بنية تجريبة مبتكرة ولغة سرد صافية تنضح خبرة تخوض بموضوعة الكبت؛ وتلخص عبره محنة الإنسان في المجتمعات المتمسكة ظاهريا بالقيم الشكلية الصارمة، والمتهتكة باطناً. هذه تيمة رواية الكاتب العراقي الطويلة التي تهبط بالقارئ إلى مناح من العذاب الإنساني والقهر والجوع الجنسي في امتزاجه بتراجيديا التاريخ العراقي.

الضلع (رواية)

حميد العقابي

"علي.. يا علي.. يا علي.. قولي علي.. قولي علي.. علي.. علي.. خرجَ رأسُه.. علي.. اضغطي.. علي.. شدّي.. قولي علي.. يا علي.. يا داحي باب خيبر.. قولي علي.. علي.. اضغطي.. بعد.. بعد.. علي.. علي ي ي ي ي ي ي ي ي ي.. خرجَ جسده.. وَلَد.. وَلَد.. وَلَد.. زغاريدُ طويلة وبكاءُ وليدٍ يملأ الفضاء. خرجَ الطفلُ من رحمِ الأرضِ.. خرج الطفلُ عاشور أو حميد أو جبر أو... مدفوعاً بقوةٍ مجهولةٍ.. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود.. حبا الطفلُ على يديهِ ورجليه.. تعَ تعَ تعَ تعَ تعَ.. نهضَ الطفلُ متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله.. سور سليمان ابن داوود.. خطا الطفلُ خطوته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي توّاتي.. تاتي توّاتي.. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولةٍ.. العيون ترقبه بحذرٍ.. تقيسُ خطوته.. تروزهُ.. سيكون طبيباً.. لا.. مهندساً.. ردتك ما ردتْ دنيا ولا مال.. الحسّاد كثر.. الأعداء كثر.. عدوك عليل وساكن الجول.. احذرْ من أصدقاء السوء.. احذرْ من أولاد الحرام.. احذرْ من نفسك الأمّارة بالسوء.. قلْ أعوذُ بربّ الناس.. احذرْ من الغجر سيسرقونكَ ويعلمونكَ الرحيل إلى مدنهم البعيدة.. لكنّ الطفلَ رحل إلى المدن البعيدة.. نعم.. رحلَ الطفل.. بلا غجرٍ ولا بوصلة.

خرجَ الطفلُ من بيتهِ مقلّداً الطيورَ.. هبطَ على الأرضِ.. سارَ في ظلامِ الغابةِ نحو بصيصِ الضوء.. سارَ الطفلُ.. عارفاً وجهته بغريزةِ السائرِ على مضمارٍ مرسومٍ سلفاً.. وصلَ الجسرَ الكبير.. تشبّثَ بسياجِ الجسرِ وأطلَّ على المياه الغارقةِ في الظلامِ.. من الماء خُلقَ كلّ شيء حي.. وإلى الماء يعود.. لتنتهي دائرة رحلتهِ.. من سجنِ الرحمِ إلى منفى اللاوجود.. هبطَ الطفلُ هبوطاً حرّاً نحو القرار.....

ماتَ عاشور.

ماتَ حميد.

ماتَ جبر.

والحكمة واحدةٌ:

جبرْ.. من كس أمّهِ للقبرْ

.................................

كانْ يا ما كانْ.. في قديمِ الزمانْ.. كانَ طفلٌ اسمه عاشور أو حميد أو جبر أو ....

كانْ.. يا ما كانْ

كانَ كائناً

ما كانْ. "

 

القسم الأول

(الصندوقُ الأسود)

النورس

في البدء لم أكنْ أعيرُ للأمرِ أيّ اهتمام، وحتى بعد أن تكررَ حسبته مصادفةً ليس إلا، فهل يُعقل أن يناصبني العداء طائرٌ له عالمه الخاص بعيداً عني؟ طائر وديع اختار البحرَ فضاءه واختاره الشعراءُ كي يكونَ أغنيتهم ومثالهم الناصع. وماذا وجدَ عندي كي يدخلَ معي لعبة الاستفزاز هذي؟ أنا الزاهد الذي طلّقَ العالمَ واختارَ عزلته بمحض إرادته، أنا الذي لم يعد يتذكرني عدو أو صديق منذ أكثر من خمس سنوات، وهذا ما جعل أمر النورس حادثةً خلخلتْ فضاء عزلتي وكسرتْ روتين الصمت، العزلة التي كنت أحسبها واهماً راحة بال أو اختياراً حرّاً، وها هو استفزاز بريء يكشف وهمي وادعائي.  

في البدء كان الأمرُ هروباً من المشاكل ونزواتِ الناس الغريبة أو بالأحرى من نزواتي وأخطائي وغضبي الذي لم يعد يطيقه الأصدقاء. تعبتُ من تقديم الاعتذار كلّ  صباحٍ عمّا بدرَ مني من إساءةٍ في الليلة السابقة، ونفد صبر أقرب أصدقائي وخاب سعيهم بإصلاحي، عندها بدأوا يتحججون بالمشاغل اليومية أو العائلية كي يتهربوا من مصاحبتي. لمستُ ذلك بوضوحٍ، لكني وكلما عاهدتُ نفسي على أن لا أخوضَ في أي نقاشٍ أو جدل وأقضي السهرة صامتاً مهما حاولوا أن يستدرجوني إلى الحديث، أجدني وبعد الكأس الثانية تمتدّ كفّ خبيثة تخرج من مكانٍ مظلم في أعماقي وتبقرُ بدبّوسِ شيطانها المتقنع بقناعِ ملاكٍ قُربةَ نفسي، نفسي الأمارة بالعدوان فتندلقُ أحقادي ونزقي، وتسيل الشتائم على لساني دونما وعي مني. أبدأ بالبعيد فيستلطفُ جلسائي حديثَ النميمةِ وهجاء الآخرين، وحينما لم يبق بعيد لم تنله شتائمي يأتي دور الأقربين. في البدء كانوا يمثلون دورَ المصغي المسامح الذي يغفر خطايا ثملٍ تجمعهم به في النهار صداقات حميمة حتى يبلغَ بي الشطط مداه الذي لا يحتمله حتى الصديق، عندها ينفضّون عني متذمرين من سلوكي الفظ ومزاجي المتقلب، لكن شتائمي تظل تودعهم، تلاحقهم حتى يتوارى آخر سمير، عندها أذهب أجر خطاي إلى عزلتي. في الصباح حينما أرى العتبَ

واللومَ في عيون أصدقائي وهم يرمقونني بنظرات يمتزجُ فيها الاستخفاف والشفقة وأجدني في دائرة يضطرني الخروج منها إلى الاعتذار، عندها أشعر وكأني أصغر من ذبابة، أندمُ وأتألمُ لندمي، أعتذر وأتألم لاعتذاري.

اقترحَ عليّ صديق ناصحاً بودّ أن أراجع طبيباً نفسياً فشعرتُ بإهانة كبيرة تلحق بي، حيث أن فكرةَ مراجعة الطبيب النفساني كانت تعني انهزامي أمام سوء ظنّ الأصدقاء بي، تعني اعترافاً صريحاً بأني مخطئ وهم على صواب، مذنبٌ وهم أبرياء. مراجعة الطبيب النفساني تعني هناك خللاً في قواي العقلية، أنا الذي ليس لي سوى رجاحة عقلي أفاخرُ بها، أنا الذي لم يخطرُ في ذهني أن أترك لأحد منهم ثغرة يدخل منها ليكتشف نقاط ضعفي. (أنا)، نعم أنا فاضحُ عيوب ومثالب الآخرين الذين كانوا يتحاشون سلاطةَ لساني بكشفِ العورات وأدقّ العيوب المستترة في سلوكهم ونفوسهم الوضيعة مهما ادعوا السوية والعفة، (أنا) الذي إذا نطقتُ صمتَ الجميع فضولاً لسماعِ تهكماتي أو خوفاً من الشرر الذي سيصيبهم من لظى شتائمي وكشف المستور الذي يخشونه حتى لو تظاهروا بالثقة وخلو سيرتهم مما يعيب فهم يعرفون جيداً (أنا الهدهد) كيف تلتقطُ عيناي الخبءَ تحت الأديمِ فتنقضّ عليه.

" ومَنْ هم؟ "

أولئك الأغبياء الذين يستجدون فتاتَ فكرةٍ يمضغونها ببلاهةٍ، ويلهثون وراء أنّةِ شهوةٍ يتخيلون سماعها فيتعرون أمام مرآتها، يخلعون بمحض إرادتهم كبرياءهم، إنسانيتهم، وعيهم ..الخ ويرمون على بساط حاوي الشهوة أعضاءهم. يستمنون أيامهم بكسلهم الروحي ويركعون تحت أقدام أية عاهرة ترميهم بنظرة استصغار وإشارة احتقار من سبّابة لعوب، فيركضون خلف ضحكة بلهاء أو يتقافزون مثل قرودٍ لقطف ثمرة فجةٍ في شجرة أعمارهم الهرمة.

" مَنْ هم؟ "

" الجحيم!؟ "

" لا، لا، إنهم أحط من أن يوصفوا بالجحيم. "

أسميتهم (غيضةَ التماسيح)، ووقفتُ على ربوةٍ أنظر إليهم فأراهم تارة أقزاماً، صغاراً يثيرون الشفقة وتارة أخرى أراهم تماسيحَ جائعة فاتحين أفواههم بأنيابها الحادة ودموعهم المخاتلة، وفي كلا الحالين أراني استعر كراهية لهم، فأبولُ عليهم وأضحك.

لكني ونزولاً لرغبة وإلحاح صديقي (كاهني) أقلعتُ عن السهر والإفراط في الشرب واكتفيتُ بلقاء عدد محدود من الأصدقاء، واقتصرَ حديثي في مجالات الأدب والثقافة، متحاشياً نقاطَ التوتر والحديث المتشنج في السياسة أو التعرض لسلوك الآخرين فعادتْ علاقاتي مع الأصدقاء إلى سابق عهدها، ولكن لم يدم الأمر سوى فترة قصيرة ثم عادتْ (حليمة) إلى عادتها المزمنة، وكانتْ هذه المرة في الصحو وأشد صلفاً وسلبية من السابق، وقبل أن أفقد آخر الأصدقاء، قررتُ أن أختار العزلة بقرارٍ لا رجعة فيه. تحججتُ بالمرض والانشغال بهموم شخصية. زارني بعض الأصدقاء مستفسرين عن صحتي، ولكن مع مرور الأيام لم يعد أمري يشغل أحداً سوى جاري الذي كنت أراه من نافذة المطبخ وحينما تلتقي نظراتنا يرفع يده بتحيةٍ متكلفة فأشعرُ كأن لسان حاله يقول " ها إنك لاتزال حياً ". أحياناً كنتُ أقطع عزلتي وأخرجُ للتنزه ليلاً في المقبرة القريبة من بيتي أو المشي على ساحل الميناء مخترقاً الغابة المظلمة التي تفصل بيتي عن البحر. يستهويني مشهد المشرد بغليونهِ المتقد ومعطفه البالي بياقته العالية وقبعته الصوفية التي تغطي أذنيّ، حاشراً في جيوب معطفي قناني (السنابس) الصغيرة وليمونة أو قطعة جبن. ترتعب لرؤيتي سيدة تسير في الغابة فتبتسم لي بشفقةٍ وخوف، حاثّةً كلبها الذي يتوقف عند جذع شجرة رافعاً ساقه، على الهروب من هذا الشبح السائر في نومه، مترنحاً في ظلام الغابة.

لكن مع مرور الوقت بدأتُ أتآلف مع عزلتي ونشأتْ لي لغةٌ سرية خاصة أتسامرُ بها مع وحدتي بطقوس لا أود الكشف عنها فهي أمور جدّ شخصية ولا تهم أحداً. فصلتُ شريط التلفون الذي لم يعدّ يرن وأبقيتُ الخط تحسباً لطارئ، فقد كان الموتُ المفاجئ فكرةً تستحوذ على تفكيري طوال اليوم، بل إن مشهدَ جثتي المتعفنة في الشقة كان يرعبني حتى أني كنتُ أترك باب شقتي مفتوحاً على الرغم من خوفي وحيطتي كي أوفّر على من يكتشف موتي عناء اقتحام الشقة، أما ساعي البريد الذي كنتُ أنتظره بشغفٍ في السنين الأولى من غربتي بل كنتُ أحسب منذ استيقاظي الدقائق لوصوله، متسمراً عند نافذةِ المطبخ المطلّة على بوابة البناية، لم يعد الآن صوت دراجته البخارية يعني لي شيئاً فوضعتُ على باب شقتي إعلاناً مهذباً يطلب من ساعي البريد أن لا يرمي لي ورقَ الإعلانات فما حاجتي لها، طالما أني لا أنوي شراء ملابس أو أثاث، وطعامي يقتصر على قطعةِ جبنٍ أو بيضةٍ مسلوقة. أتبضعُ مرة كلّ شهر حينما أذهبُ إلى دائرةِ البريد التي تقع على بعد بضعة أمتار من شقتي لدفع فواتير الإيجار والماء والكهرباء فأشعرُ بغربة شديدة من ضوء النهار وضوضاء الصبية ونزقِ المراهقين في الشارع. أمشي حذراً من طيش السيارات والاصطدام بالكتل البشرية التي أشعر كأنها تسدّ حيز الرصيف بأجسادها الضخمة، وأعود سريعاً إلى عزلتي الفاتنة.

طُرقَ البابُ ففرحتُ بالقادم بغفلةٍ من عزلتي وحينما فتحته، تشخصَ أمامي عجوز دنماركي بوجهٍ حليق وملابسَ أنيقةٍ، يحملُ حقيبةً سوداء صغيرة تدلتْ من كتفه ويحمل بيده مجلة على غلافها الملون قرأتُ الاسمَ (استيقظْ) وقد خُطّ بخط أنيق وبلغاتٍ مختلفة من بينها العربية. رحبتُ به بكلماتٍ حاولتُ انتقاءها بتهذيبٍ مبالغ فيه ربما لحاجةٍ في نفسي استيقظتْ فجأة ففرحَ بدعوتي بحذرٍ وكأنه كان يتوقع مني صدوداً أو إطباق البابِ بفظاظةٍ كما يفعل أغلب الدنماركيين. قدمتُ إليه كأسَ شاي فشكرني بتهذيبٍ وربما بتملق. ارتشفَ منها قليلاً ثم تركها على الطاولة وراح يتطلع بارتباكٍ وقلق (كأنه يريد اكتشاف أمرٍ ما) إلى الغرفة بجدرانها العارية وستائر نافذتيها المتسخة، إلى المكتبة التي اصطفتْ على رفوفها الكتبُ بإهمالٍ وفوضى وتراكمَ الغبار عليها، إلى أرضية الغرفة التي تناثرتْ عليها قطع الملابس والأوراق وبقع الشاي والبيرة وسوائل أخرى. ارتسمتْ على وجههِ علاماتُ الشعور بالشفقة على هذا الحملِ الضال في هذه الحياةِ المضطربة، وربما خطرتْ في ذهنه فكرةٌ سيئة عني كأن أكون حشّاشاً أو مجنوناً. سألني بحذرٍ وعيناه تبرقان بودّ مصطنع:

" هل تعرف يهوا؟ "

" مَنْ؟ "

سألتُ محاولاً كتمانَ ضحكةٍ ربما جاءت بنزقٍ لم يعتد على سماعه، لكنه تماسكَ بأعصاب باردةٍ وأعاد سؤاله بصيغة أسهل، ظناً منه أني لا أجيد اللغة الدنماركية:

" أقصد الرب يهوا. "

ثم أضافَ كأنه يحاور طفلاً:

" الرب يهوا... ألم تسمع به؟ "

هززتُ رأسي وتطلعتُ إليهِ بسخرية:

" بلى، سمعتُ عنه. "

ثم أضفتُ بسؤالٍ غريب لا أدري كيف خرج مني، ربما بسبب تلعثمي أو محاولتي لاستعادة طريقة الكلام الذي بدأتُ أجد صعوبةً بنطقهِ بلفظٍ صحيح بسبب عزلتي:

" ماذا جرى له؟ "

ارتسمتِ الحيرة على وجهِ العجوز وتلعثمَ هو الآخر وراح يحاول أن يجد مفرداتٍ بسيطةً لكي يوضح الأمر:

" الرب يهوا ... "

وقبل أن يكملَ قاطعته:

" الرب يهوا.. نعم يهوا.. أعرفه.. أعني قرأت عنه. "

ابتسم فرحاً كأنه وجد مدخلاً للحديث، غير أني وقبل أن ينطق بكلمةٍ، سبقته بإلحاحٍ بدا وكأنه نزقٌ أو ثرثرةُ طفل يكتشفُ الكلام أول مرة:

" أعرفه.. ولكن ماذا جرى له؟ "

تطلعَ إلي بشفقةٍ أو سذاجةٍ ثم قال مبتسماً:

" لم يحدث له شيء. "

وأضاف بصوتٍ هامسٍ كأنه يحدث نفسه:

" لم يحدث له شيء ولكن الذي حدث لنا نحن البشر. "

ثم راح يتحدثُ عن الأمراضِ والزلازلِ والحروبِ والمجاعات مُلقياً أسبابها على البشر الضالين الذين شغلتهم الحياة وتوافهها عن ذكر ربهم يهوا، يهوا العظيم الجبار. وبإشارة لا تخلو من خبثٍ، أو ربما أراد أن يستعرضَ أمامي معرفته بما يدور على سطح هذا الكوكب، أو أن يجد قاسماً مشتركاً بيننا، أشار إلى الحرب القائمة الآن بين إيران والعراق، ملقياً اللوم على البشر الضالين الساهين عن ذكر يهوا العظيم. وحينما أردت الاعتراض وتوضيح له الأمر بخصوص إشارته، سبقني إلى الكلام:

" انظرْ! "

قال فجفلتُ متلفتاً في أرجاء الغرفة كأني أحاول أن أرى ما يشير إليه فابتسم العجوز عطفاً على ارتباكي وقال:

" لا، أنظرْ إلى الناس كيف شغلتهم الحياة، وأعماهم الإسراف بالمتعِ الرخيصة عن رؤية الحق، عن يهوا، فابتلاهم بالحروب والزلازل والأمراض. "

توقفَ قليلاً محاولاً أن يستدرجني إلى الكلام، وحينما وجدني صامتاً أحدقُ إليه ببلاهةٍ وعدم اقتناع بما يقوله، ولم تجدِ كل محاولاته بإخراجي من صمتي، تارةً أتحججُ بالبلاهةِ واللامبالاة بما يقوله وتارةً أخرى بضعف لغتي الدنماركية، نهضَ متثاقلاً ماداً يده إلي مودّعاً على أمل تكرار الزيارة في الأيام القريبة القادمة. حينما خرجَ علّقتُ إعلاناً آخر على الباب يشيرُ إلى استغنائي عن أوراق الدعايات وزيارات يهوا.

وكما قلتُ لم يكن الأمر يعني لي سوى مصادفةٍ ليس إلا أو ربما مداعبة ظريفة ممنْ يطلّ إليّ من عليائهِ كي يُخرجني من عزلتي، وربما هو الآخر لم يجدْ في عزلته شيئاً مُسلياً فاختارني لعبةً يدير مفتاحها ليحشوها بالحركة ويضحك.

لم تكن اللوحة التي شكّلتها الأوساخ والغبار المتراكم على زجاج النافذة تلفتُ نظري لولا هذا الخط الأخضر المصفرّ النازل من أعلى الشباك وحتى الآجرّ. لم أعتبرها فألاً سيئاً فأنا لا أؤمن بذلك، لكني وجدتُها فرصةً لممارسة طقوسي الصباحية بشتمِ القدر وسوءِ الحظ وإخراج أبي من قبره والانهيال عليه بالشتائم واللعنات مردداً بحزن مبالغ فيه " هذا ما جناه علي أبي.". حملتُ سطلَ الماء وقطعةَ إسفنج ورحتُ أفرك زجاج النافذة بقوة حتى بدا برّاقاً يطل على حديقة واسعة تنتهي بأفقٍ صافٍ وأشجارٍ بدأ انتفاخُ أطرافِ أغصانها واضحاً وانتشرتْ أزهار ربيعية على حشيش الحديقة الندي. جلستُ جنب النافذة وأنا أحاولُ التقاط أية حركة وأصغي إلى حفيف أجنحة الطيور والنوارس الجائعة وهي تتصارخ وتتراكم على بعضها حينما ترمي عجوز من شرفتها فتات خبز. شعرتُ ببهجةٍ كأني أكتشفُ الطبيعة لأول مرة.

بعد أن تكررَ الأمرُ ليومين لاحقين اعتبرتُ الأمرَ مزحةً من طائرٍ يريد أن يلفتَ انتباهي إليه، ولكنها مع الأيام أصبحتْ مزحةً ثقيلة وخارجةً عن المألوف ثم تحولتْ إلى هاجسٍ غريبٍ استبدّ بي وطغى على تفكيري، محاولاً إيجاد تفسيرٍ منطقي لهذه الحالة الغريبة، فأول أمر أفكر فيه بعد استيقاظي صباحاً هو إزاحة ستارة النافذة لأرى الخط الأخضر المصفرّ، منظره يثيرُ انتباه المارة والصبية، الانتباه الذي أتحاشاه وأخشاه كثيراً، فلذا كنتُ مجبراً كل صباح على تنظيف زجاجِ النافذة، هذا العمل الذي لم أزاوله منذ انتقالي إلى هذه الشقّة بل لم أزاوله طيلة حياتي.

استطعتُ أن أحددَ على وجهِ التقريبِ موعدَ زيارة الطائر، لذا فقد قررتُ أن أترصدهُ كي أتعرفَ عليه. أطفأتُ ضوء الغرفة وأسدلتُ الستارة إلا من فتحةٍ صغيرة وجلستُ أترقب قدومه. أكتمُ أنفاسي كلما سمعتُ حركةً أحسبها حفيفَ أجنحةِ طائرٍ يقترب من النافذة. انتظرته حتى بزوغ الضوء الأول، لكن يبدو أني قد غفوتُ على الكرسي قبل مجيئه، وحينما استيقظتُ وجدتُ أن الموعد قد فات. أزحتُ ستارة النافذة فرأيتُ الخط الأخضر المصفرّ يتوسط الزجاج البراق. جلستُ جنبَ النافذة أتطلع إلى النوارس التي حطتْ على سقوف البنايات بانتظارِ أن تُرمى لها فتات الخبز وبقايا الطعام. تطلعتُ في وجوهها واحداً واحداً، لعلي ألمحُ الشرّ يلوح في عيني أحدها ليكون الدليل على الجرم. أرقبُ باهتمامٍ يصل حدّ الهوس أية حركةٍ يبديها طائرٌ وأستقرئ الخوف في عيونها حتى بدتْ جميعها موضع شبهة واتهام. ذهبتُ إلى المطبخ وعدتُ بكيسٍ من كسرِ الخبز اليابس ونثرتها من النافذة فهجمت النوارس عليها متصارخة. لفتَ نظري طائرٌ وحيد لم يحركْ ساكناً وظلّ متكوّراً على نفسه بلا مبالاةٍ على سقفِ البناية المقابلة كأنه يرفض طعامي، لكني كنتُ ألمح شيئاً غريباً في عينه الزائغة بخبث.

" أيها الحقير. "

خاطبتُه بحقدٍ مُستفَز، حيث أني شعرتُ بأنه هو المتهم، وما هذا التجاهل الذي يبديه إلا محاولة منه على التخفي أو إصرار على التحدي والعدوان، ولكي يُخفي ارتباكه أدخلَ رأسه بين جسده وجناحه متجاهلاً نظراتي المتفرسة في عينيه.

" سأنتظرك غداً. "

خاطبتهُ بتوعدٍ وأسدلتُ الستارة إلا من فتحةٍ صغيرة كان يدفعني بين الحين والآخر القلقُ والفضولُ إلى ترقب النوارس من خلالها مركّزاً جلّ اهتمامي بهذا المتفرد ذي العينين الزائغتين، الخارجِ عن دائرةِ السرب مفتعلاً الترفعَ والكبرياء. ولكي اختبرَ حدْسي فقد حاولتُ أن أدققَ به علّني أجد علامةً تميزه عن بقية النوارس التي بدتْ متشابهة ببياضها الناصع، حتى أصبح من المستحيل تمييز عدوي من بينها. أدركَ النورس الذي لايزال على سطح البناية المقابلة لشقتي ما يدور في ذهني فنهضَ ناشراً جناحيه مرفرفاً دون أن يرتفع عن السطح، ثم سارَ بضع خطوات وكأنه يعلن تحديه لي بوقاحةٍ غريبة فأدركتُ بيقينٍ ما يميّزه عن بقية نوارس السرب. سار بضع خطوات (بالأحرى بضع نطّات قصيرة) على سطح البناية ثم عادَ إلى ما كان عليه وهو يتطلع إلي بعينين يتطاير (هكذا تراءى لي) منهما خبثُ ضبعٍ قذر. وضع رأسه بين جناحه وجسده. وصلتني رسالةُ تحديهِ واستفزازه بوضوحٍ وقح لا يليقُ بنورسٍ وديعٍ ومعاق، ولكني وعلى الرغم من تقبل التحدي وتبادل الكره إلا أني شعرتُ بشفقةٍ كبيرة عليه، بل كنت أتمنى لو أنه يقبل المصالحة ويتخذني صديقاً حميماً له ولتكفلتُ بإطعامه كل يوم، فلا أظنّ أن نورساً أعرجَ مثله يستطيع مزاحمة بقية النوارس النهمة على سمكةٍ أو فتات الطعام الذي يرمى إليها.

استيقظتُ قبيلَ الفجر ونهضتُ بسرعة كأني على موعدٍ مهم، أزحتُ ستارةَ النافذة بحذرٍ وفرحتُ حينما أدركتُ الموعد قبل فواتِ أوانه. أطفأتُ الضوء وذهبتُ إلى المطبخ مسرعاً لإحضار كأس الشاي وجلستُ قرب النافذة أدخنُ بقلق كاتماً أنفاسي .

" لن تفلت مني اليوم أيها المراوغ. "

رددتُ مع نفسي وقد تجمّعَ الحقدُ كله متحفزاً استعداداً للحظة الانقضاض المترقبة. كانت الدقائق تمرّ ثقيلة حتى بزغَ الضوء وارتفعتْ زقزقات العنادل على الأشجار. كان يمكن أن يكون صباحاً يثير البهجة في النفس لو لم أكن في مهمةٍ كمهمةِ جندي يزرع ألغاماً في الأرض الحرام محاولاً إنهاء عملهِ قبل بزوغ الضوء.

" هل يستحقُ الأمر كل هذا القلق والتحفز؟ "

" نعم. "

أجبتُ على تساؤل نفسي بحزمٍ وكأني أضعها بمواجهةِ عدو حقيقي، بل إنه أكثر من ذلك فقد أصبحت المسألة تثيرُ في نفسي أكثرَ من سؤال على الرغم من أنها قد تبدو للبعض ضرباً من الجنون أو هواجس تثيرها الغربة والوحدة، إصرار كإصرار المقامر على مواصلةِ اللعب على الرغم من خسارته، ليس هدفه استرجاع ما خسره، بل لكي يدركَ سرّ هذه اللعبة الغامضة، لعبة الحظّ التي لا يحكمها أي قانون، أو ربما يدفعه الهوسُ للبحثِ في نزواتِ العليّ المهيمن، ولمَ اختاره دون سواه لتكون الخسارة نصيبه دائما طالما أن النرد واحد بين يدي المقامرين، ولماذا اختار شخصاً ضعيفاً وبائساً مثلي كي يجعلَ منه مسخرةً بيد القدر أو الحظ؟. لا أخفي أني لو كنتُ أملكُ قدرته وجبروته لجعلتُ من الناس جميعاً دمى أحشوها وأتفرج عليها وهي تتحرك ببلاهة ورعونة، ولكن أما كان الأجدر به وهو الجبّار العظيم أن يختار للعبتهِ هذي رجلاً يليق بجبروته، كأن يكون هرقلاً، طرزاناً أو على الأقل أن يختار طاغية كصدام حسين مثلاً، أمّا أن يختارَ رجلاً لا حولَ له ولا قوة مثلي فلا فخر له، فهو كملاكمٍ قوي ينازل بوضاعةِ نفسٍ طفلاً.

" الحظ . "

هكذا نطّ الجواب دون وعي مني. ولو أني لا أؤمن بهذا التفسير إلا أن عجزي عن استنتاج منطقي جعلني أرددُ هذه الكلمة الغامضة محاولاً إقناع نفسي بهذا المفهوم. 

فجأةً سمعتُ خفقَ جناحيه وهو يقترب من نافذتي:

"وأخيراً خرج العدو من مكمنه، اقترب غافلاً من الكمين."

 قفزتُ باضطرابٍ وأزحتُ الستارة قليلاً، وقد كنتُ واهماً ومبالغاً في الحيطة، حيث أني لم أكنْ أعلم بأن عدوي هذا واثق وجريء ومصرّ على إتمام مهمته، فلم يهربْ حتى بعد أن أزحتُ ستارة النافذة كلياً. هبطَ ببطء فارداً جناحيه كأنه يحتضن الفضاء بمتعةٍ وزهو  حتى لم يعد يفصله عن زجاج نافذتي سوى بضعة سنتمترات، وبحركةٍ بهلوانية رشيقة رفعَ ذيله بجرأة وهو يتطلع إلي بعينين ثابتتين تلوح فيهما سخرية وقحة. توقفَ في الفضاء وقد انشدّتْ أنظاري إليه مترقباً ما سوف يفعل، ثم وبهدوء الواثق قصفَ هدفَه بدقّةٍ، وارتفع بثقةِ المحاربِ المتمرسِ على إذلالِ عدوه متقلّباً في الفضاء بمتعةٍ حتى حطّ على سقف البناية المقابلة لي وسط ذهولٍ استبدّ بي فشلّ قواي العقلية وأنا أتطلع إلى الخطّ الأخضر المصفرّ الساخن يتطاير منه بخار يتوسط زجاج نافذتي.

أحضرتُ سطلاً وقطعة إسفنج ورحتُ أنظف النافذةَ وأنا أرمي كلّ شيء بسيولِ شتائمي. مرّتْ عجوز تدبّ على عصاها وتطلعتْ إلي بطرف عينها بشفقةٍ وهي تخفي ابتسامتها ومرّتْ مراهقتان في طريقهما إلى المدرسة فغطتا وجهيهما وهما تخفيان ضحكاتهما. جلستُ عند النافذة بعد أن أزلتُ أثر الذرق ورحتُ أرقب كلّ حركة يبديها هذا النورس العدو الذي راح يتجاهلني زيادة في تجريحي وإشباعاً لرغبته المريضة وحقده الذي لا أعرف له سبباً.

" هل حقاً كنتُ حزيناً؟ "

في الحقيقة لم أكن كذلك بل كنت سعيداً إذ وجدتُ أمراً أخرجني من عزلتي حتى لو كان عدواً غامضَ الغايات اختارني نداً له، أو ربما اختارتُه قوة سرية أداةً لتحقيق غرضٍ ضدي أو تنفيذ عقاب. لم أكن حزيناً، بل على العكس لقد أصبح الأمر مزحةً طريفة يبادلها القدر معي ووجدتُ بذلك مبرراً لرفعِ صوتي بشتائمَ على الرغم من أني متأكد بأنها لا تصل لأسماع أحد، إلا أني كنت أشعر براحةٍ نفسية وأنا أفرغ خَرْجَ حمولتي من الشتائم والكراهية وأتخفف من ثقلها فأبدو كأني انتقمتُ من أعدائي المجهولين. ودونما اختيارٍ صار مجيء النورس موعداً عزيزاً أحرصُ على أن لا يفوتني وصرتُ أنتظر زيارته الصباحية بشوقٍ وأقلق حينما يتأخر فوجدتُ بذلك أنيساً لوحشتي.

في سنواتِ منفاي الأولى كنتُ حينما أجلس وحدي هادئاً أتطلعُ من شرفتي أتابع الفكرة منذ ولادتها في رأسي حتى تتشخصَ أمامي وتنضج ثم تشيخ لتولد فكرة أخرى. كان كل شيء يبدو جديداً وكنتُ كطفلٍ يتلمسُ الأشياء لأول مرة ويتفحصها بدهشة وبراءة، وهكذا كنتُ منجمَ أفكارٍ متسامية أستطيع رؤيتها متجسدةً أمامي وأتلمسها كبرعمٍ طري يتفتقُ من غصنِ بصيرتي، أفكارٌ تتزاحمُ في رأسي فأتابعُ كلّ فكرة منذ ولادتها في خلايا مخي حتى تشيخ فأرى زهور عباد الشمس تدورُ بسرعةٍ فائقة حولي وباتجاه أفكاري المشرقة. أغمضُ عيني فأرى الغرفة وقد تحولتْ إلى عالمٍ رحبٍ مليء بالكائنات الحية، كائناتٍ أنفخُ فيها من روحي فأراها أمامي تتحركُ، ترقصُ، تطيرُ في فضاء الغرفة ثم تعود إلي، تندسّ في جسدي فتشيع فيه خدراً لذيذاً. السقفُ سماء تسطعُ نجومها بضياء يخترقُ أسوارَ سجني ويتمركز في الروح، والجدرانُ آفاق قريبة وبحارٌ وأشرعة بيضاء ترحل إلى المجهول، نساء.. نساء.. نساء من كلّ الجهات، كل غانيةٍ فكرةٌ، بل كل غانيةٍ جسدٌ من الأفكار. أما اليوم وقد مضى عليّ زمنٌ طويل في الغربة، ها أني أجلس على كرسيي وأتطلعُ من شرفتي القديمة، أقلّبُ أفكاري بيدٍ مرتجفةٍ وأفرح حينما أعثر على فكرةٍ لم يلوثها سخامُ الغربة حتى صارتْ أفكاري مثل تمرات العبيد، كلما شعرتُ بالجوع أوهمتُ نفسي بأن من بينها تمرةً لم تتلوثْ بعدُ، فأظلّ ألوكُ بها وأمتص نواتها حتى تتفتتَ تحت لساني.

وهكذا بدأ صراعي مع النورس، فكرة من أفكاري المترسبة في خرجِ أيامي الرتيبة وقد تشبثتُ بها خوفاً من الفراغ الذي ينخرني، بل أصبحتْ فكرةُ أفولِ هذه الفكرة وموتها هاجساً يقلقني. وعلى الرغم من ادّعائي الحقد على هذا الطائر، إلا أن فكرةَ أنْ يتركني يوماً كانتْ سبباً لقلقي، ولذلك (وقد لا يصدقني أحد أو ربما يعتبرُ كلامي هذا جنوناً) مرضتُ حينما انقطعَ النورس عن المجيء واستبدتْ بي هواجس منْ ينتظر شخصاً عزيزاً أو طفلاً غادر البيت وقد تأخر في العودة.

نسيتُ أن أذكرَ بأن هذا النورس قد غيّر فيّ عادة أدمنتها منذ ما يقارب العشرينَ عاماً فقد صرتُ أنامُ مبكراً كي استيقظ قبل مجيء النورس وأحظى برؤيته وهو يقترب من نافذتي وطريقته البهلوانية الرشيقة وهو يقصف بدقّةِ الرامي المتمرس زجاج نافذتي بشريط ذرقه. ولأجله رحتُ أتأملُ حياةَ النوارس وتصرفاتها، طريقةَ طيرانها، خوفها وتوجسها الطافح في عيونها، لغاتها وقانونَ السرب، طريقةَ مغازلة الذكر لأنثاه... الخ. حاولتُ أن أجدَ العذرَ للحقد الذي يكنّه لي هذا النورسُ المعاق. هل أقول إني أحببته؟ نعم أحببته، وكم أذهلتني كبرياؤه وعفّةُ نفسهِ وترفعه عن مزاحمة بقيّة نوارسِ السرب وهي تتراكم على بعضها وتتصارخ كلما رمي لها من فتات الطعام. أسميتُه (جونثان) تيمناً بنورسِ الفيلم الذي كنتُ أشاهده كلما شعرتُ بضيقٍ وغربة شديدة، حفظتٌ أغاني الفيلم وكنتُ أرددها مع نفسي وأنا أرقب شروق الشمس وأنتظر مجيء نورسي كمن ينتظرُ حبيبةً جميلة، بل كتبتُ عنه قصيدةً:

" على شاطئ الروحِ نورسةٌ

                      تستريحْ

تفلّي السماواتِ

تبحثُ عن سرّ صمتِ النبوءاتِ في نجمها

وعلى أفقِ الفجرِ

فانوسُ حلمٍ غريقٍ

وما من مُغيثٍ

سوى

موجةٍ لا تراهُ

وقبضةِ ريحْ

*     *     *

على شاطئ الروحِ نورسةٌ

                  تستريحْ

وعلى الضفةِ الثانيه

شاعرٌ

يكتبُ اللازمانَ

ويجترحُ المجدَ للروحِ

          أغنيةً صامته

شاعرٌ كانِ يحتضرُ

           مذْ قرونْ

ليكونْ

غيرَ أنَّ

القوادمَ مكسورةٌ

والخوافيَ مقرورةٌ

والنسورْ

تتصيدُ همسَ المكانْ

(جونثانْ)

    ـ مَنْ يعشْ في المكانِ يمتْ

       مَنْ يعشْ في الزمانِ يمتْ ـ

هكذا قالَ لي صنوُ روحي

فطرْ

في فضاءِ فسيحْ

    *     *     *

على شاطئِ الروحِ نورسةٌ

                   تستريحْ

تستريحُ

وفي صمتها صوتُ حلمٍ جريحْ "

(في ما بعد وأنا أعيدُ قراءةَ القصيدة وأغنيها انتبهتُ إلى أني أنّثت نورسي لا أدري لماذا فعلتُ ذلك، ولم يكن قد خطرَ في بالي قبل ذلك بأن يكون هذا النورس أنثى).

" ولكن حقا هل نورسي أنثى؟ أم ذكر؟ "

" وما الفرق؟ "

" الفرق كبير. "

" ليس هناك فرق إلا بما تتمناه. "

" ..................... "

" ها أنتَ قد صمتَّ، إذن سأبوح لك بالسرّ الذي لا تتجرأ على كشفه لنفسك. "

" ..................... "

" بإمكانكَ بوضوح أن ترى أن النورس ذكرٌ ولكنك تريد أن .... "

" كفى! "

 أسبوع مرّ ولم يعدْ نورسي الغائب. قلقتُ وربما بالغتُ بالقلق قليلاً. خرجتُ من شقتي وعيناي تجوسان المكان والفضاء بحثاً عن صاحبي، صاحبي الذي رمّمَ بعدائهِ لي شيئاً من حطام الألفة التي حسبتُها قد ماتتْ فيّ، كاهني الذي جعلني أقفُ أمامه ذليلاً وأعترفُ بكلّ خطاياي التي ما كنتُ أتجرأ على الاعترافِ بها.

عندَ الفجر ذهبتُ إلى الميناء كأني على موعدٍ سري. جلستُ هناك وعيناي تلتهمُ الفضاء، بل حتى أني تنازلتُ عن كبريائي بتحايلٍ ساذج حينما اقتربتُ من أحد الصيادين وكان عجوزاً دنماركياً بدا لي وكأنه ضالعٌ بتأريخ البحار، قد حُفرتْ على وجهه تجاعيدُ الخبرةِ فبدا بعضلاتهِ المفتولة ولحيته المتسخة حفيداً نجيباً لأولئك الفايكنغ الذين تركوا أسماءهم على صخورِ بحر الشمال. حييتهُ بمودةٍ مفتعلة ووقفتُ قريباً منه ويداي على خصري أتطلع إلى نقطةٍ بعيدة مستغلاً فترة انتظاره بعد أن رمى صنارته إلى البحر وجلسَ على الحافة الكونكريتية مُدلياً ساقيه وإلى جانبه قدح قهوتهِ الفخاري الكبير وهو يصفّرُ لحناً راقصاً كأنه يُحدّث الأسماك بلغةٍ يجيدها. اقتربتُ منه ودونما استئذان قرفصتُ إلى جانبه محدقاً إلى خيط الصنارة المتوتر ويديه بأعصابها الزرق البارزة وهي تمسكُ عصا الصنارة. حاولتٌ أنْ أعطيه انطباعاً بأني من هواةِ الصيد المبتدئين، جاء ليتعلم درساً في الصيد من عجوز أفنى عمره بمغازلةِ الأسماك. قدمتُ له سيجارةً وأخذتُ أخرى ثم سألتُه عن الصيدِ وأصنافِ السمك المتوفرة في الميناء،عن أفضل الأوقات للصيد وأي نوعٍ من الطُعم تفضله الأسماك. امتدّ الحديث بيننا وظهرتْ على وجهه علاماتُ ارتياحٍ إلى صحبتي، حيث وجدَ من يصغي إليه وهو يستعرضُ مهاراتهِ وخبرتهُ في الصيد، وهذا ما جعله يسترسلُ في الحديث بإطنابِ الثرثارِ الساذج، لكن صبري قد أوشك على النفاد وأنا أصغي إلى حديثه عن مغامراته في البحر وعن الصيد وفنونه فسألته ببراءةٍ مفتعلة وبحذرٍ عمّا إذا كانَ قد شاهدَ في هذا المكان نورساً أعرج . تطلع إليّ باستغرابٍ وأطالَ التحديق في وجهي كأنه يريد اكتشاف سرٍ أخفيه ثم علتْ ضحكته مختنقاً بسعالهِ مردداً كلماتٍ لم أفهمها فندمتُ لكنني افتعلتُ ضحكةً بلهاء محاولاً تبرير سؤالي بتمتماتٍ لم أكنْ أنا نفسي أفهمها ولا أعتقد بأنه قد شغلَ نفسه بمعرفةِ ما أعنيه. مدّ يده إلى جيب سترته الداخلي وأخرج قنينة سنابس كبيرة، أزال غطاءها ببرمةٍ خفيفة بإصبعيه ثم قدّمها إلي وهو يصرخُ بصوتٍ أجشّ مصحوباً بقهقهةٍ رعناء:

" Skaal "

ارتشفتُ منها رشفةً صغيرة وأعدتها إليه شاكراً له ضيافته ثم رفعتُ ذراعي مودّعاً مفتعلاً السكرَ كحجةٍ أخفي وراءها جنوني.

علاقةٌ عابرةٌ تركتْ في نفسِ المحروم الأعزل أثراً لا يصمدُ أمامَ سمومِ ورمالِ صحرائه الشاسعة، رسمتْ دوائرَ في مائهِ الراكدِ واتسعتْ، ثم تلاشتْ كأي حجرٍ يُرمى طيشاً أو عبثاً. لستُ مراهقاً كي أجعلَ من هذه الطرفةِ حكايةَ حبٍ غريبة بين شاعرٍ ونورس، أنا الذي لم تستطعْ أجملُ غانيةٍ بكلّ عنفوانِ جسدها أن تهزّ شعرةً من كبريائي. منذ بدء احتكاكي بالمرأة، بل منذ أول نظرةٍ التقطها راداري من ابنة الجيران اكتشفتُ أنني لا أصلحُ لهذا العالم، عالم المرأة، سيركٌ لا مكان لي فيه، أقنعةٌ وأصباغٌ وحبالٌ ومهرجون فأين يكون فيه صبيّ يطفحُ الحزنُ في عينيه بملابس رثّة، لا تفارق عيناه الكتاب، وإنْ شردَ تفكيره فلفكرةٍ لم تخطر يوماً في ذهن أقرانه، يكوّر طيناً ويخلق منه كائناتٍ ينفخ فيها من وهمهِ فيراها تتحركُ أمامه ويبتهجُ كأنه يحتضن جسدَ الكون ويغفو على ثدي الأرض مُصغياً إلى دقّات قلبِ ربّ ميت. لذلك أول شيء فكرتُ فيه حينما عدتُ من الميناء ترنّ في أذني قهقهاتُ الصياد العجوز وسخريات نفسٍ عنيدة تترصد أخطائي كرقيبٍ قاسٍ لا يعرفُ غيرَ لغة التأنيب، هو طيّ هذه الصفحة ونسيان أمرِ النورس، بل أنّبتُ نفسي على هذا الشطط في الوهم وعلى الضعة التي جعلتني أسفُّ بأحلامي التي كنتُ أظنّ بأن الكونَ الواسعَ يضيقُ بها، وأتشبثُ بفكرةٍ ساذجةٍ كي أجعلَ منها حكايةً لا يصدّقها طفلٌ أو مجنون.

عدتُ من الميناء لا أشعر بشيء يمكنُ وصفه. فراغٌ بارد كعلبةٍ فارغةٍ مهملة تصفّر فيها الرياح، لستُ حزيناً أو مفتعلاً للحزن، مجردُ عقدٍ أبرمتهُ مع الوهم وكانَ من اليسيرِ تمزيقهُ ونقضه وما من أحدٍ رأى أو درى . أول فعلٍ قمتُ به هو الوقوف أمام المرآة والتحديق إلى الهاوية.. الهاوية التي تتبدى لي كلما رنّتْ في أذني كلمة (الخيبة)، لا لكي أرمي بنفسي إلى عمقها كما كان يراودني هذا الشعور في الأيام الأولى لممارستي تمارين الوحدة، بل لكي أصغي إلى صدى صرختي يتردد في وهادها. أقفُ أمام المرآةِ وأحدقُ بعمقٍ كأني أغور في عمقِ صفائها. في البدءِ تلوحُ صورتي ثم تغيمُ الرؤية وتبدأ الصورة بالزوغان، تختفي ملامحُ وجهي وشيئاً فشيئاً تختفي الصورة تماماً لتحلّ محلها الهاوية، هاوية تفغر أشداقها، وعمق معتمٌ كمرآةٍ سوداء. صوت أسمعه يناديني، يغريني بالانتحار، وكلما هممتُ بالقفز إلى العمق سمعتُ صوتاً آخر يصرخُ بي:

" توقفْ يا ... ، أنتَ نبيّ "

أسدلتُ الستارةَ بحنقٍ وجلستُ أبحثُ عن فكرةٍ أخرى تعيدُ ترتيب أفكاري وأدوزنُ بها غربتي وأيامي النافرةَ من أوتار حياةٍ مختلّة، إيقاعُها ناشز يثيرُ القلقَ في الروح. صرتُ أتحاشى النظرَ عبر النافذة كيلا أرى النوارس، فقد كنتُ أشعر بكراهيةٍ لها ككراهيةِ رجلٍ خانته زوجته للنساء. انتبهتُ أو بالأحرى نبّهني الرقيبُ المتحفز لاقتناصِ هفواتي لهذا الادّعاء الكاذب فجاءتْ سخريته كلطمةٍ خاطفةٍ:

" ومن أين لكَ أن تعرفَ شعورَ رجلٍ خانته زوجته وأنت لم تتزوج بعد، بل لم تلتقِ امرأةً في حياتك؟ "

" ..................... "

" ولمَ هذا الكذبُ غير المبرر كأنك زيرُ نساء تختارُ منْ تُحب ومنْ تكره؟ "

" ..................... "

" أم تراكَ تتقمصُ دور المغفّلِ شهريار كي تنفّس عن حقدكَ على النساء؟ "

" ..................... "

" وهذا ديدن المنبتّ يحاول الهربَ من كل فكرةٍ حينما يشعرُ بأنها بدأتْ تستبدّ به. يهربُ إلى الصمت أو إلى اجتراح فكرةٍ أخرى أخفّ وطأة من سابقاتها. "

" .................... "

" أو يرمي حجرَ حقدهِ على عنقودٍ عالٍ لا يستطيعُ الوصول إليه. "

" .................... "

" لا تصمتْ! "

" .................... "

" أنتَ جبان. "

" .............. "

" وغبي. "

" ............. "

" أكرهك. "

" ........... "

" عفواً. "

" ......... "

" يقتلني صمتك. قلْ أي شيء! "

" ..................... "

" أحبكَ "

" ....... "

" هل تعلم أنّ مشكلتكَ تكمنُ في أنك تعرفُ أين تكمنُ مشكلتكَ؟ "

" ..................... "

" لكنكَ تعجز أن تجدَ حلاً. "

" .................. "

" تبحثُ عن كذبةِ صدقٍ كي تحيى بها ومن أجلها. "

" .................. "

" تحلمُ أن تكونَ نبياً ولكنكَ تعرف أن نفسك وضيعةً بل داعرة. "

" ..................."

" كأنك تبني محراباً في ماخور. "

" كفى! "

" لا تهربْ! "

" أكرهك. "

" لن تقدر. "

" سأقتلك. "

" أنا أنت. "

" سأنتحر إذن. "

" أمنية أنتَ أصغر من أن تحققها. "

" اوووووووف "

كنتُ كمنْ يرتطمُ بنفسهِ فتتهشمُ تفاصيلُه فيشغل نفسه بلملمةِ شظايا التفاصيل المتناثرة في المكان فيفرح حينما يرى مشهدَ الدمِ وهو يسيلُ من كفّيه. وبعد كل نوبةِ هياجٍ يجلس عند نافذةٍ خارجَ الأرض يطلّ منها على زهرةٍ تتفتح ببطء، أو يغمضُ عينيه مصغياً إلى غناء طائرٍ غريبٍ في حديقةٍ لا وجودَ لها.

إذن هكذا بدأتْ علاقتي مع النورس، مجرد فكرةٍ بديلةٍ لفكرةٍ تحتضر، ثم تصاعدَ إيقاعها، وفي لحظةٍ تعطلتْ الآلاتُ الموسيقية ليعمّ الصمت. ومع مرور الأيام نسيتُ النورس، بل رحتُ أسخرُ من نفسي كلما تذكرتُ القصة.

أيام مرتْ كسابقاتها، ولكي أكون صادقاً أنني كلما استيقظتُ صباحاً وأنا أزيح ستارة النافذة كنتُ أتوقع رؤية الشريطِ الأخضر المصفرّ يقسمُ زجاجَ النافذةِ وحينما لم أجده أشعرُ بأن شيئاً ينقصني، وأنّ شعوراً خفياً ينفلتُ من عقالِ إصراري يراودني بأنّ غائباً سيعود يوماً، حتى حدثَ الذي لم يكن قد خطرَ في ذهني. جلستُ عند النافذة وأنا أقرأ في كتابٍ وأقضم أظافري بقلقٍ كعادتي، وبين لحظةٍ وأخرى أرفع رأسي مع كل حركةٍ في الخارج أو حفيف طائرٍ يقترب من النافذة. خرجتْ جارتي العجوز التي تقيم في الطابق الثاني من البناية التي أقيم في طابقها الأرضي على البرندة وراحت ترمي بقايا طعامٍ وكسرَ الخبز فارتفع صراخُ النوارس التي خرجتْ من مكانٍ لا أراه وتجمعتْ فجأة في الحديقة. تطلعتُ إلى سطوحِ البنايات فلم أجدْ نورسي المترفع عن سلوكِ السرب وغرائزه. لفتَ نظري مشهد طائرين يطيران على ارتفاع شاهقٍ، يتقلبان برقصةٍ غريبة ثم يفردان أجنحتهما كأنهما يحتضنان الفضاء بزهو ودعةٍ. يدوران، يتقاطعان، يهبطان ثم يرتفعان. يبتعدان عن بعضهما ثم وبأقصى سرعة ينطلقان لملاقاة بعضهما وقبل أن يصطدما يرتفعان، يرتفعان بلعبةِ انتشاء ولذة. رحتُ أتابع حركةَ النورسين وهما يعومان في الفضاء. شعرتُ بشيء كأنه حزن أو ربما غيرة، لا أدري. دقائقُ مرّتْ حتى شعرتُ بألمٍ في رقبتي وهي مشرئبة نحو السماء. هبوط  حرٌ وبحركاتٍ رشيقةٍ وسريعة جداً تدحرج الطائران، هبطا.. هبطا حتى اقتربا من نافذتي واصطدمت أجنحتهما مطلقين أصواتاً غريبة كأنها قهقهاتِ امرأة منتشية بعد مضاجعةٍ حميمة.

" عدنا إلى الكذب! " 

وبعد أن أتمّا رقصتهما قربَ نافذتي ارتفعا قليلاً حتى حطّا على سطح البناية المقابلة. سار أحدهما بضعَ خطوات (أو بالأحرى نطّ) بساقه الوحيدة كأنه يريد أن يعرّفني بنفسه فارداً جناحيه كأنه يتمطى بنشوةٍ. عاد إلى نورسته فارداً جناحه حولها محتضناً جسدها بفحولةٍ واشتياق، ثم راحَ ينقرُ ريشَ رقبتها بهمسِ منقارهِ وعينه الزائغة ترمي نظراتٍ غريبة نحو نافذتي بينما كانت أنثاهُ تمطّ عنقها بغنجٍ وانتشاء .

أسدلتُ ستارةَ نافذتي ودخلتُ عتمتي مرتجفاً من بردٍ ماجن.

  

  

عشتار

على الرغم من نظافةِ الغرفة وجدرانها البيض التي بدت لي كأنها آفاق قصيّة مفتوحة على سماء بعيدة، غير أني شعرتُ بالانقباض وضاق نَفَسي حينما دخلتُها. انتفختْ رئتاي برائحةِ غبارٍ مختلطة بروائح الأدوية والمعقمات. 

" من أين جاءتْ رائحة الغبار هذي؟ "

تساءلتُ مع نفسي وشطّ بي الخيال فارتسمَ أمامي قبرٌ فاغر فمه بانتظار جسدي المنخور. مسكتُ مقبضيّ السرير كي أوقفَ ارتعاشَ يديّ أو كمحاولةٍ أخيرة للتشبثِ بالحياةِ، وأغمضتُ عيني كيلا أرى عينيه وهما تحدقان بي قبل اقتناصِ الروح .

" أريد موتاً مقنعاً. "

هكذا كنتُ أرددُ مع نفسي وفي مواقف كثيرة. أريد موتاً مقنعاً، لا ميتةً في الحرب فأنا أكرهُ المتحاربين وأكرهُ القضايا الكبرى والمبادئ والجود والتضحية بالنفس والفروسية وغيرها من الكلمات المتورمة التي كنتُ أسمعها تترددُ على أفواه أقراني وهم يتحدثون عن الكرامة والشرف، عن الوطن وحرية الشعوب، على الرغم من أني فكرتُ يوماً أن أعقلَ نفسي في مواجهةِ الموتِ على طريقةِ المحاربين القدامى. ولم أكُ أطمح كالقطّ بأرواح سبعة، بل كنتُ أردد ما كانت تردده أمي حينما يشتدّ عليها المرض وهي تدعو الله أو تؤنبه بأن يكون رحيماً فيعجّل بسلّ روحها بهدوء، على الأقل ستكون هذه الرحمة المتأخرة عزاءً لحياةٍ خاويةٍ أو بالأحرى حياة لا حياة فيها. كنتُ أريد أن أعشق قاتلي وأريده في لحظةِ الموت الجميل يكون أترفَ نسمةٍ تمضي بروحي لكي يمضي كلّ منّا إلى حالِ سبيله خجلاً مما اقترفته يداه. قاتلٌ لم يجدْ مبرراً للقتل وقتيلٌ لم يجد مبرراً للحياة. ولم يكن لي طمعٌ بحياةٍ أخرى وبجنةٍ عرضها السماوات والأرض، تجري من تحتها الأنهار. أسخرُ من نفسي حين أراني محاطاً بحورٍ عينٍ وولدان مخلدين فأردد مع نفسي بمرارةٍ " الما له أوّل ما له تالي "، وإنْ كان يخيفني بل يرعبني مشهدُ الزبانيةِ بوجوههم البليدة وأجسادهم الضخمة وهم يسلكونني بسلسلة ذرعها سبعون ذراعاً وأنا أساق أمامهم إلى الجحيم.

" ولكني أريد موتاً مقنعاً. "

" لا حرقاً أو غرقاً أو موتاً ملتبساً. "

كان الموتُ يرتسمُ أمامي وأنا أعبرُ الشارع. يطلّ من نافذةِ سيارةٍ يقودها قدرٌ مراهق أو سكران، ويخيفني السفرُ بالطائرة فأرى نثار جثتي المحترقة وهو يتطاير في الفضاء. أخافُ المشي على جسرٍ أو الصعود إلى الطوابق العليا. فما أن أطلّ إلى تحت حتى يرتسم لي الموت بعينيه الحمراوين الجاحظتين يتطايرُ منهما خبث ولؤم، وفمٍ بشدقين مزبدين وأنيابٍ سودٍ منخورة، فأتشبثُ بسياجِ الجسر أو الشرفة مرتعشاً تتجاذبني قوتان غريبتان، رغبةٌ في الانتحار وخوفٌ من الموت فيرتعشُ جسدي شهوةً ورهبة.

اثنان وعشرون سنة مرّت على هروبي من الوطنِ بجواز مزور.

" الوطن! " 

كان الموتُ هو الهواء الذي نتنفسُ، ولا صوت نسمع إلا صوته المشروخ القادم من كل الجهات، في النومِ واليقظة، في العزلةِ أو في الزحام. الظلامُ شاخصٌ أسودُ للموتِ المتربص بي في منعطف الشارع، مع أزيز رصاصة تخترق مؤخرة الرأس، مع صوت احتكاك فرامل سيارة تتوقف فجأة كأنها تقود القضاء إليك، مع خطوات شرطي في الممر أو قرقعة أصفادٍ تخترقُ صمت الدهليز.

" أريدُ موتاً مقنعا.ً "

قلتُ لنفسي وأنا أجتازُ أروقةَ المطار سائراً خلف رجلِ أمنِ المطار وهو يحملُ جوازي دائراً به على الوجوه التي راحتْ تتفحصه كأنها تبحثُ فيه عن أيّ مبرر لاعتقالي، أو حجة للموت كي يختطفني.

" أريد موتاً مقنعاً. "

قلتُ وأنا أصعد سلالم الطائرة خائفاً من الإلتفات إلى الوراء حيث لايزال الموتُ يوجّه قناصه نحوي. اهتزتِ الطائرةُ هزاتٍ عنيفةً وهي على ارتفاع شاهق، قيل مطبات هوائية. انقبضَ قلبي وأنا أتشبثُ بمقبضيّ الكرسي محاولاً الإصرار على الثبات.

" أريد موتاً مقنعاً. "

" لا ميتةَ غريبٍ جائعٍ على أرصفة الغربة. "

قلتُ وأنا أعدّ ما تبقى لي من نقودٍ متردداً أمام بائع السندويجات الرخيصة محاولاً إقناع جسدي  بتأجيل الإفطار إلى ساعاتٍ أخرى.

" أريد موتاً مقنعاً. "

قلتُ وقد اهتزّ القاربُ الصغير، وكاد ينقلبُ في الخابور ونحن نعبرُ المثلث السوري التركي العراقي نحو الوطن ملتحقين بالثورةِ المسلحة، حالمين بوطنٍ لفقراء لا يموتون .

" أريدُ موتاً مقنعاً. "

" .......................... "

ومنذ ذلك الوقت وأنا أردد هذه العبارة كلما ارتسمَ الموت أمامي بهيئاته التي لا تحصى. كنتُ دائماً أسألُ نفسي إن كنتُ سعيداً بالحياة كي أتشبثَ بها إلى هذا الحد، أم أنه الخوف من الموت سواء أكان مقنعاً أم لم يكن؟ وماذا لو مُنحتُ فرصة اختيار موتي؟ أي موتٍ مقنعٍ سأختار؟ الانتحار!؟ لا.. لا أعتقد، فهذه شجاعة لا أمتلكها. موتاً بعد شيخوخةٍ!؟ إنها ميتة رذيلة تثيرُ القرف في نفسي. كيف يكون الموت مقنعاً إذن؟.

" احنه مرّه نعيش

 مرّه نموتْ

 مرّه بكل عمرنه "

أوقفَ عاملُ المستشفى السريرَ المتحركَ وسط الغرفة وثبّتَ إطاراته على الأرض. تطلع إلي بنظراتٍ حادة. كان ضخمَ الجثةِ بعضلاتٍ مفتولةٍ وكتفين عريضتين، حتى بدا لي وهو يحتل فضاءَ الغرفة بجسده بأنه (عزرائيل) قد أطبقَ عليّ، وقد جاء يُبلغني بقرارِ نهاية وجودي، لكنّ العاملَ انحنى عليّ ماسكاً كتفيّ بقبضتيهِ القويتين متمنياً لي نجاح العملية والشفاء، ثم غادر الغرفة تاركاً ظلالَ ابتسامةٍ مشفِقة.

تطلعتُ في أرجاء الغرفة، كانت مكتظةً بالآلات وشاشات أجهزة الكومبيوتر وقناني الأوكسجين وأنابيب المصل ونقل الدم. غرفةُ عملياتٍ كأنها ورشةُ تصليح سيارات عاطلة، تنبعثُ منها رائحة الموت. ارتسمَ أمامي خطّ أفقيّ ثابتٌ على شاشةِ جهازِ تخطيط القلب وصوت موسيقى حزينة تعلن الختام .

لم أشعر بألمٍ سوى وخزةٍ خفيفةٍ في موضع إدخال كاميرا التصوير من فخذي، بل إني لم أكنْ أشعرُ بجسدي سوى كتلةٍ هلامية لا تعود إليّ مرمية على السرير في طريقها بعد ساعات قليلةٍ إلى ثلاجة حفظ الجثث. وبتشبثِ اليائس ببصيصِ أملٍ خطرتْ في ذهني فكرةُ أنْ يدخلَ الطبيبُ إلى الغرفةِ وعلى شفتيهِ ابتسامةٌ عريضة وخجولة معتذراً عن غبائه، ويخبرني بأنّ نتيجةَ الفحص لم تكن صحيحةً، بل اختلطت الأوراق وأني لستُ المريض المطلوب إجراء له العملية. عندها سأهبّ واقفاً وأترك الغرفة والمستشفى راكضاً نحو بيتي بالملابس البيض مردداً مع نفسي وأنا اخلع كفني:

" أريد موتاً مقنعاً. "

وربما سأقفُ أمام نفسي مزهواً بأني قد كسرتُ الرقم القياسي وتفوقتُ على الكلاب أو القطط ، فها هي روحي قد عادتْ إلي ثانية بل إن أرواحي قد تجاوزت السبعين.

دخلتْ سيدةٌ شقراء ممشوقة القوامِ في منتصف الثلاثينات من عمرها فعرفتُ من هيئتها وخطواتها الواثقة بأنها الطبيبة، تتبعها ثلاثُ ممرضاتٍ تلوحُ في أعينهن نظراتٌ جادة على الرغم من الابتسامة التي ارتسمتْ على وجوههن وهنّ يقتربنَ من السرير الذي يتوسط غرفة العمليات. وقفتْ إحداهن عند رأسي وأخرى عند قدمي بينما الثالثة جلست على كرسي إلى يسار السرير ماسكةً كفي تنقرُ بإصبعها على موضع الوريد. قرأتِ الطبيبةُ اسمي وتأريخَ ميلادي لتتأكدَ من صحةِ المعلومات وتطابقها مع صاحب هذا الجسد المسجى. وضعتِ الإضبارةَ على طاولة صغيرة ثم انحنتْ عليّ وابتسامة عذبة تفيضُ على شفتيها. وضعتْ يدها الدافئة على جبيني فارتعشَ شيء في روحي . ثم قالتْ بهمسٍ تخيلته غنجاً:

" اسمي إستا وأنا الطبيبة التي سأجري لك عملية توسيع الشريان. "

" إستا! "

قلتُ بتعجبٍ فتوسعتْ عينا الطبيبة وارتدّتْ قليلاً إلى الوراء، ثم سرعان ما عادت الابتسامةُ على وجهها كأنها اكتشفتْ أمراً. وضعتْ يدَها على صدري العاري والذي التصقتْ به دوائر ورقية تلتصق بها أسلاك رفيعة لا أدري إلى أين تنتهي. قرّبتْ وجهها من وجهي وهي تحركُ كفّها على صدري، وتداعبُ باليدِ الأخرى رأسي بحنو مفتعلٍ كأنها تداعبُ رأسَ طفل. ولكي تخفي شفقتها عليّ سألتني بود:

" هل التقينا سابقاً؟ "

" نعم. "

خرجتْ هذه (النعم) دون إرادة مني فاستدركتُ:

" أعرف الاسم. "

تسمّرتْ نظراتها منتظرةً توضيحاً مني فقلتُ:

" إستا .. هكذا يُلفظ بالدنمارك ولكنه يكتب إستير، أليس كذلك؟  "

" صحيح. "

 قالتْ مفتعلةً ضحكةً ناعمة وهي تهز رأسها إعجاباً بطفلٍ تلوحُ عليه علامات ذكاء ونبوغ . أشارتْ بحركةٍ من جفنيها إلى الممرضة الواقفة عند كتفي فأحاطتْ رأسي بدائرةٍ زجاجية على شكل نصف بطيخة ينبعث منها ضوء أخضر، ثم طلبتْ مني أن أستنشقَ بعمق. شعرتُ بعد لحظات بالخدر يدبّ في جسدي وثقلاً في أجفاني حتى غدا وجهُ الطبيبة كقمرٍ مختفٍ خلف سحابةٍ بيضاء شفافة. التفتُّ إلى يساري باحثاً عن جهاز تخطيط القلب. كانت شاشته الخضراء قد اسودّتْ ولم أعدْ أسمع شيئاً سوى موسيقى الختام لفيلمٍ حزين، بينما كنتُ أردد بصوتٍ أعتقد أنه كان مسموعاً:

" إستا .. إستير .. عشتار .. "

من أعلى نقطةٍ في الفضاء هبطتْ ريشةٌ بيضاء.. هبطتْ بخطّ شاقولي، واثق من استقامتهِ كأنها تهبط في فراغ خالٍ من الهواء.. ريشةٌ بيضاء.. وحيدة.. هبطتْ.. يسبقها شعاعٌ فضي يخترقٌ غبار الفضاء.. يضيء النهارَ بشعاعٍ أبيضَ على الرغم من أنّ الوقت ظهيرة، والشمس ساطعة في نهار صيفي نادر في هذا المكان.. يخترقُ الشعاع الأرضَ.. يغورُ.. يغورُ راسماً خطّاً ضوئياً، يتوغل شاقولياً نحو أعماق الأرض حتى يصلَ القلب.. يضيئه.. فتضحك الأرضُ بانتشاءٍ يحركُ شهوةَ الأموات، فتنهض أجداثهم.. تشقّ توابيتها وتخرجُ.. تخرجُ أشجارٌ مضيئة، وتتدفقُ ينابيعُ ونوافيرُ ضوء سرعان ما تختفي ويحلّ صمت عميق.. حتى لا تكاد تسمعُ حركة الأشجار وهي تهتز.. صمتٌ يخترقه صوتُ نفيرٍ قادماً من جهة بعيدة.. الأجداث تمشي بخطواتٍ بطيئة.. تمشي وتمزقُ أكفانها.. تتساقطُ الأكفانُ الصفراء على الأرض، فتظهر كائنات بشرية مغبرة لا جنسَ لها بوجوهٍ مطموسة المعالم.. عاريةً تمضي.. تجتازُ دائرةَ صبيةٍ يلعبون.. لم يتوقفْ أحد من الصبيةِ عن لهوه، بل لم ينتبه أحد لهذه الكتل البشرية.. تمضي.. تمضي حتى تصبحَ نقاطاً سوداً صغيرة ثم تختفي في ظلامِ غابة كثيفةٍ تقع على الجانب الآخر من الأفق.

الريشةُ البيضاء لاتزال في نقطةٍ مرتفعة في الفضاء.. ريشةٌ بيضاء.. هل سقطتْ من نورسٍ عاشقٍ أو طائر خرافي.. ربما من عنقاء أو رخ.. أو من جناح ملاك؟ الريشةُ تهبطُ .. تهبطُ بحركةٍ لولبية ملحوظة على الرغم من أنها لا تزال شاهقة.. الريشة تستغرقُ في هبوطها زمناً.. الزمن!؟ .. مَنْ يتذكرُ الزمن؟ ماذا يعني الزمن؟ ثواني.. دقائق.. ساعاتٍ.. قروناً؟ الريشةُ تهبطُ.. لا سرعة لها.. لا زمن لها.. سوى أن قوةً غامضةً تجذبها نحو الأسفل.. الجاذبية الأرضية.. الوزن.. المسافة.. الشجرة.. تفاحة نيوتن.. مفرداتٌ لم تخطر في الذهن.. بلى.. سقوطٌ حرّ..  الريشة وحدها تسقط سقوطاً حرّاً.. وأنا أدركُ ذلك.. ولكن ماذا يعني سقوط حر؟.. لا أدري ولكنه سقوط حرّ.. هكذا كنت أرددُ بيقين.. الريشة تهبط.. تقترب.. أرى نصلَها وهو يدورُ بحركةٍ لولبيةٍ سريعة.. تقتربُ من نافذتي.. تمر ببطء.. أفتحُ النافذة وأمدّ ذراعي كي أتلقاها.. هل وصلت يدي؟ لا أدري.. لكنّ كفّي اختفتْ في الشعاعِ.. وحينما سحبتُها كانت بيضاءَ.. بيضاءَ من غير سوء.. سوى ثقبٍ صغيرٍ في كفّي من أثر اختراق الشعاعِ أو نصلِ الريشة.. ثقب أسود كبقايا دمٍ متخثر أو كأثرِ مسمارِ الصلبِ على كفّ السيد المسيح.. الريشةُ تقتربُ من الأرض.. تقتربُ.. تخترقُ الأديمَ.. وشيئاً فشيئاً تختفي في الأرض.. تهتزّ الأرضُ.. هزاتٍ خفيفةٍ كرعشةِ يدٍ خائفةٍ أو كجسدٍ في فورةِ شهوته.. لكنها تزداد ارتعاشاً حتى توشكَ أن ترمي كلّ ما عليها أو تتقيأ ما في داخلها.. ضوءٌ أبيضُ ينبعثُ من الأرض.. يكشف الأعماق السحيقة.. بضع ثوانٍ أو ربما ساعات أو قرون أو لا أدري  حتى تتوقفَ الأرض عن ذروةِ نشوتها.. تستقرّ.. صمتٌ ثم صوتُ نفيرٍ يبدو بعيداً ثم يرتفع شيئاً فشيئاً حتى يصيرَ زعيقاً يثقبُ طبلةَ الأذن.. ثم يخفت شيئاً فشيئاً حتى يبدو كعزفِ ناي حزين.. الأرضُ مثقوبةٌ بنبلةِ الشعاع أو موضع اختراق نصل الريشةِ.. طائرٌ أبيضُ صغير بحجمِ فراشةٍ يخرجُ من ثقبِ الأرض.. ينزلقُ في الفضاء بخفةٍ.. ثم يرتفعُ قليلاً.. يرتفعُ ويكبر.. طائرٌ غريبٌ له منقارٌ أحمرُ وريشٌ أبيضُ يضيء الفضاء.. يرتفع ويكبر.. حتى يبدو بحجمِ نورسٍ، سرعان ما يتحول لونهُ شيئاً فشيئاً إلى لونٍ رمادي.. يحلّق قريباً من نافذتي محرّكاً جناحيه بحركة بطيئة.. يتطلع إلي فيغشى بصري.. يرتفعُ ويكبر.. ويسودّ لونه شيئاً فشيئاً.. يرتفعُ ويكبرُ.. حتى يغطي سماء الحي السكني الذي أقيم فيه، فارداً جناحيه كأنه يحتضنُ الفضاءَ، أو يتأهبُ للانقضاضِ على فريسة.. الأطفال يلعبون في الحديقة.. ينطّون.. يتأرجحون.. جارتي الجميلةُ التي كنتُ أسترقُ النظرَ إلى جسدها كلّ يوم حينما كانت تتعرى في الشمس قرب نافذتي، وكانت لا تعير أي اهتمام إلى نظراتي الجارحة وهي تفترسُ نهديها وتدمي حلمتيها المنتعظتين. كانت تتمدد على الأرض عاريةً تماماً، تغطي وجهها بصفحاتِ مجلةٍ أو جريدة، لا يشغلها شيء سوى لون بشرتها الذي بدأ يتحولُ إلى برونزي تنزلقُ عليه أشعةُ الشمس، تمسحُ العرقَ تحت نهديها وإبطيها.. ولكن لماذا لم تنتبه لغيابِ الشمس؟.. والناسُ يسيرون على عادتهم غير آبهين بالغيمةِ الرماديةِ الغريبة التي غطت سماء المنطقة.. هل أنا وحدي الذي أرى هذه الغيمةَ التي تنذرُ بطوفانٍ سيُغرق الأرضَ ومَن عليها؟.. توقفَ ساعي البريد عند بوّابةِ البناية المقابلة لنافذتي.. رفعَ رأسه نحو السماء، فظننتُه قد رأى ما أرى الآن، غير أنه حملَ حقيبته وولج بوابة البناية.. فركتُ عينيّ لعلّي في حلمٍ، وحينما فتحتهما ثانيةً كان الطائرُ قد غطّى بجناحيه الكبيرين السماء كلها.

هكذا وجدتُني أسيرُ في فضاءٍ معتمٍ كأنه دهليزٌ تحت الأرض، يضيقُ كلما اقتربتْ خطاي من بصيصِ ضوءٍ أبيضَ في نهايته أو هكذا بدا لي، فالضوء الذي في نهايةِ الأثرِ كان يبتعدُ كلما خلتُ أنني اقتربتُ من الوصول إليه، وكنتُ سعيداً بابتعادهِ، حيث أني كنتُ أشعرُ بأنّ العالمَ الآخرَ يبدأ من حيث ينتهي الأثر وأن الظلامَ السالكَ أرحمُ من ضياءِ النهاية الغامضة .

مرةً أخرى تذكرتُ الزمن لكن الدقائق أو الساعات كانتْ تتسربُ من بين أصابع فطنتي. من أنا!؟ كوكبٌ سابحٌ في مدارهِ بحكم قوة خارجية أم كائن تتحكم به غريزة زرعتْ فيه دون إرادة؟ شيء بلا صفات أم إنسان لم يكن يعي ما ينطوي عليه مصيره؟ موت أم حياة؟ أم هو البرزخُ الذي يربطُ بين الحالتين؟ جسدي!؟ أين هو جسدي؟ هذا الدكتاتور المتسلط بجنونهِ ورعونتهِ يندحرُ الآنَ.. يتلاشى!؟ أم أنه يعود إلى مرحلةِ ما قبل التكوين؟ جسدي!؟ مازلتُ أتذكره، وإنْ كان مجرد فكرةٍ، فكرة تخطو في ظلامِ الدهليز نحو حتفها، نحو تلاشيها، ولكنْ مازالَ هناك متسع من الوقت قبل الوصول إلى نهاية الأثر.. سأعودُ إلى أمر هذا المتسلط الذي بغى وتحكمَ بكل لحظةٍ من عمري الذي أوشك على النهاية. سأضع أمامه لائحةَ اتهامي له بالجرائم التي ارتكبها بحقي. سأنفذ به الحكم الذي يستحقه حتى وإن كان متأخراً. مازال هناك متسعٌ من الوقت قبل الوصول إلى خط النهاية في ماراثون الحياة، سأصرخُ بوجهِ هذا المستبد، الدكتاتور الذي لا يزال على الرغم من اندحاره واختبائه في جحرٍ مظلم يحلم بالعودة إلى كرسي الحكم حتى لو كان مجرد فكرةٍ. الطاغية الذي لا يزال يتوهم بأناه المتورمة بأنه قادر على استعادة ماضيه ليتسيد برغبتهِ المجنونة على إرادتي. نعم لا تزال إرادتي يقظةً، بل وللمرة الأولى أشعر بأن لي إرادة حرة بعد أن كانت تقفُ في أسفل سلّم الأولويات، درجة الارتقاء السفلى في حياةِ العبد. باعها ألف نخّاس بثمنٍ بخسٍ، واشتراها ألف سيد. صارتْ في حضرتهم جاريةً، عاهرةٌ، محظية للسافل ولأمير المؤمنين، أو خرقة تمسح السيدة بها ما يتركه السيد على جسدها من أدران. وحينما فرّتْ كعبدٍ آبق وجدتْ كل الطرق مغلقة بأسلاكٍ شائكة، فما كان منها سوى أن ترمي بنفسها طائعة تحت أقدامِ سيدها العادل، العادلِ بظلمهِ وجبروتهِ، فانضوت كما سينضوي كلّ أسيادها الآخرين تحت رحمته المؤجلة أو الهابطة بعد فوات الأوان. مازال هناك متسع من الوقت للتفكير، إذاً مازلتُ أحيا ومازال في الصندوق بعض الهواء الذي أستطيع به أن أقاومَ الاختناق قبل النهاية .

" أنا شامتٌ بكَ أيها الجسد. "

" أكرهكِ أيتها الإرادة الكاذبة. "

" كم تبدو القوسُ بريئةً من أثمِ سهمها الطائش! "

أصواتٌ تنطلقُ من أعماقي. هي ليست أصواتَ استغاثةٍ، بل أصواتٌ تنطلقُ دون إرادة مني، ترتفعُ ويتردد صداها كصرخةِ إنسانٍ يسقط في عمق وادٍ سحيق.

أكملتُ الطوافَ وجلستُ في ركنٍ من أركانِ الكعبة، أتلو آياتٍ من الذكر الحكيم مستغفراً الله، تائباً إليه من فرْطِ ذنوبي وضعف إرادتي وتضخم أناي ودناءة نفسي، رافعاً يديّ إلى البارئ معلناً براءتي من نفسي الأمارة بالسوء وراضياً بما ابتليتُ به:

" سبحانكَ اللهمّ يا مَنْ بَلوتَ البعضَ بالغلظةِ وبلوتني برقّةِ الروح * يا مَنْ بلوتَ البعضَ بالفقرِ وبلوتني بسعةِ الحال * يا مَنْ بلوتَ الناس بالقبحِ وبلوتني بالحُسن * اللهمّ إني أسألكَ يا منجي يوسف اصرفْ عني كيدهنّ ونجّني من شرورِ نفسي وانزلْ رحمتكَ عليّ * فلولا رحمتكَ لأكونن من الخاسرين. "

وحينما أتممتُ دعائي، رفعتُ القناعَ لأمسحَ وجهي وأنا استغفرُ اللهَ وأمسحُ الدمعَ الذي سالَ على لحيتي،عندها لمحتُها قادمةً في موكبٍ مهيبٍ، يتقدّمها حرسُ أميرِ المؤمنين، يدفعون كتلَ الناس المتكدسة على بعضها بعضاً، ضاربينَ الهواء بسياطهم ليوسعوا لها الطريق نحو الكعبة. انشقَ جمعُ الناس فمرّتْ بثوبها الأسود الفضفاض ذي الرفلِ الطويل، تتهادى بين وصيفاتها متجهة نحو جدار الكعبة. استبدّ بي الفضولُ كغيري، فنهضتُ كي أرى القادمةَ عن قربٍ تحيطها هالةٌ من الأبّهة والوجاهة، وكان الشيطانُ قد أنساني إسدالَ القناعِ على وجهي، وسهوتُ عن عفّتي وبراءتي من نفسي، فتطلعتُ إلى القادمةِ بعينين نهمتين شحذ العشق نظراتهما، فلمحتُ تحتَ البرقع عينين قلقتين، تجوسان المكانَ ووجوهَ الرجال بحثاً عن طاووس الفتنة. نسيتُ ما دعوتُ به الله واتسعتْ أناي في زحام الحجيج فتوهمتُ أن عينيها قد اختارتني أنا دون جموع المتجمهرين، نقطةً تتمركزُ أنظارها فيها، حين تمهلتْ قليلاً وهي تحدقُ إليّ، فقرأتُ في نظراتها الرغبةَ حمامةً زؤوفاًً، تفردُ جناحيها، تمسحُ الأرضَ أمامَ فحلها الذي انتفش ريشهُ زهواً وفحولة. تذكرتُ قناعي ولكن بعد فوات الأوان حيث أن شراكَ عينيها قد رُميتْ، وسقطَ الطاووس في الفخّ، وقُضي الأمرُ المكتوب في اللوح الأزلي. التقتْ عيناها بعينيّ، فسرتْ في جسدي حمّى ولهٍ ورسيسُ افتتانٍ، على الرغم من الهيبةِ والخوفِ الذي كان يخزني، فمَنْ ذا الذي يجرؤ على اقتحامِ حصونِ ابن عبد الملك؟ وأنى لشاعرٍ مثلي آثر العزلة، ولم يحملْ سيفاً في حياته أن يقترب من أشدّ أسرارِ بني أمية إثارةً للسخطِ والغضب؟ لكنّ الشيطان أغواني فأنساني توبتي وما عاهدتُ الله عليه، ولم يعد في نفسي فرقٌ ما بين التهلكةِ والسلامةِ، فانقدتُ مسلوبَ الإرادة إلى ما كُتبَ لي من مصير. أنا العاشق المنكود الذي طحنتهُ رحى الصراع ما بين الروح والجسد، فهذه روحي القلقة تتسامى بموتها وهذا جسدي أمصارٌ مغلقة كلما اقتربتُ منها وقعتُ في الأسر.

أخذتُ رقعةً وكتبتُ عليها:

"بالثوبِ الفضفاضِ الأسودِ

تأتي

وجواريها الشبقياتُ يحطنَّ بها

فتطيرُ حماماتُ الصحنِ

وينشقُّ الصمتُ ممراً لمليكةِ ليلي

ترقصُ

ترقصُ

يرتفعُ الثوب الأسودُ كالبالونِ

بنارِ الأجدادِ الشبقيينْ

يرتفعُ الثوبُ ـ البالونُ

ويهبطُ وحيٌ

اقرأْ

لستُ بقارئ

اقرأْ

لستُ بقارئ

اقرأْ

هذا الجسدَ ـ اللوحَ

فأقرأُ

تأريخَ اللذة "

ثم دسستُ الرقعةَ في يدِ إحدى جاريات زوجةِ أمير المؤمنين.

في اليوم التالي والناسُ مشغولة بمناسكِ الحج، يصدم بعضهم بعضاً، كنتُ وحدي أقفُ مذهولاً وأطوف حول وحدتي مثل خذروف أو أرمي الشيطان بالجمراتِ فترتدّ إلي. سمعتُ صوتاً أنثوياً يناديني:

" يا عبد الرحمن.. "

توقفتُ ملتفتاً ناحيةَ الصوتِ فرأيتُ كتلةَ سوادٍ تحثُّ الخطى نحوي. اقتربتْ مني حتى توقفتْ قبالتي رافعةً برقعها، فتذكرتُ عينيها الخضراوين. كانت جارية أم البنين التي سلّمتها بالأمس الرقعة. ارتجفَ قلبي خوفاً من أن أمراً قد حدثَ أو فضيحةً على وشكِ الانفلاتِ من قمقمِ سريتها. أغضتِ الجاريةُ بصرها نحو الأرض بحياءٍ مفتعل وسلّمتني رقعةً، قالت بأن سيدتها أم البنين قد أرسلتها إلي، ثم ابتعدتْ منضويةً في جمعِ النسوة اللواتي انزوين بعيداً عن أنظار الرجال. فتحتُ الرقعة فتضوعَ منها مسكٌ ورائحةٌ أنثوية نفاذة، أسكرتني وهيّجت غليان فحولتي.  فتحتُ الرقعةَ بيدين مرتعشتين، ورحتُ أقرأ بشوق:

"كلّ الوجوهِ التي قابلتُها بحثتُ فيها عنكَ ولكنكَ آثرتَ المرور وحيداً في طرقٍ كثيرةٍ قبل أن أراك وها أنا بأكثر من جرحٍ واقفة بين الثقةِ والخوف أتأملكَ في الجهةِ المقابلةِ أدعوك لنفسي وأخاف أن أخطو نحوك."

تلفتُّ حولي، علّي أجدَ نفسي التي فرّتْ مني. أتوسلُ إليها أن تعودَ لي لنعقدَ معاً عقدَ صلحٍ أو هدنةٍ، وإنْ تعذّر ذلك فلنخترِ المبارزة ليبقى أحدنا يحيى بسلام. لم أجدها فعدتُ إلى الرقعة لأكمل الرسالة:

"وضّاح إنكَ أسطورتي ما آمنتُ برجلٍ قبلكَ كنتُ آلهتهم وهم عبدتي يمرون حول ناري بها يصطلون وحين مررتُ قرب نارك رجمتَني بشهوتي إليك. "

رددتُ مع نفسي بزهوٍ، على الرغم من الحيرة التي أطبقتْ عليّ، فوجدتُها تنحازُ إلى موتها الفاتنِ فانقادُ خلفها مستسلماً لتهورها بغرور، وأنا أطوي الرقعة على مهلٍ:

"ماذا ستفعل يا عبد الرحمن ها أنّ القدرَ قد أصدرَ قرارهُ، ولم يعد الهروب من فخّه غير هزيمة لا تليقُ بعاشقٍ مثلكَ؟ "

" لكن.. "

" منْ أنا؟ وضّاح؟ عبد الرحمن؟ لعنةٌ تسير على قدمين؟ أم لعبةٌ استهوتِ القدر؟ "

لم تطل حيرتي كثيراً فما أن طويتُ الرقعة ودسستها في طيّات ثيابي ورفعتُ رأسي أبحث عن علامة تدلّني على مولاتي، حتى التقتْ عيناي بعينيّ الجاريةِ الخضراوين. تطلعتْ إلي بعينين واثقتين من إحكام الفخّ، وحينما تطلعتُ إليهما مستفسراً بنظراتٍ حائرة عما ينبغي عليّ فعله، أشارتِ الجارية إلي بحركةٍ من رأسها وسارتْ بخطواتٍ وئيدة، متلفتةً نحوي كي تتأكدَ من متانةِ حبل انقيادي. وما أن ابتعدتْ بضعَ خطوات، حتى وجدتُني منقاداً أتبعها نحو المجهولِ بخطواتٍ سريعة همّها الوصول إلى نهاية الأثر.

صالةٌ واسعةٌ يتوسطها سريرٌ ملكيّ باذخُ الإغواء، بشرشفهِ الحريري ووسائده الصغيرة، تحيطهُ ناموسية من حريرٍ شفافٍ شُرّعَ بابُها لاستقبالِ الزائرِ المنتظرِ والحبيبِ الذي سيكسر بعنفوانهِ جناحَ العنقاء، ويغسلُ نارَ شهوتها. شموعٌ طويلة تضيء الصالة ورائحة بخور أو كافور تملأ الأنفاس. تقدمتُ بحذرٍ وعيناي تجوسان المكانَ، تتوجسان شرّاً يختفي تحت شرشفٍ أو أريكة، متحفزاً لانقضاضِ (مسرور) عليّ من الخلف، ليحزّ هذه العنق الرهيفة التي أُتلعتْ بإرادةِ صاحبها، أو لحفرةٍ مموهةٍ تحت هذه الكاشانية بألوانها الفاقعة، أُعدّتْ لهذا الجسد الآبق. سيفُ مَنْ هذا المعلّق يسيلُ منه الدمُ خطوطاً متوازيةً على الجدار؟ سيفُ أمير المؤمنين المدافع عن حياض المسلمين وثغور بلادهم؟ أم سيفُ السيّافِ مسرور المسلّط على رقابِ الزنادقة والخوارج والطامعين؟ أم هو الوهمُ الذي تجسّدَ لي سيفاً ونطعاً بانتظارِ الغافلِ القادمِ إلى حتفهِ بمحض إرادته؟. سرتُ بضعَ خطواتٍ متردداً وأنا أتلفّتُ حولي، حتى توقفتُ في منتصفِ الصالة، وإذا بالجواري نهضنَ، شعوراً منثورةً على الأكتافِ وقدوداً رشيقة تتمايل بغنجٍ وقد مررنَ قربي متجهاتٍ نحو الباب، متطلعاتٍ إلي كأنهنّ يقرأن شهوةَ سيدتهنّ على كل شبرٍ من قامتي، وربما كانت نظراتُ إشفاقٍ على هذا اليعسوبِ الأرعنِ الذي نذرَ حياته لبضع لحظاتٍ يقضيها في أحضان مليكتهِ الفاجرة. كانت السيدةُ تجلسُ أمامَ مرآةٍ كبيرةٍ ناصعةٍ وهي تمشطُ شعرها الطويل بافتعالٍ شهواني واضحٍ، تتطلعُ إلى صورة هذا الجبروتِ الخائف، إلى قامةِ الثلجِ التي أحرقتْ قلوبَ عذارى ومحصنات، وها هي الآن تنهارُ أمام عصفِ رغبتها المجنونة. خرجتْ آخرُ جاريةٍ، وغلّقتِ الأبواب خلفها. الصالةُ خاليةٌ إلا من جسدين يرتعشان شهوةً ورهبة. نهضتْ السيدةُ وهي ترمي شلالَ شعرها الأسودِ الطويلِ على ظهرها وكتفيها العاريتين بحركةِ أنثى تجيد اللعبة. تقدمتْ نحوي بخطواتٍ بطيئة تفتعل الثقةَ والجبروت. دنتْ مني ثم توقفتْ وهي تحدقُ بعينين يتطاير منهما شررُ الرغبةِ، حتى تقاطع خطّا الأنفاسِ، وأسكرتني رائحةُ المسكِ المتضوعة من جسدها.

" لاتَ حينَ تردد. "

رددتُ مع نفسي كي أطردَ باليأسِ خوفي وأتقدمُ نحو مصيري بإرادةٍ حرةٍ تليقُ بفارسٍ شهمٍ وعاشقٍ شجاع. أحنيتُ رأسي احتراماً، فلاحتْ على شفتيها ابتسامة يسهلُ على رجل مثلي، ضليعٍ بشؤونِ الحب ورغباتِ النساء تأويلَ الرغبةِ فيها. أخذتُ يدها فاستسلمتْ كفّها بكفي. طبعتُ قبلةً على باطنها وأنا أتطلعُ إلى عينيها بنظراتِ عشقٍ جريئةٍ وفحولةٍ، لم يبقَ أمامها سوى إكمال الطريق. وقبلَ أنْ أحررَ كفّها من أسرِ كفي، تشبثتْ هي بها ثم سارتْ أمامي، فاعتصرتُ كفها بما بقيَ لي من قوة. كان لمعصمها المستكينِ ارتخاءُ مخملٍ، مَنْ يدري ربما سيستحيلُ إذا دعته ضرورةُ الإفلاتِ أو الغدرِ ثعباناً. سارتْ أمامي لاويةً عنقها بحركةٍ سريعةٍ فانتثرَ شعرها حتى لامستْ أطرافه وجهي، وراحتْ تسحبني نحو السريرِ بثقةٍ، محركةً ردفيها بحركةٍ صارخةِ الأنوثة، وقد لاح لباسها الداخلي الأصفر محشوراً في الشقّ، يشفّ من ثوبها الأسود الحريري. وبصمتٍ بليغٍ أجلستني على حافة السرير، ووقفتْ أمامي ويداها تحطان بهدوء على كتفي. تحركتْ يداي ببطءٍ وأنا أتطلعُ في عينيها بنظراتِ طفل خائفٍ، وأحاطتا خصرها متحركتين بانزلاقٍ على ساتان جسدها الناعم. وحينما اطمأنتْ إلى طاعتي وانقيادي، جلستْ بين ساقيّ وهي تتطلعُ إلي بعينين، يسيل منهما هياجٌ شبقي متمرد، فلاحَ أمامي نهدان عاريان مندفعان نحو الأعلى ببشرةٍ بضّة ناعمة وشقرة زغبٍ ناعم، يفوحُ من بينهما عطر مُسكر، فأغمضتُ عيني انتشاءً وهياجاً مكبوتاً. اقتربتْ يدي منهما بحركةٍ لا إرادية، غير أني لجمتُ نزقَ نفسي، مؤجلاً اقتطاف الثمرتين إلى حين نضوجِ الرغبةِ فيهما فتتساقطان من غصنيهما إلى فمي ناضجتين، يسيلُ عسلهما على لساني المتخشب. مدتْ يدها إلى تحت السرير ساحبةً طستاً صغيراً مليئاً بماءِ الورد، وراحتْ تخلعُ نعليّ بيدين مرتعشتين. حاولتُ أن أعترضَ باحترامٍ ماسكاً ذراعيها من المرفقين، غير أنها تطلعتْ إلي بعينٍ ناهرة فاستسلمتُ لرغبتها، ورحتُ أمسدُ شعرها وكتفيها وهي تغسل قدميّ بماء الورد. مددتُ يدي تحت أذنيها فأتلعت جيدها كزرافةٍ منتشية. راحتْ  كفاي تنزلقان ببطءٍ على مرمرِ عنقها وهي مُسبلة الجفنين ويداها ترتفعُ بحياءٍ نحو ساقيّ، وكأن ماءَ الورد نار تصعدُ من قدميّ إلى رأسي. نسيتُ خوفي وخجلي فقرّبتُ رأسي نحوها ببطء، وبحركةٍ بطيئة رفعتُ رأسها نحوي، ثم طبعتُ قبلةً ساخنة على شفتيها، حاشراً شفتها السفلى بين شفتيّ، محركاً لساني في جوفِ فمها، فشعرتُ بأنفاسها ساخنة وهي تصطدم بصفحةِ وجهي. سحبتْ شفتها ببطء من بين شفتيّ، وهي تتلمظ برضابِ القبلة، لاحسةً شفتيها بنشوةٍ واسترخاء . تطلعتْ إلى عينيّ بجفنين مسبلين على كحلهما كأنها تحيكُ برمشيها شبكةً لاصطياد الحلم. وحينما حاولتُ أن أرفعها من كتفيها نحوي صدّتني. شعرتُ بأنها تريدُ أن تقولَ شيئا، فتطلعتُ إليها بنظراتِ استدراج وإصغاء طفلٍ مطيع. رفعتْ رأسها نحوي. تعثرتِ الكلمةُ الأولى في حلقها فتوقفتْ، محاولةً افتعال سعال كي تعيدَ الثقة إلى نفسها، ثم قالتْ:

" وضّاح.. "

فأجبتُها على الفور:

" أجلْ يا مولاتي. "

توقفتْ قليلاً ثم قالتْ بثقة:

" لا تخاطبني بذلك! "

وحينما رأتِ الدهشةَ والاستفسارَ في عينيّ قالتْ:

"أتوسلُ إليكَ أن تدعوني بجاريتي، فأنا جاريتكَ المطيعة بمحض إرادتي."

حاولتُ أن اعترض إلا أنها أوقفتني بحركةٍ من يدها. وقبل أن أنطقَ بكلمةٍ، قالتْ وهي تنظر في عينيّ كأنها تريدُ اقتناصَ فكرةٍ زائغة أو نظرةً تتعلق بها:

"أحبكَ أن تكون سيدي."

تطلعتُ إليها بجدّ لعلّي اكتشفَ سرّ هذه المرأة وسرّ ولهها بي. أصغيتُ إليها متحفزاً لتأويلِ أية كلمة تنطقها، شاحذاً خبرتي وفراستي لمعرفة ما لن تقوله، فاستأنفتْ كلامها بعد أن تنحنحتْ عدة مراتٍ كي تزيلَ شيئاً يقف ما بين الفكرة واللسان:

"أحبكَ لأنكَ سيدي.. لكونكَ أعلى شيء ارتقتْ إليه نفسي.. وما عاد يهمّني أن الكون وسعَ رحمةً أم شقاءً.. فلقد وسعتني رحمتكَ.. أحبكَ.. لأن لحنانك أبواباً تصلني بكَ.. ولأني مخلوقةٌ من شهوةٍ وجنون.. طريدةُ سمائكَ وبحركَ.. فبأي السفن أحملُ صباحاتِ شهوتي إليك؟.. أحبكَ.. فانتشلني من أرضٍ عقمتْ أن تنجبَ غيركَ.. انتشلني وانزلني ناحية قلبكَ.. تجدني أحوّل دمك خمرةً يفنى العشاق في طلبها .. أحبكَ... "

تطلعتُ إليها بذهولٍ مردداً ببلاهةٍ وشفتاي ترتجفان:

" أحبكِ يا.. "

فقاطعتني بإصرارٍ وهي تردد:

"أمَتكَ. "

رفعتُها من كتفيها فنهضتْ، وقد أحطتُ خصرها بذراعي دافناً وجهي بين نهديها. جلستْ جنبي على حافةِ السرير ومدتْ لي شفتيها فالتهمتهما بنهمِ مَنْ لم يذقْ قبلةً من قبل، وراحتْ أصابعي تفكّ أزرار ثوبها. اندلقَ نهداها فتلقفتُ أحدهما بفمي معتصراً الآخر بقبضتي، ويداها تضغط رأسي على صدرها، مُطلقةً زفراتٍ ساخنةً حتى رمينا آخر قطعة من ثيابنا. أشرقَ جسدها بلهبِ الشهوة، وشرقتُ بلعابِ ذهولي. التصقتُ بجسدها أكثر حتى لامستْ حلمتاها صدري فشهقتْ بشهوةٍ مجنونة. احتضنتُها محاولاً دفعها للارتماء على السرير غير أنها أوقفتني، فقرأتُ في عينيها رغبةً في البوح. توقفتُ مصغياً إليها. تطلعتْ إلي والنشوة تبرقُ في عينيها وجفناها يخذلانها فتقاوم إغماضهما:

"جسدي لا ينفكّ ينشدُ عبوديته لك.. جسدي ما عشقَ فكرةَ رجلٍ.. ولا توسدتهُ شهوةٌ جارفةٌ لرجلٍ كالتي لي فيك.. فكرتُ بأجسادٍ رجالٍ وغلمانٍ كهيئة مثالٍ لكني ما فكرتُ بوجودهم.. لكنكَ لأنت أصبحتَ هوسي.. هل تعرف ماذا تعني كلمةُ هوس؟.. أفكرُ في لحظةِ أن تلمسني يداك.. يا الله.. أفكر في لحظةِ أن تتقرآني بلمسةِ أصابعك.. هل ستتحول آيةً أتلوها؟ هل سأصير عنقاءَ تدخلُ نار جحيمكَ فتخرجُ من غير سوء؟. "

توقفتْ قليلاً وصدرها يصعدُ ويهبطُ بحركةٍ سريعةٍ، ثم واصلتْ حديثها المتلعثمَ وهو يخرجُ من مغاورَ عميقةٍ، وبلسان منعقد وشفتين مرتعشتين:

"عينٌ لا تتسعُ حدقتها إلا بكَ.. أنفٌ لا يحتملُ رائحة غيركَ.. شفاهٌ لا تنطق قُبلاتٍ إلا لحرفكَ.. وخدّ يتعفرُ على ترابِ خطوتك.. نهدان يتورمان لأنكَ طفتَ خاطراً.. ساقان تكرهان الأرضَ وتختصمان لأنهما ليستا بأرض سعيكَ.. كهفٌ يغورُ بمائهِ ويهدرُ صارخاً بكلّ غيماته أن تبرقَ للحظةٍ تصطفيها أنتَ.. أنتَ.. أنتَ سيّد هذا الجسد. "

امتدتْ يدُها ببطءٍ إلى ساقيّ، ملامسة أطراف شعرهما الذي توقف كأشواك قنفذٍ، فاستسلمتُ لخدرٍ يتصاعد في جسدي. تطلعتْ إلي بجرأة ويدها تصعدُ نحو الأعلى، تقتربُ من صاريةِ سفينةِ إبحاري التي نُشر شراعها بوجهِ الريح، تأهباً للإبحار إلى جزيرةِ اللذة. امتدتْ يدي ما بين فخذيها فاطبقتهما ممانعةً بحياء أو رغبة أنثوية بالمماطلة والصدّ، حتى تنفدَ قدرةُ الفحل الهائجِ على المغازلة، فتحظى أخيراً باغتصابٍ بالغِ اللذة، لكنها سرعان ما استسلمتْ أمام إصراري فأفرجتْ ساقيها، حتى لامستْ كفّي كهفها الهادرَ، فندّتْ صرخةٌ منها، وامتدتْ كفها متشبثةً بشراعِ مركبي الواثقِ من قدرته على معاندةِ الريح وما يضمرُ النوء من تقلباتٍ، محتضنة إياه بأصابعها الناعمة. ومن بين طيّات صراخ الشهوة كانتْ تخرج كلماتٌ محترقة، تنطقها وهي ترتعش جاذةً على نواجذها كي توقف ارتعاش فكيها:

"جسدي.. ذئبٌ.. يعوي.. شاهقٌ.. بولعه.. وروحي.. ترتعبُ.. حين.. تفيقُ.. على.. حجمِ.. شهوتها.. بكَ.. خذْ.. جسدي.. عمّدهُ.. بجنونكَ.. بعسلِ شهوتكَ.. لصوتكَ.. خدرٌ.. في.. أوردتي.. في.. روحي.. سيدي.. عزيزةً.. أتذللُ إليكَ.. بإرادتي.. أقدّم إليكَ.. طاعتي.. وعبوديتي.. أقدمُ إليكَ.. امتناني.. عشقاً.. ولهاً.. أحبكَ.. أشتهيكَ.. أشتهيكَ بجنون.. أنتَ.. سيّد.. هذا الجسد.. خذْه.. امتلكه... "

توقفتْ عن الكلام وجسدها يهتز كسعفةٍ أمام رياحٍ مجنونة، وهي تنظر بهوسٍ إلى قضيبي المنتعظ في كفّها وقد سالتْ قطراتٌ منه بين أصابعها. تطلعتْ في عينيّ، وبنظراتٍ صارمة وبإصرار، بنفادِ صبرٍ وتوسلٍ، قالتْ:

"نكني! نكْ كسي!"

شعرتُ بخجلٍ لسماعِ الكلمة، فأدركتْ ذلك فهزّتني بقوةٍ وهي تردد:

"زوّجتكَ نفسي بعقدٍ طاهرٍ.. وجعلتكَ سيدي.. لا ذلّةً.. بل ولعاً.. وأنتَ ملكتني. "

توقفتُ ساهماً وأنا أتطلعُ إليها وهي تنهارُ راكعةً أمامي، تقبّلُ قدميّ وتصرخ بجنون:

"نكني! نكْ جاريتكَ المطيعة! نكْ عاهرتكَ! اركبْ مهرتكَ! اجلدني بسوطكَ يا سيدي! أشتهيكَ.. أشتهي أيركَ يمزق جسدي.. نكْ خادمتك! "

انتعظ الجنونُ كله في جسدي، فنهضتُ متحفزاً لافتراسها. وقفتُ خلفها دافعاً جسدها إلى السرير فألقتْ رأسها باستسلامٍ، فاردة ذراعيها في فضاء السرير. مسكتُها من خصرها غارزاً أصابعي في ردفيها المكتنزين. قربتهُ قليلاً من بابِ كهفها الغارقِ بطوفانِ ناره، ثم أولجتهُ قليلاً فشهقتْ وهي ترددُ بتوسلٍ وجنون:

"نكْني.. نكني يا مولاي.. نكني بعنف.. "

تشبثتُ بخصرها بكلتا يدي ساحباً جسدها نحوي بعنفٍ، حتى التصق ردفاها بجسدي وغاب الدلو كله في بئرها المترعة.

صوتُ ملاكٍ مخمور:

" وضّاحُ، اعرضْ عن هذا! "

صوتُ الشيطان:

" حفرةٌ في الفضاءِ

  هو العشقُ

  أو في السريرْ

  قفصٌ للجهاتِ

  فإن طرتَ

  أو غرتَ

  كنتَ الأسيرْ "

صوت الراوي:

" الفتى

  يدخلُ في الحلمِ لكي يصهرَ روحَه

  ويرى في الأزرقِ الورديّ ما كان له

  معشقُ البوذيّ

  والومضُ الذي

  عبرَ النايَ

  لكي يلقى طموحَه

  في رفاتِ النارِ

  أو في الغصنِِ

  ما كان لهُ

  من حماقاتٍ

  ورقصٍ

  فوق ثلجِ الهاوية. "

وقال:

" كرصاصٍ صدئٍ

  ملّ من الترحالِ بين العفنِ المزهرِ بالموتِ

  الفتى

  توّجَ بالنار جموحَه. "

وقال أيضاً:

" لم يكن يدخلُ في الموقدِ كي يدفأَ

  لكنّ نزوحَه

  مغلقٌ

  كالغصنِ منبتّاً

  يرى في النارِ دوحه. "

صوت شاهد عيان:

" الفتى

  في الوهلةِ الأولى

  رأى،

  شمَّ،

  ذاق،َ

  استرقَ السمعَ،

  أزيزٌ خافتٌ

  يعلو

  تضيقُ اللغةُ الأولى

  فينسى

  الفتى البوذيّ بوحَه. "

(جوقة ندّابات)

" الفتى

  في النارِ يصطادُ الملوحَه. "

 (جوقة ندّابات ثانية)

" الفتى (وضّاحُ)

  لم يلقَ وضوحَه. "

(جوقة أطفال)

" أمّ البنين في الطوافْ

  تبحثُ عن شاعرها المليحْ

  تهديهِ شرخاً في جدارٍ

  كي يكونَ له ضريحْ. "

فضاءُ التابوتِ يضيقُ فيختنقُ الهواء. الموتُ يدنو مني، حتى يغدو قابَ قوسين أو أدنى. أصواتُ منكر ونكير والملائكة والشيطان والراوي وجوقة الندابات تخترق مسامعي. الغيرةُ تنهش جسدي وأنا أسمعُ شفاه الحبيبة وهي تمطّقُ متلذذة بالقبلاتِ التي تمطرها شفتا الديوث أميرِ المؤمنين وهما جالسان على التابوت. غيرة؟ أم رغبة بالانتقام تستعر في هذا الجسد؟. جثتي لبوةٌ تختبئ خلفَ أدغال، أسمعُ حركاتها وهي تستعد للنطّ عليّ فأضحك في سرّي، وأفكاري ضباعٌ تحيطُ بي من كلّ جهة تنهشني، فأهربُ.. أهربُ.. وحينما لم أجدْ مهرباً، وتخورُ قوايَ.. أكابرُ واستعدّ للمواجهةِ، ولكني استسلمُ.. استسلمُ دون مقاومةٍ، وعزائي أن لا غالبَ في الحياة ولا مغلوب، وكلّ مَنْ على هذه الأرضِ رقصَ يوماً حول ناره مبتّلاً بظلامِ روحهِ، ثم غدا حكمةً سوداء يجترّها القادمُ الذي سيرقصُ حول ناره.

أسمعُ مراثيَ نفسي، وصوتاً قادماً من قرونٍ قادمة يصرخ بي:

" وضّاحْ

هل ترتقي سلالمَ الصبوةِ؟

أمْ

تهبطُ نحو شرفةِ الحدْسِ؟

تحلبُ ضرعَ الأرضْ

وتملأ الدلاءَ بالمسِّ. "

الطائرُ الأسودُ لايزال يخيمُ على الفضاءِ، وأنا مازلتُ أسيرُ وحدي في الدهليزِ الذي أشرف على نهايته. الضوءُ يقتربُ وأنا أسيرُ نحوه، تدفعني قوةٌ مجهولة، دونما قدمين بل دونما جسد. المتسابقُ الأخيرُ يقتربُ من خيط النهاية. أترددُ، أحاولُ أن أتوقفَ، حتى لو في هذا الظلام المرعب، لكنّ قوةً خارجية كانتْ تركلني، تدفعني نحو البياضِ المجهول. تقولُ أمي إن البقعةَ الزرقاء في أسفلِ ظهرِ الطفلِ هي من أثر ركلةِ الإمام علي عليه السلام، حينما تدعوه الأم في مخاضها، فيحضرُ ليعينها على آلامِ الطلقِ ويركلُ بقدمهِ الكريمةِ الجنينَ ليندفعَ خارجاً من ظلامِ الرحم نحو بياض الحياة. ها أنذا أشعرُ بالقدم ذاتها وهي تركلُ ظهري، تدفعني نحو بياضٍ أجهله.

" لا يا أبا الحسن اتركني أسبح في الظلام. "

" اتركني. "

" أريد موتاً مقنعاً. "

" ليكنْ موتاً جميلاً. "

" شبعتُ ركلاً. "

" انظرْ إلى جسدي ترَ آثار السياطِ والركلات. "

" .............. "

" لا "

صرخَ بي هاتفٌ، ناهراً إياي من التمادي بالإذلال. وكأني استيقظُ من غفلتي. أُنيرَ شيء في بقايا وجودي. انتفضتْ إرادتي واتسعتْ أناي، وكنتُ قد شارفتُ على خط الأفقِ الفاصل ما بين العتمة والبياض، ما بين الدهليز والوادي.

فجأة أنيرتِ الآفاقُ حولي.

" صحوة الموت إذن. "

" لا بأس، سأسيرُ إلى نهايتي بحريتي، دونما ركلةٍ من أحدٍ فقد ولدتُ بركلةٍ وعشتُ حياةً كاملة بين الأقدام. ركلني الأبُ والأخُ والصديقُ والعدو والمرأةُ والحاكمُ والمعلمُ ورجلُ الدين ورجلُ الأمن والورعُ والسافلُ وكلّ من له قدمان جربهما على عجيزتي الضاوية ".

" هذهِ فرصتي الأخيرة لكي أصنعَ لي موتاً مقنعاً طالما أن لا موتَ يليق بي، يليق برجلٍ كرهَ الناسَ والحياةَ وبادلتْه الكره. "

" أتذكر في أقسى لحظات اشتداد جنونكَ الشبقي كنتَ ترفضُ الذهابَ إلى المواخيرِ كما كان يفعل غيركَ، وكنتَ تحتقر العاهرات؟ "

" هذه هي الحياة، عاهرة، لا تستحقُ منكَ أن تتشبثَ بأذيالها، احتقرْها! وكنْ كما أنتَ! "

تقدمتُ نحو نهايتي بجرأةٍ وثبات. وقفتُ عند الأفقِ الفاصلِ ما بين السوادِ والبياض. التفتُّ قليلاً نحو عمقِ الدهليز. كانتْ بي رغبةٌ أن أبصقَ على وجه الظلام الذي صاحبني منذ خروجي من رحم أمي، بل منذ تشكلي الأول. ظلامٌ أنى اتجهتُ، ظلامٌ في الخارجِ وظلام في الداخل، ظلامٌ يفقس خفافيشَ تحلّق في الظلام.

خطوةٌ.. خطوتان.. وثالثة في البياض. بياضٌ شفافٌ كغيمةٍ شفافة . هبوطٌ حرّ كالريشةِ التي رأيتُها تهبطُ من أعلى الفضاء. ها أنا بلا جسدٍ أعومُ في بياض. كفني يتسعُ حتى يصبحَ هو عالمي الواسع اللامحدود، وأنا أهبطُ.. أهبطُ نحو العالم السفلي أو أحلّقُ.. أحلّقُ نحو العالم العلوي. لا فرق.. فقد انتفتْ الجهات، ولم يعدْ للإشارةِ معنى.

أخيراً تنزهتُ عن الجسد وأنا أغرقُ حدّ الانغماس في الموجودات غير المرئية، وتنزهتُ عن الملائكةِ والشياطين وأنا أحلّق بالروح نحو المطلق المجهول. من أنا؟ كيف لي أن أفهم من أكون؟ لا شيء يقبضُ على ماهيتي. أنا حالةٌ حلّقت خارج مدار صيرورتها.. هبطتُ.. هبطتُ بلا زمنٍ أو سرعة، وحينما استقريتُ على اللاشيء شعرتُ باطمئنانٍ لم أشعرْ به في الحياة الدنيا.

" جنة أم جحيم؟ "

سؤالٌ يسأله أهلُ الأرضِ بغباءٍ وخوف. هنا الأشياء لها معنى آخر، هنا الأشياء بلا كتلةٍ ولا تشغل حيزاً.. فراغٌ تملؤه أفكارٌ عن الوجود، بل إن الوجود نفسه ليس إلا فكرة كالعدمِ تماماً أو كالفراغ. كلّ الموجودات تحولتْ إلى أفكار، أفكارٍ محايدة، والأكثر مدعاة للراحة والسكينة إن لا وجود هنا لفكرةِ الموت أو الحياة.

سابحٌ في البياض.

وحدي.

ولكن ....

قال الراوي:

{ حسب ما دوّنه أهلُ الأرض }

(شرعتْ إنانا بارتيادِ طريقِ الجحيم لتبعثَ في تموز الحياة لكي يعود إليها من جديد بتحميمهِ في الينبوعِ المقدس. سمحتْ لها اريشكيغال بالدخول وقالت لها:

ـ أنا أيضاً أندبُ الرجالَ الذين انفصلوا عن زوجاتهم وأندبُ النساءَ اللواتي انتزعن من أحضان أزواجهن.

وعلى الرغم من الشفقةِ التي عبّرتْ عنها هذه الكلمات، لم تستطع اريشكيغال إعفاء أختها من معاناةِ ذلّ العذاب إذ بات على إنانا أن تلجَ، عاريةً، العالم السفلي.

نضا الحارسُ عن الإلاهة ثيابها وجرّدها من حليها ونزعَ النقاب عن كاهلها. لكنّ جمال جسدها العاري أثارَ غيرةَ سيدةِ العالم السفلي اريشكيغال فأصدرتْ حكمها بسجن أختها إنانا في غرفةٍ من غرف قصرها ليذبلَ جمالُها وتذهبَ كلّ الأمراض الممكنة بحسنها وبهائها. أذعنتْ إنانا بدافعِ حبها لتموز راضيةً بجميع هذهِ الأوجاع والآلام.. بيدَ أنّ هذه المصائب لم تنزلْ بها وحدها، إذ توقفتْ كل مظاهر الحياة على الأرض فامتنعَ الإنسانُ والحيوانُ عن التزاوج والاقتران. ما من رجلٍ يطارد الفتياتِ والنساء يضطجعن وحيدات وكل الأفراح الجنسية انطفأتْ.

علمَ الآلهةُ بما يجري فأصابهم الروعُ والهلع من احتمالِ زوال البشرية. ترى من سيتقدم إليهم بالدعاء والعبادة إن وقعَ ذلك؟ ومن ذا الذي سيقدم لهم الأضحيات؟ فسارعوا إلى إصدار أوامرهم لإريشكيغال بإخلاء سبيل أختها، بيد أنّ إلاهة الأرض أبتْ أنْ تغادرَ العالمَ السفلي إلى عالمِ الأحياء إنْ لم يُبعث تموز من بين الأموات ويعود إليها حياً. وكان كما شاءتْ وما أن اتحد الزوجان الإلهيان حتى شرعتِ الأرضُ بالتفتحِ والإزهرار واستعاد الإنسان والحيوان لذةَ التزاوج والجماع واستدركوا باندفاعٍ لا يكلّ ولا يملّ كلّ ألوان الضم والاحتضان التي كانوا قد حُرموا منها حتى ذلك الحين.)

استيقظتُ مرعوبا، وأول فكرةٍ خطرتْ في ذهني هو أني استيقظُ من موتي الطويلِ استعداداً ليوم الحساب، لكني لم أسمعْ نفيرَ إسرافيل ولم أشعرْ بهولِ النشور. لم أسمعْ شيئاً سوى صمتٍ عميقٍ وصوت أنفاسي. فجأةً شعرتُ بحركةٍ حذرة تتسللُ إلى المكان وهمسٍ قربَ سريري. حاولتُ أن أفتح جفنيّ غير أن ضوء الغرفة كان شديداً فأطبقتهما ثانيةً. عاد الظلامُ يغطي كلّ شيء فكأني مازلتُ أسيرُ في عتمةِ الدهليز، غير أنّ هذا الشعورَ تبددَ حينما شعرتُ بالألمِ الشديد في صدري وغثيانٍ يخنقني. تلمستُ يقظتي من تأثيرِ البنج بعد أن حاولتُ رفعَ ذراعي اليسرى فاصطدمتْ بحاملِ المصل. حاولتُ أن أرفعَ رأسي قليلاً، إلا أن كفّاً ناعمةً أعادتْ رأسي على المخدة وقد أطبقتْ بحنوٍ على جبهتي. أخبرتُ الممرضة بالألم فطمأنتني بأنه سيزول حالاً بعد أن تزرقني بمسكنٍ. وفعلاً وبعد بضع ثوانٍ استطعتُ أن أفتح عيني فرأيتُ وجهَ عشتار بابتسامتهِ الحانية يلوحُ من خللِ ضبابٍ أبيض، راحَ ينقشعُ شيئاً فشيئاً كلما اتسعتْ رؤيتي، حتى بدا كبدرٍ ناصعٍ يضيء سماء الغرفة. كانتْ تقفُ إلى الجانبِ الأيمنِ من السرير، وتتطلعُ إليّ بفضول وترقب. انحنتْ على جسدي المسجى حتى كادَ صدرها يلامسُ صدري. قرّبتْ وجهها مني فلامستْ خصلةٌ من شعرها الأشقر وجهي. أغمضتُ عينيّ بانتشاءٍ مغموراً بفيضِ أنفاسها الدافئة، وتلمظتْ شفتايَ اليابستان بوهمِ قبلةٍ ستطبعها بشوقٍ شفتا حبيبتي ومنقذتي من عالم الأموات.

همستْ في أذني:

(من أجلي، من أجلِ فرجي

  من أجلِ الرابية المكوّمة عالياً،

  لي، أنا العذراء، فمنْ يحرثه لي؟

  فرجي، الأرض المروّية، من أجلي

  لي، أنا الملكة، من يضعُ الثورَ هناك؟)

فهمستُ لها بصوتٍ متقطع:

(أيتها الملكةُ العظيمة، الكتّانُ المصقولُ الفاخر،

  عشتار، الكتان المصقول الفاخر)

اقتربتِ الطبيبةُ مني محذرةٍ إيّاي من الكلام وهي تضع يدها بحذرٍ على صدري المغطى بقطعِ الشاش، ممسدةً شعرَ رأسي بيدها الأخرى. تطلعتُ في عينيها الصافيتين فرأيتُ في اخضرارهما عشبَ الأرض وازهرارها. رأيتُ رحلتي في ظلامِ الدهليز وغرقي في البياض. رأيت قيامتي وبعثي.

دفعَ عاملُ المستشفى سريري خارجاً بي من غرفة العمليات تودّعني ابتسامةُ الطبيبة ونظراتُ الممرضات المشفقة، مجتازاً ممرات المستشفى المتشابكة بملابسي البيضاء، كأني عريس أزفُ على عرشٍ تحمله الملائكة. كنتُ أنظرُ إلى السقفِ كأنه سماء صافيةٌ، وأنا أصعد في معراجِ نشوتي فرحاً بنجاح العملية، وكان صوتُ عشتار يرنّ في أذني بموسيقاه العذبة:

(تعال يا جلجامش وكنْ عريسي

  هبْني ثمارَك هديةً

  كنْ زوجاً لي وأنا زوجاً لك

  سآمر لكَ بعربةٍ من لازوردٍ وذهب.)

أوقفَ عاملُ المستشفى السريرَ المتحركَ في ركنِ الصالةِ الصغيرةِ عند نافذةٍ كبيرة تطلّ على حديقةٍ واسعة، ثم انحنى عليّ ماسكاً كتفيَّ بقبضتيه القويتين، مهنئاً إيّاي على سلامتي ونجاح العملية ثم غادرَ الغرفة بخطواتٍ خفيفة.

غرفةٌ كبيرة أو صالةٌ صغيرة تضم ستة أسرّةٍ، يرقد على أربعةٍ منها شيوخٌ بوجوهٍ شاحبةٍ، كأنهم عائدون من رحلةِ موتٍ طويلة، أما السرير المقابل لسريري فقد كان فارغاً، ربما كان بالأمسِ يشغله شيخٌ غادر إلى العالم الأسفل ولم يجد عشتاراً تنقذه، أو ربما هو بانتظارِ قادمٍ سيشغله مؤقتاً قبل العبور إلى الضفة الأخرى.

تطلعتُ إلى الحديقة فرأيتُ الأرضَ تحتفلُ بقيامةِ ربيعها حيث كان الوقت منتصف شهر نيسان، والبراعم بدأتْ تتفتقُ بحركةٍ ملحوظة عن ورقاتٍ صافية الخضرة، وانتشرتْ على ثيّلِ الحديقة أزهارٌ بيضٌ وصفرٌ صغيرة. رحتُ أتابعُ بشوقٍ، وعينايَ تحاولان جمْعَ المشهدِ كله في نقطة واحدة، أيةَ حركةٍ في الخارجِ من سقوطِ قطرة مطرٍ عن ورقةٍ صغيرة حتى حركةِ غزالة راكضة في مرجٍ أخضر، أراها تعبرُ لوحةَ الأفق، أو شراع من نورٍ يقاومُ عتمةَ بحرٍ هائج، وأصغي بعمقٍ إلى صمتي وإلى موسيقى قادمة من أقاصٍ قريبةٍ، يحملها حفيفُ جناحِ عصفورٍ، يحاولُ الوقوفَ على غصنٍ طريّ، فيخفقُ قلبي الخارجُ من مرحلةِ الإنعاش مع حركةِ جناحيه وهو يتشبثُ بالغصن. شعرتُ ببهجةٍ نادرةٍ كأني أولدُ من جديد، فرحتُ أعيدُ شريطَ حياتي، وكأني أرممُ الابتساماتِ التي خذلها الفرحُ أو الحبّ يوماً، حتى غفوتُ .

في اليوم التالي زارتني الطبيبةُ إستا. وقفتْ عند قدميّ وهي تطلّ على قامتي الممتدة على السرير. حدّقتْ في عينيّ فارتعشتْ أوراقُ روحي الخضراء بنسيمِ صباحٍ داعبها بحنوٍ. لمحتُ في عينيها سرّاً يتململُ وكلاماً يتعثر بين عنقها والشفتين فترتعشان دونما صوت. اقتربتْ مني فحاولتُ النهوض احتراماً أو عرفاناً بالجميل أو ربما حبّاً، إلا أنها أسرعتْ نحوي واضعةً يدها على صدري برفقٍ، محذرةً إيّاي من الحركةِ العنيفة بلغةِ أمرٍ لا تخلو من ودّ أو شفقة. وضعتْ السمّاعة على موضعِ القلب ماسكةً رسغي لتقيسَ النبضَ وهي تتطلع إلي بعينين جريئتين. امتدتْ أصابعُ كفّي نحو كفها بحركةٍ خجولة، فأطبقتْ جفنيها وسرتْ حركةُ النبض واضحةً في وريد عنقها البضّ، بالعةً ريقها بصعوبةٍ، محركة لسانها بين شفتيها بحركة دائرية، لكنها سرعان ما تداركتْ الأمرَ فسحبتْ يدها وتطلعتْ إلي بجدّ وبنظرةِ تأنيبٍ مفتعلة، هازة رأسها بحركة توحي بالثقة. سحبتْ كرسياً صغيراً وجلستْ إلى يميني صامتة، وهي تبحث عن مفرداتٍ مُبّسطة كي توصلَ لي فكرة ما، فبادرتها بسؤالٍ حاولتُ أن أصيغه بلغةٍ دنماركية عالية:

" هل أستطيع الآن القولَ بأني قد تخطيتُ مرحلةَ الخطر؟ "

" نعم. "

أجابتْ، وقد ظهرَ على وجهها زهو وفرحُ مَنْ تخلصَ من مأزقِ اللغة، فقد أدركتْ أنني أجيد اللغة الدنماركية. أنزلتْ يديها التي كانتْ تشير بهما بحركاتٍ توضيحية لتوصيلِ الفكرة وراحتْ تتحدثُ معي بندّيةٍ وبطلاقةٍ طبيعية، مُطمئنةً إيّاي بثقةٍ بأني قد تخطيتُ مرحلةَ الخطر، وستتحسن صحتي كثيراً في الأيام القليلة القادمة. توقفتْ قليلاً ثم قالتْ كأنها تبوح لي بسرّ أو تخبرني بأمرٍ سارّ:

" أتعلم.. أن قلبكَ قد توقفَ أثناء العملية لبضع دقائق.. وقد استعملنا الصفائح الكهربائية مراتٍ عدة لإنعاشه؟ "

توقفتْ وهي تحدقُ في عينيّ لتعرفَ ردةَ فعلي وهي تخبرني بموتي وبعثي، غير أنها فوجئتْ وارتسمَ على وجهها قلق واستغراب، حينما أخبرتُها بثقةٍ:

" أعرفُ. "

ثم أردفتُ بثقةٍ أكبر:

" شعرتُ بذلك. "

تطلعتْ بشفقةٍ إلى هذا الغريبِ المجنون الذي لا يكفّ عن ثرثرتهِ. تحركتْ يداها حركاتٍ قلقة توحي بالارتباك. حاولتْ تغييرَ الموضوعِ فتطلعتُ إليها بصرامةٍ زادتْ من ارتباكها، ثم رحتُ أقصّ عليها رحلتي في ظلامِ الدهليز وسباحتي في الفضاء الأبيض. وحينما وجدتُها مصغيةً إليّ باهتمام، أضفتُ ببراعةِ الساردِ المتمرسِ حكايةَ الريشةِ البيضاء ونزولها من أقصى الفضاء إلى أعماق الأرض والطائر الذي غطى الفضاء. ظهرتْ على وجهها علاماتُ حيرةٍ، غير أنّ طريقة كلامي وثقتي لم تترك لها مجالاً للشكّ فاستسلمتْ ليقيني، بل كانتْ ملامحُ وجهها التي تتغير وفقاً لمسارِ الحكاية وانفعال الراوي، تغريني للاستفاضةِ بذكرِ التفاصيل الدقيقة، وكانت تصغي إلي بفضول. برقتْ في عينيها دموع توشك أن تقفز خارجَ عينيها، وارتفعَ صوتُ شهيقها متقطعاً. حاولتْ أن تبدي أمامي صلابة إلا أنها لم تفلح فقد كنتُ أسردُ عليها القصة بحبكةٍ وإتقانٍ لم أصدق أنا نفسي كيف كانتْ تخرجً الكلمات متراصةً لترسمَ مشاهدَ الرحلةِ فتكتملُ حكايةَ موتي وبعثي، حتى شعرتُ لانقيادها واستسلامها ليقيني بأنها أدركتْ بأني لم أكن في غيبوبةٍ أو في حالةِ هذيانٍ حينما كنت أردد اسم عشتار، فأنا قادم فعلاً من أسطورةٍ، أو أحمل في داخلي روحَ أسلافٍ من زمن غابر. أفلتتْ دمعتان من أسر رموشها وسالتا على خديها دون أن تشعر. امتدتْ يدها دون سابق رغبةٍ متشبثة بذراعي. شعرتُ ببللٍ يغطي راحة كفها، ضغطتُ كفّها بكفي فارتختْ حتى كأنها توشكُ أن تذوبَ بين أصابعي. تلفتتْ حولها بحذرٍ، وحينما اطمأنتْ إلى الشيوخ الأربعة وهم يغطون في موتهم، نهضتْ من الكرسي دون أن تسحبَ يديها وجلستْ على حافة سريري. سحبتُ يديها نحوي فمدتهما دون ممانعة. قرّبتُ كفّيها من شفتيّ ببطءٍ وهي تنظر إلي مستسلمةً والنبض في وريد عنقها البض يزداد وضوحاً. طبعتُ قبلةً على أطرافِ أصابعها وأنا أنظر إلى عينيها بجرأةٍ أربكتها. انحنتْ عليّ وهي تمطّ شفتيها مسبلةً جفنيها بانتشاءٍ، فخرجتْ مني كلمات دون وعي:

" عشتار.. حبيبتي. "

جفلتْ كأنها تستيقظُ من نومٍ عميق. سحبتْ كفيها وسألتني:

" ماذا قلت؟ "

فأجبتُها وأنا مغمض العينين:

" أيتها الملكة العظيمة، الكتان المصقول الفاخر

  عشتار، الكتان المصقول الفاخر. "

هبّتْ واقفةً بكبرياء كأنها تذكرتْ أمراً هاماً. تطلعتْ إلي بنظراتٍ مستفَزةً ثم غادرتِ الغرفةَ ويداها تعدلُ خصلاتِ شعرها وتتلمسُ أزرار صدريتها البيضاء كي تتأكدَ من إحكامها. ودون أن تلتفت نحوي غادرتْ الغرفة مسرعة.

