون الوسطى في العالم العربي الاسلامي أكثر من عيشهم تحت حكم المسيحيين."  ومن المُسَلم به ان الفترة التي عاش فيها اليهود في الاندلس (شبه جزيرة ايبيريا) تحت حكم العرب المسلمين كانت تسمى العصر الذهبي للثقافة اليهودية.  وعاش اليهود خلال عصرهم الذهبي بسلام وعوملوا باحترام وظهر منهم أدباء يهود وعلماء ورجال دولة بضمنهم موسى بن ميمون (Maimonides) ويهوذا بن شموئيل الحلفي (Yehuda Halevi) وابو اسحق اسماعيل بن النغريله  (Samuel Ibn Naghrela) وابو يوسف بن اسحق بن عزرا (Hasdai Ibn Shaprut).  ووثق الدكتور هاينرشغرايتز (Heinrich Graetz) المؤرخ اليهودي البارز العلاقات بين العرب واليهود في كتابه (تاريخ اليهود) (History of the Jews).

أصبحت قرطبة عاصمة الأندلس – حالها حال بغداد – احدى اعظم مدن العالم سياسياً وثقافياً واقتصادياً.  وبلغ عدد سكانها أكثر من 800,000 نسمة أي أكثر من ضعف عدد سكانها اليوم.  كتب انطوني نتنغ (Anthony Nutting) المؤلف والدبلوماسي البريطاني: "وصل عدد المساجد (في قرطبة) الى 700 مسجد وكان هنالك 300 حمام عام في حين كانت أعراق اوروبا لا تزال تعد الاستحمام عادة همجية.  وكانت الشوارع معبدة ومضاءة، وهذا تطور لم تتمتع به لندن وباريس الا بعد 700 سنة كان المواطنون خلالها يتلمسون طريقهم ليلاً في الظلام الدامس، وأرجلهم في غالب الامر مغمورة الى ركبهم في الوحل.  كانت هنالك 70 مكتبة وما مجموعه 400,000 مجلد صنعت في مكتبات الاسكندرية ودمشق وبغداد، في حين لم يوجد في العالم كله سوى 10,000 مجلد باللغة الانكليزية."  يبين هذا أن العرب كانوا رائدين حقيقيين للعولمة الثقافية.  ويدعي البعض ان العرب لم ينجحوا في نشر الاسلام الا بالسيف، وهذا اتهام مفبرك آخر.  فالاسلام– على سبيل المثال – هو دين 200 مليون شخص في جنوب شرق آسيا (اندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفلبين... الخ) ولم يدخل هذه الاراضي ولا جندي عربي واحد.

صرحتم بعد 11/9 قائلين: "دعونا نعيد ترتيب هذا العالم من حولنا" أي عالم وبأية قيم؟  هل هذه قيم الامبراطورية التي جلبت الموت والمآسي للملايين في أنحاء العالم؟  ان فظائعها وخطاياها امتدت من ايرلندا الى الصين مروراً بأفريقيا، والعالم العربي وايران وافغانستان والهند وماليزيا وتسمانيا... الخ.  كما تاجرت بالعبيد وروجت المخدرات.  وتظهر الافلام الغربية سكان امريكا الاصليين (الهنود الحمر) وهم يسلخون الرؤوس، وظهر جلياً بعد ذلك ان هذه الممارسة الوحشية جلبتها امبراطوريتكم الى امريكا.  خلاصة القول، ان الماضي يصوغ المستقبل وان ماضيكم بالكاد يجلب الطمأنينة. 

لقد صنف ونستون تشرشل (Winston Churchill) بطل امبراطوريتكم ورمزها الهندوس بأنهم "العرق القذر" وأضاف "أكره الهنود.  انهم شعب متوحش بدين وحشي."  وقد قال هذا على الرغم من أن الامبراطورية سيطرت على الهند لقرنين واستنزفت ثرواتها، بل وفرت الهند خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية ملايين المقاتلين توفي الآلاف منهم جنباً الى جنب جنودكم وهم يدافعون عن الامبراطورية.  وعندما غادرت الامبراطورية الهند في عام 1947، كتب بيرز بريندون (Piers Brendon) من جامعة كامبردج: "بدلاً من مغادرة الهند بشرف وكرامة ترك البريطانيون الهند وسط صخب القتل ورائحة الموت."  يبدو ان شعار الامبريالية الخالد هو: "اقهر وارهب واسرق وفرّق واحكم ولا تبالِ بالنتائج".

كتب الدكتور  سفين لندكفست (Sven Lindqvist) المؤلف والدبلوماسي السويدي أن هتلر في سعيه لتكوين امبراطوريته كان يحتذي بالامبراطورية البريطانية كمثله الأعلى. وذكر بيرتراند رسل (Bertrand Russell) "لقد ظلت الحياة الاجتماعية في بريطانيا خالية نسبياً من الأعمال المقيتة للقومية الألمانية لأن الامبراطورية كانت البالوعة التي تلقى فيها النفايات الأخلاقية البريطانية".

