يقدم الباحث الأردني هنا مسحا سريعا لاتجاهات النقد الغربي المعاصر على مد مسيرة تتجاوز القرن. يذكر فيها الكثير من العلامات المهمة في تلك المسيرة النقدية، والتي يتسم التعامل العربي معها بالكثير من الإشكاليات الناجمة عن غياب الوعي بالخلفيات الفلسفية والفكرية التي انطلقت منها تلك الاتجاهات.

اتجاهات النقد الغربي المعاصر

رامي أبوشهاب

لا ريب أن من أهم مرجعيات النقد العربي وأكثرها تأثيراً النقد الغربي الذي عاين بدوره مخاض وجوده وتحولاته، وضمن صدى هذه التحولات وانعكاساتها، تشكل النقد العربي متأثرا، نتيجة عدد من الظروف، تتمثل في الواقع الفكري، والسياسي، والاجتماعي للمنظومة الفكرية العربية ممثلة بأقاليمها المختلفة التي خضعت في معظمها للحكم العثماني الذي انحسر وتلاشى نفوذه عن كامل الفضاء العربي في مطلع القرن العشرين. وإذا ما أردنا أن نضع تصوراً لاتجاهات النقد في الغرب، فإننا نواجه عدداً من التيارات المتداخلة، والناشئة بفضل المؤثرات الفكرية والفلسفية والاجتماعية، وتحولاتها خاصة في أوروبا. في كتاب "رينيه ويليك " "مفاهيم نقدية"، محاولة لرسم خارطة النقد الغربي ابتداءً من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وفيه يبتعد رينيه ويليك مُعمّقاً في القرن الأكثر ثراءً وأهمية، ونعني به القرن العشرين، إذ يعدّه "عصر النقد " في أوروبا، وذلك لغزارة الطّرح ووعيه بالذات.(1)

إن مسار التيار النقدي المتمركز في الجغرافيا مثير للبحث والاهتمام، حيث إن انفتاح التيار- على سبيل المثال- في أمريكا وإنكلترا على مرجعية واحدة مبرر ومقبول، ويمكن أن يفهم بسهولة انطلاقا من الثقافة المشتركة المشكلة لهاتين الكتلتين الجغرافيتين، فكلاهما تدينان بمنشأ أنكلوسكسوني، في حين نجد تواجدا للتيار الماركسي في رقع جغرافية متعددة، ذات خلفيّات فكرية وحضارية مختلفة، ومن شأنها خلق تحولات في المنظور والنهج المصاحب للتيار الماركسي، كما هي البنيوية مثلاً، فهي عبارة عن مجموعة من المذاهب شديدة التنوع، فكما نعلم أن البنيوية مارست حضورها في عدد من الدول الأوروبية، وقد تم الاستفادة منها تبعا لتفسيرات ووسائل مختلفة، مما أوجد عدداً من البنيويات، فلا عجب أن نرى بنيوية لغوية، وأدبية، وأنثروبولوجية، ونفسية، أو حتى واقعية ماركسية، كما هي الوجودية التي ظهرت في شعبتين: وجودية فرنسية، و وجودية ألمانيّة.(2)

 وهكذا، نخرج بنتيجة مفادها أن النقد في القرن العشرين، قد شهد حضوراً لافتاً للتيار الماركسي  Marxist criticism،(3) إذ كان معنياً بإقامة العلاقات بين المجتمع والعمل الأدبي، والذي بدوره يعكس الأول، ويعبر عنه، ويعمل على تغييره،(4) فالنقد الماركسي يولي أهمية عظمى لدراسة المكونات الاجتماعية للعمل الأدبي، وخير دليل تطرفية الاتجاه، لاسيما في فرعه المركزي ممثلاً بالماركسية القسرية في روسيا، ونقصد بها الواقعية الاشتراكية 1932م التي انتشرت فيما بعد خارج حدود روسيا بانحرافات واجتهادات متباينة، لتصل إلى الولايات المتحدة وإنجلترا، و لتتوج بأبرز ممثليها، وأكثرهم شهرة لوكاتش الهنغاري الماركسي،(5) بالإضافة إلى لوسيان جولدمان، وميخائيل باختين.(6)