ليلُ المستشفى غريبٌ، فهو يتسعُ لكلّ ما يأتي به الليل. فعلى الرغم من شعوري بأن صحتي بدأت تتحسنُ بشكلٍ واضح، وأنني أشعرُ بأمانٍ، حيث هنا العنايةُ فائقة وبإمكانهم تسكين الألم إنْ هو هاجمني بطرقٍ كثيرة، لكنّ ليلَ المستشفى غريب، ربما لأنه يتسعُ لكل ما يأتي به الليل. صمتٌ مخيف.. بياضٌ ينشرُ العتمةَ في النفس، ونزلاء يتحركون كأنهم دمى مشحونة ببطاريات توشك على النفاد. حينما تتطلع في وجهِ النزيل الذي يجلس على سريرهِ المقابل لسريركَ، ترى وجهاً شاحباً يحمل على أهدابه تراب القبر، يطلّ من المرآة، يذكّرك بأنك ماضٍ نحو نهايتك. الموتُ يطلّ من الجدران، من عيون النزلاء، من تحية الزائرين المفتعلة، من ابتساماتِ الممرضات الرخيصة وحركاتهن التي تمثّل الاهتمام الزائد كأنك محكوم بالإعدام في ليلته الأخيرة. لا فرق بين المستشفى والمقبرة سوى خطّ رفيعٍ فاصل بين عالمين ربما يستغرق عبوره دقائقَ أو ثوانيَ.

تطلعتُ من النافذة فلاحتْ لي المدينة بأضوائها الصاخبة كأنها عالمٌ مطمورٌ في الذاكرة، عالم ينامُ غافلاً عمّا يأتي به الليل. قبل مجيء الليل كان مزاجي رائقاً حتى أني نسيتُ الموتَ والغربةَ، ولم تعد ذكرياتي سوى سطورٍ في كتابٍ مهملٍ أقرأها بنشوةٍ وزهوِ الخارجِ من المأساةِ ببسالةِ مقاتل، حتى حسبتُ أنني بعد نجاح العملية قد ولدتُ من جديد وسأكون خالداً، حيث ما من موتٍ يليقُ بي أو يقنعني.

" ولكن الغربة.. كالجرحِ، يزولُ ألمُه لكن يبقى الأثر وشماً في الروح يذكّركَ بماضٍ ليس بمقدوركَ أن تغفل عنه أو تتناساه. "

قبل العملية سألتني إحدى الممرضات وهي تملأ الاستمارة الخاصة بي عن رقم تلفونٍ لقريبٍ أو صديق يمكن إخباره إن حدث لي مكروه. صفنتُ بوجهها مثل أبله، وقلتُ بصوت منكسرٍ يفتعل الشجاعة أو اللامبالاة:

" لا أعرف أحداً. "

تطلعتْ إلي بنظراتٍ أشدّ بلاهةٍ من نظراتي وهي تدعوني لأن أشحذ ذاكرتي عسى أن أجد فيها صديقاً يتحمل مسؤولية سماع خبرِ موتِ شخصٍ لا يعنيه أمره. هي لا يعنيها موتي أو جثتي بقدر ما يعنيها ملء فراغٍ في استمارة، فقد اعتادتْ بحكمِ وظيفتها أن تسجلَ أسماءَ أشخاصٍ يمكثون هنا ثم يرحلون، ولا يهمها الجهة التي يرحلون إليها. هي ورطة لها أن يبقى في الاستمارة حقلٌ صغير شاغراً، وهي لا تعرفُ بالتأكيد أنّ هذا لا يعني شيئاً في حياة رجلٍ جاء من الفراغِ وعاش في فراغٍ كحشرةٍ غريبةٍ محشورة في قنينة صغيرة على رفّ مختبر عالمِ أحياء. وحينما طال انتظارها ونظراتها المشفقة تعرّي حياتي المغطاة بألف حجاب أسود، أغمضتُ عيني مفتعلاً حالةَ التذكر، ثم انطلقتْ من فمي ثمانية أرقام واسم صديق مجهول. سجلتْهُ في الاستمارة ولاح في عينيها فرحٌ أعرفه، أعني سمعتُ عنه كثيراً من الأصدقاء عاشوا تجربة الحرب، فرحُ جندي قادمٍ من جبهةِ القتال بمأموريةِ تسليم جثة رفيقهِ القتيل إلى ذويه. ألقى الجنازة عند باب دارهم وانطلق هارباً لا يتجرأ على الالتفات .

" الوحدة. "

لا أحد يجيءُ سوى ما يجسده الوهمُ على النافذة، طيراً يأتي من آخر العصف يرى ذبالة فانوسي فيرخي حزنه أو خفاشاً لم يجد أنيساً سواي، بوماً لم تجد سوى خرائبي وأطلالي، صمتاً حائراً، أنيناً قادماً من أعماق سحيقة، طنينَ ذبابٍ يتراكم على جثةٍ منسية في الأرض الحرام، أو أزيز رصاصاتٍ تمرقُ من أعلى الرأس قليلاً، أو طائرةً حربية تخترقُ جدار الصوت، تدنو من النافذة، طيّارها الخائف لم يستطع اقتناص الهدفَ، عاد بحمولتهِ فلم يجدْ في طريقِ عودتهِ سوى قرية نائمةٍ بغفلة أهداها بسالةَ جبنهِ، انفجارات مدوية وصوت أذان يرفعه شيخ خائف أو نعسان.

استيقظتُ من سرحاني مردداً بألمٍ وحسرة:

" أيها الماضي، يا ابن الكلب.. لماذا تطاردني حتى لحظاتِ عمري الأخيرة؟ "

" لمَ الخوف؟ "

" الماضي ليس زماناً يا غافل. "

" حسناً، ها أني أقيم في الدنمارك. "

" أعني أنني أبعد آلاف الأميال عن موتي. "

" فلمَ الخوف؟ "

" الوحدة. "

" نمْ! "

ثلاثة أيام مرتْ، لم يزرني أحد سوى الطبيبة التي صارتْ تعاملني بجفاءٍ واضح لا أعرف له سبباً. تدخلُ صباحاً الغرفة. تقفُ إلى يمينِ سريري. تسألني بترفعٍ عن صحتي. تضعُ سمّاعةَ الفحصِ على موضع القلب. تهزّ رأسها ثم تغادر الغرفة.

في صباحِ اليوم الرابع زارني حميد. وقفَ عند قدميّ وهو يتطلعُ إليّ بوجههِ المتجهم وعينيه الزائغتين، تثيران الريبة. ودون أن ينطقَ بكلمةٍ سحبَ بحذرٍ كرسياً وجلس إلى يميني. افتعلتُ نوماً عميقاً بينما كنتُ أشعرُ بنظراتهِ تخترق جسدي، تغور في أحلامي. لم أستطعْ مقاومتها ففتحتُ عيني ببطءٍ مفتعلاً اليقظة فالتقتْ نظراتنا الباردة. لحظاتُ صمتٍ ثقيلة كانت تمرّ بيننا وكلّ منّا ينتظر أن يبدأ غريمُهُ بالحديثِ أو السؤال.

" أنتَ!؟ "

" ما الذي جاء به؟ "

تساءلتُ مع نفسي، فأنا والحق أقول ما كرهتُ شخصاً بقدرِ ما كرهتُ هذا الغامض المنطوي على سرّ يعذبني. إنه يثير في نفسي الحنق حتى عندما أراه يبتسمُ لي أو يجاملني بكلماتٍ أعرف أنه يفتعلها كي يبرّئ نفسه من تهمةٍ تلاحقه أو تأنيب ضمير ينخره.

" ولكن، ما الذي دفعه لزيارتي؟ "

" شماتة ليس إلا. "

تطلعتُ إليه متحفزاً لما سيبدر منه ضدي إلا أن ابتسامةً لاحتْ على شفتيهِ، ابتسامة غامضة لا أستطيع تأويلها إنْ كانتْ شفقةً أو شماتةً أو اعتذاراً.

" إشلونك؟ "

قالها وهو يكابدُ صراعاً في داخله، أو كأنه يلقي عن كاهلهِ حملاً ثقيلاً. أجبتُه بهزةٍ من رأسي فانفرجت شفتاه بابتسامةٍ خبيثة كأنه يرد على تجاهلي له بطريقة يدركُ أنها تغيظني، ثم عاد كلّ منا إلى صمته وكأن كلاً منّا يغورُ في صمتِ صاحبهِ، يختبرُ نواياه متحفزاً لردةِ فعله.

دخلتِ الطبيبةُ تتبعها ممرضة. ألقتا نظرةً سريعةً على نزلاءِ الغرفة، ثم توقفتا عند سريري. ابتسمتْ بتكلفٍ واضح. وضعتِ السماعة على موضعِ قلبي دون أن تتطلعَ إلي وأمسكتْ رسغي بيدٍ باردة كقطعةِ جليدٍ فسرتْ برودة في جسدي. أغمضتُ عينيّ مفتعلاً حزناً وكبرياءً أدافع بها عن التجاهل المتعمد الذي كانت تبديه إستا نحوي. لم تنتبه لوجودِ الزائرِ الجالس إلى يميني، والذي كانتْ نظراته المهووسةُ تخترق جسدها كنسرٍ يتحين الفرصةَ للانقضاضِ على فريسته، متركزةً على موضع نهديها المتدليين أمامها وهي تنحني على جسدي. انتهتِ الطبيبة من فحصي معطيةً إرشاداتها إلى الممرضة التي تقف خلفها، وقبل أن تغادر الغرفةَ وقعتْ نظرةٌ منها على الزائر فتوقفتْ وقد انفرجتْ أساريرُ وجهها. تقدمتْ نحوه مادةً يدها وهي تردد اسمه بلهفةٍ واضحة. نهضَ حميد من كرسيهِ بحركةٍ تفتعلُ اللباقةَ والكبرياء فاتحاً ذراعيه فارتمتْ بينهما بعناقٍ حميمي. أغمضتُ عيني كيلا أرى المشهدَ، إلا أن ذلك لا يعني أنني أستطيع إلغاءه، فها أنا أراهما أمامي بعينِ الحقيقة لا الوهم وهما في عناقٍ ساخن وإن بدا كعناقِ أصدقاء. خرجا من الغرفة وقد وضعَ كفّه على كتفها بينما تشبثتْ هي بخصره دون أن يلتفتا نحوي. كنتُ أسمعُ صوتيهما وهما يتهامسان في الممر، وترتفعُ بين لحظةٍ وأخرى ضحكةٌ مفتعلة يحاولان إطالتها لتعذيبي. عادا ووقفا عند باب الغرفة، تعانقا مرةً ثانية وتعاهدا على اللقاء علانية. دخلَ حميد الغرفةَ بوجهٍ تطفح منه نشوة انتصارٍ، انتصار مراهق على أقرانه بفوزهِ بصبيّةٍ عصيةٍ على الترويض. توقفَ عند سريري ودون أن ينطق بكلمةٍ أخرجَ من حقيبته الصغيرة كتاباً، وضعه على الطاولة الصغيرة ثم خرج من الغرفة رافعاً يده مودعاً بطريقةِ ممثل فاشل. لم أرد على تحيته بسوى نظرة احتقارٍ كسهمٍ مكسورٍ هو آخر ما تبقى في كنانتي المهترئة. بعد أن تأكدتُ من انصرافهِ امتدتْ يدي نحو الكتاب الذي فرحتُ به وإن لم أبدِ ذلك أمام حميد. قرأتُ العنوان الذي خُطّ بلونٍ أحمر غامق:

" أخبار النساء / ابن قيم الجوزية "

صدقَ حدْسي، فهذا الرجل الذي يدّعي صداقته وحبه لي لم يأتِ لزيارتي إلا لكي يتشفى بي، ويشمتُ، فهو لا يكفّ عن مناكدتي منذ سنوات المدرسة الإبتدائية بل ربما منذ الولادة، والأمرُ الذي يحزّ في نفسي أنه قد قرأ ما أحاولُ أن أخفيه، وراحَ يضغطُ على موضعِ الجرح بقسوةٍ يظنها مودة.

تطلعتُ عبر النافذةِ إلى المدينة الضاجةِ بحركةِ السيارات والناس الأصحاء، يسيرون نحو غاياتٍ حتى لو كانوا قد خلقوا اتجاهاتها بأنفسهم أو أنهم مدفوعون إليها قسراً. أصغي إلى حركة أقدام الممرضات والمرضى في الممر. كنتُ أتخيلُ صوتَ حميد يترددُ صداه في أذني ساخراً بقسوةٍ تنخرني:

" هه.. أيها المجنون.. إستا هذه طبيبة ترسمُ البسمةَ على وجهها لكل مريضٍ كجزءٍ من وظيفتها، أستا التي سميتها عشتار، قالباً اللغة من أجلِ أن تحتفظ بماء وهمك. "

" ..................... "

" ألم تخجلْ من كذبةٍ تخلقها من العدم وتصدقها؟ "

" .................... "

" أيها المجنون ... "

" أخرسْ "

صرختُ بوجهِ الصوتِ الذي يخترق جدارَ أذني. قلبتُ جسدي بصعوبةٍ نحو جهة اليمين فرأيتُ الكتاب. فتحتهُ على إحدى الصفحات ورحتُ أقرأ محاولاً أن أنسى الغيرةَ التي شعرتُ بها وأنا أرى حميد وهو يختطفُ مني وللمرة الثانية حبيبتي، وأقف عاجزاً عن فعل شيء:

" وقعَ بين امرأةٍ وزوجها شرّ فجعلَ يكثرُ عليها بالجماع، قالتْ له: أبعدكَ الله! كلما وقعَ بيننا شرّ جئتني بشفيعٍ لا أطيق رده. "

ضحكتُ بصوت عالٍ فانتبه إليّ النزيلُ أمامي فتشاغلتُ عنه بالقراءة:

" جاء رجلٌ إلى علي رضي الله عنه فقال له: إن لي امرأة كلما غشيتها تقول قتلتني فقال: اقتلها وعليّ إثمها. "

انطلقتْ ضحكة مني لم استطعْ صكّ أسناني عليها فانفلتتْ مجلجلةً بعهر. دخلتْ على أثرها ممرضة مسرعة إلى الغرفة وهي تنظر في وجوه النزلاء لتعرف أينا أطلق هذا الصراخ المفاجئ. غطيتُ وجهي بالكتاب متجاهلاً نظراتها المتسائلة. تبادلتْ النظرات مع نزلاء الغرفة الذين أشاروا إليها نحوي بنظراتٍ وشاية أخجلتني. وحينما غادرتِ الغرفة أطبقتُ الكتاب دون النظر إلى وجوه النزلاء التي راحت تتهامس بينها مشيرة إلي بإشارات غامضة، وغفوتُ .

في صباح اليوم السادس جاءت الطبيبة كعادتها. ألقتْ نظرةً سريعةً إلى النزلاء الآخرين ثم توقفت عند سريري. أجرتِ الفحصَ المعتاد. رفعتْ الضماد عن صدري. نظفتْ الجرح ثم وضعتْ قطعة ضماد جديدة. جلستْ على الكرسي إلى يميني. مسكتْ كفّي بين كفيها الناعمتين فاستسلمتْ كفي عاقلةً وكأن إرادتي كلها تركزتْ عند كفي التي عاندتُ نزقها فتصلبتْ . شعرتْ إستا بذلك فراحتْ تمسّد كفي بيدين حانيتين من الرسغ حتى أطراف الأصابع وهي تنقل نظراتها بين أناملي وعيني. أخبرتني بأن بإمكاني غداً مغادرة المستشفى. توقفتْ قليلاً وهي تحاولُ معرفةَ ردة فعلي، وحينما لم تجدْ غير اللامبالاة سألتني:

" ألستَ سعيداً بأنكَ قد شفيتَ وستغادر إلى بيتكم؟"

كدتُ أجيبها بـ " لا " لولا أني تذكرتُ كبريائي، فهززتُ رأسي دون أن أنظرَ إليها، وأنا أرددُ بنبرةٍ هادئة وربما حزينة:

" أكيد.. نعم أكيد.. "

وضعتْ إستا يدها على كتفي وهي تنهض ثم تسللتْ بهدوء، لكنها وقبل أن تخرج من الغرفة عادتْ. اقتربتْ مني ثانية. أحنتْ رأسها حتى لامستْ خصلةٌ من شعرها الأشقر وجهي فأغمضتُ عيني بنشوةٍ وأنا أتنشق عطرَ شعرها الناشز عن روائح المستشفى، بل عن روائح الطبيعة كلها. قالتْ:

" سأتركُ لكَ رقمَ تلفوني الخاص. اتصلْ بي متى تشاء. "

شكرتها بفرحٍ طفولي وهممتُ بقول شيء لا أدري ما هو، غير أنّ حاستها الأنثوية قد استيقظتْ في لحظة أحوج ما أكون إلى سباتها العميق. تداركتِ الأمر أو ربما ما اعتقدته سوء ظن أو شطحة وهمٍ فقالتْ:

" أعني، اتصل بي حينما تشعر بألمٍ أو بحاجة إلى استشارة. "

ثم غادرت الغرفة دون أن تلتفت.

" إستا.. عشتار.. حواء.. لعنة.. لا فرق.. لقد أوشكتِ الحكايةُ أن تنتهي كمَنْ ينامُ في صالة السينما ويستيقظُ على موسيقى الختام. "

رددتُ مع نفسي بحزنِ منْ لا يعرف ماذا يريد وتذكرتُ مقولةَ حميد ،عدوي اللدود حينما كنتُ أحكي له عن أمانيَّ وأوهامي بصدقِ نيّةٍ، فكان يرددُ أمامي بسخريةٍ، يعرف أنها تغيظني وبفذلكةِ بطرٍ أمقتها:

" أمنية النحاس الذهبية. "

لم أستطع النوم ظهراً كعادتي فخرجتُ إلى شرفة المستشفى. جلستُ على كرسي في مواجهةِ شمسِ نيسان التي بدأت تميل إلى الدفء قليلاً. عدتُ إلى لعبتي الأثيرة حينما أريدُ قتلَ الوقت، فرحتُ أعد خساراتي بخرزِ المسبحة، مضيفاً إليها خسارتي الجديدة فازداد شوقي لتدخين سيجارةٍ غير أن إصبع التهديد ارتفعتْ بوجهي محذرة .

" سيجارة واحدة. "

أسمعُ صوت صفعة الأب فأتلمس خدي.

" سيجارة. "

تهوي عصا المعلم على ظهري.

" سيجارة. "

ترتفع سبابة الطبيب بوجهي.

ثم يأتي صوت الجلاد:

" ماذا ترغب قبل الصعود إلى المشنقة؟ "

" سيجارة. "

" أعطوه سيجارة! "

يقول الضابط بنفورٍ. يقدّم أحدهم إليّ باحترام وشفقة سيجارة قصيرة، يتكرمُ ويشعلها، أجلس القرفصاء وأمتصها بحسرةٍ عميقة والوجوه التي تحيطُ بي تنظرُ إلى الدخان المتطاير من أعماقي وأنا أدخن بتمهلٍ كي أكسبَ ثواني أخرى في هذه الحياة الضنينة، وأرى الملل في الوجوه التي تريدني طيعاً كي تنجزَ مهمتها بسرعة لترتاح من وجودي غير المجدي.

هذا الليلُ آخر ليلٍ سأقضيه في المستشفى وغداً سأعود إلى شقتي، إلى عزلتي الفاتنة، إلى نورسي العريس، وإلى قطتي الخائنة التي فضلّتِ الموتَ متجمدةً في ثلج شباط على نعمة الدفء والطعام الجاهز، حينما تركتني وهربتْ مع صوتِ أول هرّ ارتفعَ نداؤه قرب ناقذتي. لن أحقدَ عليها، ولن أحقدَ على نورسي، فلكلٍ منّا قدره، ولكلّ عشتاره إلا أنا فعشتاري لم تأتِ إلا لكي توقظَ الحياة فيّ ثم تتركني في برزخٍ بين الحياة والموت.

الوقتُ يمرّ بطيئاً، فأنا وعلى الرغم من شعوري بالراحةِ والأمان في المستشفى وخوفي من الوحدة التي ستستقبلني غداً بالحفاوة، حفاوة عاشقةٍ لعشيقها وستفتح لي ذراعيها لتخنقني بشوقها إلي، لكني لا أطيق الانتظار، فبعدَ أن أخبرتني الطبيبة بأني سأغادر المستشفى غداً فقدَ الوقت جدواه وصرتُ أستعجل الخروج من الجنة المؤقتة.

عدتُ إلى سريري ورحتُ أقرأ قي (أخبار النساء)، وأرحلُ في البياض والسواد بغفواتٍ سريعة تختزلُ الماضي بكابوسٍ خانق، أو حلم سريع يتسربُ من بين أصابع الوقت.

فتحتُ عيني فوجدتُ إستا تجلسُ عند حافة السرير، تنظر إليّ بفضول كأنها تنتظر مني أن أبوحَ لها بما أفكرُ فيه الآن أو بما مرّ بي في غفوتي. وحينما لم نجدْ ما نبدأ به حديثنا، اقتربتْ مني بترددٍ حذرٍ وهي تمسكُ موضع النبضَ في رسغي حتى توسطتْ السرير فلامستْ عجيزتها منتصف جسدي. تحركتْ يدي نحو جسدها إلا أنني ألجمتها بكبرياء وعفّة. انقلبتُ على جهةِ اليمين حتى لامسَ وتدُ الشهوة أرضها الرخوة. دبّتِ الروح فيه فتحرك بخجلٍ بين ردفيها. لم تبدِ اعتراضاً بل إنها رفعتْ عنقها لاحسة شفتها السفلى بطرف لسانها، وحينما شعرتْ بحركةِ تمددهِ، تلوّتْ بحركةٍ بطيئة دافعةً جسدها إلى الخلف، ثم امتدتْ يدها بحذرٍ نحو فخذي متسلقة نحو الأعلى. وضعتْ كفها عليه وراحت تمسده بحنو ورقّةٍ وهي تتطلع إليّ بعينين محتالتين. أدخلتْ كفها تحت البيجامة واقتنصته بقبضةٍ واثقة. دعكتُه بقوةٍ وهي تتلفتْ حولها حذرة من يقظةِ النزلاء أو حركةِ الممرضات في الممر. اشتدّ انتصابُه وتصلّب بين أصابعها. أغمضتْ عينيها عاضّةً شفتها السفلى وارتفع صوت زفيرها. أخرجتُه وهي تتأوه دون أن تنظر إليه. صمتٌ مطبق حتى كأن كل مَن في المستشفى يغطّ في موته سوى عاشقين يعيدان الخليقة ببعثها بعد موتٍ طويل.

طلٌّ ربيعي ينثّ على أرضي.. تتبرعمُ الشهوةُ.. تزهرُ.. حتى تغدوَ حديقةً من زهور عبّاد الجمر.. تدورُ باتجاه شمسِ رغبتي.

 (عندما رفعَ الأبُ أنكي عينيهِ على نهر الفرات،

  وقفَ بخيلاء كالثورِ الهائج،

  رفعَ قضيبه، وقذفَ المني،

  فملأ دجلةَ بالماءِ الرقراق،

  استسلمَ له دجلة كما لثور هائج

  رفعَ قضيبه، ومعه هدية الزفاف،

  جاءَ بالفرحِ إلى دجلة مثل ثورٍ بري كبير عند الإخصاب

  الماءُ الذي جاء به ماء رقراق، نبيذهُ حلو المذاق،

  الحبوبُ التي جاء بها، حبوبه الغنية، يأكلها الناس)

أحطتُ خصرها بذراعي وضغطتُ جسدي على عجيزتها، فرفعتْ جسدها قليلاً، مستندةً بيديها على مسند الكرسي الذي إلى يميني، وراحتْ تحكّ فرجها بقضيبي. شعرتُ ببللِ شهوته فزاد هياجي. حاولتُ النهوض فشعرتُ بألم في صدري. أدركتْ ذلك فدفعتني بتروٍ حتى استقرّ رأسي على المخدةِ ثانية. غيّرتْ جلستها ودارتْ نحوي ربع دورة. تطلعتْ إلي بعينين تمطران الشهوة شرراً. فتحتْ زراً من أزرار صدريتها البيضاء فظهر أعلى نهديها البضين ووادٍ مرمري يتدلى في عمقهِ صليبٌ ذهبي. قوّستْ صدرها قليلاً، شابكة ذراعيها ببعضهما فضاق الوادي وارتفع الصليب. امتدتْ يدي بجرأةٍ، وقبل أن تصلَ إلى صدرها صدّتها وراحتْ تفتحُ زراً ثانياً وهي تنظر إلي بنظرةٍ قاسيةٍ لا تخلو من حقدٍ مستفزّ. فتحتْ أزرارَ صدريتها ببطء وأنا أتطلع إليها بنهمٍ عاجزاً عن أخذ زمام المبادرة، أعني الافتراس الذي يليق بفحولة نسرّ جائعٍ، ضاقَ به الفضاء. مدّتْ يديها نحو ظهرها لتفتح حمالة النهدين السوداء فسقطتْ على السرير. اندلق نهدان صلبان بحلمتين منتعظتين وهالتين بنيتين، وقد انتفختْ عليهما حبيبات التهيج، يتدلى بينهما صليب، تركزتْ أنظاري عليه فازددتُ هياجاً. تقوستْ على جسدي مقربةَ رأسها من رأسي. مسكتُ وجهها من تحت الأذنين بكفيّ، مردداً بغيبوبةِ منْ شارفَ على الإغماء:

" أيتها الملكةُ العظيمة، الكتّان المصقولُ الفاخر

  عشتارُ، الكتّان المصقول الفاخر. "

وقبل أن ألتهم شفتيها رفعتْ رأسها مقربةً صدرها من وجهي، وهي ترددُ بصيغةِ أمر:

" قبّلِ الصليب! "

فامتثلتُ خائفاً من شيء لا أعرفه. قبّلتُ الصليبَ بخشوعٍ دافناً رأسي بين نهديها. أغمضتُ عيني بشهوةٍ فشممتُ رائحةً أليفة جداً. رائحة قريبة من نفسي. في البدء حاولتُ أن أتجاهلها إلا أنها ازدادت عبقاً في أنفي وطغتْ على كلّ رائحة. رائحة كنتُ أحسبُ أني قد نسيتها، وها إنها تملأ جسدي، تستيقظ في روحي، أتذكرها جيداً بل إني لم أنسها يوماً. إنها رائحة فوطة أمي التي كنتُ أستطيع تمييزها من روائح عشراتِ الفوطات التي كانت ترتديها نسوة أخريات. هي ليست رائحة مسكٍ أو (خضيرة) ممزوجةً بالعرق، بل إنها رائحة خاصة، أشمها، أراها، أسمعها، أتذوقها وأتلمسها بيقينِ حواسي كلها. دفعتُ جسد إستا قليلاً وتطلعتُ إليها بخوفٍ فنظرتْ إلي وهي تردد:

" أوووه يا صغيري. "

سقطتْ كفاي عن وجهها، فانتبهتْ إلى ترددي وبرودتي فافتعلتْ زفيراً وتأوهاتٍ يمتزجُ فيها الشوقُ بالعهر. تطلعتْ إليّ بصرامةٍ أو كراهيةٍ، بعد أن رأتْ غصني وقد بدأ بالانكماشِ والذبول. جحظتْ عيناها وحاولتْ أن تنطقَ بشيء، لكنها سرعان ما لانتْ شيئاً فشيئاً وهي ترددُ بصوتٍ متغنج مصحوب بالزفرات:

" انظرْ! يا صغيري انظرْ ! "

تلفّتُ فلم أرَ الجهة التي تشير إليها، إلا أنها واصلتْ كلامها المتقطع وهو يخرج من شفتين مرتعشتين، مصحوباً بلهاثٍ وزفير أشعل فيّ هوساً، حتى شعرتُ بأن الخيوط التي تربط الجرح في صدري قد أوشكتْ على التقطع:

" انظرْ يا صغيري! "

" ................ "

" الحملُ .. بعد .. أن .. نطّ .. على .. ظهرِ .. أمهِ .. ركبها .. واقعها. "

" ............. "

" انظرْ!! ماذا .. يفعلُ .. الحملُ .. بأمّه. "

" ................ "

" الحملُ .. بعد .. أن .. نطّ .. على .. ظهرِ .. أمهِ "

توقفتْ قليلاً وهي تنظرُ إليّ وجسدها يختض فوقي. هززتُها كي أوقظها من جنونها، غير أنها عادتْ متشبثة بي دافعةً صدرها على وجهي مقربةً حلمتها من فمي ويدها تدعكُ قضيبي بعنفٍ وهي تردد بغضبٍ ونفاد صبر:

" بعد أن نطّ على ظهر أمه

  بعد أن نطّ على ظهرِ أمّهِ "

 زفرتْ بوجهي مثل قطةٍ تستعد لهجومٍ وهي تصرخ بهيستيريا:

" ندّتْ عنها صيحةُ نشوة "

اهتزّ جسدي مرتعشاً فمسكتُها من كتفيها. دفعتُها قليلاً نحو الأسفل فتزحلق نهداها على صدري ولامستْ حلمتاهما موضعَ الجرح وشعر صدري فاهتز واقفاً. قرّبتُ قضيبي المنتصب بجنونٍ من صدرها فتلقفته بين نهديها. احتكّ بسلسال صدرها ملامساً ذهبَ الصليب البارد. أغمضتُ عيني خجِلاً من آلام المصلوب عليه. شعرتُ بنشوةٍ غريبةٍ تدخلني من كل خلية في جسدي. أطبقتْ عليه بقوة وهي تردد وجسدها يخفق:

" نكْ صدري! نكني يا صغيري! نك صدراً أرضعك! "

فتشبثتُ بكتفيها وأنا أسحبهُ وأدفعه بين نهديها ببطءٍ حتى يصل إلى شفتيها فتتلقفه بلسانها لاحسةً رأسه، مردداً بصوتٍ عال:

" تعالي.. تعالي.. يا.. "

" ....................... "

" تعالي.. كائناً مَنْ تكونين.. إستا، عشتار، مريم العذراء، رضية عبد الحسين.. تعالي يا حبيبتي.. تعالي يا عاهرتي اللذيذة ..... "

ألبسوه تاجاً من الشوكِ وحمّلوه صليبه، بينما راحت السياط تلهبُ ظهره وهو سائرٌ مطأطئ الرأس خجلاً، أو ربما كان يعدّ الخطواتِ القليلة نحو الموت. لم تبدُ على وجهِ أحدٍ علامةُ شفقةٍ أو رهبة، بل كانتِ اللعناتِ تُدلقُ عليهِ من الذين اصطفوا على جانبي الطريق وكأنهم يستكثرونَ عليه اللحظات القليلة الباقية من عمره.

" هذهِ علامة من علامات الساعة. "

قال شيخٌ بثقةِ العارف وهو يرتعشُ، ويهمّ بالتقاطِ من الأرض حجر كي يرميه نحو المحكومِ بالصلب.

" أية جريمةٍ أبشعُ من جريمةِ إنسانٍ يغتصبُ أمهُ!؟ "

قالت امرأةٌ لم تكشفْ من وجهها سوى عينين يتطايرُ منهما شرر الحقد.

" الحملُ بعدَ أن نطّ على ظهر أمّهِ، ندّتْ عنها صيحة نشوة. "

صرختْ عشتار وهي تحركُ نهديها وتدخل رأسَ قضيبي في فمها، تمتصّ ماء شهوته.

" تفووووووو "

وأصواتُ اللعنات تتناغم مع وقع السياط فيحثُّ السائر إلى الموتِ خطاه.

طلبَ ماءً، فسخرَ الجلادُ منه وصاح أحد المتجمهرين:

" اسقوه بولاً! "

فارتفعتْ ضحكاتُ المتجمهرين وهم يشيرون إليه بسبّاباتهم ساخرين منه.

" أولادَ القحبةِ، لم يكنْ أكثر خسةً من بارباس الذي برأتموه، بل لم يكن أكثر خسّةً منكم ومن ملوككم وأنبيائكم القتلة. "

انطلقَ صوتُ رضية عبد الحسين شاقاً مهرجان الحقد.

تطلعتْ إلي وقد أوشكتُ على الاستسلام للتعب فراحتْ تثيرني بتأوهاتها وتستحثني على المواصلة وهي تردد:

" تعال يا صغيري!! اقذفْ بين ثديي! عمّدْ جسدي بمنيّك! "

" تفووووووو "

كان الصدى يتردد في الوادي الذي يحيط بالتلّة، حيث أرتفعَ الصليب بانتظار المحكوم بالموت، وكانت السماءُ ملبدةً بغيومٍ حمراء، والأرض سَوراتُ رملٍ وغبار يرتفع نحو السماء. ضاقتْ عليه دائرة المتجمهرين وهو جالس في مركزها. وقعَ سوط الجلاد على وجهه فسالَ دمٌ من عينيه ومنخريه، عندها هبّ المحكوم بالإعدام واقفاً. تطلعَ في وجوهِ الناس بنظراتِ احتقارٍ وكره. ودونما إرغامٍ أو قيادٍ صعدَ واثقاً إلى الصليب مغمضَ العينين، تلوحُ على وجهه كآبة وخوفٌ ممتزج بخجلٍ لم يشفع له عند أحدٍ. ارتفعتْ أصواتٌ هيستيرية تصبّ لعناتها القاسية عليه وتوعدهُ بعارٍ يلاحق سيرته وبعذابِ السعير، لكنّ سرعان ما حلّ صمتٌ جليلٌ كأنه تسللَ إلى المكانِ خلسةً.

كانت إستا تمسك قضيبي لاهثةً، تعصره وتمسحُ صدرَها وحلمتيها بآخر قطراته وتقبّلُ رأسه بهمسِ شفتيها حتى ارتمتْ عند قدميّ لاهثةً. ودون أن تنظرَ إليّ راحتْ تمسحُ الصليبَ الذي غطاه المنيُّ بمنديلٍ ورقي، وتقبّله بخشوعِ راهبة متمتمةً بكلماتٍ لا أسمعها.   

بسطَ الصمتُ سطوته حتى يكاد المرءُ يسمع دقاتِ القلوب كقرعِ طبولٍ ويضيق بصوتِ أنفاسهِ. فجأةً انفجرتْ صرخةٌ مدويةٌ فأحدثتْ تخلخلاً في الفضاء:

" إيلي

 إيلي

 لِمَ شْبَقْتِني؟ "

وانهارَ الرأسُ على الكتفِ مسلّماً الروحَ إلى بارئها.

في اليوم السابع جاءتْ ممرضةٌ، وأخبرتني بأن بإمكاني اليوم مغادرة المستشفى. مدّتْ يدها مصافحةً ومهنئةً على السلامة وهي تتلو عليّ قائمةً من وصايا وإرشادات صحيةٍ ومحظورات بصيغة أمر. نهضتُ بتباطؤ ورحتُ أجمع حاجياتي بتمهلٍ مصطنعٍ، متحفزاً لوقعِ أية خطوةٍ تقترب مني. دخلتِ الغرفة ممرضةٌ أخرى وبدأتْ بتغيير شرشف السرير وجمْعِ ملابسي البيضاء كأنها تحثني على الإسراع في المغادرة ليحلّ محلي شخص آخر. حاولتُ أن أتحايلَ لسرقةِ وقتٍ إضافي، إلا أني استنفدتُ كل طاقتي على المراوغة ودبّ في نفسي اليأس من رؤية عشتاري ثانيةً واستيقظتْ أناي فغادرتُ الغرفة بخطوات بطيئة تفتعل الثقة والكبرياء .

في الممرّ تجمعَ حولي عدد من الممرضاتِ وهنّ يودعنني بنظراتٍ حانية وابتساماتٍ نبيلة. وقبل أن أخطو نحو نهاية الممر، سألتُ إحداهن عن إمكانية رؤية الطبيبة إستا لتقديم الشكر لها فأجابتني :

" إستا انتقلتْ إلى مدينةٍ أخرى. "

وحينما رأتْ دهشتي أضافتْ بثقةٍ:

" منذ خمسةِ أيام. "

 

 

النورسُ، مرةً أخرى

مرةً أخرى عدتُ إلى زاويتي، نافذتي المطلّةُ على العراء. عراءٌ واسعٌ، أنيقٌ، ترحلُ فيه النظراتُ بحريّةٍ نحو الأفقِ البعيد كأنها تعرّيه من هندامه وتتقرى تضاريسَ فتنتهِ بشبقٍ وجنون، وحينما لم تحظَ بسوى غصّةِ الحرمانِ كظامئ يعبّ كأسَ نارٍ، تغور إلى مغاور النفس الملتهبة، تبحثُ عن فكرةٍ متساميةٍ تعيد لها شيئاً من التوازن.

ونافذتي نافذةٌ وحيدةٌ في صحراء، فلا جدارَ ولا بيت سوى مفازةٍ ورمالٍ وقوافلَ راحلة بلا دليل إلى المجهول. ظمأ وسرابٌ وسباقٌ طويلٌ أرى خطّ نهايتهِ واضحاً وضوح الشمس، ولكن لن أصلَ إلا وقد استنفدتِ النفسُ كلّ طاقتها للفرحِ أو للحزنِ، لأكتشفَ أخيراً أنْ لا غالبَ في سباقِ العمر ولا مغلوب.

زاويةٌ في المكانِ الذي طُمستْ معالمهُ، تتقاطع فيها الغربةُ والوحدةُ كعاهرتين تتراشقان بالكلمات البذيئة، وأنا جالس بينهما على دكّة الماخورِ، أحصي بمسبحةِ ورعي ما تبقّى لي من أحلامٍ لم تتلوثْ بعد.

" أيها النورس.. "

رددتُ مع نفسي وأنا أتطلعُ إلى سطحِ البنايات بحثاً عن غريمي الذي اشتقتُ إليهِ، بل اشتقتُ إلى أي شيء يطيرُ في فسحةِ الفضاءِ الضيّقةِ، أو يتحركُ في هذا العراء، أراهُ.. أسمعه.. ألمسه.. أشمّ رائحته، كي أدركَ أنّ لي حواساً صالحةً للاستخدام، وليكونَ المشهدُ الذي أمامي حقيقةً، لا مجرد فكرةٍ تولدُ في الذهن فيجسّدها الوهم، ثم تتلاشى بعد أن تُستهلكَ لتحلَّ محلها فكرةٌ أخرى. حينما كنتُ راقداً في المستشفى، كنتُ أنظرُ إلى النافذةِ حالما استيقظُ وكأني أتوقعُ زيارةَ النورس، لذا فحينما عدتُ إلى بيتي كان أول أمرٍ فعلته أني أزحتُ الستارةَ لعلّي أجدُ على زجاجِ النافذة رسالةً مشفرةً تركها في غيابي، وحينما لم أجدْ شعرتُ بشيء أشبه بالحسد.

" شعرتَ!؟ أم مجرد فكرة خطرتْ في الذهن؟ "

" .................... "

" ولمَ الحسد؟ "

" ..................... "

" ألأنَ النورسَ قد ترفعَ عن ممارسةِ أفعالهِ العدوانية؟ "

" .................... "

" أم لأنه وجدَ نورسةً تقاسمه اللذة؟ "

" ربما. "

" ربما لأنه قد عثر على جدواه فلم يعدْ مشاكساً أو عدوانياً يبحثُ عن نقاطِ ضعفِ الآخرين لينفّس عن عقدهِ المتكلسة بسبب الحرمان، أو العقد التي توارثها عن قبيلةٍ أدمنتْ الخوفَ وارتكنت إلى مصيرها القاسي. "

" ماذا تقصد؟ "

" لا شيء. "

" اخرسْ! "

" أنا لم أقلْ شيئاً. أنتَ الذي تقول. "

" أنا.. أنت.. مَنْ أنتما؟ "

" ................... "

" ................... "

مرة ًومنذ عشرةِ أعوامٍ قرأتُ عبارةً في كتابٍ تشيرُ إلى أن الكبتَ الجنسي يولّد حالةً عدوانيةً في نفس الإنسان. أتذكرُ أني قرأتها وقد وضِعَ تحتَ العبارةِ خطّ بقلمِ الرصاص وبيدٍ تبدو أنها كانتْ ترتجفُ خوفاً أو شهوة، وحينما سألتُ صديقي الذي أعارني الكتابَ عمّا إذا توقفَ عند هذه العبارة، انفجرَ بقهقهةٍ أغاظتني وهو يشيرُ بخبثٍ إلى الوترِ الحسّاس الذي عزفتُ عليه. ولكي يغيظني أكثرَ ويتلذذَ برؤيتهِ لي وأنا أقفُ أمامه عارياً أحاولُ سترَ عورتي بيدين يفضحُ ارتجافهما قلقي وارتباكي. همسَ إلي كأنه يبوحُ لي بسرّ خطيرٍ، وأخبرني بأنه حصلَ على الكتابِ من امرأةٍ جميلةٍ جمعته بها علاقة. لم يكمل حديثه حيث دخلتْ زوجته تحملُ صينيةَ الشاي، فأشارَ بحركةٍ من عينهِ وانحرافِ شفتهِ السفلى إلى طبيعةِ تلك العلاقة. استنفِرتْ أشياء في نفسي، فرحتُ أتخيلُ امرأةً شبه عاريةٍ في سريرها، تتمطى، تُدخل ُ يدها تحت لباسها الداخلي وباليد الأخرى تسحبُ القلمَ من بين شفتيها مغمضة العينين بنشوةٍ أو بحقد، وتخط خطّاً مرتبكاً تحت العبارة. ولكي أخفي ارتباكي أمام صاحبي وأثبتُ له غير ما أشار إليه، رحتُ أمسد صدغيّ محاولاً تذكر اسمِ الكتاب واسم مؤلفه. وعلى الرغم من ارتباكي وسياحتي على جسدِ صاحبةِ الكتاب، فقد تذكرتُ العنوان، وكأنْ لم تنتعظ أعضائي الجسدية وحدها بل تحولتْ ذاكرتي إلى قضيبٍ ينبضُ فيه عرقُ التهيج:

" الانهمام بالذات لميشيل فوكو "

رددتُ الاسم بفرحٍ طفولي، غير أن صديقي لم يبدِ أي اهتمام بأمرِ الكتاب بقدر ما كان مهتماً بإغاظتي. ولكي أخفي شيئاً لا أعرفه سألتُ صاحبي:

" وهل تذكر ماذا كتبَ عن الاستمناء؟ "

لم انتظرْ منه جواباً إذْ رحتُ أقرأ بارتباك:

" عندما يظهر الاستمناء، وذلك أمر نادر، فهو يظهر بشكل إيجابي، حركة تجرد طبيعية ترتدي في آن معاً قيمة درس فلسفي وعلاج ضروري... الحركة التي لو أجريتْ في الوقتِ لأغنتْ عن حرب طروادة، الحركة التي ترشدنا إليها الطبيعة... وهي حركة عاقلة لأنها لا تتوقفُ علينا، ولأننا لا نحتاجُ إلى أحد ليساعدنا.. إنها حركةُ الطبيعة ذاتها التي تلبّي الحاجة تماماً بمعزلٍ عن الأهواء أو الحيَل وباستقلال تام، ويبقى الاستمناء مقترناً بأوهامِ المخيلة ومخاطرها، إنه شكل اللذة المخالفة للطبيعة التي ابتكرها البشرُ لتجاوز الحدود التي كانت معيّنة لهم.... "

توقفتُ حينما وجدتُ صاحبي شاردَ الذهن وينظرُ إلي ببلاهةٍ، أو ربما بنظرةٍ حسبتها نظرةَ إشفاقٍ أو استخفاف. أدنى رأسه من أذني هامساً، فجاءتْ همساته كضربةِ فأس على جمجمتي. أخبرني مفتعلاً مشاعرَ حزنٍ رسمها بمبالغةٍ واضحة:

" إنه الكتاب الذي استعرته من جارتي الدنماركية. "

توقفَ قليلاً ثم أضاف زافراً بحسرةٍ مفتعلة:

" التي انتحرتْ قبل سنتين. "

تلكَ الليلة حلمتُ بأني أنبشُ قبراً قديماً، وأضاجع هيكلاً عظمياً.

استيقظتُ صباحاً على أصواتِ النوارسِ قربَ نافذتي. تركتُ الفراشَ مسرعاً، كأني على موعدٍ حانَ وقته. أزحتُ الستارة. كانتْ جارتي العجوز التي تقيم في الطابق الثاني فوق شقتي تماماً ترمي قطعَ الخبزِ، والنوارس  تتراكم على بعضها . بحثتُ عن نورسي الأعرج فلم أجده بينها، وكنت أتمنى أن أجده ضمنَ سربِ النوارس التي تتصارخ وتصطدم ببعضها بدناءة نفسٍ تفرضها غريزة الجوع، لكي أحقق انتصاراً على هذا الغريمِ الذي تحداني بترفعهِ الفارغ وكبرياء يسد بها نقصه الفاضح، وها هو يسقط الآن أمامي ويعود إلى طبيعتهِ الغريزية، منضماً إلى السرب بعد أن روّضته أنثاه، عندها سأقول له بشماتةٍ وتشفٍ:

" أرعن. مع أول مضاجعةٍ تخليتَ عن كبريائكَ وغروركَ. الآن لم تعد صديقي. بل لم تعدْ عدواً أفتخر بندّيته. اذهبْ إلى الجحيم أيها الوضيع! سأملصُ رقبتكَ إذا عدتَ ترمي نافذتي بذرقكَ... أيها العفن. "

فجأةً انتبهتُ إلى نفسي، واقفاً وسط الغرفةِ وقد استبدّ بي غضبٌ شديدٌ، وأنا أصرخُ محرّكاً يديّ بحركةٍ غاضبةٍ، مردداً كلماتٍ بذيئة. توقفتُ مذهولاً كأني استيقظُ من كابوسٍ غريب. تطلعتُ إلى يديّ وهما متصلبتان تتهيآن لفصلِ رأسِ النورس عن جسدهِ وعيناي متسمرتان على العنق الرهيفة، منتظراً بفرحٍ وشوق رؤيةَ الدم الذي سيفيض على كفيّ. ذوى شيء في روحي ببطءٍ محسوسٍ، وانكمشتُ شيئاً فشيئاً كبالونٍ مثقوب، حتى تحولَ جسدي خرقةً بالية كقامةٍ من فراغ. شعرتُ بدوارٍ شديد ورغبة بالتقيؤ. تلمستُ مسندَ النافذة وخطوتُ بحذرٍ ثم تهاويتُ على الكرسي، دافعاً رأسي المُهمل على مسنده. دقائق مرتْ وأنا في غيبوبةٍ ودوار، ونبضاتُ قلبي تتسارعُ وساقاي تهتزان على الرغم من ضغطي على ركبتيهما لإيقاف اهتزازهما، لكن دون جدوى. شعرتُ بألمٍ في موضع العملية كأن خياطَ الجرحِ قد بدأ يتفتق، وكاد قلبي يقفزُ من موضعهِ خارجاً من قفصه الصدري. أغمضتُ عيني وأنا أمسكُ قلبي النافرَ، كأني أحاولُ إعادته إلى مكانهِ حتى هدأت أنفاسي قليلاً. أسرعتُ إلى الحمّام. تطلعتُ في المرآةِ فهالني منظرُ وجهي الشاحبُ والزبدُ الذي سالَ من شدقيّ واختلط بياضه ببياضِ لحيتي. رشقتُ وجهي بحفناتِ ماءٍ بارد فشعرت بقشعريرة تسري في أوصالي. رفعتُ وجهي ثانيةً بحذرٍ نحو المرآة وقد كنتُ خائفاً من أن أرى صورتي وقد تحولتْ إلى صورة مسخٍ أو شخص آخر. تطلعتُ في عمقٍ إلى وجهي المرتسم في المرآة، كانتْ لاتزال هناك ملامح لشخصٍ يشبهني، حدّقتُ إليه بجرأةٍ فراحتْ تتضحُ الصورةُ أكثر وأكثر، ويزداد الشبه بيننا وضوحاً حتى استعادَ الشخص الآخر كاملَ ملامحي. شعرتُ بخجلٍ وخوف من هذا الشخص الذي يقفُ بيني وبيني، هذا الذي يلبسني ويسرقُ مني جسدي ولساني ولستُ قادراً على استردادهما منه، بل أشعرُ بالعجزِ عن التمردِ عليه، فأراني دون إرادةٍ مني أنفّذ له أوامرَهُ المولعة بالإذلال. حملتُ كأساً أضع فيها أدوات الحلاقة، أعتصرتها بقبضتي حتى كادتْ تتكسر في كفّي، وحاولتُ أن أقذفَ بها وجهَ المرآةِ، إلا أني توقفتُ على صوتِ هاتفٍ يدعوني إلى التواطؤ أو الهدنة. أعدتُ الكأسَ إلى موضعها جنبَ المرآة فسقطتْ ماكنةُ الحلاقة في المغسلة محدثةً دوياً أرعبني. رفعتُها بحذرٍ وتطلعتُ إلى الموسى بحدّهِ البراق، قرّبته من وريدي ثم وبإغراءٍ وتمنعٍ حركّته على ساعدي ببطء. شعرتُ بنعومته وبشهوةٍ وهو يلامس جلدي الخشن الذي طفتْ عليه حبيبات صغيرة. حركتُ إبهامي على حافة الموسى وضغطتها قليلاً فشعرتُ بنشوةٍ غريبة. أغمضتُ عينيّ لحظاتٍ، ثم رحتُ أتطلعُ إلى قطراتِ الدمِ، وهي تتساقطُ بإيقاعٍ بطيء وتسيح على مرمر المغسلة، قطرات من دمٍ أسود يتغيرُ لونُها إلى الأحمر ثم الزهري وهي تسيل نحو المجرى حتى توقفَ النزفُ، عندها عدتُ إلى الصالة. ألمٌ ينخرُ روحي وصداعٌ شديد يدقّ صدغيّ. اشتقتُ إلى تدخينِ سيجارةٍ، فتذكرتُ قائمةَ المحظورات التي عدتُ بها من المستشفى. لكنْ لم يعدِ الموتُ يخيفني، بل إني كنتُ تلك اللحظة أسمعُ صوتَ الموت يناديني، اسمعه بوضوح فأشعرُ برغبةٍ شديدة للذهابِ نحوه. موتٌ يناديني فألبّي دعوته بفرحٍ .

" هل هذا هو الموت المقنع الذي كنتُ أتمناه؟ "

بحثتُ في أكياس القمامةِ التي تركتُها قبل ذهابي إلى المستشفى فكانت فرحتي كبيرة حينما وجدت عقب سيجارةٍ، عقبين، ثلاثة. ذهبتُ إلى المطبخِ مسرعاً وعدت بكأس شاي. جلستُ قربَ النافذة انفثُ الدخان ببطء مطلاً إلى الغابةِ القريبة. كنتُ أشعر بارتجافٍ في جسدي وزبدٍ عادَ يغطى شدقيّ ويسيل على لحيتي، كأني أفقتُ من نوبة صرعٍ. غضبٌ لا معنى له، أسمعُ صوتَ غليانهِ في نفسي، ربما بسبب الخجلِ الذي استيقظَ في داخلي حينما أدركتُ خطورةَ وضعي النفسي وهاوية الجنون التي بدأتُ أنزلقُ إليها بشكلٍ محسوس.

" أيها النورس! "

رددتُ مع نفسي وأنا مغمض العينين بخجلٍ كأني أقدم إليه اعتذاري عن حالةِ الغضب التي دفعتني إلى التفكير بقتلهِ. وبنبرةٍ وديّة خاطبتُه، كأني أجد له عذراً لعودتهِ التي توهمتها إلى سرب جنسه:

" لا بأس عليك... فقبلكَ أنكيدو العظيم روّضته امرأة. "

ولكن، ويا لدهائهِ.. لم يمنحني الفرصةَ كي أحققَ أمنيتي الغريبةَ هذي، أمنيتي بأن أتيقنُ من صحة موقفي من الأنثى، هذا الحلم التافه الذي يقضي الرعاع سنواتِ عمرهم بالركض وراء سرابه.. يمدّ لسانه لاهثاً مثل كلبٍ وهو يقفُ تحت شمسِ الظهيرة الحارقة بانتظار طريدته، تأتي.. يقفُ أمامها مرتعشاً.. يفتعلُ الوقارَ لكنّ المهرجَ في داخله ينطّ.. يسيرُ على الحبالِ بلعبةٍ خطرة.. يتقلّبُ في الهواء.. ثم يتمرغُ تحت قدمي سطوتها الفارغة مثل كلبٍ ذليل.. قد تركلهُ وتمضي تاركةً له مشهدَ ركبةٍ أو ساقٍ عالقاً في مخيلتهِ، أو ربما تختاره لمتعتها فينقادُ خلفها مستلبَ الإرادة كعبدٍ يعتزّ بعبوديته.. ثم ماذا؟ دقائق من عمرِ الوقت تُرمى في طاسة تسولهِ.. دقائق معدودات ليس إلا، هي كل عمر المتعة، يُفني هذا الكائن عمرهُ من أجلها. لهاثٌ، صراعٌ ثم اهتزازاتٌ غبية، لتنتهي بخيبةِ أملٍ تتلاشى بعد نصف ساعةٍ، ليعودَ اللهاث مرة أخرى على أمل اقتناص دقائقَ معدوداتٍ أخرى وهكذا...

ضحكتُ.. ضحكتُ..

ضحكتُ وأنا أستعيدُ صورةَ صاحبي وخيبة أمله.

بعد بضعةِ أسئلةٍ وتحقيقٍ سريع أجري لنا في مركزِ شرطةٍ يقعُ بالقرب من مطار كوبنهاكن لا يخلو من غرفة سجن، قضينا فيها بضعَ دقائق بانتظار نقلنا إلى جهة نجهلها، تمّ نقلنا إلى باخرةٍ تابعةٍ لمنظمة الصليب الأحمر، كانتْ راسيةً في لسانٍ مائي يصبّ في بحر البلطيق (هكذا علمتُ) ويقسم (كنهرِ دجلة) العاصمة نصفين. هناك التقيتُ بأعدادٍ كبيرة من اللاجئين العراقيين والفلسطينيين والإيرانيين ومن جنسيات أخرى، ينتظرون بقلقٍ واضح الحصولَ على حقّ اللجوء والإقامة. رجالٌ ونساء وأطفالٌ وصخبٌ يملأ ممراتِ الباخرةِ المتداخلةَ ببعضها كأنها متاهة. نساء شقراوات وزنجيات وأخريات بملامح عربية.. نساء في الصالةِ، في الممراتِ، على سلالمِ الباخرة، نساءٌ متلفعات بحجابٍ، لا يظهر منهنّ سوى عينين تزوغان بسرعةٍ وارتباكٍ، وأخريات عاريات يكاد لا يختفي من أجسادهن موضعُ فتنةٍ، نهدان يسدّان عليكَ الممرَ الضيقَ، تكاد تلامسُ شهوتهما حينما تمرّ جنبهما بحذر، سيقان من مرمرٍ أو أبنوس منحوتة ببراعةٍ وإتقان تصعد السلالمَ بخطواتٍ متجبرة، فتقفُ تحتها مصعوقاً.

" تعاليييييي.. شوفيييي.. عينييييي.. تعاليييييي "

صوتٌ يخترقُ أذنيّ فترتعشُ الروحُ كرعشةِ جسدٍ يلامسُ ماءَ دجلة في الغطسة الأولى. صوتٌ لم أسمعه منذ دهرٍ. ألتفتُ مبهوراً نحو مصدرِ الصوتِ القادم من خلفي أو القادمِ من الذاكرة. صوتٌ أنثوي يعبقُ برائحةٍ شبقيةٍ كرائحةِ عذقِ بُسرٍ، غطّاه غبارُ الطلعِ، فتسيل الشهوةُ عسلاً يقطرُ من (بَرْحيةٍ) ألهبها قيظُ تموز. توقفتُ ملطياً على الجدارِ، فمرتا من أمامي كعشتارين. تطلعتا إلي بزاويةِ عينيهما، ثم أشاحتا وجهيهما بغنجٍ متسامٍ مقنّعٍ بامتعاضٍ مفتعل. أتلعتا جيديهما كزرافتين واجتازتا شاهدةَ القبر المنتصبةَ على جانبِ الممر تحيطهما هالتان من غروب شمس في سماء صيفية.

كان اليوم الأخير من شهر تشرين الثاني من عام 1985 وكانت المدينةُ بيضاءَ، كأنها ترتدي كفناً من الثلج الذي غطّى الشوارع التي كنّا نطلّ عليها من نوافذ الباخرة، كأننا نشاهد فيلماً سينمائياً أو بطاقةً بريديةً وصلتْ إلى صديقٍ، راح يتباهى بها أمامنا فتحلّق أوهامنا بالرحيل إلى المدى البعيد، إلى البيوت القرميدية الحمراء بمداخنها التي لا يترك دخانها سخاماً، هناك حيث تقيم الجنّية الشقراء مستلقيةً على سريرٍ غطته شراشفُ حريرية، أو تقفُ عند نافذةٍ ترسم على زجاجها ببخار الأنفاس قلباً عاشقاً، تنتظر بشوقٍ القادمَ على حصانهِ الأبلق بوجهٍ لوّحته شمسُ الصحراء فألهبتْ جسدَه بالشهوة.

هبطَ الظلام سريعاً فأضيئت الباخرةُ بإنارةٍ خفيفةٍ تشيعُ الراحةَ في النفس، على الرغم من الضوضاء التي يحدثها الأطفالُ، والزعيقِ الذي يطلقه مراهقون نزقون يربكون المكان بحركاتهم العشوائية، محاولين لفتَ أنظارِ الفتيات إليهم. بعد تناولِ العشاء، وكان حساء الفطر مع قطعة دجاج مذبوح على الطريقة الإسلامية، كما كان يرددُ الطبّاخ كلما سلّم الصحن لأحدِ اللاجئين. بدأتُ أشعرُ بالمللِ من حركةِ الوقتِ البطيئةِ وثقلِ انتظارِ القادم. كنتُ واثقاً من مجيئهِ، لكني لا أعرفُ ملامحَه أو ماهيته، وكيف سأعرفه ويعرفني. زاد من مللي أن سجائري قد أوشكتْ على النفاد، ولا أعرف أحداً سوى حميد، صديق طفولتي والذي رافقني في سنوات منفاي الثلاث الماضية في طهران ودمشق حتى وصولنا إلى هذا المكان، ولكن أينَ هو الآن؟ فقد انزوى منذ وصولنا الباخرة. بحثتُ عنه فوجدته جالساً عند نافذةٍ صغيرة يقضمُ أظافره ويطلّ على البحرِ بحيادٍ غريب، إذ لا يبدو على وجههِ فرحٌ أو حزنٌ، كأن الوصولَ إلى الدنمارك الذي كان يحلم به قد أنهى كتابَ الرحيل الذي اهترأتْ صفحاتُه فأطبقه إلى الأبد، وراحَ يبحثُ عن كتابٍ آخر بأبجديةٍ جديدة، وهو الآخر قد نفدتْ سجائره منذ وصولنا الباخرة. ما كدتُ أبوحُ له بقلقي ومللي من حركة الوقت البطيئة حتى صرخَ بشكلٍ استعراضي، كأنه يقوم بتمثيلِ دور ما على خشبة مسرح:

" النوم هو المنقذ الوحيد. "

ثم أضاف بثقةٍ المجرب:

" ألا تذكر كيف استطعنا التغلب على شياطينِ الضجر في معسكرات اللجوء بإيران وسجونها، وخرجنا ولم نفقد عقولنا؟ "

غرفةٌ صغيرة في باخرةٍ راسية، كأنها ترحلُ إلى نهايةِ العالم أو نهاية الوهمِ، حُشرتْ فيها ثلاثة أسرة بطابقين، احتلتها أجساد قلقة لشبابٍ بسحناتٍ وملامحَ شرقيةٍ مُتعَبة، على الرغم من الفرحِ الذي يلوحُ على الوجوه، والذي انعكسَ بحركاتٍ صبيانيةٍ وأحاديثَ ساذجة عن النساء، وعن أحلامٍ وطموحٍ تفتقَ فجأة ببناءِ قصورٍ في الفضاء، مرددين بعضَ المفردات الإنكليزية التي كانت سابتةً في الذهن منذ أيام الدراسة.

مع بدء ساعاتِ الليل ارتفعَ الصخبُ بأقصى مداه، وكأن نهاراً جديداً قد ابتدأ، فغدا النوم مطلباً بعيد المنال. خرجتُ من الغرفة متجولاً في ردهات الباخرة مطلاً على المدينة بأضوائها الخافتة وعلى حركةِ انفتاح الجسر الصغير الذي يقع قريباً من الباخرة وارتفاع فلقتيهِ إلى الأعلى كلما مرت باخرة صغيرة. وجوه كثيرة أعرفها، أتذكرُ أني التقيتُ بها، في إيران، في سوريا وربما في العراق، ولكنها بدتْ لي وكأنها غيّرت شكلَ قناعها.

يرتفعُ صوتُ حسين نعمه شجياً مخترقاً غاباتِ قصبٍ محترقة دافعاً بمرديه مشحوفاً قديماً يخوض في مياه البلطيق الساكنة: 

" ما بيَّ أعوفن هلي ولا بيَّ أعوف هوايْ 

 قلبي نسيته هناك

ياهو اليدوره

ويايْ ويايْ ويايْ ويايْ "

تقاطعه دبكةٌ لبنانية وقرعُ طبولٍ أفريقي يرتفع، مختلطاً بصوت عبد الباسط عبد الصمد مبشراً المؤمنين بحورِ العين، وبأنّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا لغو ولا تأثيم بل لا نفي ولا رحيل. فجأةً ارتفعَ صراخ في إحدى الردهات فهبّ الجميعُ إلى مصدرِ الصوتِ، يتطلعون بفضول لمعرفة الأمر. كان شجاراً كلامياً بين فريقين من فلسطينيين وبولونيين وكان لكل فريق لغته. تطّور الشجارُ فتحولَ إلى معركة بالأيدي والصحون ومنافض السجائر، ولم ينتهِ إلا بعد قدوم رجالٍ من الشرطة الدنماركية بأجساد ضخمةٍ، مسلحين ومصطحبين معهم كلاباً، تُطلق شخيراً غريباً لفضّ النزاع. قيل لنا إن عراكاً حدثَ أمس بين شابين فلسطيني وإيراني، تطورَ بانضمام عددٍ من اللاجئين إلى كلا الفريقين وانتهى بأنْ قامَ أحد الفلسطينيين برمي شاب إيراني من أعلى سطح الباخرة إلى البحر.

رجال شرطة ونساء شقراوات يرتدين بدلات زرقاء ويعلقن في أحزمتهن هراوات بدتْ لي رشيقةً وعفيفةً لم تفض بكارةَ أحد، يتخاطفون في ممرات الباخرة. يقتحمون الغرفَ وعيونهم تجوس المكان بحثاً عن مطلوبين. قصصٌ عن حوادث عنفٍ وعبثٍ وسرقات يقوم بها الفلسطينيون في المدينة. يرتفع صوت شاب فلسطيني حاشراً إبهامه في زناره متمايلاً بميوعةٍ، راسماً بيده الأخرى إشارةً بذيئة:

" طز فيهم، كس أخواتهم، عرصات، منايك، سرقوا وطننا. "

" النوم هو المنقذ الوحيد. "

رددتُ عبارةَ حميد وهرعتُ إلى الغرفة. حشرتُ جسدي في السريرِ، متلفلفاً ببطانيةٍ جديدة وبملابسي التي لا أملك غيرها، متلمساً ورقة العشرين دولاراً التي خبأتها في ياقة قميصي خوفاً من أنْ يصادرها رجال المطار، وخوفاً من أن يسرقها أحد اللاجئين هنا. رقدَ حميد على السريرِ المتقاطع مع سريري فكاد رأسانا يحتكان ببعضهما لضيق المكان. كان غارقاً في صمتهِ، كأنه يحاول نسيان تعبِ الرحلةِ ومعاناة السنوات الثلاث الماضية، وقبل أن نغفو وننهي ليلتنا الأولى في المنفى الجديد، قال بصوتٍ مخنوق وبأسى حاولَ أن يخبئه فيبدو متفائلاً:

" ها نحن قد وصلنا إلى إيثاكا. "

وحينما لم أجبه أو بالأحرى لم أجدْ ما أجيبُ به، راح يرددُ بحزنٍ كأنه يحدو في قافلةٍ تائهة في عرض صحراء:

" سنمضي

 إلى أين نمضي؟

 ألمْ نقفِ الآنَ في آخر الأرضِ؟ "

في اليوم التالي زارنا إلى الباخرة صديقٌ كان قد وصل إلى الدنمارك قبل سنةٍ، جالباً معه ملابس شتوية قديمة. فرحنا بها كأنها سقطتْ علينا من السماء، حيث كنا لا نرتدي سوى قميص صيفي مهترئ وبنطلون عتيق، هما كلّ ما خرجنا به من دمشق. لا أدري كيف علمَ بوصولنا، ربما كان حميد قد أخبره عن موعد وصولنا برسالة من دمشق. لم أشغلْ بالي بهذا الأمر، فلم أكنْ على علاقةٍ وطيدة معه، بل كنتُ أكرههُ وأتجنبُ اللقاء به، حينما كنا معاً في طهران. كان الزائر أنيقاً، تبدو عليه علاماتُ الراحةِ والاستقرار حتى بدا لنا كأنه يعيش في كوكبٍ آخر. دعانا للخروجِ معه للتعرف على كوبنهاكن، " المدينة الوديعة، الهادئة برغمِ الصخب الذي تمتاز به كل عواصم العالم ". رحبنا بالفكرةٍ، بل إني نسيتُ تلك اللحظة كرهي له. سرنا في شوارعَ فرعيةٍ صغيرة، وانتهينا إلى شارعٍ عريضٍ مزدحمٍ بالناس ومستقيمٍ بشكل دقيق، تصطفُ على جانبيهِ محلاتُ بيعِ الألبسةِ والمطاعمُ والحاناتُ التي تبدو بظلامها وبصيص ضوء الشموع في داخلها كأنها عالم غير مكتشف. قال لنا الصديق متباهياً بخبرتهِ ومعرفتهِ بأسرارِ المدينة، وبغرورٍ استسلمنا له لجهلنا بكل شيء:

" هذا هو شارع المشي. "

ثم أضاف بلغةِ الأدلاء السياحيين:

" هنا، في كل مدينة دنماركية شارع رئيسي يقع في مركزها خُصص للسابلة فقط. "

شعرتُ وأنا أصغي إليه بودّ مفرطٍ وبحالة من الاطمئنان لوجوده معنا، على الرغم من أني عرفته منذ أولِ يومٍ لوصولي معسكر اللاجئين في طهران قبل ثلاث سنوات، وكان في نظري مثالاً للخبثِ، بل هو النذالة عينها تمشي على قدمين، وكنتُ أكنّ له كراهية شديدة، وقد كنتُ على حق، فأنه لم يكنْ ودوداً بطبعه، لكن الآن بدا لي وقد تغيرَ، أو ربما صدمتي وخوفي من مدينة أجهلها تماماً هو ما جعل شعوري يتغيّر نحوه. كان يتحدث بهدوء وإلفةٍ على الرغم من أنه كان يحاول أن يُشبعَ في نفسه حالةَ غرورٍ بتقمصهِ دور العارف بأسرارِ المدينةِ ، الخبير بأسرارها، متاحفها، معارضها، مسارحها، وكذلك بحاناتها ونسائها. دعانا بلباقةٍ مفتعلة إلى كافتريا صغيرة تطلّ واجهتها الزجاجية على الشارع الكبير. أزاح كرسياً بحركةٍ استعراضيةٍ ثم جلسَ باسطاً كفيه في الهواء يدعونا للجلوس بنظرةِ استعلاء واضحة. التفتَ نحوي وسألني ماذا سأشرب فقلتُ:

" استكان شاي. "

تطلعَ في وجهي بنظرةِ سخرية، ثم أطلقَ ضحكةً عالية هازّاً كتفيه بافتعالٍ، محاولاً إطالة ضحكتهِ التي لم أكنْ أعرف لها سبباً، لكني حاولتُ أن أجاريه بضحكةِ خجلٍ مصطنعة. توقفَ عن الضحك وهو يمسحُ دمعاً لا وجود له في عينيه بمنديلٍ ورقي وهو يرددُ باستخفاف:

" شاي!؟ "

وحينما أبديت استغرابي من تعجبه أضاف محاولاً كتمَ سعالهِ:

" استكان شاي!؟ "

وارتفع ضحكه مرة أخرى، ولم يتوقفْ حتى اقتربتِ النادلة من طاولتنا، عندها استعادَ توازنه متخذاً هيئة وقارٍ لا تليقُ به، فسنةٌ واحدة في الدنمارك غير كافيةٍ أن تهذّب هذا المعيدي النتن، ناهيك عن وجههِ النحيف المغبرّ، وقد انتشرتْ عليه بثورٌ وحفرٌ من آثار حَب الشباب، فغدا مثل (قندرةٍ) عتيقة. تحدثَ معها بلغةٍ أجهلها تماماً، لكنه بدا لي وهو ينطقُ بضعَ كلماتٍ بأنه يتحدث بطلاقةٍ لا تناسب الفترة الزمنية القصيرة التي قضاها هنا. بعد دقائق عادت النادلة تحمل صينيةً صغيرة، مخترقةً بحذرٍ أجسادَ الشباب والصبايا التي سدتْ فضاء الكافتريا الضيق. انحنتْ قليلاً وهي تضعُ بتأنٍ على الطاولة ثلاثةَ أكوابٍ من الكابتشينو دون أن تنظر إلينا. امتدتْ يدي إلى الكوب غير أن قدماً ثقيلة هوتْ على قدمي فجأة، فجفلتُ مذعوراً وأنا أتطلع إليه مستفسراً. رأيتُ نظراتهِ النارية تحاول أن تخترقني بغضبٍ واستعلاء، ثم أشاحَ نظره إلى الجانب الآخر بوجهٍ ممتقع زاده الامتعاضُ قبحاً. سحبتُ يدي بحركة لا إرادية ظناً بأني قد تعجلتُ بمدّ يدي نحو الكوب، وهذا ربما يخالف التقاليد المعروفة في هذا البلد. حينما أكملتِ النادلة مهمتها وتركتْ طاولتنا التفتَ إلي ماسكاً ذراعَ قمصلتي بسبابةٍ وإبهام، هازاً ذراعي وهو يتطلعُ إلي بطرف عينه، وبلغةِ تأنيب فظّة بادرني:

" هذي كوبنهاكن وليست بغداد أو طهران.  "

وحينما استفسرتُ منه عن سببِ غضبه، أجابني متهماً إيّاي بأني كنتُ أنظر إلى نهدي النادلة المندلقين بشراهةِ منْ لم يرَ امرأة في حياته، متمتماً بكلماتِ سخرية لم استطع التقاطها. ارتبكتُ. تشنجَ لساني وجفّ ريقي فلم أستطع نطقَ كلمة، أردّ بها الاعتبار لنفسي. التفتّ إلى حميد، لعلّ تدخلاً منه بيننا ينقذني من حرجي في هذا الموقف غير أن حميد كان غائباً عنا تماماً بصمته وهو يمتصّ عقبَ سيجارتهِ، متأملاً حركةَ الناس في الشارع. حاولتُ ازدرادَ غصتي، كاتماً غضبي وحقدي بخجلٍ وحزن، وأشحتُ بوجهي إلى الجهة الأخرى . كانتْ بي رغبة لتركِ المكانْ إلا أن شعوراً غريباً كان يجعلني أتواطؤ ضد كرامتي ويدفعني لمجاراة الحالة. ساد صمت بيننا. حاولَ كسره بابتسامةٍ مفتعلة واعتذارٍ بارد. هززتُ رأسي مسامحاً، غير أنه عادَ وبلغةِ تأنيب يكيلُ النصائحَ لي، كأنه يتحدث مع طفلٍ موضّحاً لي الفارق الشاسع ما بين تقاليدنا وتقاليدهم، ما بين رقيهم وتخلفنا، مشيراً بخبثٍ كي يبرئ نفسه من سلوكه الفظ، إلى ضرورة الإقلاع عن العادات السيئة كقضم الأظافر أو وضع الإصبع في الأنف. لم أجارِه في الكلام مكتفياً بهزة رأس وإغماضةٍ، هرباً من رؤية وجههِ الطافح بنشوة انتصارٍ حققها ضدي، ملقياً اللومَ على الغربة وضعفي، الذي جعلني ألبّي دعوته بالخروج معه، على الرغم من علمي بالعداء الذي يكنّ كلّ منا للآخر .

تركنا الكافتيريا وقد اقترحَ الدليلُ أن نذهب إلى محطةِ القطار الرئيسية التي لا تبعد كثيراً عن مكان الكافتيريا، والتي تقع في مركز العاصمة. كان حميد وعلى الرغمِ من علاقتهِ الوطيدة به، إلا أنه تركَ حملَ صديقهِ الثقيل وفظاظته علي، مشغولاً بصمتهِ وتطلعه إلى الأماكن والنساء، اللواتي بالرغم من الطقس البارد كنّ بملابسهن الفوضوية يمشينَ كأنهن عاريات، فالكنزات القصيرة تكشفُ شيئاً من اللحم الأنثوي يكفي للحرمان أن يجسّدَ ما يتخفى تحت الملابس، والسرّة الساطعة كقمرٍ تثير ذئب الشهوة فيرتفع صوتهُ بالعواء، والجواربُ الملتصقة على الأفخاذ أو بناطيل الجلد السوداء كانت تشيع عرياً أكثر إغراءً من العري الحقيقي، فكنتُ أرى حميد يقفُ مبهوراً كلما وقعَ نظره على صبيّة قادمةٍ نحونا. يتوقفُ متسمراً أو مشلولاً، ثم وبحركةٍ لا إرادية يلتفتُ ويتابعُ خط اجتيازها، لينظرَ إلى مؤخرتها حتى تختفي في الزحامِ، وسرعان ما تشغلُ حيزَ النظر صبيّة أخرى. كانت عيناه غائرتين تبدوان لضيقهما كثقبين صغيرين، وموجات الهوس تتلاطم على ساحلِ وجههِ تاركةً ذهولاً واضحاً وحركات هيستيرية، فيبدو كأبلهَ أو كغريبٍ خائفٍ من وحشةِ الطريق.

محطةُ كوبنهاكن كبقيةِ محطات المدن الكبرى تضجّ بالمسافرين، بحركاتهم السريعة ووضوحِ اتجاهات حركاتهم المتقاطعة فيصطدمون ببعضهم كأنهم ذوات تبحثُ عن نفسها في زحام الكتل البشرية. السلالمُ الكهربائية المتحركة تنقل المسافرين هبوطاً نحو سكك القطارات أو صعوداً نحو المحطة باتجاه بوابات الخروج، لكن الغريبَ في محطة كوبنهاكن أنها ليستْ نقطةَ انطلاق وعودة المسافرين فحسبْ، بل إنها منتزه ومحطة للتأملِ في أحوال البشر أو في المسافات المقطوعة أو المتبقية من رحلة العمر. في المحطةِ انتشرت محلاتٌ وكافتريات وسوبرماركتات وكذلك مصاطب لجلوس الضائعين والغرباء والذين بلا مأوى، ومكان للقاء العشاق والأصدقاء، حانات متحركة حيث تجد العشراتِ ممنْ يحملون قناني البيرة يشربونها وهم واقفون أو سائرون، وسوق سوداء لبيع الحشيشة والمخدرات بكلّ أنواعها. ناس من أجناس مختلفة، شقر الشعور وزنوج ووجوه بسحنات شرقية، نساء من كلّ الأعمار والمستويات، السيدات بمعاطف الفرو النفيسة إلى جانب صبايا بملابسَ فوضوية، يحملن حقائبهن على ظهورهنّ أو يفترشنَ الأرضَ وعيونهنّ ذابلات من السهر أو السكر، وكذلك المومسات بأصباغهنّ الصارخة وأجسادهنّ المترنحة، يعقدنَ صفقاتٍ سريعةً ودون خشية أو مواربة. أشارَ الصديق إلى بوابة كبيرة في الجهة الشمالية للمحطة.

" لنخرج من هذه البوابة! "

قال بصيغة أمر ثم أضاف:

" ستكون مفاجأة لكما. "

قال بشكلٍ يوحي بالخبث، كأنه يخفي سراً والتفتَ إلي كي يؤكد نيته:

" ستفرح لها بالتأكيد. "

لم ألمحْ شيئاً غريباً حينما خرجنا إلى شارعٍ عريضٍ يضج بالمارة والسيارات. شعرتُ براحةٍ حينما استنشقتُ هواءً رطباً، بعد أن ضاقتْ أنفاسي من ضنك هواء المحطة الخانق، كأنه مشبع برائحةِ اليود أو رائحة البول مختلطة برائحةِ الأسفنيك ودخان غريب. عبرَ قاطعاً الطريق أمامنا فتبعنا خطواته منتظرين المفاجأة التي كان يخبئها، متجهين نحو شارع آخر يقطع الشارع الأول بشكل عمودي.

" شارع Istedgade  "

قال ثم أضافَ موضحاً:

" أو شارع السكس كما يُطلق عليه هنا. "

شارعٌ عريض وطويلٌ لم نرَ له نهاية واضحة، تصطف على جانبيهِ محلاتٌ بواجهات زجاجيةٍ عريضة، عُرضت فيها مجلاتٌ جنسية ودمى نسائية وأيورٌ بلاستيكية بمختلف الأحجام والألوان، وقد كتب على واجهات المحلات بخط كبير وبألوانٍ صارخة (sex show). حاناتٌ بواجهاتٍ معتمة، كأنها تخفي في داخلها دهاليزَ وأسراراً لا يمكن أن تكشف إلا لمَنْ يدفع، وفعلا هي كذلك فقد وضّح لنا الدليل بأنها بارات تعرضُ أفلاماً جنسية ونادلاتها عاريات الصدور أو عاريات تماماً.

في البدء دبّ الخوف في نفسي وازدادتْ ضربات قلبي سرعةً كأني مقدمٌ على ارتكابِ جريمة وبانتظارِ قدوم الشرطة في أية لحظةٍ لإلقاء القبض علي متلبساً بجريمةٍ غامضة. قدماي، وأنا أخطو بارتباكٍ ترتطمان ببعضهما كأن الرصيف لا يتسعُ إلا لقدمٍ واحدة. تطلعتُ إلى حميد فتيقنتُ بأن الارتباك قد أصابه كما أصابني بل أكثر مني، فقد تخلى عن صمته وراح يتمتمُ بكلماتٍ لم استطع التقاطها كأنه يتحدث في نومه أو كثرثرةِ محموم. يتوقف عند واجهات المحلات ويتطلعُ إلى أغلفةِ المجلات الجنسية وعيناه تصغران شيئاً فشيئاً حتى تصبحا كثقب إبرة. كنتُ أسمعُ صوتَ أنفاسه وهي تضيق فيلتقطها بصعوبةٍ، وأرى حركةَ صدرهِ في الشهيق والزفير واضحةً، ويرتفعُ صوتُ خشخشةِ رئتيهِ المتبغتين، ويسعل مثل هرمٍ مسلول. حاولتُ أن أتوازنَ كي أثبتَ لهذا المتربص بي الذي راح يتابع حركاتي بخبثٍ محاولاً اقتناص أية حركة ناشزة تبدرُ مني فتعطيه المبرر كي ينفّس عن عقدتهِ وحقدهِ علي. سرتُ باستقامةٍ محاولاً تحاشي النظرَ إلى واجهاتِ المحلات أو إلى المومسات اللواتي توقفن عند المنعطفات وتقاطعِ الطرق الفرعية أو على دكّات البنايات، يتطلعن إلى المارّين بنظراتِ توسلٍ وغنجٍ مبتذلٍ، متحفزات لأية إشارةٍ من عابرٍ يصطدنه بصنارة إغرائهن أو ربما هو يأتي إلى الطعم بلا قلب. توقفتُ على صوتِ الدليل يناديني، وحينما التفتُّ إليهِ رأيته يلوّح لي بذراعه مودعاً، ثم حثّ خطاه عائداًً باتجاهِ المحطة دون أن يلتفت. شعرتُ بأن أمراً ما قد حدث جعله يتخلى عن صحبتنا ويؤثر الهزيمة. بحثتُ عن حميد فلم أجده خلفي. عدتُ باتجاهِ المحطة أبحثُ عنه بقلقٍ وخوف. وجدتُه واقفاً في مدخلِ بنايةٍ يتحدث مع مومس. ارتبكتُ. توقفتُ على بعد بضعِ خطوات منه محاولاً الإصغاء إلى حديثه. كان يتحدث معها بلغةٍ انكليزية بسيطة هي بعض ما تبقى في الذاكرة من مرحلة الدراسة. كان يحرّك يده في الفضاء، بينما كانتْ يده الأخرى تدعكُ خصيتيه بحركةٍ مفضوحة وهو يتحدثُ معها بجرأةٍ حسدته عليها، على الرغم من امتعاضي وتصاغره في نظري. عبرتُ الشارع إلى الرصيفِ المقابل كي يتسنى لي رؤيتها بوضوح. كانت صبية لم تبلغ العشرين من عمرها، مكتنزة الجسد بنهدين كبيرين تخيلتهما مترهلين ممصوصين فلم يبق منهما سوى القشرة الذابلة وردفين كبيرين يفيضان عن المؤخرة إلى الجانبين. شعرتُ بخوفٍ وتوجسٍ من أن يحدث أمر أو فضيحة. حاولتُ أن أهربَ تاركاً حميد إلى مصيرهِ، إلا أن خوفي تبددَ وحلّ حسدٌ وفضول، حينما رأيتها تتحدث معه بودّ واضح وتضحكُ بصوت عالٍ واضعة يدها على كتفه. فكرتُ أن أخطو نحوهما طمعاً بإلقاء نظرةٍ عن قرب أو مشاركة في الحديث، لم تطعني قدماي فتوقفتُ أنظر إليهما وأنتظرُ نتيجةَ المساومة على الرغم من معرفتي بإفلاس حميد. امتدتْ يد حميد إلى صدر المومس فصدّته ضاحكةً بعهرٍ وقد ازدادتْ حركة يده الأخرى بشكل فاضح. خطوتُ خطواتٍ قصيرةً على الجانب الثاني منشغلاً بالتطلع إلى واجهات المحلات. ربطتُ شريطَ حذائي مراتٍ عدة محاولاً التحايل لإضاعة الوقت، متلفتاً نحو حميد مرةً ونحو وجوه المارين مرةً أخرى، متحسباً لمرور شخص يعرفني، غير أن الأمر لم يكنْ يستحق هذا الخجل، فالناس يمضون إلى غاياتهم دون أن يعيروا انتباهاً إلى أحدٍ، بل إن الكثيرين منهم يتوقفون بجرأةٍ ويتطلعون إلى واجهاتِ المحلات، ورأيت نساءً يدخلن المحلات بثقةٍ ويخرجن دون أن تبدو على وجوههن علامات ارتباكٍ أو خجل. رفعَ حميد يده مودعاً المومس فسحبتْه من يده وطبعتْ قبلةً على خدهِ مشفقةً على إفلاسه وهياجهِ المحموم. توقفَ عند حافة الرصيفِ يبحث عني، فرفعتُ إليه ذراعي ملوّحاً. عبرَ الشارعَ نحوي فلمحتُ بللاً على بنطلونه. التقطَ اتجاه نظرتي فنظرَ إليّ بخجلٍ وهو يحاولُ أن يغطّي موضعَ البللِ بيديه. سرنا عائدين إلى المحطةِ دون أن ننطقَ بكلمةٍ، وكلّ منا يتحاشى النظرَ في عيني صاحبه، كأننا ارتكبنا جريمةً مخلّة بالشرف، وها نحن نتواطؤ على التستر وإخفائها. في المحطة وجدنا مصرفاً صغيراً استطعتُ تبديل العشرين دولاراً بعملةٍ دنماركية وعدنا من حيث أتينا. قبل وصولنا إلى باخرةِ الصليب الأحمر اشتريتُ علبتي سجائر وعشر قناني بيرة.

بعدَ القنينة الثانية وبدء سريان الخدر، لمحتُ في عيني حميد رغبةً في البوحِ بسرّ ما. حاولتُ تجاهلَ الأمر كي أعطيهِ انطباعاً بأني لستُ متلهفاً على سماع حديثٍ يُفلته السكر من اللسان فيندم عليه غداً. تشاغلتُ عنه بعبّ مزيدٍ من البيرة وبجرعاتٍ طويلة من فمِ القنينة، إلا أنه ركّز نظراته علي كأنه يتسولُ مني الإصغاء. تطلعتُ إليه مستفسراً عن سبب صمتهِ وقلقهِ، فأزاحَ قنينته جانباً، وهمّ أن يقول شيئاً إلا أنه توقفَ مطأطئاًً رأسه.

" ما بك؟ "

سألته بقلقٍ فأجاب:

" لا شيء.. لا شيء.. "

ثم افترتْ شفتاهُ عن ابتسامةٍ خجولةٍ، تحولتْ إلى ضحكةٍ توحي بالحيرة أو عدم الثقة بالنفس، وقبل أنْ أعيدَ سؤالي عليه، قال وكأنه يحسمُ أمره:

" تعرف؟ أنا الآن أكملتُ الثلاثين من عمري. "

" وأنا كذلك. "

قلتُ ببرودٍ حاثاً إياه بنظراتي المستفسرة أن يدخلَ الموضوع دون مقدمات. أدركَ ذلك فارتفعَ صوته بضحكةٍ حاولَ إطالتها. وحينما توقفَ عن الضحك ارتسمتْ على وجههِ علاماتُ حزنٍ، فرضتْ نفسها على وجههِ بالرغم من محاولتهِ لإخفائها بالضحك.

" تعرف!؟ "

توقفَ فصرختُ به بنفادِ صبرٍ أن يكمل حديثه فقال:

" تعرف؟ أنا لم أمارس الجنسَ مع امرأة حتى الآن. "

وكعادتهِ حينما يتحدثُ بأمورٍ كهذي فأنه يحاول أن يغلّفها ببلاغةٍ أدبية لكي يعطي للكلمات تهذيباً، يوازنُ به وقاحةَ الموقفِ حسبما يعتقد، لذلك حينما وجدني أقابلُ كلامه المتردد بالضحكِ واللاأبالية، شعرَ بالخجل والارتباك، فحاولَ إعادةَ الكلام بطريقةٍ أخرى:

" أعني.. لم أرتشف امرأةً في حياتي. "

توقفَ قليلاً منتظراً ردة فعلي على ما قاله، فتطلعتُ إليه ببرودٍ وقلتُ بثقة:

" وأنا كذلك. "

ارتسمتْ على وجهه علامةُ ارتياحٍ، كأنه تخلصَ من عبءٍ، ووجد شخصاً ثانياً يشاركه معاناته، فأضفتُ مجارياً طريقته بالكلام:

" أعني.. أنا كذلك، لم أذقْ طعم امرأة في حياتي. "

تطلعَ إلي بصمتٍ ثم انفجر بضحكةٍ بلهاء. حاولتُ أن أغيّر الموضوعَ فاستجابَ للأمرِ بسرعةٍ كأنه كان بانتظار ذلك. ولكي ينهي موضوعاً تورّط بفتحهِ أمامي وينتقل إلى موضوعٍ آخر، نهضَ خارجاً من الغرفة إلى دورةِ المياه، ثم عاد خفيفاً كأنه ألقى حملاً ثقيلاً عن كاهله. جلسَ صامتاً، يتجنبُ النظرَ إلي، وكلما التقتْ نظراتنا كان يبتسم ابتسامةً باردة ثم يشيح بنظراتهِ إلى زوايا الغرفة. بانتْ عليهِ علاماتُ السكر بعد أن أكمل قنينته الرابعة، فراحَ يفركُ عينيه ويدعكُ وجهه براحة يده بشكل يدلّ على الاضطراب والقلق. ولكي يوحي إلي بالتوازن شرعَ يدندن بأغنيةٍ لم أسمعها من قبل. وحينما وجدني مشغولاً عنه بالصمت، ارتفع صوته بالغناء لكي يُخرجني من صمتي الذي ربما كان يحسبه استغراقاً بما يشغله هو:

" زمان اللي عرفنه كانْ

 عنود وسلّط الحرمانْ

 أخذنه للفرحْ مرّه

 وعشر مرّات للأحزانْ "

انتبهتُ إلى كلمات الأغنية وما تكشفُ عنه من لوعةٍ كامنة في داخلهِ راحَ السُكر يستفزّها فتندلق طليقةً، تبوح بمعاناةٍ مكبوتة مركّزاً على كلمة (الحرمان) فتخرجُ من حنجرتهِ ملتهبةً، وكأنه يختصر بها سنيناً سوداءَ من الجوع والقهر، لكني حاولتُ أن لا أوحي إليه بأني أدركتُ المغزى، فافتعلتُ الانشغال بمتابعةِ دوائر الدخان الذي انفثه من سيجارتي بعبثٍ أو ملل. ارتفعَ صوته أكثر مصحوباً بحشرجةٍ وضيق نفس:

" يا روحي تعالي نذوبْ

 ونكتب للقدرْ مكتوبْ

 يمكن هالفرحْ يفرحْ

 يمكن هالحزنْ يسرحْ

 يمكن هالزمان يتوبْ

 يمكن هالزمان يتوبْ "

تطلعتُ إليه بنظرةِ إشفاقٍ أو عتب على تحويلهِ جلستنا التي أردنا لها أن تمحوَ شيئاً من التعب، وتساعدنا على نسيان الضوضاء التي يثيرها اللاجئون في الباخرة، غير أنه كان قد انفصل عني تماماً كأني لستُ موجوداً معه. ارتفعَ صوته حتى تحول إلى زعيقٍ وحشرجةِ ندبٍ تثير في النفس الشفقة على هذا الكائن المتمزق، المستمتع بحزنهِ كأنه يستحلبُ الحزنَ ليجمعه كلّه في كأسِ اللحظة، موصداً البابَ بوجه بقايا الأمل الذي بدأنا نشعر به بعد وصولنا إلى الدنمارك، والبوادر التي تشير إلى انتهاء مرحلةِ الخوف والحرمان اللذين كنا نشعر بهما في العراق أو إيران وسوريا. حاولتُ أن أوقفه عن الغناءِ أو الصراخ، كيلا نعطي الفرصة لبعض اللاجئين الذين يتحينون الفرصة للإساءة إلينا بسبب ترفعنا عنهم، كاتماً اشمئزازي من حشرجةِ صوتهِ، إلا أنه تجاهلني تماماً كأنه لم يرني أو يسمعني، حتى توقفَ فجأة لاهثاً وقد تراكمَ زبد على شدقيه وتهدلتْ شفته السفلى بشللِ السكر. حاولتُ تهدئته فرفعتُ قنينتي منتظراً أن يرفعَ قنينته لنشربَ ما تبقى فيهما، إلا أنه كان غائباً عني تماماً. أخفضَ رأسه منشغلاً بفركِ فتائل الوسخ على قدمه، ثم انفجر ببكاء غريب.  

وقفتُ خلفه ماداً ذراعيّ تحت إبطيه وحملته عن الأرض فانقادَ إلي باستسلامِ طفلٍ نائم. أجلسته على سريرهِ وهو يرددُ بيت شعرٍ للمعري:

" جسدي خرقةٌ تخاطُ إلى الأر   ضِ فيا خائطَ العوالمِ خطْني "

لوى رقبته ثم سقط جسده هامداً على الفراش. رفعتُ ساقيه بصعوبةٍ ورميتُ البطانية على جسده، وقبل أن أتركه تطلعتُ في وجهه وهو مستسلم لغيبوبته فأحسستُ بحبّ شديدٍ نحوه. حرّكَ جفنيه بصعوبة كأنه كان يراني وأنا أتطلع إليه. فتحَ عينيه راسماً ابتسامةَ سخرية تعلن عن خيبةٍ مُرة وعن لاجدوى تعمّ الوجود. مدّ يده متشبثاً بذراعي بقوة، وبصعوبةٍ همس لي:

" أنا مو سكران ولكني اشتقتُ للـ ... "

توقفَ قليلاً ثم نطقَ بخجل:

" اشتقتُ للعراق. "

أطفأتُ الضوء وارتميتُ على سريري متعباً. لحظات وارتفع صوت أنين مفجوع، يختزلُ سنواتِ الحرمان والقهر، أو يختزنُ العراق.

أسبوعان مرّا على وجودنا في الباخرة، كنّا نفيقُ صباحَ كلّ يوم ونهرعُ إلى الإدارة لنطّلع على القوائم المعلقة على الجدار، والتي تضمّ أسماء اللاجئين المدعوّين للتحقيق النهائي، والذي سيتمّ بعده إصدار أمر الموافقة على قبولِ طلب اللجوء والحصول على الإقامة. وحينما لم تكن أسماؤنا من بين الأسماء المعروضة، نعودُ لإكمال نومنا حتى موعد وجبة الغداء، بعدها يبدأ صراعنا مع الوقت. نتجولُ في ردهاتِ الباخرة بقلق. نجلسُ، ننهضُ ونجلسُ مراتٍ لا تحصى. نطلّ من النوافذ الصغيرة على حركةِ الماء وحركة انفتاحِ الجسرِ عند مرور البواخر تحته. نرقب حركة النسوة. نطيلُ التركيزَ على إحداهن طمعاً بالتفاتةٍ منها أو ربما ابتسامة تكون بداية لعلاقةٍ يكملها الوهم. ليس وهماً فقد أقامَ بعضُ اللاجئين العراقيين (الجَسور منهم أو المحظوظ طبعاً) علاقات عاطفية وجنسية مع نساء إيرانيات وأرتيريات وبولونيات، وقد كانوا موضعَ حسدِ الآخرين.

سجائري نفدتْ، وهذا ما زاد من وطأة القلق. انتبهَ النزيل في غرفتنا إلى أن سجائره تُسرق كل يوم. قال ذلك وهو ينظر إلي بشكّ، وقد كان شكّه في محلّه، فقد كنتُ فعلاً أسرقُ منه كلّ يومٍ علبة نتقاسمها أنا وحميد، حتى أغلقَ عليها حقيبته بقفلٍ وراح يدخنُ بعيداً عني كيلا يُحرجَ حينما أتسولُ منه سيجارة. أخبرنا موظف الصليب الأحمر بأنهم سيعطوننا راتباً أسبوعياً يكفي لشراء سجائر، ولكن مرّ على وجودنا هنا أسبوعان ولم نحصل على الراتب المزعوم على الرغم من تأكيدهم كلما ألححنا بالسؤال.

أفقتُ ظهراً فلم أجد حميد. بحثتُ عنه في ردهاتِ الباخرة وممراتها فلم أجد له أثراً. أخبرني أحدُ اللاجئين بأنه شاهده وهو يخرجُ من الباخرة ذاهباً إلى المدينة. تأكدَ لي أمرُ خروجه بعد أن علمتُ بأنهم صرفوا لنا راتبَ أسبوعين، ولكن أين ذهبَ يا ترى؟. خرجتُ من الباخرة متوجساً، متخذاً الطريق نفسه الذي سلكناه بصحبةِ الصديقِ الذي غاب عنا منذ ذلك اليوم، واضعاً نقاط استرشاد تعينني على العودة. مررتُ بشارعِ المشي، جلستُ في الكافتيريا نفسها مرتشفاً الكابتشينو بلذةٍ وأنا أتطلع إلى الشارع الضاج بعنفوانِ الشباب والشابات، مختلساً نظراتٍ خجولة إلى عاشقين يتعانقان أو يتبادلان قبلاً حارة ويدفئان جسديهما ببعضهما. لفتَ نظري تكنيك جديد للقبلةِ لم أره من قبل، حيث أن الشاب يقف فارجاً ساقيه، ناشراً ذراعيه كجناحي نسرٍ يهمّ بالطيران، دافعاً حوضه إلى الأمام قليلاً. ترتمي هي بين ذراعيهِ دافعةً صدرها بقوةٍ إلى صدره العريض فيحيط كتفيها بذراعه ويده الأخرى تغرز أصابعها عميقاً في عجيزتها، دافعاً بها نحو حوضه وهو يتطلع بكبرياء إلى عينيها المتوسلتين، ثم يفتحُ لها فمه بغيبوبةٍ ماداً لسانه إلى خارجه، فتقرب هي شفتيها ببطء ثم تلتهم شفتيه، ماصةً لسانه بعنفٍ، ودون أن يعيرا انتباهاً لأحد، يطيلان الزقزقة بشهوةٍ تثيرُ الحسرةَ وجنون الجسد.

دخلتُ محطة القطار الكبيرة. جلستُ على مصطبةٍ فارغة وأنا أتطلع في الوجوهِ السمراء لعلي أعثر على أحدٍ أعرفه. كانتِ الأفكارُ تتسارع في ذهني وأنا أتأمل هذه المخلوقات الراكضة كأنها تسابقُ الوقتَ للوصول إلى الفراغ، تتصادم ذواتها بذواتِ الآخرين محدثة دوياً غير مسموع. الوقت يمر بطيئاً، وشعور بالغربة والضياع يستبدّ بي فيشلّ عقلي على الرغم من غليان الخواطر والأفكار في رأسي فتضمحلّ إرادتي وأعجزُ عن القيام بعمل سوى الاستسلام إلى أفكاري التي تصطدم ببعضها.

" الأفعال تتشابه أو تفقد معناها فلا السير يبدو سيراً ولا الوقوف وقوفاً طالماً لا توجد غاية سوى محاولة الهروب من الضياع بضياعٍ آخر أو ببوصلة عاطلة. "

" وحينما يفقدُ فعلُ السير معناه يفقد الطريقُ ملامحه."

" هل يشعرُ الإنسانُ بالضياع حينما يغور في ذاته أم حينما يخرج منها؟ "

" هل المنفى مكان أم لامكان؟ "

" هل المنفى زمان؟ "

" هل لهاجس الجنس علاقة كبيرة بالشعور بالضياع؟ " 

" الضياع هنا يعني فقدان الإنسان لإنسانيته فيتجسد به العدم، عندها يحاول الضائعُ أن يبحثَ عن حيوانيةٍ يثبت بها وجوده."

" حيوانية!!؟ "

" ............... "  

تسللتُ بخوفٍ نحو بوابة المحطةِ الشمالية المؤدية إلى شارع السكس. عبرتُ الشارع بحذرٍ شديد فدخلتُ العالم الأسطوري الذي تصطفّ على جانبيه الميدوزات. خطرتْ في ذهني فكرةُ أن أدخل إحدى الحانات المظلمة، اقتربتُ من إحداها، اجتزتُ ممراً ضيقاً معتماً، خمس درجات موحلة ارتقيتها بحذرٍ نحو باب الحانة، ازدادتْ سرعة نبضي، مطارقُ تطرقُ صدغيّ بعنف. أدرتُ مقبضَ الباب متوجساً من شيء لا أعرفه، فاصطدمتُ بعتمةٍ حمراء وعاصفةٍ من دخانٍ غريب. شممتُ رائحةَ عفونةٍ رطبة كرائحةِ سردابٍ مليء بجثثٍ متفسخة. شعرتُ بدوارٍ فتمسكتُ بمقبضِ البابِ ثم انطلقتُ هارباً نحو الشارع. أحسستُ بوقعِ خطى تتعقبني وصوتٍ يناديني:

" قفْ! "

وصوتُ سحْبِ أقسام بنادق تكاد تلامس ظهري، براثن ستنقض علي. لم ألتفتْ، وحثثتُ خطاي باتجاه لا أعرفه.

" قفْ! "

ضحكةٌ طويلةٌ أطلقتها مومسٌ، كانتْ تقفُ على الرصيفِ حينما رأتني أتعثر بصندوق قمامة. نهضتُ وواصلتُ الركض حتى توقفتُ عند منعطفِ زقاقٍ يحتلّه محلّ كبيرٌ لبيعِ مجلات جنسية وأفلام فيديو ودمى وأيوراً بلاستيكية بمختلف الأحجام. دخلتُ المحل وانزويتُ في ركنٍ بعيد عن أنظار البائعة. رحتُ أقلّب المجلاتِ متلفتاً بين اللحظة والأخرى، محاولاً تقليد بعض الزبائن المشغولين بتقليبِ المجلات. اقتربتْ منّي صبية شقراء فأعدتُ المجلة إلى مكانها على الرفّ وأخفيتُ هوسي. وقفتْ خلفي تماماً حتى سمعتُ صوت أنفاسها. سألتني إن كان بإمكانها أن تساعدني بشيء، فتناولتُ إحدى المجلات وأشرتُ إليها برغبتي في شرائها. تناولتِ المجلة مني دون ارتباكٍ أو إثارة وسارتْ أمامي. كانت ترتدي تنورةً جلديةً سوداء ضيقةً وقصيرة جدا تكشف أعلى فخذيها المتناسقتين، تكاد الشهوةُ تضيء وهي تنزلق عليهما، فيتدفق الدمُ من أناملِ الرائي. دفعتُ لها الثمن ودسستُ المجلة في عبّي وخرجتُ هارباً كسارقٍ يحاول الوصول إلى مكانٍ آمن بعيد عن موقع السرقة. كانت الميدوزات في واجهات المحلات الزجاجية تحدقُ بي فأحسستُ بأن جسدي بدأ يتحجرُ شيئاً فشيئاً. دبّ الرعب بي، هرعتُ مهرولاً عائداً إلى المحطة أبحثُ عن حميد أو أيّ شخصٍ أعرفه. قبل الوصول إلى المحطة أخرجتُ المجلةَ ودون أن أنظر إليها رميتها في حاوية القمامة فشعرتُ بأني تخلصتُ من رزمةِ المنشورات السرية قبل أن يُلقى القبض علي. في المحطة كنتُ أحاذر السير وحدي حاشراً نفسي في مجاميعِ المسافرين كي أكون بعيداً عن عدسات الكاميرات التي تترصدني، عيون رجال الشرطة بهراواتهم المشهرة. عبد الحسين ملا راضي معلمُ الدين بعصاه الغليظة يركض خلفي مردداً " والزانية والزاني فاجلدوهما مائة جلدة "، رفاقي يتجمهرون دوائرَ دوائرَ وهم يتهامسون بشماتةٍ لافتضاحِ أمر هذا الغامض الذي يدّعي العفّةَ والترفع، أبي برأسه العاري يحملُ عقالَه وقد أفرده سوطاً يضرب به الهواء يعلنُ براءته من هذا الولد العاق، أمي جالسة على أرض الرصيف، فارجةً ساقيها وتلعنُ الرحمَ الذي حملَ هذا (الأدبسز)، أخوتي.. سارقو الجواميس يضحكون ساخرين من سارقِ البقرةِ المستجد، أخواتي المتلفعات بعباءاتهن السود يولولنَ حسرةً على هذا الذي شقّ عصا الطاعة ولوّثَ شرفَ العائلة بالوحل....

توقفتُ عند كشكٍ صغيرٍ، وفرحتُ حينما وجدتُ صحيفةَ (الشرق الأوسط) في واجهة الكشك. اشتريتها وعدتُ مسرعاً سالكاً الطريق نفسه إلى الباخرة.

في الباخرةِ جلستُ عند نافذةٍ صغيرة تطلّ على البحرِ، ورحتُ أقرأ الصحيفةَ مبتدئاً بالعناوين الكبيرة والصفحة الثقافية حتى أكملتها كلها. لم أترك حرفاً واحداً إلا ومررت عليه، حتى الأبراج والصفحات الرياضية والاقتصادية التي لم أفهم منها شيئاً. وبينما كنتُ مشغولاً بحلّ الكلماتِ المتقاطعة رأيتُ حميد واقفاً أمامي مرتبكاً تلوحُ على شفتيه ابتسامة حزينة. أخفيتُ قلقي عليه متظاهراً باللاأبالية. جلس أمامي صامتاً، واضعاً رأسه بين كفيهِ، وبين حينٍ وآخر يُصدِرُ صوتَ تأوهٍ فحسبتُ أنه ينتظر أن أدفعَ إليه الجريدة، وهذا ما فعلته. تناول الجريدة، قلّب صفحاتها بعبث، قرأ العناوين الكبيرة ثم رمى بها على الطاولة التي تفصلُ بيننا.

" أين كنتَ؟ "

سألته فلم يجبني فأضفتُ:

" بحثتُ عنك طويلاً. "

تطلعَ إليّ بنظراتٍ باردة ثم نهضَ دون أن ينطق بكلمةٍ وغادرَ المكان.

أدركتُ أنه يخفي عني أمراً، ولأني خبرته لا يخفي سراً وأنه سوف يبوحُ لي بعد قليل من الإلحاح فقد تبعته مسرعاً. دخلتُ الغرفة فوجدته جالساً على حافة السرير واضعاً رأسه بين كفيه. جلستُ قبالته وسألتُه مستفسراً عن سبب حزنه فلم يجبني. ارتفع صوتي وأنا أهزّ ذراعه بقوة:

" قل لي ما بك؟ "

" لا شيء، لا شيء. "

راح يردد بأسى. توقفتُ عن إلحاحي بالسؤال ونهضتُ. وقبل أن أغادر الغرفة سمعتُ شهقاته وصوت تمخطه. التفتُّ إليه ثم عدتُ واقفاً قبالته وأنا أنظر إليه متوقعاً منه ردة فعل غريبة. وفعلاً وأنا أتطلع إليه ونظراتي المستفسِرة عن السرّ تحاصره، انفجر ببكاء وصراخٍ هيستيري. جلستُ على سريري أدخنُ بصمتٍ منتظراً بقلقٍ شديد انتهاء نوبة بكائه كي يتسنى لي السؤال عن السبب. توقف عن البكاء. تركتُ فاصلاً زمنياً قبل أن أبدأ بالاستفسار منه عن وضعه، وحينما تهيأتُ لذلك وجدته قد غطّ في النوم وقد ارتفعَ أنينه المكبوت كبغامِ غزالةٍ خائفة.

في فترة العشاء عدتُ إلى الغرفة كي أوقظه فلم يستيقظ. كانَ هامداً، ولولا صوتُ أنينه وحركةُ صدرهِ لحسبته ميتاً. تلمستُ جبهته، كانتْ ساخنةً والعرقُ ينزّ منها بغزارة. ذهبتُ إلى الإدارة وأخبرتهم بالأمر فجاء معي طبيب شاب أو ممرض. فحصهُ بعنايةٍ مبالغ بها وطمأنني بأنها مجرد حمى بسبب البرد ستزول خلال يومين. تناولَ قرصي بانوديل وعاد إلى النوم. قضيتُ الليل ساهراً جنبه أصغي إلى تنفسه وثرثرتهِ الغريبة، شاحذاً فراستي لمعرفةِ أسباب اضطرابه وحزنه الذي دفعه إلى التخلي عن كبريائه.

" لابد من أمرٍ هامّ قد حدث له أثناء غيابه. "

" هل اعتدى عليه أحد؟ "

وقد حذرنا بعض اللاجئين من وجود عنصريين دنماركيين يعتدون على الأجانب خاصة إذا كان الأجنبي يسير وحيداً. 

" هل استلم رسالةً من أهله تحمل أخباراً فاجعة؟ "

" أم .....؟ "

وكنت أعرف بأنه قد أرسل رسالة إلى أهله في اليوم الثاني لوصولنا الدنمارك يخبرهم بوصوله، وقد ندمَ بعد أن رمى الرسالة في صندوق البريد حيث أنه كتب عنوانه الذي يشير بوضوح إلى منظمة الصليب الأحمر.

" هل وقعت الرسالة بيد جهاز الأمن العراقي فاعتقلوا أهله بسببها؟ "

" .............. "

حينما استيقظتُ ظهراً لم أجده في فراشه فنهضتُ مسرعاً، أبحث عنه.

لخوفي عليه أكثر من مبررٍ فقد أخبرني أمسِ ونحن واقفان على سطح الباخرة ونطلّ على البحر بمياهه الصافية والتي يمكن للعين أن ترى عمق بضع أمتار منه:

" تعرفْ، لو قررتُ الانتحار يوماً فسأختار البحر أرمي نفسي فيه. "

ارتعبتُ عند سماعي كلامه لأني كنتُ في تلك اللحظة أفكر بالفكرة نفسها وقد كدتُ أنطقها لولا أنه سبقني بعشرِ ثانيةٍ. سحبته من ذراعهِ فزعاً إلى داخل الباخرة متحججاً بالبرد.

" عفواً.. وأنا أكتبُ ذلك تسربَ الشكّ إلى ذاكرتي، فأنا لستُ متأكداً الآن مِنْ منّا كان السابقَ إلى نطقِ هذه الجملة، أعني الرغبة في الانتحار. " 

سألتُ نزيلاً ثالثاً يشاركنا الغرفة، فأخبرني بأنه شاهد حميد جالساً في الصالة الكبيرة. ذهبتُ هناك فلم أجده. بحثتُ عنه بقلقٍ فوجدتُه جالساً عند النافذة الصغيرة، يطلّ منها على البحر. حينما شعرَ باقترابي منه رفعَ رأسه فلاحتْ على وجهه ابتسامة خجلٍ فأدركتُ رغبته بالبوح، لكني تمهلتُ قليلاً حتى يبادرَ هو نفسه، غير أنه استمر بصمتهِ مما أفقدني صبري فبادرته بالسؤال:

" ما بك؟ "

" لا شيء. "

أجاب دون أن يرفعَ رأسه نحوي، لكنّ ابتسامةً لم استطع تفسيرها كانت تلوح على وجهه. أغاظني تمنعه فتركته لصمتهِ، لكنّ الفضولَ أعادني بعد فترةٍ قصيرة من الصمت إلى محاولة استدراجهِ، فسألته عن كلّ ما دارَ في ذهني أمس من هواجس، وفي كلّ مرةٍ كان جوابه مقتضباً، ومختصراً بكلمة واحدة " لا ". خجلتُ من إلحاحي واهتمامي الزائد بشخصٍ لا يستحق كل هذا الاهتمام فتركته ونهضت. لم تمضِ سوى بضع دقائق حتى وجدته أمامي كأنه جاء يعتذر من فظاظة مزاجه. جلسَ أمامي مطأطئاً رأسه كطفلٍ مذنب فلم أعره اهتماماً. راحَ يحركُ منفضةَ السجائر بعبثٍ وينقر على الطاولة محاولاً لفت انتباهي إليه. تطلعتُ إليه بنظرةِ تأنيبٍ وسخرية. تطلع إلي بنظرةِ ودّ حزينة فتبدد حنقي عليه. فتحَ فمه ليقول شيئاً لكن بدا أمامي متعباً ومكسوراً. الكلماتُ تعثرتْ ما بين حنجرته وشفتيه فأختنق بالسعال. عاد إلي الشعور بالشفقة على هذا الكائن الذي يتمزق أمامي وأعجز عن مساعدته. سألته بلهجةٍ ودودة وبنظرةِ توسل:

" حميد أرجوك، قلْ لي ما بك؟ "

" لا شيء. "

قالَ ولكنْ لم يكن جوابه كالسابق، حيث أنه ظلّ محدقاً بي ليواصل الكلام فأبديتُ إليه استعدادي لسماع كلامه، حتى خرجت الدرة التي كنت أنتظر خروجها من شفتيه بعد تلعثم وخذلان. قالَ وهو يحركُ بإصبعه الرماد في منفضةِ السجائر وينظر إلى جهةٍ بعيدة:

" هذا هو النيك الذي كنتُ أفكر به كل هذه السنين!؟ "

تطلعتُ إليه مصغياً إلى ما سيقوله غير أني أدركت بعد لحظات خاطفة بأن هذه الجملة التي تقيأها هي السمّ الذي مزق أحشاءه أمس، فقرأت في ملامح وجهه خيبة الأمل من حلمٍ كان يراوده طوال سنين عديدة، وشكّل بالنسبة إليه هاجساً كان يراوده كلّ لحظةٍ من سنواتِ عمره الثلاثين، أو لنقلْ منذ اللحظة الأولى لاكتشافهِ لأعضائه الجنسية. تطلعتُ إليهِ بودّ دون أن أستطيعَ إخفاءَ ابتسامةِ سخرية ارتسمتْ على شفتيّ، برغم حرصي على عدمِ جرحِ مشاعره في هذه اللحظات بالذات لفرط حساسيته.

" وماذا كنت تتصور؟ "

قلتُ بلهجةِ الخبيرِ العارف فتطلعَ إلي بوجهٍ طافحٍ بالحزن وبنظرات جدّ. لم أستطع تمالك نفسي فانفجرتُ بضحكة عالية. ضحكتُ .. ضحكتُ. حاولَ أن يصطنعَ ضحكةً أو ابتسامة، إلا أنه لم يستطعْ فتلعثمَ كأن حجراً توقفَ في بلعومه. وحينما لم يستطع مجاراة ضحكي، تركَ الطاولةَ هارباً إلى زاوية ما في عزلته.

في المساءِ خرجتُ من الباخرة واشتريتُ عشر قناني بيرة من محل قريب احتفالاً بانتهاء عذرية صاحبي. كان واقفاً بانتظاري فسجائره نفدتْ، ولا يملك ثمن شراء سيجارة بعد أن أشترى براتبِ الأسبوعين كله لحظةً كان ينتظرها سنوات.

جلسنا صامتين، عارياً يحاول سترَ عورتهِ بيديه، وآخرَ ينظر إليه بسخريةٍ جارحة. كان حميد يدخن بشراهةٍ ويشربُ بسرعة كأنه يحاولُ الخروج من دائرةِ الحالة التي تضيق عليه، وكلما حاولتُ الاقترابَ من الموضوع يغيّر مجرى الحديث خجلاً أو ربما كان يتحاشى الألم الذي تسببه له خيبةُ الأمل بمتعةٍ كان يتصورها أكبر من ذلك بكثير وبحجم اللوعة ولهفة الانتظار، غير أنه لم يكنْ يملك إرادة أبي نؤاس لكي يقول للخمرة " قفي " بعد أن دبّ دبيبها واقتربتْ من موطن الأسرار، فراحَ يغني أغاني الخيبة، بإشاراتٍ كان يحسب غافلاً أنني من الطيبة بحيث لم أستطع تلقفها وتأويلها.

" هل تذكر جارنا عباس بن حجي زامل؟ "

سألته فتطلعَ إلي بجدّ وسألني بفرحٍ ظناً منه بأني نسيتُ الأمر وعدتُ أقلّب كتابَ الذكريات فسألني بلهفةٍ:

" ما به؟ "

فرحتُ أؤكد له متعجباً من نسيانه:

" عباس الذي سقطَ من السقّالة وهو يصبغ واجهةَ بيتهم قبل يومين من دخلته. "

عقدَ ما بين حاجبيه محاولاً أن يتذكرَ صورة عباس، وحينما عجزَ رحتُ أذكّره بشيء من الإطناب:

" ألا تذكر عباس الذي كان يطاردُ الصبيان، ويقفُ على شط دجلة، متكئاً على دراجته وهو يتطلعُ إلى أجسادهم بشهوة ثم يختبئ بين سيقان القصب يضرب ... "

" ما به؟ "

قاطعني كأنه يريد أن يسمعَ نهايةَ الحكاية دون التفاصيل، إلا أني رحتُ أؤكد عليه مصرّاً على رسمِ صورة عباس كاملة، ولو أني كنت على يقين بأن حميد يتذكره جيداً لكنه يتهربُ خوفاً من المقارنة بينه وبين عباس:

" قيلَ إنه هددّ أباه مرةً حيث قال له سأنيكك إذا لم تُزوّجني. "

 بدا المللُ على وجه حميد وهو ينظرُ إلي بتوجسٍ وأنا غارق في الضحك ليعرفَ نهاية الحكاية حتى توقفتُ عن الضحك وهو يحثني كي يعرفَ سبب تذكري القصة في هذه اللحظة بالذات، وهل لقصة عباس علاقة بما هو فيه، فرحتُ أردد:

" المسكين سقطَ من السقالة قبل أن يذوق طعم الكس. "

نظرَ إلي باستهجانٍ مفتعلاً العفة فلم أعره اهتمامي وواصلتُ حديثي:

" كان عمري وقتذاك عشر سنوات ولم أكن أعي هذه الأمور بعد. "

" ............. "

" حينما علمنا بخبرِ موته في المستشفى علقتُ بكلام أغاظ أخواتي العوانس "

" ............ "

" قلت أما كان بإمكان عزرائيل أن ينتظر ثلاثة أيام فنهرتني أختي الكبيرة غاضبة من وقاحتي واعتراضي على مشيئة الله. "

" ............. "

" الآن عرفت لماذا كانت أخواتي فرحات بموت عباس. "

تطلعَ حميد إليّ ثم انفجرَ بضحكةٍ حتى انقلب على ظهره.

تلك الليلة ضحكنا ... ضحكنا حد البكاء.

ضحكتُ .. ضحكتُ ..

حتى انتبهتُ على صوتِ حفيفِ أجنحة تقترب من نافذتي. أدركتُ بأنّ ساعاتٍ طويلةً من النهار قد مرتْ وأنا مستغرق باستعادةِ حكاية حميد وخيبته. نهضتُ بلهفةٍ لرؤية نورسي، إلا أني عدتُ خائباً فقد كان سربٌ من النوارس يتجمع عند شرفة جارتي العجوز.

" هل رحل؟ "

" هل كان وجوده لإغاظتي فحسب، وحينما أشبعَ رغبته بالانتقام مني ترفعَ فلم أعدْ إليه نداً يستحق المشاكسة؟ "

" هل مات في أيامِ عسلهِ رابحاً من قدره أيامَ متعةٍ قليلة لم يحظَ بها عباس بن حجي زامل؟ "

أسدلتُ ستارةَ النافذة ودخلت عتمتي.

في اليوم التالي قررتُ منذ الصباح أن أطردَ أوهامي، ولن أدعَ خواطرَ جنوني تفرضُ نفسها عليّ فتغريني بأن أتسلقَ جذعَ الفراغ لأجد نفسي معلقاً بثمرةِ الوهم، ثم وفي لحظةٍ مفاجئة أسقطُ مرتطماً بأرضِ الواقع الصلدة فأنهضُ مكسورَ الخاطر. لقد أرهقتني تلك الخواطرُ التي تسحبني من عناني نحو الماضي فلم أستفقْ منها إلا بعد أن يجرحَ اللجامُ فمي وتسيل الدماء من صوتِ استغاثتي. أرهقتني الأصواتُ التي تنطلقُ من جهة ما وأسمعها بوضوح، تدفعني دون إرادةٍ مني للرحيل إلى الماضي وكأنما حُكمَ عليّ أن أقضي ما تبقى لي من العمر واقفاً في مكاني أو جالساً أرمم ذاكرتي، أجلوها من صدأ الحاضر، أستعيدُ تفاصيلها الغارقة في العتمة حتى استبدّ بي شعور بأني لستُ حقيقياً أو ربما اختلطتْ عليّ الحقيقة فلم أعد أعرف مَنْ أنا أو ما أنا، لكني هذا الصباح قررتُ أن أضعَ حداً لاستبداد أوهامي. نهضتُ بتثاقلٍ بعد أن استنفدتُ كلّ طاقتي على مساومةِ النوم لدقائق إضافية. كانتْ أذني اليمنى تؤلمني ورغبةٌ تأكل أسناني. حاولتُ نسيان الألم بالحركة. ذهبتُ إلى المطبخ وعملتُ فطوراً من البيض المقلي وكأس شاي أسود. جلستُ، بعد أن أتممتُ الفطور دون أن أشعر، أمام جهاز التلفزيون الذي تراكمَ الغبارُ على شاشتهِ بسبب إهمالي له، ورحتُ أدخنُ متناسياً تحذيرات الطبيب. فكرتُ أن أزيلَ بعض الغبار إلا أني تكاسلتُ فعدتُ إلى كرسيي بعد أن ضغطتُ على زر التلفزيون. شاهدتُ نشرة الأخبار: حروب، قتلى، أسرى، تفجيرات، معتقلات، أمريكا، العراق، أفغانستان، إرهاب، إعصار مدمر، هزة أرضية، سقوط طائرة، جياع، خراب، دمار، حطام، ركام.. ركام.. ركام حديد، ركام بشر، فناء...

" تفووووو "

اهتزت الأرض تحتي. دبّ إلى نفسي الضجر فرحتُ أضغط على أزرار الريمونت كونترول بعبثٍ حتى توقفتُ عند فيلم استهوتني فيه لقطةُ غزلٍ وقبلة مثيرة. تابعتُها بشغفٍ ويدي تتحرك بجنونٍ على إيقاع يد البطلِ وهي تعزفُ على جسد فاتنته، يعرّيها ويدي تتلمس الفراغ تشكّل منه خارطةَ جسد أنثى ساحر. انغمرَ كلانا بلعبته، يحلُّ البطلُ أزرارَ قميص عشيقتهِ فتمتدّ يدي نحو الفضاء تمزّقه، يقبّلُ عنقَ زرافتهِ فأنشبُ أنيابي في عنق الهواء، يعتصر البطلُ جمرةَ النهد فأرتشفُ أنا لظى الحلمةِ وأبللُ شبقَ لساني المتخشب، يطرق بابَ شهوتها فأدخلُ دهليزَ غيبوبتي، يغمض عينيه، تسقط قطرةُ عرقٍ مالحةٌ تحرق عيني، لهاث، صراخ، حمى، رعشة، ... حتى انتهينا معاً في لحظة واحدة. ذهبتُ إلى الحمّام، وحينما عدتُ كان البطلُ محاصراً في زاوية الغرفة، عارياً وعشيقته تقف أمامه عارية، شاهرةً مسدساً بوجهه. كانا يرتعشان من الخوف أو اللذة وكنت أتابع اللقطة مشلولاً. يتوسلُ فتزدادُ جبروتاً وأزدادُ غضباً. يركعُ رافعاً يديه مستسلماً. أنهضُ من الصوفة وأتقدمُ ببطءٍ نحو التلفزيون. تتقدم نحوه. ينكمش على نفسه. أتقدمُ نحوها من الخلفِ ويدي تحاولُ تكميمَ أنفها وفمها. يرفع يده. تصرخ به. أحاولُ ليَّ ذراعها، لكنْ.. دوّت ثلاثُ إطلاقات، أردته قتيلاً متمرغاً بدمه، الدم الذي انبثقَ من وسط جبهته كنافورةٍ حتى غطى وجه البطل وجسده. انهارَ جسدي وسقطتُ على الصوفة.  اصطبغَ المشهد بالدم. غطّى شاشة التلفزيون، وسالَ خيط منه خارج الشاشة. سالَ على أرضية الصالة بحركةٍ بطيئة لكنها واضحة متوجهاً نحوي. اقترب من قدميّ. رفعتُ ساقيّ بلا وعي فمرّ من تحتي. اصطدمَ بالجدار فالتفَ محاذياً محيط الصالة. هربتُ نحو المطبخ. غسلتُ يديّ من آثار الجريمة. رششتُ وجهي بحفنات من الماء. هدأتْ أنفاسي قليلاً. سارتْ بي قدماي دون وعيّ مني إلى موقع الجريمة. لم ينتهِ الفيلم لكني أطفأتُ التلفزيون خارجاً من فيلمي بكآبة وحزن، ربما بسببِ شعوري أن الأفلام كلها مفرطة بواقعيتها. شعرتُ للحظةٍ أني مجموعة من الأسلاكِ الممغنطة والملتفّة على بعضها. شعرتُ.. لا أدري.. هل كنتُ أشعر؟.. بدأتُ أشكُ في وجودي الإنساني، لستُ حزيناً أو سعيداً، لستُ قلقاً .. أنا بدون مشاعر.. أنا تمثال حجري.. آلة.. قامة فراغ.. أنا حذاء ملطّخ بالوحلِ أو الدم أو لا أدري.. أنا...

" مَنْ أنتَ؟ أقصدُ مَنْ أنا؟ "

 ركضتُ نحو الحمّام وتطلعتُ في المرآة فرأيتُ صورةَ إنسانٍ لا أعرفه. هي صورتي بالتأكيد ولكن بملامح متداخلة ببعضها، الفمُ فوق الأنف، العينان في الجبهة، يتموجُ الفكّ الأسفل، يسقطُ فتظهرُ أسنان صفر منخورة تحتل المرآة ولسان أسودُ يندلق كلسانِ كلبٍ متعب. أشحتُ بوجهي عن المرآة فلمحتُ موسى الحلاقة على المغسلة برّاقاً. اشتهيته. امتدتْ يدي نحوه لكني رميته خائفاً. عادت صورتي إلى المرآة.  