ذكر انطوني نيتنغ (Anthony Nutting) أن الصليبيين عندما احتلوا القدس "ذبحوا النساء والاطفال المسنين والشباب والجنود والمدنيين في مذبحة ليس لها مثيل في الوحشية."  ووصف ريموند (Raymond) القس الصليبي الاعمال الوحشية التي ارتكبت بأنها "منظر رائع". ولكن عندما حرر العرب بقيادة صلاح الدين الأيوبي القائد المسلم الكردي بمساعدة عيسى العوام العربي المسيحي القدس بعد 88 سنة، أعطى صلاح الدين أوامر صارمة لجنوده بأن يحموا حياة المسيحيين وممتلكاتهم، وأضاف نتنغ: "لم تنتهك حرمة أي مسيحي بسبب دينه".  فهل يوجد هكذا فعل كريم في تاريخ إمبراطورتيكم؛ أم ان هنالك "براميل من القذارة مقابل كل قطرة دم"؟

ليس تاريخكم المعاصر أفضل حالاً من تاريخ إمبراطورتيكم.  فأعضاء مجلس عمومكم ومجلس لورداتكم المحتفى بهم كانوا يتصرفون تصرف المحتالين ويزورون نفقاتكم.  هذه الفضيحة التي جعلت برلمانكم يوصف بأنه "فاسد عفن"، تبعت فضيحة "النقد مقابل التشريف" والتي بدورها تبعت فضيحة الفساد السياسي في الثمانينات والتسعينيات والتي تضمنت "النقد مقابل الاسئلة"، و "الظروف السمراء" وشهادات الزور والرشاوى.  أدت هذه الفضائح الى الوضع السياسي الذي جعل عدد المصوتين الذين صوتوا للحزب الفائز أقل من اولئك الذين لم يصوتوا أصلاً؛ وهذه نتيجة لا تكاد تثير الاستغراب عندما يرى الناس أن مشرعي القانون هم الذين يخرقونه.  فقد وجد ان شرطة عاصمتكم "عنصرية في مؤسستها"، وقطاعكم الاقتصادي النفيس ينهار بسبب الممارسات الخاطئة التي يقودها الطمع حتى اضطرت حكومتكم عام 2008 الى انقاذه بمبالغ طائلة من أموال دافعي الضرائب.  وقد اتهمت اكبر مصارفكم بتهمة غسل الأموال والممارسات الخاطئة والتزوير واضطرت لدفع ملايين الدولارات كغرامات.

غالبا ما تخفون الحقائق التي لا تتفق مع مؤسستكم.  وقد تآمرتم لتغطية الحقيقة وراء قتل شعبكم، وما مذبحة الاحد الدموي (Bogside) عام 1972 وكارثة هلزبورو (Hillsborough) عام 1989 الا مثالين على أعضاء مؤسستكم أي: الجيش والشرطة والاعلام والقضاة اللوردات... الخ الذين يتآمرون لقمع الحقيقة.  حتى ان الضحايا أصبحوا يلامون لوماً منفراً على التسبب في قتل أنفسهم.  ولم يتم الاقرار بالحقيقة البسيطة أخيراً الا بعد مرور 38 عاماً و24 عاماً على التعاقب والعديد من التحقيقات، وهي ان المؤسسات الحكومية هي التي تسببت بالوفيات والاصابات. ولولا  شجاعة أهالي الضحايا  وإصرارهم لدفنت الحقائق للابد. وقد علق أحدهم على ذلك بالقول "ليس لدينا نحن البريطانيون تحقيقات، بل تمويهات."  هل كانت مراجعات وتحقيقات بتلر (Butler) وهوتون (Hutton) وتشيلكوت (Chilcot) المتعلقة بالحرب على العراق أفضل حالاً؟

أما الاعلام وتأثيره المفسد وخصوصاً اعلام مؤسسة اخبار مردوخ (Murdoch’s News International) عن عمليات الفساد السياسي فيكفينا اقتباس قول كارل بيرنشتاين (Carl Bernstein) الصحفي البارز الذي كشف فضيحة نيكسون (ووترغيت)، حيث كتب: "ان قصة مردوخ(Murdoch)– وافساده المؤسسات الديمقراطية الرئيسة على جانبي المحيط الاطلسي – من القصص المهمة البعيدة المدى سياسياً وثقافياً خلال الثلاثين سنة الماضية، وقصته مستمرة من دون وجود ما يماثلها".  لقد دعا مردوخ والذي كان من أقوى المدافعين عن احتلال العراق شخصياً الى حثكم على شن الحرب كما أقر سكرتيركم الصحفي بذلك. وهذا مثال على ما بدت عليه تعاملاتكم المشبوهة والعليلة مع مردوخ ومؤسسة أخباره.