 مما لا شك فيه أن النقد المتأثر بهيمنة الأيديولوجيا كان قوياً بما يكفي لينتج أشكالاً واتجاهات لا تتوقف عند التيار الماركسي، فالنقد النفسي Psychological Criticism قد تمكن من كسب موضعه في الخارطة النقدية، إذ عني بالكشف عن المعاني النفسية الكامنة في العمل الأدبي انطلاقاً من فرضيات مختلفة عن النقد الماركسي، ونموذجه الأبرز فرويد الذي لم ينشغل بالنص بمقدار ما انشغل بالحالة السريرية التي تحتاج إلى تدعيم، وقد وجد ذلك سانحاً في النص الأدبي، إذ عده أداة تحليلية قادرة على تحقيق نتائج علمية رغبة في تجاوز ما فوق السطح إلى ما تحته، كما فعل لاحقا تلامذته الذين طبقوا مناهجه.(7) وتبعاً للاجتهاد والحراك الذي تميز به فقد انبثق من هذا التيار اتجاهان، هما النقد النفسي للمؤلف، والنقد النفسي للنص.(8)

ومن الاتجاهات النقدية التي ميزت هذا القرن- أي العشرين- النقد اللغوي الشامل لعدة تفرعات واتجاهات متباينة يقوم معظمها على أساس محوري، يتلخص بأن النص تشكيل لغوي في المقام الأول، إلا أن وسائل البحث في الكيان اللغوي شهد اختلافات واجتهادات كثيرة، انبثق أغلبها من كيانات جغرافية متنوعة، هذا التيار انطلق من روسيا مُمثلاً بحركة الشكلانية الروسية (Russian formalism)  التي عُنيت بالتركيز على دراسة اللغة الشعرية، فضلاً عن الاستعانة بالأسلوب الإحصائي، والتركيز على أصغر وحدة صرفية الفونيم phoneme ،(9) في حين ظهر الاتجاه اللغوي في ألمانيا تحت مسمى الأسلوبية، كما لدى هربرت ريد، وشبتزر، و إرك آورباخ،(10) وكان قد اتسم بمظهر مغاير في العالم الأنجلوسكسوني الناطق باللغة الإنكليزية، إذ اتجه نحو علم الدلالة (Semantics) والتركيز على اللغة العاطفية،(11) وتمثله مدرسة النقد الجديد (New Criticism) التي تعد في خيارات النقد اللغوي، ومن أشهر أعلامها وليم إمبسون وعمله "سبعة أنماط من الغموض" في بريطانيا، بالإضافة، إلى أ. أ رتشاردز.(12) ولعل ما يميز النقد اللغوي كونه يدين للغويات بمنهجيته القائمة على دراسة كل من: نظام الكلمات واختيار المفردات وأنماط كل من الصّوت والإيقاع، والتعقيد وخصائص المعنى.(13)

فهذا النقد ليس نقد اللغة في العمل الأدبي، إنما هو نقد يهدف إلى توظيف اللغويات في العملية النقدية ،(14) وقد شهد تحولا عميقا وعنيفا ونضجا ثوريا في فرنسا لاسيما لدى بول فاليري في مراحله المبكرة ،(15) متطورا إلى ما بات يعرف بالبنيوية (Structuralism) وما تمخض عنها من اتجاهات كالسيمائية ( (Semiotics والتفكيكية  (Deconstruction) ومن أشهر أعلامها رولان بارت، و تيزفيتان تودرورف، وجاك دريدا.