" مَنْ أنا؟ "

" مَنْ أنتَ؟ "

" أنتَ الأعزل. "

" العاطل عن الحياة. "

" ما الحلّ؟ "

" ............. "

" ............. "

صوتٌ يتحدث برزانةٍ مفتعلة وببطء:

" أظنُّ.. أنك.. في.. وحدتك.. المفرطة.. والرتابة.. القاتلة.. نسيتَ.. أن.. وجودك ال ..إنسانيّ.. متعلق.. بالآخرين. "

يختفي الصوت. طنينٌ في رأسي. صدى يترددُ:

" .. متعلقٌ بالآخرين نننننننن "

حتى يتلاشى.

" .. الآخرين!؟ "

" ولكن أين هم؟ "

" هل أنا معهم الآن؟ "

" بل هل كنتُ يوماً معهم؟ "

" هل أنا غصن مقطوع من شجرة؟ "

" أم أنا شجرة استوائية أحرقتها الشمس؟ "

" يا لبؤس الصورة التي تُظهرها روحٌ آلية! "

" ما نفع القلب النابض في جسدِ التمثال؟ "

" مَنْ أنا؟ "

" ................ "

" ................ "

" إذاً سأذهبُ إلى النوم ثانية لعلّي استيقظ فأجدُ أن كلّ سنوات حياتي السابقة كانت مجرد كابوس، وأن أذني عادت إلى سابق عهدها، خفيفة، تُصغي إلى موسيقى الوجود القادمة من سموات بعيدة أو تسمع النداء. "

تقلّبتُ طويلاً في الفراش كأني أصارع كوابيسي التي هجمتْ عليّ ككورةِِ زنابير. أهشّها بذراعيّ لأبعدها عن رأسي. تطنّ.. تطنّ.. تطنّ. تدخلُ صيوان أذني، تدورُ، تخترقُ تجاويفَ سمعي، تلسعُ مخي، يتورمُ رأسي، يكبرُ.. يكبرُ حتى يصبحَ ككرةٍ حديديةٍ كبيرة، ويضمحل جسدي. تعبتُ، شعرتُ بالعجزِ عن الإفلات من قبضةِ الكابوس وضاق نَفَسي فنهضتُ مرعوباً. ماسكاً رأسي كيلا يسقطَ. رحتُ أذرع شقتي ما بين المطبخ والصالة مراتٍ لا تحصى حتى مللتُ فتوقفتُ عند النافذة متطلعاً إلى الأفق البعيد عسى أن يُفتحَ بابٌ فيندلقُ شيءٌ من الفرح علي.

ارتفعَ صراخُ النوارس وعراكها على قطعِ الخبز. انسحبتُ ضجراً، وقبل أن أكملَ إسدال ستارة النافذة، لمحتُه أمامي على سطح البناية المقابلة لنافذتي. أطالَ عنقه وأمالَ رأسه قليلاً، محدّقاً إلي كأنه يُنبئني بوجودهِ وحيداً خارجَ السربِ المشغولِ بالبحث عن فضلاتِ الطعام، محققاً تفرده ووحدانيته خارج اللعبة التي تشغلني وتشغل الكائنات الحية. نهضَ ببطء رافعاً جناحيهِ بكبرياء، دافعاً الأرضَ بقدمهِ الوحيدة، منطلقاً في الفضاء، تاركاً بقية النوارس تتصارعُ على حقها خبزاً يابساً تتسوله من الحياة ليستمرَ وجودها.

مرةً قال لي صاحبي ساخراً وربما مشفقاً حينما أخبرته دون وعي مني عما يدور في ذهني من أفكار غريبة أو مجنونة:

" عليك مراجعة طبيب نفسي. "

ثم أضافَ كي يخفف من وطأة كلامه:

" لابد لهذه الأوهام من مُسببٍ. إنها أمر طبيعي ويسهل علاجه. "

تطلعتُ إليه ساخراً وأجبته بثقةٍ:

" مَنْ يعشْ وحدتي يرَ الحقيقةَ بعين الوهم. "

قفزَ من كرسيهِ وهو يرددُ بإعجاب:

" الله .. الله.. "

ثم راحَ يذكّرني بهذه العبارة مازحاً كلما التقينا. بعدها قررتُ أن لا أبوح لأحدٍ بحقيقةِ وهمي، بل إني اعتبرتُ ذلك هبةً اصطفاني الله بها وحدي دون سائر خلقهِ على الرغم من الشكوكِ التي تخطرُ في ذهني حولَ حقيقةِ ما أرى وأسمعُ، حتى جاءتْ تلك اللحظةُ التي قطعتْ خيطَ الظنّ، وتجسدَ الوهم أمامي حقيقةُ ويقيناً لا يساوره الشك.

غادرتِ النوارسُ المكانَ بعد أن شبعتْ وأغلقتْ جارتي العجوز النافذة. تركَ الصبيةُ ساحةَ اللعب وتسللوا إلى بيوتهم. انفضّتْ مجالسُ النسوة التركيات والفلسطينيات وغادرنَ المكانَ متثائبات، حاملات سلالهنّ المليئة بأكوابِ الشاي وعلب المعجنات. مرتْ جارتي الشقراءُ من أمام نافذتي مزهوة بجسدها الذي لوّحته الشمس فغدا برونزياً صارخَ الشهوة، تطلعتْ إلي بزاوية عينها، لاويةً عنقها بغنج كأنها تقول:

" إلى اللقاء غداً، سأهبكَ فرصةَ التلصصِ على جسدي. "

كانتِ الساعة تشيرُ إلى العاشرة مساءً والشمس أوشكتْ على المغيب، حينما حطّ نورسي فجأة على حاجز البرندة دون أن يُحدثَ صوتاً كأنه جاءَ بزيارةٍ سرية أو لكي يُبلغني أمراً هاماً، فهذهِ المرة الأولى التي يقتربُ فيها من نافذتي منذ أن انقطع عن مشاكستي. وقفَ على ساقهِ بثباتٍ، مديراً رقبته كأنه يبحث عني. فتحتُ بابَ البرندة بحذرٍ كيلا يفزع. اقتربتُ منه شيئاً فشيئاً. لم يهربْ كما كنتُ أتوقع بل أحنى رأسه باسطاً جناحيه، مطقطقاً بمنقارهِ ومصدراً أصواتاً غريبة. مددتُ يدي نحوه، لم يتزعزعْ من مكانه. مسّدتُ ريشه الناصعَ ورقبته فأطالها بنشوة. أدركتُ أنه بدأ يألفُ عشرتي معه.

" هل تركتكَ أنثاك؟ "

" هل خانتكَ مع نورسٍ آخر؟ "

" هه.. "

" هل دفعتكَ الوحدةُ إليّ أيها الطائر البائس؟ "

كانَ يتطلعُ إلي بنظراتٍ لا أستطيع تأويلها (بالتأكيد)، لكني شعرتُ بأنه يشعرُ بالأمانِ في حضرتي، بل شطّ خيالي فحسبته وحياً جاء برسالةٍ من إلهٍ تذكرني أخيراً ليقول لي " اقرأ! " وتهيأتُ لرفضي القاطع " لستُ بقارئ "، وحينما سيلحّ عليّ بـ " اقرأ " سأعتذرُ بأدبٍ عن حملِ رسالته، وإذا أصبحَ فظّاً بإلحاحه فسأبررُ رفضي بأني " لن أجدَ منْ سأُقرِئه الرسالة. " وإن هدّدني بجحيمهِ فسألقنه درساً فلسفياً لن ينساه. سأقول له " اذهبْ أنت إلى الجحيم أيها العجوز الخرف، ألم تدركْ بعد أن الآخرين هم الجحيم؟ ".

" فأية رسالة تحملها لي أيها النورسُ الغريب؟ "

رددتُ مع نفسي فردّ عليّ صوتٌ لا أعرف مصدره:

" ألستَ القائلَ مَنْ يعش وحدتي يرَ الحقيقةَ بعين الوهم؟ "

" أجلْ. "

أجبتُ دون وعيّ معتزاً بوهمي، لكني تداركتُ الأمر منتبهاً إلى أني أتحدث مع نفسي بصوتٍ عالٍ فعدتُ إلى النورس المستكينِ بين يديّ. بسطتُ له كفيّ فنطّ عليها كأنه كانَ بانتظار ذلك. ثبّتَ ساقه على كفي دون أن يغرزَ براثنه الناعمة فيها، وبحركةٍ بطيئةٍ أخرجَ من بين ريشِ بطنه ساقه الأخرى وهو يتطلع إلي كأنه يترقبُ ردة فعلي واندهاشي. مدّها أمامي بحركةٍ استعراضيةٍ ذات مغزى ثم استقرّ على كفيّ بساقيه الرهيفتين. تطلعتُ إليه بتعجبٍ، ولكن أنّى لي أن أعرف المغزى؟. فتحَ منقاره مطقطقاً. عاد الصوت يرنّ في أذني:

" انظرْ! "

نظرتُ إلى كلّ الجهاتِ فلم أرَ مصدرَ الصوت أو شيئاً يلفت الانتباه.

" هذهِ الأرض ُ لا تستحقُ أن أطأها بقدمين. "

" ............. "

" لم تعدْ الأرضُ مكاناً للرسوخ. "

" ................. "

" فطرْ إنْ كنتَ يوماً ذا جناحٍ... "

تطلعَ النورسُ إليّ كأنه ينتظرني أن أكملَ بيتَ المعري فأطعتُ رغبته مردداً:

" فأنّ قوادمَ البازي يهضنه. "

وقبل أن أحددَ مصدرَ الصوت، راحَ الصوتُ يبتعد شيئاً فشيئاً مردداً " فطرْ إن كنتَ يوماً ذا جَناحٍ.. "  وكنتُ أصغي إليه حتى تلاشى. عدتُ إلى النورس، أفلّي ريشه بحنوّ. رفعتهُ. ضممته إلى صدري فأصدرَ صوتَ قرقرةٍ كأنه بكاء. ضممتُه بقوةٍ وحذرٍ، فأدخلَ رأسه تحت إبطي.شعرتُ بنعومة ريشه وبحركة تنفسه السريعة وضربات نبضه. خاطبته بانخذالٍ وذلّ كأني أعترفُ أمامه بخطاياي، أو أبوحُ له بحزني:

" أيها النورس، لستُ قابيلَ كي تعلّمني كيف أدفنَ جثةَ أخي. "

ارتفعَ صوتُ أنينه كأنه نحيبُ مفجوعٍ، فعدتُ إلى مخاطبتهِ وقد اختنقَ بَوحي متكسراً في صدري حسراتٍ كاوية:

" علّمْني.. كيفَ.. أدفنُ.. جثتي. "

لا أدري كم مرّ من الوقت، فالشمسُ أكملتْ مغيبها لكن مازالتْ بقايا الضوء تنير مساحة الرؤية، فعادةً ما يكون الظلامُ في مثل هذا الوقت من الصيف الدنماركي شفيفاً. سحبَ النورسُ رأسَه من تحت إبطي بتردد ٍثم راحَ ينقرُ بهمسِ منقاره موضعَ قلبي. رفعَ رأسه نحوي وبحركةٍ رشيقةٍ نطَّ على جدارِ البرندة. عاد واقفاً على ساقٍ واحدةٍ متطلعاً إلي بإشفاقٍ فخمّنتُ أن لحظةَ رحيلهِ قد أزفتْ. مددتُ يدي نحوه ممسداً ريشه الأبيضَ كنقاءِ ملاك. حرّكَ جناحيه فنشر هواء منعشاً لامسَ وجهي، ثم ركلَ الأرضَ بقدمهِ محلّقاً في الفضاءِ منطلقاً باتجاهٍ عمودي وبسرعةٍ فائقة. صرختُ به:

" انتظرْ!"

سمعتُ صدى صوتي يتردد، فصرختُ بصوتٍ أعلى:

" أيها النورسُ.. علّمني كيف أدفن جثتي! "

فجاءني صوته مخترقاً الظلامِ بوضوح:

" هيهات.. لم تعد الأرضُ مكاناً للرسوخ. "

ارتفعَ.. ارتفعَ، حتى أصبحَ نقطةً بيضاءَ صغيرةً في قلبِ الظلام، ولم يعدْ بيننا غير مسافةِ السكون. أشعلتُ سيجارةً ورحتُ أنفثُ دخانها بوجه السماء البعيدة جداً متمتماً بصلاةِ مجنونٍ ودعاءِ كافر.

مسحتُ وجهي المتشنجَ بكفيّ فلمستُ الدموع التي انهمرتْ دون أن أشعر فتبللتْ لحيتي. وقبل أن أفتحَ باب البرندة وأدخل الصالة، سمعتُ أزيزاً قادماً من السماء كأزيزِ قذيفةٍ عابرة. توقفتُ رافعاً رأسي باتجاه الصوت الذي راحَ يرتفع كلما اقتربَ من الأرض. لاحَ لي النورس محلّقاً في الفضاء ومتجهاً نحو الأرض بسرعة قصوى كطائرة حربية تنقضّ على الهدف. ازدادتْ سرعتُه وهو يقتربُ من الأرض. توقفَ الزمن. توقفتْ نبضات قلبي ولم أعدْ أسمع سوى أزيزٍ يصم أذنيّ. دقائقَ.. ثواني .. لحظاتٍ.. وارتطمَ في الأرض على مبعدةِ بضعةِ أمتارٍ مني. تسلقتُ جدارَ البرندة ورميتُ بنفسي خارجاً. نهضتُ بصعوبةٍ وهرولتُ إلى المكان، حتى توقفتُ عند النيزكِ الساقطِ من السماء. كان هامداً، حاضناً الأرض بجناحيهِ بحنوّ ومنقاره مغروز عميقاً في الأرض. حاولتُ أنْ أحمله فلم أستطعْ كأنه أصبح قطعةً من الأرض. تركتهُ وعدتُ إلى شقتي.

كان شعور بالأسى يغلي في داخلي، وكنتُ أسمعُ بصفاءٍ ووضوح صوتَه القادمَ من كلّ الجهات:

" لم تعد الأرضُ مكاناً للرسوخ. "

 

 

رحلةٌ مُلغاة

لم أفاجَأ ولم أخفْ حينما تلمستُ ورماً في أحد أضلاعي، راحَ يكبرُ بسرعةٍ محسوسة، فقد كنتُ على يقينٍ في تلك اللحظة بأني أبو الخلقِ آدم. وفعلاً انشقّ صدري وخرجتْ حوّائي. شممتُ عريَها قبل أن أفتحَ عيني. شعرتُ بأنها انحنتْ عليّ حينما اصطدمتْ أنفاسها بوجهي وغطاني شعرها الطويل. شعرتُ بدفء رائحتها فأبقيتُ عينيّ مغمضتين فراحتْ تلحسُ جفنيّ بطرف لسانها. وحينما ارتويتُ من لذةِ السكون، عاودني الفضولُ أو الرغبةُ إلى المزيد من اللذةِ، ففتحتُ عينيّ ببطء متحفزاً لاستقبال المفاجأة التي كنتُ على يقينٍ بأنها مفاجأة سارة. حينما فتحتُ عينيّ وجدتُ كلّ شيء أمامي أبيضَ ناصعاً، الجدران، السقف، السرير، الملابس، الخزانة... بل حتى الظلام صار أبيضَ، غير أني لم أرَ وجه المرأةِ أو شعرها، ربما هي الأخرى قد غرقتْ في لوحةِ البياض الذي غمرني. في الوهلة الأولى شعرتُ بخيبة أملٍ وعاودني الشكّ بحقيقةِ ما أرى فسخرتُ من نفسي الغارقةِ في أوهامها. أغمضتُ عينيّ ثانيةً لعلّي أرجعُ إلى الحلمِ الجميل الذي لم تزلْ نهايته عالقةً في أهدابي. لحظات مرتْ وأنا أحاولُ العودةَ إلى الحلم حينما شعرتُ بأنفاسها تقتربُ من وجهي ثانيةً. اقتربتْ أنفاسها أكثرَ حتى لامستْ شفتاها جبهتي بقبلةٍ حانيةٍ، عندها انتشرتْ في الغرفة رائحةٌ أليفةٌ، بل أليفة جداً. خليط من روائح استطعتُ أن أميزها بدقّةٍ، رائحة مسكٍ، خضيرة، ماء ورد، عَرق... لكنها بخليطها هذا تشكل تلك الرائحة الأليفة التي أعرفها جيداً. لا أعرفها بحاسة الشمّ فقط، بل إني أسمعها، أراها، أتذوقها وألمسها بيدي. إنها رائحةُ فوطةِ أمي.

رغبةٌ شديدة في البكاء انتابتني. حاولتُ أن أتشبثَ بجسدِ زائرتي فاشتبكتْ ذراعاي ببعضهما كأنها تسربتْ من المكان. فكّرتُ أن أفتحَ عينيّ لكني تراجعتُ خوفاً من أن يتجسدَ لي الوهمُ غولاً أو تنيناً فأطبقتُ جفنيّ بقوة صاكاً أسناني بعنف. لكنّ شعوري هذا تبددَ، وتبددتْ معه الرائحةُ حينما لامستْ حلمتا المرأة المنتعظتان صدري وغطاني شعرٌ حريري راح ينهمر عليّ كشلالٍ من رأسي ماراً بصدري هبوطاً حتى أسفل ساقيّ، فأشعرُ بقشعريرةٍ في جسدي وحركة تصلْبِ شعر صدري وفخذيّ، ثم يعود ليرتفع إلى الأعلى صعوداً نحو وجهي لينتهي بشفتين ساخنتين تنطبقان على شفتيّ بشهوةٍ حارقةٍ. شعرتُ بلسانِ المرأة وهو يحاولُ أن يلجَ إلى جوف فمي، لاحساً مابين شفتيّ المطبقتين، غير أني أطبقتُ شفتي بقوةٍ مزيحاً هلامَ الجسد الجاثمِ على صدري بغوايتهِ المحكمة، رافضاً بحزمٍ تكرار الخطيئة القاتلة.

لم أشعرْ بشيءٍ سوى هبوط حرّ، هبوطٍ في البياض، هبوطٍ نحو وادٍ سحيقٍ حسبتُه الجنة، وكنتُ سعيداً بعودتي بعد نجاحي في الاختبار، لكن اصطدامي بقاعِ الوادي أيقظني فأدركتُ بأن ذلك كان حلماً لذيذاً. حزنتُ على ضياعِ فرصتي في العودة إلى الجنة لكني لم أندم على ضياعِ فرصةِ المتعةِ، فقد شعرتُ بغبطةِ الانتصارِ على الغواية.

وعلى الرغم من يقظتي ونهوضي من السرير، إلا أني كنتُ أسمعُ بوضوحٍ صوتَ المرأة، يناديني باسمي متوسلاً، مستغيثاً بأن لا أتركها. وحينما يئستْ من عودتي إلى الحلم (وهل كان بمقدوري ذلك)، صرختْ بي بغضبٍ:

" جبااااااااااااااااااااان "

وضعتُ رأسي تحت صنبورِ الماءِ البارد، كأني أريدُ طردَ صورة المرأة من مخيلتي، على الرغم من أني أدركُ تماماً أنّ ذلك محض حلمٍ وهلوساتٍ اعتدتُ عليها في صحوتي وكوابيسي، وتزداد كلما اقتربَ موعد تنفيذ قرارٍ مهمٍ أو موعد سفرٍ، فكيف إذا كان هذا القرار هو سفر العودة التي انتظرتُها خمساً وعشرين سنة بالتمام.

" حمّى السفر. "

يطلق الدنماركيون على حالةِ القلق التي تنتابُ المسافر ليلةَ السفر إلى بلد آخر أو ربما إلى مدينة قريبة، فأية حمّى ستصيبُ المسافر حينما يستيقظ فجأةً من كابوسٍ دامَ ربع قرنٍ ليجد نفسه يرزم حقائبه استعداداً للعودة إلى بلدهِ الذي غادره في (درب الصدّ)، ولقاء وجوهِ أحبةٍ وأخوةٍ، يعرفُ أنها تغيرتْ ملامحها وشاختْ، وأخرى لم يعرفها لشبابٍ ولدوا في غيابهِ، تزوجوا وأنجبوا، ووجوه غابتْ لكنها لاتزال عالقةً في مخيلتهِ بل إنه يستطيع أن يراها برغم غيابها.

كانت الساعةُ تشيرُ إلى السابعة صباحاً، وموعد إقلاع الطائرة من مطار كوبنهاكن الساعة الثامنة وعشرون دقيقة مساءً وأمامي رحلةٌ تستغرق ثلاث ساعاتٍ بالقطار بين مدينتي والعاصمة. مرّ على ذاكرتي وأنا جالس في المطبخِ أشربُ الشاي وأدخن بتروٍ، شريطٌ يحملُ الوجوهَ التي ستستقبلني، متخيلاً ردودَ أفعالها وهي ترى أمامها الشاب الذي غادرها قبل خمسٍ وعشرين سنة وقد ابيضّ شعر رأسه ولحيته وانحنى ظهره:

" ليش أجيت وحدكَ؟ "

" نعم.. طبعاً.. وحدي."

" وين أطفالك؟ ومرتك؟ "

" وحدي. "

" ما اتزوجت؟ "

" لا. "

" ليش عيوني. "

" ما جان عندي وقت. "

" إش جنتْ تسوي خويَ؟ "

" ما سويت شي، جنت ضايع. "

في القطارِ بين مدينتي فايله وكوبنهاكن كنتُ أتطلعُ في وجوهِ النساء، منتظراً أن تنهض أحداهن، تقترب مني، تجلس جنبي على الكرسي الذي ظلّ شاغراً طوال الرحلة، تهمسُ في أذني:

" آدم... "

" ......... "

" آدم.. أنا حواء.. أنا ضلعك.. "

" ......... "

" دعكَ من التفكيرِ بالغواية والطهر.. فأني لم أعرف الطهرَ والأمنَ إلا بعدَ أن رأيتكَ أمس.. فتعالَ.. تعالَ إليّ.. "

ثم تخرجُ نهدها، ترفعه براحةِ كفها قليلاً، تقرّب حلمته من فمي وهي تردد:

" تعالَ.. لا جنةَ سوى جنةِ عشقي .. ولا جحيمَ سوى جحيمِ الحرمان.. مدّ يدكَ.. اقطفْ تفاحةَ لذةٍ نشترك في قضمها، فلا غالب ولا مغلوب.. تعالَ نجدد صلاتنا ووعينا.. تعال.. "

ثم تمدّ يدها، تمسكني من ذراعي، تسحبني خلفها بثقةٍ، نجتازُ ممرَ العربة وسط صفّي المسافرين الذين وقفوا بإجلال محيين شجاعتنا باتخاذ القرار. تفتح بابَ القطارِ لنقفز معاً إلى خارجِ الأرض. جفلتُ مستيقظاً من شرودي حينما لكزتني عجوز  كانت واثقةً جنبي، وحينما تطلعتُ إليها أشارتْ إلى إعلانٍ ملصقٍ على زجاجِ النافذة يشيرُ إلى أنّ التدخين ممنوعٌ في العربة. ولأني لم أجد منفضة سجائر على الطاولة وتحاشياً لإثارة الانتباه نحوي فقد سحقتُ الجمرة في راحتي فتطلعتْ العجوز إلي بإشفاقٍ هازةً رأسها وعادتْ إلى مقعدها.

عدتُ أتطلعُ من نافذةِ القطار إلى الحقولِ المترامية نحو الأفق البعيد، وبين لحظةٍ وأخرى أرفعُ نظري كلما أبدتْ إحدى المسافرات حركةً أو ارتفعتْ ضحكةٌ أنثوية. وحينما يئستُ من وجودِ امرأة الحلم في العربة، رحتُ أستعيد تفاصيلَ الحلمِ بكلّ دقائقه وروائحه، وقد انشغلتُ كثيراً بمحاولةِ إيجادِ تفسيرٍ للنهاية الغريبة، ومبررٍ لغضبِ امرأة الحلمِ عليّ ووصفها لي بالجبن.

في المحطاتِ الكبيرة كمحطةِ قطارات كوبنهاكن، ترى الناسَ كأنهم في الساعات الأخيرةِ من حياتهم، لاهثينَ، مسرعينَ كأنهم في سباقٍ للخروج من عنقِ الزجاجةِ أو كأنهم يستعجلون النهاية التي يعرفون أنها قادمة لا ريب. يصطدمُ بعضهم بعضاً والسلالم الكهربائية تنقلُ القادمينَ والمغادرينَ من القطاراتِ إلى صالاتِ الانتظار وبالعكس. هكذا.. الوجوه تتغيرُ لكنّها متشابهة في ملامحها وغاياتها، كأنها دورة الحياة التي لا تتوقف.

" صار العمر محطات عديتها بلايه عرف. "

رددتُ أغنيةً عراقية أثيرة على نفسي، تفيقُ على لساني حينما أفتح عينيّ صباح كلّ رحيلٍ، وتبقى عالقة في لساني إلى أن تنتهي الرحلة. ولسببٍ أجهله فأني أحضرُ إلى المحطةِ عادةً قبلَ موعدِ انطلاقِ القطارِ أو أقلاع الطائرة بمدةٍ طويلةٍ، تحسباً لحادثٍ قد يطرأ فجأةً، أو لقاء صديقٍ تأتي به المصادفات، وربما علاقة عابرة بامرأةٍ تشاركني الرحلة، والسفر ليس ضنيناً بمثلِ هذه المصادفات كما يقال.

وكما ذكرتُ سابقاً فأن محطة قطارات كوبنهاكن تقعُ في مركزِ المدينة، ولها ثلاثُ بوابات كبيرة، واحدة منها تطلّ على مركزِ المدينة والثانية تطلّ على مدينةِ الألعاب أو كما تسمى هنا الـ (Tivoli)، أما الثالثة فتطلّ على بداية شارع Istedgade  أو شارع الجنس كما يطلق عليه.

" صار العمر محطاتْ خفت أنشد بلايه عرف. "

سنواتٌ قاربتِ العشرينَ مرّتْ على دخولي الأول إلى هذه المحطةِ بصحبةِ حميد وصديقهِ المعيدي، ولكن لم يتغيرْ شيء، فالجهاتُ لاتزال في مواقعها والاتجاهات لم تزلْ تمضي بخطوطها الثابتة، والناسُ يرحلون إلى غاياتهم الغامضة، كلهم غرباء كأنّ الداخل إلى المحطة يرتدي قناعَ غربته في أول خطوة يخطوها داخل المحطة، فيرتسمُ الخوفُ والتوجسُ على الوجهِ الذي كان مبتهجاً قبل خطوتين. يرحلون دائماً فالرحلة لن تنتهي، لكنْ..

" يمته تسافر يا قمر أوصيك.. والوادم الترضه النشد تدليك.. "

" يا عيني يا جنّة هلي.. "

... والبواباتُ الثلاثُ الكبيرة مفتوحة ليلَ نهار. يقفُ الداخلُ إلى المحطةِ في منتصف الباحة الكبيرة، ولكن لِمَ يختار الوقوفَ تحتَ الساعةِ الكبيرة؟، الساعة التي تمضي عقاربها برحلةِ الدوران، بلا مبالاةٍ بالوافدينَ والراحلين. يتلفتُ بخوفٍ وريبةٍ، ينظر في الوجوه، ربما هو على موعدٍ مع حبيبةٍ أو صديقٍ قد يأتي، ولكنه في أغلب الأحيان لا يأتي. ينظرُ الواقفُ في ساعة يدهِ على الرغم من وقوفه تحت ساعة المحطة الكبيرة، يحملُ حقيبته على ظهره ويأخذ أحدَ الاتجاهات، جنوباً نحو مدينةِ الألعاب، شمالاً نحو شارعِ الجنس، غرباً نحو القطار الذي أطلقَ صفّارة بدءِ رحلته، وربما يعود من البوابةِ الشرقية عائداً من حيث أتى.

في مثل هذهِ الأماكن، حيث كثافة الزحامِ ببُغاث البشر...

" بُغاث البشر!!؟ ههههههههه "

" بغاثُ الطيرِ أكثرها فراخاً    وأمّ الصقرِ مقلاةٌ نزورُ "

... تتسعُ الأنا ويضيقُ صدرُ المجالِ، فتظلّ تكابدُ لتحققَ صيرورتها وتدفع بمنكبيها ذوات الآخرين متحاشيةً الاصطدام الذي قد يُحدثُ إفاقةً تسدّ عليها نوافذَ حلمها المشرعة على اللامكان حيث تسمو الروحُ في وحدتها الفاتنة، ولكن مَن اعتاد العزلةَ والانزواء يجد صعوبةً في التأمل في الضجيج الذي يُحدثه ركامُ البشر، فهو على الرغم من تلمسِ أناه التي ضاق بها المجال فأنه يجد من الصعوبة سلّها من الواقع الراكس في وحلِ الصغائر، للارتقاء بها نحو مقام الجمالية، وللتغلب على مرارةِ الإسفاف لابد من جناحين يطير بهما بعيداً عن الأرض التي كما أخبرني صنوي " لم تعد مكاناً للرسوخ "، ولابد من السفر نحو الرمز تطهيراً للروحِ من نفاياتِ الواقع، ومن هنا يتحول انتظار صديقٍ إلى انتظارِ قادمٍ ذي ملامحَ مبهمةٍ لا يأتي، والسفر يعني رحيلاً نحو غايةٍ غامضةٍ والغربة قدراً...

" صار العمر محطات عديتها بلايه عِرف. "

أتعبني الترقبُ وتضببتْ الرؤية بسبب حركة المسافرين غير الطبيعية. أخرجتُ من حقيبتي الروايةَ التي أوشكتُ على نهايتها، ورحتُ أقرأ الفصل الأخير.

" عالم غريب. "

توقفتُ عن القراءة مصغياً إلى الصوت القادم من الكتلة الجالسة إلى يميني، وقد كنتُ أحسب أني أجلس على المصطبة وحدي. لم ألتفتْ إليها فقد ظننتها تتحدث مع نفسها. عدتُ إلى القراءة، وقبل أن أكملَ الصفحةِ الأخيرة من الرواية جاءني الصوت ثانيةً:

" عالم غريب، أليس كذلك؟ "

التفتُّ إلى جهةِ الصوت. كانتْ سيدةٌ تبدو في الأربعين من عمرها تجلس إلى جانبي. تحدّقُ إلي بنظراتٍ لا تخلو من خبثٍ أو رغبةٍ، هكذا حسبتُ.

" عالم غريب، ها؟ "

سألتني وهي تحدقّ في عينيّ كأنها تغور في داخلي لاقتناصِ سرّ تبحثُ عنه. هززتُ لها رأسي موافقاً، وقبل أن تنتظر ردّي على سؤالها، وقد تأخرتُ لكي أعيدَ ترتيبَ أفكاري ولكي أجدَ تفسيراً أو تأويلاً لعبارتها، راحتْ تمطرني بأسئلةٍ غريبة: " من أين أنت؟ "، " منذ متى أنت هنا؟ "، " متى ستعود؟ "، " متى ستذهب إلى المطار؟ " ، " متى موعد إقلاع طائرتك؟"

... أجبتها باقتضابٍ، غير أني توقفتُ عند سؤالها الأخير لعلّ المصادفةِ ترمي بنا إلى مقعدين متجاورين في الطائرة. التفتّ إليها وبودّ سألتها:

" ولكن كيفَ عرفتِ بأني مسافر؟ "

تطلعتْ إلي ولاحتْ على شفتيها ابتسامةٌ لم أستطعْ تأويلها فهي مزيج بين الشفقةِ والسخرية. لم تجبني على سؤالي بل اكتفتْ بهزةٍ خفيفةٍ من رأسها ثم تشاغلتْ عني بالقراءة في صفحةٍ أخيرة من كتاب.

دقائق مرّتْ ولم تقلبِ الصفحةَ فأدركتُ بأنها تفتعلُ القراءة، وتأكدَ ظني حينما شعرتُ بأنها تراقبني بطرفِ عينها بفضولٍ وكأنها تنتظر مني المبادرة بالكلام. أطبقتُ الكتابَ موحياً لها بأني قد أتممتُ قراءته والتفتُّ نحوها فالتفتتْ نحوي بشوقٍ. رددتُ بصوتٍ رصين:

" رواية جميلة بحق. "

تطلعتْ إلي وأجابتْ بطريقة صارمةٍ وبثقةٍ:

" لا أعتقد ذلك، ولو أني لم أكملها بعد. "

أثار جوابها حيرتي فتطلعتُ إلى الكتاب الذي بين يديها فوجدتُ أنها تقرأ في الرواية نفسها. ولكيلا أتنازلَ أمامها عن كبريائي ورزانتي، سألتها بجدّ عمّا كانت تعني بعبارتها (عالم غريب)، عندها أطبقتِ الكتابَ والتفتتْ إلي بربع دورةٍ، وبرزانةٍ غير مفتعلة قالتْ:

" أمسِ حلمتُ بشخصٍ يشبهكَ تماماً.. زارني في المنامِ. "

وقبل أن أبدي اندهاشي أو أي انطباعٍ عما سمعته، قالتْ كأنها تصحح كلامها:

" في الحقيقة لم يزرني، بل أنا التي زرته...."

وقبل أن تستأنف كلامها ارتفعتْ ضحكتها وهي تحاول أن تتغلبَ على خجلٍ طفحَ في عينيها أو اختلالٍ في ثقتها بنفسها. قطعتْ ضحكتها بحزمٍ وبوجهٍ جادٍ، قالت بارتباك:

" في الحقيقة لم يزرني ولم أزره بل... "

توقفتْ عن الكلام. مدتْ عنقها بنشوة كأنها تستعيد المشهد ثم قالتْ:

" كان مضطجعاً تحتَ شجرةِ تفاحٍ وكان عارياً فخرجتُ من صدرهِ... أعني كنتُ ضلعاً من أضلاعه.... "

" ........................ "

" مارسنا الحبّ بجنونٍ وكانت الشجرةُ تساقطُ علينا تفاحاً.. "

توقفتْ عن الكلامِ وراحتْ تتمطى بنشوةِ امرأةٍ تنهض من السرير بعد ليلةِ حبٍ عاصف. حاولتُ أن أستدرجها لمزيدٍ من الكلامِ إلا أنها صمتتْ كأنها تتركُ المجال لي أن أحدثها عما حلمتُ بهِ ليلة أمس. لم أخبرها بأني حلمتُ بامرأةٍ تشبهها تماماً لئلا تظنَّ بي الكذبَ فآثرتُ الصمتَ مكتفياً بابتسامةِ ذهول. وحينما طال صمتي تطلعتْ إلي بابتسامةٍ خجولة ثم نهضتْ من المصطبةِ معتذرة بكبرياء:

" حانَ موعد رحلتي. "

قالتْ مادةً يدها نحوي فنهضتُ بارتباكٍ. هزّتْ كفّي بحرارةٍ وهي تردد:

" إلى اللقاء. "

سارتْ بخطواتٍ وئيدةٍ، وكنتُ أرقبها بفضولٍ علّها تلتفتُ لأركضَ نحوها بحركةٍ بطيئةٍ تنتهي بقبلةٍ طويلة، غير أنها لم تلتفتْ وسارتْ... حتى اختفتْ في زحامِ المسافرين.

بعد أن تركتني امرأةُ المصادفات أو الحلم، انتبهتُ إلى أن موعد القطار الذاهبِ إلى مطار كوبنهاكن قد اقتربَ. نهضتُ مرتبكاً، وقبل أن أخطو نحو بوابةِ المغادرة مددتُ يدي في جيبي كي أتفحص جوازَ سفري وبطاقةَ السفر فاكتشفتُ بأني قد نسيتهما في البيت، على الرغم من حسابي الدقيق لمثل هذهِ الأمور وحيطتي التي تصل حدّ الهوس. ركلتُ حقيبتي بحقدٍ ورميتُ بجسدي على المصطبة ثانيةً، وبدلاً من الذهاب إلى المطار عدت إلى مدينة فايله.

وصلتُ البيتَ ليلاً، وأول شيء فعلته رحتُ أبحثُ في الخزانة عن بطاقة السفر والجواز، عندها اكتشفتُ بأني لم أكن قد حجزتُ بطاقةً للرحلة، وأن جواز سفري قد انتهتْ مدة صلاحيته منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم يخطر في ذهني أن أجدده، بل إن ما هالني هو أني لم تخطر في بالي فكرةُ السفر أصلاً.

استيقظتُ ضحىً على صوتِ رنين التلفون. لم أنهضْ لأني كنتُ على يقينٍ بأن تلفوني لا يرنّ إلا عن طريق الخطأ. كان المهاتِِفُ يبدو لحوحاً فقد دامَ الرنين أكثرَ من خمس دقائق. وضعتُ المخدةَ على رأسي للتقليلِ من حدّة الرنين الذي يخترقً طبلةَ أذني، وحينما توقفَ حاولتُ العودةَ إلى النوم، وقبلَ أن أغفو رنَّ التلفون ثانيةً ولم يتوقفْ حتى قمتُ مضطراً لإسكاته. رفعتُ السماعةَ ببطء، وبصوتٍ أقربُ إلى اللهاث وقد حاولتُ أن أقلّدَ صوتَ مريضٍ أو ساهدٍ غفا قبل لحظاتٍ كي أُشعرَ المتكلمَ بتأنيبِ الضمير أو أبرر لنفسي غلظةَ الكلام الذي سأوجهه إليه، فلم تعد كلمة (آسف) التي سيقولها تعادل الإزعاج الذي يسببه لي الباحثُ عن كلّ الناس سواي، ولكن قبل أن أنطقَ بكلمة (ألو) جاءني الصوتُ من الطرفِ الثاني:

" ألوووووووو "

صوتٌ أنثوي ناعمٌ دغدغَ أذني. تنحنحتُ بكبرياء، وقبل أن أجيب بادرني الصوتُ:

" صباح الخير سيد آدم. "

لم أردّ على التحية بل قلتُ:

" أعتقد أن الرقمَ خطأ. "

وقبلَ أن أضعَ السماعةَ، سمعتُ صوتها لحوحاً وهو يردد:

" لا..لا.. لا تقفلِ الخط.. أرجوك. "

أعدتُ السماعة إلى أذني وبلهجةٍ لا تخلو من الفظاظةِ قلتُ:

" ولكني لستُ آدم. "

" أعرفُ.. أعرفُ أنكَ لستَ السيد آدم وأنا لستُ حواء.. ولكني أريدُ التحدثَ معك. "

" مَنْ أنتِ إذن؟ "

ارتفعَ صوتها ضاحكةً بغنجٍ، ثم قالتْ:

" أعرفُ أن لك ذاكرةً قوية جداً، فلماذا نسيتني بهذه السرعة؟ "

" كيفَ لي أن أتذكركِ وأنا لا أعرفكِ؟ "

قلتُ محاولاً أن أبدي مللاً من إلحاحها غير الطبيعي، فارتفعتْ ضحكتُها مرةً أخرى وقالتْ:

" قبل أن أقولَ لك مَنْ أنا، أريد أن أسألكَ هل أكملتَ قراءةَ الرواية؟ "

" أية رواية!؟ "

" الرواية التي كنتَ تقرأها بالأمسِ. "

" لم أفهمْ. "

" أعتقد أنكَ لم تكمل قراءةِ الصفحةِ الأخيرة من الرواية، حينما قطعتُ عزلتكَ.. أنا آسفة.. آسفة جداً. "

توقفتُ عن طرح الأسئلة محاولاً استجماعَ خيوط علاقتي بالواقع، فإن ما أسمعه الآن صوتاً قادماً من اللامعقول. أدركتْ محدثتي تلعثمي وذهولي فقالتْ ضاحكةً:

" لا بأس.. لا بأسَ، أنا أيضاً لم أكملِ الصفحةَ الأخيرة.. كنتُ أتمنى أن نكملها معاً.. في الطائرة.. على ارتفاعٍ شاهقٍ من الأرض التي لم تعدْ صالحةً للرسوخ. "

" ............................. "

" بالمناسبة، كانَ المقعد الذي بجانبي شاغراً طوال الرحلة.. وكنتُ أتخيلكَ تحتله... "

ارتفعَ ضحكها بغنجٍ وميوعةٍ مبالغٌ فيها، وقالتْ:

" كنتُ أتمناكَ إلى جانبي.. كنتُ أتخيلني غائبةً عن العالمِ معك بقبلةٍ تزيل خوفي من ركوب الطائرة.. ولكنْ.. كنتُ واثقةً من أنكَ لن تعود... "

تذكرتُ الصوتَ جيداً ولكني لم أتيقنْ من الحديث الذي يجري بيننا الآن إن كان حقيقةً أم أني في غيبوبةٍ أو كابوس من كوابيسي المعتادة. ولكي أتأكدَ من وجودي سألتها جاداً:

" أينَ أنتِ الآن؟ "

فجاءني صوتها واثقاً:

" قبل دقائقَ قليلة وصلتُ إلى بغداد، وأولُ شيء خطرَ في ذهني حينما لامستْ قدمي أرض الوطن هو أن أتصلَ بكَ لأطمئنكَ على وصولي. "

" شكراً. "

خرجتْ الكلمةُ مني دون أن أعي سببَ تقديمي الشكرَ لها، فردّتْ:

" عفواً.. وسأتصل بك غداً وكلّ يوم بمثل هذا الوقت.. تماماً. "

كدتُ أقول لها " لماذا " ولكنها أطبقتْ سماعة التلفون.

" ألوووو.. اشلونك عيني؟ "

" أهلا يا... "

" مو مهم الاسم، بس تعرف شقد اشتاقيت لك؟ "

" ................ "

" اشتاقيت لك كلش هواي. "

لم أجدْ ما أرد به على كلامها فصمتًّ ولكني كنتُ أسمع صوت أنفاسها وارتعاش سمّاعة التلفون. طالَ الصمتُ بيننا، قطعته بضحكةٍ تفتعل الثقة:

" تعرف؟.. أنا أحبك. "

افتعلتُ ضحكةً بليدة تفتعل الكبرياء والعزة، غير أني تداركتُ الموقف فسألتها بطريقةٍ جادة:

" ولكن.. كيف تحبينني وأنتِ لم تعرفيني؟ "

" أعرفكَ.. أعرفكَ أكثر مما تتصور. "

" كيف تعرفيني ونحن لم نلتقِ سوى لحظات؟ "

" هه، لحظات!؟ "

" .................... "

" وماذا عن الرواية اللي قريتها عشرات المرات؟.. جنت أشوفك بكل سطر.. بكل كلمة.. بكل دمعة.. بكل شي. "

وقبل أن أسألها عن أية روايةٍ تتحدث، قالتْ:

" تعرف ليش ما أريد أكمّلها؟ "

" ليش؟ "

سألتُ وأنا لا أدري عن أيةِ روايةٍ تتحدث، فأجابتْ:

" لأني أريدك تبقى.. ما أريدك تموت.. "

" ولكنْ مَنْ أنتِ؟ "

سألتُ بنفاد صبر، فأجابتْ بحزنٍٍ:

" أنا فكرة.. فكرةٌ واحدةٌ ولكنها تجمع في داخلها كلّ الأفكار. "

ضاقَ صدري من هذه الألغاز التي تراكمتْ على بعضها، جاثمةً عليه ككابوسٍ خانقٍ فصرختُ بصوتٍ عالٍ:

" ولكنْ مَنْ أنتِ؟ أعني ما اسمك؟ "

" أنا..!؟ "

قالتْ وانقطعَ الخط.

" هلو حبيبي.. اشلونك اليوم؟ "

" أهلاً. "

قلتُ مفتعلاً خيبةَ أملٍ كأني بانتظار اتصال من شخصٍ آخر فجاءني صوتها مبرراً للإلحاح، متسولاً علاقة لم أزلْ في شكّ من أنها تجري في الواقع، بل إني أتصورها واحدة من قصصي التي أرويها لجسدي قبل النوم.

" ترددتُ كثيراً في الاتصالِ بكَ على الرغم من أني منذ أكثر من ساعتين وأنا جالسةٌ قربَ التلفون أنتظرُ حلول وقت موعدنا اليومي، وما أن حانَ الوقت حتى وجدتني مندفعةً بقوةٍ لا أدركها. لقد عشتُ سنواتِ انتظارٍ طويلة. مللتُ من الانتظار ومن عقابِ الذات، وحينما رأيتكَ

كنتَ بمثابةِ جزيرةٍ جميلة أراها من البعيد وأمنّي النفس في الوصول إليها، وحين وصلتُ نسيتُ ألم السباحة والخوفِ من الغرق، وعدتُ من جديد طفلةً، وكأن كلّ ما مرّ بي ما هو إلا حلم غريب أيقظني ذات نهارٍ على أعتاب طفولتي، وكلّ ما مرّ بي هو تمارين لتشكيلَ ملامحَ تليقُ بكَ، وهذهِ هي الحقيقة التي لا أريد لها أن تختفي. "

" ......................... "

" أنتَ لي حقيقةٌ لا تقبلُ المساومة، معكَ عرفتُ طعمَ المغفرة والحب والسعادة، وبرغم ما يفصل بيننا من مسافات إلا أني أراكَ قريباً مني، كلّ ما حصلَ لي حصلَ لكي أصلَ إلى جزيرتكَ .."

" إذا كنتُ أنا حقيقةً لكِ، فمنْ أنتِ بالنسبة لي؟ "

" أنا ضلعكَ. "

نطتْ ضحكةُ سخريةٍ من فمي فتداركتها:

" أنا لا أؤمن بهذه الخرافات والأساطير. "

وقبل أن تجيبَ على كلامي واصلتُ حديثي:

" أنا أقصد إنْ كنتِ ترينَ بي حقيقةً فلماذا لم أجد أنا حقيقةَ نفسي؟ "

ارتفعتْ ضحكتها بنشوةٍ ثم قالتْ:

" اسمعْ! سأقولُ لكَ الحق. إنكَ لا تعرفُ حقيقةَ نفسكَ لأنكَ لا تعرفُ المرأةَ، بل لأنك لم تعرفْ الحبّ. "

ثم راحتْ تكررُ الجملة حتى انقطع الخط.

" هلو حبيبي، اشلونك عيني؟ "

" أهلاً. "

" ما شتاقيت لي؟ "

" بلى. منذ ساعتين وأنا جالس قربَ التلفون أنتظرُ اتصالك. "

" تعرف؟ أمس احتاجيت وجودك وياي. "

" ............................ "

" ذهبتُ اليوم فجراً إلى البحر وقضيتُ ما يقارب ثلاث ساعات. كان البحر متواطئاً معكَ بشكلٍ غريب. كل لمسة من موجةٍ كانت يديك. كانت الرمالُ تلهو بأطرافِ أصابعي وعلى شعري. كان الهواء يتغلغل في مسامات روحي وكنتُ أتخيله أنفاسكَ. كنتُ أصرخ في الفضاء.. أحبكَ.. أحبكَ.. كم انتظرتكَ.. أحتاجُ وجودكَ.. أريد أن أنقذَ بكَ العمرَ من حرمانه.. أريدكَ.... "

" قلتِ إنكِ ذهبتِ إلى البحر، أيّ بحر!؟ ألستِ الآن في بغداد؟"

" ........................ "

وانقطعَ الخط.

 " ألوووو "

" أنتِ؟ "

" تريدني أتصل بيك لو ضجتْ من وجودي؟ "

" ما أدري. ولكن اشتقتُ إليكِ "

" قولْ لي أنتَ ما حبيت بحياتك؟ "

" ............................... "

" معقولة إنسان بعذوبتك ما لامستْ روحَه أنثى؟ ولا علاقة حب تركتْ أثرْ في حياته؟ "

" بلى. "

وبلا شعور رحتُ أسرد عليها حكايةً خطرتْ على ذهني تلك اللحظة:

" كان هديرُ الموت قادماً من كلّ الجهات، يقتحمُ عزلةَ الأعزل، يتسربُ عبرَ ثقوبِ النوافذ والأبواب، يحتلُّ الهواء، فيخرجُ القاتلُ مزهواً ببدلتهِ الخاكية وعضلاته المفتولة وهو يشحذُ مُديته ليثيرَ شهوتها، ثم يمضي مترنحاً أمام جموع البشر المصطفين كراديسَ بانتظار المجزرة المعدّة لهم سلفاً. شوارتسكوف.. شوارتسكوف اسم من أسماء الموت التي اضمحلتِ الآن ليحلَّ محلها اسم واحد بحروفٍ كبيرة يسيل منها الدم. شوارتسكوف يخرجُ من شاشة التلفزيون مكشراً يستعرضُ عضلاتهِ أمامَ مَنْ لا حولَ ولا قوةَ لهم. يرفعُ يده فتهبطُ الطائراتُ من السماء وتحطّ قريباً من بيت الله، حاملةً معدّاتِ الإبادة لأحفاد الله الضائعين في صحرائهم عراةً، وجوههم مطموسة لكنها تحمل ملامحَ الوجه الذي يظهر لي كلما تطلعتُ في المرآة. وفي الخارج كان الثلجُ يهطلُ بغزارةٍ. غطّى الأشجارَ فغدتْ قاماتِ ميتين خرجوا من قبورهم بأكفانهم المتهرئة ليحتلوا المشهد. موتٌ قادمٌ من كلّ الجهات وأنا أدفعُ بيدين مشلولتين أشباحه التي أحاطتْ بي. البياض يذكرني بوادي الموت الذي هبطته مراتٍ عدّة في محاولاتِ الموت السابقة. " أريد موتاً مقنعاً. " كنتُ أصرخُ فتضحكُ الأشباحُ ساخرةً من بطري. ما بين المطبخِ والصالةِ كنتُ أقضي ساعاتِ الليل، وما بين شاشة التلفزيون التي تنقلُ مشاهد الاستعدادات التي تجريها القواتُ الأمريكية في الصحراء لشنّ الهجوم على طفولتي البائسة وبين نافذتي التي تطل على العاصفةِ الثلجية في الخارج. هدأتْ العاصفة قليلاً، وشيئاً فشيئاً بدأ السكون يمدّ سطوته كأنها كانتْ نزوةً عابرة لسيد الطبيعة، حطمتْ بعض الأشجار وتركتْ سكوناً مخيفاً بصمتهِ. الظلامُ أبيض، الأشجارُ بيض والأرضُ بيضاء ساطعة. أطفأتُ التلفزيون وجلستُ قرب النافذةِ، أتطلعُ إلى ندفِ الثلجِ، مسرّحاً نظري على سطحِ الأرض الهادئ، محاولاً ترميم نفسي باستعادةِ أشلائها. فجأةً رأيتها، رأيتها تُخرجُ رأسها من سطحِ الثلجِ مستغيثةً بي كرأسِ غريقٍ يظهر ويختفي. كانتْ تتجه نحو ضوءِ نافذتي، تتقدمَ ببطء، حتى أصبحتْ على بعد بضعةِ أمتار من نافذتي. تطلعتْ إلي بعينين كسيرتين وراحتْ تطلقُ مواءً يخرمشُ الروح. ارتديتُ معطفي وهرعتُ إليها. أخرجتها من الثلج وحملتها بين ذراعيّ فأدخلتْ رأسها تحت إبطي وهي ترتعشُ كأنها تحتضر. أطعمتُها آخرَ قطعةِ جبنٍ عندي وبقايا خبر يابس فعادتْ الحياة إليها. ماءتْ ونطتْ إلى حجري ثم نامتْ آمنةً وارتفع شخيرها.

" ................................ "

" نعم أحببتُها.. أحببتُها لأني كنتُ أدافع بحبي لها عن آخر حصنٍ لروحي يهدده الموت القادمُ على يد شوارتسكوف. كانتْ تتسللُ إلى سريري وتدفن رأسها في صدري وتنامُ، وكنتُ أحدثها عن عزلتي وخوفي وأبثّ إليها شكواي.. أحدثها عن خرابِ العالم وخراب الإنسان.. أحدثها عن عالمٍ آيلٍ للسقوطِ والاندثار، عن الحروب التي يشنّها البشر. مرةً سمعتُ مواءها يشبه الأنين أو البكاء. حاولتُ أن أتجاهله فقد شغلني العويلُ القادم من هناك وبكاءُ المهددين بالموت الذي أصبحَ قاب قوسين أو أدنى منهم. ونفّرني بكاءُ طفلِ جاري الصومالي الذي يقيم في الطابق العلوي من البناية التي أقيم فيها والذي ينجب كبُغاث الطيرِ كما يقول المتنبي طفلاً كلّ سنة أو أقل من السنة، لكنّ مواءَ أنينها لم ينقطع بل ازداد وهي تُنشب براثنها في سجادة الأرض وتحاول أن تلتهم لسانها، وحينما تنهكها المكابدة تتطلعُ إلي مستغيثةً. حملتها، فتحتُ فمها فرأيتُ أشواكاً صغيرةً من شجيرة الصبار عالقةً في لسانها. يا إلهي ماذا أفعلُ؟ وكيف أستطيعُ إنقاذ هذه المخلوقة البائسة؟، فكرتُ أن أرميها من البرندةِ لأتخلصَ من موائها، لكني تراجعتُ في اللحظات الأخيرة. تذكرتُ بأن هناك مستشفى في المدينة للحيوانات الأليفة. عثرتُ على رقم المستشفى من دليل الهاتف. ظهرتْ صورة شوارتسكوف على شاشة التلفزيون سانداً كوعيهِ على منصةِ الخطابة متوعداً البشرية بموت قادم. " تفووووو أيها القذر وتفووووو على مَنْ خلقك ". حملتُها بين ذراعيّ وهرعتُ إلى المستشفى. " ثلاثة آلاف كرون ثمن إجراء عملية إخراج أشواك الصبار من لسانها. " قال لي الطبيب وحينما وجدني أقفُ أمامه حائراً فالمبلغ يعادل نصف راتبي الشهري، أضاف " إما أن تدفعَ وإما أن نزرقها بإبرة سامة لقتلها. " تطلعتْ إلي بعينين كسيرتين، حاولتُ الهروب من نظرتهما وأنا أتطلع إلى جدار الغرفة بانتظار قدوم الطبيب لأخبره بالقرار. ارتسمتْ صورة شوارتسكوف على الجدار، يمدّ لسانه ساخراً من ضعفي... تفووو أيها القذر.. " نعم سأدفعُ المبلغ. " قلتُ فابتسم الطبيب هازاً كتفيّ برقّة. سقطتْ دمعتان من عينيّ. أمالتْ رأسها نحوي ثم استسلمتْ للمخدر. جلستُ على مصطبةٍ خارج غرفة العمليات بانتظار وليدٍ يطلقُ صراخَ احتجاجه على العالم القاسي. حملتُها إلى قفصٍ أعد لها وجلستُ قربها حتى أفاقتْ. تطلعتْ إليّ بخجلٍ وماءتْ. حملتُها على صدري، واضعاً كفي على رأسها لأحميها من طيش شظية قادمة من قذيفةٍ ستسقط من السماء وعدتُ بها إلى البيت بفرحٍ.

" ....................... "

" ضغطتُ على زر التلفزيون، كانت شاشته خضراء تتخللها صعّادات نارية. يقول المذيع إن سماء بغداد الآن تشبه شجرة عيد الميلاد، أضاءتها صواريخ عابرة للمحيطات والقارات، طائرات تفرغ أطنانَ حقدها على رؤوس البشر. وحده دجلة بمائه المصبوغ بالأخضر يمضي وحيداً. "

" ...................... "

كنتُ أسمعُ أنفاسها فواصلتُ الكلام محاولاً إنهاء الحكاية التي ورّطتُ نفسي في ذكرها، فقد كنتُ أحاولُ أن أذهبَ في غرابة ما يدور حولي إلى أقصاها:

" ... لكنّ شباطَ كان أقسى الشهور، فبينما كنتُ أجلسُ محملقاً ببلاهةٍ في شاشة التلفزيون أتابعُ ما يجري في العراق، كانتْ هي تعيش وحدها حرباً أخرى. كنتُ أنشبُ أظفاري في السماء التي احتلتها الطائرات وبوجهِ العسكر الذين كانوا يرسمون عليها جروحاً تمطر دماً وناراً. كانتْ هي تنشبُ براثنها في الأرض وتصرخُ كلما سمعتْ صوتَ ذكرٍ في الخارج. كانتْ تنسحبُ إلى الخلف بخطواتٍ بطيئةٍ ثم تقفز إلى النافذة فيصدّها الزجاجُ، ترتدّ قليلاً ثم تنطّ فيصدّها الزجاجُ ثانيةً. كلانا كان يتمزق في صمتٍ. وفي الثامن والعشرين من شباط توقفتِ الحرب الأمريكية على العراق فأطلقتُ سراحها، إذْ فتحتُ لها باب البرندة فنطتْ فرحاً واختفتْ في الغابة القريبة. لم تعد... "

" ............................ "

" الو.. ألو ... "

انقطعَ الخط.

" هلو حبيبي.. شلونك؟ اشتاقيت لك.. كلش هواي.. وأنتَ ما شتاقيت لي؟ "

" بلى.. اشتقتُ إليك كثيراً.."

" أحبك. "

" أشتهيكِ. "

" تعرف؟ أنا الآن جالسة على الصوفة.. ألبس بيجامة سماوية من قطعتين.. بنطلون البيجامة قصير يصل إلى أعلى الفخذين وبفتحتين عريضتين بحيث أستطيع أن أدخل يدي وألامس.. ألامس.. كما أفعل الآن وأنا أتحدث معك.. هههههههههه.. وقميص فضفاض فتحته دائرية تكشف الصدر.. وطرفاه خيطان أحيانا يسقطان على ذراعي.. أنا الآن أفتح الستيانة السوداء.. أوووو.. الهواء يداعب صدري.. بشرتي ناعمة الملمس بلون خمري.. نهداي كبيران ومشدودان ولي حلمتان صغيرتان مثل حبتي توت.. شعري بني غامق وطويل.. ألو.. ألو.. أنت معي؟ "

" نعم.. نعم.. أنا معك. "

" تعال.. تعال عندي.. ضمني.. ضمني لصدرك بقوة.. بوسني.. أعصر نهدي.. بقوة.. مزّق لباسي.. مزّقه.. بسرعة.. آه.. أشتهيك.. آه.. أمسك أيـ .. أمسكه.. أدوّر قبضتي على رأسه.. أمسحه بمائه.. أقرّب منه شفتيّ.. أمدّ لساني على فتحته.. أتذوقه.. ألعقه.. ألحسه كله.. من تحت إلى رأسه.. أحرك لساني عليه وأتطلع إليك بعينين متوسلتين.. حبيبي.. أشتهيك.. امسحْ وجهي بأيرك.. مرره على رقبتي.. ضعه بين نهديّ.. أضغطهما عليه.. أمد لساني وألعق رأسه.. وأنت تمسك شعري.. تدفعه كله في فمي.. أصغي إلى صوته وهو يصطك بين شفتي.. أخرجُه وألحسه ثم أعيده.. أمصّه أقوى.. أعضّه.. أنا ملكك.. أنا جاريتك.. أنتَ سيدي.. إلهي..أعبدك.. أعبد أيرك..اصفعني.. اصفعني.. أنا جاريتكَ المطيعة.. أنا عبدتكَ.. أنا.. أنا.. أنا.. عاهرتكَ.. أنا لك وحدك.. أنا ملكك.. يللا.. نكني.. يللا.. نكْ كسي.. كسي إلك وحدك.. كسي الجائع يتوسل إليك.. ارمني على السرير وارتمِ علي.. قبلني بعنف.. اعصرْ نهدي بقوة..فرّجْ فخذيّ بعنف.. شدني من شعري.. الطمني.. ما ألذك.. ادخلْ أيرك بكسي.. كلّه.. حرّكه داخل كسي.. اقسِ عليّ.. أحب قسوتك.. نيكني بسرعة.. أكرهك.. أحبك.. أشتهيك بجنون.. سيدي أذقني فحولتك.. تعال.. تعال.. آه..آه.. أبوس يدك.. أبوس رجلك.. نكني.. كسي.. مزّقه.. أرجوك.. مزّقني.. أرجوك.. أنا عاهرتك.. أنا قحبتك.. أنا.. أنا.. آه.. آه.. آههههههههه .....................................    ................................................. "

" ألو.. ألو.. "

انقطعَ الخط.

" ألو... "

" نعم. "

" أحبك.. أشتهيك.. أموت عليك.."

" أحبك. "

" تعرف؟ ما عشت لحظاتي إلا معكَ. صدّقْ أو لا تصدق.. ما كنتُ قبل الأمسِ أحس بهذهِ الحالة التي يصبح فيها الجنسَ معادلاً للوجود إلا بكَ..

" ....................... "

" أحبك داعراً معي.. أحب أن تدفعني للجنون.. لجنونك.. أحب جنونك.. أحبك.. أحبك تكون سيدي.. أنا.. أنا ملكك.. أنا لكَ.. وحدك.. أريدك تبقى معي.. لنحيا في أحلامنا.. تعال.. "

" تعالي.. أريدك معي نائمةً على حافةِ الأفق.. قريبين من الله.. عراةً.. نحتضن بعضنا ونتدحرج على الجهة الثانية من الأفق.... "

" كنْ داعراً معي.. كنْ فاجراً.. أنا عاهرتك.. "

" تعالي.. أقبّل عنقكِ.. أقبّل تحت أذنيكِ.. يدكِ تفتح أزرارَ قميصي وتمسد شعر صدري.. تمتدّ يدي خلف ظهركِ.. أضغط جسدك بجسدي.. تحتك حلمتاك بصدري.. أعتصر نهدك.. أمصّ حلمتكِ.. أدور لساني حولها.. تمتدّ يدكِ إلى .... تحركين يدكِ عليه.. تركعين أمامي.. تقبلينه.. تمصينه.. أوووووو.... "

أسقطُ على الأرض لاهثاً. دقّات قلبي طبول تقرع. أتنفس بصعوبةٍ. أختنق.

ارتفعَ صراخُها فتسلقتُ سياجَ دارنا. رأيتُها على سطحِ الجيران. كانتْ جالسةً في مركز الدائرة، تحيطها أربعةُ هررةٍ. ترفعُ رجلها وتلحسُ ما بين فخذيها غير آبهةٍ بالهررة المتحفزة للانقضاضِ في أيةِ لحظةٍ. تنهضُ الهررة في لحظةٍ واحدة. تتقدم نحوها ببطء مكشرةً عن أنيابها الجائعة. تضيق الدائرة عليها ثم يرتفعُ صراخ الهررة وهي تنهش بعضها.

" البقاء للقوي. "

يهربُ هرّ لاعقاً جراحَ هزيمته، يتبعه الثاني والثالث ليبقى الأسود الكبير. يجلسُ قبالتها والدم يجري من عينهِ المنهوشة. ينفشُ فراءه ويتقدمُ نحوها إلا أنها تنفخُ عليه فيرتدّ خائفاً. تدير إليه عجيزتها باحتقار، محرّكةً ذنبها كأنها تهشّ على ذبابةٍ. يتراجعُ بضعَ خطواتٍ، ثم ينطّ بسرعةٍ خاطفة. يتشبثُ بها عاضّاً رقبتها بعنفٍ وحقد فتستسلم لجبروتهِ. تمتدّ يدي نحو آجرةٍ، أقلعها من السياج. ترتفعُ يدي، وبقوةٍ أصوبُ رميتي نحوها. يهربُ الهرّ، بينما هي تسقطُ متمرغةً بدمها. تصرخُ.. تتقلبُ.. ثم تخمد أنفاسها. كفٌّ ثقيلةٌ تسقطُ على هامتي، تمسكني من عنقي. أختنقُ. أسقطُ من السياج. ينهالُ عليّ أبي بالضرب:

" ولكْ ليش قتلت المسكينة؟ "

" والله يا بويه هي اللي أكلتْ الزاجل. "

 

النهاية

قالَ نيتشه:

"إنّ مَنْ يحيطُ به لهبُ الجسدِ تنتهي بهِ الحالُ إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمّته المسمومةَ إلى نحره ... "

 

 

القسم الثاني

(الرماد)

لولا التنافرُ الذي كانَ يحكمنا والذي أدركتُ تفسيرَه بمرورِ الوقت، لما صدّقتُ ما كان يردده التلاميذُ والمعلمون بأننا متشابهان حدّ التطابق، التشابه الذي جعلَ بعضُ التلاميذ يطلقً إشاعةً بأننا أخوان غير شقيقين، لكنّ اختلاف اسمي أبوينا وتطابق تأريخ ميلادنا باليوم والشهر والسنة أفسدَ الإشاعة، وإنْ بقي هناكَ مَنْ يتهامس بسريةٍ وخبث محاولاً إيجاد صلةَ قرابةٍ بيننا تبررُ هذا التشابه الغريب.

ما كنتُ أشعرُ بذلك بل على العكس كنتُ أرى أنّ الفارقَ كبير جداً بيننا ولم أكنْ أعرفُ وقتها بأنّ النفورَ الذي يجمعنا جاءَ بسببِ هذا التشابه الذي يراهُ الآخرون ولا أراه أنا، وهو تنافرُ القطبين المتشابهين. وبمثل إدراكي هذا كان هو يدركُ الحالَ نفسه (كما أخبرني لاحقاً) فجاء الاتفاقُ غير المعلن ليرسم لنا طريقينا المتوازيين منذ البداية وبالتحديد منذ المرحلة الابتدائية، فكان إذا جلسَ في الرحلة الأمامية قريباً من السبورة لضعفِ بصره اخترتُ أنا الجلوس على الرحلةِ الملاصقة للجدار، وإذا أبدى تفوقاً في القراءةِ اخترتُ أنا الحساب وهكذا. وبالرغم من ذلك كانتْ هناك أمور تجمعنا رغماً عنا فضعفُ بنيتنا جعلنا مسالمين نؤثر العزلةَ ونتهربُ من الاشتراكِ مع بقيةِ الصبية في المشاجرات أو الرياضة العنيفة منزويين في ركنٍ وهمي تشغلنا أمور غامضة لا يستطيع المعلمُ أنْ يدركها فتكون العصا هي أداة إيقاظنا من السَرَحان الذي يأخذنا رغماً عنا، بل إنّ أمراً قد حدث مرة جعل معلم اللغة العربية يتهمنا بالغش وعوقبنا على ذلك ولم يصدقْ أحد حتى بعد أن أقسمنا بأغلظ الأيمان، حيث أننا كتبنا في درسِ الإنشاء مادةً تطابقتْ تماماً، وقد ازدادَ الأمر غموضاً حينما جرى اختبارنا فقرأ كلّ منا  الموضوع غيباً أمام الطلاب ولم يخطئ أحدنا بحرفٍ واحد، ولو أنّ الأمر ليس كما حسبه المعلمُ في الوهلةِ الأولى لكن لم يشفعْ لنا اعترافنا بأننا نقلنا المادة نصاً من كتاب (العبرات)  لمصطفى لطفي المنفلوطي.

لم تكن الأمورُ تسيرُ بهذه السهولة حيث أنّ الغيرةَ كانتْ تنهشنا بصمتٍ وكلانا كان يحاولُ قتلَ صاحبهِ في أحلامه البريئة (كما اعترفَ لي لاحقاً). ولأننا متفوقان بشكلٍ يثيرُ الانتباه فقد كان المعلمون يخطئون في أغلب الأحيان في التمييز بيننا على الرغم من اختلاف اسمينا والتصرفات البريئة التي كان يقومُ بها كلّ منّا من أجلِ التميّز والهروب من دائرة التشابه، لذا فإن هذا التطابق المفروض علينا كان يؤججُ نارَ غضبنا وتزداد الرغبة فينا للتربصِ وجمع أخطاءِ بعضنا بصمتٍ وغيرة، حتى أصبحتْ عبارة (أول مكرر) التي تكتب في شهادة النجاح تمثلُ لي درجةَ رسوب فتسلبُ مني نشوةَ الفرحِ وأعود إلى البيت بعينين دامعتين ونظرةٍ منكسرة تثيرُ الخوفَ في عيون أبي وأمي، وأحسبُ أنه كان يشعرُ بالشعور نفسه. ازداد هذا الشعور العدائي وتحولَ إلى حقد يغلي في نفسينا في مرحلةِ المراهقة الأولى لولا الاختيار الذكي الذي قامَ به فغيّرَ مسارَ حياتنا كلياً حيث أنه اختارَ الفرعَ الأدبي على الرغم من تفوقهِ في الموادِ العلمية واخترتُ الفرعَ العلمي على الرغم من تفوقي في الموادِ الأدبية خاصة وقد بدأتُ في تلك المرحلةِ بكتابة الشعر وحزتُ على إطراء من أستاذ اللغة العربية. أثارَ هذا الاختيار استغراب وتساؤلات كثيرة بين الطلاب والمدرسين ولم يعرف الجواب أحد سوانا، بل حتى أنا نفسي ما كنتُ أعرفُ سببَ هذا الاختيار الذي أشعرني بالندم لاحقاً غير أني كنتُ أشعرُ بقوةٍ تدفعني للهروب من هذا الظل الذي يلاحقني.

لم أعدْ أراه أو التقي به إلا مصادفة وأحسب أنّ الحقد الذي كان يكنّه أحدنا للآخر قد زال فكنّا حينما نلتقي نتوقفُ ونتبادلُ تحياتِ المجاملة ونضحكُ حينما نتذكر سنوات الطفولة، وحينما نتحدثُ عن الدراسة يحاولُ كلّ منا أن يبرزَ تفوقه في المجال الذي اختاره بنفسه وكلّ منا يخفي عن الآخر خيبةً كانتْ تلوح في نظراتنا، هذه الخيبة التي ألغتْ حافزَ التفوقِ في نفسي ولم يعد النجاح يعني لي شيئاً فاجتزتُ امتحان البكالوريا بمعدلٍ ضعيف أهلني للقبولِ في معهد التكنولوجيا، لكنّ الغيرة عادتْ تنهشني حينما علمتُ بأنه دخلَ كليةَ الآداب فكنتُ كلما أراه مصادفةً في مقهى (الأمين) حيث يلتقي الطلبةُ القادمون من مدينةِ الكوت أو في شارع الرشيد وهو يحملُ كتبَ الأدب ودواوين الشعر، أشعرُ برغبةٍ في خنقهِ وانتزاع شيء قد سُلبَ مني، وازدادَ هذا الشعور شراسةً بعد سنتين حينما كنتُ أعودُ بإجازة من وحدتي العسكرية المتمركزة بالقرب من بحيرةِ الحبانية مغبرّاً بشعري الحليق وهيئتي الرثّة فأراه يقفُ في كراجِ النهضة بزيهِ الجامعي، يحملُ حقيبته الأنيقةَ ويقفُ على الرصيفِ مترفعاً عن مزاحمةِ الرعاعِ المسافرين الذين يتراكضون خلف السياراتِ القادمة والقفز من نوافذ السيارة للحصول على مقعد، وقد يذهبُ إليه السائقُ طوعاً ويتملقه كي يحظى براكبٍ مهذبٍ مثله، وربما ينهضُ أحد الراكبين متبرعاً ليجلسَ (الأستاذ) في محلّه. تطمئنُ الفتاةُ المسافرة وحدها إلى الجلوس لصقه فلا تتوقعُ منه تحرشاً أو احتكاكاً مقصوداً بجسدها بل كنتُ أرى الرغبة في عيونِ طالبات الجامعة وهنّ يحاولن اختلاقَ أعذارٍ كي يقتربن منه كزميلٍ لهنّ يقاسمهنّ الرحلة، في الوقت الذي ترتسمُ علاماتُ الامتعاضِ والخوفِ كلما اقتربتُ من إحداهن، حتى الصبي الوقح ذو اللسان البذيء والدشداشة الوسخة والذي لا يكفّ عن دعكِ خصيتيه وهو يجمعُ الأجرة من الركّاب يناديه بتهذيب:

" تسمح استاد "

ثم يلتفتُ إليّ وبصوتٍ عالٍ ولهجة فظّة:

" هيه، أبو خليل، أجرتك. "

أجلسُ في المقعدِ الخلفي من السيارة أو ما يسمى بـ (خانة الشواذي). أتطلعُ من زجاجِ النافذة هرباً من عيونِ المسافرين التي أقرأ فيها امتعاضاً من الرائحةِ الزنخة التي تعطّ من جسدي وملابسي العسكرية، أسترقُ بين حينٍ وآخر نظراتٍ خاطفةً نحوه فأراه في المقعدِ الأمامي وقد نشرَ صفحاتِ جريدة (طريق الشعب) وراحَ يقرأ بصمتٍ بينما تسمّرتْ أعينُ المسافرين عليه ترمقه بهيبةٍ وإعجاب بجديتهِ وشجاعته.

" جريدة طريق الشعب!!"

" هذا يعني أنه هو الآخر أصبحَ شيوعياً أو صديقاً للشيوعيين. "

أنظرُ إليه بحسدٍ وهو يطالعُ الجريدة بجرأةٍ دون أن يلتفتَ إلى المسافرين التي يتطلعون إليه بفضول، الجريدة التي مجرد لمسها كفيل بأن يوصلني أنا العسكري إلى ساحةِ الإعدام دون محاكمةٍ وضمن اتفاق الحزبين المتحالفين.

 أغمضُ عيني أو أتطلعُ من نافذة السيارة  إلى العراء على جانبي الطريق فتكونُ المسافة بين بغداد والكوت والتي تقطعها السيارةُ بثلاث ساعات دهليزاً فاصلاً ما بين الزنزانةِ وساحة الإعدام.

لم تمضِ من مدةِ خدمتي العسكرية سوى أربعة أشهرٍ حتى نزلَ أمر لم يخطرْ في ذهنِ أحد. حدثَ ذلك في يوم الثامن والعشرين من شباط عام 1977 وهو اليوم الثالث لي في سجنِ الوحدةِ العسكرية بعد أن أصدرَ الآمرُ عليّ عقوبةَ حلقِ الرأسِ بالموسى وبالسجنِ لسبعة أيام حينما ألقي القبض عليّ فجراً وأنا أتسللُ داخلاً المعسكر من تحت السياجِ بعد أن قضيتُ ليلةَ سُكرٍ في بغداد.

كنتُ واقفاً عند بابِ السجنِ ماسكاً القضبان وأتطلعُ إلى حركةِ الجنودِ حينما لمحتُ أياد جواد وقد جاء نحوي مهرولاً. حاولَ الحارسُ أن يمنعه من الاقترابِ إلا أنه تحدثَ معه بتوسلٍ كي يسمح له بنقلِ إلي رسالة الفرح التي وصلتْ إلى المعسكر صباح اليوم والتي لم تخطرْ في ذهنِ أكثر المتفائلين. أقتربَ أياد مني صارخاً وهو يرتعش:

" جاء كتاب تسريحنا. "

لم أصدقْ ما سمعتُ فانقبض قلبي قلقاً. شعرَ أياد بذلك فراحَ يؤكد لي:

" رأيت اسمك من بين الأسماء الذين سيُسرّحون. "

وحينما سألته:

" متى سيتم تسريحنا؟ "

أجاب بيقين:

" اليوم. "

فقلتُ له:

" ولكن أنا في السجن. "

اقتربَ مني هامساً:

" الكتاب صادر من مجلس قيادة الثورة، هذا يعني أنه لا أحد يستطيع إيقافه. "

ثم أضاف:

" إنه أمر عاجل وفوري. "

شعرتُ بقلقٍ وخوف من أنهم سيلغون تسريحي أو ربما سيضعون اسماً آخر بدلاً عني. مرّتِ الدقائقُ ثقيلة وأنا متشبث بالقضبان. توسلتُ بالحارس الذي لم يعرْ توسلي أيّ اهتمام بل إنه لم يصدّقْ ما سمعه على الرغم من أني أعرفُ أنه لا يستطيع فعلَ شيء من أجلي وما هو سوى عبدٍ ولكنْ أمام القضبان لا وراءها، لكنّ القلق الذي كان يغلي في نفسي يدفعني لاستجداءِ نظرةِ تعاطفٍ أو كلمةٍ تطمئنني حتى لو خرجتْ هذه الكلمة من فمِ الجدار. كنتُ ألوّح بجنونٍ لكلّ جندي من زملائي يمر قريباً من غرفةِ السجن وأتوسلُ بهم أن يذكروني عند أيّ مخلوقٍ له سطوة كيلا أنسى في السجن فأخسرُ فرصةَ العمر التي قد لا تأتي غيرها. رأيتْ زملائي متجمعين عند بابِ غرفة (قلم الوحدة) التي تقع أمام غرفة السجن، وكانوا يتحركون بقلقٍ ولهفة. خرجَ عريف وتحدثَ معهم بصوتٍ لم أستطعْ سماعه فانفضّوا راكضين بكلّ الاتجاهات وهم يتصارخون بفرح. عادوا بعد بضع دقائق وهم يرتدون الملابس المدنية ويحملون حقائبهم. وقفوا بنسقٍ عند باب (القلم) وكادتْ تنشبُ معركة بينهم وهم يتدافعون لاحتلالِ الموقعِ الأول في الطابور. كاد جسدي ينهار فتمسكتُ بالقضبان واستبدتْ بي رغبة شديدة في البكاء إلا أني تماسكتُ كيلا أثيرَ سخرية السجناء الذين أبدوا تعاطفاً شديداً معي على الرغم من نظراتِ الحسد خاصة بعد أن تأكد لهم أمر تسريحنا. دخلَ أحدُ زملائي إلى غرفة قلم الوحدة، وبعد أقلّ من دقيقةٍ خرجَ وهو يحمل ظرفاً مغلقاً. رفعَ ذراعه التي تحمل الظرف وراح يضربُ الأرضَ بقدمهِ راقصاً وقد شاركه الآخرون فأثارَ مشهدهم انتباهَ جنودِ المعسكر الذين تجمعوا حولهم، ثم توالى دخولهم وخروجهم وكلّ منهم يحملُ وثيقةَ انعتاقهِ حتى غادرَ الجميع فشعرتُ بالظلامِ قد خيّم على الكونِ تاركاً خفافيشه عالقة في روحي وتمتصّ دمي. لم أعدْ أرى شيئاً فتكومتُ جثةً هامدة عند بابِ السجن وأجهشتُ بالبكاء متجاهلاً عبارات السخرية الجارحة التي كان يطلقها السجناء.

لا أدري كم من الوقت مرّ حينما سمعتُ خشخشةَ المفتاحِ الكبير وهو يلجُ ثقبَ الباب وصوتاً ينادي باسمي. نهضتُ كأني استيقظتُ من موتٍ طويل استعداداً للحظة الحساب التي خمّنتُ بأنّ الجنةَ ستكونُ نتيجتها على الرغم من يقيني بأني منكود الحظ. امتدتْ كفّ عريف الانضباط التي تشبه مجرفةَ المسحاة عرضاً وصلابة، إلى ظلام الغرفة ومسكتْ كتفي بقوة فاستسلمتُ لها كطائرٍ متعب. أخرجتني من غرفةِ السجن سحلاً فانقدتُ لمشيئتها دون أنْ أنطقَ بأيةِ كلمةِ اعتراضٍ أو تمرد. خابَ ظني حينما اجتزنا غرفةَ (قلم الوحدة) متجهينَ صوبَ غرفِ آمر الوحدة وأمراء السرايا. أمرني العريفُ أنْ أقفَ عند باب إحدى الغرف فهززتُ رأسي طائعاً. دخلَ وسمعتُ صوتَ ارتطامِ قدمه بالأرض وهو يصرخ:

" حاضر سيدي. "

خرجَ بعد لحظاتٍ من الغرفة هاجماً عليّ بشراسةٍ دافعاً جسدي المتضعضع إلى داخل الغرفة. رفعَ ساقه بخفّة وأنزلها إلى الأرض بقوةٍ محدثاً دوياً انقبضَ قلبي على أثره ثم خرجَ وأغلقَ البابَ خلفه. رفعتُ نظري فرأيتُ النقيبَ عبد القادر ضابط التوجيه السياسي جالساً على مكتبه يتطلع إليّ بنظراتِ استعلاء وسخرية. صرخ بي:

" استعدْ! "

فتوقفتُ متسمراً في مكاني. تشاغلَ بتقليبِ قصاصاتِ ورقٍ مرمية بإهمال على الطاولة وهو يصفّر لحناً بدوياً كطنينِ ربابةٍ مرخية الوتر. رفعَ رأسه إلي وسألني وقد نوّص عينه اليسرى فظهرَ جانبُ من فكّه العلوي بأسنانٍ صفر ولثّة سوداء:

" أنتَ دريد .. مو؟ "

فأجبتُ بخوف:

" لا، سيدي. "

توقفتُ قليلاً كي أبلعَ ريقي الجاف ثم انطلقَ صوتي خافتاً مردداً كما الببغاء:

" إني الجندي المكلف حميد ..."

" انجبْ ، قشمر! "

صرخَ بي قبل أنْ أكملَ اسمي الثلاثي فتوقفتُ. نهضَ من كرسيه متجهاً نحوي وهو يهزّ هراوته ضارباً بها راحةَ يده. وقفَ قبالتي فطأطأتُ رأسي مركّزاً نظراتي على بوزِ بسطاله اللامع. وضعَ إصبعه تحت حنكي رافعاً رأسي ببطء وحينما التقتْ نظراتنا، أمطرني ببصاقهِ حتى غطّى وجهي ثم انقضّ على رقبتي حتى شعرتُ بأنّ حدقتيّ ستقفزان خارجَ عينيّ غضباً ومن شدة الاختناق. توقفَ قليلاً وعيناه جاحظتان وجسده يرتعشُ من شهوةٍ مجنونة كأنه يغتصبُ جسدي ويفرغ فيّ سمومَ حقدهِ حتى تراختْ قبضته شيئاً فشيئاً مفتعلاً قهقهةً داعرة وهو يحركُ كرشه الذي قسمه النطاقُ إلى قسمين. تطلع إليّ وقد ضيّق عينيه وكزّ على أسنانه غيظاً كأنه يوشكُ على التهامي. أخفضتُ نظري نحو الأرض وركبتاي تصطكان ببعضها. عاد وشدّ بسبابة وإبهام خشنتين أذني وهو ينظر إلي بسخريةٍ ولسانه يحاولُ التقاط طرف شاربهِ الكثّ ثم خاطبني باستعلاء:

" ههْ.. منيوك.. تحاول تغشّم نفسك. "

لم أكنْ أعي ما كان يرمي إليه بكلامه وغضبه حتى أضاف وباللهجة نفسها، ماسكاً بقبضته ياقة قميصي، ضاغطاً بقوة على عنقي:

" شوفْ .. منيوك .. أحنه نعرف كل شي عنكم. "

توقفَ قليلاً ثم أدارَ إليّ ظهره متوجهاً نحو مكتبه. جلس وهو يهزّ هراوته في الهواء منتشياً، ثم رفعَ رأسه وهو يقهقه بعهرٍ. أمالَ رأسه قليلاً وباعوجاجٍ قليل في شفته السفلى راحَ يردد بثقةٍ:

" مو مشكلة.. دريد.. حميد.. خرا.. مو مشكلة.. مو مشكلة.. "

عندها أدركتُ ما يعنيه وشعرتُ بأني سأحصلُ على ورقةِ انعتاقي ولكن ليس كزملائي الآخرين الذين حصلوا على أوراق تسريحهم قبل دقائق، بل سأحصلُ على وثيقة تسريحي من الحياة، حيث أني أدركتُ أنهم فعلا يعرفون عني كل شيء، حتى اسمي الحركي وبشكل لا ينفعُ معه التغافل أو الإنكار. دقائق بطيئة مرّتْ كنتُ انتظرُ بيأسٍ صدورَ قرارِ إعدامي حتى صدرَ الحكمُ على غير ما أتوقع حينما أخرجَ النقيبُ من جرّار مكتبه ظرفاً أسمر كبيراً كُتبَ عليه بخطٍ كبير (دائرة تجنيد الكوت). شعرتُ بدوارٍ لكني تنفستُ بعمقٍ كأني سمعتُ منادياً يصرخُ بإيقافِ تنفيذِ الحكم قبل أنْ يُركلَ كرسيُ الشنق من تحت قدميّ أو قبلَ أنْ تخرجَ الطلقة من ماسورةِ المسدسِ المصوّب على صدغي. رمى النقيبُ الظرفَ بوجهي وهو يصرخ:

" يلا .. ولّي .. كلب ابن الكلب. "

سقطَ الظرفُ على الأرض فتناولته وهممتُ بالخروج دون أنْ أضربَ قدمي بالأرض بوضعيةِ الاستعداد، وقبلَ أنْ أخرجَ من الغرفة صرخ بي:

" قف ْ! "

فتسمرتُ في موضعي ملتفتاً نحوه. عدتُ بارتباكٍ وخوف. رفعتُ قدمي اليمنى كي أقفَ في وضعِ الاستعداد فاصطدمتْ بساقي اليسرى. قهقه منتشياً ثم أضافَ بلهجةِ تهديدٍ وبنظرةٍ واثقة من صرامتها:

" شوفْ .. أنتَ الآن مو متسرح وإنما منتدب للعمل في المؤسسة العامة للطرق والجسور بأمر من مجلس قيادة الثورة. "

" نعم سيدي. "

أجبتُ بفرحٍ فرفعَ يده مشيراً إلي بأن أصغي إليه، فأضاف:

" مو حسبالك انتهت السالفه وخلصت، نقدر انجيبك بأي وقت نريد، هه، وأنت تعرف البقية، ما يخلصك أبو لينين.  "

هززتُ رأسي وقد تلعثمتُ فلم أستطعْ أنْ أنطقَ أية كلمة حيث كنتُ أشعرُ بأنّ لساني قطعة خشبٍ وشفتيّ مخدرتان ومطبقتان كأنهما ملصوقتان بصمغِ لعابي. تطلعَ إلي ثم أشار برأسه وهو يردد باستعلاءٍ وفظاظة:

" يلا.. ولّي! "

ضربتُ الأرض بقوة صارخاً:

" نعم سيدي. "

في طريقي إلى خارج المعسكر توقفتُ عند الجندي الواقفِ عند البوابة في نوبة الحراسة، والذي تقدمَ نحوي بوجهٍ متجهم يفتعلُ السطوة لرؤية الإذن بالخروج.

" الله يساعدك. "

قلتُ ومددتُ له يدي مصافحاً بمودةٍ أثارتْ استغرابه ولم أكنْ أعي الأسبابَ التي دفعتني إلى توديعه بتلك الحرارة، هل كنتُ مشفِقاً عليه؟ أم خائفاً من شيء لا أعرفه؟. رفعَ لي حاجزَ البوابة الخشبي ملوحاً بيده متمنياً لي حياة سعيدة خارجَ جهنم. سرتُ بخطوات تفتعل الثقة كلصّ يحاولُ إزالةَ الشبهة عنه، ثم حثثتُ الخطى على الطريقِ الترابي المتعرجِ حتى لاحَ أمامي الطريقُ الإسفلتي الواصل ما بين مدينة الرمادي وبغداد. توقفتُ. توجهتُ صوبَ المعسكر الذي بدا لي كأنه بقايا كابوس لايزال عالقاً في أهدابي. أنزلتُ حقيبتي على الأرض وأخرجتُ قضيبي. رفعتُه بكلتا كفيّ راسماً في الفضاء دائرةً بوليةً تحيطُ المعسكر كلّه، ثم أطلقتُ ساقيّ للريح.

لم تدمْ فرحتنا بالتسريح سوى بضعةِ أيامٍ حتى علمنا بأننا سنساقُ مرةً أخرى إلى موضعِ الخطر. فعند مراجعتنا للمؤسسةِ العامة للطرق والجسور لتقديمِ أوراقِ تعييننا كمسّاحين منتدبين، أخبرونا بأنّ علينا أن نلتحقَ سريعاً بفرقِ المساحةِ التي تشكلتْ ضمن حملةِ استنفارٍ تقوم بها وزارتا الإسكان والدفاع لشقّ الطرق في المنطقة الشمالية، وأنّ مَنْ يتخلف عن الالتحاق سيُعتبر هارباً وسيخضع لمحاكمة عسكرية. لفتَ نظرنا في كتابِ التعيين الراتب الذي لم نكنْ نحلم به، عدا عن مخصصات الإيفاد والخطورة.

" جاءكم الموت يا تاركي الصلاة. "

علّقَ أحدنا فتطلعنا في وجوه بعضنا بصمت.

وصلنا كركوك في الثالث والعشرين من شهر آذار عام 1977 وكنّا عشرين مسّاحاً منتدباً وخريجي دفعةٍ واحدة، ومنها تمّ توزيعنا بالقرعةِ على مديريات طرق المحافظات الشمالية. كان نصيبي في مديرية طرق أربيل. ودّعنا بعضنا بحرارة متمنين السلامة كأننا راحلون إلى مصيرٍ مجهول.

لم يكن الأمر بهذه الخطورة حيث أنّ الوضعَ السياسي كان يبدو هادئاً، لكن لاتزال هناك عصابات كردية صغيرة تتخذُ من الجبال المنيعة مركزاً لتجمعها وتشنّ هجماتٍ على ربايا الجيش، ولاتزال عبارات تظهرُ في مانشيتات الصحف البعثية تشير إلى (الجيب الكردي العميل) أو (الجناح اليميني) كما تردُ في صحيفة الحزب الشيوعي فيثيرُ هذا الاختلاف في المصطلحين صراعاً كلامياً ملغوماً بين الحزبين المتحالفين فيحتدم النقاش بين الرفاق حول مستقبلِ التحالف الذي يقفُ الآن على كفّ عفريت كما كان يردد بعض المتشائمين، ولم أكنْ أعي الفارقَ بين المصطلحين.

(العصابات)، (العصاة)، (البيشمركه)، (مصطفى البرزاني)، (عيسى سوار)... مفردات ترنّ في أذني فأرى وجهَ ابن خالتي القادم في إجازة من حرب الشمال وهو يروي لنا عن شراسةِ المقاتل الكردي الذي لا يُرى بالعين، وأسمعُ صوتَ ندّابة ريفية تردد:

" طركاعة اللفتْ برزان بيّس بأهل العماره. "

أدركَ سائقُ سيارة اللاندكروزر الكردي، ونحن نتجهُ من أربيل شمالاً نحو قضاء راوندوز التي سيكون مكانَ عملي وإقامتي، قلقي فراحَ يحدثني عن جمالِ طبيعةِ كردستان والسلام والأخوة بين العرب والأكراد مردداً بافتعالٍ واضح أغنيةً قديمة:

" هربجي كرد وعرب رمز النضال. "

وحينما وجدني سارحاً، أتطلعُ إلى جانبي الطريق بتوجسٍ وخوف، ضغط على زرّ المسجل فانطلقت أغنية كردية وارتفعَ صوته المتخشب حتى طغى على صوت المغنية الناعم. تطلعَ إلي فنظرتُ إليه بابتسامةٍ باهتة أدركَ مغزاها فبادرني:

" كاكه لا تخافْ! "

ثم أضافَ بمودةٍ واضحة:

" كاكه والله ماكو شي. "

وفعلاً استطاعَ بمودتهِ أن يزيلَ عن نفسي شيئاً من الخوف، تلاشى تدريجياً وأنا أتطلع بانبهارٍ إلى جمالِ الطبيعة المحتفلة بنوروزها، وراحتِ الجبال الشاهقة تظهر في الأفق الأمامي. عاد إليّ الخوف مرةً أخرى حينما بدأتِ السيارةُ تتسلقُ جبل صلاح الدين بلفّاته العديدة وطريقه الوعر. كنتُ أنظرُ إلى العجلاتِ التي تسيرُ على مبعدة بضعة سنتمترات من حافةِ الهاوية فينقبض قلبي، غير أنّ مهارةَ السائق وثقته بنفسهِ أشعرتني ببعض الاطمئنان حتى دخلنا المدينة ثم انحدرنا إلى الجانب الآخر.

أوقف السائقُ محركَ السيارة عند مقهى صيفي من جذوعِ الأشجار يقع في مركز مدينة شقلاوه. كنتُ مبهوراً وأنا أتطلعُ إلى سواقي المياه التي تجري تحت أقدامنا وأصغي إلى هدير مساقط مياه يأتي من بعيد. لفتَ نظري الهمسُ الذي كان بين السائق وصاحبِ المقهى وهما يشيران إليّ فارتفعَ في نفسي منسوبُ سوءِ الظن واختلطتْ هواجسي لتحيكَ مؤامرة مدبرة ضدي.

" نعم، ما علاقة وزارة الدفاع بحملة شقّ الطرق؟ "

سؤال له أكثر من مبررٍ قفزَ إلى ذهني وكنتُ واثقاً من أنّه ليس مجرد هاجسٍ بل إنه حقيقة، فعلى الرغم من التفاؤل الذي كان الحزبُ الشيوعي يلقننا به ونرددُ مقولاته كببغاواتٍ إلا أني لم أكنْ مصدّقاً عشر ما يقال فلا جبهة وطنية ولا حكم ذاتي إنما فخّ محكم قد نُصبَ وسيكون أولاد الخايبة أول ضحاياه.

" مو حسبالك انتهت السالفه وخلصت، نقدر نجيبك بأي وقت نريد، هه، وأنت تعرف البقية، ما يخلصك أبو لينين. "

راح صوت النقيب عبد القادر يتردد صداه في أذني متقاطعاً مع صوتِ المظاهرة التي انطلقتْ في داخلي وقد رفعتِ الجماهير الغاضبة شاعرها الحكيم (زفر) بصوتهِ الجهوري يوقظ الغافلين من غفوتهم مردداً:

" قد ينبتُ المرعى على دمنِ الثرى     وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هي "

حينما تركنا مدينة شقلاوه وانحدرتْ بنا السيارةُ على الطريق الذي يقسم السهول المترامية على الجانبين، شعرتُ وكأن السائق يقرأ ما يدورُ في ذهني، لذلك حينما وضعَ شريط أغان ريفية لمطرب عراقي، حسبتُ ذلك تمويهاً لما يدورُ في ذهنه فاعترضتُ عليه ورجوته أن يُسمعني أغاني كردية. تطلع إلي باستغرابٍ فرحتُ أؤكد له حبي للغناء الكردي، مردداً عبارة الشكر (زور سباس) بتملقٍ واضح. استجابَ السائق لطلبي وانطلقَ صوته مردداً مع صوتِ المغنية فشاركتُه بالتصفيق فازداد طرباً وحماسة حتى انتهت الأغنية فالتفتَ إليّ وراحَ يطرح عليّ أسئلةً أدركتُ مغزاها:

" من أين أنت؟ "

" هل أنت شيعي أم سني؟ "

" لماذا نقلوك إلى هنا؟ "

حاولتُ أن أجيبَ بشيء من التمويه إلا أنه أدركَ ذلك. تطلعَ إليّ بعمق كأنه يريدُ أن يحققَ أمنيةً بصدقِ حدسهِ فسألني بتردد:

" هل أنت بعثي؟ "

وما أنْ سمعَ إجابتي التي كان يتمناها حتى صفّقَ بكفيهِ منتشياً وارتفعَ صوته بأغنيةٍ لم أستطعْ التقاط منها سوى كلمة (كردستان). شعرتُ بالبهجةِ لفرحهِ فرحتُ أشاركه بالتصفيقِ وترديدِ كلمة (كردستان) بألفةٍ حقيقية زادها انبهاري بطبيعة لم ترها عيني من قبل.

اجتزنا مدينة (حرير) كما قرأتُ اسمها على لوحةٍ صغيرة. توقفتِ السيارة بالقربِ من جبلٍ شاهق ثم اجتازتْ معبراً ضيقاً فأشارَ السائق إلي:

" كلي علي بيك. "

التفتّ إلى جهة اليمين حيث الشلال الذي قرأتُ عنه في كتاب الجغرافية. طلبتُ من السائق أنْ نترجلَ قليلاً لكي أرى الشلالَ عن قرب وأسمعَ هديرَ الماء الساقط بعنف فلبّى طلبي بفرحِ وراح يذكرُ لي أسماءَ الجبالِ المحيطة بنا ويصف لي جغرافية المنطقة التي تقعُ خلف الجبال وكنت أصغي إليه بحبّ ودهشة.

بعد شلال كلي علي بيك بمسافةٍ قصيرة توقفتِ السيارة عند نقطةٍ عسكرية تقع بالقرب من جسرٍ خشبي صغير. اقتربَ من السيارة جندي بوجهٍ ريفي أملح السحنة، يبدو التعب واضحاً في جسده وعينيه. تطلعَ إلى داخل السيارة وأشار إلينا بالوقوف. بعد لحظات تطلعتُ إلى الخلف فوجدتُ رتلاً طويلاً من السيارات يقفُ خلفنا وحينما سألتُ السائق عن سببِ وقوفنا أجابني بأنهم بانتظار قدوم مدرعتين عسكريتين لمرافقةِ الرتل فتوجستُ خيفةً ولكنه طمأنني بأنه إجراء احترازي روتيني.

قبل مغيبِ الشمس بوقتٍ قصير وصلنا مدينةَ راوندوز التي تقع على قمةِ جبل تسلقته السيارة بصعوبة. هناك وفي فندق قديم التقيتُ بفرقةِ المساحة التي سأكون أحدَ أعضائها.

(حرير، شلال كلي علي بيك، ديانا، سواره توكه، كلاو حسن، راوندوز، شلالات بيخال، العين السحرية، جنديان، كروه زيري، كلاله، قصر الملا، جومان،حاج عمران، ....)

أماكن.

ما مررتُ بها مرورَ سائحٍ بطرٍ ولا مرورَ جنرالٍ أشرٍ أو ثوريّ منكسرٍ، بل مررتُ بها مرورَ إنسانٍ بلا صفاتٍ غير فتوّةٍ مقموعةٍ وإنسانيةٍ تحاولُ أن تتفتحَ في اللا أوان فتصطدمُ بألف خريفٍ. بريء يستفحلُ عليهِ ضميرُه فيحاصرُه بالتأنيبِ على ذنبٍ لم يرتكبه، بل لم يجدِ الوقتَ لارتكابه.

أماكنُ.

مررتُ بها مستطلعاً تفاصيلها فقرأتُ في تضاريسها تأريخاً مكتوباً بالدمِ على كلّ حجرٍ وفي كلِّ واد. كلّ صخرةٍ شاهدةُ قبرٍ وعلى كلّ قمةٍ نايٌ معطوب تصفّر فيه الريحُ معزوفةً حزينة. قرى مهجورةٌ نسيتْ مؤذنَ مسجدِها وحيداً يدعو الجبالَ للخشوع فلا تتصدعُ، ومجنوناً يدحرجُ موّالَ حيرتهِ على السفحِ ويصغي للصدى تردده الوهاد.

" هنا، على هذا السفحِ الحاد تماماً حدثَ إنزالُ الدبابات ودارتْ معركة شرسة انهزمَ على أثرها العصاة. "

أشارَ القائدً بعصاه وهو يتطلع بزهو:

" كانت الدباباتُ تنحدرُ على الجانب الثاني من الجبل وقد أعطيتِ الأوامر لسائقيها أن يشدّوا أذرعَ الفرامل إلى الخلف كي تنزلقَ الدبابات ببطء. " 

" لم ينجُ أحد من العصاة. "

" أبدناهم. "

يقول القائدُ مؤكداً وهو يضربُ ساقه بعصاه نافشاً ريشه مثل طاووس.

نصبتُ جهازَ التسوية ورحتُ أقيسُ منسوبَ القمة وارتفاعها عن سطح البحر.

" أين هو البحر؟ "

تساءلتُ ساخراً وفي لاوعي مسّاحٍ ما اعتادَ على قراءةِ تضاريس التأريخ. رحتُ أقيسُ منسوبَ الدمِ الجاري في الوديان.

قال القائدُ:

" إنّ الخطّةَ كانتْ من وضْعِ إسماعيل تايه النعيمي وقد أشرفَ هو بنفسه على تطبيقها."

تطلعتُ في منظار جهاز التسوية فرأيتُ شيئاً متجسداً أمامي ولكني لم أصدّق عينيّ. رأيتُ حقيقةً سابقةً لأوانها. كان ذلك في صيف عام 1977 أي قبلَ أكثر من ثلاثِ سنوات على بدء الحرب العراقية الإيرانية حيث كان إسماعيل تايه النعيمي نفسه والذي أطلقَ عليه منذ الأسبوع الأول لبدء الحرب (أبو الشهيد) يضعُ خطةً لعبورِ نهرِ بهمشير بعد أنْ عبرنا نهرَ الكارون وتمركزنا في الجانب الثاني على مشارف مدينة عبادان. كانتِ الحساباتُ العسكرية تشيرُ إلى أنّ الجيشَ المهاجم سيدفع 95% من حجمِ قواته كخسائرَ في حالِ نجاح الخطة وتمكنه من عبور نهر بهمشير. حينذاك كنتُ أنا ابن الخايبة سائقُ دبابةٍ في القوة التي ستنفذ الهجوم، لولا حدثَ ما لم يكنْ في الحسبان، أمرٌ غيّر الخطة فنجوتُ لكي أكتبَ ما أكتبه الآن. أما أبو الشهيد، إسماعيل تايه النعيمي فذهبَ في ما بعد بشربةِ ماء وأعدمَ متهماً بالتخاذلِ ولم تشفعْ له أوسمته وأنواطُ شجاعته (هكذا كانتْ مشيئة الرئيس).

طييييييييييييييييييييييط.

أضعٌ جهاز الثيودولايت لأرسمَ استقامةَ الطريق وأقيسُ زاويةَ المنحنى. لم أجدْ نقطةً ثابتةً كي أجعلها رأسَ الزاوية. طفلٌ يركضُ .. يركضُ.. ورشقاتُ الرصاصِ ترسمُ دائرةً حوله، طفلٌ من العصاة، من الجيبِ العميل أو من الجناحِ اليميني المعادي للطريق اللارأسمالي للوصول إلى مرحلة الاشتراكية.

طيييييييييييييييييييط

رأسُ طفلةٍ بشعرٍ كثّ لم يمر عليه الماءُ مذ كان زغباً، يرتفعُ قليلاً من فوق جدارٍ طيني. يرتفعُ قليلاً.. قليلاً.. تظهرُ جبهة بلونِ الوحل، عيناها خضراوان أدماهما الرعب. أوجّه ناظورَ جهازِ الثيودولايت نحو العينين الخضراوين فتصرخُ الطفلةُ وتهربُ باكية. أصرخُ خلفها بصوتٍ ينفجرُ كلغمٍ في داخلي:

" لا تخافي.. من هناك سيمر الطريق. "

وأشيرُ إلى السماء.

" ماذا قلت؟ "

سألني صاحبي فأجبتُ بارتباك:

" وهل قلت شيئاً؟ "

هنا قرية لم يعدْ لها من وجود. أحرقتها الطائرات. كانَ أهلُها مهووسين بإشعالِ النيران احتفالاً بعيد النوروز. تلك القرى هُجّر أهلها إلى جنوب البلاد. كانتْ نساؤها جميلات. كنّ يأتين عند الفجرِ يغتسلنَ بماءِ العين. 

" اشششششش، لا توقظ القائد! إنه يحلم. "

صبايا ديانا ببناطيلهنَّ الضيقة التي تشفُّّ عن ألوان كلوتاتهن وحزوزها الواضحة. نهودهنّ يعصين أوامرَ البلوزات الضيقة فيندلقنَ من فتحات الآباط أو يرتفعنَ من شمالِ شهوتهنّ فيقفُ الرائي على مشارفِ وديانٍ ملساءَ تتدلى في أعماقها الصلبانُ فلا تسمعُ غير أنينِ الشهوة المصلوبة. صبايا ديانا يجلسنَ عند العين ضحىً ويتراشقنَ بالماء ويرسمنَ على صدورهن علامةَ الصليب.

أقفُ عند جدارِ بيتٍ طيني. يخرجُ منه رجلٌ بشوارب كثةٍ، يناولني قنينةَ عرقٍ ملفوفة بورقِ جريدة قديمة، أدسّها تحت أبطي وأمضي مترنماً بأغنيةٍ ظمأى يرددها الواقفُ على الشاطئ وحلمٍ لم يخطرْ في عين وجرحٍ لا يجد مرهماً.    

" من هنا مرّتْ قبل سنتين فصائل البيشمركة المنكسرة بلا بنادق ولا أحلام. كانوا مشاةً وقيلَ إن بغالهم انتحرتْ في الوديان. كانوا متجهين إلى إيران تاركين جثثَ قتلاهم إلى جنبِ البغال النافقة، بعد أن تمتِ التسوية بين صدام حسين وشاه إيران. "

قال عجوز وهو يشيرُ إلى نقطةٍ بعيدة في الأفقِ الذي سدّته الجبالُ. تطلعتُ إلى حيث أشارَ فلم أجدْ طريقاً فهززتُ رأسي له مبتسماً بحزن.

في بيخال سائحة شابة لفّتْ بنطالها إلى الأعلى كاشفةً عن ركبتين بضّتين تختزنان الفتنةَ في امتلائهما، وكان قميصها المطرزُ بالفراشاتِ مبتلاً يشفّ عن حلمتين ناريتين وقد فتحتِ الزرين العلويين فظهرَ وادٍ عقيقي بين جبلين لوحتهما الشمس، تنزلقُ عليه قطراتُ الماء أو العرقِ بحركةٍ محسوسةٍ وهدير مكتوم. مرتْ على أطرافِ أصابعها تنتقلُ على الصخورِ المغمورةِ بماء الشلال البارد. سارتْ باتجاهي دون أنْ تنظرَ إلي. زلتْ قدمُها وكادتْ تسقطُ في الماء فتلقفتُها بذراعين متحفزتين. تطلعتْ إليّ وخصرها مستسلمٌ لكفيّ. ضحكتْ بشهوةٍ سكرى ثم انزلقتْ مثل أفعى متجهةً إلى غيضةٍ قريبة. تلك الليلة حلمتُ بأننا نقفُ عاريين تحت الشلال والناس حولنا يتصارخون خوفاً من البركانِ الذي بدأ يرمي حممه من تحتِ أقدامنا.

في قضاءِ جومان اشتريتُ من دكانٍ صغير ساعةً يدوية مهربة. كانتْ أول ساعةٍ تطوق معصمي. وحينما اطمئنَ البائعُ لي أخرجَ بضاعته السرية. اخترتُ منها ما ينفعني وكان مجلةً جنسية، أخفيتها في جوربي تحت البنطلون.

" أيها المسّاحُ ماذا بوسعكَ أن ترى؟، كلّ الشواخصِ لم تتشخصْ وإنْ لاحتْ مرةً على الأفقِ فأنها تلوحُ مثل حكايةٍ مبهمة محوراها الشكّ والنسيان، وعليهما تقعُ نقاطُ إحداثياتِ الزمانِ الذي طُمستْ معالمُه. ضعْ المسطرة على راقمِ الأفق! وقسْ عمقَ الهوّة! ... ولكنْ أنّى لك أن تعرفَ منسوبَ الدمِ المسفوحِ في الوديان؟ "

" أيها المسّاح المستجدّ، ماذا بوسعك أن ترى؟ "

" الأرضُ تهتز وما من نقطةٍ ثابتة. "

" كيف لكَ أن تقيسَ منسوبَ الأرض على مستوى سطحِ السراب؟ "

توقفتْ بقربي سيارةُ جيب عسكرية فتشاغلتُ عنها وأنا أحدقُ في البعيد ملوحاً بذراعيّ إلى العاملِ الذي حملَ الشاخص. اقتربَ مني ملازم ثانٍ شاب بخطواتٍ تفتعلُ العجرفةَ دونَ إتقان. ألقى تحيةً هامسة ثم توقفَ جنبي وهو ينظرُ إلى المدى الذي أنظرُ إليه. وحينما وجدني مشغولاً عنه تنحنحَ بافتعالٍ، ثم سألني دون أنْ ينظرَ إلي:

" من أين يمرُ الطريق؟ "

فأجبته وأنا أتطلعُ في منظارِ جهاز المساحة:

" من الهاوية. "

خمسةُ أشهرٍ مضتْ قضيتها في التعرفِ على تضاريسِ المنطقة وسمعتُ حكاياتِ ناسها وذكرياتهم الحزينة، شربتُ لبنهم وخمرهم ورقصتُ على إيقاعِ دبكاتهم وأصغيتُ لما كانتْ تبثه الحناجرُ المحترقة وهي تردد حزنَ (حيرانها) الذي يفطّر قلبَ جبالٍ تخشعُ لكنها لا تستكين. كان إصغائي وحده كفيلاً للإلفة وكأنه تعزيمٌ لفتحِ أبوابِ القلوب التي تبحثُ عمّن يشاركها المحنة وما أسهلَ لقاءَ الحزانى الذين رضعوا حليبَ الانكسار كأنهم ولدوا أبناءً غير شرعيين للحياة فمنّتْ عليهم بلحظاتٍ للبكاء يقتطعونها في غفلةِ الزمن. تركتُ على الجبال علاماتٍ ودققتُ أوتاداً ستكونُ إشاراتٍ لاتجاهِ الطريق الذي كنتُ واثقاً من أنّ الطغاة أرادوه لمرورِ الليلِ والدباباتِ إلى القمم التي تنذرُ براكينها بالانفجار. وعلى الرغم من سماعنا لأصواتِ إطلاقاتٍ تشقّ صمتَ الليل بين حينٍ وآخر تصحبها حركة غير طبيعية لعجلاتٍ عسكرية مطفئة أنوارها وهي تنقل جنوداً برشاشات مسحوبة الأقسام متحفزين لمهاجمةِ أيّ طيفٍ عابرٍ دون سابق إنذار، إلا أني كنتُ أشعرُ بأمانٍ ومتعةٍ باكتشافي وجهٍ آخر للطبيعة.

مع انتهاء صيف عام 1977 انتهتْ مهمةُ فرقةِ المساحة فعاد أعضاؤها إلى بغداد وتمّ نقلي إلى مديرية طرقِ الموصل ومنها نُسّبتُ للعملِ في مشروعِ طريق زاخو كانماسي. وصلتُ إلى مدينة زاخو ليلاً وقد حسبتُ أنّ الرحلةَ انتهتْ عند آخر نقطةٍ على الحدود العراقية التركية غير أني ما كنت أعرف أنّ أمامي رحلة طويلة وشاقة، ففي صباح اليوم التالي سارتْ بي سيارة شوفرليت متجهة شمالي زاخو في طريقٍ حجري يقع أغلبه محاذياً للهاوية فكنتُ كلما همّت السيارة باجتيازِ مضيقٍ أترجلُ خوفاً حتى تجتازَ منطقةَ الخطر فأسمعُ قهقهةَ السائق ساخراً من جبني.

باطوفه ... باكوفه ... ومدن وقصبات أخرى مررنا بها في طريقنا لكني لم أرَ منها سوى لوحةٍ حديدية تشيرُ إلى الاسم كأنها (مدن لامرئية) أو فخّ منصوب للغافلين ومنكودي الحظ. استغرقتِ الرحلةُ خمسَ ساعات حتى وصلنا إلى منطقة كانماسي والتي كانتْ كغيرها بلا معالم تدلّ على وجودِ مدينة أو قرية بل كلّ ما رأيته مجمعاً لمكائن وسيارات يتوسطه كرفان قديم هو إدارة المشروع ومكانُ مبيتِ المهندس المشرف. يقع المجمّعُ عند أسفلِ سفحِ جبلٍ تقعُ على قمتهِ ربيئة أو معسكر صغير. خُصصتْ لي خيمة وسرير قديم. شعرتُ بوحشةٍ مخيفة بل تمنيتُ لو عدت إلى الخدمة العسكرية، هناك حيث على الأقل يمكن الذهاب إلى مدينةٍ قريبة أو التمتع بإجازة، بل هناك مَنْ يمكن التحدث معه، أما هنا فلا شيء غير الجبالِ المحيطةِ بالمجمّعِ وربايا الجيش المحيطة بنا وعمال متعبين ومدير المشروع المهندس موفق بوجههِ الكالحِ وانفعالاتهِ غير المبررة، يحاولُ أنْ يختلقَ سطوةً يفرضها على العاملين ملتذاً بإصدارِ الأوامر، وقد وجدها في التحالفِ مع الله ضد مخلوقاته البائسة. أصدر أمراً بإقامةِ الصلاة خمس مرات في اليوم. لم يصدّق في بدء الأمر بأنني أرفضُ الانصياعَ إلى أمره الإلهي فدعاني إلى كرفانه مردداً أمامي جملاً جاهزة عن حلاوةِ الإيمان والتقوى، وحينما وجدني غير مصغٍ إليه راح يفتش عن أسباب للخلاف، ولأنه لا يوجد منفى أبعد من كانماسي يرسلني إليه راح يحاولُ أن يتحججَ بضرورةِ الإسراع بالعمل كلما اقتربَ موعدُ إجازتي الشهرية حتى هطلَ الثلجُ غزيراً في بداية شهر تشرين الثاني فسُدتِ الطرقات وأصبح العملُ مستحيلاً في مثل هذا الطقس البارد. توقفَ العمل ففرحَ المهندس موفق على الرغم من أنه بدا متذمراً كي يعطي انطباعاً عن إخلاصهِ في العمل. عاد إلى مركز المديرية في الموصل وعدتُ إلى العمل مؤقتاً ضمن مشروع زاخو ـ باطوفه.

أيام ماصخة تمرّ وكنتُ أعدّها بالدقائق منتظراً قدوم الثالث من آيار موعد تسريحي من الخدمة العسكرية. أقمتُ في فندقٍ بمدينة زاخو يقع قريباً من نادي الموظفين حيث كنتُ أقضي الوقت منذ غروب الشمس حتى منتصف الليل عندها أعود متعتعاً، أتعثرُ بظلي الشاحبِ الذي تعكسه مصابيحُ الشارع. ألتقي في طريقي إلى الفندق بدوريةِ أمن، وقد كنتُ وجهاً معروفاً لديهم ومحطّ أنظارهم لأني أنا العربي الوحيد في المدينة. تتوقفُ السيارة فتتوقفُ نبضات قلبي. يترجلُ أحدهم وهو يعدّلُ وضعَ المسدسِ في حزامه. يوقفني بلطفٍ عارضاً عليّ خدماته بطريقة عنترية:

" قلْ لي عمّنْ يضايقك .. سأمحوه من الوجود. "

أهز رأسي شاكراً له عرضه فيتطلعُ إلي بنظرة تأنيب:

" دير بالك! لا تلتقِ بالأكراد! جاي نشوفك تجلس مع شيوعيين. "

أحاول أن أبدي عدمَ اكتراثٍ بما يقول أو أصطنع البراءة أو البلاهة فيضعُ يده على كتفي مربتاً ثم يستقلّ السيارة وهو يردد:

" دير بالك! نبهتك، ها، تره احنه حريصين عليك. "

رافعاً سبابته بإشارة تهديد.  

أرمي جسدي على السرير بملابسي التي تمرّ أيام طويلة قبل أن أغيّرها وغالباً ما أرمي ملابسي الداخلية في أول مزبلةٍ أصادفها بعد خروجي من الحمام العمومي. أشعرُ بنشوةِ دوران الجدران حولي قبل أن أستسلمَ للنوم. هكذا يمر يومي ...

نشأتْ لي علاقات حميمة بدأت منذ الأيام الأولى لترددي على نادي الموظفين في زاخو وكنتُ خلالها أتصرفُ بحذرٍ شديد مموهاً ما يدورُ في ذهني بآراء محايدة متذكراً كلام النقيب عبد القادر:

" ... نقدر نجيبك بأي وقت نريد ... "

لكنّ للسكارى حدْساً لا يُخطئ فقد كانتْ حلقةُ الشرب تبدأ من عددٍ قليل من العاملين في المشروعِ لتتسع في آخر الليل فتشمل أناساً مختلفي الأمزجة والسلوك من بينهم السياسي والمقاتل المتقاعد والسكير واللوطي لكنّ الجميعَ يلتفّ حول مركزٍ واحد وهو رفضهم لسياسة السلطة ويتفقون على أنّ التحالفَ ما بين الأحزاب ما هو إلا لعبة خبيثة وفخ نصبته السلطة للإيقاع بمعارضيها وما هذا الهدوء إلا هدوء ما قبل العاصفة. شكّلتْ هذه العلاقات لي جدارَ حمايةٍ كنت ألتجئ إليه من توجسي وشعوري بالغربة ولم أكنْ أعرف حينها أنّ هذه العلاقات ستكون يوماً سبباً لنجاتي في ما سيأتي.

في منتصف شهر آذار عام 1978 عادَ العمل في مشروع كانماسي. خمسة وأربعون يوماً كانت تفصلني عن موعد تسريحي من الخدمةِ الإلزامية وكنتُ أحاول أنْ أنسى بالعملِ مرورَ الوقت الثقيل كيلا أزيدَ بقلقي ثقلَ مرور الوقت متحاشياً أي احتكاك بيني وبين مديرِ المشروع متجرعاً غطرسته المرة منفذاً كلّ ما يطلبه مني بنشاطٍ مفتعلٍ. خمسة وأربعون يوماً وسينتهي الهاجسُ الذي كان يؤرقني، عندئذٍ سأمحو من ذاكرتي وجهَ النقيب عبد القادر وتهديداته الرعناء.

كانت الشمسُ توشكُ على المغيبِ حينما طلبَ مني المهندس موفق أنْ أرافقه لاستطلاعِ منطقةٍ تقع إلى الشمالِ الشرقي من كانماسي لكي أباشرَ بمسحها ووضعِ نقاطِ الطريق المزمع فتحه. استقلّ سيارته بصحبةِ مهندس ميكانيكي مصري وتبعتهما بسيارةٍ أخرى مع عاملين كرديين. توقفنا على مشارفِ سهلٍ مفتوح ينتهي بمضيقٍ مبهم وقد انتشرَ لحمايتنا عدد من الجنود حولنا على السفوح القريبة وفي الوادي وبنادقهم مشرعة بكلّ الاتجاهات. بدأتُ بنصبِ جهازِ المساحة باتجاهِ الطريق المفترض، ولم تكدْ تمر بضعُ دقائق حتى انهالَ علينا الرصاصُ من كلّ الجهات. كنتُ أرى سقوطَ الإطلاقات على الأرضِ قبل سماعِ أزيزها الذي تداخل بالصدى المرتطم بالجبالِ فشعرتُ وكأن جحفلاً عسكرياً قد أحاط بنا. تركتُ الجهاز واختبأتُ خلف صخرةٍ كبيرة عند نهايةِ السفح. كنتُ أرتعشُ من الخوفِ، وهذا كلّ ما أتذكره من وصفٍ لحالتي فقد يكذبُ من يدّعي بأنه قادر على وصفِ مشاعره تلك اللحظات حيث أنّ المرءَ يدخلُ غيبوبةً خارجَ الزمن، فالزمن يتوقفُ وتصبحُ حركةُ الإنسانِ حركةً غريزية بغيابٍ كاملٍ للعقلِ والمشاعر. كنتُ أنظرُ من خلف الصخرةِ وأنتظرُ أنْ استيقظَ من الكابوس الذي أنا فيه أو أفيق من تأثيرِ البنج بعد عملية جراحية. من وراء الصخرةِ كنتُ أرى أجسادَ الجنود تتهاوى مضرجةً بدمائها قبل أن يطلقَ أحدهم رصاصةً واحدة حيث أنهم اخذوا على غفلةٍ فتسمروا في أماكنهم من هولِ المفاجأة. أغمضتُ عينيّ محيطاً رأسي بذراعيّ المرتعشتين منتظراً الطلقةَ التي ستأتيني من الخلف وتخترقُ رأسي، حتى حلّ صمتٌ غريب كأنه ينذرُ بوصول السيد الموت أو ربما قد وصلَ إليّ ولم أشعرْ وها أنا أقف في الضفة الثانية خاصة وأنني لم أعدْ أشعر بأنّ لي جسداً. سمعتُ أصواتاً قادمة، أصواتَ ارتطامِ الشراويل العريضة بالأشواكِ والصخورِ وحركة أقدامٍ تهبطُ على السفحِ الذي أسندتُ إليه ظهري محتمياً بالفجوةِ الصغيرةِ التي تفصله عن الصخرةِ والتي لا أدري كيف استطعتُ أنْ أحشرَ جسدي بينهما. الأقدامُ تقتربُ مني. أخرجتُ رأسي قليلاً من بين ساقيّ فرأيتُ جثةَ جندي لم يبلغ العشرين من عمره، بعمري تماماً بل يكاد يشبهني. كانتْ تتمرغ على الأرضِ قريباً من الصخرةِ التي أختبئُ خلفها ببضعةِ أقدام. رأيتُ موضعَ إصابته وكانتْ تحت كتفه اليسرى تماماً فأحدثتْ في ظهرهِ ثقباً واسعاً راحَ الدمُ يشخبُ منه. أقدام تقتربُ من الجسدِ المنكفئ على وجهه بهيئةِ جنين يبحثُ الأرضَ كأنه يريد الخروجَ من الرحمِ أو يبحثُ عن ثقبٍ في الأرض كي يختبئ فيه. رجلٌ بزيّ كردي هبطَ من السفح وقد وضعَ بندقيته على كتفهِ. ركله بقدمهِ فانقلبَ الجندي على ظهرهِ ملطخَ الصدرِ بدماءٍ ساخنة يتطاير منها بخار أحمر. رفعَ الجندي يديه متوسلاً، مردداً بصعوبة كلماتٍ كانت تخرج متقطعةً من صدرهِ كحشرجاتٍ:

" دخيل العباس. "

وضعَ المقاتلُ الكردي قدمه على عنقِ الجندي فامتدتْ يدُ الأخير ماسكةً القدمَ محاولاً تقبيلها فسحبها بقوةٍ ثم أفرغَ صليةً في رأسهِ وهو يتمتمُ بكلامٍ لم أفهمه. انتفضَ الجسد كلّه وارتفعَ عن الأرض ثم سقطَ خامداً مُحدثاً دوياً مرعباً والدمُ ينفرُ من جبهتهِ ويسيلُ من شدقيهِ ببطءٍ على صفحةِ خدّه المتربة. أمالَ رأسه باتجاهي بعينين جاحظتين تتوسلان المجهول. تناولَ الكردي البندقيةَ المرميةَ على الأرض وشاجورَ الرصاص الإضافي من جعبة الجندي ثم أزاحه بقدمهِ عن الطريق حتى تدهدرَ في الوادي دون صرخةٍ أو موسيقى تصويرية تصاحبُ المشهد. تقدمَ الكردي نحوي ببطء فرفعتُ ذراعي إلى الأعلى ونهضتُ مرتعشاً. لوى ذراعي بقوةٍ فاستسلمتُ دون مقاومة ثم رُبطتْ ذراعي إلى الخلف بخرقةٍ أو حبل لا أتذكر. انتشرَ عدد من القتلةِ حولنا وكنتُ أرى كلّ واحدٍ منهم وقد تحولَ إلى عددٍ من الأجسادِ تنفصلُ عن الجسدِ الواحد وتصطفّ حتى تسدَّ الفضاء. تقدمَ أحدهم مني وقد حسبتُه قائدَ المجموعة. تطلعَ إليّ فطأطأتُ رأسي إلى الأرض. مدّ يده تحت حنكي رفعاً رأسي بطريقةِ النقيب عبد القادر نفسها ثم راحَ يرددُ هازاً رأسه:

" لا تخفْ، لا تخفْ! "

تقدمتُ بضعَ خطوات. كانتْ ساقاي مخدرتين وقدماي لا تشعران بالأرض كأنهما تخطوان في الفراغ. وفي منعطفٍ قريبٍ وجدتُ أمامي المهندسَ موفق والمهندس المصري صلاح وهما مكبّلان، وعلى الأرضِ تكدستْ جثثُ الجنودِ مرمية على بعضها. كان الظلامُ قد حلّ تماماً حينما سرنا متجهين نحو المجهول.

ظلامٌ وصمتٌ ورياحٌ باردةٌ تمنحُ الخائفَ حجةً للارتجاف. كنتُ أسمعُ توسلاتِ المهندس موفق، وكانوا كلما ازدادتْ توسلاته إلحاحاً انهالوا عليه بالضربِ وقد علمتُ في ما بعد أنّ سببَ قسوتهم عليه وحده كان بسببِ كونه يسقطُ في الفخ للمرةِ الثانية وقد حذروه في المرة الأولى من الاستمرارِ في المشروع، وعلمتُ أيضاً أنّه من عائلةٍ موصلية ثرية جداً وقد طلبَ المختطفون مبلغَ مليون دينار للإفراج عنه وقد تكفلتْ عائلته بذلك غير أنّ الحكومة العراقية رفضتِ الاستجابة للطلب.

أما أنا فكان سؤالٌ واحد يتردد في ذهني: " ما شأني أنا بكلّ هذا؟ ". إنسانٌ جاء إلى الحياةِ          سهواً، أو كما كان أبي يردد دائماً " حميد جاء عن طريق الغلط " ، لِمَ إذاً كل شيء يحاصرني؟ لماذا يترقبني الحزنُ كقناص، وما أنْ أخرج رأسي حتى يبعثَ لي رصاصةَ نقمته ملتذاً بخوفي؟ ولِمَ الكلّ يريد أن يجربَ سطوته برأسي؟ يا بؤسَ السطوة حين تُجربُ برأس طفلٍ أعزل مثلي!.

أحيانا يشعرُ لاعبُ طاولةِ النرد الخاسر بأن قوةً غريبة تقلّب هذين الزهرين وألا ما معنى هذه المشاكسة طالما أنهما يلعبان بنفس هذين المكعبين ولا تفرق رمية عن أخرى، فلِمَ يستجيبان بشكلٍ مذهلٍ لما يرغب فيه اللاعبُ الآخر في الوقت نفسه يكون (اليك دو) دائماً نصيبَ الخاسر، وحتى لو جاء (الدوشش) أو (الدوبيش) فأنه يأتي في غير أوانه؟ لماذا؟ الصدفة؟ الضرورة؟ الحظ؟ ..... الله؟

" سبحانكَ ... لِمَ اخترتني دون سواي؟ لِمَ اخترتَ وأنتَ الجبار القادر على كلّ شيء العبدَ الضعيفَ كي تختبرَ مشيئتكَ التي لا اعتراضَ عليها؟ "

" ولو بقيتْ عليه سبحانه وتعالى لهانَ الأمر ولكنْ ما بال العبد الفقير يهفو ليختبرَ مشيئته برأسي؟ "

قضينا الليلةَ في شكفتة (مغارة) منبطحين على وجوهنا وأيادينا موثقة إلى الخلف. كان المهندسُ المصري يتمتمُ بكلماتٍ لم أستطع فهم أغلبها، بل لم تكن كلماته ودعاؤه يعني لي شيئاً. لم أصدّق الحالة التي أنا فيها. كان شعوري باللاأبالية والعبث أكبرَ بكثير من شعوري بالخوف، ورغبتي في اللاشيء أكبر من رغبتي في الحياة، هل كان ذلك شجاعةً؟ أم بلادة؟ أم حالة اللاشعور؟

[ مرةً قال لي صاحبي إن سرّ شجاعةِ المراهقِ واندفاعه ومجازفاته لا يكمنُ في قوةِ جسده وفتوته بل في التهور وعدم إدراك قيمة الحياة. ثم أضافَ بيقين بأنّ للكبتِ الجنسي دوراً كبيراً في ذلك ].