من الواضح ان قيمكم ليست صالحة بما يكفي لكي تتباهوا بها وتجعلوها أمثلة للأخرين ليحتذوا بها. الماضي والحاضر يقودان للمستقبل، ولكن لا ماضيكم ولا حاضركم يطمئنان.  إن تمكنكم من اقتياد امتكم من خلال الخداع الى حرب غير مشروعة من دون ادانتكم دليل على عدم كفاءة نظامكم السياسي.  لابد ان تكون للديمقراطية ضوابط وموازنات تبدو غائبة من بنيتكم السياسية.  يجادل ستيفن كيتل (Steven Kettell) الاستاذ المشارك في جامعة وورويك "ان تشريع الرغبة العامة لن ولم يكن غاية السياسة البريطانية. على النقيض من ذلك يمثل النظام الديمقراطي البريطاني في الكثير من الحالات النقيض التام لهذه الأهداف. فهذا النظام الذي أسس على أساس مبادئ راسخة وعميقة وصعبة المراس من المركزية والتسلسل الهرمي والنخبوية يتميز بالالتزام الراسخ الجذور بنموذج حكومة يتصف بوجود موظف تنفيذي قوي حر اليدين على حساب الشكل الاكثر استجابة ومساهمة من أشكال صنع القرار".

اقترح ان تناقشوا أسس الديمقراطية مع نورسلطان نازاربييف (Nursultan Nazarbayev) عندما تذهبون في العطلة القادمة الى كازاخستان كما يبدو فعلتم ذلك مع حسني مبارك عندما قضيتم عطلة رأس السنة في فللته الخاصة في شرم الشيخ عام 2001.  لا شك ان مشاركتكم وجهات النظر مع قادة الدولة المعروفين بسعيهم الحثيث لتطبيق الديمقراطية هو مثمر بطرق.

بريطانيا تستحق أفضل من ذلك.  هذا بلد انتج وثيقتا الماغنا كارتا (Magna Carta) والأمر بالمثول أمام المحكمة (Habeas Corpus)، والمناديات بحق المرأة في التصويت، وحركة المسوين السياسية (Levellers)، و118 من الحائزين على جائزة نوبل، وتوماس مور (Thomas More)، والعالم اسحق نيوتن (Isaac Newton)، والمعالجة النفسية هيلين بامبر (Helen Bamber)، والممرضة فلورنس نايتنغيل (Florence Nightingale)، والسياسي انطوني بين(Anthony Benn)، والكاتبين هارولد بنتر (Harold Pinter) وروبرت فيسك (Robert Fisk)، ولاعب كرة القدم بوبي تشارلتون (Bobby Charlton)، ومليوني متظاهر ضد الحرب على العراق وملايين من الشرفاء الآخرين الذين يستحقون التمتع بحكم يليق بهم.

كانت الخسائر المادية بسبب الاحتلال هائلة.  وقد قدرت الكلفة المادية التي تكبدتها الولايات المتحدة بميلغ مذهل بلغ 3,000 مليار دولار امريكي (3 تريليون دولار).  وحوالي 40,000 جندي مقاتل اما قتلوا أو أصيبوا.  وكانت خسارتكم المعنوية أكبر بكثير، فقد كان تبديد بلايين الدولارات على حرب غير مشروعة فاحشاً وفق أي معيار عندما يعيش حوالي 50 مليون في الولايات المتحدة و15 مليون في المملكة المتحدة تحت خط الفقر و27% من الأطفال في المملكة المتحدة و20% من أطفال الولايات المتحدة يعيشون في فقر وعوز. إن الثمن الذي دفعه العراق مقابل البؤس الذي جلبتموه لهم لا يقاس؛ عدا عن إنهم فقدوا بلداً قابلاً للحياة في الوقت الراهن.

خلاصة القول، كانت الحرب كارثية للانغلوسكسونيين، ونكبة على العراق ونصراً لإسرائيل.  نصب لكل من تشرشل وبومبر هاريس (Bomber Harris) تمثال في لندن، وإنْ كان سحق العراقيين هو المؤهل لنصب تمثال فإن تمثالكم هو الأكبر إن لم يكن في لندن فمن المؤكد في تل ابيب.

حلمت مؤخراً بقراءة كتاب عنوانه (تاريخ بغداد 762-2062) سيتم نشره في المستقبل، تقول مقدمته "هذه قصة بغداد إحدى أعظم عواصم العالم اليوم.  فتاريخها يجسد اسطورة طائر العنقاء، الطير الذي ينبعث من الرماد.  تعاقب على احتلال بغداد ثلاثة أمواج من البرابرة الوحوش وتلاقفوها في حفلة لهو منغمس في الدمار عام 1258 بقيادة هولاكو وعام 1393 بقيادة تيمورلنك وعام 2003 بقيادة بوش وبلير، ومع ذلك عادت ممشوقة الطول بعد كل كارثة والفضل يعود إلى الروح الشجاعة التي لا تكل ولا تمل لدى ابنائها وبناتها".  إن الأحلام الجيدة غالباً ما تتحقق.

RAMIZ NADHMI