وفي سياق تتبع تيارات النقد في القرن العشرين نواجه التيار الأسطوري، أو أنثروبولوجيا الخيال،(16) وقد نشأ هذا الاتجاه في أحضان الأنثروبولوجيا الثقافية، وانصبت معظم ممارساته على دراسة اللاوعي الذي يعدّ خزاناً للأنماط العليا والصور التي انطبعت في ذهن الإنسان، وهو منشغل بعملية إماطة اللثام والكشف عن الأساطير الأصلية الإنسانية خلف الأدب،(17) ومورس هذا النقد في كل من إنكلترا وأمريكا، ومن أعلامه "نورثرب فراي" وكتابه  " تشريح النقد"، الذي مزج فيه بين النقد الأسطوري وبعض أفكار النقد الجديد.(18)

واستكمالاً لتيارات النقد في أوروبا نصل إلى تيار النقد الوجودي (Existentialism) الذي هيمن في فرنسا وألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية،(19) وقد وجد هذا الاتجاه متأثراً بأفكار الفيلسوف مارتن هيدغر،(20) إذ أعادت الوجودية النقد الأدبي إلى النص وموضوع الأدب، وعملت على تحييد علم النفس، والسيرة، وعلم الاجتماع، والتاريخ الفكري كما يرى الوجوديون.(21) ومن أهم القضايا التي طرحتها الوجودية قضية الالتزام في الأدب، إذ اعتبرت ركيزة أساسية قدم لها جان بول سارتر في كتابه "ما الأدب ؟"، فالالتزام هو منهج على الكاتب أن ينتهجه محققاً دوراً فاعلاً ومؤثراً على الآخرين، وهذا طبعا من منظور وجودية سارتر.(22)

وهكذا نستطيع أن نطمئن إلى أن نهاية الستينيات، بدت أكثر استقراراً ووضوحاً للمشهد النقدي في العالم، حيث أسفرت عن صورة  تبدو أكثر استقرارا وثراء لاسيما في فرنسا، التي مثلت الساحة الأكثر نماءً للتيارات النقدية في القرن العشرين، ففي نهاية الستينيات نرى أن الوجودية مذهباً ومنهجاً، قد بدأت تفقد بريقها، في حين بقي النقد الماركسي محافظاً على مركزه ونبضه المستقر، بينما بدت البنيوية أكثر استقراراً ونضوجاً وثباتاً وحتى امتلاء، بل غدت بديلاً فلسفياً مقبولاً لدى المثقفين، لاسيما في ظل تنامي حضور كل من رولان بارت، وليفي شتراوس، وجاك لاكان، وميشيل فوكو، وجاك دريدا،(23) إذ استفاد هذا المجموع من الدارسين من أفكار عالم اللغويات السويسري فرديناند سوسير في الرمز(sign)  اللغوي القائم على فكرة الدال والمدلول،(24) وهو ما خلق لديهم مشتركاً، يتمثل بأولوية البنيوي على التاريخي، وأسبقية اللغة على الواقع.(25)

وهكذا نتوصل إلى أن البنيوية بدت ذات سطوة أسهمت في ولادة عدد من الاتجاهات والتفرعات التي تدين لها، وتعرف بما بعد البنيوية Post Structuralism منها السيميائية، والبنيوية الجديدة، والأركيولوجيا، والجينالوجيا، والفلاسفة الجدد.(26) ومن الاتجاهات التي تعدّ ذات أثر بالغ في المشهد النقدي المعاصر الاتجاه التفكيكي أو التقويضي، بالإضافة إلى نظريات التلقي، والأخيرة قدم لها هانس ياوس، ودعا فيها إلى تخلي النقد عن ثنائية (النص-الكاتب) لصالح (النص-القارئ).(27) إلا أنه ينبغي لنا أن نتريث قليلاً لبحث حيثيات ما بعد البنيوية التي ارتبطت بالنظرية الأدبية والنقدية بتعالق واضح مع البنيوية، ذات النزعة اللغوية، لتتحول الأولى إلى اتجاه غير محدد الملامح، لاسيما عند ربطها بأعمال كل من دريدا، و ميشيل فوكو، ورولان بارت، وجاك لاكان وبجهود الحركة النسوية ،(28) مما أسهم في خلق مشكلة تتعلق بتحديد ماهيتها تبعاً لانفتاح الاجتهادات التي تحيط بمفردة (ما) وما تحيل إليه، وفي اعتقادي أن وظيفة (ما) تحيل إلى كل شيء، أي إلى المجهول، و إلى الانفلات من ضوابط ما سبق "ما"، وهذا ما يجعل هذا الاتجاه قابلاً لتفسيرات متعددة ومتقبلا لروافد كثيرة نتيجة الانفتاح في ماهية (ما) التي تسبق لفظة البنيوية.