لا أدري لمَ تمّ اختياري أن أكونَ الأول في التحقيق. جلستُ راكعاً ويداي موثقتان إلى الخلف بينما جلسَ أمامي رجل شارفَ على الأربعين من عمرهِ بملامحَ محايدة وإنْ بدا جاداً وعبوساً بعينيه الصغيرتين وجبهته التي لا يزيد عرضها عن عرض إصبعين. كان يتحدث العربية بلهجةٍ سوريّة. سألني عن عمري وعن المدينة التي جئتُ منها وعن سبب اختياري العمل هنا، وقد توقفَ طويلاً عند هذا السؤال متهماً إياي بأني من العرب الذين جاءوا في حملةِ التعريبِ التي بدأها النظام بإقامة حي سكني في مدينة زاخو للموظفين العرب الذين اختاروا الإقامة في المنطقة الشمالية مقابل مكافآتٍ مادية وراتب مغرٍ. حاولتُ النطقَ إلا أن لساني كان ثقيلاً ولعابي صمغاً تلتصقُ به شفتاي فلم أكنْ قادراً على فتحهما. اقتربَ أحد المقاتلين مني ووضعَ في فمي فمَ الزمزمية فاندفع الماءُ إلى جوفي حتى فاضَ على رقبتي فشعرتُ بنشوةٍ غريبة فندتْ عني دون إرادةٍ زفرةٌ أعادتِ اليباس إلى حلقي. رفعتُ رأسي نحوه وبصعوبةٍ أطلقتُ كلمة (سباس) فجاءتْ كانفجارِ بالونة في فمي. تطلعَ إلي مبتسماً فتشجعتُ، وبتملقِ الخائف رحتُ أردد دون أن أستطيع إيقاف شفتيّ اللتين راحتا تتحركان وحدهما:

" زور سباس .. كاكه .. زور سباس. "

لاحتْ على وجه المحقق علاماتُ شفقةٍ أو امتعاضٍ أو تشفٍ أو.. لا أدري. نفيتُ الاتهامَ الموجه إلي مؤكداً بأنّ سببَ نقلي إلى هنا لكوني غير منتمٍ إلى حزب البعث. وبالرغم من أنه بدا لي غير مصدق لما أقول إلا أنه أشار إلى رفيق له كان واقفاً خلفي بأن يحلّ وثاقي وقد طمأنني بأنهم سيطلقون سراحي إذا تأكدوا من صحةِ أقوالي. ويا رحمة الخالق حينما يجبرُ بعد الكسر أو ربما هي جزء من لعبتهِ العبثية بإطالةِ فترة تكويكي لكي أبقى أتحركُ في هذه الدائرة حتى تستنفدَ البطاريةُ كاملَ شحنتها أو ربما هي حالة تأنيبٍ يشعرُ بها الخالق عطفاً على مخلوق أتفه بكثيرٍ من أنْ يختبرَ به مشيئته، وربما من محاسنِ الصدفة وهي تستدركُ حماقةَ فعلتها، وهكذا يكتشفُ الإنسان المتورط أنّ هناك أموراً أغفلتها الصدفة عمداً أو ربما عبثاً جعلت الأمر أقلَّ سوءاً، فماذا لو لم أنسَ ذلك اليوم دفترَ خدمتي العسكرية؟ وهو الوثيقة الوحيدة التي كنتُ أحملها في جيبي، عندها سيكتشفُ القتلة بأنني جندي منتدب للخدمة كمسّاح في مديرية الطرق ولكان مصيري كمصير الجنود الخمسة عشر الذين بقيتْ جثثهم مرميةً وعيونهم شاخصة تحدق إلى وجهِ السماء.

كان المهندسُ موفق والمهندس صلاح يقضيان معظم وقتهما بالصلاة أما أنا فكنتُ أقضي النهار جالساً أرسمُ على الأرض دوائرَ مبهمة وأمحوها، وفي الليل أفتعلُ النوم كي أتحاشى الدخول مع المهندس موفق في نقاشٍ حول الله والدين. فكرتُ بأنْ أرضيه أو أتملقَ الله بأن أدّعي الورعَ والتقوى وأنهض للصلاة ولكني امتنعتُ لأني أدركُ أنّ صلاتي ستدخلني معه في نقاشٍ آخر وربما سوف يحقد علي أكثر مما لو أبقى مصرّاً على إلحادي، بل ربما سيحرّض المختطفين ضدي مستغلاً ما يربطه بهم ويفرّقني عنهم خاصة وقد رأيتُ بعضهم وهو يقيم الصلاة ويتودد إلى المهندس موفق قبل وبعد الصلاة بدقائق. 

في الليلة الرابعة جاءني مقاتل. قرّبَ ضوءَ المصباح اليدوي من وجهي ثم نقرَ على كتفي بإصبعه وأشار لي بأنْ أصطحبه. نهضتُ متثاقلاً وبحالة لم أستطعْ وصفها فقد كنتُ يائساً من رحمةٍ تنزل من قاتلٍ أو رب لاهٍ أو مصادفة عمياء. لم يوثق ذراعيّ كالعادة بل سار أمامي على بعد خطوات دون أن يلتفتَ إلي فشعرتُ بشيء من الاطمئنان. دخلتُ كهفَ القائدِ الذي استقبلني بابتسامةٍ واضحة. أجلسني جنبه على بطانية عسكرية قديمة ثم أحاط كتفي بذراعه واضعاً كفه الأخرى على فخذي غارزاً أصابعها في عظمي فتوجستُ خيفةً من نوع آخر. أخبرني بأنهم تحققوا من صحةِ أقوالي ولكي يعطي مؤشراً على دقّة كلامه راح يسرد لي أحداثاً ليستْ ذات أهمية جرتْ بيني وبين بعض العمال في المشروع، آراء وأحاديث تفوهتُ بها في حلقاتِ السكر التي كانت تجمعني برفاقٍ لهم في نادي الموظفين بزاخو. لم أكنْ أعرفُ أهميتها الكبيرة بالنسبة لشخصية الكردي الباحثِ عن اعترافٍ بهويته. شدّ القائد قبضته ماسكاً رمانة كتفي بقوة مركزاً عينيه بعينيّ كي يعرفَ ردة فعلي لما سيخبرني به. قال بلهجته الشامية وبودٍ حسبته اعتذاراً:

" سنطلق سراحك فجراً. "

تشنجتْ عضلات وجهي وتخشبَ لساني. أدركَ ذلك فراح يربتُ على كتفي مردداً:

" سيوصلك رفيقان إلى الطريق الذي يوصلك إلى الكمب. "

حاولتُ أن أنطقَ كلمةَ الشكر باللغة الكردية إلا أنها توقفتْ في جوف فمي فأجهشتُ في البكاء. تطلعَ إلي بثقةٍ ثم أغمضَ عينيه قليلاً هازاً رأسه بأسفٍ لما كنتُ قد عانيته. ناولني زمزمية الماء فارتشفتُ منها قليلاً وأعدتها إليه حتى هدأتْ أنفاسي. تحدثَ بصرامةٍ وثقة عن المخاطر التي ستلحقُ بالثورة الكردية جراء ما نقوم به من فتحِ شبكاتِ الطرق التي ستسهل حركةَ الدوريات والدبابات العسكرية للقضاء على ما تبقى من الحركة. افتعلتُ الجدّ والدهشة وأنا أصغي إلى كلامه هازاً رأسي علامة على اتفاقي مع ما يقوله، بل تجرأتُ وسألته بتردد عن الحزبِ الذي يقودُ هذه الحركة فلم يعرْ سؤالي اهتماماً فعدتُ إلى إصغائي متلبساً دورَ التلميذ الغافلِ الذي يحاولُ استيعابَ الدرس بفضولٍ وإعجابٍ بالمعلم. رددَ عبارة (القيادة العامة) مرات عدة، وهذا كل ما عرفته عن حركتهم.

تطلعَ إليّ مبتسماً وقد عادَ يشدّ رمانة كتفي بقبضتة القوية، ثم سألني:

" هل لك أن تقدم لنا خدمة وسنكون لك ممنونين؟ "

نطّ طفلُ الفرح في داخلي وأجبتُ بسرعة:

" نعم. "

وقبلَ أنْ يتكلمَ قلتُ وأنا أتطلع إليه بثقةٍ:

" يسعدني ذلك. "

لم يخبرني بالمهمة التي سيكلفني بها وهذا ما زاد قلقي وازداد كلامه غموضاً حينما قال لي بأن الرفيقين اللذين سيوصلانني عند الفجر سيخبرانني بها.

مرّت أولى ساعات الليل وأنا بين فرحِ الانعتاق وغموضِ المهمة التي سأقوم بها، وفي ساعة لا أعرفها خرجتُ بصحبةِ رفيقين ملثمين وسرنا دون أنْ ينطقَ أيّ منهما كلمةً عن المهمة التي سأكلفُ بها حتى حسبتُ الأمر لم يكن سوى اختبارٍ فحمدتُ الله على أني نجحتُ فيه. بعد مسيرٍ خارج الزمن توقفنا عند مضيقٍ يفصلُ بين تلّين أو شطري جبل. أخرج أحدهما من خرجهِ رزمتي ورق مطويتين بإهمالٍ وطلبَ مني أن أسلّم إحداهما إلى إدارةِ المشروعِ والأخرى إلى الربيئة التي تقعُ أعلى الجبل الذي يقع الكمب عند سفحه. أبديتُ استعداداً لتنفيذ المهمة بل بالغتُ في الطاعة. أشار أحدهما إلى اتجاه الطريق الذي ينبغي أنْ أسلكه للوصولِ إلى الطريق المؤدي إلى الكمب وقد بدأتْ أنوار الفجر الأولى تظهر فرأيتُ بدايةَ الطريق بوضوح. مدّ لي أحدهما أطراف أصابعه مودعاً واختفيا من المكان. هبطتُ بحذرٍ سفحاً صغيراً. انزلقتْ قدمي على صخرة ناتئة وسقطتُ إلا أني نهضتُ برغم الألم الذي شعرتُ به. سرتُ ببطء متحسباً بأن عيوناً ترقبني. ظهرَ لي طريقُ مشاة موازياً للماء الجاري في الوادي. اتخذته وسرتُ متجهاً إلى جهةِ اليمين. حركة حيوانات أو زواحف بين الأشجار وحفيف أوراق، إضافة إلى ما يسمعه الخائفُ من أصواتٍ غريبة كانتْ تدفعني إلى الإسراع في المشي بل الهرولة. فكرتُ بأنْ أتخلص من الأوراق إلا أني عدلتُ عن الفكرة حيث كان لي شعور غامض وهو أني عائد إلى أهلي وسألقى احتفاء بعودتي وربما هناك من يراقبني.

وصلتُ بأنفاسي الأخيرة إلى الكمب الذي كان يبدو مهجوراً حيث لم أرَ سوى الحارس وبعض من عمال الصيانة والمكائن المتوقفة. وقفتُ في منتصف الساحة أتطلعُ حولي بحثاً عمّن يرحبُ بي بكلمةٍ تشعرني بأن الإنسانية لاتزال على قيد الحياة. ركلتُ بحركةٍ عبثية علبةَ صفيحٍ فارغة فتدحرجتْ مقرقعة دون أن تحدثَ أية التفاتةٍ من أحد. دخلتُ خيمتي فرأيتُ طبقةً كثيفة من الغبار قد غطتْ سريري. أخرجتُ من تحت السرير حقيبتي وبعجالة فتحتها. فتحتُ بأسناني علبةَ السجائر. شعرتُ بدوارٍ ومتعة مع أول زفيرٍ دخاني أنفثه كأني أنفثُ حسراتِ العمر. توقفتُ عند بابِ الخيمة أستجلي الأمر. اقتربَ مني عامل بحذرٍ ثم تلاه آخر وبعدها وجدتُ نفسي محاطاً بعدد من العمال خرجوا من خيامهم وتجمعوا وهم ينظرون إلي بدهشةٍ غير مصدقين وجودي بينهم. لمحتُ من بينهم العاملين الكرديين اللذين كانا معي تلك الليلة. أقتربَ أحدهما مني وعانقني بفرحٍ. لم أستطعْ أن أنطقَ بكلمةٍ واحدة. جلستُ على الأرض واضعاً رأسي بين كفيّ فجلسوا حولي وهم يتطلعون إلي بشفقةٍ. كابدتُ لكيلا أفقد السيطرة على أعصابي وأجهش بالبكاء ونجحتُ بذلك مكتفياً بخطّين من الدمع حسبوها دموع الفرح. علمتُ منهم بأن العملَ متوقف بأمرٍ من المدير العام للطرق الشمالية الذي وصلَ إلى هنا بعد غيابنا بيومين وهم الآن بانتظار قرارٍ من مديرية طرق الموصل لسحبِ المكائن والعمال. بعد مرور ما يقارب نصفَ الساعة هبطَ من الربيئة جندي. اتجه نحوي ثم أخبرني:

" الآمر يريدك! "

استقبلني عند باب غرفةٍ طينية ضابط برتبة رائد. حاولَ أن يكون ودوداً معي وهو يحتضنني بأبوةٍ مفتعلة. أجلسني جنبه على سريرٍ حديدي وطلبَ فطوراً من البيض المسلوق والشاي الساخن تناولناه معاً وقد بدأ أسئلته مصغياً إلي باهتمامٍ وتعاطف واضحين. رويتُ له بالتفصيل كلّ الذي جرى معي بدقةٍ وأمانة ثم سلمتُه رزمتي المنشورات فراحَ يقرأها باهتمامٍ مشيراً إليّ بيده نحو الباب. نهضتُ كي أخرج إلا أنه أوقفني كأنه تذكر أمراً:

" ربما سنطلبك للتحقيق في مقر الفرقة. "

شعرتُ بقلقٍ ودوار وترقب، لا أعرف ماذا سأفعلُ وكم سأقضي من الوقتِ حتى تنتهي هذه الإجراءات وكيف سأخرجُ سالماً من هذه الورطة. قضيتُ الليل في خيمتي وكاد يقضي علي. أصغي بخوفٍ إلى حركةِ الحشرات أو حفيف أوراق تقترب من الخيمة فأحسبها خطوات قاتلٍ تقترب مني. لم أستطع النوم حيث كلما غفوتُ انهالتْ عليّ الكوابيس. عصاة، جنود قتلى، نوافير دمٍ، عيون تتوسل الرحمة من قاتلٍ لا ترتعش يداه أمام انخذالِ ابن آدم ولا يعرفُ ماذا تعني عبارة (دخيل العباس)، عيون جاحظةٍ تنظرُ إلى نقطةٍ بعيدة في المدى المجهول، فوهة بندقية تلامسُ مؤخرة رأسي، أسمعُ صوت الرصاصة وهي تخرج من المخزن، أسمعُ حركتها وهي تنتقل في الماسورة، أسمعُ أزيزها وهي تخترقُ جمجمتي فأرى مخي وقد تناثر في الهواء فاستيقظ مرعوباً.

في صباحِ اليوم التالي وبينما كنتُ جالساً عند باب الخيمة انتظرُ أمراً ما، وصلَ إلى الكمب مراقبُ عملٍ قادماً من المديرية للإشراف على موضوع انسحاب المعدات والعمال إلى مدينة زاخو. توجه إليّ مصافحاً ومهنئاً على سلامتي ثم أخبرني بأن عليّ أن أعودَ الآن إلى الموصل لمقابلةِ السيد المدير وأشار إلى سيارة الشوفرليت التي جاء بها وقبل أن أتوجه إلى السيارة ذكّرني بأن آخذ حاجياتي معي:

" قد لا تعود إلى هنا مرة أخرى. "

" أي مجنون سيعود إلى هنا مرة أخرى!؟ "

رددتُ مع نفسي وقد كنتُ واثقاً من ذلك حيث لم يبقَ سوى ثلاثة عشرَ يوماً لانتهاء خدمتي العسكرية. حينما انطلقت بي السيارة كنت أرى الجبال وقد أحاطتها غيومٌ سود فبدتْ أمامي قطعةً من ظلامٍ تخفي وراءها أشباحاً ومزاغلَ وكهوفاً، وكنتُ أشعرُ بالقرفِ من كلّ حجارة فيها، الأشجارُ شواخصُ مبهمة وخلف كلّ شجرة يقفُ قاتلٌ ينصبُ كمينه منتظراً وصولي. طلبتُ من السائق أن يزيدَ من السرعة ولكني ندمتُ على طلبي فقد كان أغلب الطريق موازياً للهاوية ولا يبعد إطار السيارة عن الحافة سوى بضعة سنتيمترات، وكان هاجسُ الموت مسيطراً علي، ويقيني المطلق بأنني إنسان منكود الحظ جعلني أشعر بأنّ على الطريقِ تكمنُ الصدفة أو الحظ وربما الله أو الشيطان، كلهم تحالفوا كي ينكّلوا بهذا المخلوق الناتئ على صفحةِ الحياة الملساء، المخلوق الذي لا مبررَ لوجودهِ أو كما كان يردد أبي " جاء عن طريق الغلط ". حاولَ السائقُ أنْ يستفسرَ مني عمّا حدثَ أو يغريني بالكلام برسمِ لي صورة الرجل المهم الذي انقلبتِ الدنيا حينما سمعتْ بنبأ اختطافه، غير أني أشحتُ بوجهي عنه نحو النافذة مسنداً جبهتي على زجاجها. ارتسمتْ أمامي صورةُ جثثِ الجنود المكدسة على بعضها والأذرع المدلاة والرقاب الملتوية والعيون الشاخصة ببلاهةٍ نحو المجهول، حركة الدم البطيئة على خدّ الجندي نحو الأرض.

" لماذا حرصَ القتلةُ على جمعِ جثثِ قتلاهم وتكديسها على بعضها على الرغم من ضيقِ الوقت؟"

" هل هذا المشهد يُشبع نزوةَ القاتلِ الدموية؟ "

" هل قال لرفاقه حينما عاد منتصراً وهو يلفّ سيجارته ويلحسُ ورقها أو ينظف مخزن الطلقات من الدماء التي علقت به: لقد تركنا جثث الأعداء تلالاً؟ "

" هل روى لزوجته وأطفاله وهو يمسّد شاربيه الكثين كيف أفرغَ صليةً في رأسِ العربي الذي راح يقبل حذاءه ويتوسل ذليلاً؟ "

" لا. "

ندّتْ مني صرخة (أو هكذا حسبتُ) فانتبهَ السائقُ ضاغطاً فراملَ الوقوف فجأة فتوقفت السيارة. تطلعَ إليّ فابتسمتُ بخجل. أدرك مغزى ابتسامتي فوضعَ كفه على كتفي ثم أشعل سيجارتين، ناولني واحدة وهو يردد:

" الله يساعدك.. الله كريم.. "

سادَ صمت بيننا حاولَ السائق أن يكسره بحديثٍ مفتعل عن الطبيعة والأشجار ومخاطر الطريق وحينما لم يجدْ مني استعداداً للمشاركة ركّز أنظاره على الطريق محركاً بين فترة وأخرى مؤشر الراديو على المحطات الإذاعية فيرتفعُ صوتُ وشوشةٍ وأزيز رصاص فيغلقه شاتماً اليوم الأسود ثم سرعان ما ينسى غضبه مردداً صفيراً للحنِ غريب.

" انظرْ! "

أوقفَ السيارة فجأةً وهو يشيرُ إلى أعلى السفحِ المحاذي للطريق على جهة اليسار. تطلعتُ إلى حيث أشار فرأيتُ أربعةَ جنود، أحدهم يسحب بغلاً وآخر يسير إلى الخلف بينما الثالث والرابع كانا يسيران إلى جانبي البغل. كانوا يهبطون السفحَ بحذرٍ وبنادقهم تتدلى على صدورهم. لم أرَ شيئاً غريباً فتطلعتُ إلى السائق مستفسراً عن سرّ توقفهِ فأشارَ إلى البغل. ركّزتُ نظري فرأيت جثتي رجلين بملابس كردية يتدلى رأساهما على الجانبين وقد غطى شعرهما دم متخثر. انقبضَ قلبي وشعرتُ بالاختناق. طلبتُ من السائق أن ينطلقَ إلا أنه لم يعرْ طلبي بالاً حتى هبطوا من السفح وساروا على الطريق الحجري أمامنا. تحركت السيارة ببطء وقبل أنْ تجتاز المشهد أدرتُ وجهي نحو جهة السائق متجنباً النظر إلى المشهد الذي صار قريباً جداً من النافذة. ضغطَ السائق على المنبه وهو يلوّح للجنود بقبضةٍ أفرد إبهامها منتصبة إلى الأعلى وهو يردد:

" الله يقوّيهم.. "

غطيتُ وجهي براحتيّ وأفرغتُ سائلاً أصفرَ مرّاً، ملأ راحتيّ ولوّث قميصي. كانتْ له رائحةٌ غريبة وطعمٌ لزج كأنه صمغ. شعرتُ بألمٍ شديد في معدتي وبدوار كأن الجبالَ تدور حولي مقلوبةً على قممها، حتى وصلنا إلى مدينة زاخو فطلبتُ من السائق أن نتوقفَ عند مقهى صغير يقع على الشارع العام. وضعتُ رأسي تحت حنفيةِ الماء فزادتْ برودته من الخدر في رأسي فأغمي عليّ ولم أشعرْ إلا وأنا ممدد على كنبةِ المقهى وحولي عدد من الوجوه مطموسة المعالم بينما انشغل السائق بالتهوية لي. اعتذرتُ من السائق بعد أن استعدتُ وعيي وانطلقنا خارجين من مدينة زاخو على ما سببته له من متاعب غير أني وجدته ودوداً على غير ما خبرتُ أهل الموصل، ولكي أخففَ من ثقلي عليه ومحاولة مني لتجاوز حرجي رحتُ أبرر وضعي بسببِ الأيام الصعبة التي مررتُ بها. تلقفَ إشارتي بشكلٍ لم أقصده وربما كان ينتظرُ مني هذه الإشارة فراح يشتمُ الأكرادَ ومصطفى البرزاني وعيسى سوار، متوعداً، داعياً الله أن يحرقهم ويبيدَ نسلهم فاستغربتُ لطريقةِ كلامه وقد كنتُ أظنه كردياً حيث أنّ اللكنة في لغته توحي بأنه ليس عربياً فقلتُ له:

" ولكن ألستَ كردياً؟ "

" لا. "

أجابَ وكأنه يحاولُ أن يُبعدَ عنه تهمةً أو يردّ إهانةً. وحينما أدركَ من خلال نظراتي إليه بأني أنتظر منه تعريفاً، تطلعَ إليّ بزاويةِ عينه وقال:

" أنا تركماني. "

هززتُ رأسي وأنا أردد:

" أهلا وسهلاً.. نتشرف.. كلنا بشر. "

جاءتْ عبارتي الأخيرة بطريقة توحي بعدم قناعتي بما أقولُ لكنه لم يكتشفْ ذلك بل راح يؤكد لي انتماءه:

" أنا تركماني. من تلعفر. "

وقبل أن أنطقَ بكلمةٍ بادرني:

" ووو... من جماعتكم. "

استيقظَ احترازي وهواجسي فتطلعتُ إليه بنظرةٍ جادة وقلتُ بشيء من الصرامة:

" ماذا تعني؟ "

تطلعَ إلي بابتسامةٍ تخلو من الخبث أو هكذا حدستُ. قرّبَ فمه من أذني هامساً بالسرّ، كأن هناك ثالثاً يصغي إلى حديثنا:

" أنا تركماني من تلعفر. "

أزداد الأمر علي غموضاً وأدركَ ذلك فقال مصطنعاً الثقة:

" يعني شيعي. "

نطتّ مني ضحكة فشاركني الضحكَ وهو يضرب مقودَ السيارة مردداً أهازيجَ شيعيةً لم أسمعها من قبل عن علي بن أبي طالب وأولاده.

وصلنا مدينةَ الموصل بعد نهاية الدوام الصباحي بقليلٍ فودّعتُ السائق وذهبتُ إلى الفندق الذي اعتدتُ المبيتَ فيه كلما جئتُ إلى المدينة بانتظار فترة الدوام المسائي والتي تبدأ في الساعة الخامسة عصراً. كان أول شيء فعلته هو الذهاب إلى الحمام فقد كنتُ أشعر بأني بحاجةٍ إلى تبديلِ جلدي ليس بسببِ القمل الذي كان يأكلُ جسدي وإنما بسبب رغبتي في الخروج من جلدي. قضيتُ فترة طويلة تحت الدش. ارتفعَ صوت في كابينة الحمام الملاصقة بأغنيةٍ ريفية فعرفت صاحب الصوت:

" مزهر؟ "

ناديتُ فتوقفَ الصوت، وبعد ثوانٍ دفع مزهر كاظم بابَ الكابينة وهو يصرخ فرحاً. هجمَ علي معانقاً ونحن عراة، وكان قد علم بخبرِ اختطافي ولكنه لم يعلمْ بخبرِ إطلاق سراحي. أعدتُ عليه الشريطَ مقتضباً وكان يصغي إليّ مرتبكاً محاولاً كبتَ مشاعره. كان قد وصل الفندق قبلي قادماً من مشروع ربيعة ـ سنجار وقد أبلغَ إدارة المشروع بأنه سيذهب بإجازة إلى السماوة ثم يعود ليحصلَ على كتابِ نهاية الخدمة وتبرئة الذمة. ذهبنا معاً إلى مديرية طرق الموصل فاستقبلني المديرُ بالترحيبِ على غير عادته فقد عرفته متجهمَ الوجه لا يخفي طائفيته ويدّعي الورع حيث أفردَ غرفة في المديرية جعلها مسجداً. كنتُ أرى أغلب الموظفين يتسابقون إلى المسجد في وقت صلاة الظهر تملقاً وقد كان رفضي لمجاراة الموظفين وبسبب تقريرٍ كتبه أحد الذين كنتُ أراهم في الحانة كلما ذهبتُ إليها فكانت النتيجة نقلي إلى مشروع كانماسي. بعد أن أصغى إليّ وأنا أروي قصةَ اختطافي بأدقّ تفاصيلها راح يعرضُ أمامي شعوره حينما تلقى الخبر وكيف شغله أمرنا، ثم همس لي بشيء من الحسدِ المفتعل كيف أنّ القيادة السياسية قد انشغلتْ بالأمر بل إن السيد النائب نفسه قد اتصلَ به مستفسراً عن الموضوع، ولم ينسَ أن يلقي علي لائحةً من الشعارات الوطنية مقللاً في الوقت نفسه من حجمِ المعاناة فالوطن العزيز يأمرنا بأن ندفع من أجله " الغالي والنفيس ". وقبل أن تنتهي المقابلة أمر بدفعِ ثلاثمائة دينار كمكافأة مالية لي.

اقترحَ مزهر أن نبيتَ الليلة الأخيرة في الموصل على أن نسافر غداً بالطائرة. وافقته على مضضٍ حيث أني كنتُ أودّ الخروج من كلّ شيء يذكّرني بالكابوس وأنّ الوصولَ إلى أهلي هو وثيقة النجاة التي كنتُ أشعرُ بأني مازلتُ لم أحصلْ عليها كاملة، ولكيلا نشعرَ بثقلِ الليلة الأخيرة اتفقنا على أن نقضيها في الملهى. كان مزهر قد اعتادَ على الذهاب إلى الملهى كلما قضى ليلة في المدينة وكان يعرفُ الندلَ وأسماء الراقصات المصريات، أما أنا فكانت المرة الأولى التي أدخل فيها هذا الجو الصاخب بأضوائه الحمراء وأجساد الراقصات التي تتلوى على بعد نصف متر حيث جلسنا قريبين من المسرح. بعد أن دارتِ الخمرة في رأسينا وخفّ ضخب الإيقاع، أشار مزهر إلى نادلٍ كان يقف قريباً منا فجاءَ راكضاً. تهامسا وقد كنتُ مشغولاً عنهما بمحاولة طردِ الأشباح التي تحيط بي. ذهبَ النادل وعادَ بعد دقائق وهو يشيرُ إلينا بالنهوض فعلمتُ بأن مزهر قد حجز كابينة منعزلة ومظلمة تقع في الطابق الثاني وتطلّ على خشبة المسرح. اهتمام مبالغ فيه ونادل يجيدُ القوادة ولعبة التذلل.

كانت المرة الأولى التي أقتربُ فيها من جسدٍ أنثوي حقيقي. نهدان كبيران مضغوطان بحمّالةِ صدر وقد ظهرَ نصفا الهالتين البنيتين المحيطتين بالحلمتين بحبيباتهما الوامضة بالشهوة أو هكذا رأيتهما. قميصٌ حريري زهري اللون بلا أكمام يكشفُ عن زندين ممتلئين بنقرتين واضحتين عند المرفق. فخذ عارٍ تحتكّ بساقي فتثيرُ في نفسي قلقاً واضطراباً يبدو واضحاً من الحركة اللاإرادية لساقيّ. رفعتْ كأسها فرفعتُ كأسي. قرّبتْ وجهها من وجهي وهي تطرقُ كأسها بكأسي حتى اصطدمَ صدرها بوجهي فشممتُ رائحةً قوية هيّجتْ حساسيةَ أنفي فرحتُ أعطس عطساتٍ سريعة فارتفعتْ ضحكاتهم وهم يتطلعون إليّ وقد احمرتْ عيناي وراح الرشحُ يهطل على ذقني. حاولتُ أن أجد لكبريائي التي اختلّ توازنها موضعاً بحديثٍ يُبعد عني شبهةَ القلق أو الهوس فتبخرتِ الكلماتُ وجفّتْ حتى مخيلتي. التفتُّ إلى مزهر مستنجداً فوجدتُه قد أخرجَ نهدَ أجيرتهِ وراح يلحسُ حلمته وهي تفتعلُ الهياج ويده الأخرى تدعكُ ما بين فخذيها فتطلقُ تأوهاتٍ مفتعلة مادةً لساناً وردياً لاحسةً شفتها العليا. التفتُّ إلى أجيرتي محاولاً رسم ابتسامةٍ واثقة فوجدتُها تنظرُ إليّ بخبثٍ كأنها تدعوني أنْ أفعلَ ما يفعله مزهر بأجيرته. امتدتْ يدي بخجلٍ إلى فخذها فقربتها مني فارجةً بين ساقيها وهي تنظرُ إليّ بعينين ساخرتين. ارتفعتْ كفي على فخذها شيئاً فشيئاً دون أن أنظرَ إلى وجهها محاولاً الإصغاء إلى التغييراتِ التي سوف تحدثُ لي وأنا أقتربُ من كهف الجنون. لم أشعرْ بسوى تقززٍ لكني حاولتُ أنْ أؤجلَ الاعترافَ به مع نفسي فربما سيتغير الأمرُ بعد حين. أبعدتْ كفي بنفورٍ أو غنجٍ فانسحبتُ إلى مواقعي بترفعٍ مثلوم. شعرتْ بانكساري فرفعتْ كأسي وقربته من فمي كأنها تساعد طفلاً أو مريضاً على أخذ دوائه. أخذتُ رشفةً كبيرة من الويسكي فشعرتُ بنارٍ تلتهبُ في حلقي وسعلتُ فارتفعتْ ضحكتها متقطعة كصفّارةِ إنذارٍ وهي تتلوى بافتعالٍ ضاغطةً نهديها بساعديها فيرتفعان أكثرَ وتندفعُ الحلمتان بارزتين فتعيدهما بحركةٍ أكثرَ إغراءً. تناولتُ حزّاً من البرتقالة التي أمامي فمسكتْ ذراعي قبل أن أضعَ الحزّ في فمي. تناولته من بين أصابعي وهي تتطلع إلى عيني بشراسةٍ ثم وضعته بين نهديها مقربةً صدرها نحو وجهي. قرّبتُ فمي من صدرها والتهمتُ حزّ البرتقالة محاولاً كبتَ شعوري المتقزز من حركاتِ العهر السخيفة فأحاطتْ رأسي بكفها ضاغطةً به بين نهديها. ارتعشَ جسدي كله ولكن دون نشوةٍ أو تهيجٍ واستبدتْ بي رغبة في البكاء. لا أدري إن كانتْ قد شعرتْ بذلك أم لا، لكنها راحت تمسّد شعري بحنوّ، وربما أرادتْ أن تعبّرَ عن انتصارها وسخريتها من طفلٍ يتيمٍ.

" دخيل العباس.. "

تردد صدى في الوادي أو من جوفِ الأرض سمعتُه بوضوحٍ شديد. هل غفوتُ على صدرها دون أنْ أدري؟ أم أنّ الصوت مازال يلاحقني في صحوتي. شعرتْ (وربما ارتباكي أوحى لي ذلك) بأن أمراً غريباً يضيقُ خناقه على رجولتي. ودون إرادة مني حاولتُ أن أعترف لها بالأمر وأروي لها الحكاية إلا أني سمعتُ صوتَ مزهر وهو ينهرني باستهزاءٍ ويغيّر الحديث. وحينما تأكد بأني استوعبتُ رسالته عاد إلى جسد أجيرتهِ وقد عراها إلا من قطعة الكلوت الصغيرةِ وقد مدّ كفّه إلى ما تحتها وراح يفركُ متأوهاً كثورٍ هائج. لاحظتْ ارتباكي وقد أوشكتُ على إفراغ نصفِ القنينة فمسكتْ كفي ضاغطاً عليها وبكفها الأخرى رفعت وجهي فتذكرتُ كفّ النقيب عبد القادر قبل أن يمطرني ببصاقه والقاتل الكردي الذي كان يعلنُ انتصاره وسخريته مني بالشفقة وهو يردد " لا تخفْ.. لا تخفْ " . تطلعتُ إليها وكأني أنتظر أمراً مشابهاً لكنها كانتْ تنظرُ إليّ بملامحَ محايدةٍ تخلو من انتصار أو انكسار. استجمعتُ ما تبقّى لي من قوةٍ ورحتُ أحدقُ في عينيها بجفنين أثقلهما السُكر. مسحتْ ظاهر كفي بإبهامها محركةً الوسطى على راحتي بطريقة الإيلاج والإخراج ثم سحبتْ كفي بحركة بطيئة ووضعتها على فخذها العارية. تصلبتْ كفي فحركتْها بنفادِ صبرٍ نحو الأعلى حتى وضعتْها بين فخذيها وأطبقتْ عليها. تحركتْ أصابعي بخجلٍ فأتلعتْ جيدها بنشوةٍ مصطنعة ثم تطلعتْ إليّ مشجعةً فرحتُ أخطّ على باب كهفها خطوطاً عموديةً، مترقباً أن تنتفضَ فحولتي أو تحتج. امتدتْ يدها نحو فخذي وهي تتطلع إليّ بنظرات ترقبٍ لردة فعلي فاستسلمتُ لإرادتها. ارتفعتْ كفها بجرأةٍ أخجلتني وراحتْ تدعك بقوةٍ ما بين فخذيّ من الأسفل إلى الأعلى فأغمضتُ عيني مسنداً رأسي بإهمالٍ على مسندِ الكرسي وقد شعرتُ ببرودةٍ تتمركزُ في رأس قضيبي وسائلٍ لزج يسيل على فخذي. سحبتْ سحّاب البنطلون ببطء وأدخلتْ كفها تبحثُ عن طائرٍ منزوٍ في زاويةِ القفص. اصطادتْه مستسلماً متكوراً على نفسه. حركتْ أناملها على رأسه وعلى حزّ الختان فأوغلَ في انكماشه. شعرتُ ببرودةِ أناملها فسرتْ في جسدي كلّه رعشةٌ وخوفٌ من اغتصابٍ ظل يلازمني طيلةَ أيام اختطافي. تطلعتْ إليّ ببرود، باسطةً كفيها في الهواء، رافعةً كتفيها، ماطةً شفتيها بتبرمٍ وحيرة. تلك اللحظة كان مزهر قد أنهى رحلته على جسدِ أجيرته وراحَ يمسحُ أسفلَ بطنهِ بمنديلٍ ورقي وقد ارتفعتْ ضحكاتهما. نهضتا في لحظةٍ واحدة وقبل أن تغادرا الكابينة وضعت أجيرتي كفها على رأسي هازة شعري بحركةٍ سريعة كأنها تداعب بحنو رأسَ طفل مكسورِ الخاطر.

حينما أقلعتِ الطائرةُ من مطارِ الموصل ورأيتُ ظلالها على المدرجِ وهي ترتفعُ شيئاً فشيئاً شعرتُ بالخوف واشتدتْ سطوةَ يقيني بأني رجلٌ منكود الحظ، وجودهُ في الطائرةِ كفيل أنْ يعطي الصدفةِ أو الحظ أو الله سبحانه وتعالى مبرراً لإسقاطها، لكني وعلى الرغم من خوفي كنتُ أشعر بأني كلما ازددتُ تحليقاً ازدادتْ غربتي عن الأرض. تطلعتُ من النافذةِ الصغيرة إلى الأرض فرأيت نهرَ دجلة وقد بدا خطاً رفيعاً يمضي من شمالِ الكابوسِ حتى جنوبهِ محمّلاً بالأسى والعذاب، وحينما أعلنتِ المضيفة بأننا الآن على ارتفاع ستة وثلاثين ألف قدم عن سطحِ البحر شعرتُ برغبةٍ لو أن الطائرة لن تتوقفَ عند هذا المستوى وتتوغل أعلى وأعلى حتى السماء السابعة، بل حتى العرش العظيم.

في اليومِ الثالث من أيار 1978 التأمَ ثانيةً شملُ عشرين مسّاحاً في مركز الفرقة المدرعة الثالثة المتمركزة عند بحيرة الحبانية. جلسنا عند بابِ (قلم الوحدة) منتظرين استلام كتابِ تسريحنا. روى كلّ منهم بفرحٍ ما جرى له خلال الأربعة عشر شهراً إلا أنا فقد بقيتُ صامتاً حيث أني كنتُ أشعر بأنّ ما حدث لي لن ينتهي بسهولة وسأحمله معي جرحاً لن يمحوه كتاب التسريح. حاولَ البعضُ أنْ يغريني بالكلام وقد علمَ بما جرى لي إلا أني بقيتُ صامتاً محاولاً الإجابة بكلامٍ مقتضبٍ محاولاً تهوين الأمر. مرّ النقيبُ عبد القادر من أمامنا. توقف صارخاً بعجرفةٍ مستفسراً عن سرّ تجمعنا فأطرقتُ إلى الأرض منزوياً في دائرة المتجمعين، وحينما غادرَ المكان رفعتُ رأسي خلسةً فرأيتُ عجيزته الكبيرة وهي ترتفعُ وتنزلُ بمشيته المتهادية وقد تدلّى على ساقه مسدس ظامئ لدمي.

حينما خرجنا من المعسكر، حثّ البعض خطاه مودعاً آخرَ لحظاتِ عبوديته محتفلاً بانعتاقه الأبدي (هكذا كان يظنّ أغلبهم). تخلفتُ عن الجمع قليلاً كي أقيمَ طقسَ كراهيتي وحقدي على الجيشِ والعلمِ بل على الوطن الخاكي بجبالهِ وسهولهِ.. بأنهارهِ وشلالاتهِ الدموية، لذا فقد كانتْ دائرةُ البولِ الذي رسمتها بقضيبي أوسعَ بكثيرٍ من دائرةِ المعسكر.

ما كدتُ أنسى شيئاً من الكابوس حتى ظهرَ أمرُ تعييننا الإجباري وفي نفسِ الدوائر التي قضينا فيها فترة خدمتنا العسكرية. دخلتُ غاضباً على سكرتيرِ رئيس المؤسسة العامة للطرق والجسور فتطلعَ إليّ باستغرابٍ مشفقاً على نزقِ مراهقٍ لا يعرفُ خطورةَ احتجاجه، فأيّ متهورٍ أو مجنون يعلنُ عصيانه على قرارٍ صادرٍ من مجلس قيادة الثورة، وبتوقيع رئيس المؤسسة العامة للطرق والجسور عبد الوهاب المفتي الذي يرتعبُ الموظفون عند ذكرِ اسمه. حاولَ السكرتيرُ أنْ يوضحَ لي عدم جدوى ما أفعله ثم تحولَ توضيحه إلى نصحٍ مبطنٍ بالتهديد، وحينما عجزَ عن نصحي ارتفعَ صوتُه ناهراً مشيراً بيدهِ نحو الباب. تطلعتُ إليه بغضبٍ وقبل أنْ أغادرَ الغرفة عدتُ إليه ثانية. نظر إلي بغضبٍ لكني استأذنته بلطف. حاولَ أن يغلقَ أمامي الطريق رافضاً الإنصات إلى شكواي إلا أني سبقته بشرحِ قضيتي، وحالما سمعَ اسمي وبداية القصة حتى نظرَ إلي بانبهارٍ وهو يردد:

" أنتَ حميد .....؟ "

هززت رأسي بالإيجابِ وأنا أتطلعُ في عينيه بنظرة مستفَزة. هدأ قليلاً ثم أشار إليّ بالجلوس على كرسيّ قريبٍ منه. اقترحَ عليّ أن أطلبَ مقابلة السيد رئيس المؤسسة ثم راحَ يلقنني أصولَ الزيارة بدءاً من طريقةِ فتحِ الباب والوقوف أمام السيد وحتى كلمات التوسل وطلب النقل إلى المكان الذي أرغب فيه. دخلَ غرفةَ سيدهِ وعاد مبتسماً ليبشرني بخبرِ الموافقة على المقابلة بل إنه أسرّ لي بأنّ السيد رئيس المؤسسة انتبهَ باهتمامٍ حينما ذُكر اسمي أمامه واستعجل لقائي. وفعلاً وقبلَ أنْ أكملَ اسمي الثلاثي وقّعَ عريضة نقلي إلى مديرية طرق محافظة الكوت.

كان مساء حزيرانياً ساخناً وكنت أقفُ على كورنيش دجلة مقابل سدة الكوت، أقلّب صفحاتٍ داميةً من تأريخِ الأسى المكتوب على صفحة هذا النهر السادر، وكم أورثَ أبناءه من شقاء. كنّا أطفالاً نخافُ الاقترابَ منه كيلا تلتهمنا أعماقه وها نحن نخافُ الاقترابَ من تأريخهِ الدموي كيلا تستيقظَ فيه روح الانتقام. كان ينقصنا معرفة ميزة أخرى في هذا النهر الجاري منذ أزلٍ بعيد، وأنّى يكون لنا ذلك ونحن الصغار، نُنزل زوارقنا الورقية فيه وننظرُ إليها وهي تندفعُ بقوةٍ نحو المجهول فنخبره بسذاجة طفولتنا " أننا ذاهبون معك " إلى أين سنذهب؟ في رحلةِ النفي أم رحلة نحو أعماقنا السحيقة؟. في رحلةٍ نحو الماضي أم أنّ هنالك هولاكو جديد قادم؟

" ماذا بقي لكَ أيها القدر من حجةٍ لتعذيبي؟ ماذا بقي لكِ أيتها الصدفة من حيلةٍ تنسجها الضرورة ضدي؟ أيها الوطن دعني أتنفس شيئاً من هوائك! أيها الله الكريم دعني أرَ نعمتك ولو مثقال ذرة كي أحدّثَ عنها!."

اقتربتْ مني أقدامٌ أعرفُ وقع خطواتها. التفتّ فرأيتُ صنوي أو شبيهي كما كانوا يروننا. لم أفاجأ على الرغم من مرورِ أكثر من سنة على آخر لقاء بيننا. وضعَ يده على كتفي واتكأ على سياج النهر ثم راحَ ينظر إلى الجهةِ التي أنظرُ إليها مصغين إلى صخبِ الماء المتدفق من تحت بوابات السدة، صامتاً كان يحدثني بما أفكرُ فيه. كان حزيناً مثلي على الرغم من تخرجهِ من كلية الآداب بتفوق، وها هو ينتظر سوقه إلى الخدمة العسكرية.

" ها نحن نتبادلُ الأدوارَ، لقد جاء دوركَ الآن، ومَنْ يدري ماذا تخبئ لك الصدفة والضرورة وأي عبد القادر ستصادف؟ وأي فدائيّ كردي سيحمّلك وزرَ مأساته؟ "

تطلعَ إليّ كأنه قد قرأ ما يدورُ في ذهني ثم عاد يتأملُ النهرَ مثلي. بعد فترة صمتٍ كنا نتحدثُ خلالها عبر التخاطرِ قال دون أنْ ينظرَ إليّ كأنه يحدث نفسه:

" القادم أخطر. "

" ماذا تعني؟ "

قلتُ فالتفتَ إليّ:

"الجبهة الوطنية في خطر."

تطلعتُ إليه بابتسامةِ سخريةٍ أدركَ مغزاها، وكدتُ أقولُ له " طز بيك وبالجبهة الوطنية " لكني صمتّ كي أعرفَ منه أخباراً كنتُ مقطوعاً عنها ولو أني وخلال فترةٍ قصيرة ولأسبابٍ مازلت أجهلها قد أعدتُ علاقتي بالحزب والتقيتُ بالرفاق، ولم أشعرْ من خلال الأحاديث التي دارتْ في الاجتماع بأنّ شيئاً قد يحدث قريباً. كانتْ هناك بعض الخلافات بين الحزبين المتحالفين قد بدأتْ تظهرُ على السطح ولكن لم يحنْ بعد وقتُ الانفجار، لذلك رحتُ أصغي باهتمام لما يقوله صاحبي وفي داخلي شيء يحفزني على مشاكسته، شيء كامن في نفسي من عهد الطفولة وأحسبُ أنه يبادلني الشعور نفسه. أضاف:

" سنذهب بشربة ماء. "

ثانيةً كدتُ أقول له " تستأهلون " لكني تذكرتُ بأني أشاطره الانتماء إلى حزبٍ له صفاتُ النهر فهو أيضا تأريخ من الأسى والنفي والمشانق، وبرغم ذلك فهو سادر بضياعه ونحن سادرون بالمحبة وحسن النية.

" وما العمل؟ "

قلتُ ذلك وقد أطلقتُ ضحكةً لهذا السؤال ذي المغزى المزدوج. التفتَ إليّ وبنظرةِ تأنيبٍ وعتبٍ ألبسها رداءَ التحدي إذ قال:

" ليس أمامنا سوى أن نصمد. "

قال بيقينٍ ساذج ثم أشاحَ بوجهه إلى الجهة الأخرى فأدركتُ بأنه يتحاشى النظرَ إليّ كيلا أكشفَ كذبه وادّعاءه.   

في عصرِ يوم الثاني والعشرين من تموز كنتُ جالساً في مقهى زناد منتظراً كالعادة فرج شاوي وكريم ناصر وآخرين يجمعني بهم هاجسُ الكتابة وتبادل الكتب. وحينما لم يأتِ أحد منهم خرجتُ من المقهى متوجساً، خاصةً وأن حملةَ مطاردةِ الشيوعيين قد بدأتْ وتمّ إلقاء القبض على بعض من رفاقٍ أعرفهم ولكن التطمينات التي كان يبعثها الحزب إلينا كانت توحي بأنها اعتقالات فردية ربما هدفها جسّ النبض. عند انعطافةِ زقاق فرعي رأيتُ كريم يقف بعيداً عن واجهة المقهى. لوّحَ لي وحثّ خطاه في الزقاق فخمنتُ بأن هناك أمراً قد حدث. توقفَ وهو يلتقطُ أنفاسه لاهثاً ثم همسَ لي:

" أمس اعتقِل فرج. "

وبعجالةٍ راح يعدد لي أسماء الأشخاص الذين تمّ اعتقالهم خلال ليلة الأمس واليوم:

" جلال، فلاح، علي، رزاق الخياط .... "

ثم تركني وهو يردد:

" انتبه لحالك، دير بالك، اختفِ، اهربْ .... "

" ليس أمامنا سوى أن نصمد. "

يقولُ شبيهي فأضحكُ منه ساخراً .

" إلى متى سنصمد؟ كيف سنصمد؟ لماذا سنصمد؟ "

" مو حسبالك انتهت السالفه وخلّصت، نقدر انجيبك بأي وقت نريد، هه، وأنت تعرف البقية، ما يخلصك أبو لينين. "

عادَ صوتُ النقيبِ عبد القادر يتردد في أذني.

" سأهرب. نعم سأهرب. "

أسرعتُ إلى البيت سالكاً طريقَ الأزقة الضيقة.

" سأسافر الليلة إلى بغداد ومن هناك سأنتظر نصيحة الرفاق."

هذا ما اتفقنا عليه أنا وصاحبي في آخر لقاء لنا.

خمسون يوماً فقط كانتْ فترة إجازة سوء الحظ وها هو يعود إلى عمله بمثابرةٍ وإخلاص، وهاهو قد وجدَ وسيلةً أخرى لمطاردتي، وسيلة ربما تختلف عن وسائلِ النقيب أو الفدائي الكردي الذي لم يجدْ غيري يدفعُ فاتورةَ حساب الظلم القومي الذي يعاني منه، ولكن ماذا بعد؟. الوسائل تختلف والغاية واحدة " الإذلال ".

شارعٌ واحد بقي علي أن أقطعه للوصولِ إلى بيتنا وقد علمتُ بأنّ حملتهم هذي تختلفُ عن الحملاتِ السابقة فهم لا يقتحمون البيوتَ أو يبحثون عن المنشورات كما كان يفعلُ في السابق رجالُ الشرطة السرية ضد معارضيهم. إنهم الآن أكثرَ لباقة وتهذيباً. تقتربُ من خلفكَ سيارةُ الفولكس واكن أو اللاندكروزر. تخفّضُ سرعتها. تتوقفُ. ينزلُ منها شابان بوجهين حليقين وملابس أنيقة وربما يحملان كتاباً أو صحيفة تحت أبطيهما. تمضي السيارة ثم تقفُ عند منعطفِ الشارع. يخرجُ سائقها. يفتحُ مقدمةَ السيارة. يقيسُ الزيتَ في المحرك ويتطلع إلى أحشاء السيارةِ باهتمامٍ بينما لايزال الشابان يسيران خلفكَ ببطء. تقتربُ خطواتهما. يسيرُ كل منهما على جانبيك. يلقي أحدهما تحية مهذبة وكفّه تنقضّ على كفك.

" تسمح أستاذ تركب معنا. "

" عفواً إلى أين؟ "

تجيبُ بدبلوماسيةٍ وتهذيبٍ مفتعلاً الغباء فيأتيكَ الجوابُ جاهزاً:

" ساعة واحدة ستجيب فيها على بعض الأسئلة ثم تعود إلى أهلك. "

تحتجّ:

" ولكنْ مَنْ أنتم؟"

" كلْ خرا! "

ينتهي الحوارُ وتصعدُ السيارة صاغراً. تنطلقُ السيارة بسرعةٍ مجنونة. تحركُ كتفيكَ بتململٍ كأنك تحاولُ كسرَ أغلالٍ وهمية. تُغرز إصبع في خاصرتك:

" منيوك، أبو العيورة .... "

تحتجّ، لكنكَ تصلُ مديرية الأمن. هناك ستجد أنّ هذه الكلماتِ هي ضمن الحرفِ الأول في أبجديةِ الشتائم وأنها الصفحة الأولى من معجم الإذلال.

أنا نفسي لا أعرف لماذا بقيتُ خمسة أيامٍ في (ضيافتهم) ولماذا كلّ هذا الكرم بتقديمِ وجباتِ التعذيب طالما أنّ الأمر سينتهي بورقةٍ يتمّ التوقيع عليها آجلاً أم عاجلاً متعهداً عدم مزاولة العمل السياسي:

" شوفْ منيوك.. أضخم شارب سينحني ويوقع... فهمت؟ "

يقولُ عبيد وهو يقلقلُ قضيبه المنتعظ على الهواء.

" سأوقع. "

الآن وبعد ألف عامٍ، أنا على استعداد كاملٍ للتخلي ليس عن الحزب والاشتراكية بل عن الوطن بأرضهِ وشعبهِ ومائهِ وكلّ شيء فيه.

" الوطن! المبدأ! "

رددتُ مع نفسي بسخريةٍ وتلمستُ أعوامي الاثنين والعشرين فوجدتُها رخوة، بل دقيق يتسربُ بسهولةٍ من بين فلقتي الرحى الحجرية.

" ابني، شمورطك بهذي الأمور؟ أنتَ بعدك ما تعرف تضرب جلق. "

يقولُ ضابطُ الأمن وهو يولجُ الهراوةَ في قبضته ويخرجها وينظر إليّ منتشياً.

" طزززز "

صرختُ في داخلي وأنا أغادرُ مبنى مديرية الأمن بقدمين متورمتين.

الليلُ المتنمرُ بعسسهِ المتحفزين ونجومهِ الذابلةِ يمتدّ على المدينةِ مثل أميبا يختطفُ الأطفالَ من الشارعِ يلتفّ عليهم، يهرسُ أرواحهم ببطء، يخنقُ براءتهم، يتوغلُ إلى أعماقِ عاشقٍ، ينهشُ أنثى ترقصُ عاريةً في روحه. السياراتُ تمرقُ بسرعةٍ قصوى كأنها تطاردُ أشباحاً فأكادُ أرى الشوارعَ نفسها تتلفتُ خائفةً، والأرصفةَ تنحسر.. تنحسرُ حتى تختفي خلف الجدران تراقبُ خطى المارة. كتلٌ بشرية تلتفّ على بعضها بحثاً عن أمانٍ فتشكلُ تجمعاتٍ دائريةً، وفي مركزِ كلّ دائرةٍ يقفُ مهرج، كلما خلعَ قناعاً ظهرَ بقناع آخر حتى تزوغَ الأنظارُ فلم يعدْ يدركُ الرائي إنْ كان ما يرتديه المهرجُ قناعاً أم وجهه الحقيقي. المروّض بسوطهِ يجلد الهواءَ صارخاً والشاعر يمشي مقلوباً في الشارع فتضحكُ القردةُ ساخرةً منه. إنه لا يجيد حتى تقليد صغارِ القرود. يرميه الأطفالُ بالحجارة. يحاولُ أنْ يقفزَ من غصنٍ إلى آخر. تزل قدمُه فيسقط على إسفلتِ الشارع. يحاولُ أنْ ينهضَ بمكابرةٍ. يقتربُ منه شرطي بدين، يضعُ قدمه على رأسه ثم يدفعه. يحاولُ أن يحتجّ. يتلعثمُ. تخورُ قواه فتضحك الجماهيرُ. يطلقُ مواءً يخرمشُ الحجر. يجلسُ متعباً لاعقاً جراحه مثل جرذيّ هرم. في الشوارعِ المكتظةِ بالضجيجِ، الناس يمضون صامتين، يتلفتون متحفزين بانتظارِ الفَرج الذي سينزلُ من السماء، وعلى شريعةِ النهرِ امرأةٌ متلفعة بالسواد تركضُ جيئةً وذهاباً وهي تحملُ (سفرطاس َ) العشاءِ لولدها الغريق وصحنَ شعيرٍ لفرسِ خضر الياس الذي سيرفعُ جثةَ ولدها.

أصرخُ:

" يمّه... يمممممممه "

تلتفتُ المرأة نحو جهةِ الصوت. تقتربُ مرتابةً. تتطلعُ في وجهي. ترتسمُ علاماتُ الخيبة على وجهها. تبصقُ على الأرض وتعودُ إلى الشريعة. الظلامُ أطبقَ تماماً ولم يعد النهرُ سوى صفحةٍ سوداء كأن الماءَ قد صارَ قيراً ساخناً. لم تطفُ جثةُ الغريق ولم يسمع الخضرُ نداءَ الأم المفجوعة. ترمي الأم عشاءَ ابنها في النهرِ وتقتربُ مني ثانيةً. تضعُ صحنَ الشعيرِ أمامي وتذهب. أتابعُ شبحها وهو يدخلُ أعماقَ الليل حتى تتحولَ عباءتها السوداء قطعةً من هذا الظلامِ الشامل.

بعد الكأسِ الثالثة زاغَ بصري فرأيتُ الناس ديداناً تتحركُ على الأرضِ ثم تكبرُ وتتحد مع بعضها كأرجلِ أخطبوط تحاولُ اصطيادَ الهواء. تنفصلُ عن بعضها. تعود إلى هيئاتها الآدمية بوجوهٍ مطموسة. تتضخمُ حتى تبدوَ كعماليقَ تسدّ الفضاءَ وصوت زفيرها كزئيرِ عاصفةٍ في وادٍ. ترقصُ حول نارِ بركانٍ تتوقد في رأسِ جبل ثم تسيل كشمعٍ ذائب مشكّلةً روافدَ صغيرة، تكبرُ باتحادها حتى تتحولَ إلى طوفان دم.

بعد الكأسِ الرابعة شعرتُ بدبيبِ الخمرةِ وهي تقتحمُ موطنَ الأسرار. ولأني جالس وحدي ولا أخافُ من شيء، فقد اجتزتُ قلقَ الامتحان وحصلتُ على النتيجةِ المطمئنة على الرغم من الرسوب بامتياز بل (السقوط)، هذه الكلمة التي كنتُ أسمعها تتردد كثيراً على أفواهِ من لم يذقْ طعمَ الفلقة واللسعات الكهربائية ولم تحاصره الضباع تنهشُ خصيتيه.

" إذاً فلتقتحمِ الخمرةُ موطنَ الأسرار! " 

" اخرسْ يا دعي! أية أسرارٍ تتحدثُ عنها؟ ألم تعترفْ بالأمس؟ "

" من أنتَ؟ "

" ............ "

كان يجلسُ أمامي رجل قد تجاوزَ الأربعين من العمر بقليل، لا أدري كيفَ ومتى اقتحمَ عزلتي. كان ينظرُ إليّ بعينين تشعّان بريقاً ذهبياً يرسمُ دائرةً ضوئية على وجههِ ويغطي لحيةً حمراء حسبتها مصبوغةً بحناء أو ربما بقايا من صبغةِ دمٍ متخثر.

" الله بالخير. "

قلتُ وقد فرضتْ هيبته عليّ احتراماً أو خوفاً.

تطلعَ إلي ببرودٍ هازاً رأسه دون أن يردّ تحيتي.

" وهل رأيتَ قضيبَ عبيد وهو يهددكَ بالاغتصاب؟ "

قلتُ محاولاً تبرير هزيمتي فردّ علي مؤنباً:

" لِمَ لم تبصقْ في وجهه؟ "

" سيقتلني لو فعلت. "

" وليكنْ. "

" سيقتلني ألفَ مرةٍ. "

" جبان. "

قال ببرودةِ أعصاب فأجبته بغضب:

" من أنتَ أيها السكير التافه؟ "

نهضَ وهو يتطلعُ إليّ بسخريةٍ ثم أدارَ إليّ ظهره وسارَ متمهلاً، وقبل أنْ يبتعدَ عن طاولتي عادَ ثانيةً. توقفَ أمامي وبدأ يتعرى. خلعَ قميصه وأشارَ إلى ذراعيهِ المقطوعتين وإلى صدرهِ المنخول كغربال. قال وهو يحدّق إليّ بتحدٍ:

" قطعوا يميني فحملتُ السيفَ بشمالي وقطعوا شمالي فحملتُ السيفَ بفمي وحينما جاء الشمرُ يحزّ عنقي بصقتُ في وجهه. "

فركتُ عينيّ فتلاشى الشبحُ. أغمضتُ عيني كي أطردَ صورةَ الكابوس فرأيتُ صورته قد عادتْ ثانيةً. رأيته يزحفُ على الأرضِ مقطوعَ الذراعين محاولاً التقاطَ الراية الساقطة على الأرض بفمهِ النازف، وكلما أوشكَ أن يلتقطها تمتدّ قدمٌ تركلُ الرايةَ بعيداً فيظلّ يزحفُ نحوها وعبيد يلاحقه بالسوطِ ويضحك. ضحكتُ .. ضحكتُ على إصرارهِ غير المجدي وحماسته الغبية. انتبهتُ إلى الطاولةِ القريبة مني فرأيتُ عليها شخصين يتهامسان وهما يحدقان إليّ باستغراب. توقفتُ عن الضحكِ وحينما التقتْ نظراتنا، رفعا كأسيهما وهما يصرخان:

" بصحتك. "

رفعتُ كأسي مفتعلاً الرزانة والكبرياء وأفرغتها في جوفي دفعة واحدة. ولكي أوحي إليهما باعتدادي بنفسي رحتُ أتطلع نحوهما بثقة فأشارَ إليّ أحدهما بيده:

" ليش قاعد وحدك. تعال شاركنا! "

نهضتُ حاملاً كأسي الفارغة وما تبقى من عرقٍ في القنينة واتجهتُ إلى حيث يجلسان. وقبل أن أصلَ الطاولة بخطوة أو خطوتين رأيتُ النقيبَ عبد القادر وهو يحاولُ النهوضَ لاستقبالي وأمامه يجلسُ رجل لم أرَ منه سوى ظهره، كان يرتدي شروالاً كردياً ويلفّ رأسه ببشتيم أحمر.

" دخيل العباس... "

عاد صوتُ الجندي القتيلِ يرنّ في أذني. ارتبكتُ وسقطتِ القنينة من يدي فتركتُ المكان هارباً وصوتُ قهقهات السكارى تتبعني.

كانتْ مديرية طرق الكوت تقع مقابل مديرية الأمن تماماً وفي زقاقٍ واحد وهذا يعني أني سأرى كل يوم وجوهاً باتتْ تعرفني جيداً وعيوناً ربما لاتزال تراقبني وتعد خطواتي، ولكن ما شأني بها طالما أني نفذّتُ ما طلبوه ووقعتُ على القرار200؟ وللحقِ أقولُ فأنا نفسي صرتُ أكثر اطمئناناً ولم يعد يؤرقني قلقُ الامتحان أو انتظارُ ظهورِ النتائج، ولكي أثبتَ لهم بأني سأفي بالوعدِ الذي قطعته رحتُ أقطعُ الزقاقَ محاذياً الجدار كي يقالَ عني رجل يتحاشى المشاكل " ويمشي الحايط الحايط ". حتى زملائي في العمل ما عاد وجودي يقلقهم فقد صرتُ واحداً منهم وإنْ بقيتِ المسافة ما بيننا واسعة. لم أكنْ مثلهم تماماً إلا أني لم أعدْ غراباً أبيضَ وسط سوادهم.

" السيد المدير يطلبك. "

قال الفراشُ وغادرَ الغرفةَ سريعاً. نهضتُ بتثاقلٍ وقد عاد هديرُ الهواجس وهي تتلاطمُ في رأسي ولكني أسرعتُ في قطعِ الممرِ نحو غرفة المدير، فقد كنتُ أشعرُ بأن طاقتي على تحملِ قلقِ الانتظار قد نفدتْ وأنّ لحظةَ ركلِ الكرسي من تحت قدمي أهونُ بكثيرٍ من التمهل أو سرقةِ بضع دقائق في قطعِ الطريق الفاصل ما بين الزنزانة والمشنقة. أشارَ إليّ المديرُ بالجلوسِ دون أن يرفعَ رأسه عن مكتبهِ حتى فرغَ من قراءةِ الكتاب، قدّمه لي دون أنْ ينطقَ بكلمةٍ فرحتُ أقرأه بصمتٍ. إنه كتاب صادر من المؤسسة العامة للطرق والجسور وبتوقيعِ عبد الوهاب المفتي نفسه يُعلمني بأنّ المصلحة العامة تقتضي نقلي إلى مشروع جسر الكوفة الثاني. أعدتُ قراءته مرةً أخرى ثم أعدته إلى المدير الذي كان ينظرُ إليّ لمعرفة ردة فعلي، وحينما هززتُ رأسي علامة على الرضوخِ للقرارِ أو على عدم وجودِ وسيلة غير الموافقة والطاعة، تنحنحَ محاولاً إيجادَ طريقةٍ للدخول إلى الحديث. قدّمَ لي سيجارةً وأشعلها بتواضعٍ مفتعل، ثم بدأ حديثه متلعثماً:

" بإمكاننا إلغاء أمرِ النقل إذا... "

وقبل أن يكملَ مساومته قاطعته:

" بالعكس، أنا سعيد بالنقل. "

وفعلاً كنت سعيداً حيث أني وجدتُ من حيث لم أكنْ أحسب طريقاً آمناً للهروب من المكانِ والوجوهِ التي كانتْ تشكّل لي نظراتها الواخزة عبئاً ثقيلاً.

لاحتْ على وجههِ علاماتُ خجلٍ واضحة وأدركَ الفارقَ الكبير بيني وبينه، فعلى الرغم من قدمي المتورمتين مازلتُ أستطيعُ الوقوفَ في منتصفِ السفحِ وأرفضُ الانحدارَ السريع. ولكي يغطّي خجله قال لي بطيبةٍ مخنوقة وكأنه يمدّ لي ما يستطيع من معونةٍ وتضامن:

" لك حرية تحديد يوم الانفكاك عن الدائرة. "

فأجبته بابتسامة أدركَ مغزاها:

" الآن. "

فنهض خارجاً من وراء مكتبهِ متجهاً نحوي ثم تشبثَ بكفي مودعاً بحرارةٍ كأنه يحتضنُ بقايا شرفٍ في داخله.         

" الكوفة!؟ "

رددتُ مع نفسي ونطتْ ضحكةٌ لم أستطعْ كتمانها. التفتَ الركابُ نحوي مستفزين  فأشحتُ بوجهي عنهم متطلعاً من نافذة السيارة نحو الطريق الصحراوي مقتفياً خطواتِ الذين مروا من هنا يوماً واجتازوا هذه الصحراء.

 [أقبلَ مسلمُ ابن عقيل حتى دخلَ الكوفة، فدخلَ دارَ المختار ابن أبي عبيد الثقفي، وأقبلت الشيعةُ تختلفُ إليه، فلما اجتمعتْ إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتابَ الحسين فأخذوا يبكون. وحينما علِمَ بمجيء عبيد الله ابن زياد إلى الكوفة، خرجَ من دارِ المختار إلى دار هاني بن عروة فدخل بابه وأرسل إليه أنْ أخرج فخرج هاني وكره مكانه حين رآه فقال له مسلم، أتيتك لتجيرني " فقال له هاني " رحمكَ الله لقد كلفتني شططا " وأخذت الشيعة تختلفُ إلى دارِ هاني ابن عروة وقد بايعه ثمانيةُ عشر ألفاً فقدّم كتاباً إلى الحسين يعجّله الإقبال، لكنّ عبيد الله ابن زياد أمرَ بهاني فجاءوا به. قال " أدنوه مني " فاستعرضَ وجهه بالقضيب، فلم يزلْ يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسرَ أنفه وسيّل الدماء على ثيابه ونثرَ لحمَ خديهِ وجبينه على لحيته حتى كُسرَ القضيب. ثم أمرَ بسجنه. يقولُ عباس الجدلي " خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف فما بلغنا القصرَ إلا ونحن ثلاثمائة فمازالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفساً في المسجد فلما رأى ذلك خرجَ متوجهاً نحو أبواب كندة وبلغَ الأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرجَ وإذا ليس معه إنسان، والتفتَ فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق ولا يدلّه على منزلٍ ولا يواسيه بنفسه إنْ عرضَ له عدو، فمضى على وجهه يتلدد في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب، فمشى حتى أتى باباً فنزل عليه فخرجتْ إليه امرأة يقال لها (طوعه) فقال لها " اسقني " فسقته ، ثم دخلتْ فمكثتْ ما شاء الله ثم خرجتْ فإذا هو على الباب، فقالتْ  " يا عبد الله إنّ مجلسك مجلس ريبة، فقمْ! "، قال " إني أنا مسلم ابن عقيل فهل عندكِ مأوى؟ "، قالتْ " نعم، ادخلْ ".

صعدَ عبيد الله ابن زياد المنبر فحمدَ الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلافِ والشقاق فبرئت ذمة الله من رجلٍ وجدناه في دارهِ، ومنْ جاء به فله ديته ". ثم صرخ " يا حصين ابن تميم! ثكلتكَ أمكَ إنْ صاح باب سكّة من سكك الكوفة، أو أن خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعثْ مراصدةً على أفواه السكك"

وأصبحَ ابنُ تلك العجوز التي آوت ابن عقيل وهو بلال ابن أسيد فغدا إلى مجلس ابن زياد وأخبرَ القومَ بمكانِ مسلم. بعثَ ابنُ زياد عمرو ابن عبيد الله ابن عباس السلمي على ستين أو سبعين من قيس. فلما سمعَ مسلمُ وقعَ حوافرِ الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أتي فخرجَ إليهم بسيفهِ واقتحموا عليه الدارَ فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك فضربَ بكيرُ بن حمران الأحمري فمَ مسلم فقطعَ شفته العليا وأشرع السيف في السفلى وفصلتْ ثنيّتاه ،فضربه مسلمُ ضربةً في رأسه منكرةً وثنى بأخرى على حبل العاتق كادتْ أنْ تطلعَ على جوفه. فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهرِ البيت فأخذوا يرمونه بالحجارةِ ويلهبون النارَ في أطنانِ القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت حتى أثخن بالحجارة وعجزَ عن القتال فأسندَ ظهره على جنب تلك الدار، فدنا منه محمد ابن الأشعث فقال له " لك الأمان " وأوتي ببغلةٍ فحملَ عليها، واجتمعوا عليه وانتزعوا سيفه فدمعتْ عيناه ، ثم قال " هذا أول الغدر. " ثم قال " إنا لله وإنا إليه راجعون " وبكى. فقال له عمرو ابن عبيد الله ابن عباس " إن مَنْ يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزلتْ به مثل الذي نزل بك لم يبكِ " فرد عليه مسلم ابن عقيل " إني والله ما لنفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين وآل حسين ".

جيءَ بابن عقيل  إلى بابِ القصر وهو عطشان ، فقال " اسقوني ماءً " فجاءوه بماء في قلّةٍ عليها منديل ومعه قدح فأخذ كلما شربَ امتلأ القدحَ دماً فلما ملأ القدحَ المرة الثالثة ذهبَ ليشرب سقطتْ ثناياه فيه، فقال " الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته. ".

قال ابن زياد: " اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه "

فضربتْ عنقه ]

استيقظتُ على كفّ العجوز الجالسِ لصقي وهو يوقظني بحذر، وحينما فتحتُ عينيّ وجدته يتطلعُ إليّ باستغراب. مسحتُ وجهي بكفي فشعرتُ بحرقةٍ في عيني وقد غطى العرق وجهي ورقبتي. شكرتُ العجوز على إيقاظي وقد توقفتِ السيارة في كراج المدينة فتطلعَ إليّ بعمقٍ كأنه يقرأ شيئاً في ملامح وجهي، ثم قالَ بعطفٍ وهو يقطب جبهته:

" اش بيك ابني؟ "

وحينما أبديتُ استغرابي لسؤالهِ، أضاف:

" جنت تبجي طول الطريق. "  

درتُ في شوارعِ الكوفة أبحثُ عن مقرِ عملي. سألتُ أصحابَ المحلاتِ على جانبي الطريق والمارين وسائقي سيارات الأجرة إلا أنّ لا أحدَ كان قد سمعَ بوجودِ مشروعٍ لإنشاءِ جسرٍ ثانٍ في الكوفة بل إن عجوزاً صاحبَ مكتبةٍ قديمة تطلعَ إليّ باستغرابٍ من بين الكتب القديمة المكدسة على بعضها وقالَ لي وهو يثبت نظارتيه:

" أي جسرٍ ثانٍ تسأل عنه؟ "

ثم أضاف:

" في الكوفةِ جسور عدة، أولها جسر شيّده زياد بن أبيه. "

تطلعتُ إليهِ بصمتٍ وقد ارتسمتْ على وجهي ابتسامة شجعته على إيقاظِ التأريخ من سباتهِ غير أني غادرتُ المكتبة وأنا أردد مع نفسي:

" وآخرها سأشيده أنا، أية مفارقة غريبة! "

انتصفَ النهار وتعبتُ فلم أجدْ غير مسجدِ الكوفة ملاذاً ألتجئ إليه. ساحةٌ واسعة بشكلٍ مستطيلٍ أقرب إلى المربع مغطاة بآجرّ أبيض ذي سطح أملس تحيطها من الجهات الأربع جدران عالية يرتسمُ على أحدها وهو الجدار المقابل للباب الرئيسي المحراب، المحراب الذي شهدَ مقتلَ إمام الغرباء. غرفٌ تشبه الكوى الكبيرة ترتفعُ عليها أقواسُ مزينة بآياتٍ قرآنية وأسماء الأئمة الإثني عشر خُطت بخطّ الثلث وبحروف كبيرة. في الجانبِ الأيسر من الباحة بابٌ كبير يفضي إلى ضريحي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة. دخلتُ بحذرٍ وتوجس وأنا أحملُ حقيبتي بيدٍ وباليدِ الأخرى فردتيْ حذائي. درتُ حول الضريحِ بخشوع. مسكتُ الشبّاك وتطلعتُ إلى الضريح يلفّه شرشفٌ أخضرُ كبير. ارتعشَ شيء في داخلي حاولتُ أنْ أكتمَ رهبتي متلبساً شخصية الملحدِ الذي لا يرى في هذه الأضرحة سوى أحجارٍ صمّاء، لكني لم أستطع فاختنقتُ بصوتِ صمتي. اقتربَ مني رجل يرتدي كشيدة بطابقين أحمر وأخضر. وقفَ أمامي وراح يقرأ دعاءَ الزيارة. أصغيتُ إليه وجسدي يتمايل دون إرادةٍ مني. أعطيته قطعة نقدية وخرجتُ. عدتُ إلى باحةِ المسجد متطلعاً إلى زخارفِ الجدران ثم جلستُ عند حافة إحدى الكوى متكوراً على جسدي بوضعِ جنين، مبهوراً بسحرِ الصمت الذي يلفّ المكان. هنا موقعُ المنبر الذي تناوبَ عليه الولاةُ لاعنين من سبقهم مهددين الناس بالويلِ إنْ سولت لهم نفوسهم المتمردة بالتعرض لولاة أمرهم بسوء، هنا نزع ابن يوسف الثقفي عمامته مردداً بأنه جاء ليبقى رغم أنف من لا يرضى. 

اقتربَ مني رجل بعمامةٍ بيضاء. ألقى تحيةً هامسة فنهضتُ احتراماً. هزّ رأسه بكبرياء وجلسَ قربي صامتاً وعيناه تستفسران بصمتٍ عن سببِ وجودي هنا خاصة وقد انفضّ المصلّون ولم يبقَ أحد في المسجد، وحينما وجدني صامتاً وأحدق إلى جهة بعيدة كأني أقرأ آثارَ الخطى التي مرتْ هنا، قال مشيراً إلى الجدران:

" كانتْ تنزّ ماءً. "

تطلعتُ إليه بنظرةٍ تتفحص نواياه فأشار مرةً أخرى إلى الجدران. هززتُ رأسي ثم سألته بخبث:

"  تنزّ ماءً أم دماً؟ "

تطلعَ إلي بريبةٍ ثم سألني:

" من أنتَ؟ "

ضحكتُ لارتباكهِ وأجبته:

" لا أحد. "

هممتُ بالنهوض غير أنه سبقني كأنه تذكرَ فجأة أمراً هاماً. تطلعَ إليّ بنظرةٍ خاطفة ثم تركني مسرعاً وهو يلفّ عباءته على جسده دون أنْ يلتفتَ إلي.

خرجتُ من المسجد بجولةٍ أخرى للسؤالِ حول مكان عملي. توقفتُ عند مجمعٍ لسياراتِ أجرة يقعُ عند رأسِ شارعٍ عريض. اقتربَ مني أحدُ السائقين وسألني عن الوجهةِ التي أقصدها وحينما أخبرتُه أشارَ إليّ بيدهِ أنْ ألحقه إلى سيارته. انطلقتِ السيارةُ في الشارعِ العريض وسط أرضٍ قاحلة تلوح في نهاياتها بساتينُ نخيلٍ وعلى جانبي الشارع نُصبتْ علاماتٌ تشيرُ إلى مواقع لمعامل وشركات. لمحتُ من بينها لوحةً معدنية كبيرة تشيرُ إلى موقعِ مشروع جسر الكوفة الثاني فشعرتُ بالاطمئنان.

" هذا معمل الإسمنت. "

وأشارَ السائقُ إلى بناءٍ ضخم تقفُ عند بوابته الحديدية الكبيرة شاحناتٌ كبيرة، وعمال ينقلون أكياسَ الإسمنت إليها. انحرفتِ السيارة باتجاهِ اليسار على طريق ترابي يجتازُ غابةً كثيفة من النخيل ثم ارتفعتْ على سدادٍ ترابي بمحاذاةِ الفرات. توقفتِ السيارة وأشارَ السائقُ إلى خيمةٍ وحيدة عند جرف النهر. لم أفهمْ شيئاً من إشارته فراحَ يؤكد لي بأنه أحضرَ قبل أيام رجلاً إلى هنا. خرجَ من الخيمة رجل عجوز تجاوز السبعين من عمره وهو يتطلع إليّ بعينين كليلتين. رحبَ بي حينما علمَ بأني موظف جديد تمّ تنسيبه للعمل في مشروع الجسر، وحينما سألته عن موقع الجسر أجاب بحيرة:

" هنا. "

وأشار إلى الخيمة وحينما تطلعتُ إليه باستغراب، أوضحَ لي كأنه يزيلُ تهمةً عن نفسه:

" رجل طويل القامة أصلع الرأس وبشعر طويل من الخلف جاء إلى هنا قبل شهر، نصبَ ناظوره ودق وتداً. "

ثم أشار إلى وتدٍ حديدي مغطى بمكعبٍ كونكريتي، مضيفاً:

" ثم قيل لي إنه تمّ تعييني حارساً لمشروع الجسر الجديد، ولم أرَ أحداً بعد ذلك. "

أدركتُ من خلال وصفهِ للرجلِ بأنه عزيز سماوي الذي كنتُ التقيتُ به قبل بضعة أشهر في مشروع زاخو كانماسي فرددتُ مع نفسي متسائلاً بأسى:

" أين أنت الآن يا عزيز؟ في أي سجن أو مخبأ؟ "

على الرغم من وحشةِ المكان إلا أني كنتُ أشعر بفرحٍ، حيث وجدتُ أخيراً خيمةً بعيدةً عن عيون رجال الأمن وبعيداً عن هواجسي وعيون الرفاق المكسورة. وضعتُ حقيبتي في الخيمة وأخبرتُ الحارسَ بأني سأعود غداً وغادرتُ المكان بالسيارة التي جاءتْ بي.

قضيتُ الليلةَ في مدينةِ النجف متجولاً في سوقها المكتظة بالناسِ ومكتباتها التي تشبه مكاتبَ الوراقين بكتبها القديمةِ المصفرة التي يتراكمُ عليها الغبارُ كأنها وجدتْ في التأريخ الأمانَ فلم تبرحْ زمانها. جلستُ مراتٍ عدة في مقاهٍ شعبية مختلفة، وكان همّي يتركزُ على كيفيةِ قضاء الوقتِ الذي كان يمرّ بطيئاً. فكرّتُ أن أذهب لزيارةِ قبرِ أبي في المقبرةِ الكبيرة لكني عدلتُ عن الفكرة لسببٍ أجهله. دخلتُ صحنَ الحضرة الحيدرية. كانتْ تنتشرُ في الصحن وفي الزوايا دوائرُ صغيرة وأقواس من طلبةِ الحوزة الدينية، شباب بوجوهٍ بيض ضاربة إلى الصفرة ولحى ناعمة. كانتْ رؤوسهم تتمايلُ نحو الأمام والخلف بحركةٍ متناسقة فيرتسمُ مشهد يذكّر الرائي بقرونٍ مضتْ تركَ في نفسي شعوراً متأرجحاً بين الاحترامِ والنفور. كنتُ أنقلُ خطواتي على البلاط المرمري الناعم بحذرٍ كيلا أوقظَ أرواحاً مطمئنةً إلى وهمها، متطلعاً إلى الأضواء الصفراء والأبواب المذهبة ولكني لم أتجرأ على الدخول إلى الضريح خوفاً على بقايا يقينٍ أو ربما سخطاً وجدتُ نفسي تتشبثُ به وكأني أحمّلُ الحجارةَ كلّ تبعاتِ الفشل. عدتُ إلى الفندق متعباً، ودون أنْ أنظرَ إلى من يشاركني الغرفةَ ألقيتُ جسدي بإهمالٍ محاولاً طرد أية فكرةٍ عمّا ستأتي به الأيام القادمة.

في اليومِ التالي باشرتُ دوامي وحيداً في مكانِ عملي منتظراً أن يأتي شخصٌ يشاركني منفاي الغريب، لكنْ مرتْ ساعاتُ الصباح والظهيرة ولم يأتِ أحد. عند العصرِ جلستُ على جرفِ النهرِ مُدلياً ساقيّ في الماء، متطلعاً إلى الفراتِ ومراقباً بعض الشباب بزوارقهم وقففهم الصغيرة وهم يرمون كراتِ الزهر(الزهرُ كلمة فارسية تعني السمّ يشكّل منه الصيادون في العراق كراتٍ صغيرةً تقتلُ الأسماكَ فتطفو على سطح الماء عندها يسهل صيدها قبل أن تموت. والطريقة محظورة في العراق) الصغيرة إلى النهر وعيونهم تتطلعُ إلى الجهاتِ بخوفٍ وحذرٍ شديدين. تهامسوا في ما بينهم حينما اكتشفوا وجودي الغريب في المكان، غير أنّ الحارسَ العجوز طمأنهم فجاءوا إليّ مرحبين فعرفتُ منهم بأنّ كل الساكنين في هذه المنطقة وعلى ضفتي النهر هم أولاد عمومةٍ ويلتقون عند برّاك وهو جدّ هذا الرجل العجوز ولذلك سميت المنطقة بالبراكيّة. أنهى الشبابُ مهمتهم برمي (الزهر) وجلسوا مقرفصين على ضفتي النهر وعيونهم تغورُ في النهرِ متحفزين كأنهم يتسولون من القدرِ صدفةً ترمي لهم رزقهم. فجأةً خبطتِ الماءَ في منتصفِ النهرِ حركةٌ غريبة فهرعَ الرجال إلى زوارقهم وقففهم حاملين فالاتهم وسلالهم الخوص مشكلين دائرةً وسطَ النهر وهم يتصارخون بفرح. وبعد دقائق

من الصراعِ وطعنِ الماء ارتفعتْ في الهواء فالة طويلة تحمل بأنيابها سمكةً كبيرة وهي تلبطُ بيأسٍ غير أنّ حرابَ الفالة قد انغرزتْ عميقاً في جسدها. صرخوا فرحين وهم يتطلعون إلى أولى بشائرِ الصيد، ثم عادوا يقرفصون على ضفتي النهر وأنظارهم تشطحُ على سطحِ الماء،

وهكذا تكررَ المشهد فكانتْ حصيلتهم عدداً من الأسماك بمختلف الأحجام. ذكّرني المشهد بزهيري للحاج زاير فرحتُ أدندن وحدي:

" قطّان جنّي طحتْ ما بين عجلة فال

 واحد للآخر يقل له هو ولك نوحه "

جاءَ الليلُ فغادروا المكان فرحين، قانعين بصيدهم وقد قضيتُ معهم رحلةَ صيدٍ ممتعة لم أرها من قبل. ذهبَ هزاع البراك وعاد إليّ بقطعةِ سمك مشوية، غير أني أجلّت أكلها متحججاً بالشبع ولكنْ في الحقيقة كنتُ أحاولُ أنْ أجدَ طريقةٍ لإقناعِ الحارسِ أنْ يذهبَ لينام في بيته القريب كي يصفو لي الجو وحدي، فقد كان حدسي صائباً حينما جلبتُ معي قنينةَ عرق كاملة، فوحشةُ الليلِ في هذا المكانِ المنسي وحرارةُ العشرة الأولى من شهر آب تلهب الأرضَ كأن بخاراً يتطاير من النهر يجعل الفضاء خانقاً برطوبةٍ لها رائحة عفونة زنزانةٍ، والحشرات الطائرة، والخوف من العقارب، كل ذلك لا يمكن التغلب عليه إلا بكأسٍ من النسيان وتخدير الفكرةِ في جمجمةٍ أضحتْ عالةً على هذا الجسد الخاوي. ولكنّ مهمة إقناع العجوز كانتْ صعبة، فقد وجدَ بي آذاناً تصغي إلى قصصه وأحاديثه عن تأريخ البراكية ونزاعاتها منذ بدء القرن وحتى يومنا، والحق أني كنتُ أصغي إليه بمتعةٍ كبيرة، وتعرفتُ تلك الليلة على حكاياتٍ وشخوص نادرة، فقد عرفتُ مثلاً أنّ هناك فخذين من عشيرةٍ واحدة في صراعٍ مستمر على الرغم من كونهم أبناء عمومة.

" آل البزون. "

قال العجوزُ فكتمتُ ضحكةً كادتْ تخرج من فمي غير أني تداركتها لاعناً الصدفةَ التي لا تتركني استمتعُ حتى بمنفاي ووحدتي، وحتى لو كفّ رجال الأمن عن مطاردتي فسيطاردني اسمي. قرّبَ العجوز فمه من أذني هامساً:

" وألبو عيسى. "

تلفتُّ فلم أجد أحداً غيرنا فأثارَ همسُه وتحفظه فضولي لمعرفة من هم ألبو عيسى وما سبب نزاعهم مع آل البزون، ودون إلحاحٍ مكشوف حاولتُ استدراجَ العجوز لمعرفةِ سببِ خوفه مفتعلاً الإصغاء والاهتمام بالأمر فراحَ يتحدث ويداه ترتعشان وأنفاسه تتقطع عن النكبةِ التي حلّتْ بألبو عيسى حتى حسبتُ نكبتهم كنكبة البرامكة. قلتُ ذلك مع نفسي مازحاً، ولكن بعد أنْ أسهبَ العجوزُ بالحديث اكتشفتُ بأن هناكَ شبهاً كبيراً بل تطابقاً بين ألبو عيسى والبرامكة، فقد تمّ إعدام وسجن الكثير من شبابهم وصودرتْ أملاكهم وأراضيهم وبساتينهم بعد أن كانوا يتمتعون بعزّ وحظوة لم يمتلكها البرامكة أنفسهم.

" بسبب انقلاب السلطة على ولدهم. "

قال العجوزُ هامساً فسألتُ باستغراب:

" ومن هو ولدهم؟ "

تطلع إلي وكأنه يأخذ مني عهداً بأن لا أبوحَ بهذا السرّ فهززتُ رأسي موافقاً. قرّبَ فمه من أذني حتى شعرتُ بأنفاسهِ تصطدمُ بخدي، ثم قال:

" ناظم كزار. "

ثلاثةُ أيام مرتْ وأنا أنتظرُ أيّ قادم جديد حتى بدأتُ أشكّ بوجودِ المشروع أصلاً. أقضي النهارَ في الانتظار، وفي الليلِ استمعُ إلى حكاياتِ هزاع البراك وحينما يسيطرُ عليه النعاس ولم يستطع مقاومته يتطلع إلي منتظراً أن أقول له:

" اذهبْ ونمْ عند عائلتك وأنا سأحرس النهر. "

حيث لا يوجد شيء يتطلبُ الحراسة سوى الخيمة والنهر، عندها أخرج بقايا قنينة العرق الساخن وارتشفُ منها رشفاتٍ كمخدرٍ ضد لسعات البق والذكريات.

انتصفَ نهارُ الخميس ولم يصلْ أحد فشعرتُ بالضجر حيث عليّ أنْ أنتظرَ حتى يوم السبت كي يتجددَ الأملُ بوصولِ موظفٍ آخر أو منفيّ يقاسمني الخيمةَ والإصغاءَ إلى حكايات العجوز، وحينما لم يأتِ ذلك الضائع أو المضيّع قررتُ قضاءَ العطلةَ في بغداد لا شوقاً إلى رؤية الناس بل هرباً من وحدتي.

في كراجِ (علاوي الحلة) اقتربتُ من صبي يقفُ على الرصيفِ وأمامه صحف ومجلات. كانت جريدةُ (طريق الشعب) من بينها. امتدتْ يدي بترددٍ، لكنْ قبلَ أنْ تلامس الجريدة انحرفتْ قليلاً لتتناولَ جريدةَ (الجمهورية) ومجلة (الطليعة الأدبية).

" السفلة، هل جعلوا من الجريدة فخّاً لاصطيادِ مَنْ لم يسمعْ بأخبار التسقيط بعد؟ "

رددتُ مع نفسي وأنا أتلفت بخوف.

" ولكن ما شأني أنا؟ ألم أوقع على وثيقة تنازلي؟ "

طمأنتُ نفسي وبالغتُ بالاطمئنان حينما رفعتُ الجريدةَ على رأسي حاجباً أشعةَ الشمس الحارقة عن رأسي وفي الوقتٍ نفسه أشيرُ إلى مَنْ يترصدني بأني لا أحملُ جريدةَ الحزب الشيوعي بل جريدة النظام.

" ولكن مَنْ الذي يقومُ الآن بإصدار الجريدة؟ "

" وهل لا تزال القيادة تتأملُ أنْ تعود المياه إلى مجاريها؟ "

" وأين هي القيادة ؟ "

" لماذا لم أسمعْ باعتقال أحدهم؟ "       

" هل هربوا ثانيةً إلى موسكو وبراغ؟ "

" وأين أخفوا عائلاتهم وأبناءهم؟ "

" لا، لا.. "

" أبناؤهم هناك يدرسون الباليه منذ سنوات. "

كان آخرُ منشورٍ صادر عن القيادة يدعو الرفاقَ إلى الاعتمادِ على أنفسهم في تدبير أمورهم.

" هذا كل ما قدروا عليه؟ "

" ربما هم الآن ينتظرون عطفاً من سيادةِ النائب يعفو عنهم لذنبٍ هم أبعد ما يكونون عن ارتكابه أو ربما ثورة يقومُ بها كي يصححَ مسار الحزب اليميني نحو بناء الاشتراكية، عندها سيعودون إلى الحكم ثانية بقيادة جيفارا العراق. "

" تفوووووووو على مثل هذه القيادة. "

عبرتُ جسرَ الوثبة باتجاهِ شارعِ الرشيد. توقفتُ في منتصفهِ وتطلعتُ إلى الماءِ الجاري في دجلة. رددتُ مع نفسي أبياتاً من قصيدة الجواهري ساخراً:

" وأنتَ يا قـارباً تـلـوي الرياحُ به          ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانـيـنِ

 وددتُ ذاك الشراعَ الرخص لو كفني          يُحاكُ منه غداةَ البين يطويـني "

كان شعورٌ بالسخطِ يخنقني، سخطٌ على كلّ شيء حتى بدا لي منظرُ الناس وهم يتحركون مصطدمين ببعضهم محدثين دوياً كدويّ دورانِ الخذروف، كأنهم جراد أعمى يهجمُ على المدينة. انتقلتُ إلى الجانبِ الأيمن من شارعِ الرشيد وسرتُ باتجاه الميدان. توقفتُ عند سينما مقابل أورزدي باك كانتْ تعرضُ في واجهتها صوراً لفيلمٍ إباحي. حشرتُ نفسي بين الواقفين ورحتُ أتطلعُ بعينين جائعتين إلى نهودِ الممثلات وسيقانهن. فكرتُ أن أدخلَ لأشاهدَ الفيلم غير أني عدلتُ عن الفكرة بعد أنْ رأيتُ وجوهَ الداخلين وكان أغلبهم من الجنود وعمالِ الكراجاتِ والريفيين، وهم يتلفتون بعيونٍ زائغةٍ يتطايرُ منها نهمٌ جنسي فكأنهم متحفزون لاغتصابِ الهواء، وقد كانتْ لي تجربة سابقة في الدخول إلى هذه السينما فهي مشهورة بأنّ أغلبَ روادها من اللوطيين والمأبونين.

" سينما الوطني "

هذا هو اسمها التي حملتُه عن جدارة.

" وطن للسفلة واللوطيين. "

رددتُ مع نفسي بألمٍ وحثثتُ خطاي مبتعداً كيلا يراني أحد وأنا واقف في هذا المكان. لاحَ لي تمثالُ الرصافي متسمراً في ساحة الأمين حيث توجد المقهى التي يلتقي فيها القادمون من مدينة الكوت. توقفتُ عند واجهةِ المقهى متفحصاً وجوهَ الجالسين فلم أرَ شخصاً أعرفه فقفلتُ عائداً، ولكن ما أنٍ خطوتُ بضعَ خطوات حتى سمعتُ صوتاً يهمس باسمي قادماً من ورائي. توقفتُ ملتفتاً فرأيته يقتربُ مني. مسكَ ذراعي دافعاً إياي إلى الأمام كأنه يحثني على الابتعادِ عن المكان باتجاه جسر الشهداء. توقفنا عند بوابة المتحف الشعبي. تطلعتُ إليه فأدركتُ بأنه لم يعدْ يشبهني فقد موّه نفسه بشاربين كبيرين ونظارةٍ سوداء أو ربما أنا الذي لم أعد أشبهه. كان حزيناً ومرتبكاً ولأول مرةٍ أراه يتنازلُ عن كبريائه ويخاطبني:

" احتاجُ مساعدتك. "

فخمنتُ بأنه محتاج إلى نقودٍ فمددتُ يدي في جيبي وأخرجتُ رزمةً من الأوراق النقدية ووضعتها في كفّه دون أن أعدها فأعادها إلي شاكراً:

" لا أحتاج إلى فلوس ولكني أحتاج إلى أمر آخر. "

" ماذا؟ "

سألته وقد أربكني ارتباكه فهمسَ لي:

" أحتاج إلى مأوى أختبئ فيه. "

حدقتُ إليه بحيرةٍ وهو ينتظرُ ردي بلهفةٍ وخوف:

" ولكن إلى متى ستبقى مختبئاً؟ "

فأجابني بثقةٍ:

" حتى يوم الأربعاء. "

تطلعتُ إليه منتظراً منه توضيحَ الأمر فأضافَ:

" سأسافرُ إلى الجزائر يوم الأربعاء القادم. "

" ...................... "

" لقد أكملتُ كلّ شيء وحجزتُ بطاقة السفر ولم يبقَ لي سوى الانتظار. "

" ................... "

" لكني أخافُ أنْ يستدلوا عليّ، لذلك أنا بحاجةٍ إلى مخبأ أمين. "

" ولكن كيف تسافرُ وأنتَ لم تكمل الخدمة العسكرية بعد؟ "

سألتُ فردّ علي هامساً:

" حصلتُ على جواز سفر مزور. "

تطلعتُ إليه بإعجابٍ فتضببتْ صورته أمامي ولم أعدْ أعرفُ إنْ كان يشبهني حقاً أم لا، ولكني لم أشعرْ نحوه بمودةٍ وحبّ في أيّ وقتٍ مضى كما كنتُ أشعرُ تلك اللحظة. كنتُ على استعداد أنْ أفديه بنفسي. نعم، أنا الذي لم أفدِ نفسي بنفسي. كنتُ أرى فيه بقيةَ روحٍ تشيرُ إلى أنّ الحياءَ لايزال على قيد الحياة وأنّ أغصانَ الشرف التي جففها الخريفُ لم تمتْ بعد وأنها بانتظارِ ربيعٍ قادم. هززتُ رأسي مبتسماً فتطلعَ إليّ بلهفة:

" عندي مخبأ لا يصلُ إليه الجنّي الأزرق. "

قلتُ فلاحتْ ابتسامة على وجهه واغرورقتْ عيناه بالدموع. رحتُ أؤكد له:

" مخبأ لا يمرّ عليه سوى الفرات. "

تطلع إلي مستفسراً فرحتُ أصفُ له المكانَ فلم يصدّقْ كلامي حتى رويتُ له حكايةَ اعتقالي في مديرية أمن الكوت وتوقيعي على قرار 200 ونقلي من مديرية طرق الكوت إلى مشروعِ جسرِ الكوفة الثاني. شدّ على يدي بقوة محاولاً أنْ يخففَ عني وطأةَ الشعورِ بالخيبة أو الخجل، مردداً:

" فاشست، سفلة، كلاب ... "

ثم راحَ يتوسلُ بي أنْ نسافرَ إلى الكوفة الآنَ فهززتُ رأسي موافقاً. ذهبَ إلى الفندقِ وعاد سريعاً يحملُ حقيبةً صغيرة وكتاباً. توجهنا إلى كراجِ العلاوي بعد أنْ اشتريتُ كلّ الحاجات الضرورية للعزلةِ والنسيانِ وللضيفِ الذي سيقاسمني منفاي خمسة أيام ليذهبَ بعدها في رحلتهِ نحو المنفى الأبعد، هذا إذا كان محظوظاً واستطاعَ الإفلاتَ من قبضةِ كلابِ المطار، أما إذا وقعَ في أيديهم فستكونُ رحلته إلى أبدية العدم.

في الطريق من بغداد إلى الكوفة كنتُ أشعر بجسدهِ يرتعشُ على الرغم من أنّ السيارةَ كانتْ تغلي كحمّامٍ عمومي. أدركتُ أنه خائفٌ من الإقدامِ على مجازفةٍ كبيرةٍ غير محسوبة النتائج فحاولتُ أن أثنيه مقترحاً عليه تسليم نفسه مهوّناً الأمر على الرغم من عدمِ قناعتي بما أقول إلا أنه رفض اقتراحي بإصرار.

" أموتُ ألف مرة ولا أتنازل لهؤلاء الأوغاد. "

تطلعتُ إليه فأدركَ أنه قد أساء إليّ فالتفتَ نحوي معتذراً، مبرراً الأمر بأنه قناعةٌ شخصية وليس موقفاً ثورياً أو اجتراح بطولة، ثم سادَ صمت بيننا وكلّ منّا يغورُ في داخلهِ بحثاً عن معنى لهذا الضياع. قطعَ صمته بقهقهةٍ مفتعلة حاولَ فيها أنْ يعرضَ أمامي توازنه، وحينما تطلعتُ إليه راحَ يردد بسخريةٍ مُرة:

" الكوفة!؟ "

فأدركتُ بأنه كان في رحلةٍ مع التأريخ فأجبتُه بالسخريةِ المُرة نفسها:

" نعم كوفة الحسين ومسلم بن عقيل والمختار والمتنبي و.. "

فاعترضَ بحزن:

" أم كوفة ابن زياد والحجاج؟ "

فأضفتُ هامساً:

" وكوفة آل بزون وألبو عيسى وناظم كزار. "

تطلعَ إليّ باستغرابٍ حينما ذكرتُ اسم ناظم كزار، فرحتُ أسرد له حكاياتِ هزاع البراك. حدّق إليّ بصمتٍ وكأنه تذكر أمراً لم يخطر في ذهنهِ عندما طاوعني بالمجيء إلى الكوفة فسألني عن مدى ثقتي بهذا العجوز. طمأنتُه مبتسماً غير أنه عادَ إلى التأريخ وكأنّ الأمر قد استبدّ به بحيث لم يستطع الخروج منه فسألني جاداً:

" ومن يدريك بأن (هزاعكَ) هذا لن يكون كـ (طوعه) فيشي بنا ولده وعندها ستسحلُ جثتانا في أسواق الكوفة كجثتي مسلم وهاني بن عروة؟ "

" اتركِ الأمر لي وكنْ مطمئناً! "

أجبتُه بثقة وأنا أربتُ على كتفهِ مهوّناً الأمر فعادَ إلى صمته.

تطلعَ هزاع إلى وجهينا على ضوء الفانوس ثم التفتَ إليّ وسألني:

" أخوك؟ مو؟ "

هززتُ رأسي إيجاباً مؤكداً على أنه جاء ليطمئنَ عليّ ولزيارةِ الأماكن المقدسة في الكوفة والنجف وكربلاء فباركَ له فعله ثم راح يؤكد الشبهَ الكبير بيننا حتى حسبنا توأمين. غادرَ هزاع الخيمة مسرعاً ثم عادَ بعد دقائق بصحبة صبيّ يحملُ صينية عشاء إكراماً للضيفِ الجديد، وحينما ذهبَ مودعاً تنفسَ صاحبي بعمقٍ بعد أنْ تأكدَ بأنه في مخبأ آمن، فلا وشاية ولا عسس ابن زياد. خلعَ قميصه واستلقى على فراشِ هزاع وهو يردد:

" يا ريل طلعوا دغش والعشق جذابي.. "

نهضَ فجأةً وراح يبحثُ في جيوبهِ كي يتأكدَ من وجودِ جواز سفره والبطاقة. قدّمَ إليّ الجواز بتباهٍ وحركات استعراضية فرحتُ أتفحصه على ضوء الفانوس. الأوراقُ نظيفة لم يفضضها ختمُ مطارٍ أو فيزا والصورة مثبتة بإتقان. توقفتُ عند الاسم وقرأتُه بصوتٍ عال:

" عاشور وحيد صابر "

فانفجرَ صاحبي ضاحكاً وأنا أتطلعُ إليه باستغراب. توقفَ عن الضحكِ ثم قال:

" انسَ اسمي الحقيقي! فمن الآن أنا عاشور وحيد صابر. "

حسبتُ أنّ الاسمَ ملفّق ولكي أتأكدَ سألته:

" ولكنْ من هو هذا العاشور الوحيد الصابر؟ "

فأجابَ:

" أنه أخ لأحد رفاقنا الذي تبرع لي بالجواز. "

ثم أضافَ بحزن:

" غرقَ في نهر دجلة قبل شهرين ولم تظهر جثته."

أيامٌ تمرّ ببطءٍ شديد كنّا نقضيها بالقلقِ والحيرة. كان عاشور يذهبُ صباحاً إلى مدينةِ الكوفة أو النجف وأظلّ أنا محدّقاً إلى النهر بانتظارِ المنفي الجديد الذي قد تلقي به موجةُ السخط أو حظّه العاثر ليشاركني الوطنَ الذي تحول إلى خيمة، وقد كنتُ أتمنى لو يؤخر مجيئه حتى يسافرَ صاحبي، وليالٍ موحشة نقضي نصفها مصغين إلى أحاديثِ هزاع الذي وجدَ فيه عاشور لُقطةً ثمينة، فكان يستفسرُ منه بفضولٍ عن أدقّ تفاصيلِ الحكاية كأنه يحاولُ حفظها على ظهرِ قلب، أما النصف الثاني فنقضيه جالسين على جرفِ النهر نعبّ سمّاً ساخناً ساخطين على مَنْ ورّطنا بهذه الورطةِ الغبية متذكرين رفاقاً لنا لم نعرفْ مصيرهم، وحينما كنتُ أسمّي الأشياء بأسمائها، أرى الامتعاضَ واضحاً على وجهِ صاحبي محاولاً إيجاد مبررٍ لسياسةِ الحزب، لكنْ لم يصلْ خلافنا إلى حدّ التشنج فقد كانَ كلّ منّا يحتفظ بمساحةٍ مشتركة مع الآخر وحينما كان يشعرُ بأنّ النقاشَ قد وصلَ إلى حدّ الخلاف، يرتفعُ صوته بغناءٍ حزين كأنه يودّع آخر شيء يربطه بجغرافيةِ العراق:

" أريد يطولْ مسرانا على شطّ الفرات دهورْ

 وأريد الموجه تحرسنه، تحرسنه تظل ناطورْ

 وأجمع كلْ حلمْ عندي وأبني لكْ حبيبي قصورْ "

فأكملُ أنا الأغنيةَ بسخرية:

" قصورْ .. قصورْ وردية "

ثم نضحك.. نضحك، مختتمين ضحكنا بغصّةٍ وزفرةٍ متسترين بالظلام كيلا تفتضحَ دموعنا وكلٌّ منّا يتابعُ مسيلَ دمعاتِ صاحبه. مرةً واحدة انفجر ببكاء مرّ يشبه الصراخَ ضارباً وجهه براحتيْ كفيه بانفعالٍ شديد حينما كنّا في بدء سُكرتنا. تركته يفرغ حزنه بصراخٍ طفولي وألمِ شيخ رأى من عذاب السنين ما لا تحمله الجبال وها هو يتشبثُ بآخر ساعاتِ عمرهِ كأنه يأسف على عمرٍ لا يستحق أنْ يتذكرَ أحد أيامه. طلبَ مني أن أقرأ له آخر ما كتبتُ فقرأتُ قصيدة كتبتُها في الليلة الأولى التي قضيتها في الخيمة، وكانت بعنوان (الرفيق). أصغى إلي بقلق وهو يقضمُ أظافره:

" أتذكرهُ ...

أتذكرُ لغوَهُ

هل يتذكرُ صمتي؟

أتذكرهُ الآنْ

كان يطاردني في الشارعِ، في الحانةِ، في المقهى ...

يتسللُ في العتمه

أتذكرُ عينيه الزائغتينِ، وصمتَ جريدتهِ

أتذكرهُ الآنْ

ماذا كانْ؟

شرطياً؟

سمساراً؟

سلطانْ؟

أتذكرهُ الآنْ

أتذكرُ

كيفَ انسلَّ رهيفاً من رحمِ الزحمةِ

ـ أين نرى حمدانْ؟

فأجبتُ بهمسٍ

ـ حمدانُ على الشجره

وضحكنا..

كنّا ننتظر الباصَ الذاهبَ للثورةِ

في آبْ

حدثني عن بردِ القطبِ ونومِ الأفعى

ناولني معطفه المطريَّ وغابْ

أين هو الآنْ؟

هل ينتظرُ الباصَ الخارجَ للثورةِ؟

أو ينتظرُ الباصَ الداخلَ للنسيانْ؟  

لم نستطعْ إخفاء قنينةِ العرق حينما اقتحمَ مغيظ الأعور الخيمةَ بغفلةٍ منّا فارتبكَ عاشور متحفزاً لما سيبدرُ منه وتوقفَ قلبي متوجساً من أنّ أمراً سيحدث بالتأكيد، فمغيظ هذا شقي من شقاوات المنطقة، يتطايرُ الشرّ من عينيه ويسبقه في كلّ خطوةٍ يخطوها، وهو منبوذ من جميع البراكيين، عاطلٌ عن العمل ويعيشُ على الأتاوات التي يدفعها إليه أولاد عمومتهِ دفعاً لشرهِ وللفضيحةِ التي قد يسببها سلوكه أمام أفخاذ العشيرة الأخرى. جلسَ دون استئذانٍ وهو ينقلُ نظره بعينين حمراوين بيني وبين عاشور.

" الله بالخير. "

قلتُ متملقاً فردّ عليّ بفظاظةٍ ليستْ غريبة عليه:

" منين يجي الخير؟ من يا أخ قحبه يجي الخير؟ "

تطلعتُ إليه مبتسماً ثم ناولته القنينة وأنا أردد بطريقةٍ حسبتُه يرتاح إليها:

" اشربْ مغيظ اشربْ، كس أمّ الدنيا. "

" شكراً استاد، شكراً. "

قالها بتهذيبٍ وأخذَ القنينة. عبّ كميةً كبيرة من العرقِ دون أنْ يمزجه بالماء، ثم مسحَ فمه بكمّ دشداشته التي لم يمر عليها الماء منذ دهر. أعادَ إليّ القنينة وهو يردد:

" شكراً استاد. "

قدّمَ إليهِ عاشور سيجارةً فتناولها هازاً رأسه بأدبٍ ثم تطلعَ إليّ بعمق كأنه يريد أنْ يفترسني فتراجعتُ إلى الخلف. مسكَ ذراعي بقبضةٍ من حديد، وبعد لحظات من الصمت تتخلله زفراتٌ عفنةُ الرائحة، قال:

" شوف استاد أنت غريب هنا بين ذوله الجلاب واحنه صار بيناتنا دخان وعرق.. "

فهززتُ رأسي مُصغياً إلى ما سيقول، فأضاف:

" أي واحد يحاول يضايقك قلْ لي عليه وأنت ما عليك سوى عينك تشوف. "

شكرتُ له شهامته ثم قدّمتُ له القنينة ثانية فعبّ منها وأعادها وقد ظهرتْ عليه علاماتُ السُكر. سقطَ حاجزُ الحيطة بيننا فسادَ جو من المرح بينه وبين عاشور فراح يسأله عن المنطقة وناسها محاولاً اقتناصِ كلّ جملةٍ غريبة يقولها مغيظ حتى سأله سؤالاً بدا لي غريباً:

" قلْ لي أخي مغيظ، شفت اليوم في المنطقة أطفال بشعر أشقر، يلعبون في البساتين.. "

وقبل أنْ يكملَ عاشور كلامه ارتفعَ صوتُ مغيظ بضحكةٍ مجلجلة مختنقاً بسعالٍ يخرجُ من صدرٍ منخور حتى استلقى على ظهره باحثاً الأرض برجليه وهو يضرب جبهته براحةِ كفّه فتطلعتُ إلى عاشور بنظرةِ لوم مؤنباً إياه على فضوله وعلى الثقةِ المفرطة التي خصّ بها شخصاً مخبولاً. توقفَ مغيظ عن الضحك ثم تناولَ القنينة مرتشفاً منها بنهم. تطلعَ إليّ ثم قال بصوتٍ صاخب:

" استاد مو قلت لك ذوله جلاب. "

لم أفهم ما يقصده فتطلعَ إلى عاشور وهو يردد:

" استاد ذوله أطفال بلجيكيين. "

وحينما طلبَ منه عاشور توضيحاً راح مغيظ يتحدثُ بحركاتٍ سوقية موضحاً الأمر:

" قبل عشر سنوات جاءت هنا شركة بلجيكية، عملت في معمل الإسمنت وبعد ما راحوا تركوا لنا أطفال بلجيكيين. "

انفجر عاشور بالضحك وجاريتهما بضحكٍ حذر فتشجعَ مغيظ على فتح بالوعته العفنة:

" صدقوني .. أنا ما أجذب .. الخبراء البلجيكيين ناجوا نص نسوان البراكية. "

حينما غادرَ مغيظ سألتُ عاشور بغضبٍ عمّا دفعه لطرح مثل هذا السؤال الأحمق على رجلٍ أرعنَ كمغيظ فراح عاشور يؤكد صحةَ ملاحظتهِ عن الأطفال شقر الشعور:

" ردت أتأكد من صحة توقعاتي. "

قال مفاخراً فتطلعتُ إليه بسخريةٍ لم تردعه بل راح يتحدثُ بإصرارٍ ساذجٍ عن كيد المرأة والخيانة التي جُبلتْ عليها مستعيراً بعض مفردات مغيظ السوقية متباهياً أمامي بتفوقهِ بسعةِ تجاربه مع النساء من خلال علاقاته مع فتيات الجامعة، فبدا أمامي شخصاً آخر وحسبتُ الأمرَ ردة فعل على فشلٍ في علاقة عاطفية وربما بسببِ فشل في إقامة علاقة مع إحدى زميلاته خاصة بعد أن راح يحدثني عن الطموحات البرجوازية لفتاةِ الجامعة:

" حتى رفيقاتنا في الحزب كنّ يفضلن الطالب الغني والذي يملك سيارة وعنده الإمكانيات المادية لاصطحابهن إلى المقاهي والمحلات الراقية. "

ارتفع صوته وتهدلتْ وجنتاه من شدة السكر فراح يردد:

" أما نحن فليس لنا سوى الحسرة وضرب الـ .... "

قاطعته قبل أنْ يكملَ جملته ورفعتُه من ذراعهِ نحو سريرِ هزاع فاستلقى بهمودٍ وارتفع شخيره.

في الطريق إلى المطارِ كان جسده يختضّ وشفتاه يابستين وقد كنتُ أحسبُ في كلّ لحظةٍ بأنه سيمزقُ جوازَ السفر والبطاقة ويعلنُ تخليهِ عن فكرةِ السفر والمجازفة:

" ماذا يعني؟ سأقضي يومين أو ثلاثة بضيافةِ خضير بطنج أو حتى عبيد أو جباره، وسأوقع على قرار 200 وأخرج. "

" هل توقفَ طريقُ الاشتراكية على صمودي؟ "

" حالي حال المئات من الرفاق الذين وقعوا وعادوا إلى عوائلهم ووظائفهم، لا خوف ولا عنتريات ثورية وحشر مع الناس عيد. "

"  وحتى لو بقينا ثوريين يمكن العمل بسرية طالما إن الإعدام هو المصير في كلا الحالين. "

" لماذا إذاً الرحيل والمنفى ومبارزة طواحين الهواء؟ "

" أي حزب هذا، قيادته تهرب وتترك القاعدة وحدها في دوامة!؟ "

" يمعوّد يا اشتراكية يا بطيخ، روح شوف الإتحاد السوفيتي الناس فيه يتسولون وأجمل فتاة تقدم لك جسدها مقابل كأس فودكا أو علك أبو السهم. "

" بعدين أين هو الإتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية اللي ثبرونا بيها؟ "

" سيأتي بريجينيف نفسه يتملق السيد النائب وطز بالأممية والطبقة العاملة. "

" ديميتروف، هه، ديمتروف والجبهة الوطنية. "

" تفووووووو "

تمتدّ يده على جواز السفر. يتطلعُ في صورتهِ بشاربيهِ الكثين ونظرته الجادة. يقرأ الاسمَ بصوتٍ عالٍ وترتفعُ ضحكته وهو يردد:

" بلا عاشور وحيد صابر، بلا بطيخ. "

ثم يمزقُ الجوازَ أو يشعلُ عودَ ثقاب، يقرّبه ببطءٍ من الأوراقِ الخضراء ويستمتعُ بمنظرِ اللهبِ المتصاعدِ من الأوراقِ، من رأسِ النسرِ الشامخِ برعونةٍ، وربما يشعلُ سيجارةً وينفخُ دخانها مغمضاً عينيه بهدوءٍ ونشوة، ربما سيندمُ بعد ذلك ولكن مَنْ قال إنه لن يندمَ بعد أن تطأ قدماه أرضَ الغربة.

غير أنه لم يفعلْ ذلك بل كان يحاولُ أنْ يتماسكَ ويبدو أمامي بمظهرِ القوي، المناضل، السائر إلى جلجلته واثقاً من خلوده أو بعثه، مردداً:

" أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ      بأنّ جراحَ الضحايا دمُ "

مسكتُ كفه كي أوقفَ ارتعاشها فشعرتُ براحتها وهي تقطرُ عرقاً. أدركَ ذلك فاعترفَ لي بقلقهِ وخوفه:

" تعرف! طالبُ المدرسة يشعرُ بالراحة بعد اجتياز الامتحان حتى لو كانت نتيجته السقوط، على العكس من شعوره قبل الدخول إلى قاعة الامتحان. "

تطلعتُ إليه ببرود فأدركَ مغزى نظرتي، فقد كان حذراً من تلفظ كلمة (السقوط) أمامي، وهو يدركُ مدى حساسية أغلب الرفاق الذين تمّ اعتقالهم ووقعوا على قرار 200 من هذه الكلمة لذا فأنه راحَ يبررُ قصده بهمهماتٍ مبهمة وهو يردد كلمة " أعني " دون أنْ يكملَ الجملة. نظرتُ إليه بابتسامةٍ وأنا أربتُ على كتفه، ثم قلتُ له:

" نعم، أتفق معك. إن قلق الامتحان أصعب بكثير من نتيجة الفشل. "

ولكي أبعدَ الموضوعَ عن السياسة والحالة التي هو فيها قلتُ:

" أنا أتخيل أنّ أهل جهنم أكثر سعادة من الأحياء حيث على الأقل أنهم لا يفكرون بالموت والحساب ونار جهنم. "

ارتفعَ صوته بضحكةٍ مخنوقة معرباً عن إعجابهِ بهذه الصورة الشعرية.

وصلنا المطار الساعة الثانية عشرة ليلاً وكان علينا أنْ ننتظرَ أكثر من ثماني ساعات حتى يُفتح الممرُ للدخول حيث أنّ طائرةَ الخطوط الجوية العراقية ستقلع من مطار بغداد في الساعة العاشرة صباحاً.

لا أدري كيف مضى الوقتُ وكم مرةٍ امتدتْ يده تتفحص الجواز والبطاقة لتتأكدَ من وجودهما أو لفكرةٍ خطرتْ في ذهنهِ وأعدلَ عنها، وكم مرةٍ تطلعتُ إليه وأنا أنتظرُ منه اتخاذ قرار العودة الذي يتوقفُ على طرفِ لسانه، وكم مرةٍ ذهبَ إلى دوراتِ المياه لألمٍ في معدتهِ أو ليغسلَ وجهه كي يبقى يقظاً.

أشارتِ الساعةُ إلى الثامنة تماماً، عندها فُتح الممر وجلسَ شاب خلف مكتبِ تدقيق الجوازات وشحن الحقائب، شابٌ مهندمٌ بقميصٍ أبيضَ بكمين قصيرين وربطةِ عنقٍ خضراء، وقفتْ إلى جانبهِ شابة رقيقة نثرتْ شعرها الأسودَ الفاحمَ على كتفيها. شعرتُ بشيء من الاطمئنان، فوجهُ الشاب يوحي بالبراءةِ ولا ينمّ عن الخبث الذي تمتاز به وجوهُ رجالِ الأمن أو المخابرات. أشارَ بيديه إلى المسافرين فتدفقوا نحوه مصطفين بطابورٍ ليس طويلاً. كان من بين المسافرين نساء أجنبيات، فالطائرةُ ستتوجه أولاً إلى أثينا ثم إلى طرابلس الليبية قبل أنْ تنتهي الرحلة في مطار الجزائر. تباطأ صاحبي متردداً فدفعتُه نحو الطابور ووقفتُ خارجه أتطلعُ إليهِ وأوصيه بأنْ ينتبهَ لحالهِ وأنْ لا يتكاسلَ في البحثِ عن العملِ ولا يضعفَ ويشعرَ بالهزيمةِ وأنْ يكتبَ لي باستمرار وأن لا يتحرجَ في طلبِ أيّ مساعدةٍ ثم أشرتُ مازحاً إلى فتاتين كانتا تقفان في الطابور وتتحدثان باليونانية، إحداهما ترتدي تنورةً قصيرة وقميصاً مفتوح الأزرار فظهر جزء كبير من نهديها، لذا فقد كانتْ وصيتي الأخيرة له أنْ " تبّيض وجهنا أمامهن ". لاحتْ على وجههِ ابتسامة حزينة حاولَ أنْ يفتعلها مجاراةً لثرثرتي وبطري . كانتْ وصاياي كلها تشيرُ إلى ما بعد وصوله إلى الجزائر، قافزاً على الدقائقِ الرهيبة القادمة، محاولاً الإيحاء إليه بالفألِ الجيد وإنْ كنتُ أعلمُ بأنه لم يسمع أياً من وصاياي لانحصارِ تفكيرهِ بالدقائق القادمة وكلّ ما بعدها سيهون. قدّمَ جوازَ سفرهِ والبطاقة إلى الموظف وراح يتطلعُ إلى زاويةٍ بعيدةٍ في القاعة متحاشياً النظرَ إلى الموظف الذي انشغلَ بتقليبِ الجوازِ والبطاقة. أشارَ إلى صاحبي أنْ يضعَ حقيبته على الشريطِ المتحركِ ثم أطبق الجواز وفي داخله البطاقة وسلّمها إلى عاشور. علتْ ابتسامة باردة على وجهِ صاحبي وهو يجتازُ الممرَ المحاذي لمكتبِ الموظف ويتجه إلى دهاليز التفتيش الأخرى وقبل أنْ يختفي عن نظري، التفتَ نحوي ثم رفعَ يده مودعاً. أغمضتُ عينيّ وأنا أرفعُ يدي مودعاً كأني أحيطه بحجابٍ يفصله عن أعينِ أولاد الحرام، ثم رحتُ أردد مع نفسي بقلبٍ يفطره الإيمان:

" بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم"

مسحتُ وجهي براحتيْ كفيّ فتبللتْ راحتاي بمطرٍ غزير.

صعدتُ السلالمَ إلى الطابق الثاني حيث كافتريا المطار التي تطلّ بنافذة زجاجية كبيرة على صالةِ الترانزيت. أخذتُ شاياً وجلستُ قريباً من النافذة، أتطلعُ إلى الأسفل بقلقٍ وأدخنُ ويداي ترتعشان. رددتُ مع نفسي وكأني أكتبُ أولى رسائلي إليه:

" إيهٍ يا عاشور وحيد صابر سأنسى اسمكَ الحقيقي فأنتَ الآن تتقمصُ الاسمَ الذي يناسبنا تماماً، يا صاحبي، يا شبيهي، يا توأمي، يا أنا. لو كان بإمكاني أن أحملَ دجلة والفرات لحملتهما وسكبتُ ماءهما خلفكَ كما كانتْ أمي تفعلُ حينما تُدلقُ طاسةَ الماء خلفي متمتمةً بدعاء يفطّر قلبَ الله ليعيدَ ولدها سالماً. "

مرتْ ساعة على دخولهِ جوف المطار ولم يخرجْ بعد إلى قاعة الترانزيت فشعرتُ بخوفٍ وألمٍ في معدتي. هرعتُ إلى دورة المياه، رشقتُ وجهي بحفنةِ ماءٍ بارد محاولاً طردَ الصورة التي علقتْ في جفني، صورة عاشور مكبّلاً يمسكُ بذراعيه شرطيان يقودانه إلى بوابةِ المطار الخارجية سيتلفتُ نحوي كي ينقلَ إليّ رسالة، سأديرُ وجهي عنه متنكراً ومنكراً معرفتي به. يحاولُ أنْ يصرخَ أو يشتمَ أو يرددَ أبيات شعرٍ كان يرددها المناضلون المحكومون بالإعدام وهم يسيرون نحو المشنقة، غير أنّ كفّاً تسقطُ على هامتهِ تحشره في المقعد الخلفي من السيارة التي تنطلق به إلى جهةٍ مجهولة. عدتُ إلى مقعدي في الكافتريا وكانتِ الساعةُ قد شارفتْ على التاسعة والنصف. وقفتُ لصقَ زجاجِ النافذة وقد أطبقتُ كفيّ حول وجهي كي تتوضح الرؤية. دارتْ نظراتي حولَ جميعِ المسافرين وهم يتحركون ببطءٍ بين السوق الحرة والمصاطب. ازدادتْ دقات قلبي شدةً حينما لم تتوقفْ نظرتي حتى على وهمٍ يجسّد لي صاحبي. عدتُ إلى مقعدي وأشعلتُ سيجارةً أخرى ثم نهضتُ نازلاً السلالم. وقفتُ أمام سبورةِ الرحلات الضوئية التي تتغيرُ بسرعةٍ لتحتلَ الرحلةُ إلى أثينا المرتبةَ الأولى في القائمة. تلفتُّ مسترقاً النظر إلى وجوهِ ذئابِ المطار ظناً مني أنْ التقطَ إشارةً تشيرُ إلى فرحٍ مرسوم عليها وقطراتِ دمِ صاحبي على أنيابها، حركة غريبة أو همسة بين شخصين تشيرُ إلى إلقاءِ القبض على مخرّبٍ أو مشبوهٍ كان ينوي تفجيرَ المطار أو يختطف طائرة. عدتُ ثانيةً إلى النافذة ورحتُ أمسحُ أجسادَ المسافرين وزوايا صالةِ الترانزيت بنظراتي حتى استقرتْ على هلالِ العيد الذي يرتسمُ على أفقِ سمائها. كان عاشور جالساً على كرسي مرتفع، مُسنداً كوعيهِ على خشبِ البار وأمامه كأسُ البيرة وعيناه تتفحصان زوايا الصالة. قفزتُ فرحاً ملوحاً إليه فلم يرني فرحتُ أرقبُ كلّ حركةٍ يقوم بها. يرفعُ الكأسَ بحركةٍ بطيئة، يقرّبها من شفتيه مرتشفاً قليلاً منها ثم يعيدها إلى سطحِ البار مدوّراً إصبعه على حافة الكأس وعيناه تغوران في رغوتها كنرسيس هائمٍ بجمالِ وجهه. انفتحتْ بوابةٌ صغيرة في يسارِ الصالة ووقفتْ عندها فتاة في زيّها الأخضر. تقاطرَ نحوها المسافرون. نهضَ عاشور بعد أن عبّ بقايا كأسهِ وسارَ بتؤدةٍ وثبات حتى وقفَ في آخر الطابور. توقفتِ المضيفة وهي تقلّب جوازَ سفره وتتطلعُ إليه فحسبتُ الثوانيَ دهراً.

" علي.. يا علي.. يا علي.. قولي علي.. قولي علي.. علي.. علي.. خرجَ رأسُه.. علي.. اضغطي.. علي.. شدّي.. قولي علي.. يا علي.. يا داحي باب خيبر.. علي.. قولي علي.. علي.. علي.. خرجتْ كتفه.. علي.. داحي باب خيبر.. قولي علي.. علي.. اضغطي.. بعد.. بعد.. علي.. علـ... ي ي ي ي ي ي ي ي ي.. خرجَ جسده.."

سلّمته القابلةُ جوازَ سفره وهي تبتسمُ فاندفعَ صاحبي خارجَ الرحم.        

" ولدْ.. ولدْ.. ولدْ.. زغاريدُ طويلة وبكاءُ وليدٍ يملأ الفضاء.. خرجَ الطفلُ من رحمِ الأرض.. خرجَ الطفلُ عاشور أو حميد أو جبر أو.. مدفوعاً بقوةٍ مجهولة.. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود.. حبا الطفلُ على يديهِ ورجليه.. تعَ تعَ تعَ تعَ تعَ.. نهضَ الطفلُ متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله.. سور سليمان ابن داوود.. خطا الطفلُ خطواته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي توّاتي.. تاتي توّاتي.. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولة.. العيونُ ترقبه بحذر.. تقيسُ خطوته.. تروزه.. تتفرسُ في وجههِ.. سيكونُ طبيباً .. لا.. مهندساً.. ردتكْ ما ردتْ دنيا ولا مالْ.. الحسّاد كثر.. الأعداءُ كثر.. عدوّكْ عليلْ وساكن الجول..  احذرْ من أصدقاءِ السوء.. احذرْ من أولادِ الحرام.. قلْ أعوذُ بربّ الناس.. احذرْ من الغجر سيسرقونكَ ويعلمونكَ الرحيل إلى مدنهم البعيدة.. لكنّ الصبي سيرحلُ إلى المدنِ البعيدة.. نعم سيرحلُ الصبي.. بلا غجرٍ ولا بوصلة.. رحلَ.. ارتقى سلالمَ الطائرة.. وقفَ في أعلى السلّم.. رفعَ ذراعيه كأنه يجرّب الطيران بقوادمَ مكسورةٍ وحوصلةٍ زغبةٍ.. رفعَ ذراعيه ملوّحاً إلى نقطةٍ في هذا الفضاء.. مودّعاً ماضيه.. الماضي الذي هو بضعُ دقائق لا غير.. ابتلعه جوفُ الطائرة.. أغلقَ البابُ.. تحركتِ الطائرةُ ببطءٍ على المضمارِ المرسومِ بدقّة.. سارتِ الطائرةُ بحركةٍ سريعة.. سريعة.. سريعة جداً.. ارتفعتْ مقدمةُ الطائرة.. ارتفعَ الدولابُ الأمامي قليلاً.. تحررَ من جاذبيةِ الأرض.. ارتفعَ الدولابان الخلفيان.. ارتفعتِ الطائرةُ في الفضاء.

ماتَ الطفلُ.. ماتَ جبرْ.. ماتَ جبرْ.. تاركاً حكمته الأبدية:

" جبرْ من كسْ أمه للقبرْ. "

كان اسمه (جبرْ)، ليس مصادفةً، لا أعني هنا (جبرْ) صاحبَ الحكمةِ الخالدة، بل جبر الزبّال أو جبر الأعور كما كنّا نناديهِ بكلّ فظاظةِ أرواحنا ووساخةِ ألسنتنا. كانتْ مهمته جمعَ الأزبال صباحاً، وهذا ما كان سبباً لانتقامِ الناسِ منه وكان سبب مأساة جبر.

" مَنْ قال إن الناس أوادم؟ "

" إنهم أقذر من الخنازير. "

" وأحطّ من الضباع. "

كانَ يخرجُ أحدهم صباحاً إلى عملهِ مردداً لتملقِ الرازق الساتر بآياتٍ من القران، ولكن ما أنْ يصطدمَ بوجهِ جبر الحزين حتى ينسى ما كان يردد فيشتم هذا اليومَ الأسودَ الذي يبدأ صباحه بوجهِ الأعور.

" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. "

" أيّ فألٍ سيء يحمل هذا الصباح؟"

" منين يجي الخير إذا أول ما فتحنا عيونه شفنه الأعور. "

" يا ربي سترك. "

" اجعله خير يا ربي. "

" تفوووووو عليك يا أعور. "

ينزوي جبر الزبال في منعطفِ الشارع. يقرفصُ قبالةَ عربةِ الأزبال وهو يلفّ سيجارته. يتطلعُ إلى وجهِ السماء، إلى وجه الله الأعمى.

" إلهي.. سيدي ومولاي.. لا اعتراضَ على حكمتكَ.. يا خالقَ السماواتِ والأرض وخالقَ جبر الأعور.. لا اعتراضَ على إرادتك.. "

يطأطئ رأسه إلى الأرض راسماً بعودٍ دوائرَ مبهمةً ثم يمحوها. يرفعُ رأسَه إلى السماءِ مرة أخرى بعينين دامعتين:

" إلهي.. يا عظيم يا جبار، عبدك الحقير جبر يسألك فاغفر له نفاد صبره وقلة حيلته، يسألك يا رحيم يا غفار... "

تتغيرُ ملامحُ جبر محركاً يديهِ بغضبٍ كأنه يحاولُ الإمساكَ بعنقِ الفضاء:

" أخ القحبة لو أنا الله ، تقبل أخلقك جبر؟ "

" تفوووووووو "

ثم يمسحُ وجهه من الرذاذِ النازلِ من السماء، وينهض.

الطائرةُ نقطةٌ سوداء في الفضاء.. تصغرُ.. تصغرُ حتى تتلاشى .

يا عاشور.. يا صاحبي.. يا شبيهي.. يا توأمي.. يا أنا. أنتَ الآن حرّ في السماء.. تحتكَ العراقُ تماماً.. لا تدعِ الفرصةَ تفلتُ منك.. حققْ لي ما أعجزُ عن فعله.. حققْ رغبتي وإنْ كانتْ رغبة مجنونة أو ساذجة. بالأمسِ أخرجتُ قضيبي ورسمتُ دائرةً بولية حول المعسكرِ وكأنني أنتقمُ لنفسي ولضعفي أمام مسخٍ تافه، ولكني أدركتُ بعدها أنّ العراقَ كلّه معسكر وأينما تولّ وجهكَ ثمة ألف عبد القادر كلهم قادرون على إذلالكَ أو إلغاء وجودكَ من على سطحِ الأرض.

يا عاشور.. يا صاحبي.. يا شبيهي.. يا توأمي.. يا أنا.. أنتَ الآن فوق العراق تماماً.. أخرجْ قضيبكَ من نافذةِ الطائرة وارسمْ دائرةً بوليةً تحيطُ العراقَ كلّه.. بُلْ.. على هذا الوطنِ الزريبة، الوطنِ السجن، الوطنِ الماخور.

" ماخور.. "

" عفواً، ماذا قلت؟ "

سألني سائقُ التاكسي وأنا عائد من المطار، فأشرتُ إليهِ أنْ يتوقف. فتحتُ بابَ السيارة الأمامي وتقيأتُ حتى أفرغتُ كلّ ما في معدتي من سائلٍ أصفرَ تلوح عليه بوضوح خيوط حمراء.

بغدادُ ضيقة كأنّ الناسَ فيها محشورون في قفصٍ أو كأنهم سمك السردين. الشوارعُ قِدرٌ ساخن يرتفعُ منه بخارٌ وتصطدمُ ذراته ببعضها. الرصيفُ مضمارٌ موحلٌ والسائرون يمضون بحذرٍ إلى غاياتٍ مجهولة. هل كان بسبب ما يجري في البلد؟ أم أنهم سادرون بنسيانهم ولا يعرفون اتجاه الطريق. مشيتُ في كلّ الاتجاهات بحثاً عن الطريق، أيّ طريقٍِ كان، كأنني أبحثُ عن المعنى في هذه اللوحةِ الغريبة الملطخةِ بألوانِ الانفعال والعبث رسمتْها يدٌ مرتعشة من خوفٍ أو مرض. توقفتُ على الرصيفِ متلفتاً إلى كلّ الجهات. لم أكنْ خائفاً بل لكي أبحثُ عن طريقٍ يوصلني إلى معنىً لضياعي. لم يعدْ يهمني ما يجري في البلدِ وكأنّ قرار 200 الذي وقعتُ عليه لم يكنْ تعهداً بعدمِ الانتماء إلى أية جهةٍ سياسية وإنما صار تعهداً أمام نفسي بأنْ لا أنتمي إلى شيء. لم أكنْ قبل ذلك حريصاً على انتمائي بل لم أفهمْ سببَ انتمائي، ولكنّي أشعرُ الآن وكأني فقدتُ شيئاً عزيزاً عليّ. كان انتمائي نزوةً.. نزوة حملتْها اللقالقُ للقبابِ الزرق، ولكن حينما جاعتْ تخلّتْ عن سمّوها الشاهق لتسفّ.. تسفّ من أجلِ ضفدعةٍ في ماءٍ آسن.. فطغى صوتُ النقيقِ على الموسيقى الكونية التي كانتْ تطمحُ الروحُ لسماعها في لحظةِ تأملٍ تفلتُ من عمرِ الزمنِ الوحشي.

لقد كان لانفلاتِ صاحبي من قبضةِ الجبابرة أكثر من معنى، هل كان الأمرُ بهذه السهولةِ غير المتوقعة؟ هل أنا جبان؟ وأسئلة كانتْ تترى في ذهني بسرعةٍ خاطفة، أسئلة تفجرّها المقارنةُ بيني وبين عاشور فهل دبّ الحسدُ في نفسي؟ هل عادتْ تراكماتُ الطفولةِ تحاصرني من جديد؟ من منّا تفوق الآن على صاحبهِ؟.

المنفى! مفردةٌ جديدة دخلتْ عالمي بسرعةٍ غير معقولة، منفى الخارج المتمثل في جواز سفر مزور ومجازفةٍ وغربةٍ ورحيل إلى مدى مجهول ومنفى الداخل المتمثل في خيمةٍ وحيدة، وكلّ الطرق تؤدي إلى المنفى حينما لم تعد للوطن قيمة أو معنى.

ارتفعَ صوتُ آذانِ الظهرِ من سمّاعةٍ معلّقة في عذقِ نخلةٍ وسطَ الجامع فتسمرتُ في مكاني مُصغياً إلى نداءِ مستضعفين يُبشرهم خالقُهم بأن اللهَ أكبر. رددتُ مع نفسي وأنا أنظرُ باتجاه الصوتِ لعلّي أستطيعُ لمسَه بيدي موقناً، موقناً بأنّ اللهَ أكبرُ وأقدرُ من النقيبِ عبد القادر، أكبرُ من جلادٍ يستطيع إلغائي بنزوةٍ، أكبرُ من قاتلٍ ضئيل، وله ذراع طويلة وقوية تمتد لتشلّ يدَ القاتلِ الجبان قبل أنْ يضغطَ على زنادِ مسدسه. عدتُ إلى نفسي فوجدتُني عاجزاً عن فعلِ أيّ شيء، أنتظرُ قدميّ تتخذان القرارَ وما عليّ سوى الطاعةِ العمياء. ضياع بلا بوصلةٍ أو ببوصلةٍ عاطلة تشيرُ إلى كلّ الاتجاهاتِ في وقت واحد.

بغداد ضيقة والكوتُ ماضٍ مؤلم يحاصرُ الروحَ بذكرياتِ طفولةٍ بائسةٍ وشبابٍ مقموعٍ ولم يبقَ لي من هذا الوطن سوى خيمةٍ على نهر الفرات. أبحثُ في ما أنا فيه عن رمزيةِ وجودي أكثر من بحثي عن وجودي الحقيقي، فرات.. عطش.. حصار.. قتل.. قضية خاسرة، عويل.. عويل يمتد قروناً. خيمة.. بدو.. صحراء.. رحيل.. نفي.. غدر. خيمة تختصرُ كلّ المسارات التي علينا أن لا نتجرأ ونختارَ غيرها، وطن ومنفى وسجن. هناك حيث لا أحد سوى عجوز يلوكُ بفمٍ أدرد ماضيه كنواةِ تمر.

استيقظتُ صباحاً على صوتِ منبّهِ سيارةٍ قربَ الخيمة فخرجتُ بفرحٍ مستقبلاً القادم الجديد، المنفي الجديد الذي سيقاسمني الخيمةَ والصمت. ترجلَ رجلٌ شارفَ على الخمسين من عمره يحملُ حقيبةً صغيرة، رماها على الأرضِ متأففاً وهو يشتمُ يوماً أسود. لم يفاجئه وجودي كإنسان بدائي يعيش على ضفافِ الأنهار ويقتاتُ على عشبِ الأرض، بلحيةٍ كثةٍ ووجهٍ لم أره في مرآة منذ ثلاثة أيام. تطلعَ إليّ كأنه يعرفني:

" حميد.. مو؟ "

قال ومد يده نحوي مصافحاً.

" نعم. "

أجبتُ باستغرابٍ لمعرفتهِ اسمي فأخبرني بأنه الموظفُ الإداري المكلّف بترتيبِ أمورِ المشروع.

" المنفي الجديد؟ "

قلتُ بسخريةٍ فتطلعَ إليّ كأنه يروزني أو يكتشفُ ما أخبئ من إشارة وراء ما قلته. شعرتُ بندمٍ أو خوف فسألته محاولاً إضفاء شيء من المرحِ أو اللاجدية في الكلام:

" سمعتك تشتم اليوم الأسود، أي يوم تقصد؟ "

ثم أضفتُ:

" وهل هناك ألوان أخرى؟ "

تطلعَ إليّ بابتسامةٍ خبيثةٍ تشيرُ إلى أنه أدركَ القصدَ ثم انفجرَ بضحكةٍ هازاً ذراعي بحرارة وهو يردد:

" سبحان الجمعنا بغير ميعاد. "

جلسَ على حافةِ سريرِ الحارسِ واضعاً رأسه بين كفيهِ متطلعاً بحزنٍ إلى أطرافِ الخيمة المهترئة كأنه لم يصدقْ أنّ الرحلةَ قد انتهتْ به إلى هذا المكان النائي، ثم فجأةً نهضَ وهو يقهقه بصوتٍ عال. تطلعَ إليّ فوجدني أنظرُ إليهِ محاولاً فهم ما يُضحكه. وضعَ يده على كتفي وخاطبني كأنه يحسم أمره ويرضى بالأمر الواقع:

" يلا، بالعربان ولا بالتربان. "

ثم أضافَ بحزنٍ:

" وقلْ ما يصيبنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا. "

كان حامد سلطان، وهذا هو اسم الموظفِ الجديد، رجلاً مرحاً على الرغمِ من الحزنِ الريفي الظاهرِ في عينيه. يتحدثُ بلهجةٍ قريبة من الفصحى مطعّمة بأبياتٍ شعرية وآياتٍ قرآنية وأدعية، وعلى الرغم من مرحهِ وسخريته المُرة إلا أنه كان جاداً في عملهِ دون قصدِ تملقٍ بل ربما كان يسعى " لتحليلِ خبزته " كما كان يردد، فبعد ساعةٍ من وصولهِ إلى الخيمة باشرَ عمله الإداري. أخرجَ من حقيبته أوراقاً رسمية ودفترَ شيكات وراح يتحدثُ عن البدء بتهيئة أمور العمل قبل وصول المهندس المشرف على المشروع وطاقمِ العمل من موظفين وفنيين وخبراء أجانب. ذهبنا معاً إلى مدينةِ الكوفة والنجف بحثاً عن سماسرة لتأجيرِ بيوتٍ خاصة للمشروع. ولأن له صلاحية بدفعِ أيّ مبلغ يطلبه المؤجر فقد حصلنا على وعودٍ أكيدة بالحصولِ سريعاً على بيوتٍ للإيجار. قضينا معظمَ النهار في هذه المهمةِ، وبالسرعةِ ذاتها سقطتِ الكلفةُ بيننا وانهارَ جدارُ الاحترازِ فشعرَ كلانا بطمأنينةٍ وإلفةٍ لا تناسب الساعاتِ القليلة التي عرفنا فيها بعضنا. استأجرنا في فندقٍ نظيف غرفةً بسريرين تطلّ على الصحنِ الحيدري. أبدى استغرابه من أني قضيتُ الأيامَ السابقة في الخيمة فأخبرته مازحاً:

" كي أحرسَ الفرات. "

ارتفعتْ ضحكته ولكن سرعان ما دبّ الشك في مزاحي فتطلعَ إليّ وبنظرةٍ جادة سألني:

" ممنْ تحرس الفرات؟ "

قلتُ وقد كنتُ أتوقع سؤاله:

" من جيش ابن زياد. "

تطلعَ إليّ بحزنٍ وقد برقتْ في عينيهِ دمعتان تداركَ نزولهما مغمضاً عينيه، هازاً رأسه بعلامةٍ تشير إلى مشاطرتي الرأي ومعجباً بفطنتي، ثم سادَ صمت بيننا قطعه ارتفاع أذانِ المغرب فهبّ واقفاً وهو ينتظرُ مني استجابةً أو مجاراةً له، وحينما لم يجدْ ما يرجوه ابتسمَ بغموضٍ وقد غادرَ الغرفةَ ففسرتُ ابتسامته على أنها خيبةُ أملٍ وهذا ما عرفته في ما بعد، فقد  كان حامد سلطان وعلى الرغمِ من تدينه إلا أنه كان متسامحاً معي ومع نفسه فقد كان راويَ نكتةٍ بارعاً ويحفظُ قصائدَ طويلةً من شعرِ أبي نؤاس والحاج زاير، ويستمعُ إلى الغناء بمتعةٍ مردداً في بعض الأحيان وبطربٍ يصلُ حدّ البُحران:

" وحياةِ عينكَ وهي عندي مثلما الإيمانُ عندك "

عادَ حامد سلطان في ساعةٍ متأخرة من الليل. فتحَ البابَ بهدوء فافتعلتُ النوم. لم يُضئ المصباح لكن ضوء قبّة الضريح والمنائر الذهبية كان كافياً لإضاءة الغرفة. خطا خطوتين ثم توقفَ وسط الغرفةِ وهو يتشممُ الرائحة الغريبة. أدركتُ أنه عرفَ طبيعةَ الرائحة ومصدرها حينما راحَ يستغفرُ الله بصوتٍ عال، متعوذاً به من الشيطان الرجيم. خلعَ ملابسه ببطء متذمراً بزفراتٍ كان يُصدرها محاولاً إبلاغي احتجاجه على سلوكي الذي ينافي أعرافَ مدينةٍ مقدسة كالنجف والتي يعتبر فيها شرب الخمر جريمة بحق الدين والأعراف، فظننتُ أنّ الفراقَ قد حانَ بيننا ولم نكملْ يوماً واحداً معاً أو على الأقل أن بيننا شيئاً قد انكسرَ ويصعب إصلاحه. استلقى على سريرهِ وهو يتمتمُ بأدعيةٍ تصبّ كلّها في لعنةِ الظالمين، ولعلّه قد أكتشفَ بأني صاحٍ فراحَ يحدثُ نفسه بكلامٍ يبغي منه إسماعي عن طيشِ الشباب وغرورهِ وعن الملحدين الذين ورّطوهم بأفكارهم الملعونةِ وسياساتهم الغبية مردداً مقاطع طويلة من قصيدةٍ تشيرُ بوضوحٍ إلى المعنى الذي كان يريد إيصاله إليّ:

" سوّاهُ من دنسٍ فماتتْ عنده         فِطَرٌ سليماتٌ ولُوّثَ منـزعُ

 فالله وهـمٌ والعقيدةُ كـلّـها        ترفٌ وما تبعتْ وما تستتبعُ

 ما الفردُ إلا معدةٌ وغـريزةٌ         وسـواهما أكـذوبةٌ وتصنعُ

 حتى إذا الطغيانُ طاح بأهله        وكبا به بغيٌّ وأوشكَ يُصرعُ

 ألقى لنا صوراً تعدد نعتُها          ........................... "

(هذا ما استطاعت ذاكرتي أن تحتفظ به)

تحركتُ بعد أنْ أدركتُ أنْ لا نفعَ من وراء التمثيل فارتفعتْ ضحكته كأنه قد ضبطني متلبساً بالتحايل. أسندتُ رأسي على مسند السرير الحديدي وأشعلتُ سيجارة دون أن أنظرَ إليه فراح يقهقه بسخريةٍ تنمّ عن شماتة واضحة، مردداً:

" ما يفيد.. لا العرق ولا الندم ولا عضّ الأصابع. أنتم أغبياء. "

نفختُ دخانَ السيجارة مصحوباً بحسرةٍ لا تخلو من الافتعال، فراحَ يتمتمُ بصوتٍ هامسٍ كأنه يحدثُ نفسه:

" أغبياء.. نسيتم ماذا فعلوا بكم في شباط 63 ..."

توقفَ قليلاً ثم ارتفعَ صوته بنبرة أعلى لا تخلو من حزنٍ صادق:

 " ملاعين الوالدين.. جبناء.. ليش ورّطتوا هالشباب وتالي عفتوهم وهربتوا... هه ، وهذي النتيجة. "

لم أجبه بشيء فاستأنفَ حواره مع نفسه مؤنباً أولئك القادة الذين يعيشون في المريخ مكرراً كلمة (أغبياء) قبل كلّ جملة ينطقها:

" أغبياء.. لو سألتم الناس البسطاء والأميين لأخبروكم بحقيقة أمر أولاد الشوارع ذول وتاريخهم الوسخ وغدرهم ونذالتهم ... "

ثم التفتَ نحوي وهو يردد:

" نمْ أخي .. نمْ، واتقِ الله! "

ثم وبطريقة لا تخلو من الفظاظة خاطبني مباشرة:

" بدل هذا السمّ اللي تشربه قوم أخذ لك ركعتين واستغفر ربك. "

أدارَ وجهه إلى الحائط وبعد بضعِ دقائق ارتفعَ شخيره.

لم يغيّر اختلافنا من المودة التي جمعتنا بل على العكس صار الحديثُ بيننا دون ألغازٍ أو مجاز، فكنا نقضي الوقتَ بالحديث عما كان يجري في البلد وباتفاقٍ غير معلن صار كل منا يمارس طقوسه الليلة بعد أن انتقلنا إلى بيتٍ في مركز مدينة الكوفة دون أن نتدخل بشؤون بعضنا على الرغم من النصائح التي كان يحاولُ أن يُهديني بها إلى جادة الصواب في نظره. كان البيتُ واسعاً وبغرفٍ كثيرةٍ تحيطه حديقة واسعة وطارمة واسعة يفصلها عن الباب الخارجي ممرٌ مسقوفٌ بعريشةٍ من شجر العنب الذي تدلّتْ منه عناقيد كبيرة. الطابقُ السفلي من البيت صارَ مركزاً لإدارةِ المشروع وأما الطابق العلوي فقد اتخذنا من إحدى غرفتيه سكناً لنا. كان حامد سلطان يقضي الليلَ في الغرفة بالصلاة أو بتحريكِ مؤشرِ المذياع بحثاً عن نشراتِ الأخبار التي كان يتصدرها خبرُ المظاهرات التي تعمّ شوارع طهران وأخبار الخميني وبياناته ونداءاته المرسلة إلى الشعب الإيراني والشعوب الإسلامية، بينما كنتُ أنصبُ طاولتي على السطح وأشربُ بخفيةٍ وصمتٍ متحاشياً إثارة صاحبي.

وصلَ ثالثُ المنفيين فتغيّر الأمر.

" المهندس عبد الأمير علي أصغر. "

قال معرّفاً بنفسه وهو يقدّمُ كتابَ تعيينهِ إلى حامد سلطان. شاب ذو بشرةٍ بيضاء ووجهٍ مكتنزٍ مائلٍ إلى الصفرةِ قليلاً وبلحيةٍ محددة بعنايةٍ تميلُ إلى الشقرة. تطلعَ إليّ حامد غامزاً بعينه. لم أدركْ ما كان يرمي إليه بإشارته حتى وضّحَ لي الأمر حينما انفردنا:

" منفي ثالث. "

فتطلعتُ إليه مستوضحاً الأمرَ أكثر، فأضاف ساخراً:

" سنشكل جبهة معارضة حقيقية. "

وحينما أدركَ بأني لم أفهمْ قصده صرخَ بصوتٍ عال:

" ألا يوحي لك الاسم بشيء؟ "

هززت رأسي بالنفي فقال:

" الاسم يدل على أن الأخ إيراني. "

في الليلةِ الأولى حدثَ بيننا خلاف حينما رآني جالساً على السطحِ وبالقربِ مني ربعية العرق. اعترضَ على سلوكي بكلامٍ معبَّأ بعدوانية مكبوتة. حاولتُ أن أخففَ من ثورتهِ ضدي بعباراتِ المجاملةِ والمزاحِ غير أنه ازدادَ إصراراً وعدوانية محاولاً كسبَ حامد سلطان إلى جانبه، على الرغم من أنّ الأخيرَ اتخذَ موقفَ المترقب لما يدورُ بيننا بصمتٍ حسبته انحيازاً واضحاً إلى الجانب الأخر. لم يكتفِ عبد الأمير بالعباراتِ الفظّة التي كان يوجهها إلي بل صعّدَ سقفَ مطالبه بأن يقيمَ أحدنا في البيت:

" إما أنا أو أنت. "

قال بشكلٍ حاسم فأجبتُه ببرود:

" أنتَ حر، بإمكانك أنْ تبقى أو تترك البيت. "

تطلعَ إليّ بنظرةِ استعلاء وقال:

" ولكن أنا مهندس ومساعد مدير المشروع وأنت مجرد موظف صغير. "

مسكتُ كتفه بغضبٍ بعد أنْ نفدَ صبري وقلتُ له هامساً وأنا أحدّق في عينيه:

" ولكن أنا عراقي وأنتَ.... "

 ثم توقفتُ ندماً عن إكمالِ الجملة. تراجعَ إلى الخلف وهو يرمشُ بجفنيهِ ويدعكُ وجهَه بكلتا راحتيه بهيستيرية وخوف، وقبل أنْ أعتذر له عمّا قلته سبقني هو إلى الاعتذار فتألمتُ لحالهِ بل تألمتُ على دورِ البعثي الذي تلبسني كجدارِ دفاعٍ ضده أو كوسيلةٍ لإخراسه. تدخلَ حامد سلطان بيننا مُصلحاً فانتهتِ المشكلة بحلّ وسطي وهو أنْ يقيمَ هو في غرفة وحده وأن لا أشرب العرق في البيت. رضختُ للأمرِ على مضضٍ جاعلاً من قضية الشرب مبدأ لن أتنازلَ عنه حتى لو كان بقرار 200 آخر، فصرتُ أذهب كلّ ليلة إلى مدينة (الكفل) التي تقعُ بين مدينتي الحلة والكوفة لا حباً بالشرب بل كنتُ أشعرُ بأني أنتقمُ من جلاديّ الجدد وأنتشلُ من بين أنيابِ الواقع حقاً من حقوقي، وحينما أعودُ إلى البيت أذهبُ لأنامَ دون أنْ أنطقَ بكلمةٍ مع أحد، حتى وصلَ مديرُ المشروع وأقام مع عائلته في بيتٍ قريبٍ من بيتنا. ولأنه كان خاضعاً لقرارِ المنعِ من قبل زوجتهِ فقد كان يأتي عندنا كلّ ليلةٍ لتتحول الحديقة إلى حانة صيفية، ولم يستطعْ أحد أن يعترض. كان هادي حسن شيوعياً قديماً تركَ الوظيفة في مؤسسة الطرق والجسور منذ بداية السبعينات وعاد إليها مجبراً وفق قرار مجلس قيادة الثورة الذي يفرضُ على كلّ الموظفين المستقيلين العودة إلى دوائرهم الأصلية، لذا فقد كان ناقماً على السلطة وغير جاد في العمل، يستيقظ ضحى ولا يأتي إلى موقع العمل إلا قبل نهاية الدوام بساعةٍ أو ساعتين. مع وصول المدير رجحتِ الكفة إلى جانبي، ليس بمسألة الشرب فحسب بل بالآراء السياسية فكان يطلقُ تصريحاتٍ بتحفيز مني تستفز الطرفَ الثاني من الجبهةِ الرباعية التي تجمع أطرافها قضيةٌ واحدة وهي الحقد المعلن على السلطة والبعثيين، فكان يرفع كأسه في بدايةِ الجلسة نحو حامد وعبد الأمير المشغولين بسماعِ أخبار الثورة الخمينية في إيران صارخاً بصوتهِ البغدادي الأبح:

" بصحةِ شاهنشاه آريامهر. "

فكنتُ أرى الغيظ طافحاً في عينيْ عبد الأمير كأنه لا يتوعدني بنارِ جهنم في الآخرة فحسب، بل في الدنيا والآخرة معاً، وقبل أنْ يغادرَ المدير إلى بيته يتطلعُ إليهما بعينين مغمضتين مشيراً بسبابته وهو يترنح:

" ثورة بدون عرق فلسين ما تسوه. "

عدتُ من العملِ عصراً فأخبرني حامد سلطان بوصولِ رسالةٍ إليّ. فتحَ جرار مكتبهِ وناولني مظروفاً صغيراً وهو يتطلعُ إليّ بفضولٍ منتظراً أنْ أخبره عن المرسل. أخذتُ الرسالة وصعدتُ إلى الغرفة متجاهلاً نظراته المستفسرة عن سرّ لم أبحْ به إليه في أحاديثنا السابقة. كان المظروف مفتوحاً وخالياً من العنوان سوى عبارة (عاشور وحيد صابر ـ الجزائر العاصمة). ثلاثُ أوراق كبيرة مكتوبة بخطٍ ناعم بدأها بالتحية والشوق إليّ وإلى الوطن (الحبيب) وعبارات تمويه أخرى كأنه كان على يقينٍ بأن رقابةَ البريد ستطلعُ عليها، ثم راح يسرد عليّ قصةَ سفرهِ من صعودهِ الطائرة حتى وصوله العاصمة الجزائرية بعباراتٍ ملغّزة لكنها مترعة بفرحٍ وزهو مَنْ اجتازَ امتحاناً عسيراً بتفوق، وقد أفردَ مساحةً كبيرة من الرسالة في سردِ قصةٍ بدتْ لي من وحي خيالهِ كفكرةٍ تراود كلّ مسافر، حيث كتبَ عن مسافرةٍ يونانية جلستْ لصقه وعن نخبِ الويسكي الذي شرباه معاً حالما أقلعتِ الطائرة والحديث الذي دارَ بينهما واصفاً جسدها بدقةٍ وهي تستديرُ نحوه مسندةً جانبَ رأسها بشعرها الأشقر الطويل على مسندِ الكرسي وتغفو بوداعة طفل آمن.

" ... تاركةً أزرارَ قميصها مفتوحة فأندلقَ نهداها البارعان منفلتين من أسرِ القميصِ الزهري الشفاف كعنقودِ عنب دانٍ ومتدلٍ من غصنِ كرمةٍ في الجنةِ على شفتيّ الظامئتين واللتين جففهما الخوف. "

 واصفاً قطراتِ العرق وهي تنحدرُ من خلف أذنها منسابة ببطء على عنقٍ مرمري بضّ.     " لتستقر في كوثر ما بين النهدين. "

" افتعلتُ النومَ فأسندتُ رأسي باتجاه رأسها حتى اختلطَ شعري بشعرها. لم تمانعْ بل أدارتْ صفحةَ وجهها فلامستْ خدي والتقتْ أنفاسنا. ندتْ عنها آهة قصيرة. ألقتْ رأسها على كتفي حتى لامستْ شفتاها عنقي واستقرتْ يدها على صدري الذي كان يرتفعُ وينخفضُ بحركةٍ واضحة فأحطتُ كتفها بذراعي ".

توقفتُ عن القراءة متخيلاً صاحبي وهو جالس وسطَ حورِ العين يغترفُ من الكوثرِ متعته، مرتشفاً ما يشاءُ من نهودٍ وشفاه، وإني وإنْ كنتُ واثقاً من أنّ ما أقرأه ليس إلا خيالاً أعرفُ أنّ صاحبي بارعٌ فيه إلا أني فرحتُ بنشوتهِ وسايرتُ خياله بخيالٍ موازٍ محاولاً تغيير النهايةِ التي كنتُ أتخيلها، وقد صدقَ حدسي، فحينما عدتُ إلى الرسالةِ حاثاً صاحبي أنْ يكونَ شجاعاً ويمدّ يده بجرأته لاجتيازِ المطارِ بجوازه المزور، ببطء يمسّد العنقَ نازلاً نحو النهد، يحمله براحةِ يدهِ الواثقة من ثباتها ثم يقرّبه من شفتيه، لاحساً حلمته وهي تتنهد، تتوسلُ بفارسها العربي أن يُطفئ ظمأ شهوتها الأغريقية، ثم يغيبا بقبلةٍ طويلة وهما يجتازان البحرَ الأبيض المتوسط ليضيئا ظلماته بنورِ الشهوة. لكن ..

" استيقظنا على صوتِ المضيفة وهي تطلبُ منّا ربطَ الأحزمةِ فالطائرةُ على استعدادٍ للهبوط في مطار أثينا ".

ضحكتُ .. ضحكتُ حينما قرأتُ الخيبةَ التي كنتُ أتوقعها، لكنّ عاشور وكعادته لا يستسلمُ بسهولةٍ حتى في أوهامهِ، فقد حاولَ أن يخلقَ نهايةً أخرى للقصةِ كعزاءٍ للخيبة.

" حينما هبطتِ الطائرةُ في مطار أثينا ودّعتني بقبلةٍ ساخنةٍ وكتبتْ لي عنوانها ودعتني لزيارتها في أي وقتٍ أشاء. "

وصلتِ المكائنُ الثقيلة من بلدوزرات وشفلات وحادلات، ونصبتْ الخبّاطة المركزية بعد أنْ قمتُ بنقلِ مخططها على الأرض. وصلتْ إدارةُ الشركة اليابانية المكلفة بتنفيذِ المشروع وأقامَ عمالُها الكوريون في الحي نفسه حيث نقيم. انتقلتْ إدارةُ المشروعِ من البيت الذي نقيمُ فيه إلى موقعِ العمل فاتخذَ كلّ منا غرفةً خاصة به، غير أنّ عبد الأمير لم يكفْ عن تلصصهِ عليّ وتشممه كلما اقتربَ من بابِ غرفتي. حاولتُ إرضاءه بالإصغاءِ إلى ما يدور بينه وبين حامد سلطان من دروسٍ في الفقه والتفسير مكتفياً بالصمتِ وافتعال البلادةِ أو افتعالِ الورع، غير أنّ ذلك لم يكنْ يرضيه فقد راح يُبدي ضجره من صوتِ التلفزيون كلما شاهدني غارقاً في متابعة فيلمٍ أو أشاهدُ أغنيةً فيطفئ التلفزيون دون أنْ يطلبَ إذناً مني مردداً عباراتٍ جارحة بينما كان حامد سلطان وعلى الرغم من إقرارهِ بفظاظةِ سلوكِ صاحبه إلا أنه كان يقفُ على حيادٍ مفتعلٍ، وحينما يوضعَ في موقفٍ لابد من أنْ يقولَ فيه كلمةً كان ينحازُ إلى جانبِ أخيه في الدينِ والمذهبِ ولسانُ حاله يقول " اسلمْ تسلمْ ". وتلافياً لإثارةِ ضغينته امتنعتُ عن مشاهدةِ التلفزيون مؤثراً العزلةَ في غرفتي أو جالساً معهما وأنا أطالعُ كتاباً أو مجلة. لم يكتفِ بتنازلي بل راح يرفعُ صوتَ الراديو بأغنيةِ الثورة الإيرانية، يرددها بنشوةٍ ويترجمُ بزهوٍ كلماتها لحامد سلطان الذي يُصغي إليه بإعجابٍ مشيرين إليّ بين الحين والآخر بكلماتٍ واخزة وبشماتةٍ بليدة، منذرين الفاسقين والملحدين بالزحفِ الإسلامي القادم قريباً، وإني وإنْ كنتُ أشعرُ بفرحٍ لانتصارِ الثورة الإيرانية لأسباب أجهلها، ربما نكايةً بحزب البعث الذي بدأ الخوفُ يظهرُ جلياً في سلوكِ أعضائه فاستنفرَ أعلامه ضدّ الثورة ونشطَ مخبروه بين العمال للتلصصِ واستراقِ السمع لكلّ حديثٍ يدورُ حول إيران أو الحركاتِ الإسلامية، إلا أني كنتُ لا أرى أنها بديل للنظامِ البعثي خاصةً بعد أن خبرتُ الرعونةَ والتخلفَ من خلال سلوكِ أشخاصٍ مرضى كعبد الأمير علي أصغر أو حامد سلطان اللذين لا يختلفان بالحقدِ على مَنْ هو مثلي عمّنْ عرفته من بعثيين. تحولتْ حياتي في البيت كابوساً بل ظلّ صوتُ المطربِ الفارسي يطاردني حتى في النوم ولم تعد في عالمي نغمة سوى:

" إيرانْ إيرانْ إيرانْ

 خون ومرك وعصيانْ "

حتى حفظتُ الأغنية كلها دون أن أفهم منها شيئاً.

سارَ العملُ بسرعةٍ ملحوظة وارتفعتْ في النهرِ أسطوانات كونكريتية ضخمة. ارتفعتْ رواتبنا إلى الضعف، مع إضافة مخصصاتٍ للخطورة والعمل الإضافي ومخصصات التنفيذ المباشر على الرغم من أنّ أغلب العمل يتمّ من قبل الشركة اليابانية.

بعد التغيير الذي حدث باستلام صدام حسين السلطة المطلقة، خفّ اندفاع وحماسةُ عبد الأمير وحامد للثورة الإيرانية بل تحولَ ضخبهما إلى همسٍ وخوفٍ من الحيطان التي تتنصتُ خاصةً وأنّ حركةً مريبة بدأتْ تظهر بين العمال ووجوهاً غريبة تدخلُ إلى المشروع واجتماعات تعقد أثناء وقت العمل وعمالاً يحضرون إلى موقعِ العمل ببدلاتهم الخاكية ورشاشاتهم ولا يستطيعُ المدير أو غيره الاعتراض على وجودهم، بل كان المديرُ نفسه يتملقُ أعضاءَ النقابة والحزبيين متحاشياً الاصطدام بهم على الرغم من تدخلهم بكلّ صغيرةٍ وكبيرة وتعيين وفصلِ مَنْ يشاؤون من العمال. غليان تحت سطحٍ يبدو راكداً لكنه واضح وينذرُ بانفجارٍ وشيك. الوجوهُ تحملُ ملامحَ تتغيرُ كلّ لحظةٍ. خوف.. ريبة.. حزن.. ارتباك.. وشاية.. وصمت. يغيبُ عامل بشكلٍ مفاجئ وحينما أسألُ عن سببِ غيابه يأتي الجواب مبهماً يدلّ على أنه أخذَ إلى جهةٍ مجهولة لا يعلمها غير الله. تزوجَ حامد سلطان زوجةً ثانية وانتقلَ للسكن في بيتٍ مستقل، ولم يمضِ سوى شهر واحد حتى تزوجَ الآخر فصفا لي الجو وحيداً في بيتٍ واسع وعدتُ إلى ممارسةِ طقوسي بحريةٍ واضعاً سداً كبيراً بيني وبين ما يدور في العالم الخارجي. زارني بعضُ العمال بشكلٍ مفاجئ بحجةِ السؤال عن صحتي أو لتخفيفِ وحدتي وربما يبالغ أحدهم في اللياقةِ والكرم فيحملُ سفرةَ عشاء إكراماً للغريب الذي بينهم. يجلسُ الضيفُ وعيناه تزوغان في أرجاء البيت. يتطلعُ تحت الكنبات والكراسي وخلف التلفزيون، يقرأ أيّ قصاصة مرمية على الأرض أو على الطاولة، يسألُ عما أقرأ وعمّن ألتقي. في البدءِ كنتُ أخفي قنينةَ العرق حينما يحضرُ أحدهم ولكني اكتشفتُ بعد ذلك أنّ مشاركةَ الزائرِ لي في الشربِ تجعله بعدَ الكأس الثانية يفتحُ خرْجَ أسراره أمامي فيبوحُ لي بالمهمةِ التي جاء بها وربما كشفَ لي عن عددِ التقاريرِ التي كُتبتْ عني وعمّا تدور، وحينما يغزّر فيه العرق والدخان يتحولُ إلى نديمٍ مخلص فينقلُ لي ما دارَ عني في اجتماعاتهم الحزبية، محذراً إياي من فلانٍ أو فلان الذي يحاولُ التربصَ بي، لذا فقد كان تمثيلي دورَ السكران يشكّل حجاباً بيني وبين مقاصدهم الخبيثة فيخرجُ الزائرُ دون أن يحصلَ على فرصةٍ لمفاتحتي بأمر الانتماء إلى الحزب، وربما كتبَ تقريراً عني واصفاً إياي بالسكير أو " البايع ومخلّص " الذي لا ينفع ولا يضرّ، أو على الأقل بأني لستُ مناصراً للحركاتِ الدينية ولا للخميني، وهذا ما تأكد لي فعلاً في ما بعد.

" هذا شنو حجاره لو حايط!"

قالتْ إحدى الموظفاتِ هامسةً في أذن زميلتها كاتبة الطابعة حينما دخلتُ إلى غرفةِ حامد سلطان طالباً منه أنْ يحررَ لي كتاباً رسمياً. التفتُّ إليها فارتبكتْ ودفنتْ نظرها في الأوراقِ المرمية على مكتبها متشاغلة في البحثِ عن شيء ضائع. سألني حامد عن وضعي الجديد بعد أنْ بقيتُ وحيداً فأجبته بتمثيلِ دور اللامبالاة:

" للحايطْ التزيتْ مامش نفاهه

روح التفارقْ روحْ تتلفْ تراهه "

وقبل أنْ أخرجَ من الغرفة تطلعتُ إلى الموظفةِ بطرفِ عيني فوجدتُها تبتسمُ بخبثٍ هازةً رأسها كأنها تخبرني بأنها استلمتِ الرسالةَ واضحة.

" لستُ حائطاً ولكنْ من أين لكِ أن تعرفي أي خوفٍ ينخرُ روحي وكيف لمثلي أنْ يفكرَ بامرأةٍ ولم يشعرْ يوماً بنبضٍ يسري في عروقِ رجولته. "

رددتُ مع نفسي وأنا أتذكرُ وجهَ الموظفةِ التي لم أعرفْ حتى اسمها، لكنّ ابتسامتها كانتْ ترتسمُ أمامي وأنا أحدّقُ في السقف. أجسّدها أمامي قبل النومِ أو في لحظاتِ السُكر فتتجلى قامةً ناريةً مستغيثةً بحريقي كي يطفئها.. تقتربُ مني شيئاً فشيئاً فأتراجعُ.. تتقدمُ فأتقدمُ نحوها بخطواتٍ خائفةٍ.. تراودني فامتنعُ وأخجلٌ من امتناعي. تحلّ أزرارَ قميصها ببطءٍ وهي تنظرُ إليّ فأتجمدُ في مكاني كثلجٍ يفور.. ترفعُ ساقاً وتضعُ قدمها على الطاولة الصغيرة وهي تخلعُ جوربها فيسطعُ ضوءُ فخذيها.. تخلعُ لباسها الداخلي ثم تطوحُ به في الفضاء وترميهِ على وجهي فأشمُّ فيه رائحة أنوثةٍ متمردة وأتلمسُ رطوبةَ شهوتها فتتشنفُ أرنبة أنفي وأسمعُ صوت خواري.. تقتربُ مني وتمدّ يدها.. تقتنصُ الطائرَ المنزوي في ركنِ قفصه.. تشدّه بقبضةٍ واثقةٍ.. تسحبني منه فأطيعُ متردداً.. تُدخلني مخدعَ عذريتها.. تستلقي على السريرِ فارجةً ساقيها.. وأنا واقف مثل عمودٍ حجري متآكل.. تتمطى فيرتفعُ صدرها كجبلين من مرمرٍ يتفجرُ في قمتيهما بركانا شهوةٍ نارية.. تتأوهُ.. تزفرُ ولسانها يلحسُ شفتها العليا.. تقولُ لي بغنجٍ وعهر " هيتَ لك ". أتقدمُ منها بخوفٍ، وهي تلوح إليّ بيديها:

" تعال!.. تعال! "

أجلسُ عارياً على حافةِ السرير فتهجمُ عليّ، تشدني إليها من شعرِ ناصيتي بغطرسةٍ:

" منيوك.. ألم أقلْ لك بأننا قادرون أن نأتي بك بأي وقت نشاء؟ "

أسمعُ صوتَ النقيب عبد القادر وهو يشدّ شعر رأسي ويبطحني أرضاً.

" أخ القحبة منو حاسب نفسك أنت؟ أكبر شارب أنيج أخته. "

يرتفعُ صوت عبيد بينما يحاولُ خضير بطنج أن ينزعَ لباسي وهو يقهقه بعهر.

" دخيل العباس. "

أصرخُ في داخلي فتحدقُّ إليّ بعيني ذئبٍ يدورُ حول فريستهِ المستسلمة، تقرّبُ رأسي من صدرها العاري تضغطه على نهدها بقوةٍ وهي تتأوه.

" الحسْ صدر سيدتك! "

" ارضعْ ثدي أمك! "

" الحسْ يا كلب! "

أحاولُ استثارة رجولتي، أرتمي عليها، احتكّ بجسدها، ضاغطاً حوضي على موضع شهوتها، اعتصرُ نهدها بقوةٍ فتتشبثُ يدها بشعري:

" أخ القحبة.. ألم توقعْ على قرار 200؟ ألم تتعهدْ بعدمِ الانتماءِ إلى أية جهةٍ سياسية غير حزب البعث؟ "

أسمعُ صوتَ شرطي الأمن. أصرخُ متوسلاً:

" نعم وها أني أفي بوعدي.. لم أنتمِ إلى أي حزب.. أنا أكره الأحزاب.. أكره السياسية.. أكره فهد.. أكره لينين.. أكره مسلم بن عقيل.. أكره أمي.. أكره أبي.. أكره نفسي.. والله العظيم أنا أكره الحياة.. "

" ولكن ماذا تفعل الآن؟.. يا كلب.. هه. "

" أمارسُ العادة السرية. "

ينقضّ عليّ خضير بطنج بقبضتيه الحديديتين راكلاً خاصرتي بقدمهِ الفلاحية وبسطالهِ المدبب. يشدّني من ذراعي ويسحلني خلفه خارجَ غرفةِ التعذيب. نجتازُ ممراً ضيقاً وطويلاً، أشعر بألمٍ شديدٍ في ظهري. يتمزقُ جلدي وتتساقطُ على الأرضِ كتلٌ من لحمٍ وعظام فيصطبغُ بلاطُ الممرِ بخطٍ أحمر بعرضِ كفّ. يفتحُ الشرطيُّ باباً على جهةِ اليمين. يضربُ قدمه بالأرض ويصرخُ:

" أخيراً اعترفَ سيدي بأنه يمارسُ عملاً سرياً. "

" لا سيدي. "

صرختُ محتجاً ورحتُ أوضحُ الأمرَ مصححاً سوء الفهم:

" سيدي.. ما كنتُ أمارسُ عملاً سرياً ولكني كنتُ أضرب جلق "

" تفووووووووو "

تصرخُ بي تستحثني على المواصلة فافتعلُ الشراسة، أغرزُ أظافري في كتفيها، أعضها. صوتٌ يسخر مني فأقاومه منشغلاً بالجسد الذي يرتمي تحتي باستسلام.

" عفيه.. سبع.. حبّاب.. يلا.. تعال.. تعال.. "

يطولُ ارتمائي عليها، فتمتدّ يدها نحو قضيبي، تحركه، تدعكه بقوة، تحاولُ قلعه من جذره، لكنّه غارق في موتهِ، حتى ينفدَ صبرها فتركلني بقدمها وتنهضُ، ترتدي ملابسها متمتمةً بكلماتٍ تستفزّ رجولتي ثم تبصقُ على الأرض وتغادرُ المكان فتتبعها نظراتي الجريحةُ حتى تختفي في عمقِ الظلمة، فأفيقُ. أتلمسُ جسدي وقد قُدّ من كلّ الجهات وصرخة تخرجُ من حنجرتي رغماً عني:

" دخيل القحاب. "

انتقلتُ إلى الجانبِ الشرقي من الفرات لوضعِ نقاطِ منتصفِ الطريقِ الرابطِ عبر الجسرِ بين الكوفة والطريقِ العامِ الواصلِ ما بين مدينتي الحلّة والديوانية. كان الطريقُ المزمعُ فتحه يمرّ ببستانٍ مكتظةٍ بالنخيل. علمَ المزارعون بنيتي فهرعوا إليّ متوسلين أنْ أحرفَ الطريقَ قليلاً عن البستان فأخبرتهم بأنّ الأمرَ ليس بيدي بل إني أتبعُ ما هو موجود في خريطةِ المشروع. لم يقتنعوا بكلامي.

" أنا عبد مأمور. "

قلتُ بخذلانٍ مقلّداً كلامَ رجلِ الأمن والشرطي والجلادِ وراكلِ كرسي الشنق. وحينما لم أستطعْ إقناعَ أحدٍ منهم بعدم جدوى احتجاجهم وقد تجمعوا حولي متوسلين بي أخبرتُ الإدارةَ بالأمر. وصلَ ممثلُ نقابة العمال. تطلعَ إليهم باستصغارٍ وهو يضعُ إبهاميه في زنارهِ ثم راحَ يحدثهم عن أهميةِ المشروع وهم يصغون إليه بارتباكٍ وخوف.

" ستعوضكم الحكومة عن كل نخلة، حتى الفحل سنعوضكم عنه. "

قال هازاً كرشه مفتعلاً أريحيةَ المغرور وهو يفركُ إبهامه على سبابته بحركةِ إغراءٍ ويردد:

" فلوس.. فلوس.. فلوس.. "

" وحق هذا مسلم ابن عقيل ما أبدل كل نخلة بمليون دينار. "

قال عجوزٌ أعمى وهو يشيرُ بذراعه إلى جهةِ القبّةِ الذهبية فأيّده الرجال وارتفعتْ أصواتُ احتجاجهم ثانيةً فارتفع صوتُ ممثل النقابةِ بعنجهيةٍ رعناء وهو يمسكُ طرفي ياقة قميصه الخاكي:

" اشششش .. ماكو واحد يعترض على قرار الحكومة. "

فعمّ الصمتُ بين الرجال وتفرقوا وهم مطأطئي الرؤوس. تطلعَ إليّ من فوق كتفه وهو يستعرض سطوته بزهو:

" الما يجي بالمروه يجي بالقوه. "

وقبل أنْ يغادرَ المكانَ تطلعَ إليّ مرةً أخرى وبصيغة أمرٍ خاطبني:

" اللي يعترض طريقك بس تعال قلْ لي وما عليك! "

 بعد يومين جاءتِ البلدوزر والجرافات وبدأتْ حملتها بقطعِ النخيل. وقفَ الرجالُ على مسافةٍ قريبةٍ وهم يتطلعون بصمتِ حدادٍ إلى نخلاتهم وهي تتساقطُ بضربات مقدمة البلدوزر. نهروا الأطفالَ الذين اقتربوا من المكائن فكأنهم قد حسموا أمرهم على خوضِ المعركة. فجأةً رمى العجوزُ الأعمى بنفسه أمام البلدوزر فهرعَ إليه الرجال. حملوه وهو يصرخُ بهستيرية، ضارباً رأسه ووجهه بكفيه. اقتربتُ منهُ بحذرٍ. أخذتُ رأسه بين يدي وقبلتها فاختلطتْ دموعنا. راحَ الرجالُ يتطلعون إليّ باستغرابٍ كأنهم يتساءلون عن سرّ بكائي. اقتربَ مني رجلٌ يبدو من هيئتهِ ولحيتهِ البيضاء المشذبة بعنايةٍ بأنه حكيمهم. همسَ في أذني كلاماً ملغزاً ولكنه يوحي بأنه يدركُ اللعبةَ مختتماً همسه بنبوءةٍ لم أدركِ العلاقة بينها وبين الطريق:

" القادم أخطر. "

قال ذلك وهو يربتُ على كتفي ثم تركني أحاولُ حلّ الرمز. بعد أنْ غادرَ المكانَ تجمعَ الرجال مشكلين دائرة حولي، ثم راح يتحدثُ كلّ منهم عن نخلاتهِ واحدةً واحدة، وعن تاريخِ غرسِ كلّ نخلةٍ وأول حملٍ حملته ونوعية تمرها، وروى البعض قصصاً وأساطيرَ عن كرامةِ النخلةِ وعن الثوابِ والعقابِ الذي يلحقُ بمَنْ يغرسها أو يؤذيها والعلاقة الروحية التي تربطُ المزارعَ بنخلاتهِ وكم هي عزيزة عند صاحبها:

" والله بمعزة أولادي. "

قال أحدهم فاتفقَ معه الجميع. ارتفعَ صراخُ الأعمى ثانيةً فانتبهنا إليه. كان يحتضنُ بين ذراعيه جذعَ نخلةٍ مرمي على الأرض، متمرغاً معه في الترابِ ويبكيان. اقتربَ منه الرجالُ وأنهضوه وهم يعدونه بجزاءٍ أكبرَ عند ربهِ يومَ القيامة، متوعدين الظالمَ بعذابِ الجحيم. قاده أحدهم من يده وسارَ به إلى القريةِ القريبة. وقبل أنْ يغادرَ المكانَ التفتَ نحو جهةِ النهر رافعاً رأسه إلى السماء، صارخاً:

" إلهي بحق هذا أمير المؤمنين أن لا يعبر على هذا الجسر أحد. "

ازدادَ ترددي على غرفةِ حامد سلطان متحججاً بأمورٍ إدارية مطيلاً الحديث معه حتى أدركَ أن تغيراً قد حدث في سلوكي فراحَ يدعوني للجلوس جنبه محاولاً إزالةِ الجفوة التي حدثتْ بيننا بسببِ انحيازهِ إلى جانب عبد الأمير علي أصغر، بينما كانتْ إخلاص تنظرُ إليّ بين لحظةٍ وأخرى مسترقةً السمعَ للحديثِ الذي يدور بيننا ويرتفع صوتها بضحكةٍ لأيةِ طرفةٍ أقولها أو يقولها حامد، وحينما تلتقي عيني بعينها تخفضُ بصرها بخجلٍ على سطحِ المكتب وابتسامة شفافة تلوحُ على شفتيها، وحينما أهمّ بالنهوض ترفعُ رأسها نحوي فتلوحُ في عينيها نظرةُ توسلٍ بالبقاء، وحينما أغادرُ الغرفةَ كانتْ هي الوحيدة التي يرتفعُ صوتها:

" مع السلامة.. عيني. "

استيقظَ شعورٌ غريب في داخلي زادني قلقاً لكنه يختلفُ عن قلقي السابق فهو قلقٌ جميل يداعبُ روحي بنشوةٍ لم أعرفها من قبل، قلقُ مَنْ قامرَ أول مرةٍ وربحَ فيخافُ من فقدانِ ربحه لكنّ هوساً غريباً يدفعه لمواصلة اللعب. لم ينهضْ هذا الشعور من رقدته فجأةً بل كنائمٍ كسولٍ فتحَ عينيهِ ببطءٍ محاولاً إبقاء ذيولِ الحلم بين جفنيه، تمطّى، كابدَ يقظته، حاولَ أنْ يجدَ حجةً للبقاء في السرير طويلاً، وحينما استنفدَ كلّ وسائلِ حيلته نهضَ متململاً لمواجهةِ نهارهِ المبهم.

حاولتُ طردَ الفكرةِ من رأسي هرباً من مواجهةِ عالمٍ أجهلُ كلّ تفاصيله إلا أني استسلمتُ لإرادته كأنه قدر، أو كأنّ الغريقَ لم تعد الغطّةُ الإضافيةُ تخيفه فربما يرتدّ جسده إلى الأعلى وينجو من غرقهِ، ومَنْ يدري ربما يُخطئ النكد مرةً ويجتازني دون أنْ يراني. تكررَ مروري من نافذةِ الغرفة متشاغلاً، رافعاً صوتي وأنا أتحدثُ مع العمال مفتعلاً المرحَ كأني تحت أنظارِ رقيبٍ ينتظرُ مني أن أقدّمَ إليه شهادةً عن سلوكي السوي وعن عنفوانِ روحٍ طريةٍ تمزقُ إطارَ صورتها المعلقة على جدارِ العزلة وتغادرُ طبيعتها الصامتة. كنتُ أختلسُ النظرَ إلى إخلاص الجالسةِ أمام النافذة تماماً تفتعلُ الانشغالَ بعملها أو تتطلعُ إلى الخارج بنظراتٍ ساهمةٍ كأنها لم ترني أو تحدقُ إلى زاويةٍ بعيدة. تضعُ خصلةً من شعرها في فمها أو تمصّ شفتها السفلى بحركةٍ تبدو كأنها لا إرادية. تجفلُ حينما أدخلُ غرفةَ حامد سلطان وترتسمُ على شفتيها ابتسامةٌ خجولة وتردّ على تحيتي قبل أنْ أنطقَ بها.

عدتُ من موقعِ العمل ظهراً فالتقيتُ بها في الممرِ قبل أنْ أصلَ إلى غرفتي. توقفتْ في منتصفِ الممر فحييتُها بابتسامة وقبل أن أجتازها قالتْ:

" عندك رسالة في مكتبي. "

تطلعتُ إليها باستغرابٍ وقبل أن أستفسرَ عن أية رسالة تتحدث، أضافتْ:

" وصلتك اليوم رسالة من الجزائر. "

هممتُ بالعودة معها لأخذِ الرسالة إلا أنها همستْ في أذني وهي تتلفتُ بحذر:

" روح لغرفتك وأنا أجيبها لك بعد شويه. "

نقرتْ على البابِ بهدوء فنهضتُ لاستقبالها. دخلتِ الغرفة تاركةً الباب مفتوحاً. تطلعتُ في عينيها كأني أريدُ قراءة ما تخفيان من شوقٍ أو خبث. كانتا سوداوين بعمقٍ وتحيطهما دائرتان من الكحلِ أضافَ لعينيها عمقاً وذكاءً. ارتعشتْ روحي وأنا أغورُ فيهما فأغضتْ بصرها بخجلٍ فلمحتُ شفتين خلتُهما متورمتين من شوقٍ وانتظارٍ إلى شفاهٍ تستحقان اقتطافَ ثمرتهما التي أنضجها حرّ النخلِ فسالَ عسلها، وقد بدا بوضوحٍ شقّ طبيعي في منتصفِ الشفةِ السفلى كأنه نهرُ غوايةٍ يدعو ظمأي أنْ يرتشفَ منه. استيقظتْ من غفوتها رافعةً رأسها بثقةٍ ثم مدّتْ يدها فتناولتُ منها الرسالةَ محتضناً بكفي ظاهر كفها الصغيرة فارتفعَ صدرها بشهيقٍ واضح كاشفاً عن نهدين مغرورين بعنفوانِ شموخهما. سحبتْ خطوتها بترددٍ، وقبل أنْ تغادرَ الغرفةَ قالتْ كأنها تبعد شبهةً عن نفسها وهي تتلفتُ بحذرٍ كغزالٍ خائف:

" الرسالة وصلتْ مفتوحة. "

شكرتها هازاً رأسي بعلامةٍ تشيرُ إلى ثقتي بما تقول.

" صديقي حميد..

 أخيراً بعد طول معاناة وغربة شديدة استطعتُ الحصول على عملٍ كمدرسٍ للغة العربية في مدرسة ثانوية في مدينة سيدي موسى، وهي مدينة تابعة لمحافظةِ بليده وتقع على بعد نصف ساعة بالباص عن العاصمة براتب شهري لا بأس به. وقد حصلتُ على شقة صغيرة في بناية أغلب سكانها من العرب والأجانب. أثثتها بأثاث بسيط سأحاول تجديده إذا قررتُ البقاء في الجزائر. بلّغْ تحياتي إلى الفرات وهزاع البراك ومغيظ الأعور والأطفال البلجيكيين.

أخوك عاشور

سيدي موسى / الجزائر

23/9/1979 "

وفي نهايةِ الصفحة كتبَ عبارةً مموهة، أرادَ أنْ يمررها من جدارِ الرقابة ويدركُ جيداً بأني أستطيع حلّ لغزها بسهولة:

" ملاحظة: قبل شهرين التقيتُ هنا بالصديق يوسف سلمان يوسف (تعرفه بالتأكيد!) وعدنا أصدقاء مرة أخرى ونلتقي كل أسبوع. "

أطبقتُ الورقةَ وقد استبدّ بي غضب، ليس بسببِ كونه تجاهلَ أن يسجلَ عنوانه:

" ربما يحسب بأني سأزوره أو أكلفه بأنْ يجد لي عملاً هناك حيث يقيم، هه. "

.. فحسب، بل لأنه عاد إلى الحزب الشيوعي مرة أخرى وكأنه لم يتعلمِ الدرس بعد:

" مَنْ يدري ربما يفكر بإكمالِ دراسته الأدبية في جامعات موسكو أو براغ، أو ربما سيواصل النضال الثوري ويُكمل طريق التطور اللارأسمالي في مراقص وبارات بودابست أو صوفيا، أو أنّ رفاقه الأمميين سيضحون بحليفهم من أجل سواد عينيه... هه. "

وضعتُ الرسالةَ على مكتبي وخرجتُ إلى المغاسلِ فرأيتُ إخلاص تذرعُ الممر جيئةً وذهاباً بخطواتٍ بطيئة، وحينما شعرتْ بوجودي التفتتْ وهي تحدق إلي بنظراتِ قلقٍ غريبة. عدتُ إلى غرفتي فلم أجدها في الممر.

فتحتُ الرسالة ورحت أعيد قراءتها لعلّها تخفي شيئاً آخر لم انتبه إليه. وحينما لم أجدْ غير ما تفصحُ عنه الكلمات بوضوح، أطبقتُ الورقة بحنقٍ، وقبل أنْ أدسّها في المظروف وجدتُ في قعره ورقةً صغيرة. تناولتُها بفرحٍ، وبسرعةٍ خاطفة لا تتعدى أعشار الثانية غيّرتُ رأيي بعاشور وتألمتُ لتسرعي في الحكمِ على صديقِ طفولتي، حيث أني كنتُ على يقينٍ بأنّ القصاصةَ هذي تحملُ عنوانه الكامل.

" ........

انتظرتُكَ.. بحثتُ عنكَ في كلّ الأزمنة.. في كلّ الوجوه.. في كلّ الطقوس.. في اليقظةِ وفي الأحلام.. وحينما تعبتُ من البحثِ عنكَ.. وكدتُ استسلمَ لوحدتي.. سمعتُ صوتكَ قادماً من جهةٍ خامسة مثل أغنيةٍ ترددها الملائكة.. ورأيتكَ قادماً نحوي كإلهٍ يخرجُ من أسطورة.. أو كملاكٍ ينشرُ أجنحته في فضاء روحي. "

ارتجفتْ يدي وأنا اقلبُ الورقةَ حيث كتبتْ عبارة:

" أراكَ اليوم الساعة السابعة في مسجد السهلة. "

مساءُ الثلاثاء في مسجدِ (السهلة) له معنى خاص، حيث أنّ الناسَ هنا يعتقدون بأنّ المهدي المنتظرَ سيظهر في هذا المكان وفي مثلِ هذه الليلة من غيبتهِ الكبرى ليعلنَ الثورةَ التي تطيحُ بكلّ العروش.. " ويملأ الأرضَ قسطاً وعدلا بعد أن مُلئت ظلماً وجورا " .

الجموعُ تتوافدُ سيراً على الأقدامِ باتجاهِ المسجد الذي يبعد عن مدينةِ الكوفة بمسافة ثلاثة كيلومترات شمالاً. المسجد مكتظّ بالناس، يدورون في صحنهِ مثل خليةِ نحلٍٍ بدشاديشهم ناصعة البياض وطاقياتهم الملتصقة على رؤوسهم، حاملين المصاحفَ ويدورون حول سردابٍ عميقٍ يقعُ في منتصف الصحن، يعتقدون بأن المهدي الذي غابَ في سردابٍ بمدينة سامراء سيظهر هنا في هذا السرداب. شبابٌ بوجوهٍ صفر لم يمر عليها شعاعُ الشمس ولحى سوداء طويلة، يعتكفون طوالَ الليل يتلون القرآن بانتظارِ أنْ يحظوا بنداءٍ خفي قادمٍ من أعماقِ الغيبة ليكشفَ لهم الحجابَ ويضيءَ أرواحهم بالأمل. نساء لم يظهرْ من وجوههنّ سوى عيونٍ زائغةٍ تبحثُ عن الذي سوف يجيء. وأنا... ذاهبٌ لألتقي حلماً سيظهرُ الليلةَ بعد غيبةٍ طويلةٍ في سراديبِ المجهول، حلماً سوف يملأ روحي حباً وأملا بعد أن مُلئت حزناً وضغينة.

" لماذا اختارتْ إخلاص هذا المكان ليتمّ فيه لقاؤنا الأول؟ "

" لا أعتقد أنها من الذكاء بحيث تجعل لحدثٍ كهذا بعداً رمزياً، فهي لا تبدو أكثر من فتاةٍ متواضعةِ التعليم والوعي. "

" ولمَ لا؟.. إنها لعبة بيد القدر أو رسالة أرسلها المجهول إليّ. "

عدتُ إلى التفكيرِ بالأمورِ وكأنها لا تجري على الأرض بل إنها تخرج من اللوحِ المحفوظ لتتحركَ بمشيئةِ القدر. ها أنا مرةً أخرى أمام طاولةِ النرد، تغريني المجازفةُ أو معاندةُ القدر على الرغم من يقيني بالخسارة.

هاجسٌ غريب كان يدفعني لمعرفةِ ما يخفي الأمرُ من رمزية، وخوفٌ يجعلني أسيرُ في حقلٍ من الألغام تدفعني لاجتيازهِ قوةٌ مجهولة، لعلّها حاجة المبلولِ إلى مزيدٍ من المطرِ لكي يهربَ.. يهربَ إلى أيّما جهةٍ دون شعورٍ بمرارةِ الهزيمة، أو حاجةُ الغريقِ إلى غطّاتٍ أخرى كي يدركَ حقيقةَ غرقهِ.

درتُ في صحن المسجد بورعٍ كبقيةِ الحالمين بحضورِ المنقذ الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وربما كنتُ أكثرَ المنتظرين شوقاً للقائه. ارتفعَ آذانُ المغرب واصطفَّ المصلون باتجاه كعبتهم فانسحبتُ إلى الخلف متوارياً عن الأنظار التي ترمقُ الضالَ من القطيع. جلستُ مُسنداً ظهري على الجدار الخلفي للمسجد متطلعاً إلى الزخارفِ والخطوطِ الزرق التي تزيّن الجدرانَ والأقواس، محدقاً بين حين وآخر في عيون النسوة التي تتقاطعُ أنظارها خلف النقاب والعباءات السود. انتهتِ الصلاة وتفرق الحشد. تشكلتْ دوائرُ عائلية ودبّتْ في المكانِ حركة حتى غدا صحن المسجد كسوقٍ شعبية فافترشتِ العائلاتُ الأرضَ ومُدّتْ سفراتُ الطعام. الرجال يدورون بنشاطٍ ومرحٍ كأنهم ألقوا عن كاهلهم أوزارَ خطاياهم اليومية وكذبهم ونفاقهم وصفتِ القلوب المتشوقة لحضورِ الغائب. الشبابُ يدورون متهادين، يفتعلون حركاتٍ تثيرُ انتباه الصبايا إليهم وارتفعتْ أصوات النساء بضحكاتٍ تستطيلُ.. تستطيلُ ثم تُقطعُ فجأة كأن ساطورَ الرقيبِ قد نزلَ عليها.

شعرتُ بالمللِ من انتظارِ الذي لا يأتي فنهضتُ نافضاً الغبارَ الذي عَلقَ ببنطلوني.

" كلّ غائبٍ لا يأتي ولكن لابد من الانتظار. "

رددتُ مع نفسي، وقبل أن أخطو سمعتُ صوتاً قادماً من الخلف:

" انتظرْ "

التفتُّ فوجدتُ إخلاص جالسةً على بعدِ بضعة أشبارٍ من مكان جلوسي. أزاحتِ العباءةَ عن رأسها قليلاً ثم أشارتْ إليّ بالجلوس معهن، حيث كانتْ بصحبةِ فتاة أخرى. ترددتُ بالجلوس متلفتاً حولي فجاءَ صوتها مرةً أخرى يؤكد عليّ بأنْ لا أعيرَ اهتماماً إلى الموجودين.

" طز بيهم. "

قالتْ وهي تشيرُ إلى كلّ مَنْ في المسجد. مدتْ كفّها نحوي فاحتضنتُها بكفي ضاغطاً عليها برقّةٍ فندّتْ عنها ضحكة متقطعة كأنها تخفي رعشةً داخلية. حركتْ أصابعها على راحة كفي فشعرتُ برسيسِ هيامٍ ونشوةٍ تصعد بي في فضاءٍ عبقٍ ببخور سماوي يعطّر أنفاساً كادتْ تختنقُ قبل لحظات. قرّبتُ رأسي من رأسها كأني مزمع على ارتكابِ قبلةٍ فأشارتْ بعينيها إلى المكان المكتظّ، وهي تعض شفتها منتشيةً بالأنفاسِ التي تقاطعتْ.

" لماذا اخترتِ هذا المكان؟ "

سألتُها بنبرةِ لومٍ وخبث، فأجابتْ:

" كي أكون مع المنتظرين. "

نظرتُ إليها بنظرةِ استفسار جادةٍ، فأضافتْ:

" ولكني أختلف عنهم حيث أني أنتظر حقيقةً لا وهماً. "

لم أصدقْ ما أسمعُ من كلامٍ يصدرُ عن عاملةٍ صغيرة لا تجيد سوى تسجيلِ أرقامٍ على الكتبِ الواردةِ والصادرةِ فعدتُ أنظر إليها كرمزٍ أو كحلمٍ سأستيقظُ منه قريباً، فرحتُ ألملمُ الوقت كأني أغتصبُ من زمني البخيلِ لحظاتٍ إضافيةً كي أطيلَ مدة الحلم النادر. تطلعتْ إليّ محركةً شفتيها بأحرفٍ متباعدة عن بعضها:

" أ... ح... ب... ك "

تلقفتُ الأحرف كاتماً جوفَ كفي كيلا تفلتَ من بين أصابعِ الزمن ولكني افتعلتُ الثباتَ فسألتُها بعد أن أزحتُ ما تراكمَ من صدأ وغبارٍ في حنجرتي مفتعلاً السعال:

" كيف حدثَ هذا؟ "

فأجابتْ:

" لكثرةِ ما سمعتُ عنك. "

" ممنْ؟ "

سألتُ باستغرابٍ فردتْ كأنها كانتْ تنتظرُ مني سؤالاً كهذا:

" أين ما ذهبتُ.. "

حاولتُ أن أستفسرَ منها أكثر وقد دبّ الخوف في نفسي من أنّ هناك مَنْ أرسلها إليّ لتكشفَ سرّ الغموض الذي تدثرتُ به تجنباً للوشاية، لكنها وبدلاً من الإجابةِ عن سؤالي راحتْ تتحدثُ عن نفسها بصوتٍ هامسٍ ذي صدى يتردد كأنها تتحدثُ في منامها أو كأني أسمعه في منامي:

" في البدء كنتُ أظنكَ حالةً حلّقتْ بي كسحابةٍ عالية، فوجدتني طفلةً تلهو، بعدها احتقرتُ نفسي. تمنيتُ أن أنسى وأعتبرها لعبةً أو لحظةً عابرة. "

توقفتْ وهي تبلعُ ريقها بصعوبةٍ، وقبل أن أعيدَ عليها سؤالي، استأنفتْ حديثها دون أنْ تُصغي إليّ وكأنها تحدثُ نفسها:

" لم أشأ أنْ أؤذيكَ وخفتُ أنْ أفقدك. حاولتُ أنْ أجعلَ منك شبحاً ولكني استخفّيتُ بنفسي فكيف لي أنْ أحبّ شبحاً."

" ............... "

" .. لكني لحظتها أغمضتُ عينيّ وتذكرتكَ بعيداً عن كلّ نزواتي فوجدتكَ مقيماً في داخلي. "

" .............. "

" كنتَ قبل إدراكي بأني أحبكَ شخصاً متميزاً يقفُ على الأفقِ البعيد قريباً مني يلوّح لي بتلويحةِ وداعٍ وكنتُ أصرخُ بدون وعي مني وأمدّ يدي نحوكَ أحميكَ من السقوط في الهوة التي تقع على الجانب الآخر من الأفق. كنتُ أردد في يقظتي أحبكَ.. أحبكَ.. "

" ............... "

" ولكن حين استقريتَ في داخلي شعرتُ باطمئنانٍ لم أشعرْ به من قبل.. شعرتُ بأني طفلة تغفو في حضنكَ.. امتزجتْ بي عواطفُ العالم ورغباتُه فكنتَ أنتَ. "

نسيتُ هواجسي ومخاوفي وأنا أصغي إليها متيقناً بأنها واحدة من النساءِ اللواتي يأتي بهنّ الظلامُ في وحدتي أو يفلتنَ من قفصي الصدري ضلعاً يكبرُ.. يكبرُ.. ثم ينفصلُ عني ويستوي امرأةً مجنونة تشاركني الوحدةَ والغربةَ والألمَ. سحبتْ يدها من كفي فتشبثتُ بها كيلا يفلتَ الحلمُ، فسألتني محفزةً إياي أن أتحدثَ عن نفسي غير أني كنتُ عاجزاً عن النطق. أدركتْ ارتباكي فسألتني:

" ما بكَ؟ "

" أفكرُ بكلامكِ. "

هزّتْ رأسها مبتسمةً ببراءةٍ ثم واصلتِ الحديثَ وهي تتطلعُ إلي مسبلةً جفنيها بنشوةٍ فكانتِ الكلماتُ تخرج من بين شفتيها مصحوبةً بشهقاتٍ مرتعشةٍ وأنفاسٍ ساخنة:

" كنتُ أتلهفُ على رؤيتكَ لأمرين هما، لكي أرى مَنْ وهبني هذه الطاقة التي حسبتها قد وهنتْ، وأراك رؤية حق... "

" أيّ وهن تتحدثُ عنه وهي لم تبلغ الثامنة عشرة بعد. "

حدثتُ نفسي وأنا أتطلعُ إلى زاوية بعيدةٍ في ركنٍ وهمي. هزتْ يدي بقوةٍ فانتبهتُ إليها:

" ... والأمر الثاني ولا أنكره، أنّ جسدي ما عشقَ فكرةَ رجلٍ ولا تحكمتْ به شهوة جارفة كالتي لي فيك. "

توقفتْ فحسبتها لا تريد مواصلةَ حديثها وقد تسللَ بها إلى منطقةِ الجسد، إلا أني كنتُ واهماً فقد كانتْ جرأتها أكبر بكثير مما أتخيلُ.

" فكرتُ بأجسادِ ممثلين كهيئةِ مثالٍ، لكني ما فكرتُ بوجودهم، أنتَ وحدكَ أصبحتَ هوسي... أفكرُ في لحظةِ أنْ تلمسني يداكَ... أفكرُ في حركاتِ كفّكَ وهي تنحتني وتشكّلُ خارطةَ جسدي... ياااااا الله... أفكر في لحظةٍ تتقرآني بلمسةِ أصابعكَ... تُنطقني... هل سأتحول لحظتها آيةً تتلوها؟ دعاءً يخترقُ السماءَ السابعةَ فتجيبُ دعوةَ الملهوف وتكشف السوء؟ هل سأصيرُ عنقاءَ تدخلُ نارَ جحيمكَ وتخرج من غير خطيئة؟ هل...؟ "

توقفتْ عن الكلام وكأنها تنتظرُ مني أنْ أبوحَ لها بمشاعري، غير أني كنتُ أفكرُ بما وراء الكلمات. تلعثمتْ مشاعري حتى أني تمنيتُ لو لم يكنْ هذا اللقاء أصلاً. أيقظتني كفها من سرحاني فتطلعتُ إليها بإعجاب. قرّبتْ رأسها مني مسبلةً جفنيها، غارزةً أظافرها في راحتيْ كفيّ وهي تتلمظ، وحينما لم تجدْ بي شجاعةَ المبادرة فتحتْ عينيها وقالتْ:

" بوسني! "

قربتُ شفتي من شفتيها لكني توقفتُ في منتصفِ الطريق:

" الناس! "

فقالتْ:

" أي ناس؟ "

تلفتُّ حولي فلم أرَ أحداً في صحنِ المسجد، والظلام يحيطُ بأركانهِ سوى بصيصِ ضياء ضعيفٍ يتسربُ من داخل السرداب.

في الطريقِ إلى البيت كنتُ أسيرُ مطبقاً ذراعيّ على جانبي محاولاً الاحتفاظَ بالحلم داخل قفصي الصدري كيلا يفلتَ في لحظةِ سهو.

 

أدركَ حامد سلطان ما يدور بيني وبين إخلاص فانفردَ بي جانباً مُبدياً استعداده لمساعدتي بطلبِ يدها من أهلها فأجبته بالموافقة دون تردد، وكما يقال " خير البر عاجله " فقد زارَ حامد أهلها وعادَ إليّ بموافقةٍ أولية بشرط أنْ يأتي أهلي ليطلبوها كما هي العادة. سافرتُ إلى الكوت ليلاً بعد غيابٍ طويل ودخلتُ المدينة متسللاً كأن أشباحَ مديريةِ الأمن لا تزال تطاردني. كنتُ متردداً في مفاتحةِ أهلي حيث أني كنتُ على يقينٍ من ردة فعلهم، فالزواجُ في عرفِ عائلتنا جريمة لا تغتفر بل إنّ مجرد التفكيرِ بهذا الأمر هو إساءة لتضحياتِ من سبقوني إلى العنوسة، ولكي ألقي الحجةَ قبل اتخاذ القرار قلتُ بهدوءٍ موجهاً الكلام إلى أمي بعد تمهيدٍ لم يصلْ إلى هدفه:

" أريدكِ تأتين معي كي تخطبي لي. "

مرّ كلامي في فضاء الغرفة دون أنْ يصطدم بأذنِ أحدٍ فكررتُ العبارةَ دون تغيير. تطلعتْ إليّ أختي الكبيرةُ بوجهٍ مصفرّ وأنفٍ مرتجف، ودون أنْ تنطقَ أية كلمةٍ وصلني الردّ حيث أنها لم تتمالكْ نفسها فانهارتْ على الأرض وأغمي عليها.

لم أخبرْ حامد أو إخلاص بفشلِ محاولتي كي أطيلَ فترةَ الأمل محاولاً التفكير بوسيلةٍ أخرى. تكررتْ لقاءاتنا السرية والقبلاتُ السريعة في العتماتِ أو في الرسائل المقتضبة. الشهوةُ تتبرعمُ وتزهرُ لكن حينما تحين لحظةُ النزق كنّا نروّض حماستنا أو نتحايلُ عليها كي تقتربَ من قفصِ الكتمانِ فنغلق البابَ عليها مكتفين بقواعدِ الترويض صعوداً إلى الذروةِ الثلجية بأنفاسٍ ساخنةٍ محتفظين بحرارةِ الحلمِ ونشوة اليقظة.

أشارتْ إليّ بعينيها وهي تجتازُ الممرَ نحو المغاسل فتبعتُها. دستْ قصاصةَ ورقٍ في يدي وقبل أنْ تخرجَ مسكتُها من ذراعها وأعدتها إليّ. تطلعتْ إلى الممر خائفةً، وحينما لم يكنْ هناك أحد عادتْ. وقفتْ أمامي حتى التصقَ صدرها بصدري. أحطتُ خصرها بذراعي وقربتُ رأسها باليد الأخرى فأغمضتْ عينيها مستسلمة. قرّبتُ شفتيّ من شفتيها وغبنا بقبلةٍ حسبتُها طويلة، انتهتْ بصرخةٍ أطلقتْها حينما وجدنا ممثلَ النقابةِ يقفُ بيننا وخلفه عدد من العمال. حاولتِ الهروبَ إلا أنه أوقفها بفظاظةٍ، وراح يصرخُ مردداً كلماتٍ سوقية، هرعَ على أثرها كلّ موظفي الدائرةِ وعدد من عمالِ المشروع. تخشبَ لساني ولم أستطع النطقَ سوى بعذرٍ لا يصدقه أحد. تدخلَ حامد سلطان ومديرُ المشروعِ لإصلاحِ الأمرِ إلا أنّ ممثلَ النقابةِ لم يدع الفرصةَ تفلتُ منه فكما يبدو وما صرّحَ به بأنه كان منذ زمنٍ طويلٍ يراقبني ويتحيّنُ الفرصةَ التي جاءته اليوم على طبقٍ ذهبي. لم يعد الطين يخافُ من بلّة أخرى فهو طين، لذا فقد تهيأتُ لقرار 200 آخر دون اعتقالٍ أو تعذيب:

" إني الموقع أدناه أتعهد بعدم مزاولةِ الحبّ والقبلاتِ وسأتحملُ مسؤوليةَ ما يصدرُ بحقي في حال مخالفتي لتعهدي هذا. "

... الأحداثُ تجري بسرعةٍ بحيث لا تسمحُ للحلمِ أنْ يستمرَ بعد اليقظة ثوانيَ، والكوابيسُ المتواليةُ تجعلُ الإنسانَ يخافُ من النومِ أو الصفنةِ، فالصافنُ متآمرٌ والحالمُ مخلّ بالقوانين التي فرضتها السلطة. المدينةُ نائمة على صفيحٍ ساخن والعسسُ يجوبون الشوارعَ مصوبين مسدساتهم نحو السكون، يقتلون النكهةَ في كلّ شيء. الخوفُ شواخصُ بلا ملامحَ أو أشكالٍ ثابتةٍ تخرجُ من العتمةِ تقتنصُ مَنْ يوقعه الحظّ الأسودُ في دوائرها وكلما ارتفعَ صوتُ استغاثتهِ، مات ضميرٌ أو غيّر قناعه. عاشقان ينامان عاريين على حافةِ الأفق، قريبين من الله، يجتمعُ حولهما عسسُ الأرضِ وشياطينُ السماء، يحاصرونهما، يرجمونهما فيتدحرجان على الجهةِ الثانية ميتين فتضحكُ الملائكةُ والشياطينُ بسخرية. مَنْ يستطيعُ الآنَ أنْ يقتنصَ المعنى حيث لا معنى، وحيث الركامُ يغطي كلّ شيء؟ لا أحدَ.. لا أحد، فقد اختلفتِ الأسماءُ الأولى ولم يعد آدمُ يعرفُ شيئاً، بل لم يعد لآدم من وجود. القوسُ والسهمُ ودائرةُ الإصابة كلهم في قفصِ الاتهام، وحده المهرجُ في الساحةِ يرفعُ سوطه وينهالُ به على الحماسةِ التي تأبى الترويضَ فيضحكُ الحاضرون كلما ارتفعَ صوتُ الحماسة الناشز أو المستغيث. وأنا (أقصدُ مَنْ ظننتُ أنا) كمَنْ يستيقظُ على قُبلةٍ وموسيقى الختام أو كمَنْ جاء إلى الحياةِ متأخراً.

مدينتا النجف والكوفة تحولتا ساحةَ عرضات، رجالُ الجيش الشعبي ببدلاتهم الخاكيةِ المكوية بإتقانٍ وبنادقهم المعلقة على الأكتافِ، يجوبون الشوارعَ كأنهم بانتظارِ لحظةِ صدورِ الأمر باعتقالِ المدينةِ أو نسفها على رؤوسِ أهلها. همسٌ وشكوكٌ ونوايا واضحةُ المقاصد يقرأها العابرُ في وجوه الآخرين:

" أين أختبأ؟ "

" مَنْ؟ "

" الذي تبحثون عنه. "

لا أحدَ يجيبُ ولعلهم لا يعرفون عمّنْ يبحثون، فالماشي في وضحِ النهار والمتخفي بوجوهٍ كثيرة، الهامسُ بنداء (الله أكبر) والسكّيرُ الذي يترنحُ في الشارع، الزافرُ بعمقٍ أو النافثُ دخان سيجارته، الرجل والمرأة... كلهم شواخصُ تمرينٍ للمتقدمِ شاهراً حربته كي يطعنَ الهواء.

زرتُ مسجدَ السهلة لعلي أحظى هناك بلقاءِ إخلاص التي تركتِ العملَ في الدائرة بعد يومِ الفضيحة، فلم أجدْ أحداً سوى العسسِ الأموي أو البعثي فقد تداخلتِ الأزمنةُ والوجوهُ تتشابه. كانتْ وجوههم صفراً ويلوحُ الخوف في عيونهم الغائرة تحيطها كدماتٌ سود. هل كانوا بانتظارِ ظهورِ الغائبِ كي ينقضّوا عليه؟ هل تخلّى الناسُ عن آخر أحلامهم؟ وهل ملّ الناسُ من لعبةِ الانتظار؟ لا أعتقد، فليس لهم غير الانتظارِ يُحيكونه حلماً ومتراساً ليتّقوا به شططَ أمنياتهم، ربما أدركوا حقيقةَ أنّ لا عودةَ للغائبِ في هذا الزمان، وربما استعذبوا فكرةَ الغيابِ فغابوا، وربما هم الآن في تقيّةٍ مُقنعين أنفسهم بأنّ الله مع الصابرين.

زرتُ حامد سلطان في بيته. كان كئيباً على غير عادته. لم أجد صعوبةً بإقناعهِ بأنّ الفضيحةَ التي أثارها ممثلُ النقابة لم تكنْ إلا حيلة مدبرة ضدي. اتفقَ معي بل إنه راحَ يؤكد ثقته بما قلتُ، وأضافَ بيقين:

" كلنا مستهدفون والله الساتر. "

نقلتُ له ما رأيتُ من حركاتٍ مريبة في الشارعِ وفيِ العمل فهزّ رأسه ساخراً من إدراكي المتأخر. تلفتَ حوله خوفاً على الرغم من أن لا أحدَ غيرنا في الغرفة وزوجته في المطبخ ثم همسَ لي:

" أعدموه. "

" منْ؟ "

سألتُ بقلقٍ، فردّ:

" السيد محمد باقر الصدر. "

بعد أسبوعٍ من ذلك اختفى عبد الأمير علي أصغر. لم ندركْ سرّ غيابه أول الأمر لكنّ الحركة الغريبة التي حدثتْ في المشروع والهمس بين العمال كان يشيرُ إلى أن أمراً قد حدث. في اليوم التالي استدعي مديرُ المشروع إلى دائرةِ الأمن في الكوفة وعاد بوجهٍ شاحب. أخبرنا وهو يرتعشُ عن حقيقة اعتقال عبد الأمير. وفي الأيام التالية تغيّر سلوكُ المدير فقد صار أكثر مجاملة للعمالِ مطيلاً الحديثَ والمزاح رافعاً الكلفة بينه وبين ممثلِ النقابة الذي وجدَ في ذلك سطوةً أكبر وراح يتدخلُ في أمورٍ فنية لا تعنيه ولا يعرفُ عنها شيئاً. حامد سلطان لم يعد إلى أحاديثه في الفقهِ والأخلاق بل صار يمثلُ دورَ الرجلِ الأريحي، يرتفعُ صوته بين الحين والآخر بأغنياتِ فريد الأطرش:

" أضنيتني بالهجرِ ما أظلمكْ.... "

بل ربما نسيَ نفسه وراح يردد بأريحيةٍ زائدة:

" الدنيا ربيع.. والجو بديع..... "

طُرق بابي ليلاً فاستسلمتُ لقدري دون التفكيرِ بالمقاومةِ أو الهرب. كان في البابِ عاملان من عمالِ المشروع. دخلا دون استئذان وهما يتفحصان كلّ زاويةٍ في البيتِ حتى ذراتِ الغبار المتراكم على الصوفة والكراسي. لم أعرهما اهتماماً بل أخرجتُ أمامهما قنينة العرق ورحتُ أشرب. شاركني أحدهما بينما امتنعَ الآخر:

" أنا في الواجب. "

قال دون تحفظٍ فاصطنعتُ البلاهةَ سائلاً:

" أي واجب؟ "

تطلعَ إليّ وهو يضحك:

" أعرف أنتَ ما تدري شيصير بالدنيا، بايع ومخلص. "

" شبيها الدنيا؟ والله خوش دنيا. "

قلتُ مفتعلاً السُكر فارتفعَ ضحكهما ثم غادرا بيتي وهما يرددان:

" خليك بحالك أحسن إلك وإلنا. "

لم يكنْ شهر تموز عام 1980 ساخناً فحسب بل إن القِدرَ الذي ينحشرُ الناسُ فيه يوشكُ على الانفجار. الشارعُ يمورُ بحركةٍ لا تستطيع العين متابعتها. رجالٌ بزيّ الجيش الشعبي عيونهم تتحركُ بكلّ الاتجاهاتِ كأنهم على استعدادٍ لانقضاضِ على الهواء إنْ تحركَ ضد ما يشتهون. يتفحصون أنفاسَ المارين واتجاه الخطوة. وحينما يلتجئ الهاربُ من قلقِ الشارعِ إلى البيت، يظلّ القلقُ يساوره فالإذاعة تبثّ الأهازيجَ والأناشيدَ الوطنية على مدار اليوم، وعلى شاشة التلفزيون توقفتْ صورةُ الرئيس، يحاصركَ بنظراته التي تكشفُ (الخائنَ) قبل ارتكابِ خيانتهِ كما كان يردد، ويقرأ الظنون. حملاتُ اعتقال، مداهمات، حملاتُ تسفير بدأتْ منذ بداية العام ولا أحدَ يعلمُ متى ستنتهي بل لا أحد يعرفُ متى سيأتي عليه الدور في التسفيرِ إلى إيران. الكلّ مشكوكٌ في أرومتهِ حتى لو كان من نسل النبي العربي، والأيامُ تمضي بطيئةً كأنها في لعبةِ تواطؤ مع القاتل حتى تتمّ عمليةُ إخفاء الجريمة، والقتيلُ شخص بلا هوية.

نلتقي صباحاً في موقعِ العمل فنتطلعُ في وجوه بعضنا وكلّ منّا يقول للآخر صامتاً:

" الحمد لله على السلامة فقد مرتْ ليلة الأمس دون مداهمة وها أنت بيننا. "

كنّا متيقنين بأن الحالةَ لن تستمر هكذا فالطابورُ الذي نقفُ فيه لابد أنْ يتآكلَ ليجدَ أحدنا نفسه أمام المحققِ وبعد ذلك لا يعلمُ إلا الله أين سيكون المصير. وأية سمكةٍ مزهورة  ستطفو أولاً لتتلقفها أسنانُ الفالة؟ وربما سترمى شبكة فتغرفنا جميعاً في رميةٍ واحدة.

سكرَ المديرُ فحدثني عمّا كان يدور بينه وبينهم حينما كانوا يستدعونه إلى الاستجواب في مديريةِ الأمن في الكوفة أو بغداد كاشفاً لي عن أمر خطير:

" إنهم يسألون عن موضوع الملاجئ السرية على الحدود العراقية الإيرانية والتي أنشأها المقاولُ الذي كنتُ أعملُ عنده قبل عودتي للعمل في دوائر الدولة. "

" ...................... "

" يبدو أن الحرب مع إيران ستندلع قريباً. "

قال بيقينٍ وهو ينفخُ دخان سيجارته.

بعد يومين ذهبَ المديرُ في استدعاء أصبح روتينياً، لكن هذه المرة لم يعد.

ولم يكدْ يمضي أسبوع واحد حتى اختفى حامد سلطان.

كان صوتُ النفير يرتفعُ شيئاً فشيئاً حتى تحولَ زعيقاً يطغى على كلّ صوت:

" لبيكَ يا علمَ العروبةِ كلنا نحمي الحما

 كلّنا نحمي الحما

لبيكَ واجعلْ من جماجمنا لمجدكَ سلّما

كلّنا نحمي الحما "

في الثاني والعشرين من أيلول توقفَ الزمن. توقفتْ حركةُ الأشياء. ضاقَ الفضاء وهبّتْ عاصفة رملية ودخان فاسودّتِ السماءُ وانتشرتْ رائحةُ البارود:

" قطرةٌ من نحاسْ

سقطتْ من جبين النفيرْ

النعاسَ

النعاسْ

يستغيث الضميرْ "

بعد يومين من اندلاعِ الحرب استدعيتُ لخدمةِ الاحتياط.

توقفتُ على جرفِ الفرات السادرِ في نسيانه، وأنا أتطلع إلى الأعمدةِ الكونكريتية المنتصبةِ في النهر. تذكرتُ اليومَ الأول الذي وصلتُ فيه إلى هنا، جامعَ الكوفة، مسلمَ بن عقيل، عبيدَ الله ابن زياد، الخيمةَ، هزاعَ البراك، عاشور وحيد صابر، مغيظ الأعور، حامد سلطان، هادي حسن، عبد الأمير علي أصغر، إخلاص، مسجدَ السهلة، الغائبَ الذي لم يحضرْ والناس الذين مازالوا منتظرين.

" كلّ منهم رحلَ إلى جهةٍ وربما كلهم سيلتقون في جهة واحدة. "

رفعتُ يدي ملوحاً للفراتِ الذي لن أراه فلم يردّ تحيتي أحد. كان الرجلُ الأعمى يقفُ على الضفةِ الثانية من النهرِ يعانقُ جذعَ نخلةٍ مقطوعاً ويبكي، وحينما رآني (نعم رآني) ألوحُ للنهرِ تلويحةَ الوداع، رفعَ يده نحوي مودّعاً كأنه أراد أنْ يذكّرني بنبوءته التي تحققتْ واستجابَ الله إلى دعائه:

" إلهي بحق هذا أمير المؤمنين أن لا يعبر على هذا الجسر أحد " ([بعد أحدَ عشرَ عاماً تذكرتُ الأعمى ونبوءته حينما كنتُ أتابع أخبارَ الحرب الأمريكية على العراق عام 1991 من قناة الـ (CNN) ورأيتُ جسرَ الكوفة وقد انهارتْ دعائمه التي أنا رسمتُ دوائرها على الماء واليابسة، وسقطَ كجذعِ نخلةٍ بسبب غارات الطائرات الأمريكية.])

في الثامنِ والعشرين من شهر أيلول عدتُ مُساقاً إلى مقر الفرقةِ الثالثة المدرعة الواقع قريباً من بحيرةِ الحبانية. عدتُ من الطريقِ الترابي الذي غادرتُ منه قبل ثلاثِ سنوات. توقفتُ عند النقطةِ التي وقفتُ فيها راسماً دائرةً بوليةً حول المعسكر، وكنتُ أظنّ بأني لن أعودَ، وها أنا أدخلُ في الدائرةِ التي رسمتُها. عاد صوتُ النقيبِ عبد القادر ينخر أذني:

":مؤرلاىةوز987653ذ" مو حسبالك انتهت السالفه، نقدر نجيبك بأي وقت نريد، هه، وأنت تعرف البقية..... "

" يا إلهي.. لماذا لم تتحققْ نبوءةُ خيرٍ واحدة وكلّ نبوءات الشر لها من لدنكَ استجابة سريعة..؟ هل يصلكَ دعاؤنا محرّفاً؟ "

تقول أمي:

" دعاوى البَطَرْ مثل رشقِ المطرْ. "

وتضيفُ بحسرةٍ، لا على نفسها بل على الجبّار الذي وهنتْ قواه ولم يعد قادراً على ردّ ظالمٍ أو إنصافِ مظلوم:

" ودعاء الملهوف تحمله سلحفاة إليه. "

كان في انتظاري سبعة عشر زميلاً لي، كنا نعملُ في طرق المحافظات الشمالية. وقفنا بانتظارِ الحصولِ على الملابس العسكرية. اثنان منّا لم يلتحقا بعد. أين هما يا ترى؟ ترددَ هذا السؤالُ على لسانِ أكثر من شخص. خمنّتُ بسهولةٍ مكانَ وجودهما، فقد كانا رفيقين لي في الحزب وربما نفذا من جدارِ الموتِ بطريقةٍ شرعية أو بجواز مزور. تذكرتُ عاشور وحيد صابر وحسدته على غربتهِ فهو الآن على الأقل لا يسمعُ طبولَ الحربِ وخطابات صدام حسين وأصواتَ الانفجارات أو الغارات الجوية التي كانت الطائراتُ الإيرانية تشنها طوال النهار. ومهما تكن الغربةُ قاسيةً فأنها أرحمُ بكثيرٍ من الاحتراق في جوفِ دبابة أو الموت في الأرضِ الحرام.

" هل تذكرون الفرحة التي كانت ترتسم على وجوهنا ونحن واقفون في هذا المكان بالضبط قبل ثلاث سنوات؟ "

سألَ أحدنا فاهتزتِ الرؤوسُ بالإيجاب، لكنه عاد وكأنه يهيئ نفسه للقبولِ بالأمر الواقع أو ربما يتظاهر بالشجاعة فسألَ:

" ولكن مَنْ يتوقع أين سنكون بعد ثلاث سنوات؟ "

اصفرّتِ الوجوه وارتعشتِ الشفاهُ التي كانتْ تفتعلُ الابتسامةَ فتخونها قدرتُها على تجاوزِ الموقفِ أو ما يلوحُ لها من مصيرِ في الأيام القادمة.

" ستتوقفُ الحرب خلال يومين أو ثلاثة. "

قال أحدنا وهو يحاولُ افتعالَ الثقةِ بالنفسِ أو يستعرضُ مهارته في قراءةِ الأحداث. قاطعه ثانٍ حاولَ أنْ يجدَ أسباباً مقنعة لتفاؤله:

" لا، ربما شهر أو شهرين على أسوء حال."

" المهم قبل أن نصل إلى جبهات القتال."

ردّ الأولُ، غير أن ثالثاً رمى قذيفةً دخانية دوّتْ وسطنا:

" سأقطع ذراعي إذا انتهت الحرب في سنة."

قال ماداً ذراعه راسماً بالذراعِ الأخرى هيئة سكّين وأضافَ بحزنٍ قاس:

" ما تنتهي الحرب إلا بعد أن تقضي علينا جميعاً. "

ارتفعَ لغط كادَ يسبب مشاجرةً حيث أنّ النوايا بدأتْ تمدّ رأسها دون خوفٍ أو مواربة، وراح البعضُ يفصحُ عن امتعاضهِ من هذه الحرب غير المبررة. بدأ الاعتراضُ برمزيةٍ وإشاراتٍ غامضة، وحينما لاقى استجابةً عند البعض ارتفعَ الصوتُ حتى تحولَ الحديثُ إلى نقاشٍ سياسي بين معارضين للحربِ وبين فئةٍ أخرى راحتْ تردد بسذاجةٍ ما كان يردده الإعلامُ العراقي عن الوطنِ والعدو الفارسي، وقبل أنْ يدخلَ النقاشُ إلى منطقةِ الخطر ارتفعَ صوتُ أحدنا مهدئاً الأمر:

" يمعودين، الله كريم، وقلْ ما يصيبنا إلا ما كتبَ الله لنا. "

قالها بورعٍ لم يقنع أحداً، فقد كان تحسين من أشدنا انفلاتاً وأبعدنا عن الدين.   

مرّ قريباً من مكان تجمعنا عبد القادر وقد أصبحَ رائداً وازدادَ كرشه امتداداً. توقفَ أمامنا متفحصاً وجوهنا بنظراتٍ جائعةٍ كأنه يريد افتراسَ أحدنا. كدتُ أسمعُ صوته ساخراً، شامتاً وهو يناديني:

" تعال حميد.. دريد.. خرا..."

إلا أنه مرّ متهادياً وردفاه تصعدان وتهبطان بتعاقبٍ عاهر، والمسدسُ ذو الحمالات الطويلة متدلٍ إلى فوق ركبته بقليل.

" يس.. يم.. قفْ! استعدْ! إلى الأمام سرْ!"

صرخَ العريف بنا فسرنا نسحلُ خطواتنا الخائفةَ إلى الاتجاهِ الغامض، حيث أنّ كلمةَ (الأمام) هنا لا تعني إشارةً إلى المكان بقدرِ ما تعني السيرَ نحو المجهول، المجهولِ الذي نصِفُ به الموتَ خوفاً أو مكابرة.

ستةُ أيام مضتْ على وجودنا في المعسكر وفي الليلةِ السابعة انطلقَ صوتُ النفير في المعسكر. تجمعنا وكلّ منّا ينظرُ إلى ساقيْ الجندي الواقفِ أمامه في الرتلِ ويقيسُ منسوبَ الخوفِ المتصاعدِ في نفسه، وفي ظلمةِ الليل لم نكنْ نسمع سوى أوامرِ العريف واصطكاكِ الأسنان. وقفَ آمرُ اللواء وراحَ يلقي علينا محاضرةً في الشجاعةِ والشهامةِ والنخوةِ والشرف، وكلماتٍ تدخلُ أسماعنا للمرة الأولى كالاستبسالِ والشهادةِ وروحِ النصر. أذيعتْ أسماؤنا فحملنا يطقاتنا وصعدنا إلى ظهرِ الشاحنة الكبيرة التي جاءتْ لتنقلنا إلى جهةٍ لا نعرفُ اتجاهها ولكننا نعرفُ طبيعتها. ولأن وجهتنا المسلخ في كلّ الأحوال فلم يعد مهماً بالنسبةِ للخرافِ طريقة قيادها. 

وقفَ بعضنا على ظهرِ الشاحنة مطلاً برأسهِ إلى الخارجِ فارتسمَ المشهد تماماً لولا تنقصه موسيقى الثغاء الذي لم يتجرأ أحد على عزفها وقد كنتُ على يقينٍ بأنّ كلاً منا كانَ يردد في داخلهِ " مااااااااااااااع... ماااااااااااااع " ويتخيلُ مُديةَ الجزارِ الرهيفة وهي تمر على عنقه. اتجهتِ الشاحنةُ نحو الجنوبِ واختفت أضواءُ بغداد التي غطّاها دخان أصفرُ فبدتْ شاحبةً كالموت تماماً. تهاوتِ الأجساد على سطحِ الشاحنة ملتفّة ببعضها البعض بإلفةٍ غريبة أو متكدّسة على بعضها بتسابقٍ نحو نهايةِ المطافِ راسمةً مصيرها قبل الأوان.

حينما ظهرتْ أنوارُ الفجر كانتِ الشاحنة تقطعُ باديةَ السماوة ولا شيءَ يلوحُ في الأفق سوى صحراء تنتهي بالأفقِ الذي غطّاه بخار يتصاعد من الأرض.

" هنااااااااك تقع نقرة السلمان. "

رددتُ مع نفسي ثم أضفتُ ساخراً:

"في البدء كانت سجناً في صحراء السماوة ثم امتدتْ لتشملَ الوطنَ كلّه حتى فاضتْ على يد صدام لتندفعَ خارجَ حدود الوطن. "

وصلنا عند الساعة العاشرة صباحاً إلى مقر الفرقة المدرعة الخامسة في مدينة الزبير. تطلعتُ إلى جهةِ الشرق فلاحَ لي دخانٌ كثيفٌ يتصاعدُ من جبهةِ القتالِ التي أصبحتْ قريبةً منّا كما الموت.

"معمل البتروكيمياويات في عبادان."

قال أحدنا فلم ينتبهْ إليه أحد حيث لم يكنْ مصدرُ الدخان يعني شيئاً، فهو دخان وهذا وحده يكفي لأنْ يهربَ الخائفُ نحو داخله المتفجرِ والمخنوقِ بدخانِ الحسرة. تلمستُ سنيّ عمري الأربع والعشرين فوجدتُها طريةً ولاتزال رائحةُ الحليبِ عالقةً بها، لن يتعبَ الدود في قضمها، ولن يتعبَ جابي القيامة في إحصاءِ آثامها وخطاياها، لكنها وحدها التي تتعبُ حينما تحصي خساراتها وما فاتها من فرصٍ للمتعة، أو ما كان ينبغي لها أنْ تحصلَ من لحظاتٍ خارج حسابِ الرقابة والخوف.

وقفنا نسقاً، وجوهنا إلى جدارِ المعسكر العالي وظهورنا التي تنزّ عرقاً لزجاً إلى عراء المجهول. صرخ العريف:

" إستا.. عِدْ! "

ومرّ الآمرُ من ورائنا ببطء. كنا نسمعُ وقعَ خطواتهِ الثقيلة كموسيقى جنائزية. تنقطعُ الأنفاسُ مع تعاقبِ فواصلِ السكون والإيقاع. كان يتفحصُ إليةَ كلّ خروف. يروزها بيدِ جزارٍ خبيرٍ كي يختارَ أيها أكثرَ شحماً لتقديمها مائدةً للسيد عزرائيل الجائعِ أو قرباناً للسيد الوطن. كان كلّ منا ينتظرُ رصاصةَ مسدسٍ تأتيه في مؤخرةِ رأسهِ لينهارَ راقصاً رقصةَ الحياة الأخيرة.

" رامي دبابة، مخابر دبابة، سائق دبابة... "

كان الآمرُ يصرخُ فيضربُ الجندي الأرض بقدمه وينطلقُ مهرولاً نحو إحدى الجهاتِ الثلاث التي وقفَ عندها نائبُ ضابط وعريف. سقطتْ كفّه على كتفي فاختلّ توازني وشعرتُ بسخونةِ الرصاصةِ وهي تخترقُ مؤخرةَ رأسي وبرودة الموت:

"سائق دبابة."

حينما تنتهي فتراتُ التدريب كنا ننتشرُ في أرجاءِ المعسكر. نأكلُ بشراهةٍ ونختلقُ نكاتٍ نرويها لأنفسنا ونطيلُ فترةَ الضحكِ أو نذهبُ عصراً إلى مدينةِ الزبير مروراً بأحياءٍ سكنيةٍ فنرى النساء الزبيريات وهنّ يقفنَ عند الأبواب بدشاديشهنّ الضيقة عند الصدرِ والردفين فتحفظُ العينُ المشهدَ لتعيده ليلاً على الجسد أنيناً ممزوجاً بصراخٍ وخوف. كنا نشعرُ بشيء من الأمانِ  فقد ظنّ البعض منا بأنّ دورةَ التدريب ستستغرق شهراً على الأقل وخلاله " ألف فرج ورحمة " أو " مائة عمامة تنقلب "، خاصةً وإنّ بعثاتِ الأممِ المتحدة والمنظمات الإنسانية لوقفِ الحرب أو إعلان الهدنة بدأتْ بالتوافدِ على العراق وإيران، ومع تضاربِ الأخبار كان مزاجُ الجنود يتقلّبُ، فحينما كانتْ مذيعة إذاعة مونتي كارلو تعلنُ بصوتٍ مغناجٍ خبراً عن قربِ التوصلِ إلى اتفاقٍ لوقفِ إطلاقِ النار، ترتفعُ حرارةُ الجسد ويصبحُ صوتُ المذيعةِ كلمةَ السر أو التعزيم الذي يفتح بوابةَ الجسدِ المنسي فيغرقُ كلّ جندي بأحلامِ يقظةٍ تنقله إلى سريرٍ دافئ، تتحركُ يداه تحت البطانيةِ كأنه يشحذ أعضاءه استعداداً للحلمِ القادمِ وتسرحُ النظراتُ بعيداً عن المعسكرِ، ولكنْ حينما تعلنُ المذيعةُ نفسها عن فشلِ المساعي يعود الجسد منكمشاً كانكماشِ خصيةِ الخائف، ويصبحُ حديثُ الأمسِ عن الزواجِ أو الحب بطراً تافهاً.

" يخلّون كافور بالشاي حتى يقتلوا الشهوة عند الجندي. "

قال أحدهم، فردَّ عليه آخر متباهياً:

" كذب. هذي إشاعة. "

غير أنّ ثالثاً حسمَ الموقفَ قبل أنْ يتحولَ الأمرُ إلى قضيةٍ للنقاش:

" هوَّ منو عنده عير يقوم خَلّوْ كافورْ لو ما خَلّو. "

فترتسمُ على الوجوهِ ابتسامات حزينة.

رنّتْ صفّارةُ العريفِ جابر بعد دقائق من انتهاءِ فترةِ التدريبِ الصباحية فتجمعنا وكلّ منا يستفسرُ من صاحبهِ عن سببِ هذا التجمع الطارئ، وقد استبعدنا أمر نقلنا إلى الجبهاتِ الأمامية حيث لم يمضِ سوى أسبوعين على بدءِ الدورةِ ومازلنا لم نجربْ قيادةَ الدبابة أو الرمي. توزعنا على ثلاثةِ كراديس حسب التخصص. جاء مساعد الآمرِ وراح يقرأ من كلّ كردوس اسماً ويشكّل طاقماً ثلاثياً من سائقٍ، مخابرٍ ورامي. كان اسمي من بين المطلوبين     وقد زالَ الغموضُ سريعاً وتأكدَ أمرُ نقلنا إلى الخطوطِ الأمامية. وقفَ مساعدُ الآمر أمام طواقمنا بعد أن انفضّ الباقون مسرعين، وعلى مسافةٍ قريبة توقفوا وهم يتطلعون إلينا بألمٍ وحذرٍ كأنّ الفراقَ الأبدي بيننا قد حانتْ ساعته، ومنزوين كيلا يلفتوا أنظارَ الضابط إليهم فتنتعظُ شهوتُه إلى مزيدٍ من الجنود لنقلهم إلى الخطوط الأمامية. تحدّثَ المساعد أمامنا عن البطولةِ والتضحيةِ والوطنِ وشرفِ الشهادة بعباراتٍ كان يحاولُ أن ينمّقها فيخذله ضعفُ لغته، وحينما انتهى من كلامه سألنا بروحٍ أبويةٍ مصطنعة إنْ كان يود أحدنا أنْ يسألَ عن أمرٍ أو عنده طلب أو أمنية كأنّ أمرَ تنفيذِ حكمِ الإعدام قد صدرَ وما أمامنا سوى لحظاتٍ يتكرمُ بها الجلاد علينا فيؤخرُ الزمن حتى نكملَ تدخينَ السيجارةِ الأخيرة. رفعَ تحسين يده فأثارَ إعجابنا وتلهفنا لما سيقوله بل خوفنا من أنْ يتهورَ بكلامٍ سيكون فيه نهايته، خاصةُ وأنّ الأوامرَ قد أعطيتْ من القيادة السياسية للضباطِ حتى الصغار منهم على تنفيذِ حكمِ الإعدام رمياً بحقّ كلّ جندي يُشكّ في ولائهِ وأصبحتْ كلمةُ (جبان) هي العصا الغليظةُ التي يلوحُ بها كلّ ضابط بوجهِ مَنْ يشكّ بموالاته للسلطة واستبساله ضد " العدو الفارسي الطامعِ بأرضنا وعرض حرائرنا " لبسط سيطرته. اقتربَ المساعد منه وقد أحنى قامته مقرباً أذنه من فم تحسين:

" سيدي .. "

قال تحسين ثم توقفَ قليلاً وهو يحاولُ تخفيفَ حدّة غضبهِ ويبلعُ ريقه، فراحَ المساعد يحثه على مواصلةِ الكلام. ارتفعَ صوتُ تحسين كانفجارِ لغمٍ:

" سيدي.. السِكن يتشقق طيزه حتى يصير سايق سياره، شلون احنه بعشر تيام صرنا سواق دبابات وتنقلوننا للخطوط الأمامية؟ "

صمتَ المساعد قليلاً وتغيرتْ ملامحُ وجهه، غير أنه افتعلَ الهدوءَ وهو ينظرُ إلى تحسين بصمتٍ وربما بذهولٍ ثم ارتفعتْ ضحكته وهو يربتُ على كتفِ هذا الخروفِ الذي لم تفارقه روحُ الدعابةِ والطرفة وهو يُساقُ إلى المسلخ بوجهٍ مبتسم، ثم غادرَ المكان وهو يردد:

" المعارك تخلق الأبطال وعند المنازلة لا شيء اسمه مستحيل. "

انقضّ العريفُ جابر على تحسين بعد أنْ اختفى المساعد ماسكاً ياقة بدلته بشدةٍ صارخاً به بلهجتهِ الريفية:

" شلون تحجي هَيج ويَّ السيد المساعد؟ "

ضربَ تحسينُ ذراعَ العريف فارتفعتْ في الهواء ثم همّ بالهجوم عليه غاضباً لولا تدخلنا بينهما. تراجعَ العريفُ إلى الوراء مذهولاً ومتحفزاً للدفاعِ عن نفسه لو هاجمه تحسين وهو في حالةِ هياجهِ هذه، لكنّ تحسين اكتفى بالنظرِ إليه باستصغار وهو يردد:

" قالوا للقرد ما تخاف من الله فقال القرد وماذا يمسخني بعد. "

انطلقتْ حافلاتٌ سياحية أنيقة تحملُ طواقمنا وقد اصطفّ بعضُ المارةِ على الرصيفِ رافعين أكفهم بعلامةِ النصر. لم يتطلعْ إليهم أحد منا سوى تحسين الذي ردّ على تحياتهم بإشارةٍ من إصبعه الوسطى مردداً بصوتٍ عال شتائمَ وكلاماً بذيئاً. اجتازتِ الحافلاتُ مدينةَ الزبير متوجهةً نحو البصرة وقد كنتُ أتمنى لو أنّ الطريقَ يطولُ إلى ما لانهاية. عبرنا جسراً حديدياً صغيراً على شط العرب نحو منطقة التنومه، ومنها نحو الحدودِ العراقية الإيرانية حتى توقفتْ عند معسكرٍ صغيرٍ بين أشجارِ نخيلٍ كثيفة في منطقة الشلامجة الحدودية، هو موقع اللواء المدرع السادس. مواضعُ محفورة تحت الأرض وسواترُ ترابية لمواقعِ دبابات وورشةُ تصليح ومطبخ بينما انتشرتْ حول المعسكر مدافعُ مقاوماتِ الطائرات بسبطاناتها الأربع المتوجهة نحو السماء. استقبلنا ضابط برتبةِ ملازم أول خرجَ من موضعٍ تحت الأرض. قرأ أسماءنا وأخبرنا بأنّ علينا أنْ ننتظرَ حتى مغيبِ الشمس ليتم نقلنا بسيارة التموين، كلاً إلى الكتيبة التي قد نُسِبَ إليها، وقد علمتُ بأني نُسّبتُ إلى كتيبةِ خالد بن الوليد المتمركزة الآن في الشمال من مدينة المحمرة بينما نُسّبَ تحسين إلى كتيبة المثنى.

انطلقتْ سيارة الـ (إيفا) الروسية وقد جلسنا على سطحها المكشوفِ نحن الثلاثة، طاقم الدبابة التي لا نعرف بأي صاروخ ستنفجر إلى جانب خزّانين ساخنين يحتويان رزاً ومرقاً. سارتْ ببطءٍ على طرقٍ ترابية وعرة فكانتْ تنطّ بإيقاعٍ غير منتظمْ وكانتْ أجسادنا تتقافزُ كمذبوحين، وترتطمُ رؤوسنا ببعضها محاولين التشبثَ بالهواء المختنقِ بالغبارِ والدخانِ ورائحةِ الموت. هبتْ رياح باردة فتلفلفنا بالبطانياتِ مرتعشين من الخوف، باحثين عن أمنيةٍ صغيرة كي نوازنَ بها هذا اليأسَ الباغي أو ننتظرَ معجزةً تنقذنا مما نحن فيه. اشتدتْ أصواتُ المدافعِ القريبة منا، ورأينا النيرانَ وهي تنطلقُ من فوهاتها المشرئبة نحو الأعلى كأنها ترسلُ قذائفها لتدكّ السماء. سمعنا أزيزَ قذائفَ تعبرُ فوق رؤوسنا وتسقطُ خلفنا فانتبهَ صاحبي إلى أننا أصبحنا داخلَ دائرةِ الخطر فسألَ الجنديَ المشرفَ على توزيع التموين:

" هاي احنه وين هسه؟ "

فرد عليه الجندي:

" راح ندخل مدينة المحمرة. "

وفعلاً بعد لحظاتٍ سارتِ السيارةُ على طريق إسفلتي ولاحتْ لنا بيوت قريبة وأشجار وتقاطعُ طرقٍ فأدركنا أننا في وسط المدينة. نيران لا تزال تشتعلُ في أبنيةٍ ومواقع لم نستطعْ معرفة طبيعتها. أصواتُ انفجاراتٍ قريبة تتركُ لها صدى يخلخلُ الهواءَ فتترنحُ السيارةُ نحو اليمين والشمال. انهالتْ علينا القذائفُ من كلّ جهةٍ وكنا نرى أماكنَ سقوطها على جانبي الطريق وإلى الخلف والدخانَ المتصاعدَ ونسمعُ أزيز الشظايا وهي ترتطمُ بجسدِ السيارة أو تعبرُ من فوق رؤوسنا، حتى سقطتْ واحدة على بعد خمسةِ أمتار من السيارة فأثارتْ حولنا عاصفةً من غبارٍ أسود. ركنَ السائقُ السيارة عند بناء خربٍ وترجلَ منها وهو يصرخُ بنا أنْ نترجلَ فحسبتُ أنّ السيارةَ قد أصيبتْ وأنها ستنفجرُ بعد لحظات. قفزنا بذهولٍ وتوجهنا إلى المكان الذي اختبأ فيه السائقُ وكان منزلاً صغيراً غادره أهله ربما هرباً أو موتاً. جلسنا متكورين على أنفسنا واضعين أيدينا على رؤوسنا.

" أتمنى لو تقطع ذراعي أو ساقي وأتسرح من الجيش. "

قال سائقُ السيارة كأنه يساومُ القدرَ من أجل حماية رأسه غير أنه تنبّهَ إلى أمرٍ ظناً منه بأننا نتهمه بالجبنِ فراح يدفع عن نفسه التهمة:

" مو جبن لو خوف من الموت، بالعكس الموت على عيني وراسي، الموت حق، أنا أتمنى أن لا تتوقف الحرب ونعود للمعسكر مرة أخرى أنا أريد أن أتسرح من الجيش. كرهت الحياة العسكرية، كرهت نفسي، كرهت كل شي... "

هززنا رؤوسنا مؤيدين كلامه بنظرةِ اشفاق. بصقَ على الأرضِ بغضبٍ ونهضَ شاتماً أباه واليومَ الأسود الذي جاء فيه إلى الحياة.

انتهتْ موجةُ القصفِ وعمّ سكون غريب كأنّ المتحاربين قد تعبوا فجأةً أو تواطؤا وربما ماتوا. عدنا إلى (الإيفا) بتمهلٍ كأننا نطيلُ لحظاتِ هذا الهدوء كي نستمتعَ بالأمان:

" تعرفون إيفا تعني حواء؟ "

قلتُ بسخريةٍ فالتفتّ إليّ السائقُ وقال كأن ملاحظتي البطِرة قد استفزته:

" ألف عير بكسها. "

" منو؟ "

سألتُ ببلاهةٍ فردّ عليّ وهو يضحك:

" أمنا القحبه اللي خلّفتنا للعذاب. "

كانَ أول شيء لفتَ انتباهي حينما وصلتُ الموضعَ وانضممتً إلى طاقمِ الدبابةِ التي سأكون فيها مساعداً للسائق وسأحلّ محلّه إذا " استشهدَ " أو تشكلتْ طواقم جديدة، هو الطريقةُ الشرهة التي يتبعها الجنودُ في الأكل، فما أن وضعتِ القصعةُ أمامهم حتى وقعوا عليها كأنهم لا يعرفون مواقع أفواههم متناسين الموتَ الجائعَ الذي يتربصُ بهم، بل حدثتْ مشاجرة بين اثنين من الجنودِ بسبب التوزيعِ غير العادلِ لقطعِ اللحم.

افترشتُ بطانيتي تحت الدبابة واستلقيتُ شاعراً بشيء من الراحةِ وكأنّ خطّ النهايةِ في السباقِ بين دهاليزِ الانتظار والمراوغة قد أصبح الآن واضحاً والطريقَ أمامي مستقيمة ولم يبقَ سوى الوصولِ إلى النهاية أو وصولِ النهايةِ إلي.

كان الطقسُ بارداً والريحُ تنقلُ عواءَ المدافع محدثة صدى يتردد في النفس لكنّ الخوفَ بدأ يتسربُ من ثقوبِ النفسِ حينما حلّ اليأسُ محلّه ولم يعدْ للرقيبِ من وجودٍ فقد أصبحَ كلّ شيء محكوماً باللحظة وكلّ فعلٍ يصدرُ عن الغريزةِ لا العقل، وأصبحَ الموتُ حقيقةً متجسدة. تطلعتُ إليه بنظراتٍ متوجسةٍ فرأيتُه أمامي ينظرُ إلينا بنهمٍ ويده تتحركُ داخلَ كيسِ القرعةِ كي يُخرج ورقةً فينادي على الاسمِ المكتوبِ عليها. تجرأتُ ورحتُ أحدّقُ في عينيه فرأيتهُ يقتربُ مني ببطء، فارداً ذراعيه كأنه يهمّ باحتضاني . خطوتُ نحوه بشوقٍ حتى أصبحنا معا داخلَ قوسين فوجدتُه على غير ما كنتُ أتوقع. كان أليفاً وخجولاً حدّ الإقناعِ بالذهاب معه بثقةٍ أو الاستكانة إلى سطوتهِ بإرادة حرة وطمأنينة. راح يمسدّ شعر رأسي بحنو.

" دللول يا الولد يبني دللول. "

تكوّرتُ على جسدي بوضعيةِ الجنين وغطيتُ رأسي بالبطانيةِ متدفئاً بأنفاسي الحارة.

أيقظني رفيقي كي أستلمَ بعده نوبةَ الحراسة. فركتُ عيني بكسلٍ بينما راحَ الآخرُ يحثّني على الإسراعِ بالنهوض. كانتِ الساعةُ تشيرُ إلى الثانية بعد منتصف الليل. استغربتُ كيف استطعتُ أن أنام نوماً عميقاً في مثل هذه الظروفِ وتحت دبابة لا يبعد أسفلها عن وجهي أكثرَ من شبرٍ واحد. خرجتُ زاحفاً متحاشياً إيقاظ النيام الذين غطّوا في النوم كأنهم أموات. تسلقتُ الدبابة حاشراً جسدي في موقع آمرِ الدبابة الذي بدتْ فتحته الدائرية كفوّهة التنور، فتراءى لي مشهدُ تنورٍ تضطرمُ فيه النيران وترتفعُ إلى الأعلى وأنا أقفُ كقصبةٍ تلتهمها النيرانُ بسهولةٍ تاركةً خيطَ رمادٍ يقاومُ السقوط. وقفتُ خلف الدوشكا فاقشعرّ جسدي وهالني مشهدُ شريطِ الرصاص الذي يخرجُ من جانبها ليمتدّ على البرجِ نزولاً نحو السرفة كأفعى صفراء. تلمستُ الرصاصات بحذرٍ، كانتْ باردةً مثل جثة. تخيلتُها كيف تخترقُ جسدَ إنسانٍ فتمزقه، إنسانٍ نذرتْ له أمّه عمرَها " كل شبر بنذر " حتى أصبحَ رجلاً ترجّ الأرضَ خطواتُه ثم يأتي الطغاةُ وببساطةِ مّنْ يستمني أوهامه، يشنّون حروباً تحرقُ الأخضرَ واليابسَ مخترعين صفاتٍ لا تقنع المُساق إلى المحرقةِ ولا تنفعُ القتيلَ بشيء طبعاً.. شهيد.. جبان.. مستبسل.. متخاذل.. وطن.. شرف.. روح النصر.. كرامة الأمة.. في سبيل الله.. ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.. لبيك يا علم العروبة كلنا نحمي الحما.. كلنا نحمي الحما.. احنه مره نعيشْ مره نموتْ مره بكل عمرنه.. ألف هنياله.. ألف هنياله اللي يستشهد بحبك يا.. يا وطنه.. يمّه بعرسي يغني المدفع طول الليلْ .. يمّه البارود من اشتمه ريحة هيلْ ..... ههههههههه ... تفووووو...

ارتسمتْ أمامي صورةُ تحسين بأناقته المدنية المفرطة وعبثه العسكري وراحَ صوتُه يتردد في أذني بوضوحٍ شديد، سخريته، صخبه، غضبه....

" سيدي .. السِكنْ يتشقق طيزه حتى يصير سايق سياره، شلون احنه بعشر تيام صرنا سواق دبابات وتنقلوننا للخطوط الأمامية؟ "

" قالوا للقرد ما تخاف من الله فقال القرد وماذا يمسخني بعد... "

" ماكو قرية أبعد من عبادان. "

" .................... "

فاتني أن أذكرَ بأني بعد أن وصلتُ إلى هذا الموضع بأقلّ من ساعةٍ وصلَ إلينا خبرٌ يقول بأن قذيفةَ هاون قد أصابتْ سيارةَ التموين التابعة لكتيبةِ المثنى وقد قُتل مَنْ كان فيها وذُكرت الأسماءُ وكان من بينها اسم تحسين. لم استطعْ أنْ أتمالكَ نفسي وشعرتُ بدوارٍ شديد وضيق في التنفس فسقطتُ على الأرض. اقتربَ مني آمرُ الدبابة النائب ضابط وهو يربتُ على كتفي موآسياً، ثم وبأعصابٍ باردةٍ قال:

" أخي كلنا على هذا الطريق. "

رفعتُ إليه رأسي وتطلعتُ بعينين دامعتين:

" ولكن كنّا معاً قبل ثلاث ساعات فقط. "

أطلقَ النائب ضابط ضحكةً وهو يردد ساخراً:

" ثلاث ساعات!؟ هه "

ثم استدركَ كلامه وبلهجةٍ حزينة قال:

" الحق معك، أنت مستجد، ماذا تقول لو سقطت الآن قذيفة بيننا وتطايرتُ أشلاء؟ بالتأكيد ستقول كان النائب ضابط محمد يحدثني قبل لحظة، قبل لحظة كان بكامل جسده ثم تحول أشلاء متناثرة في المكان، أخي هذي حرب مو لعب، قوّي قلبك، هذي حرب، وهم السابقون ونحن اللاحقون، كلنا على هذا الطريق. "

ثم وبإشارةٍ غامضة راحَ يردد بغضب:

" لعنة الله على من أشعلها، لعنة الله على الظالمين ... "

وفعلاً كان الحقُ معه حيث أني أدركتُ وبسرعةٍ قياسية بأنّ القانونَ السائد هنا هو (كلّ يقول يا نفسي) أو كما يردد البعضُ بطريقةٍ مهذبة " لكل قدره وكل شخص حُددتْ ساعة أجله "، حتى أنا نفسي قد نسيتُ أمرَ تحسين بعد وقتٍ قصير، نسيتُه مع جفاف الدمعتين اللتين سقطتا من عيني أول الأمر، وسرى عليّ مفعولُ القانونِ السائد هنا حينما اشتدّ القصفُ علينا وأمطرتِ السماء قذائفَ وضاقتِ الأرضُ بنا فرحتُ أدفع بقوةٍ الأجسادَ كي أجدَ لي موضعاً كافياً في الملجأ. 

تمسّكتُ بمقبضيّ الدوشكا وأدرتُ اتجاهها نحو اليمينِ والشمال وأنا أتطلع باتجاهيّ (العدو). كان الجيش الإيراني يحيط بنا من جهتين، الشرقية حيث نهر الكارون ومدينة عبادان، والجنوبية حيث ميناء المحمرة الذي عجزت القوات العراقية قبل يومين عن احتلاله  بعد أنْ أُبيدتْ كتيبة علي بن أبي طالب بكاملِ جنودها ومعداتها، وحدث عن طريق الخطأ أو الارتباك أن تصادمتْ كتيبتا الحسن والحسين في ما بينهما فأبيدَ أغلبُ جنودهما.