ومن أبرز منتجات ما بعد البنيوية أعمال ميشيل فوكو، الذي أحدث تحولاً عميقاً في الخطاب النقدي، خاصة فيما يتعلق بتحديد مفهوم الخطاب، وقراءة النصوص، ومن الذين طوروا خطاب فوكو في اتجاه آخر إدوارد سعيد (الناقد الفلسطيني- الأميركي) مؤسس خطاب ما بعد الكولونيالية وذللك بمشاركة طائفة من نقاد المستعمرات السابقة منهم: هومي بابا، وجاياتري سبيفاك وبيل أشكروفت، وعارف ديرليك.

يعدّ النقد مجالاً ديناميكياً في سياق الحضور، فمن خلال التتبع الأفقي نلاحظ أنه يتسع دوماً لحالة التجاور التي تتيح حضور عدة اتجاهات نقدية فاعلة في الوقت ذاته، وهو كذلك يمارس نوعاً من القبولية التامة لفعل الإزاحة والإقصاء المتولد طبعا من ردة الفعل، فعندما يشتد التعمق صوب رؤية تحكم الممارسة النقدية، تنتج ردة فعل في محاولة كبح جماح هذه الممارسة، فالبنيوية مثلا جاءت لتنهي كل ما هو خارج النص لتحيل العملية برمتها إلى النص ذاته وزاده اللغة، ونظامها الداخلي. فالنقد غير منجز، وهنا تكمن حيويته وجاذبيته، فالنقد حاجة تتولد من قوى متعددة عملت على تكوينه، وهذه القوى ربما تكون حاجة إنسانية، أو نظرية فلسفية، أو حدث تاريخي، أو فرضية علمية، أو حتى مخترع علمي، أو غير ذلك.

وفي حاضرنا الآن نواجه دراسات نقدية تتولد تبعا للظروف والمحيط، فالآن تتواجد تيارات كثيرة يقدم لها "جوليان ولفريز" في كتابه "مدخل إلى النقد في القرن الواحد والعشرين" Introducing Criticism At the 21st Century)،(29) وفيه يذكر تيارات متعددة منها: النقد النسوي المختص بالمرأة، ونقد آخر يتكئ على نظرية الجنس، أو التّحول الجنسي، وهنالك نقد الشتات، ونقد المجموعات البشرية المتنقلة، أو المهاجرة، ولدينا النقد الأخلاقي، أو نظرية الفوضى،  والصدمة،  في حين أن هنالك دراسات تختص بالفضاء، أو المكان، وحتى أثر الطبيعة (Ecology)، وأثر التكنولوجيا على الإنسان،(30) كل ما سبق يمكن أن يكون حاضراً في الأعمال الأدبية نتيجة التحولات المنبثقة بفعل عوامل بيئية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو فكرية.

أظن أن هذه التيارات المعاصرة تبدو أكثر قرباً إلى الموضوعات والقضايا التي تتطلب شكلاً أو منهجاً نقدياً يرتضيه السّياق الذي نشأت من خلاله، وللوهلة الأولى تبدو هذه الاتجاهات بعيدة عن مدارات العمل الأدبي، ولكنها في الحقيقة تعمل على قراءة هذه الأنساق المُستحدثة من خلال عدد من الأعمال الأدبية، هذه الأنساق هي بحد ذاتها قضايا قابلة للقراءة والنقد، وهذا في ظني قريب الصلة بمفهوم الدراسات الثقافية، فموضوعات البيئة أو الفضاء المكاني نماذج واضحة للبحث في علاقة الإنسان مع الأرض، ومديونية الثقافة البشرية لها، فالطبيعة تحدد الهوية وإدراكها، فالمكان يحقق التمثل الحقيقي للهوية الثقافية، في حين أن الآخرين يشاركون في إنتاج الهوية عبر الاختلاف.(31) هذه المشاركة في الفضاء المكاني والزمان تسهم في تعميق إدراك مفهوم الهوية والتاريخ كما يرى مؤلف الكتاب، وكلاهما يمكن أن يتعرض إلى حالة من الصدمة نتيجة عوامل خارجية، فالتاريخ هنا يصبح بمثابة خطاب سردي متعالق بالصدمة وآثارها وانعكاساتها، والتي من شأنها أن تحدث نوعا من ردة الفعل العنيفة، فالأدب شاهد على الفعل العميق والعنيف لعوامل تنشأ عن الطبيعة أو الإنسان الذي يعد متورطاً وشاهداً على الحدث، ومن هنا تبدو الدعوة إلى الحوار ملحة وضرورية ومبررة مع علماء النفس والفلاسفة،(32) والعلة من ذلك فك الاشتباك القائم بين الهويات المتصارعة في المكان والزمن.

النقد المعاصر أقرب ما يكون إلى المخاض لاسيما في ظل التحولات التي يختبرها الإنسان، وهنا أحيل ما طرأ على الحضارة الغربية من تحولات جراء بعض الصدمات العنيفة التي واجهته، ومنها على سبيل المثال الأحداث الإرهابية التي وقعت في المركز الغربي(33)، مما عمق لديهم تساؤلات حول الدواعي والأسباب التي أفرزت هذه الهجمات التي تتمثل بطابع ثقافي قائم على الهوية والذات نتيجة الاختلاف والماضي، وهكذا أدرك الغرب أن ما حصل جاء نتيجة العنف الذي مارسوه على الآخرين كونهم كانوا فاعلين، والآن باتوا تحت الفعل، فهويتهم ووجودهم مستهدف ومرفوض من الآخر، كل ما سبق دفعهم إلى البحث عن مكامن هذا الفعل السلبي، ومرده- طبعا-  الهوية الغربية وممارساتها، وهكذا زاد اهتمام الغربيين بدراسة الآخر خاصة عقب أحداث 11 أيلول في محاولة لمعرفة دوافعه عبر استراتيجيات جديدة.

ويمكن أن نضيف إلى النقد المتولد من جراء الصدمة، ما ينتج عن الطبيعة من كوارث بيئية وأثرها على الإنسان، ولهذا بدا النقد معنيّاً بربط هذه الأحداث بالعمل الأدبي، ليكون وسطاً تعبيرياً مفضلاً لمناقشة الطوارئ والهزات العنيفة وما تحدثه من شرخ عميق في تكوين الإنسان الغربي حيث أصبح غير مطمئن إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور عندما تغضب الطبيعة، أو عند التعرض لهجوم أو كارثة ما. ومن الاتجاهات التي نقع عليها في خارطة النقد في القرن الواحد والعشرين نقد جماعات الشتات Diaspora،(34) فالإنسان ليس بمنأى عن التعرض لحدث أو عامل يدفع هذا الفرد أو المجموعة إلى التحرك خارج الجغرافيا بفعل عوامل جغرافية أو سياسية قهرية، تتمثل بالحروب أو الاستيطان(35) أو حتى الكوارث الطبيعية، وربما يكون الشتات تبعاً لتنقلات رأس المال كما نشهد في عصرنا من هجرات كبيرة لمواطني الدول النامية إلى الدول الغربية أو الأكثر ثراء. هذا الحراك البشري يعمل على تفعيله منتجا إنسانيا إبداعيا يستدعي إشكاليات ثقافية عميقة، وهذا بدوره يستدعي حراكاً نقدياً وأدبياً يهدف إلى دراسة حيثيات هذا الشتات ومشاكله وقضاياه المتعددة. ومن العوامل المؤثرة في تكوين المشهد النقدي المعاصر وحتى المستقبلي، استخدام التكنولوجيا، والتقنية الرقمية، لاسيما في تحليل النصوص الأدبية، وأثرها على أساليب النقد الأدبي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح النقد التفاعليCyber Criticism .(36)