تشبثتُ بمقبضيْ الدوشكا وساقاي ترتعشان داخل الدبابة، تخيلتُ صورتي في مرآةِ نفسي وأنا أقف بهيئةِ المقاتلِ ذي القلب الحجري فسخرتُ من نفسي حينما أدركتُ عدم قدرتي على تمثيلِ الدور:

" يا إلهي سأصبح قاتلاً رغماً عني. "

رددتُ مع نفسي بحزنٍ متوسلاً بالعدو أن يكون هادئاً لمدة ساعتين فقط كي ينقذني من الإحراجِ أمام نفسي التي استيقظَ فيها هوسُ التأنيبِ وراحتْ تبحثُ عن حجةٍ ولحظةٍ تكتمل فيها الشجاعة أو اليأس كي تنفّذَ فكرةً تراودها منذ ثلاث سنوات، وها هي الحجة تحاصرني الآن، تمدّ لسانها ساخرةً مني، كاشفةً زيفَ ادعائي وتخاذلي عندما تحلّ لحظةُ المكاشفة مع الذات، وصوت يصرخُ بي أنْ أفي بالوعد، ولأنه واثق من عجزي فقد راحتْ قهقهاته الساخرةُ تحفرُ في روحي. كان العدو الذي أمامي صامتاً، راضياً بهزيمتهِ أو ربما يتحين فرصةً قادمة، وربما هو الآن مشغول بما يشغلني، غير أنّ العدو الذي خلفي لم يدعه يستمتعُ باستكانتهِ فقد راح يطبّقُ مقولةَ سيده الذي هو الآن في قصرهِ بين نسائهِ وعبيده، يحيطه فوجُ من الحرس والحماية، ولن يفقدَ أحدَ أبنائه بالتأكيد:

" قولوا لخميني سوف ندق على راسو إلى أن يستسلم، هه هه هه هه ".

انشقَّ السكونُ عن أصواتِ صواريخ قادمة من الخلف. التفتّ فرأيتُ لأول مرةٍ مشهدَ صواريخ الكاتيوشا وهي تنطلقُ من قاعدتها راسمةً خطوطاً ضوئية على وجهِ السماء ومحدثة إنفجارات متتالية على الجانب الآخر. عادتِ المدفعية الإيرانية ومدافع الهاون تردّ على مصادرِ النيران العراقية مصحوبة برشقاتِ قناصة كانتْ تمرّ من فوق رأسي تماماً تاركةً أزيزها يخترق أذني. صرخَ آمرُ السريّة:

"هَيْ.. أنتَ.. ردْ على مصادر النيران! "

كان صوته قادماً من الدبابة التي تقعُ على شمالي وتبعد بضعة أمتار. التفتّ إليه فلمحته واقفاً جنب الدبابة وهو يلوّحُ إليّ بيده ثم عاد يصرخُ بي أنْ أردّ على القناص. تهيأتُ ماسكاً مقبضي الدوشكا رافعاً سبطانتها إلى وجهِ العدو الثالث، العدو الذي يجلسُ الآن على عرشهِ بعيداً في سماواته السبع بين ملائكته وأنبيائه، مستمتعاً بقراءةِ التقارير التي وصلته عن أحوالِ خلقه، مطلاً على الحلبةِ كملكٍ روماني وهو يرى عبيده يتبارزون حتى يقضي أحدهم على الآخر. أطلقتُ نحوه دونما تأنيبِ ضميرٍ رشقةً فاهتزتِ الدبابة والأرض تحتي وارتسمَ خطّ أحمرُ من الرصاص الخارق صاعداً نحو السماء، منتظراً سقوطَ نيزكٍ أو ملاكٍ قتيل، إلا أنّ آمرَ السريّة عاد يصرخُ بي:

" انزلْ اتجاه الرمي! سددْ نحو مصدر النيران! "

أنزلتُ مستوى السبطانة وأغمضتُ عيني كيلا أرى وجهَ الذي سيلفظُ أنفاسَه الأخيرة على يديّ ثم ضغطتُ على الزناد فانطلقتْ رصاصة.. رصاصتان .. ثلاث. توقفتُ قليلاً فصرخَ آمرُ السريّة بي مرةً أخرى أن أواصل الرمي. أطبقتُ كفي على الزناد بقوة فأنطلقَ شريط من الرصاص أحمر على طول ساترِ العدو الذي يسدّ الأفقَ أمامي مردداً مع نفسي وكأني حسمتُ الأمرَ بعذرٍ لم أشغل نفسي بمدى صدقه:

" مَنْ لم يتلوثْ سيختنق بهذا الهواء الفاسد. "

انتظرتُ لحظاتٍ حتى وصلني الردّ من صاحبي الذي يقفُ الآن أمامي تماماً رشقةً، اصطدمتْ إحدى إطلاقاتها ببرجِ الدبابة على بعدِ سنتمترات قليلة من وجهي.

" الحمد لله إنه لايزال حياً. "

رددتُ مع نفسي وأضفتُ:

" ولكن أرجوك اجعلْ رصاصك خلباً لتدومَ الصداقة بيننا. "

ناديتُه جاداً وكأني أخاطبُ وجهاً لوجهٍ عدوي الذي سيق مثلي إلى حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وهكذا صرنا نتبادلُ الرسائلَ حتى انتهتِ الساعتان بأمانٍ فأيقظتُ رفيقي الآخر كي يباشرَ نوبته في الحراسةِ أو تبادل الرسائل مع عدو لا ملامحَ له. عدتُ محاولاً إغراء النوم بهذا الجسدِ المتعب، ولكنْ وقبلَ أنْ يقتربَ النومُ من صنارتي، ارتفعَ صراخُ الجندي الذي يقفُ في نوبة حراسته:

" السمتيات، جاءت السمتيات.... "

نهضَ الجنود فزعين من نومهم، وبسرعةٍ أخذَ كلّ منهم موقعه في الدبابة فبقيتُ أنا وحدي في العراء، لا أعرف ماذا ينبغي عليّ أنْ أفعلَ في تلك اللحظات وأين أختبئ، حيث أنّ الأرضَ مكشوفة والساتر الترابي واطئ لا يحجبُ قامةَ إنسان، ولأنّ التقدمَ متواصل والهجومَ على مواقع الجيش الإيراني متوقع في كلّ لحظة فقد اكتفى الجنود بأمرٍ من القيادة باتخاذ الدبابات كملاجئ مؤقتة، فالوقتُ لا يكفي لحفرِ خنادق أو ملاجئ تحت الأرض. تطلعتُ إلى الأفقِ الذي بدا واضحاً وقريباً فرأيتُ ثلاثَ طائراتٍ سمتية تحلّقُ على علوّ منخفضٍ، تدورُ ويتقاطعُ مسارَ طيرانها فوق ساترِ العدو الذي كان مضاءً بشعاع شمس توشكُ أنْ تستيقظَ على الأفقِ الملبّد بالدخانِ والحرائق. أطلقتْ إحدى الطائرات صاروخاً باتجاهنا. رأيتُه يقتربُ ككتلةٍ نارية.. يقتربُ فرميتُ نفسي في حفرةٍ قريبة أحدثتها قذيفة هاون لا تكفي لسترِ جسدي. أدخلتُ رأسي بين ساقيّ، مكوراً جسدي تاركاً مؤخرتي إلى الأعلى مكشوفة. سمعتُ أزيزاً قادماً فعرفتُ بخبرتي المتواضعة أنّ الصاروخَ قد تجاوزني، ثم سمعتُ صوتَ انفجارٍ خلفي هزّ الأرضَ بعنفٍ، وأزيز الشظايا وهي تتساقطُ كالمطرِ حولي، بينما راحتْ مدافع الـ 106 ملم ومدافع الدبابات تطلقُ صواريخها بتناوبٍ سريع. صرخَ أحد الجنودِ فرحاً وهو يشيرُ إلى سقوطِ إحدى الطائرات. نسيتُ الخطر الذي أنا فيه ونهضتُ فرأيتُ شعلةً ناريةً كبيرةً ودخاناً أسودَ يتطايرُ من مكانِ سقوطِ الطائرة. غادرتِ الطائرتان دون أنْ تتركا خسائرَ فتوقفَ القصفُ وعاد الجنود إلى مواضعهم وهم يتحدثون بزهوٍ بعد انقضاءِ فترةِ الرعبِ الصباحية بينما استمرتِ المدفعية العراقية تدكّ ساترَ الإيرانيين بعنف، واستمرَ قلقُ الترقبِ وانتظارِ لحظةِ إعلانِ مواصلة الهجوم ينقلها إلينا آمر السريّة.

في المساء وقبل غروبِ الشمسِ بقليلٍ أعلنتْ في الكتيبةِ حالةُ التأهبِ فشُدتِ اليطقاتُ على ظهرِ الدبابة وتوقفَ الجنود وهم يرقبون موضعَ آمرِ السريّة، وكلما خرجَ من موضعهِ انشدتْ إليه الأنظار. بعد العشاء خرج ليعلنَ بطريقةٍ يستعرضُ فيها شجاعته واندفاعه المؤمنَ بالقضية، الاستعدادَ للهجومِ على مواقع العدو. صعدَ الجميعُ إلى دباباتهم وبقيتُ وحدي كشيء ناتئ لا حاجةَ له، لا أعرفُ ماذا أفعلُ حيث أنّ طواقمَ الدباباتِ كاملة العدّة ولا يمكنني البقاءُ في المكان المكشوف. توقفَ آمرُ السريّة وهو يحدّقُ إليّ حائراً بأمري ثم أمرَ النائب ضابط محمد أن يحشرني في أيّ مكانٍ في الدبابة كشيء لا قيمةَ له، فما الفرق حينما تحترقُ الدبابةُ ويُقتلُ مَنْ فيها إنْ كانوا أربعةً أو خمسة؟. جلستُ داخلَ برجِ الدبابة مقرفصاً تحت قدمي المخابر عند شريطِ القذائف، مُصغياً بخوفٍ إلى الأوامرِ التي كان يستلمُها آمرُ الدبابة عبر سمّاعة القلنسوة:

" آدمْ.. آدمْ.. كيف تسمعني أجبْ! "

" آدم.. آدم.. يسمعكَ سيدي أجبْ! "

لغةٌ غامضة بالنسبة إليّ كغموضِ الموقفِ وكغموضِ وجودي في هذا المكانِ الذي لا وجود لآدم فيه. خطرتْ في ذهني فكرةُ الهرب، ولكنْ أين سيكونُ اتجاهُ هربي في هذه المتاهةِ المحاصرةِ بالقذائف والدخان؟ فقد أضعتُ اتجاهَ العراق بل الجهات كلّها وكأني أقفُ في موضعٍ لا إحداثيات له أو يقعُ خارجَ المكانِ والزمانِ، لكني عاهدتُ نفسي بأنني سأنفّذ فكرةَ الهربِ في أقربِ فرصةٍ وأعني بعد انتهاء الهجوم، هذا إنْ بقيتُ حيّاً أما إذا.....، قطعتُ الفكرةَ قبل أن أكملها. سأهربُ.. نعم سأهربُ إنْ سلمتُ من هذا الهجومِ وليكنْ ما يكون.. الموتُ واحد ولكنْ ليكنْ موتاً مشرفاً.. موتَ الرافضِ للحربِ وعلى يد عدو حقيقي.. موتاً يتيحُ لي فرصةَ أنْ أبصقَ في وجهِ قاتلي على الأقل.. لا حرقاً في دبابةٍ لم يتركْ لي فرصة حتى للصراخ، حتى لشتيمة صدام حسين....

كنتُ بين حينٍ وآخرَ أمدّ رأسي من فتحةِ المخابر أو فتحة السائق فأرى السماءَ وقد أضيئتْ بإطلاقاتِ التنوير التي تكشفُ عن سحابةِ الدخان التي غطتِ المكان. اشتدّ قصفُ المدفعية العراقية وراجمات الكاتيوشا وبين لحظة وأخرى تسقطُ قذيفةُ هاون بالقربِ من الدبابة فنغلقُ الأبوابَ ونصغي إلى صوتِ الشظايا المتساقطة على حديد البرج . كنتُ أشعرُ بساقيّ المخابرِ وهما ترتعشان قربي وصوتِ اصطكاكِ أسنانٍ تقرضُ نفسها مصحوباً بتهجدٍ وقراءة أدعية وتوسلات بالرب الغافل والأئمة المقتولين. كان النائب ضابط محمد يردد:

" دخيل علي.. دخيل الحسن.. دخيل الحسين.. "

وحينما يكملُ العدّ إلى الثاني عشر.. الغائب الذي يرى من غيبتهِ ما يدورُ على الأرضِ التي مُلئتْ ظلماً وجوراً، وربما يزيد اسماً أو اسمين يعود بعدها للعدّ من جديد.. وهكذا لم يتوقفْ حتى جاء الأمرُ بالتحركِ فطغى صوتُ المحركِ على كلّ صوتٍ سواه، وانطلقتِ الدبابة بهبوطٍ حاد من الساترِ الترابي كأنها سقطتْ في حفرةٍ عميقة ثم نهضتْ ثانيةً تلتهم الأرض. كنتُ أعدّ اللحظاتِ وأنا أقضمُ أظافري بقلقٍ، مغمضاً عيني، منتظراً لحظةَ وصولِ الصاروخ. خمس ثوانٍ لا غير بين ارتطامِ الصاروخِ بالدبابة والانفجار وعندها تكون الهزيمة ثلثي المراجل، ولكن كيف لي أنْ أدبرَ أمرَ الهزيمة وأنا محشور في أسفلِ قاعِ الدبابة؟ الأمرُ يحتاجُ إلى خمس دقائق على الأقل عندها سأكونُ قطعةَ فحم أو قطعةَ لا شيء مصهور مع الحديد.

" بلا مراجل بلا هزيمة. "

رددتُ مع نفسي وأضفتُ كأني أحاولُ أنْ أجدَ مبرراً للموتِ أو مبرراً للعبث:

" تعال يا موت.. تعال ستجدني مستسلماً دون اعتراض أو محاولة للهرب .. تعال خلّصني .. تعال.. كس أخت هالحياة التافهة. "

توقفتْ دبابة آدم بأمر من آمر السرية بعد أن قطعنا مسافةً لا أستطيع تقديرها ولكني سمعتُ رامي الدبابة جثير زاير قد قرأ آيةَ الكرسي أكثرَ من خمسين مرة، وفي كل مرةٍ كان يخطئ في لفظِ (ولا يؤده حفظهما) فيثير انتباهي. هدأ القصفُ المدفعي قليلاً فأخرجتُ رأسي من فتحةِ المخابر فرأيتُ السماءَ مضاءةً بإطلاقاتِ التنوير الصفراء والخضراء.

" وين أحنه هسه؟ "

سألَ أحدهم فردّ النائبُ ضابط:

" اجتزنا ساتر العدو. "

قال بزهوٍ ثم أضافَ مستعيراً عبارته من صيغةِ البيانات العسكرية:

" فرّ متقهقراً. "

وقفَ خارجَ البرجِ وراحَ يحدّق في ناظورِ الرؤيةِ الليلية ثم صرخَ:

" صرنا قريبين من نهرِ الكارون. "

ارتفعَ صوتُ أكثرَ من ماكنةِ حفر (شفل) تعملُ على بناءِ ساترٍ ترابي أمام الدبابات فأشارَ إلينا النائب ضابط متباهياً بخبرتهِ الحربية بأنّ هجومَ الليلة قد انتهى عند هذا الحد. وفعلاً بعد فترةٍ تقاربُ الساعتين قامَ السائقُ بإدخالِ الدبابة في الملجأ الترابي وترجلنا ننفضُ عن رؤوسنا غبارَ الموتِ الذي ابتعدتْ عاصفته قليلاً.  

قضينا الليلةَ في حفرِ مواضعَ شقيّةٍ صغيرة قرب الدبابة تحسباً لقدومِ الطائرات السمتية عند الفجر. كنتُ أكثرَ الجنود همّة في الحفر مستفيداً من خبرةِ الأمس، وقد أثمرتْ جهودي، فكان لي فيها مكانٌ آمن عندما عادتِ السمتيات الإيرانية تقصفُ مواقعنا فجراً. جلستُ مقرفصاً أعدّ اللحظاتِ وأفكر باللاشيء. أعرفُ من خلال تجربةِ الأمس ومما نُقلَ إليّ بأنّ زيارةَ الرعب الذي تنشره الطائراتُ السمتية لا تتعدى ربعَ الساعةِ في الحسابِ الطبيعي للزمنِ ولكنْ قد تكون هذه الفترة كافية لإزهاقِ روح مَنْ كُتبَ عليه الموتُ في هذا الفجر، ومَنْ يدري على مَنْ يقفُ سهمُ اليانصيب؟. سمعتُ أصواتَ انفجاراتٍ قريبة جداً من موضعي وأزيز صواريخ وشظايا. هدأ القصفُ قليلاً فتجرأتُ وأخرجتُ رأسي قليلاً من الحفرةِ فرأيتُ طائرةَ الفانتوم قادمةً من جهةِ اليمين منقضّة تكاد تلامسُ الأرض. مرّ الشبحُ من فوقي تماماً فانهالَ ترابُ الموضع عليّ حتى كاد يدفنني. شعرتُ أني دخلتُ في غيبوبةٍ فتوهمتُ بأني قد انتقلتُ إلى العالمِ الآخر أو أنني على الأقل قد أصبتُ. صرختُ أو توهمتُ بأني صرختُ، ليس مستنجداً بأحدٍ بل لكي أتحققَ من موتي. سمعتُ صدى صرختي يتردد في داخلي، وحينما تيقنتُ بأنه أخطأني هذه المرة أيضاً، عدتُ أتلمسُ موضع الإصابة فرأيتُ رصاصةً رشيقةً ومحززة بطولِ إصبع مغروزة عند حافةِ الموضعِ ولا تبعد عن رأسي أكثرَ من عشرة سنتمترات. تلمستُها بإصبعي، كانتْ ساخنة. اقشعرّ جسدي وأنا أتخيلُ اصطدامها برأسي في لحظةٍ قدرية معلومة في اللوحِ المحفوظ. لم أنتبه إلى أنّ القصفَ قد توقفَ وعادتِ السمتيات إلى مواقعها. خرجَ الجنود من الدبابات وكلّ منهم يتفقد جسده. هرعَ أحدهم إليّ حينما رأى الترابَ المنهالَ على الموضعِ وساعدني على النهوض. أخرجتُ جثتي من تحت الترابِ وأنا أنفضُ الموتَ الذي غطاني ثم وفي لحظةٍ غيّر رأيه فأزاحَ عني غطاءه مؤجلاً الموعد إلى فرصةٍ أخرى. كان الأمرُ مختلفاً عن فجر الأمس فقد كان القصفُ أشدّ ضراوةٍ وقد تركتِ الطائراتُ اليوم بصماتها الناريةَ على المكان. كانتِ النيرانُ تشتعلُ بإحدى دبابات كتيبتنا ويتفجرُ العتاة فيها فينطلقُ اللهبُ من الفتحات الدائرية مصحوباً بزفيرٍ يثيرُ أقصى حالاتِ الرعب. بعد ذلك علمنا بمقتلِ أحد طاقمها وجرحِ الباقين. مرتْ سيارة الإسعاف قربي مسرعةً فلم أرَ وجه القتيل ولكني شممتُ رائحةَ الموت تخترقُ ذاكرتي.      

هدأ المتحاربون بعد هذه الجولةِ القاسية وانسحبَ الموتُ، فانشغلَ الجنود بإعدادِ الفطورِ وهم يعيدون الشريطَ بزهوٍ كأنّ المشهدَ قد انتهى تماماً ولن يتكررَ غداً أو ربما بعد قليل. كان كلّ منهم يرسمُ لحظاتِ احتضاره ويضيفُ إليها لمساتٍ طفيفةً مما كان يفكر فيه لحظة مواجهة الموتِ الأكيد. عادتْ فكرةُ الهربِ إلى الأمام أو إلى الخلف تستفزني وتُذكّرني بالعهدِ الذي قطعتُه على نفسي وأنا في النزع الأخير. كانتْ فكرةُ الهربِ إلى الجانبِ الإيراني قد ارتسمتْ في ذهني قبل نقلنا إلى الخطوط الأمامية، ولكنني حينما قلّبتُ الأمر وفقاً لما تكونتْ لي من معرفةٍ في تضاريسِ المكان وجدتُ الأمر مستحيلاً في مثلِ هذا الوقت حيث الحراسات المشددة والمكان السهلي المنبسط يجعلُ الهاربَ عرضةً للرصاصِ القادم من الجهتين. بالغتُ ونحن نتناول الفطور بالضجرِ والعبث فتفوهتُ بكلامٍ أردتُه أنْ يكونَ أقربَ إلى المزاحِ منه إلى الجد لكي يسهلَ عليّ التراجعُ عنه، حول نيتي، فاكتشفتُ أنّ الفكرةَ قد خطرتْ مسبقاً في أذهانِ رفاقي، بل رحنا أنا وجثير زاير نخططُ للأمرِ بجديّةٍ ونتفحصُ أيّة جهةٍ هي أقرب إلى مواقع الجيش الإيراني وأيّ الأوقات هو الأفضل لتنفيذِ الخطة، وفي كلّ مرةٍ نؤجلُ التنفيذَ إلى فرصةٍ مناسبة.

" لولا نهر الكارون يفصل بيننا وأنا لا أعرف السباحة لفعلتُ ذلك الليلة. "

قلتُ وأنا أعلم بأني غير صادقٍ بما أقول ولكنّ أمراً لا أعرفه كان يدفعني لهذا الادّعاء ربما الأمنية أو محاولة إعلانِ البراءةِ من المشاركة في حرب قذرة، حتى لو جاء هذا الإعلان أمام إنسانٍ بسيط كجثير زاير. وعلى الرغم من أنّ الفكرةَ كانتْ معلّقة إلا أنها رسمتْ خطوطاً أخرى للمصيرِ الذي سننتهي إليه، فلم تعد صورةُ احتراقِ جسدي في الدبابة هي الصورة الوحيدة التي ترتسمُ أمامي وإنما هناك صورة اللاجئ أو الأسير على الأقل.

" ماذا سيحدثُ في الأيام القادمة؟ "

هذا ما كان يشغلُ تفكيرَ الجنود كل لحظة.

" سنبقى في هذا المكان فترة طويلة، وسيستمر الموقف كما هو عليه الآن، مناوشات بالمدفعية والصواريخ. "

قال أحدهم فاعترضَ الآخر:

" سنعبر نهر الكارون إلى الجهة الثانية وسنحتل مدينة عبادان. "

" مستحيل، عبادان مدينة كبيرة ولا يمكن احتلالها بسهولة. سندفع خسائر كبيرة. "

" يمعود، منو يفكر بينا، احنه أولاد الخايبه! "

" وفد من الدول الإسلامية سيصل إلى طهران لإقناع الخميني. "

" لن يقتنع. "

" أقطع ذراعي إذا توقفت الحرب. "

" منظمة الأمم المتحدة أرسلت موفدها. "

" سيرضخ الخميني الدجال أخيراً. "

" ليش دجال؟ مو هسه احنه محتلين أرضه. "

" اششششش! "

" متى نستطيع الذهاب في إجازة؟ "

" الله كريم. "

" ........................ "

مرّ أسبوع على وجودي في الخطوطِ الأمامية فلمستُ شيئاً قد تغيّرَ في سلوكي، فما أن وضعتِ القصعة بيننا حتى نسيتُ الموتَ والقذائفَ، وعلى الرغم من أني لم أكنْ جائعاً وليس عندي شهية للأكل إلا أني رحتُ أزاحم الآخرين على قطعِ اللحمِ وألتهمُ الأكل بشراهة غريبة، ثم أتجشأ بصوتٍ عال كما يفعلُ الآخرون أو أحدثُ صوتاً حينما أرتشفُ الشاي الساخن، كذلك تدربتُ بسرعةٍ على الطريقةِ المتبعة لتأجيلِ التبرز حتى يحين الوقتُ المناسب:

" كسّرها! "

قال النائب ضابط محمد وحينما لم أدركْ القصد راح يوضحُ لي الطريقة التي يمكن إتباعها لتأجيل موعد التبرز وذلك (بتكسيرها) على شكلِ إفرازاتٍ غازية. طبقتُ الخطّةَ بنجاحٍ بعد أن انتزعتُ الخجل شيئاً فشيئاً حتى صار الأمرُ طبيعياً بل أكثر من ذلك حيث دخلتُ لعبةَ المراهنات. لم أشتركْ في اللعبةِ أول الأمر خجلاً وتقززاً إلا أني بعد ذلك وجدتُها أمراً لا مفرَ منه. وعلى الرغم من أني لم أحرزْ مرةً واحدة على رقمٍ قياسي لأقوى ضرطة لكني دخلتُ دائرةَ الضرّاطين بامتياز. ليس هذا الأمر الوحيد الذي تآلفتُ معه خلال أسبوعٍ فقط بل هناك أمور أخرى مثل استقبالِ أجلّ الأمور باللاأبالية:

" الله يرحمه.. كلنا على هالطريق. "

" إلى رحمة الله .. جاء يومه. "

" هم السابقون ونحن اللاحقون. "

" إنا لله وإنا إليه راجعون. "

أما في ساعتيّ الحراسة فقد اكتشفتُ طريقةً سريةً لنسيانِ الخوفِ وللتخلصِ من ثقلِ الزمن. كنتُ أقفُ على كرسي الرامي، نصفي العلوي في الخارجِ أما النصف الثاني فمخفيّ داخلَ برجِ الدبابة، أنظرُ إلى الأمام سارحاً في خيالٍ خارج المكان. يد تتشبثُ بمقبضِ الدوشكا والأخرى في جيب بنطالي وقد أحدثتُ ثقباً فيه يكفي لإخراج رأسِ قضيبي منه. أظلّ أفركه ببطء منتشياً، محاولاً إطالةَ فترة المتعة ومراوغاً الزمن الثقيل، وربما تستغرقُ العملية وقتَ الحراسة كلّه. ينتهي الأمرُ بضغطةٍ على زنادِ الدوشكا تمويهاً لإخفاء الجريمة فيندفع المني من السبطانة المنتصبة سائلاً أحمرَ نارياً نحو السماء أو نحو عدوي الواقف الآن أمامي مشغولاً بطرقٍ سريةٍ أخرى وربما بصلاةٍ أو دعاءٍ لوجه الله، يستمنيه طارداً الخوف الذي يستبدّ به.

" راح فد يوم نسمع صوت أطفال في الدبابة. "

قال عبد الأمير كاظم دون أن يوجّه كلامه إلى شخص محدد فاكتشفتُ أن اكتشافي ليس جديداً بل إنّ لكلّ منا ثقباً في جيبِ بنطاله.

منذ غروبِ الشمس بُلّغنا بعدمِ إطلاق النار لأيّ سببٍ كان، فانتشرَ الهمسُ بين الجنود الذين تجمعوا عند دبابتنا، وراحت التآويل تترى:

" أثمرتْ مباحثات الوساطة. "

صرخَ أحد الجنود وهو يقفزُ فرحاً، بينما راح ثانٍ يفسّر الأمرَ على أنه محاولة من القيادة العراقية لعرضِ حسن النية تمهيداً للهدنة.

" هدنة من طرف واحد. "

" لا هدنه ولا بطيخ، كلّ ما في الأمر أن جنود الوحدة الهندسية سيتسللون لزراعة الألغام في الأرض الحرام. "

قال النائب ضابط محمد فتطلعَ الجنود في وجوه بعضهم منكفئين ساخرين من غياب فطنتهم. التوتْ أعناقهم وسقطتْ رؤوسهم على الأكتافِ بعد أن تسربَ الفرح منهم كما يتسرب الهواء من دولابٍ مثقوب حتى غطتْ وجوههم سحابة سوداء، لم تستمر على حالها فقد انقشعت قليلاً وعاد الفرح إلى الوجوه، لكنه فرحُ المقامرِ الخاسرِ الذي يستردّ في نهايةِ اللعبةِ مبلغاً ضئيلاً مما خسره، حينما أعلنَ النائب ضابط بزهوِ الخبير بالأمورِ العسكرية وسط الوجوه التي كانتْ تتطلعُ إليه باهتمام:

" هذا يعني أن الهجوم توقف أو على الأقل سنبقى هنا في هذا المكان فترة طويلة. "

أيّده الباقون بسرعةٍ مُثنين على ذكائهِ بينما لم يتنازلْ بعض منهم عن تفاؤلهِ الأول فراحَ يفسّرُ الأمرَ على أنه خطوة أولى ستلحقها خطوات تنتهي بإيقافِ إطلاقِ النار وانسحابِ القوات العراقية من الأراضي الإيرانية.

" المهم لا يوجد هجوم الليلة أو غداً أما أمر السمتيات فنتركها على رحمة الله. "

" وستنفتح الإجازات الدورية. "

تلك الليلة مرّتْ بهدوء دون قصف، ونامَ الجنود حالمين بعودتهم بإجازةٍ لرؤيةِ أهلهم وزوجاتهم بعد أنْ كان هذا الأمرُ أشبه بالمستحيل، وقد تعززَ هذا الوهمُ في النفوسِ حتى غدا حقيقةً لا تحتاجُ سوى الصبرِ لبضعةِ أيام لتنزلَ من سماءِ الوهم على أرضِ الواقع، حينما لم تعد السمتيات فجراً ففسّر الأمرُ على أنّ الجانبَ الإيراني قد استجابَ إلى رسالةِ الهدنة التي أرسلتها إليه أمسِ قيادةُ العراق الحكيمة. ذوى الأملُ نهاراً عندما بدأتِ المدفعية العراقية تدكّ المواقعَ الإيرانية واشتدّ القصفُ المتبادلُ فراحَ الجميعُ يسخرُ من تفاؤلهِ وجازفَ أحد الجنود بشتمِ صدام حسين بصوتٍ عال:

" الذي ورّطنا بهذه الورطة السوداء. "

مرّت الشتيمة في الهواء دون أن ترسوَ على مسمعٍ كأنها قادمةٌ من المجهولِ وكأنّ الأسماعَ تواطأتْ مع طرشها، لكنها وجدتْ استجابةً غير معلنةٍ من قبل الجميع حيث تفرّقَ الجنود وابتسامات سرية تلوحُ على أفواههم. أصابتْ قذيفةٌ السيارةَ التي تسحبُ خزانَ الماء فتوقفتْ في الأرض المكشوفة التي تقع خلفنا. تطلبَ الأمرُ أنْ يذهبَ أحد الجنودِ لنقلِ الماءِ قاطعاً في العراء المكشوف مسافةً تبلغُ مائتي متراً ذهاباً وعودة، وقبل أنْ نحتكمَ إلى القرعة تبرعتُ أنا بالذهاب فحزتُ على إعجابِ الجميع، وكان ذلك أول ظهورٍ ومشاركةٍ فعّالة لي تلقفها رفاقي بالترحيبِ والمودة. حملتُ البرميلَ البلاستيكي وانطلقتُ دون أنْ ألتفتَ إلى الخلف، وقد بالغتُ بالثقةِ حيث رحتُ أخطو ببطءٍ استعراضي فصرخَ بي آمرُ السريّة أنْ أركضَ مفتعلاً الحرصَ على سلامتي. عدتُ بالماءِ وسط إعجابِ الجميع، وزيادةً في الادّعاء أعلنتُ استعدادي على تكرارِ العملية فلم يعترضْ أحد وهكذا قمتُ بنقل الماء إلى دبابة آمرِ السريّة الذي سألني عن سرّ هذا التفاني فأجبتُ بالكليشة التي لم تلامسْ جدارَ مخي:

" ليش الخوف؟ كل واحد ويومه. "

في الليلة الثالثة سقطتِ الهدنة الموهومة وابتدأ القصفُ منذ مغيبِ الشمس وأعلنتْ حالةُ التأهبِ لشنّ هجومٍ جديد. شُدتْ اليطقاتُ على ظهرِ الدبابة وجلسَ كلّ منّا محشوراً في محلهِ داخل الدبابة بانتظارِ أمر الانطلاق.

" آدم.. آدم.. كيف تسمعني أجبْ "

وصلنا صوتُ آمر السريّة عبرَ جهازِ الدبابة فردّ عليه النائب ضابط:

" آدم يسمعك جيداً أجبْ. "

وانطلقتِ الدبابةُ نحو الأمام قاطعةً خيطَ الأملِ الواهنَ الذي كان يتمسكُ به بعضُ الحالمين بأنْ سيكون انطلاقنا هذه المرة نحو الخلف كما همسَ السائق قبل بدء الهجوم كأمنيةِ المحكومِ بالإعدامِ بصدورِ العفو قبل التنفيذِ بدقيقة. سارتِ الدبابة بأقصى سرعتها دون أنْ نواجهَ بنيرانٍ كثيفةٍ كما حدثَ لنا في الهجومِ السابق فتوجسنا خوفاً أكبر من أن يكونَ العدو يستدرجنا إلى فخ قد نصبه، غير أن النائب ضابط راح يطمئننا بثقةٍ وزهو بأنّ هناك فرقةَ استطلاع وأخرى للمغاوير متقدمة والأمور تشيرُ إلى أن العدو قد أخلى مواقعه أو ربما لا وجودَ له أصلاً في هذه المنطقة، وفعلاً كان ذلك فحينما وصلنا قريباً من نهر الكارون توقفتِ الدبابات فشاهدنا جسراً عسكرياً قد قامتْ فرقةُ الهندسة بنصبه. كان الجو هادئاً والنجومُ تضيء السماء. ترجلَ آمرُ الدبابة وذهبَ إلى كتفِ النهر ثم عادَ مسرعاً ليخبرنا بأنّ قواتِ المغاوير المتقدمة قد أحكمتْ سيطرتها على الجانبِ الشرقي من نهرِ الكارون وسنعبرُ إلى الجهةِ الثانية حينما يأتينا أمرُ العبور.

كانتْ دبابتي هي الدبابة الثانية بعد دبابةِ آمرِ السريّة التي عبرتِ النهرَ إلى الجهة الثانية. كان العبورُ سهلاً على الرغم من مبالغةِ الإعلام العراقي بتضخيمِ الانتصار حيث لم نواجَهْ بأيّة قوة دفاع سوى بعض قذائفِ الهاون التي كانتْ تسقطُ في الماءِ أو تسقطُ بعيداً خلفنا. في منتصفِ الجسر تمايلتِ الدبابةُ يميناً وشمالاً فارتفعَ صوتُ جثير بالدعاء وأغمضتُ عينيّ مرتعشاً من الموت غرقاً، أنا الذي لم يقتربْ من نهر دجلة على الرغم من أنّ بيتنا لا يبعد سوى بضعة أمتار عنه. ارتفعتِ الدبابةُ حتى كأنها استقامتْ على مؤخرتها ثم هبطتْ بشكلٍ مفاجئ فارتطمَ رأسي بالجدارِ الحديدي. أطلقتُ شتيمةً لم يسمعها أحد حيث كانَ ضجيجُ المحركِ يطغى على كلّ صوت. سارتْ قليلاً ثم توقفتْ. أخرجتُ رأسي فلمحتُ ضابطاً برتبةِ رائد ركن واقفاً على طرفِ الجسر ينظمُ مرورَ الدباباتِ بإشاراتٍ من يده. أشارَ إلينا بإشارةِ النصر وبيدهِ الأخرى إلى مواصلةِ التقدم. التفتَ سائقُ الدبابة إليّ طالباً مني أن أحلّ محلّه بسببِ الصداع الذي لم يعد يطيق آلامه. استبدلنا المواقعَ فجلستُ على كرسيّ القيادة أول مرة. ارتديتُ القلنسوة وتأكدتُ من سلامةِ الصوت، وحينما أشارَ إليّ آمر الدبابة بالتحرك ضغطتُ على دواسة الكاز فنطّت الدبابةُ وانطفأ المحرك فسمعتُ رفاقي يصرخون بالشتيمة. أعدتُ تشغيلَ المحرك ويداي ترتعشان. تشبثتُ بعصيّ القيادة رافعاً قدمي اليسرى عن دواسةِ الفاصل شيئاً فشيئاً فانطلقت الدبابة. نسيتُ الخوفَ والموتَ فقد كان جلّ اهتمامي هو كيفية تدبيرِ أمر القيادة. وطالما أنّ الأرض التي أمامي خالية وتتسعُ لأرتالٍ من الدبابات فقد انطلقتُ بسرعةٍ في الظلام مخترقاً قلبَ المجهول بنيّة مجهولة. أبطأتُ القيادة حينما استطعتُ اللحاقَ بدبابةِ آمر السريّة التي كانتْ تتقدمني وسرتُ على بعد مسافةٍ ليستْ قريبة خوفاً من الارتطام بها. لا أدري كم من الوقت مضى والمسافة التي قطعتها، ولم يكنْ هذا الأمرُ يهمني بقدرِ ما يهمني انتهاء مهمتي بنجاح. كانتْ ماكنةُ الحفرِ (الشفل) قد أتمتْ إنشاءَ سواترَ ترابيةٍ ومواضعَ للدبابات. أشارَ إليّ آمرُ الكتيبة أنْ أدخلَ الدبابةَ في أحد المواضع. خطرتْ لي فكرة غريبة وهي أنْ أتوجهَ بسرعةٍ قصوى نحو الآمرِ غير أني عدلتُ عنها وكأنّ الهاتفَ الذي كان يدعوني غيّر فكرته أو ربما أجّلها إلى وقتٍ آخر، وربما كانتْ محض أمنيةٍ لستُ أهلاً لتحقيقها. أخرجتُ جسدي من فتحة القيادة بعد أن تأكدتُ من سحبِ عصيّ الوقوف وإغلاقِ قناني الغاز. وقفتُ على سطحِ الدبابة شاعراً بالزهوِ كأني أنتصر على عدوٍ لا وجود له. وعلى الرغم من برودةِ طقس شهر تشرين الثاني إلا أن جسدي كان ينضحُ بالعرق حتى التصقَ قميصي بظهري وجفّ ريقي.

في الصباح انكشفَ لنا المشهدُ فرأينا قريةً تقع خلفنا لم أكنْ قد رأيتها أمس لانشغالي  بالقيادة. (قرية المارد) بيوتٌ متراصّة على بعضها مشيّدة بآجرّ طيني تشبه قرى الجنوب العراقي وقد انتشرتْ في أزقتها أسراب من الدجاجِ الهائج كأنه يبحثُ عن أهله وعجول خائفة من بينها عجل أعرجُ وآخر أصابته شظية في عنقه، سارع الجنود إلى ذبحه.

" أين ذهب أهلها؟ "

سألَ أكثرُ من جندي بامتعاضٍ فكان الجوابُ بأنهم أخذوا إلى الخطوط الخلفية، وهمسَ لي جندي بأنه شاهدَ جثتين لرجلٍ وامرأةٍ تمّ دفنهما سريعاً. كانتْ رائحةُ الجثثِ التي لم نرها وربما كنّا نتوهمُ وجودها تزكمُ أنوفنا فيستبدّ بنا غضب مكتوم راحَ يظهر همساً ثم ارتفعَ صوته علانيةً حتى أمامَ ضباط الكتيبة الذين كانوا يتهربون من الجواب بتبرئةِ أنفسهم من الجريمة بعباراتٍ تتلذذ بعبوديتها وتجد فيها حججاً لتنفيذ جرائم القيادة. شُيّد ساتر ترابي عالٍ وعريض وانشغلنا بحفرِ ملاجئ محصّنة ومسقوفة بقطعٍ من خشبِ السكك الحديدية التي كانت السيارات العسكرية تنقلها إلينا من مدينةِ المحمرة. بدا واضحاً من خلال تحصينِ الملاجئ واتخاذِ الكتيبة قرية المارد كمقر لها أنّ الهجومَ قد توقفَ وأنّ إقامتنا في هذا المكانِ ستطولُ إلى فترةٍ غير محددة. الأرضُ منبسطة ومكشوفة لكن لا يلوحُ على الأفقِ المقابل ما يدلّ على أن القطعاتِ الإيرانية قريبة منا، وهذا ما تأكد لنا حينما لم نسمعْ أصواتَ إطلاقاتٍ أو رشقاتِ قناص بل حتى قذائف الهاون كانتْ لا يصل مداها مواقعنا، وحدها الطائرات السمتية كانتْ تقتربُ منّا عند الفجر وكانتْ تجابه بنيرانٍ كثيفة تضطر على أثرها إلى الانسحاب. شعرنا بالاطمئنان حتى أن بعضَ العرفاء عبّروا عن شعورهم بالراحةِ وتفضيل هذا المكان على معسكراتِ الخطوط الخلفية في أوقات السلم، حيث أنهم تخلصوا هنا من عجرفة الضباط والأوامر الصارمة. كانتِ الفرحة كبيرة حينما أعلنَ عن فتحِ الإجازاتِ الدورية فذهبتْ وجبة من الجنود من بينها سائق دبابتنا فتوليتُ أمر القيادة، وكنت خائفاً من أنْ يحدثَ هجوم أو تحرك أثناء غيابه غير أنّ هذا لم يحدث. بعد أسبوعين جاء دوري في الإجازةِ فانطلقتْ بنا قبل الفجرِ بقليلِ  سيارةُ الإيفا من قرية المارد وعند الصباح توقفتْ في ساحةِ أم البروم بالبصرة. كتمتُ شعوري وقد كنتُ خائفاً من اتخاذِ أيّ قرار. كان همي الوحيد هو الوصولُ إلى أهلي سالماً وسأقضي هناك خمسة أيام عسى أنْ يحدثَ أمر خلالها فتواطأتُ مع نفسي على إخفاء نيتي. خلال الإجازة اتصلتُ بمَنْ أعرف من الأصدقاء الذين كنتُ أشكّ بأنهم لا يزالون يحتفظون بخيوطِ الصداقةِ أو الانتماء إلى الحزب الشيوعي لتدبيرِ أمرِ الهروب من الجبهة والالتحاقِ في صفوف الأنصار أو العبور من هناك إلى إيران أو سوريا. تمسكتُ بخيطِ أمل مدّه إليّ بعضُ الأصدقاء إلا أنهم كانوا يؤكدون بأنّ الأمر لا يتم بهذا السهولة بل يحتاجُ إلى بعض الوقت، فكيف سيمضي هذا الوقتُ وأيّ قرار عليّ اتخاذه. في اليوم الأخير من إجازتي أخبرتُ أهلي بنيتي الهروب من الجبهة والاختباء في البيت فرأيتُ الامتعاضَ قد ارتسمَ على الوجوه واضحاً على الرغم من أن لا أحد تفوّه بكلمة تشجيعٍ أو نهي.

" الموت في أي مكان هنا أو في الجبهة. "

قال أخي الأكبرُ مني فاستلمتُ الرسالةَ بوضوح، عندها كسرتُ ترددي وقررتُ العودة إلى الجبهة على أملِ تنفيذِ الأمرِ في الإجازة القادمة كما أمّلني صديق لي بأنه سيدبر أمر نقلي إلى مدينة السليمانية ومن هناك سيكون بإمكاني الالتحاق بصفوفِ الأنصار أو عبور الحدود لاجئاً إلى إيران أو سوريا.

ثلاثَ مرّاتٍ عدتُ سالماً بإجازةٍ وفي كلّ مرة كان صاحبي يجد عذراً للتهربِ من الإيفاء بوعدهِ مرةً بسببِ إغلاقِ الطرق لتساقط الثلوج ومرةً بسببِ الصداماتِ المسلحة بين جماعةِ جلال الطالباني من جهةٍ وجماعة البارزاني والحزب الشيوعي من جهةٍ أخرى حتى شعرتُ باليأس مستسلماً للقدرِ وللمجهول الذي يسوقني في آخر يومٍ من إجازتي نحو كراج السيارات متوجهاً إلى جبهةِ الموتِ الذي أحاولُ تأجيلَ التفكيرِ فيه مستمتعاً بالساعاتِ الأربع التي تستغرقها السيارة في قطع الطريق بين الكوت والبصرة.

شلامجة، نهر الكارون، قرية المارد، معمل السفن، مشارف عبادان، نهر بهمشير، مستشفى التعليمي، مدفع 106، حارق خارق، السمتيات، الكاتيوشا، قذيفة هاون، ملازم عاد، نقيب موفق، النائب ضابط محمد، تحسين، عبد الأمير كاظم، تيسير غثيث، سبع إبراهيم سبع،عبد الحسين خابط صافي، جثير زاير، إسماعيل خليل، هتلر (رئيس عرفاء انضباط كان اختصاصه في وحدتنا هو معاقبة الجنود المخالفين أو المتخلفين في العودة من الإجازة بشدهم على مقدمة الدبابة أثناء القصف)، محمد تركي (الذي قطّ جسمه إلى نصفين، العلوي طار مع البرج والنصف السفلي بقيَ في ما بقي من الدبابة حينما قصفت بصاروخ مضاد للدبابات) نزار جرجيس (خادم آمر السرية المخنث والذي منح بأمر من صدام حسين رتبة ملازم ثاني لرفضه الإخلاء من الجبهة حينما أصابته شظية هاون) .......... تضاريسُ وأسماء قتلى وآخرين في طريقهم إلى القتلِ وأنا نقطة في هذه الخريطة المبهمة التفاصيل والمرسومة بلونين الأحمر والأسود.

حدثَ الذي كنتُ أخشاه فبينما كان سائقُ الدبابة في إجازته وصلَ أمر بالتقدم. ارتفعَ منسوبُ التذمر عند الجنود الذين كانوا يظنون بأننا سنبقى في هذا المكان حتى انتهاء الحرب فارتفعتِ الشتائم جهاراً موجهةً إلى الطغاة الذين بدأوا الحرب وإلى الخميني الذي يرفضُ إيقافها. لم يكن الوقتُ كافياً للمراوغة أو ادّعاء عدم قدرتي على قيادة الدبابة فاستسلمتُ للأمرِ تحت صراخ آمر السريّة والهياجِ والهلعِ الذي دبّ بين الجنود. ارتفعتْ أصواتُ المدافع وارتسمتْ على السماء خطوطُ قذائفِ الراجمات. اشتعلتِ النيران على الجانبين، الانفجاراتُ القوية وألسنةُ اللهبِ تتصاعد من مخزنِ سلاحٍ أصابته قذيفة، والآفاقُ دائرةٌ نارية كبيرة بيدِ المهرج، ونحن... نحن الكلابَ البهلوانية المروَّضة بإتقانٍ علينا القفز داخل محيطها والسياط تنهال علينا للتقدمِ نحو الدائرة النارية. انطلقتِ الدبابات بحركةٍ ملتوية متجهةً إلى الأمام وسط سحابة من الدخان والغبار. تلاشتْ فكرةُ الموت في نفسي ولم يعد مخيفاً ليس شجاعة بالتأكيد، بل لأن العقل تجمد بفعلِ تزاحمِ الأفكار والهواجسِ وضيق اللحظة، وربما الإنسان في تلك اللحظة يتحولُ إلى كائنٍ غير محكوم بعقلهِ بل بغريزته التي تعطي إيعازاتها وفق الحالة الآنية حتى بعد أنْ دخلنا دائرةَ الخطر الحقيقي وصرنا في مدى قاذفاتِ ال آر بي جي سفن. تطلعتُ إلى الأمام كانتِ القاذفات والصواريخ الحمراء تأتي باتجاهنا خطوطاً متوازيةً لا تفصل بينها مسافات تكفي لمرور الدبابة بينها بسلام. صرخ النائب ضابط بي أنْ أتحركَ بشكلٍ ملتو غير أني لم أعرْ لصراخهِ اهتماماً بل أوقفتُ الدبابةَ عند ساتر ترابي واطئ بينما اتجهتْ دبابة آمر السرية نحو الثغرةِ المفتوحة في ساترِ العدو وقبل اجتيازها أصيبتْ بصاروخٍ وشبّتْ فيها النيران. رأيتُ آمرَ السريّة يركض في العراء وحينما رأى دبابتنا أسرع نحونا وهو يرتعش. حاول النائب ضابط محمد أنْ يظهرَ أمامه مستبسلاً فأصدرَ لي أمراً بالتقدم إلا أن آمرَ السريّة منعه لحين تخفّ شدة المواجهة. كانتْ أصواتُ الجنود الإيرانيين وصراخهم ونداء (الله أكبر) الذي يطلقونه تبدو قريبة جداً منّا. الوقتُ يمرّ دون أن ينتبه أحد إلى معرفة سرعته. توقفتِ الدبابات عن الرمي وهدأتْ أصواتُ الرشاشات والبنادق شيئاً فشيئاً كأنّ معركةَ المغاوير التي تدور أمامنا بمسافةِ مائة متر أو أكثر بقليل قد انتهتْ فارتفعَ صوتُ آمر السرية بعد صمتٍ طويل مبشراً بالانتصار، وفعلاً بعد دقائق ارتفعتْ أصواتُ الشفلات كأنها تبني سواترَ للمواقع الجديدة. لاحتْ أولى خيوط الضوء فتحركتُ بدبابتي مجتازاً الدبابة المعطوبة قريباً من الثغرة. إحساسٌ غريب في داخلي، فعلى الرغم من الشعورِ بالنجاة مؤقتاً إلا أني كنتُ أشعر بألمٍ لكلّ انتصار يحرزه الجيش العراقي ولو أني كنتُ أدركُ أنّ عكس ذلك يعني الاندحار وهذا يعني إما موتي أو وقوعي في الأسر. 

أوقفتُ الدبابةَ في الموضعِ الجديد وخرجتُ بزهوِ مَنْ أنقذ أرواحَ الطاقم من الموت وقد انهالَ علي الثناءُ منهم في السرّ حتى آمر السريّة تجنبَ الحديث عن اختفائه في دبابتي بعد أنْ أعطبتْ دبابته بل راح يتحدث بزهوٍ كاذبٍ عن بطولته وفطنته في اختيار المواقفِ الصحيحة في الوقت الحرج. أسماء جديدة انضمت إلى قائمة القتلى والمفقودين. مشاهد لجثثِ جنودٍ إيرانيين كانتْ مرمية على الأرض. الوجوه بلحاها المغبرة مغروزة في الأرض والأجساد متكورة كأنها عادتْ إلى الأرحام ثانية. طابور من بضعةِ أسرى مرّ قربي بأجسادٍ متضعضعة تخطو والدمُ تيبس مختلطاً بالتراب على الملابس المهترئة. انشغلنا في اليومين القادمين بحفرِ وتحصين الملاجئ وعادَ الهدوء إلى نفوسِ الجنود مطمئنين أنفسهم بأنّ هذا الموقع سيكون الأخيرَ على الرغم من أنّ الفاصلَ بين موقعنا وموقع الجيش الإيراني لا يتعدى نصف الكليومتر ونقعُ تحت مدى قذائف الهاون والقناص.

فقدتْ السريةُ الثالثة في كتيبتنا التي قامتْ باحتلالِ معمل السفن وتمركزتْ فيه، عدداً من طواقهما أثناء الهجوم فأعيدَ تشكيلها وتمّ نقلي إليها كسائقِ دبابة. كان الذهابُ إلى موقعِ معمل السفن يعني الاقترابَ أكثر من خطوة نحو الموت حيث أنّ الفاصل بين موقعنا وموقع الجيش الإيراني لا يزيد على المائتي متر، لذا فقد ودّعني رفاقي بنظراتٍ مشفقة، لكني وجدتُ هناك العكس فقد كان فصيل من جنود المغاوير يتخذ مواقعه إلى الأمام من موقعِ الدبابات بمسافة خمسين متراً وهذا يعني أننا سنكون على علمٍ بأيّ هجوم مضاد ولن يكون مفاجئاً لنا.

" عندي وقت للمراوغة أو الاختباء لو حدث الهجوم. "

حدثتُ نفسي كأني أرسمُ خطةً لما سيحدث بالتأكيد، لكنّ فكرةَ الهرب إلى الأمام تلاشتْ حيث أنها أصبحتْ من المستحيل بسببِ وجودِ فصيل المغاوير بيني وبين مواقع الجيش الإيراني.

في منتصفِ ليلةِ السادس والعشرين من أيلول 1981 كنتُ واقفاً عند باب الملجأ في نوبةِ الحراسة حينما خرجَ آمرُ السرية صارخاً بأنّ الجيشَ الإيراني قد التفّ حولنا وقد استطاعَ أنّ يدمّر سرايا الإسناد ويحتلَ جسرين من الجسور الثلاثة التي أقامها الجيش العراقي على نهرِ الكارون. التفتُّ باتجاهِ الأفقِ الشمالي كانتِ النيران تتصاعد من الآلياتِ وأكداسِ العتاد. صعدنا الدبابات وبدأنا بالرمي بشكلٍ عشوائي. كنتُ أجلسُ في موقعي كسائقٍ وأنتظرُ أوامرَ قائدِ الدبابة الذي يتلقى أوامره من آمر السرية. اشتدّ القصف المدفعي الإيراني مصحوباً بزعيقِ راجماتِ وصواريخ مضادة للدبابات، وما بين قذيفةٍ وأخرى كنّا نسمعُ هتافَ (الله أكبر) قريباً منا. فجأةً شبّتِ النيرانُ في دبابةِ آمرِ السريذة التي كانتْ تقفُ إلى يسارِ دبابتي وتبعد ما يقارب عشرة أمتار. انقطعَ الاتصالُ اللاسلكي عن دبابتي. سقطتْ قذيفة عند مقدمةِ الدبابةِ فانهالَ الترابُ والشظايا على البرجِ وكنتُ قبل ثوانٍ قد أغلقتُ بابَ القيادة عليّ. اهتزتِ الدبابة هزاتٍ عنيفةً وحينما استقرتْ في مكانها، صرختُ بطاقمِ الدبابة أنْ يقفزوا منها فقد أصيبتْ. خرجتُ من الدبابة ودخلتُ موضعاً قريباً. كسرتُ بابَ الموضع من الداخل فانهالَ الترابُ حتى غطّى مساحةً كبيرة من فتحةِ الموضع. أطفأتُ فانوساً كان مضاءً ورحتُ أدخنُ وأصغي إلى صرخاتِ الجنود، وبين الحين والآخر كنتُ أخرج رأسي لأستجلي الموقف.

استيقظتُ الساعة الثانية عشرة ظهراً. تلمستُ جسدي فلم أصدقْ بأنني مازلتُ حياً ولم أصدّقْ أني بهذه الشجاعةِ أو البلادةِ التي جعلتني أغطّ في نومٍ عميق لم يمر على إنسانٍ في أكثر أوقاته بطراً أو كسلاً. صمتٌ رهيب كان يستولي على المكان. هل مات الجميع؟ هل انسحبتْ سريتنا؟ هل فشلَ الهجومُ الإيراني؟ كنتُ أسمعُ صوتَ الريح ودحرجة الأواني المعدنية فيزيد رعبَ صمت المكان وحشةً. مددتُ رأسي بحذرٍ شديد كي أستجلي الوضع. لا شيء سوى رائحةِ الدمِ تملأ المكانَ ممتزجةً بالغبار. أخرجتُ جسدي ببطء، لم أرَ أثراً لجندي عراقي أو إيراني سوى أجساد الدبابات منهمدةً برعونةٍ . كانت النيران تلتهمُ بعضها. تجرأتُ أكثر ورحتُ أجوسُ المكان. ابتعدتُ قليلاً عن موضعي فشاهدتُ جثثاً لجنود عراقيين أعرفهم، أمس كنّا معاً نتحدثُ ونضحكُ ونخططُ لحياتنا ما بعد الحرب، جثثاً لجنود إيرانيين بلحىً كثّة تراكمَ عليها الذباب والغبار. تذكرتُ أنّ دبابتي لم تصبْ بأذى. جلستُ في موقع القيادة غير أني اكتشفتُ بأني قد نسيتُ أمسِ إغلاقَ قناني الهواء فتسربَ منها، وكذلك البطارية قد نفدتْ شحنتها. خرجتُ خائباً فأطلقتُ ساقيّ راكضاً نحو مقر قيادة الكتيبة. أركض .. أركض..

" أريد موتاً مقنعاً. "

قلتُ لنفسي وأنا أركضُ هارباً إلى الخلف والموتُ يرافقني كلهاثي ويترصدني من مزاغلَ لا تحصى ارتسمتْ على أفقيّ المغرب والمشرق. كانتْ قطراتُ العرقِ التي تسيل على وجهي حمراء لملوحتها لزوجة الدم.. الدم الذي يصبغُ الفضاءَ المغبرّ وتملأ الهواءَ رائحته. الشمسُ مطعونة يسيل وهجها دماً في الظهيرة. صوتُ انقضاضِ الطائرات الحربية ومراوحِ السمتيات تنذرُ بموتٍ قادم من الأعلى والقذائفُ التي تنبشُ الأرض المزروعة ألغاماً. القذائفُ تتساقطُ أمامي، خلفي،إلى يميني،إلى شمالي. أركضُ.. أركضُ.. أتبعُ آثارَ الهاربين قبلي، ولكن هل وصلوا؟ أم أنهم ضلّوا الطريقَ إلى الحياة؟، لا أدري ولكني أواصل الركض.

" أريد موتاً مقنعاً. "

في مقر الكتيبةِ وجدتُ دبابةً سليمةً تركها طاقمها ولاذَ بالفرار. قدتُها باتجاهِ الجسرِ الثالث لعلّه لايزال تحت سيطرةِ الجيش العراقي. اشتدّ القصفُ المدفعي عليّ وكانت القذائفُ تسقط على بعد بضعة أمتار أمامي وخلفي وإلى جانبي وتتناثرُ شظاياها على برجِ الدبابة وأسمعُ صوتَ سقوطها على بوابة القيادة المغلقة. استطعتُ الوصولَ إلى المكان الذي كان بالأمس ورشةً ميدانية لتصليحِ الدبابات المعطوبة. ترجلتُ تاركاً الدبابةَ هناك ورحت أركض.. أركض..

" ... غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين. "

أين هو الصراط المستقيم؟. أتلفتّ. ليس ظلّي هذا الراكضُ معي، خلفي، أمامي. ليس ظلّي، إنه حطامي يتبعني. جثتي المنخورةُ بالطلقاتِ تحاولُ اللحاقَ بي لتنهشني، عاريةً تتساقطُ منها كتلُ اللحم. تمدّ جثتي يدها نحوي كي تلبسني فأهربُ.. أهربُ وكنتُ عارفاً أنْ لا منفذ نحو الحياة، وليس أمامي سوى اختيارِ شكلِ موتي، فالعدو الذي صارَ خلفي لا يزال قنّاصهُ يرى فيّ شاخصاً متحركاً فيجربُ مهارته في التصويبِ عليه، وأمامي مفارزُ الإعدام تنصبُ كمائنها لأمثالي من الجبناء الذين يفرّون من مسؤولياتهم في الدفاعِ عن كرامةِ الأمةِ وشرفِ حرائرها.

" لا حلال إعليه مي دجلة وفرات

ولا له بين ازلامنا كلمه ومكانْ

اللي يرضى الذلّه ويعيش بهوانْ "

إذاً ليس أمامي سوى اختيارِ مقبرتي، إنْ كانتْ أشلائي سترمى على الساتر الأمامي أو الخلفي، في خندقٍ أو سجن .

" أريد موتاً مقنعاً. "

كانت الحجةُ التي تمسكتُ بها كي أقنعَ نفسي بالهروب، الهروب! إلى أين؟ إلى اللامكان؟ إلى المطلقِ الذي هو الآخر قد ضاقتْ به الأفاق؟.

" أريد موتاً مقنعاً. "

وأركض.. أركض بمحاذاةِ النهرِ باتجاهِ الجسرِ الثالث حتى صرتُ خلف ساترٍ ترابي عند كتفِ الكارون، كان الجيشُ العراقي قد أقامه أمسِ تحسباً للانسحاب. التقيتُ هناك برئيس عرفاء تيسير غثيث يجلسُ خلف دبابتهِ التي استطاع الوصول بها إلى هذا المكان وإلى جانبه جثة صديقه الذي أوصاه قبل أن يلتقطَ أنفاسه الأخيرة بأنْ ينقلَ جثته إلى أهله في مدينة الشطرة. حاولتُ العبور إلى الجهةِ الأخرى من النهر إلا أنّ تيسير منعني فقد كان الجسرُ مكتظاً بقطعان الجنودِ الهاربة وقد استهدفته المدفعيةُ الإيرانية فأصبحَ العبورُ عليه مجازفةً كبيرة. قضيتُ الليلة في دبابة تيسير وعند الفجرِ عبرتُ الجسر إلى حيث تجمعَ ما بقي من جنود وحدتنا، ثم تمّ نقلنا إلى مقر اللواء في الشلامجة.

قضينا شهرين في منطقةِ الشلامجة لإعادةِ التنظيمِ وتمّ تشكيلُ طواقمِ الدبابات الجديدة التي وصلتْ إلى الكتيبة. كنّا نقضي الوقتَ في التدريب والحديث عن الهجوم منصتين بسريّة إلى إذاعة طهران العربية لمعرفةِ مصيرِ أسماء رفاقنا الذين فقدوا أثناء الهجوم فسمعنا أصواتَ بعضهم وهم يتحدثون عن الطريقة التي تمّ بها أسرهم، وقد كانوا موضعَ حسدنا حيث أصبح الوقوعُ في الأسرِ الأمنيةَ الأخيرة التي يتشبثُ بها خيال الجندي للبقاء حياً. زارنا آمر اللواء صباحاً ومن أسلوبِ حديثه عرفنا أنّ ساعةَ الموت قد دنتْ ثانيةً، ومما قاله بعد حديث طويل عن الشجاعةِ العربيةِ وشهامةِ الرجال، عن النخوةِ وشرفِ الاستشهاد في سبيل الوطن، وعن الرجالِ الذين لا تكتملُ رجولتهم إلا بعد أخذِ الثأر:

" الآن أكملنا تدريباتنا وأخذنا قسطاً كافياً من الراحة فما علينا إلا أن نبرق إلى السيد الرئيس لنقول له بأننا نريد أن ندخل معركة مصيرية لن يرجع منها رجل منا. نريد أن نأخذ الثأر لشهدائنا لننام وإياهم قريري العيون.... "

في مساء اليومِ نفسه أعلنتْ في المعسكر حالةُ الاستعداد للتحرك. تمّ استدعاء سائقي الدبابات لتجهيز دباباتهم بالوقود وشدّ اليطقات على ظهور الدبابات، ولم نكنْ نعلم إلى أيّ قاطعٍ سنتجه فقد كانت الأخبار توحي بالهدوء على قواطع جبهات القتال. عند الفجر تحركتِ أرتالُ الدبابات باتجاه مدينة المحمرة ثانيةً. اجتزنا المدينة باتجاه نهر الكارون، وعلى مسافةٍ ليست بعيدةً عن النهر وعلى الجانبِ الغربي منه توقفَ الرتل.

لم تمضِ سوى ثلاثةِ أيام على تعسكرنا في هذا المكان حتى أعلنَ عن احتمال تحركنا ثانيةً، ولكن هذه المرة باتجاه مدينة (الخفاجية) حيث بدأ الجيش الإيراني هجومه لاستعادتها. تأكدَ لنا خبرُ التحركِ نحو الخفاجية لتعزيز القوة هناك ولشنّ هجومٍ مضاد، ولم يبقَ سوى لحظةِ الانطلاق. أخرجتُ مفلّ اللوالب الكبيرَ من صندوقِ الدبابة وبسطتُ ساعدي الأيسر على سطح الدبابة. أغمضتُ عينيّ وبثقةٍ وحقدٍ تحركَ ساعدي الأيمن باتجاه أخيه فسمعتُ طقةَ العظم. تسلقتُ برجَ الدبابة وأزللتُ قدمي بتمثيلٍ متقنٍ ورحتُ أتدحرجُ مُطلقاً صرخةً قويةً هرعَ على أثرها الجنود إليّ. حملوني إلى داخل سيارة الإسعاف التي وصلتْ سريعاً وانطلقتْ بي إلى مستشفى (التعليمي) بالبصرة، ومنه ابتدأتْ رحلة جديدة.

انتهتْ فترة الإجازة المرضية لكني لم أعدْ إلى الجبهة ثانيةً، ودخلتُ مرحلة الهروب والتخفي حيث كنتُ أقضي الوقتَ مختبئاً في البيت أو أتنقلُ ليلاً في بيوت الأصدقاء. الخوفُ يتشخصُ بوجوهٍ كثيرة تخرجُ من عمقِ الظلمة أو تسيرُ بوقاحةٍ في وضح النهار مع حركةِ قطّةٍ في الحديقة أو صوتِ فراملِ سيارة تتوقفُ فجأة عند الباب، بوجهِ طفلٍ يرمي نافذة بيتنا بحجرٍ، أو امرأةٍ تهمسُ في أذن جارتها، في غضبِ الأخ حيث أصبحَ وجودي يشكّلُ خطراً على وجوده أو تأففِ أختٍ صار مصيري يشكل لها كابوساً يفضّ عفتها، أو امتعاضِ صديقٍ ألتقي به مصادفةً فيتحدثُ معي ويتلفتُ حوله محاولاً إنهاء المحادثة متحججاً بمشاغله الكثيرة. الخوفُ يحيطُ بي من كلّ جانبٍ فأنقله كمصابٍ بمرضٍ معدٍ إلى الذين حولي، حتىحسبتهم أكثر خوفاً مني.

الأيامُ تمرّ بطيئة جداً ولا أمل يلوحُ في الأفق، بل تحولَ الأمل إلى النقيض، فقبلَ بضعة أشهر كان أيّ خبرٍ عن احتمالِ وقف الحرب يقلبُ العزاء عرساً، أما الآن فالأمرُ معكوس تماماً، فوقفُ إطلاقِ النارِ يعني تفرّغَ السلطة لمحاسبةِ الفارين من جبهات القتال ولا عقوبة ترتجى غير الإعدام. كان البعض يراهنُ على انتصارِ الجيش الإيراني في الحربِ وحدوث انقلاب عسكري يقلبُ نظام صدام حسين. أملٌ راحَ يردده الكثيرون الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام الإيراني وقد كنتُ أراه من سابعِ المستحيلات، بل أضحكُ ساخراً في سرّي من الذين كانوا يوهمون أنفسهم بأن الحربَ لن تنتهي إلا بحكومةٍ إسلامية يُديرها الخميني من طهران.

فتشتُ في ذاكرتي عن كلّ الرفاق الذين اختفوا من المدينة والذي كنتُ أتوقع وجودهم في كردستان وعن أيّ خيط يوصلني بهم. كنتُ أتابع أخبارهم من الأصدقاءِ متشبثاً بأوهى الخيوط كي أبرمَ منه حبلاً يرفعني من ظلامِ بئري.

زارني صديق ليلاً، وحينما دخلَ بيتنا طلبَ مني أن ننزوي وحدنا في الغرفة حتى خلتُ أنه سيبلغني بساعةِ الصفر التي تقلبُ الأمر. نقلَ لي الصديقُ رسالةً شفوية من " رفيق يعرفكَ كما يعرف نفسه. " وحينما سألتُ عن اسم الرفيق قال لي بأنه لا يعرف سوى اسمه الحركي " أبو فرات. " ثم أضافَ ملاحظةً عابرة، كان يظنّ بأنها غير مهمة إلا أنها كانتْ بالنسبة لي مفتاحَ اللغز:

" كان يعمل في الجزائر. "

" هو لا غيره. "

رددتُ مع نفسي متذكراً آخر رسالة وصلتني من عاشور وحيد صابر وفيها يذكرُ بطريقة ملغزة بأنه التقى بيوسف سلمان يوسف. هزّ الزائر كتفي ليوقظني من سرحاني فجفلتُ. تطلعَ إليّ باستغرابٍ فهززتُ رأسي دلالة على تذكري للرفيق (أبو فرات)، وحينما سألني إنْ كنتُ أرغب في نقلِ إليه رسالة، أخبرته برغبتي في الصعود إلى كردستان واللقاء بأبي فرات. وعدني بأنه سينقل رغبتي إلى الحزب ثم غابَ عني حتى ظننتُ بأنّ الأمرَ قد طواه النسيان كما في المراتِ السابقة. بعد مرورِ ثلاثة أشهر عاد الصديق ليخبرني بأني أستطيع الانتقالَ إلى كردستان ولكن " على مسؤوليتك ". لم أفهم شيئاً من كلامه فأخبرني بأن الوضع الآن في كردستان صعبٌ جداً حيث أنّ توتراً ينذرُ بانفجارٍ بين الفصائل المتمركزة في كردستان.

" اليكتي، أوك، حشع.. "

مفردات غامضة كأنها طلاسمُ راح يرددها الصديق فقلتُ بعد أنْ شعرتُ بأنه يحاولُ أنْ يجدَ عذراً لعدم الرغبة في مساعدتي:

" هذي آيات محكمات أم تعازيم؟ "

ارتسمتْ على وجههِ ابتسامة لا تخلو من السخرية من جهلي بأسماء الفصائل المعارضة التي أسعى إلى الالتحاق في صفوفها، وحينما شعرَ بحزني وخيبة أملي قال لي:

" بإمكاننا إيصالك إلى منطقة آمنة وعليك تدبير أمرك هناك. "

ثم أضاف موضحاً:

" بإمكانك الذهاب إلى إيران وسنساعدك بأن نسلمك إلى دليل كردي يوصلك إلى الحدود. "

قفزتُ فرحاً وأنا أردد:

" نعم هذا ما أريد. "

بعد ثلاثة أيام سافرنا إلى أربيل، وهناك تمّ تسليمي كبضاعةٍ مهربة إلى شاب كردي. بتّ في بيتهم ليلة وفي الصباح نقلتني سيارة لاندروفر باتجاه مدينة السليمانية، ثم إلى قلعه دزه مجتازين ستَ عشرة مفرزة عسكرية على الطريق.

وصلنا مدينةَ قلعه دزه ليلاً. اجتزنا أزقةً موحلة ومغطاة بالثلجِ تصطفّ على جانبيها خرائبُ من طين وصفيح. كانت المدينةُ أو بقايا المدينة كأنها تفيق على دمارها بعد غارةٍ جوية فغدتْ كمغارةِ أشباحٍ يصفرُ فيها الموت. توقفَ صاحبي عند أحد البيوت وهو يتلفت مذعوراً، وبعد أنْ تأكدَ بأنْ لا أحد يترصدنا طرقَ الباب فاستقبلنا رجل كردي. تحدثا بالكردية ثم التفتَ إليّ مودعاً متمنياً لي السلامة. عند الفجر امتطينا ثلاثة بغال وكانت تضمّ قافلتنا إلى جانبي والدليل شاباً كردياً متوجهين نحو الحدود العراقية الإيرانية.

خيطُ دمٍ.. يأتي من جهةِ الشمال.. يسيرُ ببطءٍ ملحوظ.. يتعرجُ.. يرتفعُ على قممِ الجبال ويهبط نحو الوديان.. يقتربُ مني.. يمرّ من بين قدميّ .. ويمضي جنوباً......

الحدود...!!

" لماذا رُسمتْ على خريطة العالمِ باللونِ الأحمر؟ "

ربما كان راسمُها على يقينٍ بأنها ستتحول يوماً إلى خطوطٍ ناريةٍ تلتهم الملايين من البشر، حينما تتحولُ إلى حدودٍ ملكيةٍ جُبل الإنسان على حبّ حيازتها بنهمِ الجشعِ أو بغريزةِ التملك أو يجد السلطان فيها ذريعةً لتنفيذ سطوته. متر هنا.. متر هناك.. ما الضير؟ الأرضُ تتشابه، البيوتُ على الجانبين تتشابه، وجوهُ الناس تتشابه، وجها السلطانين هما المختلفان، لا.. إنهما متشابهان، بل متشابهان تماماً.. أين المشكلة إذن؟ هل ضاقتِ الأرض بساكنيها؟ مترٌ وطن ومترٌ منفى والقاسمُ المشترك بينهما الوهم ولكن كيف تجسّدَ هذا الوهمُ صخوراً وخطّ نار؟ هل خطرتْ في ذهنِ المخططِ فكرةُ أنْ تتحول هذه الخطوطُ الحمراءُ إلى فواصلَ ما بين المكان والزمان؟ شيء لا يدركه غير المنفيّ حينما يضعُ قدماً هنا وأخرى هناك كمَنْ يعبرُ خطَ الأفقِ متدحرجاً إلى الضفةِ الأخرى. قدمٌ على الأرض وأخرى في السديم.

" هل أفرح؟ "

لقد تخلصتُ من قسوةِ الوطن وأشباحِ الموت التي تطاردني.

" هل أحزن؟ "

وأنا أودع شيئاً عزيزاً قد لا أعود إليه ثانيةً.

المكانُ يتحركُ غير أنّ الزمان بدأ بالتجمد، يتوقفُ عند الخطوةِ الفاصلة ما بين مترين.

" هناااااااااااااااااك.. وطن اسمه العراق. "

" هنا المنفى. "

" لا شيء تحمله معك غير بوصلةٍ لا تشيرُ إلى اتجاه. "

" بوصلة تجمدتْ عقاربها كعقاربِ الساعة التي تجمدتْ عند لحظة اجتيازكَ الحدود. "

" لا تلتفتْ فليس هناكَ من جهة خلفك! "

" ولكن ستتلفتُ على الرغم من قناعتكَ بأنّ لا شيء خلفكَ غير الجدار."

" ستتلفتُ لأنكَ خائف. "

" ستتلفتُ لأنكَ تبحثُ عن المكان، المكان الذي اختفى بضربةٍ من عصا الساحر. انتظرْ! ربما سيخرجُ من القبعة على هيئة نمرٍ أو أرنبٍ أو شرطي."

" ولكن لكي تحيا عليكَ أن تنسى! "

" ولكي تنسى عليك التكيف مع دورة الزمان. "

" حلّق! "

" أين هو الفضاء؟ "

" اهبطْ! "

أغمضتُ عينيّ وأنا أنحدرُ على سفحِ جبلٍ شاهقٍ كان يفصلُ ما بين العراق والطريق الترابي المارِ من تحت الجبل. البنادقُ مشرعة نحوي أسمعُ سحْبَ أقسامها. يقتربُ مني جنديان إيرانيان. يمسكني أحدهما من تحت إبطي بينما يوجّه الآخر فوهة بندقيتي نحوي. أنهضُ رافعاً ذراعيّ على رأسي.

" بناهنده. "

كلمةٌ جديدة تدخلُ قاموس حياتي.

" بناهنده، لاجئ، دخيل. "

" دخيل العباس. "

صوت يتردد في أذني. أسمعهُ بوضوحٍ فيتردد صداه في أعماقِ وادي الروح.

الحدودُ العراقية الإيرانية، بيران شهر، أروميا، طهران، كرج. نقاطٌ في تضاريسِ الزمن أجتازها كأني أجتازُ حقولَ ألغامٍ سعياً للوصولِ إلى المجهول.

" من أين يبتدئ المنفى؟ وأين ينتهي؟ "

يقولُ المحققُ الإيراني بأننا سنعود قريباً حينما يسقطُ نظام صدام حسين.

" متى؟ "

" إن شاء الله قريباً. "

" وإن لم يشأ؟ "

" اخرسْ! انتهى التحقيق. "

كان أوردوكاه (المعسكر) كرج  يتكون من بنايتين محاطتين بأسلاكٍ شائكة وساحةٍ لكرة الطائرة. تنتصب أربعةُ أبراج مراقبة في زوايا المكانِ يتناوبُ فيها الحراسة ليلَ نهارَ جنودٌ أفظاظٌ لا يستطيع أحد التنبؤَ بلحظاتِ غضبهم أو رضاهم، ولا بلحظاتِ عفّتهم أو عهرهم فهم زاهدون ومرتشون في لحظةٍ واحدة، ويديرُ هذا المجمعَ عسكريّ بزيّ مدني قيلَ إنه كان من رجال السافاك الذين أعلنوا توبتهم. تضمّ بنايتا الأوردوكاه ثماني عشرة قاعة طويلة صُفّ في كلّ منها أربعون سريراً بطابقين، وتحملُ كلّ قاعةٍ اسمَ عالمٍ ديني تمّ قتلهُ من قبل المعارضة الإيرانية، فهذه قاعةُ (شهيد بهشتي) وتلك قاعةُ (شهيد سرفراز) وثالثة تحمل اسم (شهيد مطهري).. الخ، كذلك يوجد مسجدان واحد للسنة والآخر للشيعة ومؤذنان يتباريان برفعِ صوتيهما، ولا يخلو المجمع (طبعاً) من سجن، يُحتجزُ فيه مَنْ لا يطبقُ الأوامرَ، والأوامرُ هنا تستثني طريقةَ شمّ الهواء فقط.

" لا تذهبْ!"

" لا تقفْ! "

" لا تضحكْ! "

" لا تقرأْ! "

" لا تسمعْ إذاعةً تبث أخباراً أو أغاني! "

" لا تلعبْ! فكلّ لعبة حرام. "

" لِمَ لم تنمْ حتى الآن؟ "

" إياكَ وممارسة العادة السريّة! "

" لِمَ لم تقمْ لصلاةِ الفجر؟ "

كنتُ أقضي معظمَ النهارِ بالنوم، أما الليل فعلى ضوءِ شمعةٍ أقرأ خلسةً بعضَ القصاصات التي كان يبعثها إلينا الأصدقاءُ مع الرسائل وكنا نتداولها كمناشير سرية. في الليلِ كنتُ أصغي إلى كوابيس النائمين التي تلخصُ الرعبَ المتكدسَ في أرواحهم والشبقَ المتكلسَ في أجسادهم، وإلى وقعِ خطى عباس المجنون الذي يذرعُ الممرات ولا ينام.

يقف اللاجئون في النوافذ. يقتربون بحذرٍ من نقطةِ الحراسة عند الباب. يتطلعون بقلقٍ وفضول في وجوه القادمين الجدد لعلهم يعرفون أحدهم.

" الأخ كردي؟ عربي؟ من أي محافظة؟ شيعي لو سنّي؟ تعرف فلان؟ شنو أخبار كردستان؟ عندك فلوس؟ دولارات؟ دير بالك على فلوسك؟ عندك جواز سفر؟ لا تقلْ في التحقيق كنت عسكري؟ لا تقلْ كنت شيوعي؟ لا تقلْ كنت من جماعة جلال الطالباني؟ شكو ماكو؟.... "

منذ اليوم الأول لمجيئي إلى الأوردوكاه رحتُ أسألُ عن عاشور وحيد صابر. كنتُ أسألُ عنه القادمين من كردستان لكني لم أحظَ بإجابةٍ، حتى أخبرني أحد اللاجئين المقيمين في المعسكر منذ فترةٍ طويلة بأنه قد تعرّف على الرفيق (أبو فرات)، وعلمتُ منه بأنه بقيَ في هذا المكان فترةً قصيرة ثم هربَ.

" إلى أين؟ "

" ربما عاد إلى كردستان. "

قال الذي أخبرني ثم استدرك قوله سريعاً:

" لا، لا أظن إنه عاد إلى كردستان. "

وحينما سألته عن سرّ ظنه قال:

" كان عاشور حانقاً على الحزب الشيوعي ولا أظن أنه سيعود مرة أخرى. "

راحَ يكررُ كلامه بيقين، ثم قفزَ وكأنه وجدَ إجابةً تخلّصه من ورطة إلحاحي بالسؤال:

" ربما هرب إلى باكستان أو أفغانستان. "

ارتسمتْ أمامي صورة المناضل عاشور، صاحبي، شبيهي، توأمي منكسراً لخيبةِ أمله  فضحكتُ شامتاً به كأني أحرز انتصاراً في سبق الموقف، فرأيته يتطلعُ إليّ بسخريةٍ أخجلتني وبكبرياء أغاظتني ويأتي بحجةٍ أخرى لتبريرِ انسحابه من صفوف الشيوعيين كيلا يتنازل. تحركَ أمامي شريطُ الطفولة الموؤدة في رمالِ الذكريات الساخنة، ولكنْ في المقابلِ أصبح عندي ما يشغلني في هذا الفراغِ فصرتُ أسأل عنه اللاجئين القدامى وأتقصى أخباره كلما خرجتُ في إجازتي الأسبوعية إلى (كوجه مروي) حيث يتجمعَ العراقيون في طهران. وكانت الأخبارُ عنه تتضارب، فمنهم مَنْ أخبرني بأنه عادَ إلى كردستان ومنهم مَنْ قال إنه في سجن (قزل حصار)، وآخر راحَ يؤكد بأنه يعملُ في ميناءِ بندر عباس وينتظرُ فرصةً للهربِ في إحدى البواخر التي تبحرُ إلى أوربا، ومع كلّ خبرٍ ترتسمُ أمامي صورةُ هذا التوأم المشاكس الذي لا تقنعه القناعةُ نفسها، حتى جاء ذلك اليوم الذي ألغى كلّ الاحتمالات، فحينما كنتُ جالساً في الساحةِ الأماميةِ للمعسكر وعيناي مشدودتان إلى الباب الخارجي كأنّي في انتظارِ الفرجِ يأتي في أيّة لحظةٍ زائراً أو لاجئاً، وصلتْ سيارةُ المعسكر وترجلَ منها عسكري يسحلُ خلفه شبحاً مكبّل اليدين بلحيةٍ طويلة ويرتدي زياً أفغانياً. دخلا المعسكر متجهين إلى غرفةِ الإدارة فاقتربتُ منهما. رفعَ رأسه باتجاهي فالتقتْ نظراتنا وكأن خمساً من السنوات قد تلاشتْ، فها هو عاشور يقعُ في قبضةِ رجالِ أمنِ المطار، وها أنا أعود وحدي لحراسة الفرات.

دائرة لا ندري من أين تبدأ وأين تنتهي. الأمسُ هو اليوم وهو الغد، دوامةُ رملٍ تلتفّ في مكانها ونحن مركزها. حرسٌ بعثي بلحىً حليقة ولسانٍ زفرٍ، أو حرسٌ إسلامي بلحى كثّة ولسانٍ يدّعي الورع، والسجين واحد.. وشاةٌ وجواسيسُ يتناسلون على الطرفين وكلّ يحسب أنه حازَ اليقين. وما الضمير!؟ فالقضية تستدّعي أنْ يُحرقَ الأخضرُ واليابسُ لبقاءِ القضية وروح النصر. سيدان خرِفان يشعلان ناراً ويطلان من شرفتيهما على الأخدودِ المشتعل وكيف يبتلعُ أجسادَ شبابٍ طرية لم تذقْ طعمَ اللذة بعد.

" إيه يا عبد الأمير كاظم ... "

قالَ لي حينما كنّا مختبئين تحت الدبابة أثناء القصف:

" تعرف عندي أمنية واحدة أتمنى أن تتحقق قبل موتي. "

" ما هي؟ "

سألته بلهفةٍ، فقال بخجلٍ وشفتاه ترتجفان:

" أن أمارس الجنس ولو مع قردة. "

حينما كنتُ ألملمُ أشلاءه التي تناثرتْ وأعيد ذراعه التي تطايرتْ على بعد عشرة أمتار من بقايا جثته كنتُ أرددُ باكياً أهزوجته الساذجة التي كان يرددها مفتعلاً الضحك، ولم أكنْ أعلم أنه كان يرثي بها نفسه على لسانِ الندابات اللواتي سيأتين لعزاء أمه وأخواته:

" دقّنْ حيلْ ولا تطلعنْ حسْ

 عَ المكرود الما شاف الكسْ "

مرّ أسبوع على وجودِ صديقي عاشور في سجن الأوردوكاه، حاولتُ خلاله أنْ أتملقَ كلّ القرود الذين كانوا يعملون كمخبرين وكتّابِ تقارير لإدارة المعسكر للحصول على إذن للحديث معه أو إرسال إليه ما يحتاج، لكني لم أفلحْ بسوى تطمينات بأنه سيخرجُ من السجن بعد انتهاء فترة التحقيق.

عشرةُ أيام كانتْ كافية لقتلِ اللهفةِ ونشوةِ اللقاء فبدا الفرح بارداً وكئيباً كأنّ أوانه قد مضى، حينما وقفنا وجهاً لوجه وكلّ منا يقرأ في تضاريسِ وجهِ الآخر ما تركتْ عليها المحنة من تجاعيدَ وندوب. مفرداتٌ متلعثمة تخجلُ من نفسها فتلوذ بالصمت. أوراق صفر مجعدة كأنها مدفونة في ترابِ السنين ومحروقة الحواف يضمّها كتاب بغلافٍ مهترئ ولوحةٍ باللون الأحمر والأسود. صفحات عتيقة على الرغم من أنّ لا أحد قلّبها سوى كفّ المأساة.

جلسَ عاشور على حافةِ سريري واضعاً رأسه بين كفيه كأنه يحاولُ أنْ يتذكرَ سطورَ البداية التي طمستْها الأحداثُ المتتالية السريعة. كان يجيبُ على أسئلتي بحذرٍ شديد، كأن الخوف قد مدّ جذوره في نفسه فشلّها أو كأنه يعيد اكتشافي. وضعتُ كفّي مربّتاً على كتفه فجفلَ بشكلٍ غريب. سحبتُ يدي مرتدّاً، وحينما سألته عن السبب، تتطلعَ إليّ بعينين دامعتين ثم راحَ يرفعُ قميصه الأفغاني بحذرٍ حتى ظهرتِ الخطوطُ الزرقاء المتشابكة على ظهره كأنها شقوق في أرضٍ جرداء.

" مَنْ فعلَ بك هذا؟ "

سألتُ بغباء كأنّ الأمرَ صعبُ التخمين فتداركتُ السؤال بسؤال آخر:

" لماذا؟ "

أجابَ بنظرةٍ حزينة:

" في سجن مدينة زاهدان. "

ثم راح يقصّ عليّ محاولة هروبهِ إلى باكستان وإلقاء القبض عليه.

" ولكن ما الذي دفعكَ إلى هذه المجازفة؟ "

" كنتُ أريد الهربَ من الماخور بأية طريقةٍ كانت. "

" الماخور!؟ "

سألتُ باستغرابٍ فهزّ رأسه ثم لاذَ بصمتٍ وعيناه زائغتان تبحثان عن نقطةٍ ثابتة في هذا المكان كي ترسوَ نظراته عندها، حتى انتبه إلى نظراتي المنتظرة بفضولٍ لأنْ يقول أي شيء، وحينما أصرّ على صمته، بدأتُ بالحديث عن نفسي محرّضاً إياه على الكلام:

" كانت سنوات صعبة يا عاشور. "

قلتُ منتظراً منه تعليقاً أياً كان غير أنه اكتفى بهزةٍ من رأسه وابتسامة سخريةٍ تلوحُ على شفتيه فأضفتُ:

" كنتَ محظوظاً أنك لم تعش تلك السنوات. "

" ................... "

" أعني سنوات الخوف والحرب والهروب .. "

قاطعني بنظرة تأنيبٍ وسخرية ثم قال مستفَزاً:

" وهل كنتُ أنا في سياحة؟ "

" أعرفُ.. أعرف ولكن مهما يكن فالمنفى أهون بكثير من الحرب ومواجهة الموت في كل لحظة وجهاً لوجه. "

" كلّ هذا هين. "

قال كأنّه يسخرُ من معاناتي ثم أضافَ:

" أعرفُ ذلك فلقد عبرتُ الحدود السورية التركية العراقية وقاتلتُ سنتين في كردستان وواجهت الجوع والموت و... "

توقف قليلاً ثم راح يكرر:

" كل هذا هين ... كل هذا هين... "

تطلعتُ إليه وقد استفزني كلامه منتظراً أنْ يخبرني بالشيء الذي يعتقد أنه ليس بالهيّن فتطلعَ إليّ هازاً رأسه بحزن:

" كلّ هذا هيّن حينما ترى بعينيكَ كيف تسقط قناعتك بأحلام كنتَ تعتقد أنها كبيرة، بل إنك كنتَ تحسب بأن لا حياة لك خارج هذه الأحلام. "

" ..................... "

" ثم فجأة تجد أنك وحدك الذي بنيت قصور أحلامك على رمال. "

لم أفهم بالضبط ما كان يشيرُ إليه ولكني كنتُ أتطلعُ إليه بإعجابٍ ومتفقاً معه فشجعه إصغائي إلى مواصلةِ حديثه موجهاً كلامه إليّ بطريقةٍ لا تخلو من الفظاظةِ والاستفزاز كأنه يدفعُ تهمةً عن نفسه أو يلصق تهمة بي:

" أن تذهب إلى الحرب مُجبراً أمر لا يدفع إلى الأسى والخيبة ولكن أن تترك عملكَ ومستقبلكَ وتقطع آلاف الأميال كي تواجه الموت طوعاً وبرحابةِ صدر ثم فجأةً تكتشف أنك تدور في دائرة الخديعة. "

أدركتُ ما كان يرمي إليه فوجدتُها فرصةً لكي أنتقمَ من أسلوبه الاستعلائي والعدائي الذي كان يصوغُ به عباراته الموجهة إليّ، لكن وقبل أنْ أنطق بكلمةِ شماتةٍ أو افتخار بنفسي التي أدركتْ الأمر قبل خمس سنوات، توقفتُ فأدركَ ما يدور في ذهني وأدركَ بأني عدلتُ عن إبداء رأيي. تطلعَ إليّ مستفَزاً ثم قال كأنه ينهي الحديث بالتعادل:

" قلْ ما تشاءُ! "

غير أني انتقلتُ إلى موضوعٍ آخر، محاولاً تخفيفَ الجدّ الذي تلبّسنا ونحن نستعيد تجربةً لم نكنْ مؤهلين لخوضها منذ البدء فقلت له مازحاً:

" ولكن ما الذي جعلكَ تغير مسارك 180 درجة؟ وتذهب لتدرسَ الفقه في الحوزة. "

ثم أضفتُ بسخريةٍ:

" أيها الماركسي العنيد. "

تطلعَ إليّ فبانتْ على وجهه علامةُ خجلٍ تداركه بالاعتراف:

" نعم معك حق. "

وبعد لحظاتِ صمت استدركَ مدافعاً عن نفسه بافتعالِ القناعة بكلّ خطوة يخطوها حتى وإنْ كانت في الموضعِ الخطأ وتبريره لذلك بحسنِ نيته ونبلِ مشاعره.

" كنتُ أبحث عن البديل. "

" وهل وجدته؟ "

سألته كمحاولةٍ للنيلِ منه فقال:

" المهم إني حاولت."

وحينما وجدني أتطلعُ إليه بسخريةٍ، أضافَ:

" ربما الخطأ يكمن فينا، أو في شيء خارج الأحزاب أو في النظرية نفسها أو ... "

وقبل أنْ يكملَ كلامه قلتُ:

" أو في الشعب العراقي نفسه. "

هزّ رأسه بإشارة غامضة ثم نهضَ وغادرَ القاعة.

في نهاية عام 1983 تم نقلنا إلى (أوردوكاه) آخر يقعُ جنوب غربي إيران بين مدينتي خرم آباد وأندمشك ويبعد عن طهران مسافةً تقطعها السيارةُ بعشرِ ساعات. يقع هذا المجمع بين تقاطعِ ثلاثِ سلاسل جبلية مشكّلة بذلك وادياً مثلث الشكل، هناك في قعرِ الوادي تناثرتْ مجموعة من خيام مهترئة. المجمّعُ محاطٌ بأسلاكٍ شائكةٍ وتنتصبُ في زواياه أبراج مراقبة يتناوبُ فيها الحراسةَ جنود غاضبون، يبحثون عن كلّ حركةٍ يحسبونها مريبةً كي يحققوا نزواتهم الغبية بأنْ يصوبوا فوهات بنادقهم ويسحبوا أقسامها ويتخذوا موقف التهيؤ للرمي. يديرُ المعسكر رجل معتوه وقيل إنه حشاش، ومنذ اليوم الأول لوجودنا في المكان أعلنَ أمامنا بصراحةٍ بأنّ مَنْ يدفع له ألف تومان يستطيعُ مغادرة المعسكر. منحونا حرية اختيار من يشاركنا الخيمة فتطلعتُ إلى عاشور فوجدته يتطلع إليّ وكلّ منا يردد في داخله " لن أختار غيرك يا قدري ".

دبّ نشاط غريب عند عاشور فراحَ ينظفُ الخيمة ويرتبُ الأشياء بهمّةِ مَنْ ينوي الإقامةَ الأبدية في هذا الموقع. صنعَ من علبِ الكارتون رفوفاً رتبَ فيها بانتظامٍ ما جلبه معه من كتبٍ أغلبها في التفسيرِ والفقه والنحو وكتاب ممزق الغلاف وباللغة الإنكليزية حشره بغفلة مني تحت مخدته، عرفتُ في ما بعد بأنه رواية (عشيق الليدي شاترلي).

كان يجلسُ عند بابِ الخيمةِ صامتاً وهو يقطعُ الأغصان اليابسة، يبريها ويدببُ رؤوسها صانعاً منها قصباً بأحجامٍ مختلفة ليستعملها في التمرينِ على الخط، وكنتُ أحسده على هوسهِ هذا فقد كان الوحيد من بين اللاجئين لا يبدو عليه الضجر على الرغم من ردودِ أفعاله الغريبة في بعض الأحيان والتي تظهرُ عنده كحالاتِ غضبٍ وهستيرية يحاولُ إخفاءها بالانزواء في الخيمةِ أو يبتعد عن موضعِ الخيام إلى أقصى المعسكر. تبدأ أعراضها بزوغانِ نظراتهِ وتكلّسِ الزبدِ على شدقيه كأنه قد شارفَ على نوبةِ صرعٍ أو إغماء، ثم يبدأ بنهشِ جسده كأنه مصاب بجذامٍ. يغرزُ أصابعه في منتصفِ صدره عند عظم القصّ تماماً محاولاً فتحَ نافذةٍ فيه ليُخرجَ الألمَ الكامنَ في روحهِ اللائبة وهو يردد كلاماً غامضاً بصوتٍ متحشرج، وحينما سألتُه مرةً عن سبب فعلته هذهِ أجاب بطريقة جادة:

" أريدُ أن أخرجَ قلبي. "

تطلعتُ إليه بنظراتِ شكّ وشفقة، فأضافَ:

" كي أنظفه من أدران جسدي. "

بعد ذلك ينزوي أو يطلبُ مني بفظاظةٍ أن أتركه وحده فألبّي له رغبته بفرحِ مَنْ يتخلص من ثقلِ مسؤولية أو الشعور بالعجز عن تقديمِ شيء يعينُ هذا الكائن الذي أراه يتمزقُ أمامي كأنه عاصفة محشورة في قنينة. وحينما أعود إلى الخيمةِ ثانية أجده جالساً بهدوء وهو يتطلعُ إلى الدمُ الذي يسيلُ على ساعدهِ من أثر خدشٍ بغصنٍ أو موسى الحلاقة، أو أراه مقرفصاً ورأسه بين ساقيه، يعتصرُ أنامله بقوةٍ حتى يتدفقَ الدم من تحت أظافره وهو ينظرُ بانتشاء إلى القطراتِ التي تتساقطُ على التراب، بعد ذلك يعود إلى ما كان عليه محاولاً إخفاء نظراته في الأرضِ بخجلٍ أو يشغلُ نفسه بالقراءة.

كان يقضي معظم وقته بالقراءةِ ولا يخرجُ من الخيمة إلا لقضاءِ حاجةٍ ضرورية متحاشياً الحديثَ مع الآخرين، وحتى معي كان حديثه يقتصرُ على الكتب، وكلما حاولتُ الحديثَ معه عن تجربتهِ في الجزائر الذي قضى فيها ثلاث سنوات أو تجربته مع الأنصارِ في كردستان، كان يغيّر الحديث بلباقةٍ أو يكتفي بالصمت. وفي الليلِ حينما أوهمه بأني نائم كان يُخرجُ من تحت مخدته دفتراً صغيراً وعلى ضوء الفانوس يبدأ بالكتابة فيختفي وجهه الحزين خلف سحابةٍ سوداء من دخانِ سجائره فأحسبه كأنه يكتبُ وصيته الأخيرة. وأحيانا كنتُ أسترق النظرَ إليه فأراه يُخرجُ رواية (عشيق الليدي شاترلي)، يركّز نظره طويلاً على صفحةٍ واحدة ويده الأخرى تتحركُ تحت البطانية. دقائق وينهض خارجاً من الخيمة. يعود لاهثاً، يطفئُ الفانوس ويرتفعُ شخيره أو أنينه الذي يشرخ الروح.

مرةً ونحن منشغلون كالعادةِ بحركةٍ جنونية كأننا نبحث عن منفذٍ في هذا الكون كي ننعتقَ من أسره أو كأننا نتدافعُ بالأذرع كي نصلَ إلى ثقبٍ في الفضاء نلصقُ عليه أنوفنا كي نشمّ هواءً قبل أن نختنقَ في هذا القِدرِ الضاغط، واقفين في طابور وهمي أمامَ شبّاك التذاكر المغلقِ للحصولِ على بطاقةِ سفرٍ إلى أيّ مكان، بطاقة سفر نحو المجهول برحلةٍ ملغاةٍ أو مؤجلة، صرخَ شاب كردي فحسبنا أن عقرباً قد لدغته إلا أنّ ذلك لم يحدثْ بل كانتْ صرخته تدلّ على ابتهاجٍ طفولي حيث أنه اكتشفَ لعبةً غريبة. تجمعَ أغلبُ اللاجئين كي يشاهدوا الاكتشافَ العجيب. كان الشاب يطارد عقرباً ثم يحاصرها بدائرةٍ من نارٍ فتحاولُ العقربُ اختراقَ محيطِ الدائرة، وحينما لا تجد مفراً وتيأس من فكّ الحصار عنها، تقفُ عند المركز تماماً ثم ترفع نصفها الأمامي وتغرزُ إبرتها في جسمها وتموت. 

أسرعتُ إلى الخيمة صارخاً على عاشور كي ينهضَ ليرى الاكتشافَ الغريب. تطلعَ إليّ ببرودٍ هازاً رأسه بلا أباليةٍ، ساخراً من اكتشافي المتأخر. وحينما سألته إنْ كان قد شاهدَ هذا الأمرَ من قبل، أجابَ:

" لقد ذكره نيتشه. "

تطلعتُ إليه بغرابةٍ فأخرجَ كتاب (هكذا تكلم زرادشت) وبدون عناء في البحث فتحَ الصفحة وراح يقرأ بصوتٍ عال:

" إن من يحيط به لهب الجسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمّته المسمومة إلى نحره. "

ثم أطبق الكتاب وأعاده إلى رفّ الكارتون وواصلَ الكتابةَ في دفترهِ الصغير دون أن يعير اهتماماً للهفتي.

حبل سريّ يشدني إلى هذا الرجل ليس الطفولة والتاريخ المشترك بل ما هو أكبر، فهو نفسي التي تتمرد عليّ وأسامحها، أجلسها أمامي أتأملها صامتةً، هادئةً مثل طفلةٍ خاطئة، ألومها، أغريها بالاعترافِ لكنها تدعوني إلى لعبة نردٍ:

" هه، أنا بعقلي وحدسي المدربين فمنْ أنتِ أيتها الحشرة التافهة؟ "

" ....................... "

يدمرني صمتها الساخرُ فأنقاد إلى رغبتها وبي رغبة لكسرِ أنفها بفوزٍ ساحق، أذلّها بهزيمة لن تنساها أبداً، لكني وفي كلّ مرةٍ أعود خاسراً. ولكي أبررَ حقدي عليها أمنعها من مصاحبتي بحجةِ الرفعة عن توافهِ الأفعال فأجدها أمامي أكثرَ رفعة، بل تسخرُ من وضاعتي وصغر عقلي وقلّة تجربتي في الحياة، وحينما أقررُ نسيانها تتسللُ إليّ من غضبي كالغفوةِ فأقف أمامها عاجزاً معترفاً بهزيمتي وبالعجز عن فعلِ أيّ شيء.

" عاشور مَنْ أنتَ؟ أنا لا أعرفك. "

".................. "

" أجبني بحق مأساتنا المشتركة! "

" أنا أنتَ أيها الغبي. "

لم أعدْ أطيقُ أنينه وصراخه وقد تجاوزتِ الساعة منتصفَ الليل فركضتُ إلى غرفة مدير المعسكر وأخبرتُه بأنّ صديقي يعاني من ألمٍ في ضرسه عسى أن أحصلَ على حبة مُسكّن. تطلعَ أغا قاسمي إليّ بعينيه الحمراوين وقد هطلَ فكّه السفلي حتى غطى عنقه. مسكني من كتفي ثم لوى ذراعي إلى الخلف ودفعني بقوة فتعثرتُ حتى سقطتُ على الأرض. ركلَ الباب بقدمه وهو يردد كلاماً لم أفهمه. عدتُ إلى الخيمة فأدركَ عاشور خيبةَ مسعاي فبدا أمامي متماسكاً محاولاً إخفاء ألمه. في الصباح وجدتُه جالساً كعادته عند بابِ الخيمةِ وهو يبرمُ خيطاً قد استلّه من قماش الخيمة، وحينما وجدني أتطلعُ إليه افتعلَ الانشغال بالتفكير وكفّاه تبرمان الخيط دونما قصد، لكني ولمعرفتهِ به أدركتُ ما كان يدورُ في ذهنه حتى انتهى من برمِ الخيط. التفتّ إليّ فأوهمته بعدمِ مراقبتي له. راح يُدخلُ طرفَ الخيطِ بين أسنانه ويسحبه بهزاتٍ خفيفة كي يتأكدَ من إحكامِ ربطه للضرس. ربطَ طرفَ الخيط الثاني بحجرةٍ ثم أفلتَ الحجرَ من كفه فسقطَ على الأرض فهمّ بإعادةِ المحاولة. تدخلتُ صارخاً به فتطلعَ إليّ بغضبٍ. أمسكتُ ذراعه وهززتها بقوة كي أوقظه من بُحرانه غير أنه دفعني من صدري فتهاويتُ على الأرض. نهضتُ متوسلاً به أن لا يفعلَ ما ينوي فعله:

"سأذهب إلى أغا قاسمي حتى لو توسلتُ به لكي يرسلك إلى المستشفى؟ "

قلتُ وأنا أمسكُ ذراعه فأفلتها من قبضتي وهو يتطلعُ إليّ بغضب، ثم مسكني من ياقة قميصي متحفزاً للمواجهة، وحينما رآني أنظرُ إليه بدهشةٍ، أنزلَ يده التي كادتْ تهوي علي، وبدلاً من أن يعتذرَ وجّه لي كلاماً فظاً والزبد يتطايرُ من فمه على وجهي:

" أعرفكَ جباناً وذليلاً... "

توقفَ قبل أن يكملَ جملته، ثم وبلغةِ اعتذارٍ لا تخلو من كبرياء أضافَ:

" مَنْ أغا قاسمي كي تتوسلَ به؟ ومن أجل ماذا؟ "

لم أجدْ وسيلةً لمنعه فتركته ودخلتُ الخيمة وأنا أسترقُ النظر إليه. بعد بضع دقائق، صرخ بصوتٍ مخنوق. ركضتُ نحوه فوجدتهُ ساقطاً على الأرض والدمُ يتدفق من فمه. سكبتُ على وجهه ماءً وأنا أصرخُ به وأهزّه فاستيقظَ مرتعشاً وعيناه زائغتان وقد اختفى سوادهما. أجلستُه سانداً رأسه بصدري ورحتُ أسكبُ الماءَ على وجهه ورأسه حتى استعاد وعيه. رفعتُ الخيطَ من الأرض فوجدتُ الضرسَ عالقاً في طرفه. خلعتُ فانيلتي وحشرتها في فمه فاصطبغتْ بالدم. تجمعَ عدد من اللاجئين حولنا متسمرين وهم ينظرون إلى المشهدِ بصمتٍ ومنهم مَنْ ذهب لإخبار إدارةِ المعسكر فجاء أغا قاسمي مترنحاً. تطلعَ إلى عاشور وقد ضيّق عينيه حتى غدتا كثقبين صغيرين ثم أدارَ ظهره نحونا ومشى دون أن ينطقَ بكلمة. بدأ تنفسه يأخذ وضعه الطبيعي وهدأتْ نبضات قلبه. توقفَ نزيفُ الدم. لاحتْ ابتسامة خجولة على شفتيه ثم توسعتْ حتى انفجرَ بقهقهةٍ كنتُ أحسبها في البدء بكاءً. ضحكَ، ضحكَ منتشياً وهو يتطلعُ إلى الدم الذي لوث ملابسه وعنقه فراحَ يأخذ جرعات ماء، يتمضمض بها ويدفعها من فمه كنافورة حمراء ويضحكُ بهيستيرية أثارتْ الرعب في نفسي. وقعتْ عيناه على الضرسِ العالق في طرفِ الخيط فانقضّ عليه كأنه يمسكُ أفعى من رأسها. رفعه بسبابته وإبهامه. قرّبه من عينيه الجاحظتين وهو يرددُ بزهوٍ وانفعال كأنه يخاطبُ عدواً قد أجهزَ عليه:

" قتلتكَ أيها السافل.. قلعتكَ من جذركَ أيها المتسوس العفن. "

ساءتْ حالةُ عاشور النفسية وبدأتْ تظهرُ عليه علاماتُ الغضب وردّات فعلٍ غبية لأتفه الأشياء، وعلى الرغمِ من تفهمي له وحبي الذي كنتُ أؤكده أمامه كلّ الوقت إلا أنه كان ينظر إليّ بعدوانيةٍ لم أجد لها مبرراً فقررتُ أنْ أتركَ الخيمة له وأنتقل إلى خيمة أخرى. تطلعَ إليّ غير مصدق لقراري، وحينما رأى إصراري على الانتقال أجهشَ بالبكاء مثل طفلٍ، متشبثاً بي وهو يرتعشُ بانفعالٍ فوجدتُني أقف أمامه عاجزاً عن اتخاذِ القرار فعدلتُ عن الفكرةِ وندمتُ على قراري بل ازداد حبي له، لكنّ شكوكي بمرضهِ قد ترسختْ فاقترحتُ عليه أن نتركَ المكانَ ونذهبَ إلى طهران.

" كيف نخرج من المعسكر؟ "

قال وقد اقتنعَ بالفكرة فأجبته:

" نهرب. "

لم ترق له فكرةُ المجازفة فقد كان شبحُ السجن والجَلد الذي تعرضَ له متمثلاً أمامه في كلّ لحظة، فاتفقنا على أنْ يذهب إلى طهران بإجازةٍ وسأقوم أنا بكفالةِ عودته عند الإدارة ويحاولُ هناك أنْ يتصل بأصدقاء ليدبروا له أمرَ السكن وإيجاد عملٍ وبعد ذلك سألحقُ به بأية وسيلة ممكنة.

سافرَ عاشور إلى طهران تاركاً كتبه وأوراقه:

" ارمِها أو احرقها إن شئت. "

قال بلا أبالية على الرغم من يقيني بأنها الشيء الوحيد الذي يربطه بالعالم.

أول ما لفتَ انتباهي وأنا أتصفحُ كتابَ (هكذا تكلم زرادشت)، الكتاب الذي تهرأ بين يدي عاشور هو الخطوط الكثيرة التي وضعها تحت الأسطر فرحتُ أقرأها وكأني أغورُ في أعماقِ صاحبي فأستعيد صورته وتصرفاته وفقَ الأفكار والمفاهيم الموجودة في الكتاب والتي راقت له وربما ضربتْ على وترٍ حسّاس عنده:

" أحبّ مَنْ يعلنُ حبه لربهِ بتوجيهِ اللوم إليه. "

" لقد تملكهم الضحك فهم لا يفهمون ما أقول وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الأسماع. "

" إنّ حياة الإنسان محفوفة بالأخطار وهي فوق ذلك لا معنى لها. "

" إنّ الأرضَ مكتظة بالدخلاء وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأنْ تستهويهم الحياة الأبدية ليخرجوا من هذه الدنيا. "

" اهربْ يا صديقي إلى عزلتكَ. لقد طالتْ إقامتكَ قرب الصعاليك والأدنياء.. لقد أرهقتكَ الحشرات السامة ... "

" إنّ أغوار المنفرد بعيدة القرار. "

" التدرب على محبة الذات أدقّ الفنون وأصعبها. "

" إنّ اكتشاف خفايا الإنسان لمن صعابِ الأمور وأصعب الأمور أنْ يكتشف الإنسان نفسه. "

" عليكم أن تكفروا أمام أبنائكم عن ذنب تحدركم من آبائكم، وبغير هذه الكفارة لن تنقذوا الماضي. "

" كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علّموه على الأقل أنْ يسرعَ بالسقوط. "

" انظرْ إلى صغار الناس وأخص منهم الشعراء بأيّ بيان ملتهب يشكون الدهر وتصاريفه. وإذا ما أصغيتَ إلى هذا الأنين الشاكي فلا يفوتنكَ أنْ تنصتَ لنبراتِ اللذة في كل شكوى. "

" تبارك روح العاصفة روحاً وحشياً طيباً حراً طليقاً يرقص على مستنقعات الأحزان كأنه يتمايل منها على ناضرات المروج. تبارك من روح يكره الغوغاء المستكلبين الفاقدين الصواب وكلّ ناقص يتعزز بالعبوس. "

......................................

أطبقتُ الكتابَ وأعدته إلى مكانه على الرف الكارتوني، عندها وقع نظري على الدفتر الصغير الذي كان يكتبُ فيه على ضوءِ الفانوس بعد أنْ يتأكدَ من استغراقي في النوم. حاولتُ كبتَ فضولي محافظاً على أسراره إلا أني لم أستطع مقاومةَ إغراء الكشف عن كنهِ هذا الكائن الغامض، والذي كلما اقتربتُ منه شعرتُ ببعده عني.

على الصفحةِ الأولى من الدفتر كتبَ بالخط الكوفي عنوان الكتاب: (رسالة في الجلقِ والجلاقة) . لم استطعْ كتمان ضحكتي فانطلقتْ بصوتٍ عالٍ وراحتْ ترتفعُ وترتفع حتى سمعتُ طرقات على بابِ الخيمة وصوتَ أحد اللاجئين يقول بغلظة:

" أخي نريد ننام شنو أنت محشش؟ "

قضيتُ الليل في قراءةِ ما كتبه صاحبي وأنا أكتمُ ضحكي وسعالي حتى ارتفعَ صوت أذان الفجر. ولأني أعرفُ نزوات صاحبي وعبثه فقد قررتُ استنساخ الكتابِ والاحتفاظ بنسخةٍ منه معي دون أن يعلمَ بالأمر، فبدأتُ في الليلة التالية استنساخه. وقد بقيتْ هذه النسخة معي دون أن يعلم متحيناً الفرصة لنشرها.

 

 

رسالة في الجلق والجلاقة

لشيخ الطريقة الجاهرية الحرّ الفقير

توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاةُ والسلام على أشرفِ الخلقِ وسيّدِ المرسلين محمد بن آمنة الأمين الذي أُرسلَ للناسِ رحمةً باسطاً الشريعة للخلقِ نعمةً لا نقمة ميسّراً أمورهم بما تشتهي الأنفسُ التائقةُ للسموّ معطياً الجسدَ حقّهُ جاعلاً اللذةَ بمنزلةِ العبادةِ مؤالفاً بين اللهِ والباهِ إذْ ساوى في دنياه بين حبّ النساء وقراءة القرآن الكريم بمنزلةٍ واحدةٍ ولم يتركْ في شؤونِ الخلقِ شاردةً ولا واردةً فحقّ بذلك أن يكونَ خاتمَ الأنبياء والمرسلين مُتمّاً رسالته على أكملِ وجهٍ وسبحان العزيز القائل " نريد بكم اليسرَ ولا نريد بكم العسرَ "

وبعد

اعلمْ عزيزي القارئ هداكَ اللهُ ونجاكَ من الآثامِ الكبيرةِ وغفرَ لكَ اللممَ والسهوَ وأمتعكَ بمتعِ الدنيا قبل الآخرة فهو ربّ الجمالِ خالقُ الفتنةِ وغافرُ الذنوبِ وهو القائلُ في محكمِ كتابهِ المجيد " إن الله لا يغفر أنْ يُشركَ بهِ ويغفر ما دون ذلك " واعلمْ رعاكَ الله أن ربكَ لا ينظرُ إلى الوجوهِ والأجسادِ وإنما ينظرُ إلى القلوبِ وما تكسبُ ولا يخدعنّه منافقٌ أو كاتبُ تقارير يدّعي العفّةَ والشرفَ فهو العارفُ بما يخفى وما يظهر ونِعمَ بالله وكيلا

إنّ ما دفعني إلى تسجيلِ هذه الوثيقة وكتابةِ هذهِ الرسالة التي أسميتُها (رسالةٌ في الجُلقِ والجلاقة) صافعاً بها الوهمَ بكفّ الحقيقة منيراً قلوبَ الحائرين من ظلمةِ رجال الدين الذين نسوا التوحيدَ والأصولَ ونبذوا العواطفَ والعقولَ وراحوا يقلّبون الأمرَ بما تُملي عليهم أهواؤهم فحللوا الفلقةَ وحرّموا الجَلَقَةَ كما حللوا القتلَ والغزوَ وحرّموا العشقَ والشدوَ إرضاءً لشرورِ أنفسهم وظلامِ عقولهم لعلّ رسالتي هذي تنيرُ للضائعِ دربا وتزيلُ عن نفسِ المكروبِ كربا وتدنيهِ من الحبّ منزلةً وقربا

لقد عزمتُ على كتابةِ هذهِ الرسالة بعد الذي لقيتُه أثناءَ دراستي طالباً للفقهِ والعلمِ في حوزةِ قم من عنتٍ وزيفٍ وتخريف من شيوخ النفاق والخداعِ والتسويف فرأيتُ ما هالني من هؤلاءِ من شائنِ الفعلِ والقولِ في شؤونِ الدينِ والعالمين فقد حدثني شيخي الذي كنتُ أحسبُه جليلاً حافظاً للأمانةِ وللعلم خزانة قال " حكمُ الجالدِ لعميرتهِ كحكمِ الزاني بأمّهِ في الكعبة " فما كان مني إلا أن رحتُ أضربُ رأسي ووجهي نادباً إسرافي في المعاصي ولسانُ حالي يقول " هلكتُ وربّ الكعبةِ " حتى إنْ فقدتُ وعيي وتلعثمَ رأيي ما بين مُصدقٍ لما يقوله شيخي وما بينَ عقلي وقد زادَ طينتي بلةً وقيدي غلّةً أن خيالي شطّ بي باغياً فرأيتني أرفعُ ساقيْ أمي وأولجُه فيها ناعظاً راهزاً وهي تتقلبُ تحتي في نشوةٍ ومتعة فخورةً برجولةِ ابنها وبذرةِ بطنها حتى إذا ما أفرغتُ فيها استيقظتُ من الكابوسِ وتذكرتُ حكايةَ فحلِ الجاموسِ الذي عُصبتْ عيناه فواقعَ أمّه ولما انتهى منها رمى بنفسهِ في النهرِ منتحراً فوجدتُني ساقطاً على الأرضِ وقد اسودّ الضوءُ في عيني وتجمهرَ حولي طلبةُ العلمِ وهم لا يعرفونَ من خبري شيئاً بعد ذلكَ علمتُ من زملائي المغررِ بهم لسذاجتهم أو لحسنِ نيتهم بأنّ هذا الشيخَ منافقٌ لعين لا يفقه في الدينِ إلا ما يلائم شهوتَه ويحرّكُ خصيتَه فأن له من الأزواجِ أربعا ومما ملكتْ أيمانه مرتعا وقيلَ همساً إن له من الغلمان عددا فرفعتُ كفيّ نحو السماء قائلاً ربي نجّني من القوم الظالمين فأوحى إليّ أن أهربَ من هذا الماخورِ فهربتُ من ظلامِ قبري إلى النورِ ومن فسادِ الحوزةِ مطلقاً سراحَ الهمزةِ من منبرِ الدجلِ إلى فضاء الحرية مردداً اللهم اجعلهم بددا واحرقهم أبدا وأضئْ عقولَ مريديهم بنورِ الحقِ والجمال واتركهم في ظلمةِ أرواحهم يعمهون سلّطْ عليهم مَنْ يسحلهم بعمائمهم ويرميهم في مزبلةِ الأرض اللهم اجعلهم كالكلابِ يلهثون يأكلونَ فلا يشبعون ويشتهون ولا ينتصبُ لهم أيرٌ أصبْهم بالعنّةِ وابلوهم بالأبنةِ اجعلْ بناتِهم قحابا وأولادهم غلمانا لعلهم يرتدعون

 

 

فصل في الإباحة والتحريم

اعلمْ هداكَ اللهُ وأيدكَ بنورِ العقلِ وأنارَ ظلمتكَ بسراجِ اليقين حدثني شيخي شهابُ الدينِ اليزدي وقد حقَّ عليه الاسم فهو ضرّاطٌ من سلالةِ ضرّاطين قال حرّم الله الاستمناءَ باليدِ أو ما عُرفَ بجلدِ عميرة وفقَ ما جاء في الآيةِ الشريفة (والذينَ هم لفروجهم حافظون) فقلتُ سامحكَ الله يا شيخُ أين هذا من ذاكَ وكيفَ أصبحتِ الكفُّ فرجا ولِمَ حُرّمَ استخدامها في الاستمناءِ وحُللَ في الخرطاتِ التسع والفعلُ واحد فصرخَ الشيخُ بي غاضباً وقالَ مرتعدا قد جئتَ أمراً إدّا ودخلتَ دائرةَ المحظوراتِ عمدا واتخذتَ من وثنيي الإغريقِ سندا فقلتُ ساخراً رويدكَ يا شيخي اغفرْ لي قلّةَ خبرتي واستفحالَ جهلي وتصدّقْ عليّ من خزائنِ علمكَ ما يشدّ من عضدي ويقوّمُ سندي وأنتَ الذي وهبكَ الباري من فضلهِ مددا فأشرقَ وجه الشيخِ بزهوٍ وانتفخَ كبوٍّ وضحكَ حتى بانتْ نواجذه المتسوسة وقال سامحكَ الله يا ولدي لقد اتخذتَ من القياسِ منهجا وهذا ما نهى عنه الأئمةُ المعصومون والفقهاءُ ورجالُ العلمِ وأشارَ إلى نفسهِ كواحدٍ من أولئكَ الفطاحلِ الذين ملأوا الأرضَ خيراً بعلمهم وطبّهم وهندستهم ولم يكتفوا بتفسيرِ المسائلِ وتحريرِ الوسائلِ فكتمتُ ضحكتي وارتضيتُ بغصّتي وفعلتُ ما يفعلُ التلميذُ النجيب مبالغاً في الطاعةِ والتهذيب فقلتُ بطريقةِ المتسائلِ التائقِ إلى الاستفاضةِ وما الضيرُ من ذلكَ يا مولايَ فقالَ وقد انتفشَ ريشُه غرورا وانفرجتْ أساريرُه حبورا القياسُ يا ولدي منهاجُ الخاطئين ومن غُررَ بهم وغرّروا بالآخرين من فلاسفةٍ وسفسطائيين ثم ألقى إلي حجته التي سمعتُها مراراً من غيره وهي قضيةُ الشهودِ وعددهم في إثباتِ الكفرِ والزنا فقلتُ واللهِ الذي لا يعلمُ الغيبَ سواه إن لقضيةِ الزنا وشهودها سرّاً محققا وأمراً ملفقا فلو جيءَ بأربعةِ شهودٍ في ذلك اليوم المشهود لقيلَ لهم هاتوا بثمانيةٍ ولو جيءَ بثمانيةٍ لقيلَ لهم هاتوا بستةَ عشرَ شاهداً إكراما لها وستراً للفضيحةِ ووالله عزّ وجل لو جيءَ بستةَ عشرَ لقيلَ لهم هيهات هيهات لن تُقبل شهادتهم حتى يأتونا بكسّ فارجٍ وينطقُ وأيرٍ والجٍ ويعترف

وأما بعد

لقد اختلفَ الأئمةُ والفقهاءُ في أمرِ الاستمناء فقد حرّمه مالكُ والشافعي وأباحَه الإمامُ أحمد مستدلاً على ذلكَ بالقياسِ على الفصْدِ والحجامة ومن دواعي الأسفِ الشديد أن شيخنا الفاضلَ محي الدين ابن عربي قد جارى الأوَلَين في حكمهما مستندين إلى آية (والذينَ هم لفروجهم حافظون) ولو تأملوا الآيةَ بشيءٍ من الرويةِ والعقل لوجدوها آيةً عامةً لا خاصة تحثّ على عفّة النفسِ ولا تشيرُ إلى ما نحن بصددهِ الآن ولا تحسبُ حساباً للزمانِ والمكانِ وما يتبعها من آي يدلّ على ذلك الزمانِ الذي فيه لا يعجزُ الإنسانُ عن اتخاذ حليلةٍ له إلا بسبب العوزِ والفاقة فما له من وسيلةٍ إلا انتظار الرازقِ الأكبر أما في يومنا الحاضر فهناك ألفُ سببٍ وسبب يجعلُ الإنسانَ عاجزاً عن النكاح لا بسبب ضيقِ الحالِ وإنما بسبب تغير الأحوالِ وحكم العزلةِ من حروبٍ طويلةٍ ونفي واعتقال

أما أنا فأقولُ وأوجّه وجهي نحو القادرِ العليّ بنيّةٍ صافيةٍ مبتغياً مرضاته وحسنته الواحدة إنْ أخطأتُ وسبحانَ من لا يُخطئ وبالحسنتين إنْ أصبتُ وفي كلا الحالين لا أبغي تبريرَ معصيةٍ وإنما أرجو انتهاجَ السبيلِ الواضحِ وفي كلا الحالين أقولُ حسبيَ اللهُ ونِعمَ الوكيل

اعلمْ أيها القارئ بأني أحللُ الاستمناءَ حلالاً مطلقا وأبيحُه للناسِ إباحةً لا تحوطاً فيها ولا قلقا مستنداً إلى العقلِ وما يمليه الظرفُ وإلى اختلافِ الرأي عند الأئمةِ وكذلك إلى قولِ الرسولِ الكريمِ الذي يتغافلُ عنه كلّ منافقٍ لئيم من عالمٍ يدعي العلمَ وليسَ له بأهلٍ ولا يحملُ منه مثقالَ ذرةٍ أو متخمٍ لا يشعرُ بجوعِ غيرهِ أو ضالٍ لا يبرحُ مكانَه ضارباً في نواحي الأرضِ باحثاً عن رزقهِ أو منفياً مرغما أو سجيناً لقضيةٍ عظمى أو طالب علمٍ مترفعاً عن سفاسفِ الأمور لكنّ الله أضلّهم بالنفاجةِ والادّعاء فتوهموا العلمَ والعلم منهم براء واستعذبوا الكسلَ ونبذوا العملَ فصاروا تنابلةً لئاما أعناقهم مرصوصةٌ وكروشهم تخطو قبلهم يأكلونَ الحراما ويسرقونَ أموال الناسِ بذريعةِ الزكاةِ والخمسّ فصاروا عبيداً للدينارِ والكسّ يمتطونَ الأراملَ بحجةِ الحرصِ على عفتهنّ ويغوون الأيتامَ بخديعةِ الإشفاق فصاروا كمَنْ يتخذُ العجْلَ إلهاً في التيهِ بدلاً عن التأملِ والمكابدةِ والوجد للوصول إلى طريقِ الحقِ والعمل الجادِ لبناء أمّةٍ قويةٍ يفخرُ بها أبناؤها فبئسَ من سلفٍ عاقٍ ورجالٍ ساقطين

قال الرسول الكريم " الزواجُ من الحرّةِ خيرٌ من الزواجِ من الأمَة والزواجُ من الأمةِ خيرٌ من الخضخضة "

فانظر أيها القارئ إنَّ الرسولَ لم يحرّم الخضخضةَ وإنْ جعلها في المرتبةِ الدنيا وأضعفَ الإيمان وذلك حسب ظرف ابن آدم والمكان فمن أين جاء المنافقون بأمرِ التحريمِ وقالَ أكثرهم نفاقاً بالتجريمِ لعنة الله عليهم إلى يوم الدين فوالله الذي لا تخفى عليهِ خافية وهو الشاهدُ على ما أقول لقد سألتُ مرةً شاباً معمماً يدّعي الورعَ ويعملُ واعظاً في إدارةِ معسكراتِ الأسرى العراقيين في إيران إنْ كان لما تبثّه وسائلُ الإعلام العراقية حولَ قيامِ الحرسِ الإسلامي بقتلِ الأسرى من صحةٍ فقال ممتعضاً وهو يمسّد لحيته بافتعالٍ فغدا وجهُه كنعالٍ أجلْ لقد قتلنا عدداً قليلاً منهم لا يتجاوزُ الخمسين شخصاً إنهم يمارسون الرذيلةَ فقلتُ اللواطَ أجلّكم الله؟ فقال لا إنهم يمارسون الاستمناءَ فانظرْ عزيزي القارئ إلى هؤلاء الأوباشِ يرون الناسَ كالأكباشِ فما أزهدَ الإنسانَ في دينهم وما أرخصَ القتلَ في قانونهم يأمرونَ الناسَ بالمعروفِ وهم منحرفون وينهون عن المنكرِ وقد جُبلوا عليه حتى صارَ لهم الكذبَ سجيةً والقتلُ غايةً يرتجونَ بها من وجه اللهِ قربا وهو الذي حرّم قتلَ النفسِ والقائل بأنّ من قتل نفساً بريئة بغير حقّ كأنما قتلَ الناسَ جميعا لكن أنفسهم المريضةَ سوّلتْ لهم أن يفعلوا المنكرَ ظنّاً منهم بأنه المعروف وزينتْ لهم سوءَ أفعالهم فظنوا أنهم يقتلون الناسَ بالحقّ ويغتصبون العذارى بالحقّ فالمرأةُ في دينهم عورةٌ وفي عرفهم بقرةٌ ولكنهم في لحظاتِ هياجهم يلحسونَ مُطّالَها ويقبّلون نعالَها حتى إذا أفرغوا سمومهم فيها عادوا يذلونها ويرجمونها متشدقينَ برجاحةِ العقلِ على ناقصاتِ العقلِ والدين وانظرْ عزيزي القارئ إلى أين وصلَ الأمرُ بهم يحللون الإذلالَ والقتلَ ويحرّمون الجَلَقةَ وإن رفعتْ كفّ للاعتراضِ قطعوها وإن ألقيتْ عليهم حجة حرّفوها باللغوِ والإطناب فترى أحدهم يتحدثُ ساعةً كاملةً ولا يقول شيئاً متهماً مَنْ يعترضُ عليهِ بالفسقِ والزندقة

فاتني أن أذكرَ في شأنِ فقهاء الجهلِ والرذيلةِ أنّ إمامهم في الدجلِ قد حرّمَ في كتابهِ (تحرير الوسيلةِ) الاستمناءَ وحللَ وطء الرضيعةِ ولو كان يعلمُ أنّ الطبّ الحديثَ اليوم يكشفُ ما تغيضُ الأرحامُ لأباحَ وطء النطفة

وخلاصةُ الفتوى وزبدةُ الفحوى أقولُ عزيزي القارئ الباحث عن الحقيقةِ بمسندِ العقلِ والنهجِ الواضح والشريعةِ السمحاء لما كانتِ المرأةُ صعبةَ المنالِ في بعض الأحيان لمشاغلِ الحياةِ وهمومها من حروبٍ ونفي واعتقالٍ أو عهرٍ وابتذالٍ وتعففِ الواعي من الرجالِ من الانحطاطِ والإسفافِ إلى درجةِ التهريجِ وإضاعةِ الوقتِ في الركضِ وراءَ غانيةٍ فاتنة كظامئ يركضُ نحو الأفقِ القصي كي يمتحَ من سرابٍ أو كمَنْ يرمي صنارته في بركةِ ماء آسنةٍ خاليةٍ من الأسماك فيعودُ كلّ مرةٍ خاليَ الوفاضِ نادماً على إسفافهِ كمقامرٍ يخسرُ مالَه ووقتَه ويتلفُ أعصابَه أملاً بالربحِ فأني الحرّ الفقير لرحمةِ الله الغني بالتوحيدِ أبيحُ لكم الاستمناءَ دون مواربةٍ أو خجلٍ ودون تحوطٍ أو احتراز والله من وراء القصد سبحانه الذي قال " نريدُ بكم اليسرَ ولا نريدُ بكم العسرَ " أو " لا يكلفُ الله نفساً إلا وسعها " فسبحانَ مَنْ اباحَ للأيمانِ قابضةً أو فارغة فمَنْ لم تملكْ أيمانُه ملكَ أيمانَه أقولُ قولي هذا واستغفرُ الله لي ولكم فإنْ كنتُ قد أخطأتُ في اجتهادي فاعلموا أن اللهَ غافرُ كلّ ذنبٍ وهو القائلُ بمحكمِ كتابهِ المجيد " إنّ الله لا يغفرُ أنْ يُشركَ بهِ ويغفر ما دونَ ذلك " فهنيئاً للموحدين إيمانهم وأيمانهم بما ملكتْ أو لم تملكْ

 

 

فصل في التسمية

اعلمْ سيدي الفاضل أنّ للاستمناءِ أسماءً كثيرة منها ما هو اسم معنى أو اشتقاق ومنها ما جاء على سبيلِ الوصفِ أو المجازِ والاستعارة لعل أشهر هذه الأسماء وأكثرها تداولاً بين المثقفين من الناس هو (الاستمناء) ويعني كما هو واضحٌ استخراجُ المني بواسطةِ اليدِ على الأغلب وبفعلٍ إرادي وتكون (الخضخضةُ) شكلاً من أشكالهِ الكثيرةِ التي سنأتي على وصفها لاحقاً في فصلٍ أسميناه (فصل في الطرقِ والوسائل) ويصحبُ الاستمناءَ عادةً استدراجُ خيالاتٍ ذهنيةٍ يلعبُ الخيالُ فيها دوراً هاماً وكلما كان المستمني ذا ذهنٍ متمرسٍ على التأملِ وخلقِ الإيحاءاتِ كانتِ المتعةُ أكبرَ فالرجلُ ذو المَلَكَةِ الخياليةِ الواسعة يستطيعُ أنْ يجسّدَ في خيالاتهِ صورةَ المرأةِ المشتهاةِ على وجهٍ يقاربُ الحقيقةَ ولأنّ الإنسانَ فُطرَ على الخجلِ والمستمني عادةً ما يكون حسّاساً رقيقَ المشاعرِ لذا فأنه يكون أكثرَ جرأةً عند الاستمناء ويمارس أقصى حريتهِ في استدراجِ المرأة إلى مخدعهِ فتراهُ يتعرى أمامها دون مواربةٍ أو وجلٍ تاركاً لمكبوتهِ أن ينعتقَ من أسرِ كابتهِ ولحريته أن تتحررَ من أسبابها فتارةً نراهُ يختارُ العفيفةَ من النساء يبدأ معها بمعسولِ الكلامِ ولواعجِ العشقِ والهيامِ معاهداً إياها بالزواجِ على سُنّةِ اللهِ ورسولهِ حتى إذا اطمأنتْ إلى كلامهِ ووثقتْ من حبّهِ وغرامهِ وأيقنتْ من حسنِ نيتهِ وصدقِ مرامهِ راح يقبّلُ لثامها ثم ينزعُ نقابها ويزيلُ حجابها وهي غاضّة بصرها إلى الأرضِ عاضّة شفتيها تكابدُ شهوتها ولا تجرأ على التحديقِ في عينيه حينئذٍ يبدأ بحضنها وتقبيلها من تحتِ أذنها وعصْرِ نهدها برقّةٍ حتى يفضَّ بكارةَ خجلها فترمي رأسها على كتفهِ باستسلامٍ وتمتدّ يدها شيئاً فشيئاً مداعبةً شعرَ صدرهِ نازلةً إلى تحت وحينما تلمسُ انتصابَه بين أصابعها داهنةً رأسَه بلزوجةِ مذيّهِ تنشغُ من لسعِ برودتهِ فترفعُ رأسها إليهِ بعينينِ ذابلتين وشفتينِ مرتعشتين متسولةً من رجولتهِ غمزةً ومن فحولتهِ رهزةً تستعجلُ الأمرَ بالاستلقاء والإفراجِ حتى إذا فاضَ ماؤها وباشرَ فحلها بالإيلاجِ واستقرَ الوتدُ في قاعِ أرضها الرطبِ انقلبتْ رأساً على عقبِ فتراها عاهرةً ماهرةً في فنون الإغراءِ والرقصِ على نارِ فتنتها عارفةً كلّ طرقِ النيكِ والمصّ بجنون فطرتها وداعرةً في الكلامِ واللهاثِ في النهيطِ والنغيطِ وتارةً يختارها المتخيلُ فاجرةً نافرةً كأنها ولدتْ من بيضةٍ فاسدةٍ تكونُ هي المبادرة بالغوايةِ وكأن كلّ خليةٍ في جسدها تصرخُ " هيتَ لك " تكرهُ ما تألفه الأخريات فتبدأ بالمصّ وتنتهي بلحسِ المني وقد تكونُ سلقلقيةً لا تكتفي بالمألوفِ من النيكِ ولا تحصلُ متعتها إلا بإتيانها في الدبرِ وهذا النوعُ من النساءِ هو أكثرُ ما يثيرُ الرجلَ في استمنائهِ ويُخرجهُ من سجنِ حيائهِ إلى فضاءِ مجونهِ وجنونهِ محلّقاً في سماء النشوة

ومن بين النساءِ متمردةٌ من جنسِ المردةِ ملحدةٌ لا يثنيها عن طلبِ المتعةِ واعزٌ وكل شيءٍ في دينها جائزٌ حتى لو كلّفها الأمرُ حياتها تعشقُ الجنسَ والنبيذَ وتكرهُ الزواجَ فهي ترى فيه قيوداً للمتعةِ تساحقُ النساءَ بذاتِ الشهوةِ مع الرجالِ خبيرةٌ بكلّ فنونِ الفسقِ ولا تعرف الغيرةُ لنفسها طريقاً فهي لا تفرّقُ بين الرجلِ المتزوجِ والأعزب ولا بين الشيخِ والغلام فلكلّ منهما قد هيأتْ طريقةً وخطابا وهي في الإغراءِ والفتنةِ نارٌ ترتدي ثيابا زبّاءُ مع النساءِ مستبدة ومع الرجالِ طيعةٌ ومستعدة لفعلِ أي شيء يطلبون حدثني جلاقٌ من ذوي الخيالِ المنفلت ومن أهل الخبرة والدراية بهذا الصنفِ من النساء قال صنعتُ امرأةً من أهلِ الكتاب لم يماثلها أحدٌ في الفسقِ والفجورِ ساخنة كالتنورِ وجميلة كأنها من الحورِ كانتْ تعلّقُ صليباً متدلياً على صدرها تضكُّ

عليه نهديها فأسمعُ صراخَ المصلوبِ وحشرجتَه وهو يتدلى في وادي العقيق دعتني إلى نيكِ صدرها فأولجته بين نهديها لاحسةً رأسَه بلسانها الأحمر المندلق فرحتُ أدخله في فمها مرةً فتتلقفه ظامئةً واسحبه ببطءٍ متزلجاً بماءِ شهوتهِ حتى إنْ قذفتُ وتغطى الصليبُ بالمني راحتْ تلعقه باكيةً ناغطة وعلى كل عُرفٍ ساخطة فتثيرني أكثرَ مما بدأتُ فأعيدُ الكرّةَ ثانيةً وثالثةً حتى تنفصلَ أعضائي عن جسدي وتصبحَ أشلائي رميماً فأنتظر النفيرَ لقيامةٍ أخرى

ومن بين الرجالِ مَنْ لم يكتفِ بواحدةٍ فتراهُ مضطجعاً بين جيشٍ من الفارساتِ كأنه في الأمزون سيّد أو أسير بين نساءٍ محارباتٍ من نارٍ وحرير يلحسنه حتى يتلاشى جسدهُ أو يطيرُ بجناحين من شبقٍ وجنون وعن أولئك النساء حدثني رفيقٌ من أهل الحرفةِ قال كنتُ أنيكُ بضربةٍ واحدةٍ عائلةً كاملةً فقلتُ كيفَ رعاكَ اللهُ وقوّاك قالَ أغويت صبيةً فتسللتُ إلى حجرتها على سطحِ دارهم ولما رأتْ أيري منتصباً كشراعٍ نشغتْ وصرختْ فهرعتْ إليها أختها الوسطى فلما رأتنا على ما نحن عليه شاطتْ غضباً وغيرةً فخفتُ من فضولِ الجار والفضيحة لكنّها حينما تطلعتْ إليه منتصباً اقتربتْ بترددٍ وارتباك حتى إذا ما قبضتهُ بكفّها ورازتْ خصيتيه فغرتْ فاهاً وأطلقتْ زفرةً ساخنةً ولسانُ حالها يقول أهذا جزاء الأخوّةِ يا ناكرةَ الإحسان وعديمةِ النخوةِ تخفين ما عندكِ وتنعمينَ به وحدكِ فصرتُ وسيطاً بينهما معاهداً على إشباعِ جسديهما بالتناوبِ والتساوي وهكذا رحتُ متنعماً بين أشرسِ ذئبتين وكذلك جاءتْ الأختُ الكبرى والأمّ التي راحتْ تندبُ حظّها من قسمةٍ ضيزى بين ثلاثةِ أكساس جائعةٍ ولكن بعدَ أن رأينَ ما أنا عليه من فتوّةٍ وقوّةِ باه حمدنَ اللهَ على ما أنزلَ إليهنّ من رزقٍ لم يكنْ في الحسبان فصرتُ أنيكُ أربعا تارةً بالتوالي وتارةً أجمعهن معا حتى علمَ الأخُ بالأمرِ فخفتُ وتوجستُ منه شرّا فقالتْ إحداهن بثقةٍ مطلقةٍ ونبرةٍ قلقةٍ هوّن عليكَ يا رجل فأنه واللهِ إنْ رأى هذا الأيرَ سيزاحمنا على ما أنعم الله علينا من خير فعلمتُ بأنه يدفع مالاً لمَنْ ينيكه فأذقته صَدَقَةً ما لم يذقه من قبلُ وكان من الشاكرين

وحدثني جلاقٌ تركَ الحرفةَ وتزوجَ بامرأةٍ ذات قبحٍ وغلظةٍ وحينما سألتهُ متعجباً من أمره قالَ والله لن أرى أجملَ منها فقلتُ كيف وهي قبيحةُ الوجهِ دميمةٌ وذميمةٌ ومترهلةُ الجسدِ قدمها قدمُ فلاحٍ وجلدها جلدُ تمساحٍ قالَ وهو يهزّ يده سخرية من جهلي هذهِ قبضةُ العدس التي يتوهمُ الغافلون فواللهِ إن لها لساناً يقطرُ الفجورُ منه عسلاً ينتعظّ على كلماتهِ مَنْ بهِ عنّة فكيف لمَنْ به جِنّة خادمةٌ مطيعةٌ إنْ أردتها عفيفةً أو رمتها وضيعة تفيضُ منها الشهوةُ كبئرٍ مترعةٍ وكلّ ثقبٍ فيها تخاله باباً مغلقاً على خزائنِ الدنيا وكنوزِ متعةٍ أذاقتني من اللذةِ فنوناً لم تكنْ في بالي حتى وأنا في شطحةِ الخيالِ إذْ لم أكنْ أصدّقُ أن أجمعَ الحسنيين فبها أنيكُ وأجلقُ في لحظةٍ واحدةٍ عندئذٍ أدركتُ بأن للاستمناءِ فوائدَ لا تحصى فهو مدرسةٌ للأجسادِ وما محنة المتزوجين إلا لكونهم لم يدركوا حقيقةَ الخيالِ وفضلَ الكلمة فهي مفتاحُ الجنونِ وبالجنونِ وحده تتحققُ المتعة

وعن خيالِ الجلاق رويتْ حكاياتٌ كثيرة يعجزُ الباحثُ عن جمعها فيكتفي بأظرفها فحالُ الجلاقِ في نعيمِ خيالهِ كحالِ خراشٍ بين ظبائه كما وصفه الشاعر حينما قالَ على (بحر الوافر)

" تكاثرتِ الظباءُ على خراشٍ        

             فلا يدري خراشٌ ما يصيبُ "

ولعلَ أظرفَ هذهِ الحكايات ما رويَ عن جلاقٍ عراقي في بلاد الغرب حينما كان يتشمسُ على ساحلِ بحرِ البلطيق وكانت النساء أمامه يستحممنَ عارياتٍ كظباء خراشٍ فراحَ ينتقي أجملهنَّ ويضربُ الجلقَ مردداً مع نفسهِ بهوسِ المهتاجِ على أمّ اللباس الأحمرِ وحينما تتوارى ينتقلُ إلى أمّ اللباس الأخضر والأصفر ماسحاً بنظرهِ أفخاذَ ونهودَ الصبايا العارية وهكذا حاله حتى إذا اقتربتْ شهوتُه وأوشكَ على القذفِ تساوتْ أمامه الأجسادُ وأصيبَ بعمى الألوان فلم يعدْ يفرّق ما بين ذاتِ اللباسِ الأحمر أو ذات اللباس الأزرق مردداً في سره وهو يخضّ أيره بسرعةٍ وعيناه تغتصبُ الفضاءَ عليك يا عَلي عليك يا علي عليك يا

ومن مرادفات الاستمناء (جَلدُ عميرة) وهو الاسم الذي تداولته العربُ قديماً حيث وردَ ذكره في كتبِ الأولين من فقهاء وشعراء فقد ذكرهُ الشاعرُ ابن الحجاج رحمه الله وذكرهُ الشافعي ومالك والإمام أحمد كما أسلفنا وهو اسم غامضٌ ولكنّ غموضه يزولُ إذا افترضنا أن عميرةَ هو اسم من أسماء الأير وربما منه جاء (العير) بعد تذكيرهِ وحذفِ الميم الاسمُ الذي يتداوله أهلُ العراق والخليج العربي وبعدها تحول إلى (الأير) كما يرد في الكتب ويتداوله أهلُ الشامِ ومصر وشمال أفريقيا وربما يكون العكس هو الصحيح والله أعلم ولي في هذا الموضع رأي فأنا أستهجنُ هذه التسمية التي بُنيتْ على حكمٍ مسبق فالربطُ بين الاستمناءِ وعقوبةِ الجَلَد هو ما استنكرُهُ هنا واستهجنه لأنه يدلّ على أنه حكمُ الجاهلين ورجال الدين فكيف يرضى عاقلٌ أن يربطَ بين المتعةِ والعقوبةِ وإنْ كنتُ أعلمُ أنّ من بين الجلاقة مَنْ يستمتع بالألم أو كما يسمى في علمِ النفسِ الحديث بالمازوشية أو المازوخية وهذا في رأيي من الشذوذ الذي لا يصحّ الاحتكام إليه وليس موضعَ بحثنا

أما ما وردَ في حديثِ الرسول الكريم الآنف الذكر " الزواجُ من الحرّةِ خيرٌ من الزواجِ من الأمَةِ والزواجُ من الأمةِ خيرٌ من الخضخضة " فأنا لم أرَ هذا الاسم في كتبِ الأولين إلا نادراً ولكنه أي الاسم شائعٌ عندنا في العراق فهو اسمٌ دالٌ على تصويرِ حركةِ اليدِ على الأيرِ وخضّه حتى يقذفَ زبدتَه كما يُخضّ اللبنُ في الجودِ وبهذا المعنى يقتربُ مع ما يتداوله أهلُ الشام حينما يقولون فلان يحلبُ أيره أي أنه يُخرجُ الحليب منه بحركةٍ تشبه حركةَ تمريرِ الأصابعِ على الضرعِ وقد كنّا في العراق أيامَ فتوتنا الأولى نرددُ أهزوجةً معروفة

طوله طول الموزه

براسه توجد جوزه

خضّه تطلع بوزه

والبوزة هي الرغوةُ التي تندفعُ بقوةٍ من قنينةِ المشروباتِ الغازية بعد خضّها بحركةٍ تشبه الاستمناء وإزالةِ غطائها بسرعة

(العادةُ السرية) من التسمياتِ الأكثر شيوعاً في الكتبِ وبين المثقفين من الناس وفي رأيي أنها تسميةٌ غير دقيقةٍ ويُرادُ منها الإساءة فالاستمناءُ كما هو معروف ليس عادةً كالعادةِ الشهرية عند النساء أو ما اعتادَ عليه الإنسان بالطبع أو التطبع وإنما هو فعل إرادي حرّ ولماذا خُصتْ وحدها بالسريّةِ فهل رأيتم إنساناً يضاجعُ صاحبته جهاراً لكن وصفها بالسريّةِ كما هو واضح هو قولةُ حق يُراد بها باطل فالصفةُ هنا تضمرُ الغمزَ بكونها شائنة ومعيبة ومرتكبها كالسارقِ أو كالمتآمرِ فقد قيلَ " إن المستمني كالزاني بنفسهِ " وهذا لعمري هراءٌ لا يستحقُّ الردّ فلو كشفَ ابنُ آدم عن مكنونِ نفسهِ وتعرّى لرأينا من سوءاتهِ وشناعةِ طباعهِ ما يعجزُ الوصفُ عنه

ومن الأسماءِ الشائعةِ بين عامةِ الناسِ في العراق هو (الجُلُق) بضم الجيم واللام وفاعله (جالق) ومدمنه (جلاق) على زنة (فعّال) وجمعها (جلاقة) على زنة (فعّالة) ومفردُ الجلق أو المرة منه (جلقة) بتسكين اللام على زنة (فعلة) أو فتحها والجلقُ كلمةٌ فارسية مفتوحةُ الجيم وساكنةُ اللام ويُلفظُ قافها مخففاً حتى يبدو أقربَ إلى صوتِ الغين فيلفظُ (جَلْغْ) وقد سمعتُ الكثيرَ في العراق مَنْ يلفظها كذلك وفاعلها (جالغ) ومدمنها (جلاغ) ويطلق في العراق على فعلةِ الجلقِ (راس) فيقال " ضربَ فلان راسَ جلقٍ " سألتُ أهلَ الخبرةِ عن مصدرِ هذه التسمية فقالوا بالقياس على (رأس النارجيلة) فيقال " يدخنُ فلان رأساً واحداً في اليوم أو رأسين " وللقياسِ هنا أكثر من وجهٍ للمقاربة فكلاهما يشيعُ في الجسدِ خدراً واسترخاء ولو نظرتَ عزيزي القارئ إلى مدخنِ النارجيلةِ وهو يجلسُ على كنبةٍ فارجاً ساقيه واضعاً إحدى قدميهِ على الكنبة ومُدلياً ساقه الأخرى بجلسةٍ سلطانيةٍ وبغيبوبةِ انتشاء وتفرّد متلذذاً بزفراتهِ وعزلتهِ عمّنْ حوله مستمتعاً بجمعِ الماءِ والنارِ في كفّةٍ واحدة

ويقال عن الجلقةِ (قاط) ولا أعرفُ من أين جاءت هذه التسمية والأكثر غموضاً ما شاعَ استعماله بين أهلِ العراق في الآونةِ الأخيرة فيقال عندهم (قاط وطني) وقد سألتُ أحدهم عن أصلِ العبارة ففسّر لي بأن ما يُقصد هنا بـ (الوطني) هو إشارة إلى (سينما الوطني) الشهيرة والواقعة في شارعِ الرشيد ببغدادَ مقابل مخازنِ الأورزدي باك وقد ذهبتُ إلى هناك وتحققتُ بنفسي فما أنْ أطفئت الأنوارُ وبدأ عرضُ الفيلم بفتاةٍ تركضُ في مرجٍ واسع ونهداها يرتجان حتى سحبَ الرجلُ الجالسُ جنبي سحّابَ بنطالهِ ومدّ يده إلى كهفهِ فالتفتُّ إليه مستغرباً أمره فأدركَ بأني لستُ من روادِ سينما الوطني فقالَ انتظرْ وأين تظنّ ستذهبُ قلتُ لا أدري ولم تمضِ سوى بضعِ ثوانٍ حتى وصلتْ إلى كوخٍ على طرفِ المرجِ وقبلَ أنْ تدفعَ بابه أخرجَ صاحبي أيرَه منتصباً وحينما دخلتْ كان بانتظارها شابٌ قميء بزي فلاحٍ جالساً على سريرٍ من تبنٍ هجمَ عليها ممزقاً ثيابها ثم أدارَ إليه عجيزتها وأولجَه فيها من الخلف على موسيقى صاخبةٍ فلم أرَ من المشهدِ غيرَ عجيزةِ الشاب القذرة والمغطاة بشعرٍ كشعرِ الخنزيرِ بعضلاتها المفتولة وقد ملأتِ الشاشةَ التفتُّ نحو الجالس إلى يميني فرأيته قد راحَ يواكبُ حركاتِ المشهد شعرتُ بخجلٍ من وقاحتهِ وأشحتُ بوجهي إلى جهةِ الشمال فرأيتُ الجالسَ إلى شمالي يفعلُ ما يفعله الأولُ ثم تطلعتُ إلى الجالسِ في المقعدِ أمامي فوجدته يبصقُ في راحةِ يدهِ ويخضّ أيرَه وقد أحاطَ جنبيهِ بمعطفهِ الوبري على الرغمِ من حرّ حزيران اللاهب مُحدثاً صوتاً كصوتِ التلمظِ وحينما التفتُّ إلى الخلف سمعتُ صوتاً يناديني بغلظةٍ " درْ وجهك وشوفْ شغلك " فما كان مني إلا أن أيقظتُ قضيبي من غفوتهِ وأخرجته من عزلتهِ ولسانُ حالي يقول " حشرٌ مع الناس عيد " ورحتُ أخضّه كما يخضّ الآخرون حتى إذا أنهيتُ مهمتي نهضتُ من مقعدي فالتفتَ إلي الذي يجلسُ إلى يميني وهو يصرخُ بي " وين أخي بعده الفلم بأوله خذْ لك قاط وطني آخر " فشكرته على دعوتهِ فردّ على شكري بكلامٍ مهذبٍ يوحي بمستوى صاحبهِ وحين خرجتُ من السينما أدركتُ صحةَ التفسير

 

 

فصل في فوائد الجلق

اعلمْ هداكَ الله أن لأهلِ الدجلِ طريقةً في الكلامِ والجدلِ يوهمون بها ضعافَ العقولِ فيعجبُ بهم السفيهُ من الرجالِ فهم يدّعونَ المعرفةَ وليس لهم منها حظّ ويدّعون العفّةَ وهم يستبيحون العرضَ فإنْ سألتهم عن مسألةٍ ما ادّعوا العلمَ بكلّ شيء كأنهم قبضوا الأرضَ من أقطابها وغاصوا في عمقِ البحارِ إلى أطنابها ولهم في السماءِ والفَلَكِ ما لا يدانيهم أحد وفي المسائلِ عارفون بعللها وأسبابها فإنْ قلتَ لهم هذا ينافي العقلَ قالوا ما العقلُ وراحوا يفنّدون البديهةَ باللغو والإطنابِ فيحوزون على الإعجابِ من الجاهلِ لجهلهِ وسفاهةِ عقلهِ أو أنهم يجترحونَ للعلمِ أصلاً في النقلِ حتى لو اقتضى الأمر أن يقوّلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله أو يتهموا العلمَ بالزللِ وكثيراً ما أوهموا السامعَ بأنّ لكلّ مستقيمٍ عوجا ولا يشعرون من ذلك حرجا يحسبون الخبثَ فطنةً واللباقةَ غلبةً والجهلَ حنكةً فأمرهم في هذا كأمرِ سراج الدين الأصفهاني إذْ حدثني صاحبٌ لي كان يدرسُ في الحوزةِ ثم أدركَ ضلالةَ مسعاهُ ونجّاهُ اللهُ بأنْ أرشدهُ إلى طريقِ العقلِ وجادةِ الصواب قالَ رأيتُ الشيخَ سراج الدين الأصفهاني يبولُ واقفاً باتجاهِ الكعبةِ الشريفةِ فأسرعتُ إليه مُنبّهاً وقلتُ له سامحكَ الله يا شيخ وغفرَ لكَ أعنْ سهوٍ فعلتَ هذا فانتبهَ إلى ما كانَ عليه فردّ غاضباً ومؤنباً مريده على سوء الظنّ بشيخهِ الفطنِ الجليل مُلقياً الإثمَ عليّ لسوءِ الظنّ ناعتاً إيايَ بالآبقِ كأني عبد له وليس لله صاحبِ العزّةِ كلّها والجلالةِ فرحتُ أؤكدُ عليهِ وينفي وأظهرُ له الأمرَ جلياً فيخفي وحينما لم يجدْ بداً من الاعترافِ بالخطأ زعقَ بي شاتماً وقالَ بلى كنتُ واقفاً أبولُ باتجاه الكعبةِ ولكن الذي تجهله هو أني قد حرفتُ رأسَه عن اتجاهِ القبلة قليلا وهكذا هم هداكَ الله وجنّبكَ صحبتهم يحرِفونَ المستقيمَ عن مسعاهُ وإنْ اقتضى الأمرُ بهم أن يحركوا الجهةَ عن الاتجاه والحديث عن هذا يطول ويبعدنا عن فكرةِ بحثنا فلقد ادّعى أهلُ الجهلِ ومن على شاكلةِ الأصفهاني بأنّ للاستمناءِ مضاراً جمّة تودي بصاحبها إلى التهلكة فالمستمني يستدرجُ الشيطانَ إلى مخدعهِ حتى إذا غلّقَ الأبوابَ عليهِ واستحكمَ بهِ لم يعدْ قادراً على ردعهِ فيكون كمدمنِ الترياقِ أو الأفيون لا يطيقُ صبراً على الصحوِ منه حتى يذلّه ويقضي عليهِ أو ينتهي به الأمرُ إلى الجنونِ فالاستمناءُ في اعتقادهم لا يقتلُ الإيمانَ في النفوسِ فحسب بل ينخرُ الأبدانَ كالسوسِ فيصابُ مدمنُه بالنحولِ والنسيان لكثرةِ السرحان فيمشي كالأبله يحدّثُ نفسَه عديمَ الصفاءِ وقليلَ الحياءِ وفاقدَ الثقةِ بنفسهِ وبليداً بحسّهِ والمستمني شهوانيّ بلا غيرةٍ أو ضميرٍ يردعه حتى عن مضاجعةِ أختهِ أو أمّهِ إلى آخرِ التفاهاتِ المتكلسةِ في عقولهم والنفاياتِ المتكدسةِ في نفوسهم والتي ترجعُ إليهم فتراهم يفضحونَ ما يكبتون وينطقُ صمتهم بما يكتمون فقد حدّثني صاحبي حينما كان طالباً في الحوزة إن أحد الشيوخ قد باحَ لهم في لحظةِ سكرةٍ أو زلةِ لسان وقد أخذَ منه المزاحُ مأخذا فاعترفَ دون أن يدري إذْ قالَ إنّه في أغلبِ الأحيان يستيقظُ من نومهِ وقد أوشكَ على القذفِ في حلمٍ لذيذٍ على فراشٍ وثير فلا ينهضُ بل يكملُ حلمَه مستمتعاً بالدفءِ بين اليقظةِ والحلم حتى يقذفَ فاعترضَ كلامَه طالبُ علمٍ بالسؤالِ أيجوز هذا يا شيخُ فقالَ أجلْ بل هو واجبٌ فقلنا كيفَ هداكَ الله فقالَ إنّ هذا من فضلِ اللهِ على المؤمنِ ومَنْ يتنكر لفضلِ الله فهو جاحد لنعمتهِ فردّ عليه طالبُ علمٍ آخر ولكن أليس ذلك استمناءً يا شيخُ فنهرَهُ غاضباً وقد عادَ إلى الجَدّ في الكلامِ وراحَ يؤكدُ أنّ المؤمنَ حينما يستحلمُ في فراشهِ لا يستمني بل يواقعُ حوريةً في الجنة أهداها الله إليه بعد رضا ومن يرضَ الله عنه فهو من الفائزين واعلمْ عزيزي القارئ عندي الكثير من هذه الحكاياتِ عن أدعياء العلمِ والعفّةِ من شيوخِ الرذيلةِ والجهل ولكنّي أكتفي بهذا تاركاً البقيةَ إلى بحثٍ آخر إنْ شاء الله

أما أنا فأقولُ إنّ الجلقَ كغيرهِ من الممارسات الإنسانية محكومٌ بوعي صاحبهِ فالإفراط فيه مضر ومذموم وهذا أمر معلوم لا يتجاهله إلا المكابر والعنيد والاعتدالُ في كلّ شيء حميد فهل رأيتَ المريضَ حينما يأخذ الدواءَ يشفى وإنْ أفرطَ فيه يزداد مرضاً وربما يودي بحياة المتعاطي للدواء دون دراية أو تشخيص فحبة أسبرين أو حبتان تشفي الصداعَ ولكنّ عشرين حبّة انتحار وهلم جرا ففوائد الاعتدالِ في الجلقِ كثيرة كما حدثني أهلُ الطبّ والتجربةِ فمنها ما هو نفسي ومنها ما هو جسدي فهو يريحُ الجسدَ ويُرخي عضلاتهِ ويزيلُ احتقانَ الخصيتين ويُرخي عضلاتِ الوجهِ فيبدو الجالقُ ضاحكاً في حبورٍ دائم ويزيلُ التوترَ عن النفسِ فترى الجالقَ بعد الجلقةِ يبدو رقيقاً دمثَ الأخلاق لطيفَ المعشر والصحبةِ متيقظَ الذهنِ وصاحبَ طرفةٍ وفطنةٍ وأدب فلذا ترى أنَّ أغلبَ المفكرين والأدباء والفنانين والحكماء هم جلاقة باعتدال وقد نصحَ به أهل الأدب من شعراء وقصاصين كتمرينٍ ورياضة فهو يوسّعُ دائرةَ خيالهم الذي هو أداتهم في ما يبدعون وقد أراني مرةً صديقي الشاعرُ قصيدةً له عظيمة وفيها تطور كبير على مستوى شعرهِ فقلتُ له بالله تحدثني كيف كتبتها فقال كنتُ سجيناً في سجن إيفين الشهير وفي ليلةٍ اشتدّ عليّ ألمُ ضرسي ولم أستطع النومَ والصبرَ على ما أنا فيه فرحتُ أطرقُ بابَ الزنزانة بقبضتي وأصرخُ فجاءني أحدُ حراس السجن توسلتُ به أنْ يأتيني بحبةِ أسبرين تسكّن آلامي أو ينقلني إلى طبيب فنظرَ إلي ساخراً ثم أغلقَ فتحةَ الزنزانة الصغيرة وهو يردد بَدَرْ سكْ بَدَرْ سوخته فعدتُ إلى فراشي ساخطاً متألماً حتى خطرتْ لي فكرةُ أن استمني لعلّي أنسى شيئاً من وجعي أو أنهكُ جسدي فأستطيع النومَ فرحتُ أعصرُ قضيبي براحةِ كفّي كما يفعلُ عاملُ الكبابِ باللحم على السيخ كيلا يشعرَ السجناءُ الذين معي بما أنا فاعل وقد نسيتُ خلال ذلك ألمي حتى قذفتُ فشعرتُ بنشوةٍ لم تدمْ سوى بضعِ لحظات ثم عاد ألمُ ضرسي ثانيةً ففكرتُ بطريقةٍ أخرى وهي أن أكتبَ قصيدةً فأخرجتُ قصاصاتٍ ورقيةً كنتُ قد جمعتها من ساحةِ السجنِ أثناء الساعة التي تُمنح يومياً للسجناء لشمّ الهواء وبدأتُ بالكتابةِ وكلما توقفَ أو تعثّرَ مجيءُ شيطاني استبدلته بشيطانٍ آخر فأستمني ثانيةً ثم أعودُ إلى الكتابةِ وهكذا قضيتُ الليلةَ بين القصيدةِ والاستمناء وقد زالَ الألمُ تماماً وعند الصباح أعدتُ قراءةَ القصيدةِ فكانتْ لي اعتراضاتٌ على بعض مقاطعها أو كلماتها لكني آثرتُ أن أتركها كما هي وما هذا التناوب العفوي البريء الذي تراه في القصيدةِ بين الألم واللذة إلا وصف للحالةِ التي كنتُ عليها فقلتُ للهِ درّ العقل حين يكونُ موضعَ احترامِ صاحبهِ في مسعاه للسموّ والارتقاء

والجلقُ أنيسُ المستوحشِ في وحشتهِ وسلوى الساهدِ في سهدهِ ورفيقُ المسافرِ في ترحالهِ وصاحبُ الأسيرِ في أسرهِ والمنفي في منفاه ولا فرقَ بين الأعزبِ والمتزوج بل إنه يُعينُ المتزوجين أكثرَ ويجعل حياتهم الزوجية بأمانٍ يحافظون على بناءِ أسرهم وحياةِ أطفالهم فكما هو معروف بأنّ المرأةَ قد ابتليتْ بأيامٍ لا تستطيعُ فيها إشباعَ رغباتِ زوجها عندئذٍ يكون الجلقُ ملاذاً للرجالِ العقلاء الذين يحترمون الزوجةَ والأمّ التي جُعلت الجنة تحت أقدامها ويؤمنون بحقِ المرأةِ في المساواة فهم لا يخونون زوجاتهم ولا يؤمنون بتعددِ الزوجاتِ ولا يرتادون المواخيرَ ولا يصطحبون بناتِ الهوى وهم في مأمنٍ عن السفلسِ والزهري والأمراض الأخرى ويقلُّ عندهم الطلاقُ والهجرُ وبهذا يحافظون على أسرهم من التفككِ والضياع فترى أولادَ الجلاقةِ أكثرَ سَويةً من غيرهم ممنْ عانوا من ظلمِ الضرّة أو هجرِ الآباء حدثني رجلٌ عفيفُ اللسانِ والقلب وذو خلقٍ وأدب وكان قد تحول إلى الجلقِ بعد أن تجاوزَ الخمسين من عمره قال مارستُ الجنسَ مع زوجتي عشرينَ عاماً من موقعِ حرثها حتى غدا مثل بئرٍ طافحةٍ ويُطلقُ أصواتاً غريبة لاسيما بعد أن أنجبتْ لي سبعةَ أطفال فخفّت شهوتي ولم يعدْ قضيبي ينتصبُ كما كان وأدركتْ زوجتي ذلك فراحتْ تداعبه بيدها وتمصّه وتحشرهُ بين نهديها ولكنْ لم تكتملْ لذّتي حتى أجاءني الأمرُ إلى أن أقترحَ عليها المواقعة من الدبرِ فمانعتْ بإصرارٍ ثم استجابتْ على مضضٍ لطيبةِ قلبها وحبها لي وسعيها لإرضائي واسعادي فكنتُ ألحسُ فرجها وأمصّ بظرها بحبّ وهي تمصّ قضيبي بشهوة حتى تحصلَ متعتها وتقضي وطرها عند ذاك أجلسها على ركبتيها وأربضُ فوقها كفارسٍ يعشقُ فرسَه مفتتناً برشاقةِ خصرِها وتعضلِ فخذيها أمسّد عجيزتَها برقّةٍ وأمررُ قضيبي بين ردفيها وعلى فتحةِ دبرها التي تبدو مثل تينةٍ ناضجة وقد دهنتها بمرهمٍ أو بقليلٍ من الزبد حتى إذا استرختْ وذابتْ تحتي قرّبتُ رأسَ قضيبي من فتحةِ دبرها وقد تغيّرَ لونُها إلى الزهري أدخلُ رأسَه بحذرٍ فكانتْ تتألمُ في أول الأمر وتصرخُ لاعنةً جنوني وهمجيتي منتظرةً بفارغِ الصبر أن أنهي مهمتي وهكذا استمر الحالُ حتى بدأتْ والحمد للهِ تألفه وتعشقه فكانتْ هي التي تبادرُ إلى الطريقةِ وكلما أدخلتُ شيئاً منه طلبتِ المزيدَ حتى يختفي كله في جوفها كاختفاءِ السيفِ في الغمدِ وهي تحركُ تحتي بظرها بإصبعها فكانتْ تستمتعُ مرتين وتحصل على لذّتين لذّة الوصولِ إلى الذروة ولذّة ألمٍ طفيف ودام الحالُ على هذا المنوال خمسةَ أعوامٍ حتى وصلَ الأمرُ إلى النهاية المؤلمة حبث أصبحتُ كمَنْ يُدخِلُ أيره في فضاء عقالٍ وأحستْ زوجتي بذلك فكانتْ تتألم وتخفي حسرتها على أيامِ الشباب والجمالِ مفضّلةً ضيق الحالِ على ضيق المجالِ وانطوتْ على نفسها وتغيّرَ مزاجُها حتى اقترحتْ عليّ الاقترانَ بزوجةٍ ثانية وتبرعتْ بأنْ تختارها لي بنفسها زوجةً شابةً تُشبعُ رغبتي مرددةً على أسماعي ما يردده الشيوخُ عن حقّ الرجلِ في الزواجِ مثنى وثلاثا ورباعا وكادتْ أركان أسرتنا الجميلة تنهارُ وتنهارُ بانهيارها أعمدةُ السعادة التي بنيناها معا في السراء والضراء لكنّي قلتُ والذي فطرَ السماواتِ والأرضَ لن أنساقَ وراء حماقتي وعاهدتُ نفسي على الوفاءِ لزوجتي حتى لو اضطررتُ إلى إخصاءِ نفسي وقد استجابَ الرحمنُ لدعائي ولهفتي فهداني ولولاه ما كنت لأهتدي إلى وسيلةٍ ناجعةٍ تشبعُ شهوتي وتحفظُ أسرتي من التفككِ والضياع فصرتُ أمارسُ الجلقَ مرةً في اليومِ أو مرتين حتى استعدتُ ثقتي بنفسي فرحتُ أقسّمُ رزقي بين زوجتي ويدي وها أنا رجل ناجح في حياتي كزوجٍ وأبٍ وما التوفيق إلا من عند الله الذي جعلَ الفرجَ نهايةَ كلّ شدّة ومنحَ الإنسانَ عقلاً يدبّرُ الأمر مهما ضاقَ وينيرُ طريقَ الحائرين فسبحانه والحمد له في الأول والآخر

فاعلمْ بعد هذا هداكَ الله أن للجلقِ فوائدَ لا تُحصى على رغمِ أنوفِ الجاهلين

 

 

فصل في الطرق والوسائل

حدثني حميد ابن بزون العقابي الواسطي قال كان لي صديق يضربُ الجلقَ بكاغد السمبادة فقلتُ ويحه ألا يتقرّح أيره ويلتهب فقال بلى وبالرغم من ذلك كان مواظباً بشغفٍ ويصرخُ بعنفٍ متألماً فقلتُ له هذا ليس من أهلِ الجلقِ بل مجنون فأطرقَ حميد إلى الأرض صامتاً وغمامةُ حزنٍ تغطي وجهه حتى ظننتُ بأنه هو الفاعل وليس كما يدّعي لكنه يخفي ذلك خجلاً فآثرتُ أنْ لا أحرجه زائغاً بصري عنه متشاغلاً بلفّ سيجارةٍ حتى فاقَ من صفنتهِ ونظرَ إلي بأسى فعرفتُ بأنه يكتمُ أمراً يريد البوحَ به فتطلعتُ إليهِ مستدرجاً إياه دون فضول منصتاً إلى ما سوف يقول دون عجلةٍ فقد كنتُ واثقاً من أنه لم يعدْ يطيقُ إخفاء الأمرَ فقال وهو يتنحنحُ مزيلاً عبرةً في صدره خنقته اعلمْ يا صاحبي ولا تعجبْ من الأمر إنا ولدنا في زمانِ شؤمٍ وهلاك ولو كان لي علم بدورةِ الأفلاك لقلتُ  ولدنا في ساعةِ نحسٍ ساعة دخولِ الشمسِ في جوفِ التنين ثم صمتَ كأنه قد رحلَ عني بعيداً أو أنه عدلَ عن الأمر وندمَ عمّا بدأ به الحديث فحسبتهُ صامتاً يستعيد لحظاتِ ضنى من فقرٍ أو حزنٍ أو فقدان حبيب فقلتُ فضفضْ يا صاحبي فقد قيلَ إنّ في البوحِ راحةً للروحِ اللائبةِ وعزاءً للنفسِ الخائبةِ ولا تتركْ أمراً يؤلمكَ كتمانُه ويصعبُ نسيانُه فقلْ وأنا صاغٍ عسى أنْ أعينكَ على ثقلِ حملكَ وحزنٍ يثقلكَ فقال وهو يزفرُ حسرةً رحمَ الله طويساً أينه من الشؤم قد كان أولى أن يقالَ أشأمَ من ابن بزون فقلتُ مازحاً مستعذباً الحكايةَ هوّن عليكَ يا رجل ما هذا الذي تقول فليس الندمُ من شيمِ الزاهدين وقد كان الفضولُ يدفعني لسماعِ المزيدِ فنظرَ إليّ حميد وقد تحركتْ دمعتان في عينيه وكادتا تفلتان من موقيهما حتى خجلتُ من بَطَري وخفتي وتهوري فقلتُ مصححاً أمري افتحْ خِرجَ كتمانكَ وبحْ بما يفور في كوامنكَ ترني مصغياً إليكَ إصغاء المحبِ الحاني كاتماً سرّكَ إنْ كان في الأمر سرّ معيناً إنْ اقتضى الحالُ ولو على حدّ رقبتي فقال بعد تلعثمٍ وترددٍ ولدتُ يومَ مجزرةِ سجنِ الكوت وخُتنتُ يومَ السحلِ المريع ودخلتُ المدرسةَ عامَ مجيء الحرسِ القومي واغتلمتُ يوم عودةِ البعثيين إلى الحكم وعشقتُ امرأةً يوم بدء الحرب العراقية الإيرانية فبربكَ قلْ لي مَنْ أكثر شؤماً أنا أم طويس فقلتُ له مهوّناً ومؤاسياً اعلمْ يا صاحبي أن المقامرَ الذكي لا تقتله حسرةُ الخسارة فهو عارف بأسرارِ اللعبةِ وما إدمانه إلا تحدٍ للقدر والنصيب فالمقامرُ يلعبُ النردَ مع الخصمِ وفي ذهنه أنه يلعب مع الله فإنْ فازَ فهو انتصار له على ما تخبئه الأقدارُ من أسرارٍ وإنْ خسرَ فليسَ لعلّةٍ فيه أو نقصان واعلمْ أنَّ مَنْ تقتله مرارةُ الخسران لا يفقه من حياته شيئاً ولا يعرفُ سرّ لعبةِ الحياة وماذا تضرّ قطرةُ مطرٍ من كان مبلولا أو غطّة لغريق واعلمْ أنّ هذه المأساة لم تنزلْ عليكَ وحدك فهي مأساةُ جيلٍ بأكمله قضى بين الحروبِ والسجون والمحظوظ مَنْ استطاعَ الوصولَ إلى المنفى وكما قيلَ من قبل بالعربان ولا بالتربان فالحمد للهِ الذي أنجانا من موتٍ محدقٍ ومن ظلمٍ مطبقٍ فالتفتَ إلي وقد لاحتْ على وجهه ابتسامة رضا واقتناع ثم قال لا تعجبْ إذنْ يا صاحبي إنْ رأيت أحدنا يأكلُ نفسَه ويضربُ الجلقَ بورقِ السَنْفرى أو يعاشرُ الوحوشَ كالشنفرى فنحن جيل قد أمْلصتْنا أمُّنا وألقتْ بنا على مزابلِ خرائبها مثل اللقطاء وأرخصتْنا الأحداثُ في سوقِ نوائبها كتوافهِ الأشياء فهززتُ رأسي معجباً بما قاله من وصفٍ لحالتنا مردداً مع نفسي للهِ درّ الحزانى ما أبهاهم عمقا وأعطرهم عبقا وأشجعهم صدقا خلقوا من الحزنِ شعرا ومن الخيالِ سحرا ومن عفّةِ النفس قناعة حتى خيّمَ الصمتُ علينا وكلّ منا يغورُ في أعماقِ ذاته مقلّباً شؤون حياتهِ مستخلصاً منها عِبرةً وزاداً للأيامِ القادمة ثم انفجرَ صاحبي بضحكةٍ لفتتْ انتباهي فتطلعتُ إليه مستفسراً حتى توقفَ عن الضحكِ فقال كأنه يعيدُ الحديثَ إلى بدئهِ فتذكرتُ حينئذٍ أمرَ صاحبهِ الذي يضرب الجلق بكاغد السمبادة وكأنه يعرف بما يدور في خلدي إذْ راح يمسحُ دموعَ ضحكهِ وقال ولي صديق آخر كان يضربُ الجلقَ بالرملِ الساخن فقلتُ وأنا أكتم سعالي وضحكي وأين تضعُ هذا في مراتبِ الجلق فقال إنها مرتبة يقال لها (الييزي قهر) فقلتُ واللهِ إنها تسمية موفقة لفعلها مطابقة ولكن هلا أخبرتني المزيدَ عن أصحابِ هذه المرتبة قال حدثني صديق من المعدان يقال له عبد السادة شمخي وكان جلاقاً ذا خبرةٍ وحرفة قال حينما كنتُ مقاتلاً في كردستان مع الأنصار كُلفتُ يوماً باحتطابِ الأشجار وقطعها لنقلها إلى مواقعِ الفوج وحينما تعبتُ من العمل نزلتُ عند عين ماء في أسفل الوادي فأخذتني سِنةٌ وحينما استيقظتُ وقعَ نظري على صخرةٍ أمامي رحتُ أتأملها كانتْ ملساءَ ومشقوقةً كحبّة دراق فتخيلتها طيزاً كبيراً سدّ علي الآفاقَ ولم أعدْ أرى أمامي غيره حاولتُ طردَ الفكرةَ من رأسي لكني لم استطع واستبدّ بي شبقي تلفتُّ فلم أرَ مَنْ يترصدني وكنتُ بعيداً عن الرفاق المشغولين بالاحتطاب عندئذٍ نهضتُ بهمّةِ مَنْ حسمَ أمرهُ حللتُ عقدةَ شروالي ووقفتُ كأني أبول ثم أدخلتُ قضيبي في الشقّ وتشبثتُ بردفي الصخرة راهزاً مصغياً إلى لهاثها ونغيطها حتى أفرغتُ سمّي على فخذيها وحينما انتهيتُ اقتربتُ من العين لأغتسلَ من الجنابةِ فرأيتُ الدمَ يسيلُ من قضيبي وقد تسلخَ جلده ثم تورمَ فقلتُ له ماذا فعلتَ بنفسكَ لقد حرمتها من جلقاتٍ لبضعةِ أيام على الأقل فنظرَ إلي مستخفّاً برأيي وقال مَنْ قال لكَ ذلك لقد واظبتُ على ما كنتُ عليه فقلتُ كيفَ وقد تسلخَ جلده وتورمَ عند ذاك ارتفعَ صوته بضحكةٍ أوسعَ من فمه وقال جاهراً دون خجلٍ كنتُ أخرِجُ رأسه من ثقبٍ في جيبِ الشروال وأمسكه بأطرافِ أناملي الخمس وأحلبه بسرعةِ الومض حتى أقذفَ فضحكنا حتى انقلبتُ على ظهري ونسيَ حميد حكايةَ الشؤم وحينما ذهبَ إلى شأنه وانفردتُ بنفسي رحتُ أتأمل الحكاية معجباً بجرأةِ الجلاقة وجَلَدهم وتحايلهم على الكبتِ والحرمان فتذكرتُ حادثةً جرتْ لي ويمكن إدراجها ضمن مرتبة (الييزي قهر) فقد كنتُ ببغداد مختفياً أثناء فترةِ الملاحقة بعد خرابِ الجبهة الوطنية وكنتُ وحيداً ضائعاً أبحثُ عن ملجأ يؤويني أقضي فيه الليل أما النهار فقد كنتُ أقضيه ماشياً في شوارعِ بغداد وأزقتها منضوياً بين زحامِ الناس فمررتُ مرةً في شارعٍ يقال له شارع النهر يبدأ من ساحة الوثبة في شارعِ الرشيد وينتهي بساحةِ الأمين وكان هذا الشارع سوقاً ضيقةً تصطفّ على جانبيها محلاتُ بيع الألبسة النسائية وأدواتُ الزينة وترتادها النساء متبرجات لذا فهي مزدحمة بالعشاقِ وهواةِ الطبقِ من الشبابِ وأهل الجلقِ فاستبدتْ بي شهوةٌ غريبة وطفحَ كيلُ شبقي وأحسستُ بتخشبٍ في جسدي كأني شارفتُ على نوبةِ صرعٍ واحتقانٍ في خصيتيّ فلم أعد قادراً على المشي ففكرتُ بأن أتبولَ في مرافقِ جامعٍ قريب وهذا ما فعلته وبللتُ قضيبي بماء باردٍ فتقلصَ وكشّ على نفسهِ حتى غدا مثل فأرةٍ خائفةٍ فقلتُ له مؤنباً عرب وين طنبوره وين وما أن خرجتُ إلى الشارعِ ثانيةً حتى عاد إلى انتصابهِ كأنه يثأرُ لنفسهِ من سخريتي فتعوذتُ باللهِ من الشيطان لائماً نفسي على دناءتها وسوئها ولكن لم تنفعْ استعاذتي ولومي بشيء فقد قضيَ الأمر ولي من الهموم التي تشغلني أكبر من طاقتي على تحملِ أمرٍ إضافي كهذا فتسللتُ ثانيةً إلى بيت اللهِ في الحيدرخانة مستغفراً لذنبي مستميحاً صاحبَ البيتِ العذر متيقناً من غفرانه لما يعلمه من ضعفي وقلّة حيلتي وهناك واجهتني مشكلةٌ ليست بالهينة فقد كانتْ أبواب المرافق لا تستر الجسدَ كاملاً فهي مكشوفة من الأسفلِ حتى الركبة ومن الأعلى حتى الصدر فكيف الأمر وقد استبدّ بي شيطاني وتحكمَ ولم تعدْ لي طاقة على مغالبته بسوى الاستكانةِ والانصياع فما كان مني إلا أن حللتُ عقدةَ حزامي وانحنيت إلى الأمامِ حتى التصقتْ رأسي بالباب مشكّلاً بجسدي زاويةً قائمةً كاتماً أنفاسي وصراخَ شهوتي والذي زاد من حرجي وحيرتي أن آذان المغرب قد أوشكَ أن يُرفع وتدافع المصلّون على المرافق قبل الوضوء وارتفعتْ أصواتُ بعضهم متذمرةً حانقةً وكأن الشيطان قد أنساهم أن الله مع الصابرين فراحوا يدقّون الأبواب ويحثّون الداخلين على العجلة بقضاءِ الحاجة وكنت عنهم متغافلاً متحايلاً بالآم القبضِ في معدتي حتى أنهيتُ مهمتي بهدوء وخرجتُ متنحنحاً مشمّراً ذراعيّ للوضوء كيلا يكتشفَ أمري أحد

ومن الأوضاع التي تدرج ضمن (الييزي قهر) كان لي أخ أكبر مني يأتي كلّ ليلة ثملاً وكنا ننامُ على سطح دارنا في ليالي الصيف فكنتُ أختلسُ النظر إليه وقد نامَ على بطنهِ عاضّاً المخدةَ بأسنانهِ مثل هرّ يتشبث برقبةِ أنثاه اللعوب كيلا تفلتَ من قبضةِ سطوته ماسكاً السرير بكلتا يديهِ وحوضه يصعدُ وينزلُ حتى يُفرِغَ ماء شهوتهِ في مهبلِ الفراشِ ويزفر زفرةَ انتعاش ثم ينام كنومِ أهل الكهف

ومن طرقِ الجلقِ الأخرى ما يُسمى بـ (السُلطاني) وفيه الجالقُ يجلسُ على أريكةٍ بجلسةِ شاعرٍ ينتظرُ هبوطَ وحي الإلهام عليه متأملاً مركّزاً نظره في نقطةٍ بعيدةٍ وهو يدخنُ سيجارةً أو نارجيلة أو ربما يشاهد فيلماً أو يسمعُ موسيقى ويقالُ لصفنةِ الجالقِ هذي (النَشَع) تمتدّ يد ضاربِ النشع ببطء نحو أيره يمسّده بحنوّ كأنه يمسّد رأسَ طفلٍ عزيز ويمرر قبضته عليه برقّةٍ من أصلهِ حتى رأسه وكلما اقتربَ من نهاية شوطه تماهلَ قليلاً منشغلاً بأمرٍ آخر حتى يطيلَ فترةَ انتعاظهِ وحينما تقتربُ اللحظة ويرتوي يسلّ منديلاً ورقياً من علبةٍ أمامه ويغمضُ عينيه برهةً وينهضُ دون أن تبدو عليهِ علامةُ ارتباكٍ أو سحنةُ إنهاكٍ مثل سلطانٍ حليمٍ يحكمُ بين رعيتهِ بالعدلِ وينام قريرَ العينِ مرتاحَ الجسدِ والضمير حدثني صديق لي قال كان في شارعنا يسكنُ رجل أعزبُ تجاوز الأربعين من عمره يقال له حسيب السائق رجلٌ تحلفُ الناسُ بأخلاقهِ وشهامتهِ وعفّته فلم يُعرف عنه زانياً أو لوّاطاً على الرغم من سوء صيت السائقين وما يُروى عنهم من حكاياتٍ تدلّ على قلّة حيائهم وخروجهم عن أخلاق الملّةِ ولا يعرفُ أحد من سكانِ الشارعِ عنه شيئاً فقد كان رجلاً صامتاً يسيرُ مطأطئ الرأس خجلاً من مماحكةِ النساء له وتطفلِ الفضوليين يلقي تحيةً هامسةً فينهضُ الرجالُ في استقبالهِ لكنّه يجتازهم إلى بيتهِ وهو يخفي عند خاصرتهِ قنينةَ العرقِ ملفوفةً بكيسٍ ورقي وقيلَ عنه همساً إنه جلاقٌ من ذوي الخبرةِ والكتمان وفجأةً أنهى حسيبُ عزلته وتزوجَ من أرملةٍ عَفَلّقٍ يقال عنها المشهورة أو القرج فهي وقحة سليطةُ اللسان ولكن لا يُعرف عنها أنها عاهرة بل مهرة نافرة لم يستطع أحد من الرجالِ ترويضها إلا حسيب السائق فقد أغلقتْ بعد الزواجِ بابها مستورة ولم تعد تخرج إلى الشارعِ إلا لقضاءِ أمرٍ ولكنّ أهل الخبرةِ في التلصصِ والوشاية قالوا إن حسيباً لم يطأها أو يقترب منها فقد كان يجلسُ في ركنٍ من أركانِ الغرفة مدخناً ويحتسي كأسه بتمهلٍ وزوجته ترقصُ له ترقص وتتعرى على أنغامِ شهوته وقيل والعهدة على القائلِ إنه كان يأتيها بغلامٍ يعملُ عنده مساعداً يواقعها وحسيبُ ينظرُ إليهما ويضرب الجلقَ وبعد أن شاعَ خبره بين الناس أطلقوا عليهِ لقب الديّوث أو الديّوس حتى اضطرَ إلى هجر المدينةِ والانتقالِ إلى مدينةٍ أخرى وقيل إنه قتلَ زوجته وانتحرَ فرحمةُ اللهِ على حسيب داعين الباري عزّ وجل أن يحتسبه شهيداً فقد قيلَ مَنْ مات في غربتهِ ماتَ شهيداً وما أشدَّ غربةَ الجلاق بين أناسٍ لا يعقلون وقد علمتُ من أهلِ الترحالِ والسياحة بأنّ (السُلطاني) طريقةٌ شائعة في بلاد الإفرنجة

وحدثني سيروان الكردي قال حينما جيء بي إلى معسكرِ اللاجئين العراقيين في طهران نُسبتُ إلى قاعةِ الشهيد مطهري اتخذتُ القسمَ السفلي من سريرٍ ذي طابقين وفي الليلة الأولى لم استطعِ النوم فقلتُ أقتل بعضاً من هذا الليل الطويل برأسِ جلق وفعلتُ وفي الصباحِ وجدتُ جبّار التميمي الذي يتخذُ الطابقَ العلوي من السرير غاضباً وقال لي لم استطع النومَ فابتسمتُ له معتذراً بخجلٍ بعد أن أدركتُ ما يرمي إليه فقال لي كاكا سيروان اضربْ (كبابي) قلتُ وكيفَ ذلك فقال لي يبدو أنك مازلت غشيماً وتحتاج إلى مَنْ يُهديك فالكبابي يا ولد هو أنْ تقبض الأيرَ براحتكَ وتطبق عليه بأصابعك الخمس وتظلّ تعصره وترخي كما يفعلُ صانعُ الكباب باللحمِ على السيخ فقلتُ جزاكَ الله يا شيخ كلّ خير ومنذ ذلك اليوم وأنا أشوي شهوتي على فحمِ الكبابي واعلمْ أعزك الله أن الكبابي هو الوسيلةُ الشائعةُ بين السجناء أو نزلاءِ الفنادق المكتظة بالمسافرين ومن الناسِ مَنْ يطلق عليها تسمية (المخفي) أو (الخنق) ولا أحبذُ هذه التسمية فهي تسمية لا روحَ فيها وتخالفُ ما اعتادَ عليه الجلاقة من أريحيةٍ وظرف ومسالمةٍ ووداعة

وهناك طريقة تسمى (المستعجل) أو (السريع) حدثني صديقٌ قال دعانا جلاق إلى بيتهِ لمشاهدةِ فيلم جنسي على ماكنة عرضٍ كهربائية فلبّينا الدعوةَ مسرورين وما أن بدأ العرضُ بقبلاتٍ وتعريةٍ حتى تعطلتِ الماكنة فقامَ صاحبنا لإصلاحها ونحن ننتظرُ بلهفةٍ وننظرُ كالمهبولين حتى استؤنفَ العرضُ وأوشك الرجلُ أن يولجه في أنثاه تعطلتِ الماكنةُ ثانيةً وهكذا سارَ الأمر ونحن نتقلبُ على نارِ شهوتنا وأيورتنا تنامُ وتفيق وتنامُ وتفيق كنومِ الخائفِ فضاقتْ صدورنا ونفدَ صبرُ أحدنا فنهضَ مستلاً الفيلم النيجاتيف من الماكنة وأفرده على الأرض ماسكاً طرفَ بدايته بكفّ وأيره بالكفّ الأخرى وراح يجلسُ ويقومُ ويجلسُ ويقوم ونظره مشدودٌ على الفيلم يتابع تسلسلهُ حتى جاءَ ظهره وسقط على الأرض لاهثاً بينا كنا نحن نتقاسمُ الفيلم وكلّ منّا اكتفى بلقطةٍ يبحلقُ فيها وقد ندمنا على أننا لم نجلبْ معنا مكبرات لرؤيةٍ أفضل

وقد سألتُ يوماً صباحَ الديواني وهو جلاقٌ ذو خبرةٍ عظيمةٍ ومن ذوي الاجتهاد والفتاوى وصاحبُ مرتبة راقية في مراتبِ الجلاقة عمّا كانَ يفعلُ حين يتسلخُ جلد أيره أو يتورم فقال هناك طريقتان واحدة تسمى (الدغدغة) وهي أنْ تقومَ بدغدغتهِ على عنقه وعند حزّ الختان تماماً والأخرى وتسمى (الخنيصري) وهي أنْ تمسكه من جانبيهِ بإصبعين وتحركهما على جذعهِ وراحَ يصفُ لي الطريقة بإصبعيه فقلتُ ولماذا سُميتْ بالخنيصري ولا يستخدمُ فيها الخنصر بل السبابة والإبهام أما كان الأولى أن تُسمى (التسديد) فقال بلى إنها من الأخطاء الشائعةِ عند الجلاقة

ومن الطرقِ الأخرى المعروفة والشائعة عند المبتدئين من أهلِ الجلق ما يُسمى (أبو التفلة) أو (الصابوني) وفقاً لما يستخدم فيها كالبصاق أو رغوة الصابون ولا أنصحُ بها لأنها مضرّة وتتركُ حرقةً عند التبول أو قد تتركُ شعوراً بالتقزز والنفور عند المستجد

هذا ما عرفته من الطرقِ الشائعة في العراق ولا علمَ لي بالطرقِ التي تتبع في البلدان الأخرى فربما لكل بلدٍ جلاقوه ولهم تقاليدهم وأعرافهم في الحرفة والله أعلم

 

 

إشارة

اعلمْ هداكَ الله أن العربَ أمّةٌ بَنَتْ مجدها على ادّعاء مكارمِ الأخلاق وادّعتْ ما ليس فيها من سائرِ الأمم فقد زعمتْ أنها خيرُ أمةٍ أخرجتْ للناس، وكادتْ تكون حين خصّها الله بخاتمِ أنبيائه، إلا أنها أضاعتِ الطريقَ المستقيم وضلتْ بفسادِ سلاطينها وخرابِ عقولِ علمائها الذين التهموا القشور وتركوا اللبّ فلم يعودوا من ذوي الألباب والعقول وحالُ شعرائها كحالِ علمائها ألهاهم المجدُ الذي يزعمون تاركين لوعةَ أرواحهم متغنين بالسيفِ والغزوِ متغاضين عن العشقِ والشدوِ واقفين على الأطلالِ متعامين عن العمران مقدمين الهجرَ على الوصالِ القاتلُ فيهم سيّد والعاشق مجنون فحالهم في ذلك كحالِ بني تغلبٍ إذْ قالَ فيهم الشاعر (على بحر البسيط):

" ألهى بني تغلبٍ عن كلّ مكرمةٍ

                       قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ "

فلا تعجبنّ من خلوّ أدبهم مما يشيرُ إلى الجسدِ على الرغم من أنهم عبيد له وإنْ ذُكرَ جسدُ المرأة فلم يُذكر لذاتهِ وإنما لإظهارِ فحولةِ الفارس الذي يقتحمُ الحصونَ ويتلذذُ بدماءِ ضحيتهِ فقد بحثتُ في الأدب العربي لم أجد شاعراً قد أشار إلى الشهوةِ إلا ترفعاً وهم يقبّلون نعلَها كلّ يومٍ ولم يُذكر الاستمناء إلا عند من صُنّفَ شعرهم في خانةِ شعرِ العتالين والصعاليك وأهل السخف فقد ذكره أبو الشمقمق وابن الحجاج رحمة اللهِ عليهما وقد صُنفا من أهلِ الحمقِ والسفاهةِ وهكذا الحالُ حتى يومنا الحاضر فتراهم يقولون فلانٌ يستمني أفكارَه ويعنون الإساءة فالاستمناء عندهم كفكرةٍ خلّب ليس عفّةً بل لأنهم درجوا على التقليد والادّعاء فكم من شاعرٍ جبانٍ يتغنى بالثورةِ والكفاح وكم من سلطانٍ جائرٍ وفاسد يُلقبُ بأميرِ المؤمنين وحالُ الناسِ كحالِ ملوكهم يصلّون خلفَ أميرهم صلاةَ الجمعةِ يوم الأربعاء فكيف إذا صارَ هذا الفاسد قيّماً على الأخلاق وما حال الموالي إلا كحالِ الأسياد فكما قيلَ الضحية تقلّد جلادها فقد راحوا يتفوقون على أسيادهم في الادّعاء والنفاقِ وهذا ما نراه اليوم واضحاً وضوحَ الشمسِ للبصير وبحثتُ في الشعر الحديث حتى عند الشعراء الذين ادّعوا التمردَ والعصيانَ على أعرافِ القبيلة فلم أجدْ ذِكراً للاستمناء إلا في موقعِ الإساءة كاستعارةٍ أو مجاز وحال الرواة والقصاصين كحالِ زملائهم الشعراء بل أسوء حالاً فقد بنوا شخصياتهم بعيداً عن الحقيقة فالبطلُ يقتلُ ويعشقُ ويضاجعُ إلا أنه أرفعَ من أن يختلي بنفسهِ مرةً ولقد هالني حجمُ الكذبِ والنفاقِ عند هؤلاء الكتّاب لكنّي وأنا أشارفُ على وضعِ الأسطرِ الأخيرة من هذهِ الرسالة أجدني واثقاً من أنّ الأجيالَ القادمة ستقلبُ المفاهيم وتعيدُ للإنسانِ حقيقةَ إنسانيتهِ التي طمسها المنافقون وتغافلَ عن ذكرها المزيفون والأدّعياء وبين يدي قصيدةٌ لشاعرٍ صديق من أهلِ الجلقِ وراويةِ أخبارٍ ومجتهدٍ ذي علمٍ وأدبٍ في قولِ الحق وقد وضعَ لها عنواناً غامضاً هو (طائر الغيلم) والغيلمُ كما هو معروف ذكرُ السلحفاة والغلامُ كثيفُ الشعر واضحُ الغلمةِ والفحولة يقول الشاعر العقابي الواسطي المولد والمنشأ (على مجزوء الوافر)

" على كفّي

ألقنُ طائرَ الشهواتِ ذاكرتي

وأطعمهُ الأناملَ وهي تكتظّ

بسيلٍ من رحيقِ الجمرْ

أثقفه الطعانَ

وكيفَ ينجو من شراكِ يدي "

 

 

خاتمة

اعلمْ هداكَ اللهُ أني وضعتُ هذا الكتاب في موضوعةِ الجلقِ خائضاً في بحرٍ صاخبٍ وهائجٍ فيه من الأسبابِ الكثيرة ما تجعلُ المسافرَ عرضةً للمهالكِ ونهشِ السمعة مجازفاً ليس حبّاً بالمخاطرِ ولكن كشفاً للحقيقة وإماطةِ لثامِ أدّعياء العفّة واعلمْ عزيزي القارئ أن الشعوب التي ارتقتْ سلالمَ المجدِ والحضارة ما كانتْ لتحوز مراتبَ الرقي والعزّة إلا لأنها نزعتْ عنها أقنعةَ الخوفِ والتسترِ على العيوب ووضعتْ تراثها موضعَ الشكّ والسؤال كاشفةً عن وجهِ إنسانها الحقيقي دون تزويقٍ أو خشيةٍ من رقيبٍ وهمي مقتفيةً آثار أقدامهِ على الأرضِ لا في السماء ساعيةً لإسعادهِ أولاً في رحلةِ الحياةِ القصيرة فلا خيرَ في دينٍ أو فكرٍ أو عُرفٍ لا يمجّدُ الحياة بإنسانها الحقيقي ولا يعينه على تجاوزِ مواضعِ ضعفهِ ولا ينتصفُ له من ظالمٍ أشرٍ أو سلطانٍ جائرٍ أو رجلِ دينٍ منافق وإذْ أهدي كتابي إلى هذا الإنسانِ القوي بأسبابِ قوّتهِ والضعيفِ بأسبابِ ضعفهِ فقد كنتُ أتلمسُ فيه خيطَ الغبارِ الذي يفضحه النورُ المتسربُ من الثقبِ فاصلاً ما بين الخطأ والخطيئةِ وما بين الإنسانِ والشيطانِ متحملاً وزرَ عملي هذا كاملاً فإنْ أخطأتُ في التوقيتِ فعذري أني شاهدُ عصرٍ ولستُ سياسياً يمالئ هذا وذاك من أجلِ حظوةٍ زائلةٍ أو فكرةٍ ناصلةٍ لقد عانيتُ الكثيرَ وأنا أتقصى أخبارَ الجلاقةِ وأتابعُ ظرفهم وآلامهم وقد تظهر للقارئ ثغراتٌ ونقصٌ في هذه الرسالة فعذري أني اعتمدتُ على نفسي في البحثِ وعلى ذاكرتي في تدوينِ الأخبار فكما هو معروف أن موضوعة بحثي بكرٌ وليس هناك من مصادر أغترفُ منها لاسيما وأنا أعيشُ عزلتي في هذا المعتقلِ البعيد وأني إذْ أستميحُ القارئ العذر أقول ليكنْ هذا البحثُ هو البداية على أملِ أن أتممه في القادمِ من الأيام إنْ شاء الله وقد يسألُ سائلٌ لماذا لم أتطرق في بحثي إلى موضوعةِ الجلقِ عند النساء فأقولُ لقد فكرتُ في الأمر ملياً لكنْ وأنتَ تعلمُ عزيزي القارئ ما لحقَ بهذا الأمر من تعميةٍ وسريّة فأنّى لي أنْ أعرفَ أسرارهنَّ وأتابع أخبارهنَّ لكني آملُ بأن كتابي هذا يحرّضُ إحدى الأخواتِ النجيباتِ من أهلِ الجلقِ على المبادرة فهي الأعرفُ مني بهذا وختاماً أهدي كتابي إليك عزيزي القارئ راجياً أنْ ينالَ شيئاً من الرضا واستغفرُ الله لي ولكَ والحمدُ للهِ على كلّ حال

 

انتهى بعونِ الله في فجرِ الثامن من جمادى الأولى عام 1403 هـ

معسكر اللاجئين العراقيين في مدينة خرم آباد غربي إيران

 

 

وصلتني رسالةٌ من صديقٍ يقترحُ عليّ مرافقته في الهربِ إلى أفغانستان حيث هناك يمكننا اللجوء إلى منظمة الصليب الأحمر التي ستنقلنا إلى إحدى الدول الأوربية. لم أحسمْ أمري بل فكرتُ بالمماطلةِ حتى تنضجَ الفكرة فقد كنتُ خائفاً من أيّة مجازفةٍ ولكني قررتُ الذهاب إلى طهران للقاءِ الصديقِ واختبارِ مدى جديته بما يقولُ وعن إمكانيةِ العثور على دليلٍ يوصلنا إلى هناك. لم يكن أمامي من وسيلةٍ للوصول إلى طهران سوى الهربِ من المعسكر بعبورِ الأسلاكِ الشائكة ليلاً واجتيازِ سلسلةٍ جبلية شاهقة تفصلُ ما بين المعسكرِ والطريقِ العام الواصل بين مدينتي أندمشك وخرم آباد، حيث أني قد مُنعتُ من الخروج بإجازةٍ بسببِ عدم عودةِ عاشور الذي كنتُ قد وقعتُ على كفالةِ عودته. اقترحَ عليّ أحد اللاجئين طريقاً للهرب أسهل من طريقِ الجبال وهو إرشاء أحد العاملين في المعسكر، وفعلاً اتفقتُ بسهولةٍ مع شخص ينتمي إلى نفس مدينتي في العراق ويعملُ في إحضار التموين إلى المخيمِ يومياً على أنْ يهرّبني بسيارةِ التموين التي تنطلقُ من الأوردكاه فجراً، وتمّ ذلك دون صعوبة. أخذتُ معي كيساً صغيراً يضمّ بعضَ الكتبِ المهمة ومخطوطةَ عاشور عن (الجلق والجلاقة) بنسختيها. مددتُ جسدي على ظهرِ البيك أب وقد غطّاني بالزكائبِ الفارغة وصناديق الكارتون. انطلقتِ السيارةُ ببطٍ ثم توقفتْ عند الباب الرئيسي للمعسكر. دارَ حديث طويل لم أفهم منه شيئاً بين السائقِ وحارس البوابة الخارجية. خطرتْ لي فكرةُ الموت خنقاً، وما أنْ انطلقتِ السيارة على الشارعِ العام حتى شعرتُ بأني قد اجتزتُ حقولَ الألغام فنفضتُ الزكائبَ عن جسدي مردداً بفرحٍ وزهو بيتاً أثيراً على نفسي من شعر المعري:

" فطرْ إنْ كنتَ يوماً ذا جناحٍ / فإنّ قوادمَ البازي يهضنه "

التقيتُ بعاشور في طهران وأول ما سألني عن مصيرِ الكتب أشرتُ إليه بأنها معي. انقضّ على الكيس يفتش عن سرّ يختبئ بينها. مددتُ له الدفتر الصغير دون أنْ أنطقَ بكلمةٍ فأخذه وقد لاحَ على وجهه غضب، وقبل أنْ يسألني في ما إذا كنتُ قرأته أم لا، بادرته:

" كتاب جميل حقاً. "

تطلعَ إليّ وقد توسعتْ حدقتا عينيه بغضبٍ ثم راحَ يمزقُ الدفتر قطعاً صغيرة فتطلعتُ إليه بحياديةٍ أوحتْ إليه بأني غير مهتم بموضوع المخطوطةِ فشعرَ بالاطمئنان على الرغم من أنّ حياديةَ نظرتي فسّرها كعادته بعدمِ الاهتمام به، لذا فقد بادلني هذا اللااهتمام بمثلهِ حينما أخبرتُه بأني أنوي الهربَ إلى أفغانستان مكتفياً برفعِ كتفيهِ ومطّ شفته السفلى، وحينما سألته إنْ كان يرغبُ أنْ يشاركني المحاولة أجابَ بشكل قاطعٍ ومتوتر:

" لا، طبعا. "

استأجرنا غرفةً صغيرة في حي مولوي جنوبي طهران. كنّا نغادرها صباحاً ونعود إليها في الليل حسب شروطِ الإيجار. نقضي معظم النهارِ متسكعين قاطعين خيابان ناصر خسرو بين دائرة البريد في (الطوبخانه) حتى البازار متوقفين عند (كوجه مروي)، الزقاق الذي اتخذه العراقيون مكاناً للقاءِ وفُتحتْ فيه المحلاتُ والمطاعمُ العراقية، ومكاناً لعقدِ الصفقات السرية من تصريفِ العملاتِ وبيعِ جوازاتِ السفر المزورة وحتى اللقاءات الحزبية فصار مركزاً لتجمعِ السياسيين واللوطيين والجواسيس والمشردين حتى أطلقَ عليه الإيرانيون اسم (كوجه عرب). وعند الظهيرة كنا نذهب إلى (بارك شهر) المتنزه الكبير الذي لا يبعد كثيراً عن (كوجه مروي) وتطلّ بوابته الجنوبية على الباب الرئيسي لوزارة كشور (وزارة الداخلية) حيث تجري هناك معاملات شؤون اللاجئين. كنا نفترشُ الأرضَ في ظلّ إحدى الشجرات ونأخذ قيلولةً غالباً ما نستيقظُ منها على ركلةِ بسطالٍ من شرطي أو عاملِ تنظيف فننهضُ شاتمين كلّ شيء يخطر على لساننا في تلك اللحظة.

عدنا مخفورين بصحبةِ شرطي إيراني إلى أوردوكاه كرج، أنا وصديقي الذي شاركني الرحلة الفاشلة وتمّ إلقاء القبض علينا من قبل المجاهدين الأفغان عند الحدود الإيرانية الأفغانية الذين سلمونا إلى حرسِ الحدود الايراني. قضينا خمسة عشر يوماً في سجن مدينة(مشهد) لنكملَ بقية الفترةِ في سجنِ معسكر اللاجئين في كرج. في الغرفةِ الصغيرة التي تضمّ عدداً من اللاجئين العراقيين القادمين تواً من العراق والذين ينتظرون إكمالَ التحقيق ليخرجوا بعدها إلى سجنٍ أكبر بقليل، هناك وجدتُ عاشور يفترشُ بطانية عسكرية وعيناه تحدقان في السقف. لم أفهم سبباً لوجوده حتى أخبرني بأنه عاد إلى المعسكر طوعاً بعد أن ضاقتْ به طهران وعجزَ عن إيجادِ عملٍ يستطيعُ من خلاله توفيرَ إيجار الغرفة ففضّلَ العودة إلى السجن. كان كعادته صامتاً في الظاهر إلا أن صمته كهدوءٍ ينذرُ بعاصفةٍ تقلعُ الأرضَ من أوتادها، حيث أنّ الحقدَ يغلي في مرجله وكلما حسبتُه سيفلتُ من عقالهِ استطاع السيطرة عليه مبدياً حركاتٍ غريبة تدلّ على حالةِ غضبٍ كأنْ يدعكَ وجهه براحةِ يده أو يقضمُ أظافره بغيبوبةٍ كاملة حتى يسيلَ الدمُ منها خطوطاً على أصابعه وكفّه دون أنْ يشعرَ بذلك، وحينما يتنبه إلى حالهِ يقرّب كفيه من وجهه ويظل يتابع حركة الدم بمشهدِ مجنون، حتى يهدأ شيئاً فشيئاً عند ذلك يغطي رأسه بالبطانية على الرغم من جهنم الزنزانة ويفتعل النوم.

" عاشور ماذا يؤلمك؟ "

سألتُه بتوددٍ فنظرَ إليّ ببرود ثم أجابَ بهمسٍ:

" تؤلمني روحي. "

وحينما طلبتُ منه أنْ يوضحَ لي، تطلعَ إليّ مستفزّاً وأجابَ بغموض، لولا الألم الذي كنتُ أراه يتحركُ في روحه لحسبته يمثل دوراً لا يليق به:

" أنتَ تؤلمني. "

" أنا!؟ "

" أعني أنا. "

لم أجد في كلامه سوى هلوساتِ محمومٍ فتركته لصمتهِ مشفقاً عليه وبقيتُ أحدقُ صامتاً إلى الزاوية التي كان يحدقُ إليها كأن كلاً منا يحاول أنْ يقرأ خطَ نظرِ صاحبه.

" هل كانتْ زلّة لسان؟ "

" هل يشعر حقاً بأني أسببُ له ألماً؟ ولمَ هذا الشعور؟ "

" هل أنّ وجودي يذكّره بأمر ما؟ "

" هل أنه لايزال يحملُ ضغينة الطفولة؟ "

" هل يرى أني أزاحمه الوجود الضيق؟ "

" أنا، أنتَ ... "

" هل أنه يعتبرني نفسه الرقيبة والمؤنبة؟ "

لا أدري إنْ كنتُ أحاول أن أجدَ تفسيراً لسلوكِ عاشور أم أني أغورُ في نفسي. أغورُ في المنطقةِ المبهمة التي نتقاطع فيها. أحياناً كثيرة كنتُ أودّ الهربَ منه، بل حتى حاولتُ قتله في أحلام يقظتي ليس تخلصاً من ظلّه الذي يلازمني، بل لأني كنتُ أشعرُ بما يشعرُ به.

" إنه يؤلمني. "

رحتُ أردد مع نفسي كأنّ عدواه انتقلتْ إلي. ليس وجوده معي الذي يؤلمني بل وجوده في داخلي. أينا السجن وأينا السجّان؟. أشعرُ بأنّ صدري يضيقُ على ثقلٍ يدفعُ أضلاعي من الداخل. يحاولُ أنْ يفتحَ كوّة للهرب، شيء في داخلي يريد التحررَ مني. يؤلمني وجوده في داخلي لكني أشتاقُ إليه حينما أفارقه وأشعرُ بغبطةٍ كبيرة حينما ألقاه ثانيةً. ترتسمُ ابتسامةُ شوقٍ على وجهينا حينما نلتقي بعد فراقٍ ثم تتجمدُ الابتسامة وتضمحلُ شيئاً فشيئاً لتتحولَ إلى تشنجٍ في عضلاتِ الوجه ثم يُبدي كلّ منّا تجاهلاً مصطنعاً نحو الآخر. هل استهوتنا لعبةُ الغميضة هذي؟ فأدمنا لعبةَ الاختباء. لا، ليست لعبةً بل إنّ كلاً منا بحاجةٍ حقيقية إلى الاختباء، ولأنّ كلّ الأماكنِ مكشوفة فلم يكنْ أمامنا سوى الاختباء في بعضنا. أسرارنا واحدة وكلّ منا يعرفُ بأنه كتاب مفتوح يقرأه الآخر حتى لو بدا للآخرين بأنه مجرد أوراقٍ بيض سطورها أو بالأحرى آثار سطورها غير متوازية، تتقاطع لتشكّل متاهةً لا يعرفُ منفذها ومخرجها سوانا. تماهى بي وتماهيتُ به حتى أني نسيتُ أسمه.

" عاشور وحيد صابر. "

أعرف جيداً أنّ هذا ليس اسمه الحقيقي بل اسم رجلٍ مات غرقاً في نهر دجلة، وبعد غرقه مدّ طوقَ النجاة لرجلٍ يوشكُ على الغرقِ فتلقفه ونجا به. أتذكرُ حينما كان عاشور مختبئاً معي في خيمةٍ على نهر الفرات وحينما أراني جواز السفر المزور الذي سيجتازُ به المطارَ إلى المنفى، ضحكتُ كثيراً وأنا أقرأ الاسم، ورحتُ أردده مستعذباً إيقاعه متعجباً من فطنةِ من أطلقَ هذا الاسم على وليدٍ سينتهي غرقاً أو نفياً أو سيحملُ حزنه وحيداً صابراً لا عشرةَ أيامٍ فحسب بل سيحمله عمراً كاملاً. لقد كان بالنسبة لي مجرد اسم سيختفي خلفه صاحبي لساعةٍ أو ساعتين ثم يعيده إلى صاحبه ليخطّه على شاهدةِ قبره وسيجابه به ربه يوم القيامة، ولم يخطرْ في بالي أنْ يزحفَ الاسمُ من خانته نحو الصورة ثم يخرجان معاً خارجَ الجواز والسفر نحو الإقامة والأمكنة ثم يتلبس حامله ويعيد تشكيل هويته وشخصيته.

" أي مصادفةٍ هذي!؟ "

" ولِم العجب؟ ألسنا محكومين بالمصادفة؟ "

" كم عاشور على هذه الأرض؟ "

" ووحيد! "

" وصابر! "

"......................... "

جدارُ السجنِ شاشة يُعرضُ عليها فيلم بشخصيةٍ واحدة يراها المتأملُ بوضوح وشخصيات أخرى مطموسة المعالم، غير أني أرى الفيلم بشخصيتين واضحتين بتشابههما وتحولاتهما، بما يبوحان به أو يخفيان، بصراعمها ضد المجهول، بنزواتهما الآنية، بهروبهما أو بإصرارهما اليقيني. كلّ سجينٍ يعرضُ فيلمه الخاص أما أنا فأعرضُ فيلمي لمشاهدين أثنين. تيقنتُ من ذلك بعد أنْ فاجأني عاشور بأسئلةٍ غريبة عن لقطةٍ في شريطِ حياتي المعروضِ الآن أمامي على جدارِ الزنزانة كأنه يتابعُ اللقطةَ نفسها:

" أتذكرُ حينما كنا نمشي في ...؟ "

وقبل أنْ يكملَ سؤاله أجبته:

" نعم، ها أنا الآن أرى اللحظةَ بكلّ تفاصيلها. "

لم يفرحْ عاشور كما فرحتُ حينما أطلقَ سراحنا من الغرفةِ الضيقة وكنتُ أعرف سببَ لا أباليته، فالأمرُ عنده سواء طالما كنا موجودين في إيران. وعلى الرغم من ذلك فأنه لم يسعَ ولم يفكرْ بأيّة طريقةٍ يمكننا بها الخروج من هذا السجن مردداً بيأس بيتاً من شعر المتنبي كأنه وجدَ فيه عذراً لاستكانتهِ متلمساً آثارَ السياطِ على ظهرهِ من تجربةِ هروبهِ الفاشلة إلى باكستان، يتلمسها بلذةٍ كأنه يشعرُ بأنه عقاب يستحقه:

" إني نزلتُ بكذّابين ضيفهم

 عن القِرى وعن الترحالِ محدودُ "    

وحينما كنتُ ألحّ عليه بأن يشاركني التفكير في وسيلةٍ للخروج من إيران كان يهز رأسه ساخراً من أحلامي التي لا تتحقق.

" كيف نخرجُ؟ لا جواز، لا فلوس ، لا أصدقاء .....لا.. "

وحينما كنتُ أساله عن جوازِ سفره الذي سافرَ به إلى الجزائر، كان ينظرُ إليّ بعينين مستفزتين، وقبل أنْ ينطقَ بكلمةٍ يعدلُ عن رأيه ويصمت. استبدّ بي الفضولُ مرةً فجعلتُ من أمرِ الجواز قضيةً لابد أنْ أعرفَ سرّ الحزن الذي يلوحُ على وجهِ عاشور كلما سألته عنه، حتى باحَ لي يوماً بهذا السر. في البدء كان متردداً فحسبتُ أنّ للأمرِ حكايةً تثيرُ في نفسه الخجل:

" هل تعرف كان المقاتلون قديماً يعقلون أنفسهم بشدّ أرجلهم بحبل كيلا يهربوا من ساحة المعركة."

" .................... "

" هكذا فعلتُ أنا حينما عبرتُ نهر الخابور قادماً من سوريا إلى كردستان. "

" .................. "

" ... وأول شيء قمتُ به مزقتُ جواز سفري، عاقلاً نفسي كيلا أهربَ من ساحة المعركة في لحظة ضعف. "

توقفَ قليلاً ثم أضاف كأنه تذكراً أمراً مهما:

" لا، لم أمزقه بل رميته في نهر دجلة كي يلحقَ بصاحبه ولكني احتفظتُ لنفسي بالاسم... لأني أحق منه به. "

تطلعتُ إليه بحيرةٍ وإعجاب لكنّ سوءَ ظنّه بي انتفضَ قبل أنْ يسترسلَ في الحديث فأضاف:

" أعرف أنك ستقول عني غبي، ولكن.... "

هززتُ رأسي نافياً ما كان يدورُ في ذهنه فسألته:

" ولكن ما الذي جعلك تغيّر رأيكَ وتترك ساحة المعركة؟ "

زفرَ بحسرةٍ ساخنة وهو يهز رأسه:

" الخديعة .... "

تطلعتُ إليه مستفسراً فأضاف:

" أن تقاتلَ على أرضٍ ليست أرضكَ ولأهدافٍ غير الأهداف التي جئتَ للقتال من أجلها.. أن تكونَ لعبة بيدِ شخصٍ لا يعرف حتى كيف يشحنها.. أن تقطع نصفَ الطريقِ وأنتَ تفكر بالعودة إلى نقطة البدء.. أن تجلسَ بحيادٍ وتراقب مقامرين يلعبان وأنت تراهن بدافعٍ غامض  ولا تتمنى الفوز لأحدهما حتى لو كان الرهان على وطنٍ يخصك.. أن تستبينَ الرشدَ في ضحى كل غدٍ لتعود مغفلاً في اليوم التالي.. وأن... "

حاولتُ أنْ أغريه بأنْ يوضحَ لي قصده غير أنه صمتَ بإصرارٍ وهو يزفرُ حسراتٍ تكاد تحرقُ صدره.

ضاقَ من أسئلتي ومن إلحاحي عليه بالخروجِ من عزلتهِ ودعوتي المستمرة له لمشاركتي في إيجادِ سبيلٍ للخروج من إيران، لكنّه كان يرفضُ كلّ مقترحاتي متشككاً بشكلٍ سلبي بكلّ ما أطرحه عليه من مقترحات خاصةً ما كان يتعلقُ بالتقربِ من إحدى المنظمات أو الدكاكين السياسية للأحزاب الصغيرة التي كانتْ تفقسُ كلّ يومٍ وتنتشرُ في طهران ودمشق مستغلةً الظروف السيئة للاجئين العراقيين فتغريهم بعملِ دعوةٍ لهم من مكاتب أحزابها في دمشق للسفر من إيران بعد حصولهم على جواز سفر لسفرة واحدة (ليزا باس) أو (بروانة عبور) كما يُطلق عليها بالفارسي. وأنا على الرغم من محاولاتي لإقناعهِ بالتخلي عن إصرارهِ كنتُ نفسي معجباً برفضهِ وكبريائهِ وترفعهِ على الانضمامِ إلى حركاتٍ يقودها حثالة من الأغبياء والمرتزقة.

القاعاتُ الست عشرة تمتلئ باللاجئين العراقيين فيضيقُ بهم الفضاءُ كأنهم يتقاسمون حصصاً محدودة من الهواء. يشعرون بالاختناق فيتدافعون بالمناكبِ لكي يقرّبوا أنوفهم من الثقبِ الضيّقِ الذي يتسربُ منه الهواءُ فيبدأ الصراعُ من أجلِ البقاء وتشهرُ كلّ أسلحةِ الكراهية والعداء، فئران تمزّقُ بعضها البعض كي تجدَ لنفسها مكاناً في القفصِ الذي كُهربتْ جدرانه. وجوه جديدة تدخلُ المكان. تمكثُ فترةً ثم تختفي كأنها تتسربُ من شرخٍ لا نراه في الجدار الكونكريتي ثم سرعان ما تأتينا أخبارهم من السويد، الدنمارك، ألمانيا، سوريا ومن بقاع أخرى في عالم نسمع عن رحابته وحريته ونسائه قصصاً جميلة كالأحلام.

" ضفادعُ تعبرُ البلطيق ونحن هنا. "

قال عاشور بحسرةٍ فلفتتْ انتباهي عبارته وأدركتُ بأنّ صاحبي قد بدأ يُفصحُ عن أمرٍ جديد في نفسه، فهذه المرة الأولى التي أسمعه فيها يضعُ نفسه في مقارنةٍ مع الآخرين وبحسدٍ واضح. أدركَ ما يدورُ في ذهني فراحَ يؤكد الأمرَ دونما مواربةٍ بترديدِ العبارة، مضيفاً إليها عباراتِ تجريحٍ لذاته. هززتُ له رأسي متفقاً معه ومؤاسياً وقبل أنْ أنطقَ بكلمةٍ نهضَ من السريرِ وغادرَ القاعةَ كأنه ذاهب في إنجاز مهمة.

" ضفادعُ تعبر البلطيق. "

كانتْ هذه العبارةُ نقطةَ التحولِ في سلوكهِ الذي كان يبدو لي بأنه مسالماً وإنْ ظهرَ شيء منه يدلّ على عدوانيةٍ وضغينة فقد كان يوجهها لي وحدي، أما الآن فقد بدأ عاشور يشهرُ عدوانيته نحو كلّ شيء.

فاجأني مرةً بأنْ أعلنَ لي نيته العودة إلى العراق حتى لو كلّفه الأمرُ حياته. لم أصدقْ ما سمعتُه وحسبتُه فورةَ غضبٍ أو محاولةً لمعاقبة نفسه خاصة وأنّ تجريحه لذاتهِ أمامي قد زادَ بشكلٍ ملفتٍ للنظرِ وكأنّه يتلذذ بذلك فرحتُ أخففُ عنه وطأةَ الشعورِ بالنفي فأخبرتُه بأنّ لي صديقاً قد سافر إلى سوريا وقد وعدني بعمل دعوة لنا. تطلعَ إليّ هازئاً بالخيوط الواهنة التي أنسجُ منها أحلامي إلا أني رحتُ أؤكد له بأنّ هذه المرة تختلفُ عن سابقاتها فأنا واثق من صدق وعدهِ. ولكي يطمئن إلى كلامي اتفقنا على أن تكون مدة الانتظار شهراً واحداً.

بدأ عاشور بالتحضيرِ للعودة وقد كان في ظني أنه يفكر بالعودة إلى كردستان ثانية وحينما سألته في ما إذا كان قد أعادَ صلته بالحزب الشيوعي ثانية، أجاب بالنفي وأدركَ بأني لم أفهمْ اتجاه عودته فقال:

" سأعود إلى العراق. "

تطلعتُ إليه باستغرابٍ فراحَ يردد بثقة:

" نعم سأعود إلى سجن أبي غريب وحتى لو أعدم. "

" ................ "

" لا يهم.. لا يهم.. "

قبل انتهاء مدة الشهر وصلتني رسالة من حسن فليح يخبرني بأنه عملَ لي دعوةً للسفر إلى سوريا ويقترحُ عليّ إضافةَ أسماء أخرى. عدتُ إلى الأوردوكاه فوجدتُ عاشور يقفُ متسمراً في الساحة وهو يراقبُ البابَ الخارجي كأنه بانتظارِ قادمٍ من الدنيا. اقتربتُ منه وأنا أتطلع إليه بزهو. أخرجتُ الرسالةَ ورميتُها عليه بحركةٍ تفتعلُ الشعور بالانتصار. قرأ الرسالةَ بوجهٍ جادٍ ثم أطبقها ببطء وأعادها إلى المظروف وهو ينظرُ إليّ بنظرةِ شكّ راحتْ تتغيرُ شيئاً فشيئاً لتتحولَ إلى ابتسامةٍ خجولة ولاحتْ دمعتان في عينيه تداركَ سقوطهما بصرخةِ ابتهاج هيستيرية.

بعد شهرين انتهتْ معاملةُ السفر وحصلَ عاشور على الليزا باس بينما معاملتي ذهبتْ في الطريق الخطأ. كنتُ أقفُ أمامَ الموظفِ المختص وأتوسلُ به أنْ يسمعني أو يرفعَ رأسه نحوي وقبلَ أنْ أفتحَ فمي بكلمةٍ يحركُ رأسه الهاطلَ على صدره نحو الأعلى بحركةٍ بطيئة مغمضاً عينيه كأنه مُخدَّر وهو يردد:

" بيا فردا! "

وحينما أعود في الغد أحصل على النتيجة نفسها، حتى يئستُ فطلبتُ من عاشور أن يسافرَ وحده، غير أنه رفضَ بإصرار وحينما زادَ إلحاحي عليه هددني بأنه سيمزق المعاملة أو نسافر معاً. تسعةُ أشهر مضتْ سافرَ خلالها الآخرون وأنا مازلتُ بانتظارِ تصحيحَ الاسم، لأن استجابةَ الموظفِ المختصّ بمعاملات السفر في وزارة كشْور (الداخلية) كانتْ تأتي بالتقسيط، فبعد أيامٍ من المراجعات يتنازل كي يردَّ على السلام وبعد أيامٍ أخرى يتصدّقُ عليك بالإصغاء إلى ربعِ المشكلةِ على أمل أن يكملَ إصغاءه في اليوم التالي وهكذا. تسعة أشهر مضتْ حتى جاء ذلك اليومُ التي استلمتُ فيه تأشيرةَ الخروج. صرخَ عاشور وقد كان أكثرَ فرحاً مني:

" أخيراً سنكون في السويد. "

وهو يتطلع إلى صورةِ الخميني التي احتلتْ مساحة واسعةً من الجدار بعينيه الغاضبتين كأنهما تتوعدان الفرحَ بجحيمٍ أبدي، وكأن عاشور وجدَ في وثيقة الانعتاقِ سبيلاً للشماتةِ بهذا القابعِ في الجدار يعتصرُ عنقَ الأملِ بقبضتهِ المعروقة. رفعَ عاشور وثيقةَ السفر ومررها قريباً من وجه الخميني وهو يضحكُ بجنونٍ ويردد:

" غداً سنحصل على بطاقة السفر وبعد أسبوع سنكون في بلاد الشياطين الرحيمة. "

 تسعةُ أشهر مضتْ واليوم سامحتُ الأملَ والانتظارَ ولعنةَ الحظ السيئ، غير أني لم أكن أعلم أنّ اللعنةَ لا يوقفُ تربّصها بي السماحُ، ففي الليلة نفسها التي كنتُ أنتظر ضحاها أعلنتِ القيادةُ العسكرية العراقية ببيانٍ لها بأنّ سماءَ طهران ساحةُ حرب، وهددتْ بإسقاطِ أيّة طائرةٍ عسكرية أو مدنية تحلّقُ في الأجواء الإيرانية، وفي الغد كانتْ كلّ مكاتبِ الخطوط الجوية قد أغلقتْ أبوابها بوجهِ المسافرين حتى انتهاء الحرب العراقية الإيرانية كما قال لنا موظفوها.

عدنا إلى الأوردوكاه ليلاً نجرّ خطواتنا بخيبةٍ وحزن. توقفَ عاشور أمامَ صورةِ الخميني على الجدار. خفتُ أنْ يقومَ بعملٍ متهورٍ فحاولتُ أنْ أسحبه من ذراعه لكنّه ودون أنْ ينطقَ بكلمة طأطأ رأسه وسارَ هازاً رأسه بأسى الخاسرِ في الرهان.

رحلةٌ أسبوعية واحدة للخطوط الجوية الإيرانية من طهران إلى دمشق والحصولُ على البطاقة معجزة يحتاجُ تحقيقها إلى دفعِ أضعافِ ثمن البطاقة لشرائها ولدفعِ الرشاوى إلى وكلاء في السوق السوداء، والخروجُ من إيران أصبح أمراً ملحّاً أكثرَ من قبل حتى غدتِ الدقائقُ تمرّ ببطء محدثةً شرخاً وصوتاً تقشعرّ له الروحُ كمرورِ أظافر على سطح معدني.

خرجَ الطفلُ من رحمِ الأرضِ (ثانيةً).. خرج الطفلُ عاشور أو حميد أو جبر أو...، خرجَ مدفوعاً بقوّةٍ مجهولةٍ.. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود.. حبا الطفلُ على يديه ورجليهِ.. تعَ تعَ تعَ تعَ تعَ .. نهضَ الطفل متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله .. سور سليمان ابن داوود.. خطا الطفلُ خطوته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي تواتي.. تاتي تواتي.. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولةٍ.. العيونُ ترقبه بحذرٍ.. تقيسُ خطوته.. تروزه.. الصبي سيرحلُ إلى المدن البعيدة.. ارتقى سلالمَ الطائرة.. وقفَ في أعلى السلّم.. رفعَ ذراعيهِ كأنّه يجربُ الطيرانَ بقوادمَ مكسورةٍ وحوصلةٍ زغبةٍ.. رفعَ ذراعه ملوّحاً إلى نقطةٍ في هذا الفضاء.. مودّعاً ماضيه.. ابتلعه جوفُ الطائرة.. أغلق البابُ.. تحركتِ الطائرةُ ببطءٍ على مضمارٍ مرسومٍ بدقّةٍ.. انطلقتِ الطائرةُ بحركةٍ سريعةٍ.. سريعةٍ.. سريعةٍ جداً.. ارتفعتْ مقدمةُ الطائرةِ.. هبطَ قلبه.. تشبثَ بذراعيّ الكرسي.. الطفلُ مكبّلٌ بحزامِ الأمان.. مكبّلٌ بحبلِ القماطِ كي تقوى عظامه ويُحسنَ المشيَ في المستقبل.. صوتُ اهتزازٍ كأنّ الطائرةَ تركلُ الأرض.. الطائرةُ ترتفعُ.. الطفلُ يتطلعُ من النافذةِ الصغيرةِ إلى الأرضِ بخوفٍ وبهجةٍ فيرى ظلّ الطائرةِ على الأرض.. الطائرةُ ترتفع.. تقتربُ من السماء.. تقتربُ من....

حالما أعلنَ المضيف عن استقرارِ الطائرةِ في الارتفاع المحدد لها وبدأ المسافرون بحلّ الأحزمة نهضتُ من الكرسي. خمّنَ عاشور وجهتي فارتفعَ صوته بضحكةٍ عالية، وحينما استفسرتُ عن سببِ ضحكهِ قال وهو يحاولُ أنْ يكتمَ سعاله:

" لتدخل إيران ضمن الدائرة البولية. "

كان على الطائرةِ المتوجهة إلى دمشق أن تتلافى البقاءَ طويلاً في السماءِ الإيرانية بسببِ الغاراتِ الجوية التي كانت تشنّها المقاتلات العراقية والتي ازدادتْ طلعاتُها على طهران بعد إعلانِ القيادةِ العسكرية العراقية اعتبار السماء الإيرانية ساحة حرب، لذا فقد كانتِ الطائراتُ المسافرةُ إلى دمشق لا تتجه غرباً بل إلى الشمال لتدخلَ المجالَ السوفييتي ثم تتجه نحو تركيا.

كانتْ أصواتُ التكبيرِ والدعاء ترتفعُ بين لحظةٍ وأخرى كلما اهتزتِ الطائرة حتى أعلنَ المضيفُ عن دخولِ الطائرةِ إلى منطقةِ الأمان. ارتفعتْ أصواتُ الرجال بالحمدِ والصلوات بينما النساء بدأنَ بالتحررِ من قيودِ ولايةِ الفقيه، وبحركاتٍ تفتعلُ العفويةَ والإهمالَ راح الحجابُ ينزلقُ عن الرؤوس شيئاً فشيئاً فظهرتْ في بادئ الأمرِ خصلاتٌ من الشعر على الجبهة وبانتْ زنود وأعناق قيدتها أغلالُ الأوامر لتنطلقَ خجولةً في فضاء الانعتاق حتى تجرأتْ صبيةٌ وألقتْ غطاءَ الرأس ناثرةً شعرها الفاحمَ على كتفيها فهرعَ إليها شيخٌ بعمامةٍ بيضاء مؤنباً وحدثتْ مشادة كلامية انقسمَ على أثرها الركّابُ إلى فريقين غير متكافئين وتدخلَ طاقمُ الطائرة لتنتهي المشكلةُ برضوخِ الصبيةِ على مضضٍ مكتفيةً وحزبها من النساء بحدّ أدنى من التحرر. التفتُّ إلى عاشور فوجدتُه غارقاً في التفكيرِ دون أنْ ينتبهَ إلى ما حدثَ في الطائرة. استيقظتْ بي رغبة في مشاكسته فلكزتُه بكوعي وأنا أتطلعُ نحو الأرض من النافذة. جفلَ وتطلعَ نحوي مستفسراً فقلتُ له مفتعلاً البراءة:

" الآن نحن نحلّق فوق الأراضي السوفييتية. "

وقبل أنْ ينطقَ بكلمةٍ قلتُ له مازحاً:

" ألا ندخله ضمن الدائرة البولية؟ "

لاحتْ ابتسامة باردة على شفتيه ثم تجمدتْ لتظهرَ على وجهه علاماتُ جدّ وكآبة. تململَ في مقعده متخذاً هيئة المُستفَزّ الواثقِ من كلامه:

" ما ذنب الإتحاد السوفييتي؟ "

ودون أنْ يتركَ لي مسافةً من الوقت كي أستعدَّ للنقاش أو المشاكسة قال بثقةٍ أكبر وبطريقةٍ لا تخلو من الأستذةِ والخبرةِ محاولاً أنْ ينتقصَ من خبرتي ومعرفتي بالأمر:

" لماذا نحاول أن نحمّل غيرنا مسؤولية أخطائنا؟ "

" .................... "

" العيب في الأحزاب الشيوعية العربية وليس في سياسة الإتحاد السوفييتي أو النظرية الماركسية."

هززتُ رأسي مفتعلاً الموافقة على ما يقولُ غير أنه وجدَ في صمتي فرصةً لإشهار عدوانيته نحوي:

" قيادة غبية وجبانة تهرب مع أول مواجهة مع العدو الطبقي وكوادر مهزوزة تغيّر كلّ قناعاتها إنْ وجدت لها قناعات مع أول صفعة تتلقاها من شرطي أمن. "

شعرتُ بأنه يشيرُ إليّ فتطلعتُ إليه بعتبٍ فراحَ يؤكد كلامه بتعميمٍ كأنه يفتعلُ البراءةَ وعدم قصدية الإساءة مشيراً إلى أحداثٍ ومواقفَ تمسّ الجميعَ، وكلما حاولتُ الاعتراضَ على كلامه راح يتباهى بمعرفتهِ بالأمورِ أكثر مني وبتجاربه النضالية في المنفى أو في الكفاح المسلح مع الأنصار في كردستان فصمتّ مصغياً إليه ومشفقاً على الخيبة التي كان يحاولُ إخفاءها بالمكابرة أو بإلقاء اللوم على الآخرين وكدتُ أقول له:

" مَنْ الذي ذهب ليدرسَ الفقه في حوزة قم حالما انسحب من ساحة المعركة الطبقية؟ "

إلا أني آثرتُ الصمتَ كيلا يصلَ بنا الاختلافُ إلى نقطة اللاعودة وأنا أعرفُ بأنّ لكلّ منا حجته بإلقاءِ اللوم على ظلّه لسواد نيته.

هبطتْ الطائرةُ في مطارِ دمشق عصراً. شعرتُ بالانقباضِ مع ملامسة الأرض كأنّ الفضاءَ الذي قضينا فيه خمسَ ساعات كان عاصماً لنا من شرورِ الواقع. وقفَ المسافرون طابوراً طويلاً أمام كابينة صغيرة لاحَ لي في داخلها ضابطُ شرطةٍ بوجهٍ عابسٍ يشبه تلك الوجوه التي تطاردني في الكوابيس. اهتزَّ شيء في داخلي وازدحمتْ ذاكرتي بصورٍ تتخاطفُ سريعاً، وبلا شعورٍ اخترتُ الوقوفَ في آخر الطابور كأنّي أحاولُ التحايلَ على الوقتِ لتأجيلِ موتي لحين إفاقتي من الكابوس. وقفَ عاشور خلفي، ربما كان هو الآخر يحاولُ تأجيلَ موته. الطابورُ يتحركُ ببطءٍ شديد فأتاحَ لنا متسعاً من الوقتِ لتدخين أكثر من سيجارة.

نقراتٌ منغّمة تعالى صوتها قادماً من الخلف، نغماتٌ تعرفها الأذنُ بالفطرة فتسري في الجسدِ كذبذباتٍ أو كنتْلاتٍ كهربائية تشيعُ التنملَ والخدرَ في الأوصال. التفتًّ فرأيتُ عاشور قد أدارَ هو الآخر رأسه إلى جهةِ الصوتِ القادم. مرّتْ مضيفة من جنبِ الطابور فعمّ صمتٌ مفاجئ، أو هكذا بدا لي تلك اللحظة. توقفتْ قليلاً فبدتْ مثل تمثالٍ فينيقيّ بعينين واسعتين وفمٍ لوزي. وقعَ نظري على ركبتيها الممتلئتين والمستديرتين مثل نهدين مضيئين في عتمةِ الحلم. تحركَ شيء في جسدي بل تحركَ جسدي كله.

" يا إلهي منذ متى لم أرَ ركبة امرأةٍ؟ "

سارتْ تتهادى بفتنةِ طاووسٍ تجرّ خلفها رفلاً منسوجاً من حريرٍ ضوئي يُغشي البصر، وكانت تنورتها تهتزّ من الخلف مهفهفةً فتكشفُ عن طراوة ربلةٍ تسيدتْ فضاء الصالةِ فلم يرَ الرائي سواها. لكزني عاشور فالتفتّ نحوه كمَنْ يستيقظ من حلمٍ. لم أسأله عن سبب إيقاظي فقد أدركتُ أني كنتُ في غيبوبةِ الهوسِ الذي استبدّ بي.

مددتُ ورقةَ الليزا باس وبطاقة السفر من تحت شباكِ النافذة الصغيرة دون أنْ أنظرَ إلى عيني الضابط الذي راح يتفحصني:

" عراقي؟ "

" نعم. "

أجبتُ متلعثماً وأنا أتطلعُ إليه بخوف.

" قف جانباً إلى أن ننادي عليك! "

قال بعجرفةٍ وهو يرمي الورقة جانباً.

على مصطبةٍ في قاعةِ الترانسيت جلستُ، بينما استلقى عاشور على مصطبةٍ أخرى متوسداً كيسَ النايلون الذي يحوي كلّ ما يملكه من أسمال، ولم تمضِ سوى دقائق حتى ارتفعَ صوتُ شخيره الخافت مثل أنينٍ مخنوق.

الطائراتُ تهبطُ على المدرجِ والمسافرون بوجوهٍ ضاحكةٍ تجتازُ الصالةَ نحو البوّابةِ الخارجية وأنا أجلسُ أمام النافذةِ الكبيرة التي تطلّ على المدرجِ وأتابعُ هبوط الطائرات كأنها الغربةُ التي تنقضّ على الروحِ وتجثمُ فتنطلقُ الآهاتُ من مكانٍ عميقٍ في الروح.

ساعتان مرتا حينما ارتفعَ صوتُ من المايكرفون لم أعره اهتماماً ليس لسرحاني بل كأني نسيتُ اسمي أو تغرّبتُ عنه فلم أنتبه إلى الصوت الذي كان ينادي باسمينا، وبعد تكرارِ النداء عدة مرات أفقتُ من غربتي وأيقظتُ عاشور الذي هبّ واقفاً بخوف، وحينما وصلنا إلى جهةِ الصوت كان ضابطُ شرطة المطار غاضباً. تطلع إلينا بنظرةٍ تلوح عليها شهوة الافتراس:

" أنتم طرشان؟ صار عشر دقائق ننادي عليكم. "

هممتُ أن أقولَ له:

" لا، لسنا طرشان ولكننا غريبان عن اسمينا. "

غير أني خفتُ أنْ يحسبَ كلامي ملغوماً بالتآويل فصمتُّ معتذراً. سلّمني ورقةَ الليزة باس وعليها ختمُ الدخول ثم سلّم عاشور ورقته وهو يتطلعُ إليه بريبةٍ مردداً اسمه بإيقاعٍ يوحي بأنه أدركَ بفطرةِ رجلِ الأمن بأنّ الاسمَ مستعار لا محالة.

فُتح بابُ مطار دمشق الخارجي واندلقنا على الرصيف مثل وليدين عاريين أو لقيطين ينتظران رحمةً من المجهول. مسافران بهيئةٍ رثةٍ يقفان على الرصيف وهما يتلفتان بحيرةٍ وتوجس من ضياعٍ جديد يتربص بهما. لم يتقدم نحونا أيّ من سائقي سياراتِ الأجرة الذين يتملقون عادة المسافرين حيث لا أحدَ كان يصدّق بأننا مسافران بلا حقائبَ وبمنظرٍ يثيرُ الشفقة.

" ماذا نفعل؟ "

" ........... "

" ماذا نفعل؟ "

هجمتْ علينا ذئابُ الأسئلةِ لتحولَ الأرضَ مرةً أخرى إلى قفصٍ آخر. أسئلة استيقظتْ فجأةً وكأنّ فترةَ انعتاقنا كانتْ خمسَ ساعاتٍ قضيناها بشمّ الهواء في ممرٍ جوي خارج زنزانة الأرض.

" إلى أين؟ "

" وماذا نفعل؟ "

" وكم ستكفينا الخمسون دولاراً؟ أسبوعاً؟ أسبوعين؟ وماذا بعدها؟ هل سنجد عملاً؟ وأية مهنةٍ نستطيع مزاولتها؟ "

أيامٌ بطعمٍ مرّ ولونٍ أسود، ورصيفٌ ينقلُ خطى الغريبِ الجائعِ إلى ما يشاء كأنّ الرصيفَ يمضي والخطى واقفة. عينا الغريبِ تلتهمان الفضاء ريبةً وتوجساً كأن أشباحاً تقفُ خلف كلّ اسطوانةٍ تتحفزّ للانقضاضِ على هذا الحمل الضال، وفمه الفاغر يصفّر الهواء فيه جوعاً واستغاثةً مخنوقة. النظرةُ الطيبة نابُ ذئبٍ مغروزٌ في الروحِ فلا مكانَ للحب في نفسِ الغريب بل حتى الجمال يغدو مثيراً للحسرة.

الدقائقُ قطراتُ قطرانٍ تقطر مُحدثةً دوياً يفضّ طبلةَ الأذن، وعلى الرغمِ من صخب الشارع وزعيق أبواق السيارات المنطلقة بسرعة نحو غاياتها إلا أنّ صوتَ القطراتِ الرتيبِ له وقع يربكُ حتى انتظام التنفس، والأنفاسُ الملتهبةُ تهدد بإشعالِ روحِ الغريب المطليةِ بالقطران.

الوقتُ عدو الغريب لذلك تبدو عبارة (قتل الوقت) ليس مجازاً بل حقيقة فكلاهما يُشهرُ سلاحه بوجه الآخر متشوقاً لإزاحته عن الطريق أو إلغاء معناه.

أقفُ في (مَسْطرِ) العمالِ العارضين سواعدهم لأربابِ العمل فيمرّ السيد دون أنْ يلتفتَ إلى بضاعتي الكاسدة، وأية بضاعة؟ لا شيء غير الهواء معبأً بسلالٍ مثقوبة. وللغرباءِ طبائعُ المتسولين، كلّ منهم يمدّ طاسته لصَدَقات السيد الأعمى، السيد الذي يشمئزّ من رؤيةِ وجوهِ الغرباء المطموسة، وكلّ منهم يحقد على صاحبه الذي يزاحمه على الصَدَقَة المفترضة.

في دمشق عام 1985 أول سؤالٍ يخطرُ في ذهنِ القادمِ الجديدِ وهو ينظرُ إلى جمعِ العراقيين المتكدسين في مقهى (الروضة) هو كيف يعيش هؤلاء العاطلين عن العملِ والأمل؟ كيف يحصلون على قوتِ يومهم؟ من أين يأتون وإلى أين يذهبون؟ أين ينامون وماذا يحلمون؟ إنهم كائنات هلامية يسيحون على طاولاتِ المقهى كماءٍ مرمي من كأس أسقطته يد الغفلة فانكسر. إنهم يقيمون في المقهى يأتون إليها ضحى بعيونٍ حمر لايزال النعاسُ عالقاً في أهدابها وروائحُ الثومِ والعرق تعطّ من أفواههم وهم يتثاءبون بمللٍ. يأتون إليها وكلّ منهم يحمل حقيبةً صغيرة أنيقة تتدلى من كتفه. يضعها على الطاولة أمامه أو يعلّقها على مسندِ الكرسي. أيّ شيء يكمنُ في داخلِ حقيبةِ الغريب وهو بلا أوراق ثبوتية يحرصُ على الحفاظ عليها ويخاف عليها من الضياع. يفتحها ببطءٍ وتأنٍ كأنه يخفي داخلها سرّاً عزيزاً، تتوقفُ حركةُ الأشياء والعالمُ على كشفهِ أو كأنه يتواطأ مع الوهم على فهمِ الحقيقة الغائبة.

دوائرُ صغيرة حول الطاولات تكبرُ وتكبر مع ساعاتِ الظهيرة وترتفعُ الأصوات بنقاشاتٍ عقيمةٍ عن الوطنِ والثورةِ والكفاحِ والأحزابِ وحركاتِ التحرر، كأنّ لهم ما في الخيانات وما في الرفض وهم عن فعلِ أيّ شيء عاجزون. يختلفون فتشتدّ حدة النقاش وربما يتحول إلى معارك كلامية تنتهي بالوعيد إلى زمنٍ مؤجل، أو يتبادلون نكاتٍ عتيقة يعرفونها جميعاً لكنهم يضحكون لسماعها من أفواههم كأنهم يحاربون الوقتَ بالضحكِ ويتلذذون بالسخريةِ من أنفسهم. وفجأةً يبدأون بالتسللِ من دوائرِ إلفتهم المصطنعة ويغادرون المكانَ فرادى كما جاءوا.. وهكذا تدور رحى أيامهم طاحنةً قرونَ زمنٍ خاو.

الغريبُ في أمرِ هذه الكائنات أنها كنمورٍ سجينة لا تحلمُ بالحصول على قوتها اليومي فحسب، بل إنها تحلمُ بالطيران دونما أجنحةٍ أو حتى زغبٍ. وهذا ما كان يحدثُ بالفعل، فهذا الجالس أمامكَ اليوم في المقهى والذي لا يستطيعُ دفعَ ثمنِ كأسَ الشاي سيغادركَ بعد قليلٍ إلى المطار متوجهاً إلى السويد أو الدنمارك. يودّعه أصدقاؤه بحميميةٍ نادرة، وما أنْ يغادرَ الطاولة حتى يبدأ الأصدقاء بتشريحِ جثته على مرأى الآخرين.

" ساقط. "

" انتهازي. "

" مرتزق. "

" نسيَ الوطن. "

" خانَ القضية. "

وفي الغدِ تجد أحدهم قد نشرَ مقالاً في إحدى الصحف عن ظاهرةِ لجوءِ العراقيين إلى بلدان حلف الناتو والمؤامرة التي تحاكُ ضد الوطن والأحزاب اليسارية، وخطرها على مستقبلِ القضية.

" الوطنُ في خطر، الأمةُ في خطر، الطبقةُ العاملة في خطر، القضيةُ في خطر.... "

 ولكن لا أحدَ يقولُ " الإنسانُ في خطر. " وكأنّ كلّ الأشياء والأفكار تحولتْ إلى صخورٍ وما على سيزيف إلا الطاعة وحملها دون اعتراضٍ على مشيئةِ الإله المجهول.

يتجمع الباقون في المقهى كعادتهم وهم يقرأون المقالةَ متفقين مع كاتبها الذي سيتبرعُ بثمنِ المكافأة بدعوةِ الباقين إلى سهرةٍ فتمتلئ الطاولة بقناني العرق وصحون الباميا. وبعد أسبوع سيسافرُ شخص آخر إلى بلادِ حلفِ الناتو والدائرةُ تدور.

" لنسافر إلى الدنمارك! "

قلتُ فتطلعَ إليّ عاشور بسخريةٍ ثم توجهَ إليّ كأنه يحاولُ إيقاظي من الحلم الذي استبدّ بي محاولاً الانتقاص من مقدرتي على اللعب بالأوهام:

" انتبه! لا تقعْ! "

وحينما وجدني أصغي إليه منتظراً توضيحاً لكلامهِ قال بنظرةٍ جادة وحسرة:

" هؤلاء الذين تراهم الآن أمامكَ خريجو مدارس الأحزاب وأسواق البورصة السياسية والمزادات العلنية والسرية، وهم يجيدون اللعب على مائة حبل في سيرك الحياة. أما أنت يا صاحبي فمازلت غضروفاً فلا ... "

وقبل أن يكملَ كلامه قاطعته:

" ولكن هناك طريقة أخرى ... "

توقفتُ قليلاً ثم أضفتُ:

" سأكتبُ رسائل إلى أصدقائنا في السويد وألمانيا والدنمارك وأطلبُ منهم مساعدة مالية حتى لو كانت كقرض."

انفجرَ في ضحكةٍ مفتعلة توحي بالسخريةِ وبطريقةٍ عدوانية قال:

" إذا كان أخوك الذي يعمل في الجزائر لم يرسل إليك ثمن بطاقة فهل تتوقع من الغريب أن يرسل إليك؟ "

وقبل أنْ أوضحَ له الأمر نهضَ وتركني وهو يتمتم ساخراً.

ومرةً أخرى أكسبُ الرهان ضده، فبعد شهرٍ وصلتني أربعُ رسائل كلّ منها تحملُ ورقةً خضراء بخمسين دولاراً. قضينا الليلَ بغمّ أكبر مما لو لم نحصلْ على المبلغ حيث أنه يكفي لثمنِ تذكرةٍ سفر واحدة بعد استخدامِ كلّ طرقِ التخفيضات التي كان لها رجال يمتهنون حرفتها بعد أنْ يأخذوا عمولةً معينة فيقومون بإصدارِ وثائق مزورةٍ كوثيقةِ الانتماء إلى إتحاد الطلبة أو وثيقة العمل مع المنظمات الفلسطينية، وبهذا سيتقلص ثمنُ التذكرة إلى النصف.

" سافرْ أنتَ! "

قلتُ له فردّ مباشرةً وكأنه كان يتوقع كلامي:

" لا، سافرْ أنتَ! "

ولأن كلاً منّا يعرفُ عنادَ صاحبه، فقد اتفقنا على أنْ ننتظرَ عسى أنْ يصلنا دعمٌ إضافي أو نلغي فكرةَ السفر نهائياً. وحينما تأخرَ هذا الدعم بدأ اليأس يدبّ فينا وفي اليوم الخامس تأكد لنا يأسنا فصرّفنا واحدةً من الورقات الأربع ودخلنا أول مرة إلى مطعم وقضينا ليلة في بار ودفعنا إيجارَ الغرفة لشهر مقدماً. ولكي تكتملَ اللعبةَ التي اصطفانا لها صاحبُ الملك والقدرة، ولكي يزجي وقته بلعبتهِ العبثية ويطردَ ملله بنكتةٍ أوعز إلى بُهلولهِ أنْ يغيّر مسارَ اللعبة لتنتهي بجبرِ خاطرِ العبد الفقير ليحوزَ على كلمةِ الحمد من جاحدٍ، ففي اليومِ السادس من العبثِ القدري وصلتني برقية من أخي في الجزائر يخبرني بأنه أرسلَ إليّ بطاقةَ سفر من دمشق إلى الدنمارك.

خرجَ الطفلُ من رحمِ الأرضِ.. خرجَ الطفلُ عاشور أو حميد أو جبر أو.. خرجَ مدفوعاً بقوةٍ مجهولة.. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود..حبا الطفلُ على يديهِ ورجليهِ... تعَ تعَ تعَ تعَ تعَ.. نهضَ الطفلُ متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله.. سور سليمان بن داوود.. خطا الطفلُ خطوته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي توّاتي.. تاتي توّاتي .. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولة.. العيونُ ترقبه بحذرٍ.. تقيسُ خطوته.. تروزه.. الصبي سيرحلُ إلى المدن البعيدة.. ارتقى سلالمَ الطائرة.. وقفَ في أعلى السلّم.. رفعَ ذراعيهِ كأنه يجرّبُ الطيرانَ بقوادمَ مكسورةٍ وحوصلةٍ زغبةٍ.. رفعَ ذراعه ملوّحاً إلى نقطةٍ في هذا الفضاء مودّعاً ماضيه.. ابتلعه جوفُ الطائرة.. أُغلقَ البابُ.. تحركتِ الطائرة ببطء على مضمارٍ مرسومٍ بدقّةٍ.. انطلقتْ الطائرة بحركةٍ سريعةٍ.. سريعةٍ.. سريعةٍ جداً.. ارتفعتْ مقدمةُ الطائرة.. هبطَ قلبه.. تشبثَ بذراعي الكرسي.. الطفلُ مكبّلٌ بحزامِ الأمان.. مكبّلٌ بحبلِ القماط كي تقوى عظامه ويُحسنَ المشيَ في المستقبل.. صوتُ اهتزازٍ كأنّ الطائرةَ تركلُ الأرض.. الطائرةُ ترتفع.. الطفلُ يتطلعُ من النافذةِ الصغيرة إلى الأرضِ بخوفٍ وبهجةٍ فيرى ظلّ الطائرةِ على الأرض.. الطائرةُ ترتفعُ .. تقتربُ من السماء .. تقتربُ من العَليّ العظيم.......

استوتِ الطائرةُ في المستوى المحدد لها ففتحتُ عقدةَ حزامِ الأمان وهممتُ بالنهوض من الكرسي. تطلعَ إليّ عاشور بغضب، وقبل أنْ أنطقَ بكلمةٍ راحَ يردد بصوتٍ مخنوق وبأسى:

" إذا ترحلتَ عن قومٍ وقد قدروا         أنْ لا تفارقهم فالراحلونَ هُمُ "

أدركتُ ما يعنيه بكلامه، فقد كان عاشور طيلةَ الخمسة أشهر التي قضيناها في دمشق يشعرُ بإلفةٍ مع الناس والمدينةِ وبحالةٍ من التوازنِ غريبة على الرغم من حالةِ البؤسِ والجوعِ والتشردِ التي مررنا بها. وحينما أعلنَ من كابينة القيادة عن تحليقِ الطائرةِ على البحر الأبيض المتوسط تطلعتُ إلى الأسفل فرأيتُ البحر رمادياً.

" إنه بحر الظلمات. "

رددتُ مع نفسي ثم التفتُّ إلى عاشور وقلت بصوتٍ عالٍ وبحركة تمثيلية:

" وداعاً شرق المتوسط.. وداعاً شرق المتوسط.. "

فأجابني عاشور على الفور:

" وداعاً يا رجبْ.. وداعاً يا رجب... "

...............................

" إذنْ هذه هي الدنمارك. "

البلدُ الذي لا نعرفُ عنه شيئاً سوى برودةِ طقسهِ وحكاياتٍ نقلها إلينا البعض نقلاً عن البعضِ الآخر، ولأننا قوم مولعون بالعنعنةِ فقد صدّقنا ما قيلَ وأضفنا إليه من مخيلتنا التي أخصبها الحرمانُ حكاياتٍ أخرى سيرويها من بعدنا الآخرون وسيضيفون إليها الشيءَ الكثير من مخيلتهم التي سيخصبها الحرمان. بلد يثيرُ الخيالَ ويحفّزه على ابتداعِ الحكايات، لا لأنه بلد أسطوري بل لأننا متحفزون دائماً لابتداعِ ما ينقصنا كطاهٍ ماهرٍ يطبخُ الوهمَ ليسدّ به جوعه الأزلي. عراء أنيقٌ، عراء مُهندَم، عراء يتعرى فيثيرُ الفتنةَ والحسرة، يتقدمُ ببطءٍ مثل امرأةٍ جميلة تدنو من العين بملابس نومٍ تشفّ عن جسدها البارعِ فتنتعظ على مرآها المخيلةُ قبل القضيب.