مما سبق نلاحظ أن النقد بدا أكثر انفتاحاً على كل منتج بشري إبداعي، وهو ما يمكن أن نشير إليه بالنقد الثقافي الذي بدأ تحديدا في العالم الناطق باللغة الإنجليزية سنة 1950، وهو مصطلح فضفاض، كونه يعنى بتحقيق دراسة شاملة لقائمة كبيرة من المنتجات الحضارية. فالنقد الثقافي عبارة عن دراسات ثقافية تشكلت بداية خارج الأسوار الأكاديمية، وقامت على رفض الاتجاه المحافظ ذي النزعة المهيمنة، وبناء على ذلك فقد اتجه لدراسة وسائل التعبير غير التقليدية: كالنصوص الأدبية، والقصص، والصحف، والمجلات الشعبية، والراديو والتلفزيون والموضة، والعمارة، والموسيقى، والإعلانات، وغيرها، وهو كذلك يستعير الكثير من آلياته النقدية والبحثية من علوم مستقرة ومنجزة منها: علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، واللغويات وغيرها، ولعل رولان بارت، وميشيل فوكو، ولويس ألتوسير يعدّون من أبرز أعلام هذا الاتجاه، ومن أوائل المنشغلين به.(37)

ومن هنا، فإن تيارات النقد في القرن العشرين تتخذ في حراكها طابعاً قائماً على ردة الفعل، فالنقد في أغلب الأحيان يأتي نتيجة تحولات تاريخية، أو تابعا لنظرية فكرية أو فلسفة، فهنالك نوع من الإقصاء يمارسه تيار نقدي ما تجاه اتجاه آخر، فالتيار الماركسي أو الواقعية جاءتا للحد من النزعة الرومانسية، والاتجاهات المنبثقة عنها، كونها أخلت بنفعية النص، إذ تحول إلى كيان منعزل ومتحوصل في الذات، وجمالية لا تحقق نفعاً يرتجى لإنسان يعاني. وهكذا فإن فالنقد الغربي كان أكثر قرباً من المشكلة، وأكثر وعياً بالذات، فالنقد حاجة يفرضها الظرف الراهن، فالاستفادة من علم ناشئ أحدث تحولاً في النقد، ونموذجه سانت بيف( 184- 1896) و تين في القرن التاسع عشر، إذ تم الاستفادة من العلوم الطبيعية، وأثر البيئة، وحتى نظرية دارون في التطور والنشوء والارتقاء البشري،(38) فالنقد يستفيد من الطارئ، ولذلك تبرز محاولات النقاد لتوظيف هذه المجموعات والروافد المؤثرة في العمل النقدي، ومن الأمثلة على ذلك، بروز النقد الماركسي لعاملين هما: ظهور هذه الفلسفة التي كانت تهدف إلى تحقيق توازن الاختلال في الواقع الاجتماعي للإنسان، وللرد على الاتجاه الجمالي الذي حصر النقد والأدب في جمالية، تعزله عن حقيقة منفعته ودوره في التغيير. ومن نماذج ردة الفعل ما طرأ بعد الحربيين العالميتين من نقد وجودي ملتزم، فرضه واقع الحرب المرير، وبروز النازية والفاشية.

مما لاشك فيه أن اللحظة التي فيها أوجد "سوسير" الفرق بين الكلام واللغة، قد دفع النقد إلى مغامرته الأكثر خطورة، إذ راهن على الكيان اللغوي للنص،  والهدف طبعاً تحقيق منهجية علمية صارمة، تسعى إلى المحافظة على حقيقة الأدب وكينونته اللغوية، ومع ذلك بقي النقد في مخاضه الذي لن ينتهي، فهو عبارة عن اتجاهات متجاورة معنية بالكشف عن تضافر النص في لحظة تاريخية ما، أو اشتباكه مع واقعه الاجتماعي، أو ما ورائه من أبعاد نفسية انتهاء إلى البحث عن خطاب المستعمر والنقد النسوي، وحتى البحث في التحولات الجنسية، وعلاقتها بالنص، وما زال الأمر قابلاً لكثير من المنطلقات والمؤثرات، مما يعني قابلية التولد والتجدد لكثير من النظريات.

 

هوامش:
(1)  انظر: رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت، فبراير،1987، الكويت، ص 389.

(2)  انظر: المرجع نفسه، ص 383.

(3)  المرجع نفسه، ص 391.

(4)  انظر : جان إيف تادييه، النقد الأدبي في القرن العشرين، ترجمة منذر عياشي، ط1،مركز الإنماء الحضاري، 1994، ص 115.

(5)  رينيه ويليك، مرجع سابق، ص 392.

(6)   جان إيف تادييه، مرجع السابق، الفصل الخاص بعلم اجتماع الأدب، ص 115 وما بعدها.

(7)  تم تطبيق آراء فرويد ومناهجه لاسيما عند تحليل عقدة أوديب والنرجسية، انظر رينيه ويليك، مرجع سابق، ص 393.

(8)  المرجع نفسه، ص 113، 108.

(9)  رينيه ويليك، مرجع سابق، ص 394.

(10) ، المرجع السابق، ص 395.

(11)  المرجع نفسه، ص 398.

(12)   Roger Fowler Linguistic Criticism, second edition ,Oxford university press, 1996, New York, p 1

(13)    Roger Fowler, p 1

(14)    انظر: المرجع السابق، ص 1.

(15)  انظر : رينيه ويليك، مرجع سابق،  ص 401.

(16)  جان تادييه، مرجع سابق، ص 79.

(17)  رينيه ويليك، مرجع سابق، ص 404.

(18)  المرجع نفسه، ص 404.

(19)   نفسه، ص 404.

(20)  نفسه، 405.

(21)  نفسه، ص 405.

(22)  انظر : جان بول سارتر ما الأدب؟، ترجمة محمد غنيمي هلال، نهضة مصر للنشر، القاهرة، انظر ص 74.

(23)  جون ستروك البنيوية وما بعدها، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة 206، الكويت، فبراير 2006، ص 8.

(24)  للتعرف على مؤثرات البنيوية والقواسم المشتركة بين هؤلاء الدارسين  جون ستروك، المرجع السابق، ص 13 وما بعدها.

(25)  انظر: الزواوي بغورة، البنيوية منهج أم محتوى، عالم الفكر، ع 4، الكويت، إبريل 2002، ص 42. 

(26)  الزواوي بغورة،  مصدر سابق، ص 42.

(27)  فيرناند هالين و آخرون،  بحوث في القراءة والتلقي، تر محمد خير البقاعي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1998، ص  33.

(28) See: Roger Fowler, the Routledge Dictionary of Literary Terms, Taylor & Francis e-Library, New York, 2006, P 187.

(29)  Julian Wolfreys, Introducing criticism at the 21st century, Edinburgh University press, Britain, 200.

(30)  انظر: مقدمة المرجع السابق. 

(31)  انظر: المرجع السابق، ص 6.

(32)  انظر: المرجع نفسه، ص 6.

(33)* إشارة إلى هجوم 11 أيلول سبتمبر 2002 على مركز التجارة العالمي، وغيرها من الهجمات التي تعرض لها الغرب، وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وهذا طبعا بناء على تحليل وسائل الإعلام الغربي.

(34)  Julian Wolfreys, p4.

(35) لعل واقع الشعب الفلسطيني نموذج واضح للهجرات بسبب الواقع الاستيطاني الإحلالي، وهو نموذج يتفوق على النموذج المفضل للثقافة الغربية وأعني الشتات اليهودي. 

(36)  المرجع السابق، ص 202.

(37)  See: Roger Fowler The Routledge Dictionary of Literary Terms, p 42-43.

(38)  للتعرف على أثر العلوم المستحدثة على النقد انظر:  يوسف خليف، مناهج البحث الأدبي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 35-36.