في السيارةِ التي نقلتنا من مطارِ كوبنهاكن إلى مركزِ الصليب الأحمر، كنتُ أتطلعُ من النافذةِ إلى الغاباتِ الممتدة على جانبي الطريق، وكنتُ أتوقعُ في كلّ لحظةٍ أنْ أرى المشهدَ المرسومَ في مخيلتي، وحينما لم أره، لم أكذّبِ الرواة ووجدتُ الحجةَ ببرودةِ الطقس والثلجِ الغزيرِ الذي غطى الأرصفةَ وقاماتِ الأشجار خاصةً وقد تمثّل لي نصفُ المشهد، فخلفَ الأكمةِ لابد من وجودِ شيء، وتلك البيوت القرميدية التي يتصاعد من مداخنها دخانٌ أبيضُ لابد أنها تضمّ الآن في داخلها جسدَ امرأةٍ عاريةٍ تتدفأ بكانونِ شهوتها الحرة، وللمخيلةِ أن تفلتَ من عقالِ كبتها لتضيفَ إلى المشهدِ ما يُمليه عليها الهوسُ فترتسمُ صورةُ المرأةِ مستغيثةً بقادمٍ من بلادِ الشمس ليذيبَ لها الجليدَ ويطفئ لها ظمأها الصارخَ بعسلِ شهوته الساخنِ راكعةً أمام فارسها القادم من بلاد الأساطير ذليلةً أمام سطوةِ فحولته.

كان مركزُ الصليب الأحمر سفينةً كبيرة راسيةً في لسانٍ مائي يشطرُ العاصمة كوبنهاكن إلى قسمين. جمعوا فيها فتاتَ البشرِ القادمين من العالم الثالث، عالمِ المجاعاتِ والحروبِ والسجونِ والقتلِ المجاني، ومن العالمِ الثاني المشرفِ على الهاوية رجالاً شقرَ الشعور، طوال القامة، ونساء عاريات الصدور والسيقان، بشراً يحلمون بالصعودِ درجة في سلّم الرقي وآخرين يحلمون بالأمان. خليطٌ غريبٌ يضمّ كلّ الأجناس من زنوجِ أفريقيا إلى بيضِ أوربا الشرقية وما بينهما سمرة الشرق الأوسط وصفرة شرق آسيا وغجر رومانية والمجر. خليطٌ متنافرٌ ولكنهم متشابهون بجوهرهم، فبأول نظرةٍ يستطيعٌ المتأملُ أنْ يرى بوضوحٍ القاسمَ المشتركَ الذي يجمع هذا الخليط فكلّ عناصره تغلي في هذه البوتقة وتُبدي غير ما تضمرُ من خواصها الجوهرية. البولوني أو المجري الهاربُ من جحيمِ اشتراكيةِ بلادهِ يحاولُ أنْ يكونَ ليبرالي التفكير ومتأمركاً بكلّ حركة يفتعلها، والإيراني الهاربُ من جحيمِ الفقيه يحاولُ أنْ يخرج كلياً من جلده دفعةً واحدة فمنهم من وضعَ الصليبَ على صدرهِ أو علّقَ أقراطاً في أذنيه، ونساؤهم رفعن تنوراتهن إلى أعلى الساقين وأقيمتِ الحفلات والرقص، إلا العربي (لبنانياً كان، فلسطينياً أم عراقياً) الهاربُ من جحيمِ الحرب والدكتاتورية حملَ معه كلّ كوابيس الحروبِ وعنفها فأصرّ على أنْ يبقى مرتدياً خوذته التي لم تغطِ جمجمته فحسب بل غطّت مخّه، فهو يسير على الأرضِ ليس بقدمين بل بسُرفةِ دبّابةٍ تنشبُ براثنها في الأرضِ محدثةً صريراً ناشزاً يهرسُ مرحَ المكان. يرتفعُ غناؤه عويلاً محمّلاً بحزنٍ كربلائي مصحوباً بطبولِ التطبير أو الحرب، وصوت المؤذن يرتفعُ خمس مراتٍ يومياً لا يدعو إلى الصلاة والفلاح  بل كأنّه يصرخُ " حي على الاستفزاز، حي على الضغينة ". صمته غضب فائر، بخارُه يضغط على غطاءِ روحهِ منتظراً لحظةَ الانفجار، محطّماً نفسه والقريبين منه. يحتكّ بالفضاءِ فينشرُ غبارَ الحرب ملتذاً بالدماء النازفة من جلدهِ المتسلخ. يتطلعُ إلى المرأة بعينيْ جندي عائدٍ من جبهاتِ القتال، يدخلُ المدينةَ أول مرةٍ فيغتصبُ الهواءَ بهوسِ العائد من موته. يسيرُ وتتقدمه حربته العطشى، يطعنُ بها فَرجَ الهواء بشبق القاتلِ المهووس. شبقه ممزوج بكراهيةٍ، فلذا هو لا يحلم بالمتعةِ مع هذا الجسد الوديع أمامه بل إنه يسعى إلى افتراسه بكراهية، محمِّلاً إياه مسؤولية ما يحمله من خرابٍ ومآس . (أرجو أنْ لا يُفهمَ من كلامي هذا بأني أبرّئُ نفسي بل والحق أقول أنا هنا لا أتحدثُ إلا عما أشعرُ به). 

صراخٌ يملأ المكانَ فجأةً فيهرعُ اللاجئون وموظفو الصليبِ الأحمر ورجالُ الشرطة إلى مصدره والنتيجة معروفة سلفاً... عربيان يمزقان بعضهما البعض بكلّ ما أوتيَ المتوحش من أدوات بدائيته. الشرطة تملأ المكان تبحثُ في الغرفِ وفي ممراتِ السفينة عن سارقٍ أو إرهابي يحملُ في وجههِ آثارَ الجريمة.

تطلعتُ إلى عاشور فرأيته يتلفتُ بتوجسٍ وخوف. كان يحاولُ أن يجدَ مكاناً يضعُ فيه قدميه الغاطستين في ضحضاحٍ الارتباك، وجسده الذي كان يبحثُ عن عزلةٍ تقيه من هذا الخليطِ غير المتجانس من البشر اللاهثين وراء سرابِ السعادة، وروحه الباحثة عن إطلالةٍ من نافذةٍ صغيرةٍ على العالمِ المتلاطمِ ومشاهد خرائبهِ بحياديةِ اليائس من التأقلم مع كائناتٍ وضيعة تحتلّ المشهدَ، وتلغي كلّ ما ينشزُ عن هندسةِ فوضاها. جلستُ عند نافذةٍ صغيرة تطلّ على البحرِ وناديته مفتعلاً الفرحَ كي يشاركني متعةَ تأملِ الماء الهادئ والذي يشفّ عن عمقٍ مخيفٍ كرداءِ نومٍ شفاف ترتديه فاتنة سماوية. تطلعَ قليلاً ثم أشاح بوجههِ نحو جهةٍ بعيدةٍ تلوح على وجههِ علامةُ سخريةٍ من بَطَري. أخرج عقبَ سيجارة قديم وراح يمتصه بعمقٍ ثم هبّ واقفاً بشكلٍ يوحي بارتباكٍ ونيّةٍ غامضةٍ فحسبته قد تذكّرَ فجأةً أمراً هاماً. صعدَ سلالمَ السفينة وهو يتلفتُ بتوجسٍ كأنّه يبحثُ عن شيءٍ دفعه قدرهُ إليه، أو كأنّ الرحلةَ التي انتهتْ إلى هذا المكانِ بكلّ تفاصيلها وتضاريسها كانتْ مرسومةً بدقةٍ للوصول إلى الشيء الذي يقفُ الآن بانتظارهِ على سطحِ السفينة العائمة في عبابِ المجهول. تبعتُه لأكتشفَ نواياه، وقد أثارَ تصرفه الغامضُ هذا استغرابي بل خوفي عليه. فتحَ بابَ السفينة الخارجي وخرجَ دون أنْ يلتفتَ نحوي. خطرَ في ذهني أنه يبحثُ عن صورةٍ سابتةٍ في مخيلتهِ ربما هي الصورة نفسها التي ترتسمُ في مخيلتي وأنا أتخيلُ الرحيلَ على ظهرِ سفينة، والتي غرستها رواياتُ الإبحارِ والعلاقات الغرامية الساخنة في الأفلام.

"إلى أين يا عاشور؟ إنّ الحياة التي تبغي لن تجد. "

قلتُ مازحاً، غامزاً بخبثٍ ثم أضفتُ:

"الصبايا في الداخل يتشمسنَ في دفء الشهوة."

لم يعرْ كلامي اهتماماً أو ربما لم يعِ ما كنتُ أعنيه، حيث أني كنتُ أتوهمُ أو ربما كان خيالي المنفلتُ هو الذي جعلني أظنّ بأنّ عاشور كان يبحثُ عن صورةِ الأجسادِ العاريةِ التي تتمدد باسترخاء على سطحِ السفينة، أجساد برونزية ألهبتها حرارةُ الشمس أو حرارة الشهوة، تتمطى بكسلٍ مفتعلٍ وتمسحُ العرقَ النازل من الأعناق المشرئبة إلى الوديان العميقة فيُحدثُ نزولها المتأني أصداءَ هوسٍ مخنوقٍ تتردد في النفوس المُستفَزة. أدركتُ سريعاً أنّ عاشور كان يبحث عن شيء آخر أو أنه افتعلَ هذا الموقفَ التراجيدي حينما أدركَ بأني أخمنُ ما يضمرُ في داخله ويخجلُ من البوح به، وهذا ما جعلني أخجلُ مما كشفته فتداركتُ الأمر سريعاً وخاطبته مرةً أخرى بطريقة تمثيلية:

" إلى أين يا جلجامش؟ إنّ الحياةَ التي تبغي لن تجد. "

عندها التفتَ إليّ غاضباً، وبالطريقةِ نفسها خاطبني:

" أجل، أعرف ذلك ولكني ما جئتُ لهذا الغرض. "

صمتَ قليلاً، وقبل أنْ أعلّق على كلامه قال:

" أبحث عن عاصمٍ في هذا البحر فيما لو أغرقَ الطوفانُ السفينة. "

تطلعتُ إليه مفتعلاً الجد، ولولا مسحةُ الحزن التي ارتسمتْ على وجهه لحسبتُ الأمرَ تمريناً نمارسه لتعلمَ التمثيل، غير أنه أضافَ وهو يتطلعُ إلى الأفق:

" أو أبحثُ عن لوحٍ كتبَ عليه أحد الغرقى حكمته الأخيرة. "

" الله... الله.. "

صرختُ منتشياً وأنا أضعُ ذراعي على كتفِ عاشور دافعاً إياه نحو سياجِ السفينة. توقفنا قليلاً ونحن نطلّ على مياه البحر الزرقاء المتحركة حركةً خفيفة والمنشطرة عند جؤجؤ السفينة فيحدث اهتزاز لا يُرى ولكن يُحسّ على شكلِ هبوطٍ وصعودٍ في النفس. لم تكدْ تمضي ثوانٍ على وقوفنا حتى رأيتُ عاشور قد ارتبكَ ارتباكاً غريباً، ودون أنْ ينطقَ كلمةً واحدة تركني مسرعاً وغادرَ سطحَ السفينة إلى الداخل. تبعتُه سريعاً فسمعتُ أقدامه تهبط السلالمَ بشكلٍ يوحي بالخوف أو الرعب. بعد أنْ هدأتْ أنفاسه حاولتُ أنْ استفسرَ منه عن أسبابِ غضبهِ وارتباكه وهل كنتُ أنا السبب في ذلك فأجابَ بحزن:

"كلما تطلعتُ من علو شاهقٍ أشعرُ بشهوةٍ عارمة للانتحار."

أسبوع مرّ على وجودنا في السفينةِ بانتظارِ التحقيقِ النهائي للحصولِ على اللجوءِ وحق الإقامة، وهنا لا أريد أنْ أعيدَ ما ذكره عاشور في مخطوطته، لكني كنتُ ألمحُ بوضوحٍ أموراً كثيرة بدأتْ تتغيرُ في سلوكي وسلوكِ عاشور والآخرين. هل كان مفعولُ الحريةِ ساحراً وسريعاً إلى هذه الدرجة؟ فخلال هذه الفترةِ القصيرة دخلتْ مفرداتٌ كثيرة إلى قاموسنا كنّا نخجلُ من البوحِ بها، لعل أبرزها كلمة (الجنس) التي راحتْ تترددُ على الأفواهِ دون تحفظٍ أو احتراز. ولأننا منذ البدايةِ اتخذنا حلقةً منعزلةً عن بقيةِ اللاجئين واقتصرتْ أحاديثنا مع الأصدقاء المقربين والذين تجمعنا بهم روابط ثقافية وتبادلُ الكتبِ وقصاصاتِ المجلات الأدبية منذ فترة وجودنا في معسكراتِ اللجوء في إيران أو من رواد مقهى الروضة في دمشق، لذا فقد كانتْ أحاديثنا تدورُ ضمن مفاهيمنا الثقافية التي لا تخلو من قاسمٍ مشتركٍ ولا تخلو كذلك من افتعالٍ أو تثاقفٍ حيث راح البعضُ يشحذُ موهبته بعرضِ بضاعةِ وعيهِ بطريقةٍ منمّقةٍ تهتمّ بشكلِ القول أكثر من جوهره:

" لقد ارتبطَ الجنسُ عند البعض بمفردةٍ قذرة متجذّرة في وعيهم ولاوعيهم وهي الابتذال مفتعلين العفّةَ الكاذبة. "

قال أحدنا فاهتزتِ الرؤوسُ إعجاباً بما قاله، ليضيفَ ثانٍ:

" يقولون إنّ الممارسةَ الجنسيةَ هي فعلٌ حيواني وهي حقاً كذلك ضمن فهمهم الساذج لأعظمِ وأجملِ وألذّ علاقةٍ إنسانية، ولأنهم عبيد حيوانيتهم فهم لا يعرفون هذهِ العلاقةَ خارج هذا المفهوم."

" ...................................... "

" بالحرية وحدها يشعرُ الإنسانُ بقيمةِ الشهوةِ وبالتالي يستطيعُ تمييزَ ما بين اللذةِ في المفهومِ الإنساني وما بين الغريزةِ الحيوانية. "

" ..................................... "

" الجسدُ خريطةٌ لا يمكنُ الوقوفُ أو السيرُ على إحداثياتها إلا لمَنْ يحترمُ هذا الشعورَ الإنساني الذي يكمنُ في العمليةِ الجنسية ويدركُ معنى حريةِ الجسدِ وحريةِ الروحِ وحريةِ العقل. "

" .................................... "

" إن جسدَ الرجلِ أو المرأةِ يخفي أسراراً لا تُفتح خزائنها إلا بتعزيمٍ هو الحرية. "

" .................................... "

" سيبقى مفهوم الجنس عندنا متخلفاً وبذيئاً بسبب النظرة الدونية للمرأة. "

" .................................... "

" هذا هو لبّ الموضوع. "

قال أحدنا فانشدتْ إليه الأسماعُ فأضافَ منتشياً بانتباه الآخرين:

" الموضوعً كلّه يتوقفُ على الموقفِ من المرأة. "

توقفَ القائلُ قليلاً لكي يضربَ ضربته الحاسمةَ بقولِ خلاصةِ ما دارَ بيننا من حديث:

" لا يمكنُ أنْ تأخذَ العمليةُ الجنسيةُ بُعدها الإنساني في مجتمعاتنا الشرقيةِ طالما أنّ الرجلَ يمارسُ سلطته كدكتاتورٍ وطالما أنّ الفحولةَ تعني السطوة، فممارسةُ الحب عندنا إما اغتصاب شرعي وإما عهر وبذاءة. "

تطلعَ في وجوهنا ثم أضافَ بلغةٍ وعظيةٍ واثقة وهو يشيرُ بسبابتهِ نافخاً صدره بزهو:

"وللوصولِ إلى مفهومٍ حضاري وإنساني متقدم للجنس لابد أولاً الإقرار بمساواةِ المرأةِ بالرجلِ وبحقها بممارسةِ حريتها الجنسية. "

" ................................... "

"كسْ أختكْ على أيري."

صرخَ شابٌ فلسطيني وهو يشيرُ إلى شخصٍ آخر ونشبتْ بينهما معركةٌ كلامية وكلّ منهما يقسمُ بأغلظِ إيمانٍ وهو شرف أخته بأنْ يمزقَ جسدَ الآخر الذي ثارتْ ثائرته هو الآخر. تجمعَ اللاجئون محاولين فضّ النزاع وتدخلتْ إدارةُ المركزِ وحضرَ إلى المكانِ شرطيّ وشرطيّة، عندها انفضّ الجمعان، وكلّ منهما يسحبُ صاحبه إلى جهة. ارتفعَ صوتُ عاشور بضحكةٍ لفتتِ الأنظار إليه، فقد كان عاشور طيلةَ الجلسةِ صامتاً على غير عادته ولم يُدلِ بدلوهِ في النقاش الذي دار بيننا، على الرغم من أنه كان يُصغي باهتمامٍ لما يدورُ وبين فترةٍ وأخرى ترتسمُ على شفتيهِ ابتسامةٌ هي أقرب إلى السخريةِ أو عدم القناعة بما يسمع. تطلعتُ إليه مستفسراً عن أسباب ضحكهِ فقال وهو يحاولُ كتمَ سعاله:

" شرطيّة فضّتِ النزاع. "

لم أفهم ما يعنيه فأوضح:

"ألا ترى أنّ عبارةَ فضّ النزاعِ لها مدلول جنسي."

فأجبتهُ وأنا أكاد أختنقُ من الضحك:

"نعم ولكنها تحملُ هراوة."  

انفصمتْ حلقتنا وابتعدنا عن المكانِ وفي داخلِ كلّ منّا قناعةٌ بكذبِ ما توصلنا إليه في نقاشنا حول المجتمعِ والجنسِ والمرأة.

ليلُ السفينةِ إبحارٌ في الزمانِ ببوصلةٍ صارمةٍ لا تشيرُ إلا إلى اتجاهين: الماضي والحاضر، ففي كلّ لحظةٍ تنتقلُ بنا نحو الماضي وتعود بأسرع من خاطرٍ يمرّ في الذهنِ لنجدَ أنفسنا محكومين بهذهِ الحركةِ البندولية. هنا ــ هناك، وما بينهما تقفُ الفكرةُ مجردةً ويقفُ العقلُ محايداً كأنّ الأمرَ لا يعنيه أو ربما يعنيه بزخمٍ أكبرَ من طاقتهِ على التوقفِ لتأملِ الأحداث، فيبدو مشلولاً يحاولُ النسيانَ تاركاً الحركة تحصيلَ حاصلٍ لقانونِ الفعلِ وردّ الفعل، ومن هنا يبدو للمتأملِ في حركةِ الأفرادِ بأنهم يتحركون بافتعالٍ واضحٍ، وكلّ منهم يحاولُ إما العودةَ إلى (هناك) بحنينٍ مبالغٍ فيه، وإما التشبثَ بالـ (هنا) برفضٍ مبالغ فيه للماضي.

بحثتُ عن عاشور فوجدته جالساً في ركنِ الصالةِ الكبيرة المضاءة بأجسادِ الصبايا الإيرانيات المتمردات على تقاليد الـ (هناك)، وحينما لمحني قادماً نحوه تناولَ كتابه المهملَ على الطاولة وراح يوهمني بأنه لم يكنْ مشغولاً بالتطلعِ إلى ما يدور في الصالة. لم أعرْ لارتباكهِ اهتماماً وحينما اقتربتُ منه وجدتُه يقرأ كتاباً بالإنكليزية. جلستُ جنبه فوضعَ الكتابَ على الطاولة  مقلوباً، وبقيَ صامتاً محركاً إبهاميه بحركةٍ دائريةٍ حول بعضهما. ولكي أكسرَ الصمتَ بيننا أشرتُ إلى حلقة الصبايا الإيرانيات اللواتي كنّ يرقصنَ في الجانبِ المقابلِ لنا، فافتعلَ الامتعاضَ والترفعَ على ما يشغلني ثم وبلهجةٍ عدوانيةٍ آمرة خاطبني:

" لا تتصرفْ كما يتصرف الآخرون!"

"وكيف يتصرف الآخرون؟ "

قلتُ بنفسِ لهجتهِ الساخرة فقال:

"إنهم يلهثون وراء عطر أنثى غبية، والكبت يلوح في عيونهم."

ولكي يخففَ من حدة كلامه استدركَ مازحاً:

"انظرْ إليهم ترَ عيونهم تدمع حيامنَ. "

"وأنا لا أختلف عنهم، فأنا أيضاً إنسان مكبوت لم يذقْ طعمَ امرأة في حياته، فأين العيب في ذلك؟ "

ثم أضفتُ بعد لحظة صمت:

"وللشهوة سطوة كبيرة على كلّ الكائنات الحية."

تطلعَ إلي مشنّفاً شفته العليا ودون أنْ ينطقَ بكلمة، تناولَ الكتابَ وراح يمثلُ دورَ المترفعِ عن مثل هذه الأمور. سادَ صمتٌ بيننا كأنّ كلاً منا ينصبُ فخاً للإيقاع بصاحبه، فمن بين الأمورِ الجديدة التي ظهرتْ منذ وصولنا إلى هذا المكانِ والتي أفرزها الشعورُ بالحرية هو التغييرُ الواضح الذي طرأ على سلوكِ عاشور، فقد أصبح أشدّ عدوانية وأكثرَ جرأةٍ بعرضِ عدوانيته والدفاع عنها دون مبررٍ مقنع، حتى أنه رفضَ السكنَ معي في غرفةٍ واحدة ظنّاً منه بأنه يستطيعُ الحصولَ على غرفةٍ وحده، وحينما علمَ بأنّ لابد له من أنْ يشاركَ الآخرين رضخَ للأمر على مضضٍ، محققاً عزلته بآراء غريبةٍ يعارضُ فيها أيّ قولٍ أو رأي أطرحه أو يطرحه غيري، غير أني كنتُ في أغلب الأوقات أتغاضى عن عدوانيته هذي، وأنظر إليه كأنه مراهق يحاولُ أنْ يحققَ ذاته بعيداً عن وصايا الآخرين.

نهضتُ من الكرسي، وقبل أنْ أبتعدَ رفع رأسه عن الكتابِ وسألني:

"أين؟"

فقلتُ ساخراً:

"أبحث عن امرأة تعيدني إلى الحياة. "

فارتفعَ صوته بضحكةٍ مفتعلة وقال:

"اسمعْ، اسمعْ ماذا يقول فرويد."

وقبل أنْ يعرفَ إنْ كنتُ راغباً في سماعِ ما سيقوله أم لا، راح يقرأ بصوتٍ عال:

 (The great question that has never been answered، and which I have not yet been able to answer despite my thirty years of in to the feminine soul، is What does a woman want.)

وعلى الرغم من أنه أدركَ بأني فهمتُ القولَ إلا أنه راح يترجمه لي بأستذةٍ مفاخراً بإتقانه اللغة الإنكليزية، وقبل أنْ يكملَ ترجمته قاطعته ساخراً:

"وهل عرفتَ أنت ما استعصى على السيد فرويد؟ "

تطلع إليّ بوجه لا يخلو من علاماتِ جنون هازاً رأسه ثم قال:

" نعم. "

جلستُ ثانيةً قبالته وقلتُ بسخرية:

"هات يا عبقري."

فقال:

"الخطأ في تفكيرِ فرويد هو أنه يعتقد بأنّ المرأة كائن مُفكِر. وهذا ما أوقعه بالتباسٍ حول طريقة تفكيرها أو سلوكها. "

" ........................... "

" المرأةُ فكرة. "

" ................ "

" نعم، إنها مجرد فكرة في ذهنِ الرجل. "

" ............................ "

"انظرْ إلى أولئك النساء!"

قال وأشارَ إلى الصبايا الإيرانيات اللواتي يرقصن. تطلعتُ إلى حيث أشار وسألته ببرود:

"ما بهن؟ "

فأجابَ:

"انظرْ! كلّ حركة من حركاتهن هي رسالة موجهة إلى الذكر، أو بالأحرى إلى الفحل، رسالة غواية. أما هن فليس لهن كيان مستقل."

حاولتُ أنْ أعترضَ على كلامه إلا أنّ حماسه في الحديث وارتعاش يديه جعلني أنظرُ إليه مشفقاً، فبقيتُ صامتاً أتطلع إليه. أغراه صمتي فقال:

"دعْكَ من فرويد اسمعْ ما قاله نيتشه، ثم راح يقرأ مقاطع من كتابِ (هكذا تكلم زرادشت) والذي كان يحفظُ منه مقاطعَ طويلة عن ظهرِ قلب:

"لقد مرتْ أحقاب طويلة على المرأة كانتْ فيها مستبَدة أو مستعبدة فهي لم تزلْ غير أهلٍ للصداقة، فالمرأةُ لا تعرفُ غير الحب. إنّ حبّ المرأةِ ينطوي على تعسفٍ وعماية تجاه مَنْ لا تحب، وإذا ما اشتغل بالحبّ قلبها فأنّ أنواره معرضة أبداً لخطفِ البروق في الظلام . "

صمتَ قليلاً ثم أضافَ:

" لم تبلغ المرأةُ بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرّة وقد تكون عصفوراً، وإذا هي ارتقتْ أصبحت بقرة. "

" بقرة!!! "

قلتُ باستهجانٍ فراحَ يؤكد:

" نعم بقرة. "

عندها تطلعتُ إليه بشزرٍ، وقبل أنْ يسترسلَ في حديثهِ قلتُ باستهزاء:

"يبدو أنّ هذا كلّ الذي استفدته من دراستكَ في حوزة قم."

ظهرتْ على وجههِ علاماتُ دهشة كأنه لم يفهمْ ما قصدتُ بكلامي فأضفتُ:

"تتحدث مثلما يتحدث رجال الدين الذين انتقدتهم في كتابكَ. "

"أي كتاب؟"

سألني وقد اصفرّ وجهه، فأجبته:

"كتابك عن الجلق والجلاقة، هل نسيت أم أنك تنكره؟"

تطلعَ إليّ بغضبٍ وقال:

" ا أدري عمّاذا تتحدث."

تطلعتُ إليه بذهولٍ ونهضتُ تاركاً المكان.

بعد مرورِ شهرٍ من وجودنا في سفينةِ الصليب الأحمر استدعينا للتحقيقِ النهائي الذي يحسمُ أمرَ وجودنا في البلد. نُقلنا إلى دائرةِ الهجرة وقد كنّا خمسة طالبي لجوء. جاء دوري للتحقيق بعد عاشور مباشرةً فلم يتسنَ لي الاستفسار منه عن طبيعة الأسئلة، إلا أنه أشارَ إليّ بعينيه إشارة تدلّ على أنّ الأمرَ لا يستحقُ القلق. فاجأني المترجمُ حالما دخلتُ الغرفةَ بسؤالٍ أعادني إلى فترةِ الدراسة:

"أليس أخاك الذي سبقكَ إلى التحقيق؟"

"لا."

أجبتُ مبتسماً فردّ عليّ كما كنتُ أتوقع:

"إنه يشبهك تماماً، كأنكما توأمان."

هززتُ رأسي متفقاً معه. راح يسألني عن مراحلِ رحلتي ومحطاتِ إقامتي منذ خروجي من العراق حتى وصولي إلى الدنمارك، وكنتُ كلما أبدأ الحديثَ عن مرحلةٍ يوقفني ويكملُ البقية هازاً رأسه بما يوحي بأنه يعرف أشياء كثيرةً عن رحلةِ وعذاباتِ العراقيين، ولم تكنْ أسئلته إلا لكي يتحققَ من صدقِ أقوالي. بعد تحقيقٍ قصير نهضَ ماداً إلي يده، مصافحاً، متمنياً لي إقامةً سعيدة في الدنمارك، فشعرتُ بأني سأحصلُ على حقّ اللجوء، ولم يكنْ يهمني نوع اللجوء إنْ كان سياسياً أو إنسانياً، حيث أنا نفسي لم أتطرقْ في التحقيق إلى أيّ نشاط سياسي سوى أني هارب من الخدمة العسكرية رافض الاشتراك في الحرب الدائرة بين العراق وإيران.

بعد خمسةَ عشر يوماً من التحقيق عُلقتْ على بابِ الإدارة قائمةً بأسماءِ اللاجئين الذين تمتِ الموافقةُ على طلبات لجوئهم، وكان اسمي واسم عاشور من بين الأسماء. كانتْ علاماتُ حزنٍ أو ضجرٍ وربما امتعاض تلوحُ على وجهِ عاشور على الرغمِ من الفرحِ الظاهرِ على وجهه وطريقة كلامه. لم أستطعْ في بادئ الأمر تخمينَ سببِ هذا الضجر أو الامتعاض، غير أني أدركتُ ذلك بعد التدقيق في القائمة، حيث تمّ توزيعنا بالقرعة على المدن الدنماركية وجاء نصيبنا في مدينةٍ واحدة. لا أخفي أنا أيضاً كنتُ أتمنى أنْ لا تكون إقامتنا في مدينة واحدة، فقد كنتُ أشعرُ برغبةٍ في التخلص منه انعتاقاً من الماضي الذي يرافقني مثل ظلي، بل ليس ظلاً وإنما حطام يسيرُ معي، خلفي، أمامي... شاهراً كرقيبٍ هراوته بوجهي كلما فكرتُ بالهربِ منه أو كضميرٍ يخزني بالتأنيبِ على كلّ هفوةٍ أو سلوكٍ لا يرتضيه.

في اليومِ التالي تمّ نقلنا إلى مدينة (Vejle) التي تقع وسط الجزيرة الكبرى من جزرِ الدنمارك وتبعد مسافةَ أربع ساعات بالقطار عن العاصمة. حينما بدأتِ الرحلةُ بالقطارِ، كنّا نحدقُ من النوافذِ بدهشةٍ أثارتْ انتباهَ المسافرين، فقد كانتِ الطبيعةُ على الرغم من الثلجِ الذي غطّى الحقولَ المتصلة بالآفاقِ لوحاتٍ لم نرها من قبل سوى في اللوحاتِ الفنية والبطاقات البريدية، وبين فترةٍ وأخرى يخترقُ القطار مدناً صغيرة ويتوقفُ في محطاتٍ فنرى المسافرين يدلفون إلى البوابات وقد سحبوا أعناقهم إلى أجسادهم والبخار يتطايرُ من أفواههم. صور لفتيات الإعلانات أو ممثلاتٍ كانت تزين جدرانَ المحطات فندلقُ ألسنتنا دهشةً وشهوة. بعد ساعةٍ من انطلاقِ القطار من محطة كوبنهاكن، توقفَ عند ميناء لاحتْ لنا أجزاء من بواخرَ راسية فيه. حاولَ موظفُ الصليبِ الأحمر الذي كان يرافقنا بصحبةِ موظفةٍ أخرى أنْ يوضحَ لنا الأمرَ مشيراً إلى الميناء بلغةٍ إنكليزية مبسطةٍ فراحَ أغلبنا يهزّ رأسه إشارةً إلى فهمِ ما يقال مدعين المعرفة باللغة. تحركَ القطار ببطءٍ مُحدثاً أصواتَ ارتجاجٍ فتكتّلنا على النوافذِ لنعرفَ سببَ الضجةِ حتى رأينا القطارَ وهو يدخلُ إلى جوفِ الباخرة. صرخَ أحدنا مذهولاً من هذا المشهدِ الغريب، ثم اكتشفنا أنّ قطاراً ثانياً كان يرقد في جوفِ الباخرة. أشارَ إلينا المرافقُ للنزولِ من القطار. سرنا خلفه نسقاً بطاعةِ مَنْ يجهلُ الطريقَ إلى المجهول. ارتقينا سلالمَ ضيقةً لنجدَ أنفسنا في عالمٍ ضاج بالمسافرين وهم يتحركون في جوفِ الباخرةِ الواسعِ متنقلين بين الأسواقِ والمطاعم. نساء شقراوات حررهنَّ الدفءُ من أسرِ معاطفهن فظهرتِ الأجساد طليقةً ببناطيلَ وكنزاتٍ ضيقة تكشفُ عن عري مستور لا يصعبُ على الرائي ذي المخيلة المبتدئة أنْ يزيلَ الحجابَ الشفّافَ ليندلقَ النهدُ بحلمته المنتفضة على صدرِ المتخيلِ وتمتدّ يده بعماها وبدونِ دليلٍ نحو شقّ الدرّاقة الشهيّة وقد زادها ضيقُ البنطلون حلاوةً في فمِ الجائع.

جلستُ على كرسي صغيرٍ عند نافذةٍ صغيرة ورحتُ أتأملُ حركةَ الباخرةِ وهي تشقّ موجاتِ البحرِ الهادئ متلصصاً بين حين وآخر على كلّ جسدٍ يقعُ في مدارِ نظري متحاشياً نظراتِ عاشور التي كانتْ تراقبني بنظراتِ عسسٍ لتصطادني متلبساً بالشهوةِ أو السَرَحان، وحينما لم يستطعْ راح يفتعلُ التجاهلَ لما يدهشني وأنا أراقبُ حركةَ البحرِ فأخرجَ كتاباً وراح يقرأ.

"ألا يثيرك السفر في الباخرة؟ "

سألته ببراءةٍ فأجابني دون أنْ يرفعَ رأسه عن الكتاب:

"أقدّرُ دهشتكَ لأنكَ تسافر بالباخرة لأول مرة، أما أنا فقد سافرتُ كثيراً من قبل... وأعرف البحر."

قال بادّعاء واضح، وقد كان يتوقعُ أنْ أسأله " متى " غير أني أحجمتُ عن السؤال كي أمنعه من التمادي بالادّعاء والنظر إلى دهشتي بترفعٍ، خاصةً وأني واثق من كذبِ إدعائه، فحتى لو كان فعلاً قد سافرَ في البحرِ فربما مرةً واحدة أو مرتين على أكثر تقدير. لم يطقْ صمتي فراح يحاولُ أنْ يجدَ منفذاً للحديثِ عن البحر، وهو يتحركُ على كرسيه بقلقٍ محاولاً لفتَ نظري إليه، ويبتسمُ كأنه يتذكرُ حكاياتٍ ومغامراتٍ سندبادية، ثم قالَ وهو يتطلعُ إليّ مبحلقاً، رافعاً حاجبيه حتى تجعدَ جبينه:

"السفر في البحر ممتع جداً وشاعري خاصة في الرحلات التي تستغرق أكثر من يوم فليالي الباخرة ممتعة بصخبها ومصادفاتها الجميلة وتترك في الذاكرة مشاهدَ لا تُنسى. "

هززتُ رأسي مجاراةً لانفعالهِ وتوسله لإصغائي فأضافَ:

"مرةً كنتُ مسافراً من الجزائر إلى مرسيليا لقضاء بضعة أيامٍ من إجازتي الصيفية هناك، ومن سوء حظي كان معي في الكابينة شاب جزائري ثرثار، ما أنْ عرفَ بأني عراقي وهاربٌ من نظام صدام حسين ورافض للحرب العراقية الإيرانية، وقتها كانتِ الحربُ في سنتها الأولى، لم يدعني أنام، حيث أنه راحَ يتحدثُ عن الثورةِ الإسلامية وعن الإمام الخميني بحماسةٍ  وإعجاب شديدين، ثم تحدثَ عن الصحوةِ عند الشباب الجزائري متوعداً الأرضَ بنارٍ تحرقُ مَنْ عليها من الكفارِ والفاسقين، وحينما وجدني مُصغياً إليه راح يحدثني عن الحياة الفانيةِ وعذابِ القبرِ ونارِ جهنم حتى شعرتُ بأنّ الموتَ أصبحَ قابَ قوسين أو أدنى منّا أو أنّ منكراً ونكيراً مسافران معنا على ظهر الباخرة. شعرتُ بالاختناقِ من حديثهِ فاعتذرتُ منه للذهابِ قليلاً كي أشمّ الهواء وقد كنتُ مصمماً على أنْ لا أعودَ إلى الكابينة إلا بعد أنْ أتأكد من أنه غارق في النوم... "

أشعلَ عاشور سيجارةً ونفخَ دخانها منتشياً فحسبتُ القصةَ قد انتهتْ إلا أنه وقبل أنْ أغيّرَ الحديث، استأنفَ كلامه بنشوةٍ:

"ذهبتُ إلى مطعمِ الباخرة وقد كان خالياً إلا من بعض المسافرين حيث كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ليلاً. أخذتُ من البار كأساً من الكونياك وجلستُ عند إحدى الطاولات بمواجهة البار. رفعتُ كأسي وقبل أن أقرّبها من فمي التقتْ نظرتي بنظرة سيدةٍ شقراء كانتْ تجلسُ عند البار، لم أرَها حينما أخذت كأسي. تطلعتْ إليّ ثم رفعتْ كأسها فحييتُها بهزّةٍ من رأسي وارتشفتُ من الكأسِ قليلاً وأعدتُها إلى سطحِ الطاولة، متشاغلاً بتصفحِ صحيفةٍ جزائرية، غير أنّ الفضولَ أو ربما شيئاً آخر غير الفضول راح يدفعني إلى اختلاسِ النظر إلى السيدة التي تركزتْ أنظارها علي. أنهيتُ كأسي وهممتُ بالنهوض إلا أنّ نظراتها المتوسلة بي جعلتني أغيّر رأيي فطلبتُ كأساً ثانية وقبل أنْ أدفعَ ثمنها أخبرني البارمان بأنّ السيدة دفعتْ عني وأشار إليها. هززتُ رأسي شاكراً وعدتُ إلى طاولتي. رفعتُ لها الكأسَ شاكراً كرمها بنخبٍ فحملتْ كأسها من البار وتوجهتْ نحوي. اعتذرتْ عن اقتحامِ عزلتي وسألتني أنْ كنتُ أمانع من أنْ تشاركني شرب الكأس فرحبتُ بها ناهضاً من كرسيي احتراماً حتى جلستْ إلى جانبي. مدتْ إليّ يدها معرّفة بنفسها:

ـ هيلين... فرنسية .

أخذتُ كفها وطبعتُ عليها قبلةً وأنا أتطلعُ في عينيها:

ـ آشور. "

انفجرَ عاشور بضحكةٍ عالية وهو يردد:

" نعم، آشور. "

شاركتُه الضحكَ، إلا أني لم أستطعْ مجاراةَ ضحكهِ طويلاً، فقد راحَ يبالغُ بإطالةِ ضحكتهِ وهو يردد اسمه بنرجسيةٍ، حتى أني تشاغلتُ عنه بالنظرِ إلى البحرِ وقد دبّ بي الضجرُ من إطنابه في الحديث. توقفَ عن الضحك وهو يمسحُ عينيه ثم واصلَ الحديث:  

"كانت ترتدي بنطالَ جينز ضيّقاً وقميصاً بلا أكمام يكشفُ جزءاً من نهدها وبفتحةٍ دائرية عريضة يكشفُ نصفَي الهالتين البنيتين المحيطتين بحلمتيها.

ـ جزائري؟

سألتْني كفاتحةٍ للحديث فأجبتُها:

ـ لا، عراقي.

ـ سائح؟

ـ بل هارب.

تطلعتْ إليّ بتوجسٍ فاستدركتُ الأمر:

ـ أعني سياسي هارب من النظام العراقي.

تنفستْ بتأوهٍ كأنها استعادتْ ثقتها بأنّ الجالسَ أمامها ليس مشرّداً أو من أصحابِ الجنحِ فرحتُ أقصّ عليها بسذاجةٍ طريقةَ هروبي من العراق ظنّاً مني بأنّ النساءَ الغربياتِ يعشقنَ قصصَ البطولة، غير أني كنتُ كأغلب الشرقيين واهماً. قاطعتني وهي تحاولُ أنْ تخفي شعورها بالمللِ من حديثِ السياسة والحروب وسألتني:

ـ ماذا يثير في نفسكَ السفر في البحر؟

تطلعتُ إليها محاولاً اتخاذ هيئةِ المفكر وقلتُ:

ـ في الحقيقة... إني أعشقُ السفرَ في البحر فأنه يثيرُ في نفسي السكينة والتأملَ كأني راحل إلى المجهول أو بالأحرى المطلق.

مسكتْ كفي بكلتا كفيها وقد أسبلتْ جفنيها بإغماضة سكرٍ أو نشوة وراحتْ تتحدثُ كأنّ الكلماتِ تقطرُ من شفتيها ببطء شديد:

ـ تعرف ماذا يثير البحر في نفسي؟

لم تنتظرْ أنْ أخمّنَ الإجابةَ فقالتْ:

ـ يثير بي الجنون.

فتحتْ عينيها ببطء وهي تنفخُ دخانَ سيجارتها إلى الأعلى بنشوةٍ واسترخاء ثم بدأتْ تحركُ ساقها بقلقٍ محتكةً بساقي بقصد إثارتي:

ـ البحرُ يثير في جسدي شهوةً لا يطفئها كلّ الرجال لو اجتمعوا. "

أدركتُ بأنها لم تأتِ إليّ إلا لأنها تبحثُ عن فحلٍ يُطفئ لها الآن شهوتها، فاستيقظتْ أعضائي وشعرتُ بأنّ قضيبي بدأ يفرزُ ماءَ شهوته، ولكي أخفي ارتباكي رفعتُ كأسي فرفعتْ كأسها وأفرغنا ما فيهما دفعةً واحدة. نهضتُ إلى البارِ وعدتُ بكأسين أخريين. وحالما جلستُ على كرسيي، امتدتْ يدها على فخذي ضاغطةً برسغها على موضعِ قضيبي الذي انتعظَ مهتاجاً، فأحطتُ كتفها بذراعي وقربتُ شفتيّ من رقبتها فأطالتها مُصدرةً آهةً خفيفةً وبغنجٍ أنثوي واضح. أدرتُ صفحةَ وجهها نحوي فقرّبتْ شفتيها مستسلمةً لشفتيّ الجائعتين مادةً لسانها تحركه في جوفِ فمي بارتعاشةٍ خفيفةٍ تخشبَ على أثرها جسدي وتسارعتْ نبضاتُ قلبي. امتدتْ يدي على عنقها هابطةٍ بتعجلٍ نحو أسفلِ نهدها ورحتُ أعتصره وهي تتأوه. أطلقتْ صرخةً مثيرةً وهي تقبضُ على قضيبي بكفها. امتدتْ يدي نحو فخذيها فأفرجتهما فاتحةً السبيل إلى النقطةِ الأبعد. تطلعتْ إليّ بعينين ذابلتين وقالت:

ـ خذني إلى كابينتك.

قلتُ لها:

ـ لا أستطيع، ففيها رجل لو رآنا معا لفجّر الباخرة بمَنْ فيها.

لاحتْ على وجهها خيبةُ أمل. صمتتْ ثم قالتْ:

ـ تعال إذن إلى كابينتي.

حينما دخلنا كابينتها وجدتُ رجلاً نائماً. تراجعتُ قليلاً فراحتْ تحثني إلى الدخول مشيرة إليّ بصمتٍ وبحركاتٍ تشيرُ إلى نفادِ صبرها، غير أني رفضتُ وبقيتُ واقفاً في الممر، وحينما يئستْ من استدراجي، عادتْ وهي ترددُ بحسرةٍ وقد راحتْ أمواجُ الهياجِ والهوس تتلاطمُ في وجهها وجسدها:

ـ كنتُ أريدكَ تنيكني في وجود زوجي.

ثم أضافتْ:

ـ الخنزير لقد أفرطَ في الشرب منذ الساعات الأولى من الليل وانهمد كميتٍ.

بقيتُ مصرّاً على رفضي واقترحتُ عليها أنْ نمارسَ الحب على سطح الباخرة. راقتْ لها الفكرةُ مادحةً فطنتي، وحينما صعدنا إلى السطح وجدنا عدداً من السكارى قد انتشروا عليه، وما أنْ رأونا حتى ارتفعتْ أصواتهم مستفزةً، فعدنا هاربين متحاشين الاصطدام بهم. كانتْ تسيرُ أمامي بجنونٍ وهياج كأنها تبحثُ عن أيّة زاويةٍ مظلمة نقضي فيها وطرنا. توقفتْ قليلاً ثم صرختْ:

ـ وجدتها.

مسكتْني من ذراعي وراحتْ تسحلني كطفلٍ أو كخرقةٍ بالية فانقدتُ إلى مشيئتها دون اعتراضٍ، على الرغم من أني لا أعرفُ الوجهة التي تقودني إليها. لم تتركْ لي فرصةً للاعتراض حينما دفعت بابَ التواليت ودخلتْ. أحكمتْ وضعَ سلسلةِ الرتاج. فتحتْ زنارها بيدين مرتعشتين تاركةً بنطالها ينزلقُ على جذعها ليستقرّ عند قدميها ثم قرفصتْ على الأرض متشبثةً بي وهي ترتجّ شبقاً وقد ارتفعَ صوتُ تنفسها كفحيحِ أفعى. سحبتْ سحّابَ بنطالي، قابضةً على أيري وراحتْ تمصه بجنونٍ وتلحسه من الأسفلِ إلى الأعلى ويدها الأخرى تحفر في أسفلها. "

توقفَ عاشور عن الحديث لكنّ شفتيه كانتا ترتعشان وهو يطوحُ بذراعيه في الهواءِ بشكلٍ ملفتٍ للانتباه. حاولتُ أنْ أثنيه عن مواصلةِ الحديث، إلا أنه كان في غيبوبةٍ كأنه لم يشعرْ بوجودي أو كأنه يمارسُ العادة السرية في مخبأ، ثم فجأةً تغيرتْ ملامحُ وجهه وطريقةُ كلامه حيث ازدادتْ سرعته كأنه قد أوشكَ على القذف:

" رفعتها من كتفيها ودرت ظهرها إلي. دفعتها شويه عالحايط وبعدين طوبزتها، كان راسها متدندل بفتحة المرحاض، قرّبت عيري من كسها، حكيته عليه نشغت بعدين دخلت راسه شويه شويه، مسكتها من خصرها بأديّ الاثنين ودفعته كله بكسها، كله للخصيان فصرختْ أخخخ .. عيرك كبير حبيبي.. عيرك كبير.. نيجني بيه.. نيجني.. اشتهيه.. نيجني.. نيجني حيل.. نيجني.. أنا ملكك.. نيجني.. أنا كحبتك.. أنا عبدتك.. نيجني.. أرجوك نيجني.. أنت سيدي.. أنا خادمتك.. نيجني.. أعبدك.. أنت إلهي.. عيرك طيب.. دخله كله.. أحبه.. نيجني.. شك كسي.. نيج طيزي .. ذلّني.. أحبك.. أشتهيك.. جانت تفرك بكسها وآنه أنيجها بقوة وهي تصرخ حتى جبيت بكسها وهي هم جبتْ. التفتت إلي وراحت تلحس عيري بلسانها وتبلع مايه شعرت بدوخه انتجيت على الباب وهي تمص عيري.. سحبته من حلكها كامت.. حصرتني بزاوية التواليت وراحت تبوس صدري وتلحس حلماتي.. دفعتها ووقفت عند فتحة التواليت.. جانت تباوع على عيري وآنه أبول.. مسكته بيدها.. سحبتني من عيري تطاير بولي على وجهها.. وراحت تمصه والبول يفيض من حلكها.. جنت أباوع على وجهها وهي تمص عيري.. تخبلت.. كام عيري مرّه ثانيه بحلكها.. راحت تمصه وتلحسه.... "

لم أستطعْ تحملَ سماعِ المزيد فنهضتُ من الكرسي متذمراً وغادرتُ المكان تاركاً عاشور وقد استبدّ به جنون غريب كأنه لا يستطيعُ السيطرةَ على لسانه فينفلتُ الحديث رغماً عنه، داعكاً وجهه براحتيْ كفيه بحركةٍ تدلّ على الارتباكِ أو على وشكِ الانهيار.

انقضتْ ساعةُ الإبحار ووصلتِ الباخرة إلى ميناء جزيرة (فين). أشارَ إلينا موظفُ الصليب الأحمر ثم سارَ أمامنا حتى اتخذنا أماكننا في القطار الذي ما لبثَ أنْ تحركَ خارجاً من جوف الباخرة إلى الجهة الثانية.

جلسَ عاشور أمامي منهكاً كأنه قد أفرغَ توتّر جسدهِ كلّه بمضاجعةِ الخيبةِ أمام سيدها القهرِ المستبدّ الجالسِ على عرشِ النفس والعقل. كان يتحاشى النظرَ إليّ كمَنْ ينظر إلى وجههِ في المرآة بعد الاستمناء. غطّى وجهه بجريدةٍ وافتعلَ النوم، فرحتُ أتطلع إليهِ باحثاً في غورهِ عن البراءةِ المنكسرة العينين التي استدرجها قوّاد الحرمانِ إلى دركِ الوهم، ولا أدري إلى مَن سوف يسلّمها من بعده، أإلى الجنونِ أم إلى الانتحار؟ وفي أيّ ماخورٍ سيكون مصيرها؟.

ما لفتَ نظري في حديث عاشور وأثارَ دهشتي، هو أنه يعلمُ جيداً بأني أدركُ كذبَ الحكاية التي رواها لي.

"ولكن هل نسيَ بأنه قبل بضعة أيام قد أباحَ لي بأنه لم يلتقِ امرأةً في حياته."

رددتُ مع نفسي فشعرتُ نحوه بالشفقة، حيث أني كنتُ أدركُ تماماً أنّ عاشور لم يعدْ ذلك الصديقُ الذي كان يبالغُ بالعفّة وانتقاء أكثر الكلماتِ تهذيباً في حديثه، وهذه الصفةُ قد لازمته منذ الطفولة فقد كان يثيرُ سخريةَ التلاميذ حينما كان يتحدثُ بلهجةٍ أقرب إلى الفصحى وقد تنبأ له أستاذ اللغة العربية بمستقبلٍ أدبي كبيرٍ، فهو إضافة إلى تفوقه العلمي، كان متفوقاً بدرس الإنشاء والمطالعة، ويحاججُ الأستاذَ في قواعد اللغة العربية، وهذه الميزة التي كانتْ تجمعنا هي التي أنبتتْ وأنضجتِ الغيرة في نفسينا، وهي التي جعلتِ المعلمين لا يفرقون بيننا. لم أسمعْ عاشور مرةً تلفظ بكلمةٍ تخدش الحياء، بل كان التهذيبُ في اللغة حجرَ الأساس في بناء علاقاته. مرةً سمعني أقول عن شخصٍ " منيوك " هاج غضبه، تركني ومضى ولم يتحدثْ معي إلا بعد أن أقسمتُ أمامه بأنها زلة لسان ولن أعيدها ثانية.

وصلنا مدينةَ (فايله) عصراً وتمّ إسكاننا في منزلٍ كبير بطابقين يقعُ وسط غابةٍ واسعة. هناك التقينا ببضعةِ عراقيين سبقونا إلى هذا المكان. كان من بينهم أشخاص التقينا بهم في معسكراتِ اللجوءِ الإيرانية. جاءوا مرحبين بنا موضحين لنا بجملٍ قصيرة  ما خبروه في الأشهرِ القليلة منذ وصولهم إلى هذه المدينة، وما سوف نحتاجه في الأيام الأولى، وكان من بينهم مَنْ اصطحبَ معه فتاةً دنماركية، جاء ليعرّفنا بها وبطريقة لا تخلو من زهوِ مراهقةٍ واستعراضِ فحولة أمام القادمين الجدد.

كانت الخطوةُ الأولى للحريةِ والتفردِ حينما تمّ توزيعنا، كلّ فرد في غرفةٍ مستقلة ومجهّزة بسريرٍ عريضٍ وطاولة، وحصلنا على أدواتِ مطبخٍ وما يلزمنا من فرشٍ وبطانياتٍ وشراشفَ إضافة إلى راتبٍ شهري. خرجنا إلى المدينة لشراء حاجاتنا الضرورية من خبزٍ وبيضٍ وسكّر وشاي وعدنا سريعاً مؤجلين المغامرة إلى الأيامِ القادمة بعد أنْ نتعرفَ على طرقِ وأزقةِ المدينة.

دخلَ عاشور إلى غرفتهِ وأغلقَ البابَ خلفه، كأنه يودّع آخر لحظاتٍ تجمعه بالآخرين. ولم أره إلا في صباحِ اليوم التالي في المطبخ المشترك، حيث كان يعدّ لنفسه فطوراً من البيضِ المقلي والشاي. تطلعَ إليّ كأنه يعلنُ انتصاره على قدرهِ بالانفصالِ عن هذا التوأمِ السيامي الذي ارتبطَ به ثلاثين عاماً. كنتُ متألماً لطريقةِ تصنعهِ الابتعاد عني على الرغم من أني كنتُ أشعر بالفرحِ لتحرري من عبئهِ الذي كان يثقلني ويشلّ حركتي بمزاجهِ المتقلّبِ وحساسيتهِ المفرطة التي تمثلتْ بالمبالغة في سوءِ الظنّ والعدوانية.

في المساءِ دعانا جبار الثوري كما كان يُطلقُ عليه لحفلةِ تعارفٍ، فتجمعَ كلّ العراقيين المقيمين في المنزل في غرفتهِ التي اختارها الأوسعَ والتي تطلّ نافذتها على الطريق الترابي الذي يقطعُ الغابةَ ولم يزاحمه أحد عليها، فقد كانَ كما يبدو موضعَ احترامِ الآخرين لكبرِ سنّه ونزعتهِ القيادية. لبّى عاشور الدعوةَ على مضضٍ بعد إلحاحٍ مني ومن الآخرين كي نتعرفَ نحن القادمين الجدد على طبيعةِ هؤلاء العراقيين الذين سنقيمُ معهم في هذه المدينة التي شكّلتْ لنا نقطةَ النهاية في رحلةِ النفي، أو (إيثاكا) كما أسماها عاشور. تراصَّ الجالسون على الصوفة والأرضِ وامتلأتِ الطاولة بقناني البيرة وصحونِ الباقلاء المسلوقة وغامتِ الرؤيةُ بسببِ كثافةِ دخانِ السجائر. ضربَ جبارُ الطاولةَ بقبضتهِ فصمتَ الجميعُ متطلعين إليه. اعتدلَ بجلستهِ، متخداً هيئةَ قائدٍ عسكري أو شيخِ عشيرة وقور. بدأ حديثه مرحِباً بالقادمين الجدد ثم راح يعرّفنا بالموجودين كأنه رئيس عصابةٍ أو حزب، مبتدئاً بنفسه:

" جبّار الثوري. "

توقفَ قليلاً ثم أضافَ بزهو:

" شيوعي قديم من جماعة القيادة المركزية. "

أنتظرَ قليلاً كي يرى ردودَ الفعلِ على كلامه، وربما كان يظنّ بأننا لم نفهم ماذا تعني (القيادة المركزية) فاستدركَ:

" يعني من جماعة الكفاح المسلح.. يعني من جماعة عزيز الحاج. "

هززنا رؤوسنا مصطنعين الإعجابَ والاحترامَ ولاحتْ على وجهِ عاشور الجالسِ في الركنِ أمامي ابتسامةٌ أعرفُ مغزاها. توقفَ جبار قليلاً محدقاً في وجوهِ الجالسين كأنه يختبرُ مدى تصديقهم لصدقِ ثوريته، أو كأنه يريد أنْ يعرفَ بحدْسِ الثوري إنْ كان من بيننا من هو خائن أو متآمر، ثم راحَ يشيرُ إلى الآخرين بترفعٍ:

" علي القيّار. "

نطتْ مني ضحكةٌ وأنا أرى أمامي شاباً نحيفاً وخجولاً فحسبتُ أنّ هذه التسميةَ للسخرية، فهو أبعد ما يكون عن (علي القيّار) بطلِ العراقِ والعالمِ بكمالِ الأجسام خلال فترة الستينات، غير أنّ الموما إليه كان يبدو سعيداً باللقب.

" حجي تبسي. "

رجلٌ تجاوز الأربعين علمتُ بعد ذلك أنّ لمنحهِ هذا اللقب قصةً، لا تستحقُ على أيّة حال أنْ أفردَ لها صفحةً في كتاب.

" أبو حيدر بهارات. "

تطلعنا إليه فنفخَ صدره معلناً:

" أخوان.. باجر ريوقكم عندي تشريب باجه. "

فهززنا له رؤوسنا شاكرين.

" كاك نوزاد... عفواً ماموستا نوزاد. "

" أبو برافدا الديمقراطي.. مسؤول الحركة الديمقراطية العراقية في الدنمارك. "

رجلٌ في الخمسين من عمرهِ يرتدي نظارتين بزجاجٍ سميك كان متكوّراً على نفسهِ وقد وضعَ على ساقيه رزمةً من صحفٍ وأوراق.

 " خميس كازونوفا. "

شابٌ ضعيف ودميمُ الوجه بشعرٍ أسودَ برّاق يكادُ الزيتُ يقطر منه، وقد لاحتِ القشرةُ على مفرقهِ وعلى ياقةِ قميصه.

" كيف أصبح كازونوفا يا ترى وهو الذي يشبه أبو بريص؟ "

رددتُ مع نفسي بسخريةٍ وحينما وقعَ نظري على عاشور وجدتُه مبتسماً فقد أدركَ ما كنتُ أفكر فيه.

" رضا الخطاط. "

قال جبار الثوري وهو يشير بيدٍ إلى الشابِ الجالسِ إلى يمينهِ وبيدهِ الأخرى إلى لوحةٍ كبيرة معلقة على الجدار، خُطّ عليها بخطّ الثُلث اسم جبار الثوري فكانتْ زخرفةً جميلة بحق.

" عبد الزهره الشيخ خنجر... شاعر شعبي مشهور... ومناضل في صفوف حزب الدعوة الإسلامي. "

وقبل أن يشير إلى الشخصِ الآخر عاد جبار وكأنه تذكر أمراً مهماً، تجاهلُه يُنقصُ من هيبةِ السيد عبد الزهره.

" عفواً.. الأستاذ عبد الزهره أشهر رادود حسيني في قضاء الشطرة. "

بدأ الملل واضحاً على وجوهِ الحاضرين وأدركَ جبار ذلك فراحَ يعدد الأسماءَ دون إطنابٍ في التعريف:

" جابر الشلولو. "

" كاظم لصقه. "

" أدورد يوحنا. "

همسَ الجالسُ جنبي بكلمةِ " نزّاح " . التفتُّ إليه بغضبٍ فطأطأ رأسه خجلاً.

" كاكا كاميران. "

" حامد دولار. "

توقفَ جبار قليلاً ثم أشارَ إلى الشخصِ الجالسِ عند الباب:

" وأخيراً وليس آخراً الرفيق جاسم التمساح. "

تطلعنا إليه، وفي لحظةٍ واحدةٍ انفجرَ الجميعُ بالضحك، حيث أنه الوحيدُ الذي تنطبقُ عليه الصفة تماماً فوجهه كان أسمرَ محفوراً بآثارِ حَبّ الشبابِ ودماملَ وثآليل. لم يتوقفِ الضحكُ إلا حينما ارتفعَ صوتُ جبار الثوري وهو يشيرُ إلى أخوين يقيمان في المنزلِ ولكنهما لم يحضرا الاجتماعَ بسببِ سفرهما إلى مدينةٍ قريبة، عندها انفجرَ عاشور بضحكةٍ عالية فانشدّتْ إليه الأنظار لمعرفة أسباب ضحكهِ، فقال موجهاً كلامه إلى جبار:

" أكيد إنهما شعيط ومعيط. "

عاد الجميعُ إلى الضحك إلا عاشور الذي تحولَ ضحكُه إلى تشنجاتٍ وارتعاشةٍ في شفتيه كأنه سينفجرُ بالبكاء.

رفعنا كؤوسنا بصحةِ العراق وارتفعَ اللغطُ والغناء، كأن كلّ شخصٍ من الجالسين كان أخرس وفجأةً حُلتْ عقدة لسانه، غير أنّ الرفيقَ جبار لم يتركْ لأحدٍ مجالاً للحديثِ فهذي فرصته الذهبية وهو الأولى بها طالما هو صاحبُ الدعوة وهو القائد، فراح يقصّ علينا حياته النضالية في الأهوارِ وفي المعتقلاتِ والمعاركِ التي خاضها بين أحراش وبردي الأهوار مردداً بين لحظة وأخرى أبياتاً من شعرِ رفيقِ نضالهِ الحميم مظفر النواب، متأوهاً بتصنعٍ على تلك الأيام الرائعة، شاتماً الخونة الذين أجهضوا التجربة.

قناني البيرة تُفرغ وتُستبدل سريعاً ومنحنى الحديث يرتفعُ متعرجاً كخطى السكرانِ، ومساراتُ الأحاديث تتقاطعُ في ما بينها. سمعنا قصصاً ثوريةً عن جبار تختلفُ تماماً عن قصصِ بطولاتهِ في الأهوار، فقد رويَ لنا على مسمعٍ من جبار وزهوهِ حكايةَ اغتصابهِ للعجوزِ التي كانتْ تعملُ في تنظيفِ المنزل وعن غاراتهِ النهارية التي كان يشنّها على الأسواقِ والمحلاتِ التجارية والطرقِ المبتكرة في السرقة، ولأنه لا يعرفُ كلمةً واحدة من أيّةِ لغة فقد كان يذهبُ إلى البارِ مُدعياً بأنه أخرس، عسى أنْ يحوزَ على شفقةِ امرأة تهديهِ جسدها ليلةً، وقد نجحتْ خطته مرةً وجاء بامرأةٍ، لكنّ لسانه انطلقَ أثناء المضاجعةِ وافتضحَ أمرُه فهربتِ المرأةُ من تحته خائفةً قبل أنْ يُتمّ مهمته. ارتفعَ الضحكُ فنهضَ جبار الثوري واقفاً في منتصفِ الغرفة ليمثلَ المشهد:

" قلتُ لها أنتِ شعليك بلساني مادام عندي لسان ثاني. "

فسأله أحدهم:

" وشلون قلت لها وأنتَ ما تعرف لغة؟ "

فأخرجَ جبار لسانه وأشارَ إليه، ثم قال:

" this no ، this yes  "

وأشارَ إلى قضيبهِ.

انتشرَ في فضاءِ الغرفة دخانٌ غريبُ الرائحة. تطلعتُ إلى عاشور فرأيتُه قد أسندَ رأسه إلى الجدارِ ماسكاً بيده سيجارةً أكثر من نصفها رماد يقاومُ السقوط، يمتصّها بنشوةٍ ويُبقي الدخانَ في صدرهِ لفترةٍ طويلة فأدركتُ بأنه يدخنُ حشيشة. ارتفعتِ الأصواتُ بأغنياتٍ عراقية، وشاركَ الجميعُ بالغناءِ أو التصفيق، عندها نهضَ عبد الزهره الشيخ خنجر وهمّ بالخروج فأوقفه جبار:

" وين رايح يمعود القعدة بعدها بأولها. "

بحلقَ عبد الزهرة بعينين ذابلتين وقال وهو يمسّد لحيته بورعٍ:

" يا جماعة والله ما أدري ليش دخت. "

فردّ عليه جبار الثوري:

" مولانا ليش دخت وأنت ما شربت غير بطل كولا. "

اهتزّ جذعه نحو الخلفِ والأمام وقال بتلعثم:

" واللهِ.. ما أدري.. ليش.. راسي.. يفتل. "

سارَ خارجاً، وعند الباب عثرَ فارتطمَ رأسُه بالجدارِ فارتفعَ الضحك. وحينما غادرَ الغرفة قال أحدهم:

" داخ من دخان الحشيشة. "

جبار الثوري، علي القيّار، حجي تبسي، أبو حيدر بهارات، ماموستا نوزاد، أبو برافدا الديمقراطي، خميس كازونوفا، رضا الخطاط، جابر الشلولو، كاظم لصقه، أدورد يوحنا، كاكا كاميران، حامد دولار، جاسم التمساح ......

وجوهٌ مطموسةُ المعالمِ تدورُ في فضاء الغرفة وتتداخلُ في ما بينها مشكّلةً لوحةً سوداء.. لوحةً لم أستطعْ أنْ أجدَ لها عنواناً فاستعنتُ بفطرةِ عاشور:

" شعيط ومعيط. "

تطلعتُ إلى عاشور ففتح عينيه بصعوبةٍ:

" شعيط ومعيط . "

قالَ وانفجرَ بضحكةٍ قوية لم ينتبه لها أحد سواي. راح يضحكُ.. يضحكُ.. حتى تشنّجَ فكّاه فلم يعد قادراً على إيقافِ ضحكته ثم تحولَ ضحكه شيئاً فشيئاً إلى اختناقٍ وحشرجاتٍ ثم إلى صراخ حادٍ وبكاء. نهضتُ إليه فاستسلمَ لذراعي دون إرادة. حملته إلى غرفته. كان جسده يرتعش بين ذراعي. وضعتُه في فراشهِ وقبل أنْ أطفئ الضوءَ وأغادر الغرفة عدتُ لأطمئنَ عليه. تطلعتُ إلى وجهه، كانتْ دمعتان تسيلان من زاويتي عينيه نحو صدغيه، وصوتُ أسى شديد يقرقرُ في روحه. مسحتُ دمعتيه بطرفِ البطانية غير أنهما لم تكونا دمعتين بل كانتا جدولي حزنٍ ينحدران نحو قاعِ الروح.

كنتُ أظنّ بأنَّ عاشور بعد ليلةِ الأمس سيعلنُ عزلته التامة، غير أني وجدتُه ومنذ العصرِ يتحرقُ إلى جلسةٍ مع بقيةِ النزلاء. عرفتُ بعد ذلك بأنه يريد أنْ يدخنَ الحشيشة مرةً أخرى:

" عاشور!! هذا طريق خطر، لا تضعْ رجلك على بدايته. "

قلتُ محاولاً أنْ لا أكونَ واعظاً، غير أنه أجابني وبتوسلٍ غريب:

" اتركني أرجوك، أنها ممتعة وفيها أنسى وجودي. "

رضختُ إلى عنادهِ دون نقاشٍ لأني أعرفُ أنَّ إلحاحي سيزيد من إصراره على المضي في هذا الطريق الذي يكتشفه للمرةِ الأولى ووجدَ في سيجارةِ الحشيشة إيقاعاً يؤنس صمتَ عزلته، حتى أنه اتخذَ من كاظم لصقه صديقاً حميماً لأنه يوفّر له ما يريد. وصارتِ الحشيشةُ ملاذه ومتعته الوحيدة ولم يعد يخرجُ من المنزل إلا نادراً فقد كان أغلب الأحيانِ يوصيني بأن أجلبَ له ما يحتاج من حاجيات ضرورية. مرة واحدة ذهبَ معنا إلى مدرسةِ تعلمِ اللغة الدنماركية غير أنه غادرَ بعد الحصّةِ الأولى ولم يعد بعدها إلى المدرسة، وحينما دعاه المشرفُ الاجتماعي إلى لقائه لتوضيحِ أسبابِ غيابه، أخبره بأنه لا يطيقُ الاختلاطَ مع بقيةِ اللاجئين كما أخبرني هو بذلك، وكما يبدو فقد كانتْ حجةً مقنعةً للاجئ قادمٍ من بلادِ السجونِ والحروبِ والقمع، فقد حازتْ رغبتُه على تفهمٍ وتعاطفٍ من قبل المشرفِ الاجتماعي وقد ساعده في ترسيخِ صدقِ ادعائه إجادته للغةِ الإنكليزية وثقافته الواضحة وأسلوبه البالغ التهذيب، وهذا ما جعلَ المشرفَ يعامله باحترامٍ واضحٍ ويزوره في غرفته، وهذا ما يحدثُ نادراً مع بقية اللاجئين، حتى أنه ساعده بشكلٍ غير مألوف بالإلحاحِ على شركةِ السكنِ للحصولِ على شقّةٍ سكنيةٍ في مركزِ المدينةِ بأسرع وقت، وهكذا انتقلَ عاشور للسكن وحده في شقّة ولم يمضِ على وجودنا في المنزلِ سوى ثلاثة أشهر، حدثتْ خلالها أمور كثيرة. فكما ذكرتُ بأنّ عاشور ومنذ اليوم الثاني لوجودنا في المنزل صار يحضرُ كلّ ليلةٍ إلى غرفةِ جبار الثوري أو كاظم لصقه وهناك يجتمعُ أغلبُ نزلاء المنزل يشربون ويدخنون الحشيشة، حتى جاء اليوم الذي كنتُ أتوقعه وقد كنتُ جالساً معهم، فبعد أنْ أنهى القنينة الخامسة راح يدعكُ وجهه براحتيه، ثم نهضَ خارجاً من الغرفة فناداه جبار الثوري:

" ها وين أبو صُفر؟ "

تطلعَ إليهِ عاشور وهو يترنحُ ثم أجابه وهو يشيرُ إلى كلّ الجالسين:

" يقول نيتشه: اهربْ يا صديقي إلى عزلتكَ لقد طالتْ إقامتكَ قربَ الصعاليكِ والأدنياءِ لا تقفْ حيث يصيبكَ انتقامهم الدساس وقد أصبح كلّ همهم أنْ ينتقموا منكَ لا ترفعْ يدكَ عليهم فأنّ عددهم لا يحصى وما قُدّر عليكَ أنْ تكون صياداً للحشرات إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة ولكم أسقطتْ قطراتُ المطر وطفيلياتُ الأعشابِ من صروحٍ شامخات. "

صرخَ جبار:

" الله الله يا فيلسوف، تعال سمّعنا من عبقريتك. "

تطلعَ إليه عاشور وعيناه شبه مغمضتين ثم قال: 

" شنو.. خو.. مو.. حسبالكم.. أنا منحط.. مثلكم. "

نطتْ ضحكة من جبار وهو يردد:

" خرب عرضك عاشور، بشرفي أنت رائع. "

توقفَ عاشور وهو يهرشُ شعرَ رأسهِ ثم أضاف:

" آني ما أمزح.. أنتم تافهين.. رعاع .. أغبياء ... "

وراح يكررُ الجملةَ عدة مرات، وحينما تأكدَ الجميعُ بأنّ عاشور لم يكنْ مازحاً وذهبتِ الدهشة التي أصابتهم من انقلابِ عاشور المفاجئ، هبّ جبار غاضباً ومسكَ بخناقِ عاشور، وقبل أنْ يهوي عليه بقبضته، هجمتُ عليه حائلاً بينه وبين عاشور الذي انكمشَ على نفسه خائفاً، بينما راحَ الآخرون يهدّئون من غضبِ جبار وثورته. سحبتُ عاشور من ذراعهِ وأوصلته إلى غرفته، وقد كان صوتُ جبار مرعداً متوعداً يصلُ إلينا في الطابق الثاني.

بقيَ عاشور مقيماً في غرفته لا يغادرها إلا إلى المطبخ متحاشياً الاحتكاك بجبار الثوري وكنتُ أزوره في غرفتهِ كل يومٍ للاطمئنان عليه، وفي كلّ مرةٍ أخرج من غرفته، كنتُ أردد مع نفسي بحيرةٍ:

" عاشور.. مَنْ أنتَ؟ ولماذا كلما كرهتكَ أحببتكَ أكثر؟. "

غير أنه لم يكنْ يشعرُ بما أشعرُ به أو ربما كان يحاولُ إخفاء مشاعره الحقيقية نحوي، فقد اكتشفتُ أنه في لحظة ما لم يعد قادراً على ضبط أعصابه فتفلتْ منه كلماتٌ لا يعنيها أو ربما يعنيها في تلك اللحظة ثم سرعان ما يعود إلى رشده معتذراً. فبعد أنْ ابتعدَ عن الاحتكاكِ بكل المقيمين في المنزل وجدَ نفسه وجهاً لوجه معي فكانتْ تأتيه لحظات ينقلبُ فيها فجأةً ويبوحُ بعدوانيةٍ لا مبرر لها، وعلى الرغم من أني أحاول جهدَ إمكاني استيعابه والتعاملَ معه كصديقٍ بل توأم لروحي إلا أني لم أعد أطيقُ رؤية وجهه وهو يغضبُ لسببٍ تافه، ولا للحظات صحوته حينما يأتي إليّ معتذراً بوجهِ طفلٍ يعترفُ بالذنبِ الذي اقترفه متسولاً مسامحتي، حتى انفجرتُ يوماً بغضبٍ:

" عاشور لازم تروح لطبيب نفساني. "

تطلعَ إليّ جافلاً وقد لاحتْ على وجهه علامةُ حزنٍ وبرقتْ دمعتان في عينيه فرحتُ أخففُ من وطأة كلامي موضحاً له بأني لا أريد إلا مصلحته:

" لا أعني أنك مجنون فلا تنظرْ إلى الموضوع على أنه أمر معيب فنحن العراقيين كلنا بحاجة إلى طبيب نفساني. "

هزّ رأسه موافقاً غير أنه تناسى الأمرَ ولم أعدْ لتذكيرهِ به حتى جاءتْ تلك الليلة التي لم أعد أحتملُ مزيداً من الصبر.

عدتُ إلى غرفتي من البارِ بعد منتصفِ الليل وكانتْ معي فتاة دنماركية. مررتُ بغرفةِ عاشور بهدوءٍ كيلا أوقظه. وبعد رحلةِ صمتٍ تخللها صراخٌ جسدي وأنّاتٌ مخنوقة، لا تخترقُ الجدارَ ولا يسمعها إلا مَنْ ألصقَ  أذنه على الجدار وراح يصغي عمداً إلى صراخِ الشهوةِ، خرجنا إلى الحمام وعدنا على أطراف أصابعنا فسمعتُ خطواتِ عاشور وهو يذرعُ أرضَ غرفته. وكما هو حال المترعِ بالنشوةِ راحتِ الفتاةُ تعبرُ عن سعادةِ جسدها بضحكاتٍ مرحةٍ، وكنتُ أجاري ضحكها متناسياً الأرضَ ومَنْ عليها. طُرقَ بابُ غرفتي بقبضةٍ عنيفة فأسرعتُ إلى فتحهِ بعد أنْ وضعتُ منشفةً على نصفي السفلي. كان عاشور يقفُ ملتصقاً بالباب. نظرتُ إليه مستهجناً تصرفه فتطلعَ إليّ بسخريةٍ من قدمي حتى رأسي وهو يفتعلُ قهقهةً هازاً كتفيه، ثم قال بغضب:

" قلْ لعاهرتكَ إنْ تخفضَ من صوت ضحكاتها... أريد أن أنام. "

لم أجبه بسوى نظرة حزنٍ أو رثاءٍ لحاله. لم يأبه لنظرتي على الرغم من ثقتي بأنه يدركُ مغزاها جيداً. سارَ بضعَ خطواتٍ نحو غرفته ثم عاد إليّ:

" أما أنتَ يا سخيف فغداً لي معك حساب. "

في اليوم التالي التقيتُ به في الممر فتجاهلته، لكنه أوقفني مطأطئاً رأسه فلم يتركْ ضعفُه أمامي وسيلةً لنهرهِ أو إبداءِ قسوة عليه. أعتذرَ عمّا بدرَ منه أمس بطريقةٍ نصفها اعتذار ونصفها الآخر عتب.

" كنتُ أظنك أكبر من هذا. "

قال لي فتطلعتُ إليه مستغرباً مما أسمعُ:

" ماذا تعني؟ "

فأجابَ بلا تردد:

" يقول نيتشه: رأيتُ رجلاً وقوراً فحسبتُه بالغاً من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكني رأيتُ امرأته بعد ذلك فلاحتْ لي الأرضُ كأنها مأوى المجانين. أودّ لو تميد الأرضُ بي عندما أرى رجلاً فاضلاً يتخذ له زوجةً حمقاء. "

تركته ومشيتُ ثم أغلقتُ باب غرفتي.

انتقلَ عاشور إلى شقّته، وقد أثارَ حصوله على شقّةٍ بهذه السرعة تساؤلات بين العراقيين المقيمين في المنزل حيث أنّ بعضهم مرّتْ عليه سنة ولم يأتِ دوره في شركةِ السكن. وجدَ عاشور في فضولهم فرصةً للثأر منهم، فكان يجيبُ السائلَ إجابةً مهينة تجعله يتقبلها بامتعاضٍ ولكن دون اعتراض:

" وهل تقارن نفسكَ بي؟ "

" نحن لسنا في بلاد بلا قوانين. "

" إذا جمعنا يوماً السجن أو معسكرات اللجوء الإيرانية فحسبتم بأننا أصبحنا أصدقاء دائميين فأنتم مخطئون، فنحن الآن أحرار في الدنمارك. "

بل إنه رفعَ صوته وهو يجيبُ أحدَ السائلين كي يُسمع جبار الثوري:

" الدنماركيون يميزون بين الأوادم والحشرات، بين المناضل والحرامي. "

أما أنا فقد كنتُ أشعرُ بأنّ عضواً معطوباً في جسدي قد بُتر، وعلى الرغم من أنّ بتره كان ضرورةً إلا أنه تركَ شاغراً يصعب إملاؤه. شعرتُ بفراغٍ شديد بعد انتقالِ عاشور واشتقتُ إليه بل اشتقتُ حتى إلى مشاكستهِ وجنونه، حتى انتقلتُ من المنزلِ للسكنِ مع صديقتي الدنماركية بعد أنْ يئستُ من الحصولِ على شقّةٍ ولم أعد أطيقُ الإقامةَ في المنزلِ الكبيرِ الذي وصلتْه أعداد جديدة من اللاجئين العراقيين.

" ديرْ بالكْ إهنا ماكو حب وعواطف إهنا جنس وبس."

وصيةٌ سمعتُها من أغلبِ العراقيين الذي سبقوني إلى الدنمارك أو السويد، وعلى الرغم من عدم قناعتي بها إلا أني وضعتُها نصبَ عيني أو كما يقال " ترجية بإذني! "، ومن بابِ التحوط أو الاحتراز من الانجرافِ بسيلِ العواطف والحب الملتهب، وفعلاً نجحتُ بالاختبارِ بتفوقٍ، فقد كنتُ أذهبُ إلى البار ليلاً وأعودُ بما يقسم الحظّ من صيدٍ، أطلقهُ في الصباح إلى فضاءِ حريتهِ أو يتركني إلى عزلتي.

استيقظتُ صباحاً فوجدتها نائمةً جنبي عاريةً. أبعدتُ جسدي قليلاً عن جسدها كيلا أوقظها، اتكأتُ على مرفقي ورحتُ أتطلعُ إلى شعرها الأشقرِ الذي غطى وجنتها، أزحتُ بعضاً من خصلاتهِ إلى خلف أذنها الصغيرة. حركتُ كفّي بحذرٍ على شعرها، ثم أزحتُ الغطاء إلى الأسفلِ شيئاً فشيئاً، ورحتُ أصغي إلى أنفاسها الهادئة وهي مستسلمة للنومِ بسكينةِ طفلةٍ تنامُ في سرير أمها. جسد طريّ لاتزالُ رائحةُ العذرية (على سبيل المجاز لا الواقع) تفوحُ منه، فهي لم تتجاوز الثامنةَ عشرة من عمرها. رحتُ أتطلعُ إلى جسدها حاسداً نفسي على هذا الكنزِ الذي امتلكتُه أمسِ. ساقيةٌ صغيرة تنحدرُ من أعلى الرقبة.. تهبطُ .. تهبطُ إلى وادي الخصرِ ثم سرعان ما ترتفعُ على سفحِ عجيزةٍ شامخةٍ لتنتهي في الأخدود. تابعتُ انحدارَه بعينين نهمتين ثم بطرفِ إصبعي مبحراً كشراعٍ على صفحةِ مائه الهادئ متشبثاً بذروتهِ بقبضتي كمتسلقٍ خائفٍ يقبضُ على صخرةِ القمة.

" هل سأوقظُ عاشور وأقول له تعالَ أنظرْ إلى هذا الجمال الباهر.. سيقفُ مبهوراً مُدلقاً لسانه مثل كلبٍ لاهثٍ.. وقبلَ أنْ يتقدمَ خطوةً نحو الجمالِ الراقدِ على سريري سأنشبُ أظفاري في رقبتهِ وأفتحُ البابَ وأركله خارجاً.. اذهبْ يا... طزْ بيك وبنيتشه. "

تمطتْ بكسلٍ وبراشقةِ دلفين انقلبتْ على ظهرها فشهقَ نهدان يلصفان تحت ضوءِ فتنةٍ ساطعٍ، نهدان متكوران كإجاصتين ناضجتين بحلمتين صغيرتين كحبتيْ توتٍ أحمر. فركتْ عينيها كأنها تتأكد من وجودها ثم ابتسمتْ ببراءة. أحطتُها بجسدي مقبّلاً عنقها، حاكّاً حلمتيها بشعرِ صدري فتلوتْ تحتي كأفعى ثم انزلقتْ من قبضتي كسمكةٍ لدنةٍ. تطلعتْ إلى ساعتها وتأوهتْ بافتعالٍ كأنّ لها موعداً قد أزفتْ لحظته. ارتدتْ ملابسها بعجلٍ ثم طبعتْ قبلةً على خدي وغادرتْ. سمعتُ خطواتها وهي تنزلُ السلّم، كانتْ عجولةً كخطواتِ سارقٍ أنهى مهمته بسلام. فتحتُ نافذةَ غرفتي ورحتُ أرقبها وهي تتهادى بمشيتها على الطريق الترابي منتظراً التفاتةً منها أو تلويحةً، غير أنها لم تلتفتْ حاثةً أقدامها على الخروجِ من الدائرة، حتى استدارتْ إلى الطريق العام.

" ديرْ بالكْ إهنا ماكو حب وعواطف إهنا جنس وبس. "

" لا.. لا.. لن أقولَ ذلك لعاشور.. لن أخسرَ صاحبي من أجل امرأةٍ.. فالنساءُ هنا زائرات عابرات.. أما عاشور فهو مقيمٌ في روحي ولن أفرطَ به من أجل ليلةٍ عابرة. "

" لكنها ذهبتْ دون أنْ تلتفتّ ودون أنْ ترفعَ يدها ملوحةً، على الأقل إكراماً لليلةِ حب كانتْ فيها تتشبثُ بي غارزةً أصابعها في ظهري وشفتاها مستسلمتان بين شفتيّ وتهتزّ تحت جسدي صارخةً بنشوة، ضاحكة بلذة..... "

" لا بأس.. لا بأس.. إنها تجربة جديدة في دفترِ أيامكَ الأبيض، وعلى كلّ لقد تركتْ لكَ صوراً جميلة ستكون ذخيرةً حية في مخيلتكَ لأيامِ الجدب. "

استيقظتُ صباحاً فوجدتُها عاريةً جنبي كجثةٍ متفسخة، أزحتُ الغطاءَ عن جسدها ورحتُ أصغي إلى شخيرها وهي مستسلمة للنومِ برعونةِ المستسلمِ لعبثِ أقداره. جسدٌ سكرابٌ تفوحُ منه رائحةُ خمرةٍ رخيصةٍ ودخانٍ خانق. رحتُ أتطلعُ إلى جسدها الذي احتلَ السريرَ تاركاً جسدي ملطياً إلى الحائط... مجرى عميق يهبط من أعلى الرقبةِ المغطاة بشعرٍ دبقٍ، نصلتْ صبغته فظهرَ الشيبُ واضحاً.. ينحدرُ بين ضفتين مرتفعتين كسدادٍ رملي مانعٍ للفيضان على أرضٍ وعرةٍ إلى اللاخصر.. منحدراً إلى عجيزةٍ ذابلةٍ تَهدّل جلدها كجلدِ فيل هرمٍ.. إلى أخدودٍ محترقٍٍ كمجمّعٍ للنفايات.. تابعتُ انحدارَ المجرى بمياههِ الآسنةِ جارفاً معه نفاياتِ عمرٍ أوشكَ على المغيب.

" ماذا لو اقتحمَ عاشور الآن الغرفةَ... بالتأكيد سيقفُ مبهوراً وهو يتطلعُ إليّ مُدلقاً لسانه ساخراً مني مردداً، يقول نيتشه: أود لو تميد الأرض بي عندما أرى رجلاً فاضلاً يتخذ له زوجةً حمقاء .... ".

تمطّتْ بكسلٍ وانقلبتْ على ظهرها كخنفساء، مطوحةً بذراعيها بعبثٍ ففاضَ كرشُها على جانبي جسدها. فتحتْ فمها متثائبةً كفرسِ البحرِ فانتشرتْ في الغرفةِ رائحةُ ثومٍ أو بصلٍ. مدتْ يدها إلى تحت وراحتْ تحكّ ما بين فخذيها رافعةً بيدها الأخرى مثانتها الهاطلةَ إلى أعلى فخذيها، وتهرش عانتها الكثّةَ بشعرها المصفرّ بالفطريات، والمحيطة بفمٍ واسعٍ.. أدرد، لاحَ في وسطه بظرٌ طويل أحمرُ كخرطومِ فسيفس (ديك رومي). تطلعتْ إليّ بعينين ضيقتين ثم مدتْ يدها إلى قضيبي فوجدته بارداً، منكمشاً على نفسهِ. تطلعتُ إلى ساعتي متحججاً بموعدٍ اقتربتْ ساعته. ارتديتُ ملابسي وأنا استعجلها للخروج فنهضتْ بتثاقلٍ ماسكةً أسفل ظهرها فتنفسَ السريرُ الصعداء. حينما خرجتْ أسدلتُ ستارةَ النافذة المطلّة على الطريق الترابي ...

" ديرْ بالكْ إهنا ماكو حب وعواطف إهنا جنس وبس. "

قلتُ لأحدِ لاجئين عراقيين وصلا إلى المنزل حديثاً حينما التقيتُ بهما في المطبخ وكانا يتحدثان بلهفةٍ عن النساء الدنماركيات.

... وهكذا، وكما علّق أحد العراقيين من أصحابِ الخبرةِ والتجربة بأنّ المحظوظَ مَنْ يحصلُ على إيجةٍ (امرأة بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين من عمرها) وألا فلن يجدَ سوى النطيحةِ والمترديةِ وما أكلَ السبعُ.

.... حتى التقيتُ بكارين.

هدأتْ صالةُ مقهى البيتِ الاجتماعي، ولاحتْ علاماتُ الراحةِ على وجوهِ الروادِ الدنماركيين بعد أنْ انفضّ جمعُ العراقيين الذين ملأوا منذ الصباح المكانَ صخباً بنقاشهم وعراكهم وهم يلعبون الورقَ والدومينو. أسرعتْ نادلة المقهى بتنظيفِ الطاولات وهي تتنفسُ الصعداء كاظمةً غيظها أو امتعاضها وهي تتطلعُ إليّ بنظرةٍ أوّلها سوءُ ظني بأنها نظرةُ فرحٍ لم يكتملْ بسببِ وجودي. أخرجتُ من حقيبتي الصغيرة كتاباً ورحتُ أقلّبُ صفحاتهِ وأنا أتطلعُ إلى النادلةِ بزاويةِ عيني، وكأنها أدركتْ ما يدورُ في ظني فجاءتْ لي بكأسِ شاي دون أنْ أطلبه، مرددةً كلماتٍ لم أفهمها ولكني شعرتُ بأنها تعبّرُ عن احترامها وترحيبها بوجودي. غابتْ دقائقَ ثم عادتْ إليّ لتخبرني بلغةٍ إنكليزية تضاهي ما بقيَ في ذاكرتي من كلماتٍ وجملٍ إنكليزية منذ أيام الدراسة، بأنّ كارين اتصلتْ وسألتْ إنُ كنتُ موجوداً في المقهى ثم أخبرتني بأنها قادمة في الطريق. لم أكنْ بانتظارها فقد انتهتْ أمسِ من إنجاز تقريرها المدرسي عن أوضاعِ الغرباء واللاجئين في الدنمارك والذي ساعدتُها على كتابتهِ بالإجابة على الأسئلةِ التي أعدّتْها عن أسبابِ تركِ اللاجئين العراقيين والإيرانيين لبلدانهم ولماذا اختاروا الدنمارك كبلدِ لجوء وعن اختلاف العادات والتقاليد، وتقاليد العائلة الشرقية والعلاقةِ بين الرجلِ والمرأة وطرقِ الطبخِ والرقص... الخ.

وصلتْ كارين إلى المقهى وحينما رأتني جالساً وعيناي تترقبان القادمَ، أفردتْ ذراعيها عند الباب حاثةً خطاها نحوي فنهضتُ لاستقبالها باحتضانٍ لا أدري مدى شدّته ولكني أتذكر أني شعرتُ بحرارةٍ في صدري حينما لامسَ نهديها الكبيرين. جلستْ قبالتي، باسطةً ذراعيها على الطاولة شابكةً أصابع كفيها ببعضها بحركةٍ لم أعرف مغزاها إلا بعد حين، ولكي أخفي ارتباكي قلتُ لها:

" لنبدأ.. "

أجابتْ وهي تحاولُ أنْ توحي إليّ بالدهشةِ من غرابةِ السؤال:

" بماذا؟ "

" بإكمال التقرير. "

ارتفعتْ ضحكتها، ثم قالتْ:

" لقد انتهيتُ منه وسلّمته اليوم. "

ثم تطلعتْ إليّ بعينين لاحَ فيهما عتبٌ واضحٌ وتخفيان ارتباكَ عاطفةٍ وهي تردد:

" لن أنسى مساعدتك لي. "

ولكي تعبرَ عن شكرها مدتْ يديها محتضنة كفيّ بكفيها، غير أني وقد انتعظتْ رجولتي التي أبتْ إلا أنْ تكونَ هي المبادرة سحبتُ كفيّ بهدوء واحتضنتُ بهما كفيها ضاغطاً عليهما بحركةٍ خفيفةٍ فاستسلمتْ برقّة. تطلعتُ إليها فأغضتْ بصرها باحثة عن أيّ شيء ثابتٍ على سطح الطاولة كمنفضةِ السجائر مثلاً، لاعقةً شفتيها بطرفِ لسانها وقد بدتْ حركةُ صعودٍ وهبوطٍ واضحة في عنقها. شجعني ارتباكها على استلامِ المبادرةِ والمضي أكثر بعد أنْ تأكدَ لي بأنّ مؤشرَ بوصلتي يشيرُ إلى الجهةِ الصحيحة، غير أنها وبعد لحظاتٍ سحبتْ كفيها المتعرقتين فتطلعتُ إليها مستفسراً وخائفاً من أنّ الرحلةَ قد انتهتْ إلى هذا الحد. تطلعتْ إليّ بعينين واثقتين ثم قالتْ:

" لنبدأ! "

" بماذا؟ "

سألتُ بقلقٍ فأجابتْ على الفور:

" بالهرب. "

" إلى أين؟ "

سألتُها، وبلا وعي مني راحتْ مشاعري تتسولُ الشفقةَ فأضفتُ:

" كارين.. لقد تعبتُ من الهرب، أريد أن أرسو.. "

ارتفعتْ ضحكتها وعادتْ تمسكُ كفيّ محركةً أصابعها على راحةِ كفي وقالتْ:

" لنخرجْ من هذا المكان الخانق ولنذهبْ إلى أيّ مكان. "

" للبحر. "

قلتُ وانا أضعُ كتابي في الحقيبةِ وأهمّ بالنهوض. راقتْ لها الفكرةُ فقالتْ:

" كنتُ أعرف أنك ستفضّل الذهاب إلى البحر لذلك جئتُ بسيارتي. "

" وكيف عرفتِ ذلك؟ "

سألتُ بوجه يفتعلُ الجدّ، فردتْ:

" كلّ الشعراء يعشقون البحر. "

كانتِ الساعةُ قد تجاوزتِ الثامنة ليلاً بقليلٍ غير أنّ الشمسَ قد أكملتْ غروبها تواً ولاتزال بقايا من ضوئها تنير السماء. أركنتْ سيارتها في فسحةٍ على جانبِ الطريق وسرنا باتجاه الساحل. لفحتنا رياح باردة من كلّ الجهات، فعلى الرغم من أنّ الوقت كان أواخر شهر آيار إلا أنّ الطقسَ يكون بارداً في مثل هذا الوقت من اليوم. جلسنا على صخرةٍ ناتئةٍ وكلّ منّا يتكورُ على نفسهِ مرتعشاً أو يفتعلُ الرعشةَ متأففاً من حالةِ تقلبِ الطقس. أحطتُ كتفيها بذراعي وأعلنا إلغاءَ حالةِ التردد، وقد كانتْ تنتظرُ لحظةَ الصفر هذي فألقتْ رأسها على كتفي دافنةً وجهها بين رقبتي وصدري فشعرتُ بأنفاسها تحركُ شعرات صدري التي وقفتْ. أطبقتُ رأسي على رأسها حاكاً وجهي بشعرها ومقرباً شفتي من خلف أذنها فصدرتْ عنها تنهيدةٌ وأحاطتْ خصري بذراعيها متشبثة بكنزتي. رفعتُ وجهها قليلاً وقربتُ شفتيّ من شفتيها فأغمضتْ عينيها وشفتاها بين شفتي وجسدها يرتعش.

" ديرْ بالك إهنا ماكو حب وعواطف إهنا جنس وبس. "

" نعم. "

امتدتْ يدي سريعاً نحو نهدها فندتْ عنها شهقةٌ حفزتني على التمادي أكثر فأدخلتُ يدي تحت كنزتها قابضاً على نهدها الذي فاضَ على قبضتي. اعتصرتُه قليلاً ممرراً إصبعي على حلمتها التي انتعظتْ فعضتْ شفتيّ بأسنان تصطكّ من الرعشة. دفعتُها قليلاً فارتمتْ على الأرض فاتحةً ذراعيها. تسلقتُ جسدها ببطءٍ فارجاً ساقيها حتى التصقَ موضعا الشهوة وشفتانا تمتصان رحيق بعضهما. فتحتُ سحّاب بنطالي وراحتْ يدي تتلمسُ مرتجفةً موضعَ أزرار بنطالها إلا أنها مدتْ يدها تحاول منعي فارتطمتْ كفها بقضيبي. حاولتْ أنْ تسحبَ يدها إلا أني ضغطتُ عليها بحوضي فاستلمتْ رسالتي بخبرةِ أنثى ذات حنكةٍ وتجربة. حاولتُ ثانيةً أنْ أفتحَ زرّ بنطالها الذي استعصى على الفتح فمنعتني وهي تردد:

" ليس الآن.. ليس الآن .. "

شعرتُ ببرودٍ فتوقفتُ عن الحركة وأنا أتطلعُ إليها محاولاً معرفةِ أسباب رفضها. أدركتْ خيبتي فقالت:

" لا أستطيع الآن. "

لكنها عادتْ وقبضتْ على قضيبي بجرأةٍ داعكةً رأسه بسائله اللزج وهي تتأوه حتى تفجرَ بركانه وألقى حممه في كفها. شعرتُ بخجلٍ من إصراري وأنانيتي وقد كنتُ أحاولُ بحذرٍ شديدٍ أنْ أخفي هوسي وجوعي الجنسي. أغمضتُ عيني خجلاً، غير أنها عادتْ والتصقتْ بجسدي وقد طوقتني بجسدها وراحتْ تمطرني بقبلاتِ حنوّ ومودةٍ.

قادتْ سيارتها بثقةٍ وهي تربتُ على مقود السيارة بإيقاعٍ راقصٍ، وبين لحظةٍ وأخرى تلتفتّ إليّ مبتسمةً، وكنتُ لائذاً بالصمتِ أحاولُ إيهامها بأني أتطلعُ إلى الطريق. حينما وصلنا إلى المنزلِ دعوتها إلى غرفتي إلا أنها اعتذرتْ مادةً شفتيها إليّ، قبلتها ببرودٍ فمسكتني من خلف رأسي وهي تطبقُ شفتيها على شفتي بعنفٍ. كررتُ دعوتي إليها لكنها اعتذرتْ ثانيةً وبإصرار، ثم قالتْ:

" أراك غداً في المقهى. "

جلستُ على حافةِ سريري واضعاً رأسي بين كفيّ محاولاً رسمَ صورةٍ لكارين، صورةٍ مختلفةٍ تتمردُ على الإطارِ الذي صنعتُه مسبقاً.

" إنها لا تشبه النساء اللواتي التقيتُ بهنّ في البار.. ليس لأنها تمنعتْ ورفضتْ المضاجعة في اللقاء الأول، بل إنّ شعوري تجاهها كان مختلفاً تماماً.. هل يا ترى هو ذا الحب؟.. أعني وهم الحب.. أعني.. "

" كلّ النساء تتشابه.. نعم.. صدّقني.. المسألة فيزيولوجية. "

سمعتُ صوتَ عاشور يتردد في أذني.

" لا. "

قلتُ غير واثقٍ من نفسي فعادَ صوتُ عاشور يؤكد:

" شوفْ، أنا لو استيقظ غداً واكتشفُ بأنّ قضيبي قد تحوّلَ إلى كس فسأجد نفسي ناقصاً وسأتصرفُ بنفس ما تتصرفه النساء. "

" ...................... "

" المرأة ناقصة لأنها تشعر بنقصانها للقضيب. "

" كلام فارغ. "

" هه.. هل أنت أفهم من فرويد؟ "

" ولكن كارين ليس كذلك. "

" يبدو لك كذلك لأنكَ واقع تحت تأثير الحرمان الجنسي والعاطفي.. أو أنكَ تريدُ أنْ توهم نفسكَ بأنكَ عاشق.. ولكن الحقيقة هي الحقيقة. "

" ......................... "

" يبدو أنّ حرمانكَ وكبتكَ الطفولي قد صوّر لكَ الأمرَ أنّ هناكَ امرأة تعرف الحب.. ديرْ بالك.. لا حب ولا بطيخ .. "

" ............................."

" دير بالكْ إهنا ماكو حب وعواطف أهنا جنس وبس. "

" لا.. لا.. "

أطفأتُ الضوءَ واستلقيتُ على السرير، إلا أنّ الرجفةَ التي كانتْ تهزّ جسدي جعلتني أتكوّر كجنينٍ في الرحم متدفئاً بأنفاسي الساخنة، وشيئاً فشيئاً بدأتُ أستعيد توازني وأنا أعيدُ شريطَ ذاكرتي إلى ما قبل ساعتين، منذ لقائي بكارين في المقهى حتى آخر جملةٍ سمعتُها منها:

" أراك غداً في المقهى. "

لكني لم أستطعِ النوم تلك الليلة كعاشقٍ متولهٍ يستعجلُ ليله وكواكبه (التي صارت شبيهة بكواكب النابغة الذبياني) على المضي. وعلى ذكرِ النابغة الذبياني وكواكبه نهضتُ من السريرِ مسرعاً كأني تذكرتُ بأني شاعر أيضاً ورحتُ أعتصر مخيلتي محاولاً كتابة قصيدة، ولأني لم أستطعْ فقد كتبتُ على الورقة مقطعاً من لوركا:

" أخذتُها إلى ساحلِ البحر

وكنتُ أظنها عذراءَ

غير أنها ظهرتْ ذات بعل. "

أطبقتُ دفتري وأطفأتُ الضوء ثانيةً وعدتُ لأنام، غير أنّ قصيدة لوركا راحتْ تحفزني على الكتابة. أضأتُ مصباحَ المنضدةِ القريبة مني ورحتُ أكررُ قصيدةَ لوركا وأنا مغمضُ العينيين محاولاً طرد كلمةِ (عذراء) من الصورةِ التي أحاولُ رسمها، حتى وجدتُني أضيفُ إلى المقطع:

" ما كنّا صديقين

ولم نكُ أعداءً

بل كنّا عند ساحلِ البحر

كان البحرُ يخفقُ

وقلبي يرمي زبدَهُ

ويرممُ عرشاً للبحر

هكذا كنّا

غريبين عند ساحل البحر

كان ظهري إليه

وأقدامي إلى السماء

وكنتُ أرى كلّ شيء

غير أنّ شيئاً لا أعرفُه

كان يقفزُ كالدلفين

.....................

آهٍ .. ما أبعد ذلك اليوم

لكني مازلتُ أذكره

وأذهب كلَّ يومٍ إليه

مصطحباً كلماتي العذراء

ورجولةَ البحر

لعلّي أمسكُ ذلك الدلفينَ

أو تنمو لي زعانفُ

أطير بها نحو السماء "

استيقظتُ في اليوم التالي، وقبلَ أنْ أذهبَ إلى المقهى ذهبتُ إلى شقّةِ عاشور لكي يترجمَ لي القصيدةَ إلى الانكليزية. كان عاشور يجلسُ متكوراً على الصوفةِ ويعبثُ بأزرارِ الريمونت كونترول. لم يعلّق بأيّ شيء حينما رجوتُه أنْ يترجمَ لي القصيدةَ، بل شعرَ بشيءٍ من الزهو وهو يكسبُ اعترافاً مني بتفوقه عليّ. أكملَ ترجمةَ القصيدة بدقائق ودفعَ الورقة نحوي دون أنْ ينظرَ إلى وجهي وعادَ يعبثُ بأزرارِ الريمونت كونترول.    

بعد أسبوع انتقلتُ إلى السكنِ مع كارين، وقد ساعدتني في نقلِ حاجياتي من المنزل مودعاً نزلاءه الذين كانوا ينظرون إلي بشيء من الحسد أو هكذا شعرتُ.

حاولتُ أن أكون أكثر إتّزاناً وتحضراً أمام كارين وفي نفسي أنْ أمحو آثارَ ليلةِ البحر التي أشعرتني بالتعجلِ والتهور، فبعد أنْ أكملنا نقلَ حاجياتي، انشغلتُ بترتيبِ كتبي وقواميسي ودفاتري على رفوف أفردتْها لي، بعد ذلك دعوتُ كارين إلى الخروج للعشاءِ في مطعم. قبلتْ دعوتي بفرحٍ شديد، وحينما عدنا إلى البيت كنّا قد استنفدنا كلّ طاقتنا على المكابرةِ وإخفاءِ لهفتنا إلى ممارسةِ الحب. أغلقتِ البابَ وتشبثتْ بعنقي وكأنّ كلّ خليةٍ من جسدها تصرخُ بنفادِ صبرٍ " هيتَ لك ". ارتمتْ على السرير بملابسها وارتميتُ عليها بعناقٍ حار وأيدينا عمياء تبحثُ عن مواضعِ الأزرار حتى تعرّتْ أمامي قامةً من لهبٍ بنهدين مكتنزين وفخذين صلبين. وضعتُ ذراعيّ تحت ظهرها فبرز نهداها، ضغطتهما بصدري وأنا أتطلعُ في عينيها المغمضتين وأنفاسها الساخنة تصطدمُ بوجهي وجسدها يرتعشُ تحتي. لم أنتظرْ طويلاً فأولجته فيها ببطء وأنا أتطلعُ في عينيها الذابلتين حتى غابَ كلّه، فصرختْ بنشوةٍ وراحتْ تردد عباراتٍ حسبتُها مفتعلة لتثيرَ جنونَ فحولتي:

" أروع أير ضاجعني بحياتي. "

تغافلتُ عمّا سمعتُه. أغمضتُ عينيّ وتصاممتُ، إلا أنها راحتْ تكررُ العبارةَ بلا وعي منها حتى لم أعدْ أصغي إلى جسدها. في البدء كانتْ كلماتُها قد زادتْ من هوسي وشبقي فرحتُ أغرز أصابعي في فخذيها وأنا أدفع بقوة، إلا أنّ صوتَ جبار الثوري الذي اختلط بصوتها وكان أعلى راح يخترقُ أذني:

" يمعود يا حب يا بطيخ وحدتهن تاكل ألف عير باليوم الواحد. "

حاولتُ أنْ أنشغلَ عن الصوت لكن شعوراً غريباً استبدّ بي فشعرتُ بل تلمستُ آثارَ الأعضاء الذكرية (الألف كما يقول جبار الثوري) التي مرّتْ على الطريق قبلي ورائحةَ اللعابِ الذي سالَ على هاتين الحلمتين. شممتُ رائحةَ مني الرجال الذي أهرقَ على الطريقِ السالكِ وسالَ على الشفرتين وعلقَ بشعراتِ العانة. توقفتُ عن الحركة منهكاً، وشعرتُ كأني تحولتُ إلى قطعةٍ من جليد. شعرتْ كارين بذلك فراحتْ تستحثني بزفراتٍ مفتعلة وكلماتٍ داعرة زادتْ من انكماش جسدي وانخذال قضيبي الذي اندفعَ خارجاً بلا نَفَسٍ أو حركة. حاولتُ أنْ أتشبثَ بأيّ خيالٍ يخطرُ في ذهني كي أدافعَ به عن رجولتي المهددة بالهزيمة، إلا أني لم أستطعْ تدارك الموقف حتى ارتميتُ إلى جانبها لاهثاً.

ذهبتْ إلى الحمام وعادتْ فوجدتني متكئاً على المخدة محدقاً إلى السقف. جلستْ إلى جانبي وهي تبتسمُ بخجلٍ وتمسّد بكفها شعرَ صدري.

" لا تقلقْ! "

قالت بخبرةِ امرأةٍ ناضجة ثم أضافتْ:

" يحدث هذا كثيراً مع الرجال خاصة في اللقاء الأول.. إنها مسألة طبيعية. "

وحينما وجدتني صامتاً راحتْ تؤكد صدقَ كلامها مستندة إلى خبرتها الشخصية:

" لقد حدثَ معي قبلك مراتٍ عدة.. ثم بعد ذلك أصبح الأمر طبيعياً. "

وظناً منها بأنها تستطيع إخراجي من كآبتي وعنّتي، راحتْ تتمازحُ وهي تشيرُ إلى قضيبي الذي كبا ساقطاً على أحد الجانبين:

" انظرْ! بخبرتي وإغرائي سأجعله ينهض من جديد وسأبعثُ فيه الروح ثانية. "

" مو قلت لك.. ولكْ لا تصيرْ غبي وحدتهن تاكل ألف عير باليوم. "

عادَ صوتُ جبار الثوري مختلطاً بصوتِ عاشور الشامتِ بأصواتٍ لا أعرفها تخرجُ من داخلي كأنّ البشرَ كلهم تحولوا تلك اللحظة ضدي.

مرّ يومان كنتُ خلالهما أتحاشى الاقترابَ من كارين، وفي الليل كنتُ أحاولُ أنْ أشغلَ نفسي بالقراءةِ والكتابة على الرغم من يقيني بأنّ كارين تدركُ تحايلي وتخفي إحساسها بذلك. تقضي المساءَ جالسةً أمام التلفزيون وهي تتثاءبُ بصوتٍ عال ورأسها يسقطُ كلّ دقيقةٍ على مسندِ الصوفة، وحينما تيأسُ من استيقاظِ فحولتي تقتربُ مني وتطبعُ قبلةَ صداقةٍ بريئةٍ على خدي وهي تردد بصوت واطئ:

" تصبح على خير. "

بعد أنْ أتأكد من نومها أذهبُ على أطراف أصابعي إلى السرير وأندسّ تحت الغطاء بهدوءٍ مفتعلاً الهمودَ من اللحظة الأولى.

" لِمَ لم يحدث معي هذا مع النساء اللواتي التقيتُ بهن قبل كارين؟ "

" هل كنتُ أتعاملُ معهن وفقَ نصيحةِ جبار الثوري والآخرين؟.. هل كنتُ أتعاملُ معهنّ كعاهرات.. والأمرُ اختلفَ الآن مع كارين؟.. هل أني بدأتُ أغار عليها؟.. هل أحببتُ كارين بمفهوم الحب العذري.. هل هذا ما يسمونه صدمة الحضارة؟ .... "

" غشاء البكارة. "

" نعم.. غشاء البكارة. "

" لابد من دمٍ كي يسمو الحب.. "

" ولكْ يا حب يا بطيخ... أهنا ماكو وحده سرمهر.. كلهن عاهرات. "

يقول جبار الثوري.. ويقول حامد دولار وكاظم لصقه و عبد الزهره الشيخ خنجر، وحتى عاشور على الرغم من إدعائه التحضر يقول الشيء نفسه.

" ................... "

خرجتْ كارين وبقيتُ وحدي في البيت. خطرتْ في ذهني فكرة أنْ أجرب رجولتي. بحثتُ في ألبومات صور كارين فوجدتُ واحدة، كانت فيها مستلقيةً على الساحلِ عارية الصدرَ وترتدي بكيني أصفر. أخرجتُها من الألبوم ووضعتها أمامي على الطاولة.

" تعالي.. تعالي يا كارين.. أنا معكَ حبيبي.. تعالي الآن.. شبيك لبيك عبدتكَ كارين بين يديك.. أشتهيكِ.. وأنا أموت عليكَ.. أحبكَ.. أشتهيكِ.. تعالي.. أمركَ سيدي.. ارقصي أمامي.. ارقصي عاريةً.. ارقصي أمام سيدكِ.. أجلْ يا مولاي.. أنا جاريتكَ.. خادمتكَ.. عبدتك المطيعة.. اركعي أمامي.. قبّلي قدميْ سيدكِ.. اركعي يا.... أنا كلبتكَ.. لا.. أنتِ... أنا ملككَ.. عاهرتكَ.. قحبتكَ.. نكني يا مولاي.. نكْ خادمتك.. نكْ عاهرتك.. نكني يا سيدي.. ارحمني أرجوكَ.. أجلْ.. سأنيككِ.. أنيككِ.. سأذيقكِ ما لم تذوقيه من قبل.. سأنيكُ كسكِ.. طيزكِ.. صدركِ.. أجلْ يا مولاي.. أنا ملككَ.. أنا لكَ وحدكَ.. لكَ وحدكَ.. فضّ بكارتي.. اقتلني.. أتوسلُ إليكَ.. اقتلني بفحولتكَ.. ذلّني.. أتوسلُ إليكَ.. تعالي.. اركعي أمامي.. سأقذف على وجهكِ يا عاهرتي.. على لسانك.. على.. أجلْ يا مولاي.. أجلْ.. أنا عبدتكَ.. أنتَ إلهي.. أنتَ.......... "

كان العرقُ قد غطّى جسدي وانبعثتْ رائحةٌ كريهة منه. نبضاتُ قلبي تدقّ بعنفٍ وكنتُ أشعرُ بأنّ جسداً آخرَ يختفي في جسدي.. يتمللُ.. يضغطُ كي يشقّ جدارَ جلدي ويخرجُ مني. حاولتُ أنْ أصرخَ غير أنّ صوتي كان يغورُ في بئرِ معتمةٍ فتتردد ذبذباتُ صداه دون أنْ أسمعَ له صوتاً. دارتْ بي الغرفةُ فتمسكتُ بالجدرانِ كأعمى حتى وصلتُ إلى الحمام. رشقتُ وجهي بحفناتِ ماءٍ بارد فشعرتُ برعشةٍ تسري في جسدي كلّه. تطلعتُ إلى وجهي في المرآة بترددٍ وخوف من أنْ أرى شخصاً آخرَ يمدّ لسانه ساخراً مني. كان وجهي شاحباً، أصفرَ كليمونةٍ ذابلة أو كعقربٍ صفراء ترفع جذعها لتغرز شوكتها في جسدها. أغمضتُ عينيّ كي أستعيدَ وجهي الذي لم يعد كالسابقِ أو أني لم أعد أعرفه. حاولتُ أنْ أسلخَ جلدَ وجهي كي أزيلَ هذا القناعَ الذي التصقَ به..

" تفوووو.. أيها القرد السافل.. "

أنا والمرآة وجهاً لوجه.. ديكان يتهيآن للنطّ على بعضهما، ثوران يهمّان بنطحِ بعضهما. أيّ الوجهين وجهي؟ أيهما الحقيقي وأيهما القناع؟.

كنتُ تحتَ الدش حينما سمعتُ صوتَ المفتاحِ يولج في الباب، وخطواتِ كارين وهي تدخلُ غرفةَ النومِ الملاصقة للحمام. رفعتُ صوتي بالغناء كأني أحاولُ أنْ أطردَ أشباحاً تظهر لي في العتمة، ولكي أبدو بريئاً وواثقاً من نفسي أمام كارين. خرجتُ من الحمام عارياً وأنا أجففُ شعري مدندناً بلحنٍ غريب فاصطدمتُ في غرفةِ النوم بكارين مفتعلاً الغفلةَ فتطلعتْ إليّ مندهشةً من الانقلابِ الذي حدثَ لي أثناء غيابها، وحينما وجدتني أنظرُ إليها ببهجةٍ ارتسمتْ على شفتيها ابتسامةٌ راحتْ تعرضُ شيئاً فشيئاً حتى تحولتْ إلى قهقهاتِ فرحٍ فتشبثتْ بعنقي وهي تقبلُ وجهي وصدري محركةً شعرها على جسدي فأسقطتُ المنشفةَ من يدي عن عمدٍ كي أريها ما تحتها، فتوقفتْ بذهولٍ وهي تنظر إلى جسدي بنظراتٍ جريئة مركزةً على وتدِ الرجولة الذي تحركَ بإغراءِ نظراتها الجائعة. مدّت يدها إليه فانتفضَ في قبضتها باسلاً. ضعطتُ بكفيّ على كتفيها إلى الأسفل فاستلمتِ الرسالةَ بسهولة. ركعتْ أمامي كجاريةٍ ماهرة تجيد حرفتها. قبضتْ عليه وراحت تقبله وتلعقُ رأسه حتى شعرتُ بأنّ الدم قد أوشكَ أنْ يتدفقَ منه. رفعتُها من تحت إبطيها ودفعتها إلى السرير فاضطجعتْ فارجةً ساقيها وهي تحل أزرار قميصها بأصابع مرتجفة. ارتميتُ عليها ملتهماً شفتيها بجنون.

" أحبكَ. "

همستْ في أذني وهي تتأوه ماطةً عنقها إلى أقصى ما يمكن.

" أشتهيكِ . "

قلتُ وأنا أغرزه فيها بعنفٍ. ارتعشتْ تحتي عدةَ مراتٍ وهي تعضُّ راحةَ كفّها صارخةً من النشوة.

" قولي لي أنا ملككَ! "

طلبتُ منها مفتعلاً الهوسَ وغيابَ الوعي فراحتْ ترددُ:

" أنا ملككَ.. لكَ.. حبيبي.... "

" قولي نكني! "

تطلعتْ إليّ بنظرةِ جدّ حسبتُها ستغضبُ غير أنها ابتسمتْ بترددٍ فأغمضتْ عينيها وراحتْ تردد بصوتٍ واطئ:

"نكني حبيبي.. نكني.. أنا ملككَ.. يا سيدي.. يا أميري.. نكني.. "

شعرتُ بحرقةٍ شديدةٍ تتحركُ في قضيبي كأني قذفتُ سيلاً من جمر. شعرتْ كارين بنشوةِ انتصاري فأحاطتني بذراعيها ضاغطةً رأسي على صدرها حتى استقرَ بين نهديها باستسلامٍ .... راحتْ تداعبُ شعري بحنوٍ، فانفجرتُ باكياً بلا إرادةٍ مني ولسببٍ أجهله.

بدأ صوتُ جبار الثوري والآخرين يتلاشى، ليس لأني تجاوزتُ طريقةَ تفكيرهم بل على العكس فقد رضختْ لوصاياهم:

" نعم. إهنا ماكو حبّ وعواطف إهنا جنس وبس. "

هازاً كتفي بلا مبالاة، متحاشياً التحديقَ في المرآة لحظةَ صحوةِ الضميرِ ومتلبساً دورَ المحبّ الوفي باتقانٍ لم تستطعْ كارين كشفَ زيفهِ، حتى.........

عدنا إلى البيتِ من حفلةِ عيدِ ميلادِ صديقةِ كارين في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل. كانتْ كارين غاضبة وقد كنتُ أظن أنّ إفراطي في الشربِ هو السبب الذي جعلها تغضبُ وتشيحُ عني وجهها عدة مراتٍ حينما كنتُ أحاولُ تقبيلها، وحينما سألتها عن السبب امتنعتْ عن الرد وأدارتْ إليّ ظهرها ونامتْ. استمر غضبها لليومين التاليين، حاولتُ خلالهما أنْ استدرجها للكلام غير أنها بقيتْ صامتةً وحينما ألححتُ عليها انفجرتْ غاضبة:

" يعني ما تعرف لماذا أنا غاضبة. "

رفعتُ كتفي نافياً علمي بذلك فقالتْ وهي تنظرُ إلى الأرض:

" لقد بالغتَ كثيراً بإبداء مشاعركَ تجاه شارلوتا. "

ضحكتُ بصوتٍ عالٍ وأنا أردد:

" وما الضير في ذلك؟ "

فسألتني وهي تحدقُ في عينيّ لتختبرَ صدقي:

" أتحبها؟ "

أطلتُ ضحكتي وبسخريةٍ أجبتُها:

" أحبها!!؟ وأين هو الحب؟ "

تطلعتْ إليّ بوجهٍ منكسر، حزينٍ وقد لاحتْ ارتجافةٌ على شفتيها اليابستين فرحتُ أؤكد كلامي بوقاحةٍ وعدوانية:

" بل أشتهيها.. "

وبعد لحظةِ صمت أضفتُ:

" إن لها جسداً مثيراً. "

" ماذا!؟ "

سألتني بغضبٍ وهي ترتعشُ وتفركُ كفيها، ثم أضافتْ:

" أتفكر أن تمارس معها الجنس؟ "

" لِمَ لا... هي ترغب بذلك أيضاً. "

حاولتْ أن تنطقَ فتجمدتْ الكلماتُ في حنجرتها التي راحتْ تصعدُ وتهبطُ بحركةٍ واضحة في عنقها. حدقتْ إليّ بعينين غاضبتين محاولةً أن تمنعَ الدموع التي برقتْ في عينيها من السقوط، ولكيلا أهزمَ أمام امرأةٍ (تدعي العفّة) رحتُ أتحدثُ بثقةٍ مفتعلةٍ وأسلوبٍ وقح:

" وماذا يضرّك أنتِ؟ "

" .................. "

" وماذا تخسرين؟ "

" ................. "

كان صمتها وانخذالها مغريين فقد أثارا عدوانيتي ورغبتي في اغتصابها. اقتربتُ منها وأنا أترنحُ بحركةِ نمرٍ يدورُ حول فريسة جريحة. احتضنتُها من الخلف فحاولتْ أنْ تتحررَ من سطوتي إلا أني أطبقتُ جسدي على جسدها قابضاً على نهديها بقوةٍ، غارزاً قضيبي في مؤخرتها. شعرتْ بهياجي فحاولتْ قبل أنْ تستسلمَ لأنيابي أنْ تستعينَ بآخر ما تبقى لها من قوةٍ. ركلتِ الأرضَ بقدمها والهواء بكوعها غير أني أطبقتُ على عنقها غارزاً أنيابي فيها فارتخى جسدها شيئاً فشيئاً حتى تأكدتُ بأنها وقعتْ في شراكِ الشهوة فرحتُ أقبل رقبتها وتحت أذنها فتشبثتْ بي غارزة أظافرها في ظهري.

تطلعتْ إلي بنظراتِ توسلٍ راجيةً أن أنفي ما قلتُه وأعتذرَ لها، غير أني حسبتُ سماحتها ضعفاً ورضوخاً لرغبتي خاصةً بعد أنْ حصلتْ على الأورجازم عدةَ مراتٍ وعادتْ إليها ضحكتها وراحتْ تقبلني عرفاناً بما حصلتْ عليه من لذةِ مجنونة وهي تردد:

" أحبك.. أحبك.. أحبك يا مجنون... "

حتى هدأتْ أنفاسها.

" يقول نيتشه: إن سعادةَ الرجل تابعة لإرادته أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل. "

" نعم. "

قد حانتِ الفرصةُ لمفاتحتها بما فكرتُ فيه. قلتُ:

" كارين.. ما رأيك أن ندعو شارلوتا؟ "

" لماذا؟ "

قالتْ وقد عادَ الانكسارُ يرتسمُ على وجهها. ضحكتُ بصوتٍ يفتعلُ الثقة وأنا أقبّل عنقها، مقرباً فمي من أذنها هامساً:

" عندي رغبةٌ أن أمارس الجنس معكما معا. "

رفعتْ رأسي عن عنقها وراحتْ تتطلعُ إليّ بغضبٍ ففركتُ حلمةَ نهدها بأصبعيّ وأنا أتطلعُ في عينيها بشهوةٍ. دفعتني من صدري ونطّتْ من السرير. لملمتْ ملابسها وهرعتْ إلى الحمام وهي تردد:

" سافل.. حقير.. خنزير.... "

سمعتُ صوت بكائها فخطرتْ في ذهني فكرة أنْ أطرقَ البابَ وأعتذر إليها إلا أنّ صوت جبار الثوري عاد يرن في أذني:

" ولكْ لا تصيرْ غبي.. إهنا.. لا حب.. ولا بطيخ.. كلهن قحاب.. وحدتهن تاكل ألف عير باليوم.. "

غادرتْ كارين الشقّةَ دون أنْ تنظرَ إليّ وأطبقتِ البابَ خلفها بقوة، وحينما عادتْ مساءً وقفتْ أمامي واضعةً يديها على خصرها وقالتْ:

" لابد أن ننفصل. "

وقبل أنّ أردّ على كلامها، أردفتْ:

" سأذهبُ الآن إلى بيتِ أمي لحين تجد لك مكاناً وتنتقل من هنا. "

في اليومِ التالي حملتُ كتبي وملابسي وغادرتُ الشقة، ولم يكنْ أمامي من خيارٍ سوء طلبِ اللجوء في مملكة عاشور.

أعرف جيداً أنّ عاشور لا يرغبُ أنْ أقيمَ معه، وربما لا يرغب في أنْ يراني. ولولا اضطراري إلى اللجوء إليه لما فكرتُ أنْ أقيمَ معه ليلةً واحدة... ولكن، هكذا وجدتُ نفسي على الرصيف بلا مأوى وليس لي منّةٌ على أحدٍ سواه. أعددتُ لنفسي قبل الوصول إلى شقّته حججاً وردوداً قاسية لو تجرأ وطردني من شقته.

" ألم تلتجئ إليّ في أيام محنتك؟ ألم أجازف بحياتي من أجلكَ؟ هل نسيتَ ذلك؟ ..... "

لكن ما أن فتحَ البابَ واستقبلني بوجهٍ لم يستطع إخفاء مودةٍ عميقة يكنّها لي، حتى تبددتْ أوهامي، بل انقلبتْ إلى تأنيبِ ضميرٍ على سوء الظن.

رحبَ بي عاشور على غير عادتهِ وكنتُ مستغرباً من ذلك في الساعاتِ الأولى، غير أني اكتشفتُ السرّ سريعاً ولم يكنْ يتطلب الأمر فطنةً كبيرة سوى أنْ أتخلى قليلاً عن طريقة تفكيري وأستعير طريقته. كان عاشور يشعرُ بفرحٍ لإحرازه انتصارٍ عليّ، فها أنا الآن أثبتُ له صحةَ تفكيره وأقرّ بتفوقه ذكاءً وخبرةً، فبينما كان محنياً على الطاولة ويسكبُ الشاي في كأسي ونظراته مركّزة على سطح الطاولة كان يردد بنشوةٍ:

" ألم أقلْ لكَ .......؟ "

" .................... "

" ألم أنصحكَ......؟ "

" ................... "

" لا تثقْ بالمرأة... هكذا يقول نيتشه. "

كنتُ أهزّ رأسي موافقاً على ما يقول ليس لقناعةٍ وإنما لأني الآن محكوم بنزواتهِ وعليّ أنْ أتحمل مزاجه المتقلب.

كانتْ شقة عاشور تتكونُ من صالةٍ عريضة مقسّمة إلى نصفين بستارةٍ شبكية، نصف جعله صالة جلوس حيث وضعَ جهازَ التلفزيون وصوفةً صغيرة بينما تناثرتِ الكتبُ والمجلاتُ وأشرطةُ الموسيقى على الأرض، والنصف الآخر كان يضمّ المطبخَ وسريرَ النوم. لوحة كبيرة لشاغال معلّقة على جدارِ صالةِ الجلوس يظهرُ فيها عاشقان يطيران في الفضاء ويقبلان بعضهما بطريقةٍ مقلوبة، وعلى الجدارِ المقابلِ للسرير علّق روزنامةً قديمة تضمّ صوراً من مدينة فايله.

" هذي روزنامة مضى عليها أكثر من عشر سنوات. "

قلتُ وأنا أتطلعُ إلى الصور، فردّ دون أنْ يرفعَ رأسه:

" أعرف.. أعرف.."

ثم وبلهجة ساخرةٍ وحزينة قال:

" وماذا يعني التأريخ بالنسبة لي؟ "

أعدتُ الروزنامة إلى مسمارها دون أنْ أنتبه إنْ كنتُ قد أعدتها تماماً إلى ما كانتْ عليه، فهبّ عاشور مسرعاً وأعادها إلى الصفحةِ التي تحملُ صورةَ الجسر الكبير.

" وماذا يهمكَ إنْ كان الشهر شباط أم حزيران؟ "

قلتُ ساخراً فتطلعَ إليّ وقالَ وعلى وجههِ علاماتُ جد:

" لا يهمني الشهر أو التاريخ كما قلت لك ولكن الذي يهمني هو الجسر. "

تطلعتُ إلى صورةِ الجسر لعلّي أجد تفسيراً لما قاله عاشور فتذكرتُ مشهدَ عاشور في اليوم الأول لوصولنا إلى مدينة فايله، وكيف كان يتطلعُ إلى الجسر العالي والذي يربطُ أقصى شمال المدينة بأقصى جنوبها بربْطِ جانبيْ مدخلِ خليج فايله. كان الجسرُ أولَ علامةٍ لفتتْ نظره وراح يحدقُ إليه بصمت، وبعد يومين سألَ بعض اللاجئين المقيمين في المنزل عن الطريق الذي يوصلُ إلى أحد طرفي الجسر، وأضاف:

" يسحرني المشي على الجسر. "

فردّ عليه أحد اللاجئين:

" ممنوع المشي على الجسر. "

وقبل أن يسأله عن سببِ المنع أضاف:

" لأن عدداً كبيراً من الأشخاص انتحروا قفزاً منه. "

بعد يومين أو ثلاثة بدأتُ أشعر بأنّ مدةَ ضيافتي عند عاشور قد انتهتْ، إذْ راح يُشعرني بأنّ وجودي أصبح ثقيلاً من خلال تصرفاتهِ الغاضبة وردود أفعاله المتشنجة، ولكن لا خيار لي الآن سوى الصبر والتحمل حتى حصولي على شقّة أو غرفة، فأني سأكونُ محظوظاً لو استطعتُ الحصولَ على شقّة أو غرفةٍ قبل ثلاثة أو أربعة أشهر، لذا فقد اتفقتُ معه على أنْ أخرجَ صباحاً وأعودَ ليلاً لأنام فقط. وهكذا كنتُ أقضي الصباح في مدرسةِ اللغة والعصر في البيت الاجتماعي وفي الليل انتبذ لي ركناً في حانةٍ رخيصة تقع في زقاق ضيق، أغلب روادها من العجائز.

في الحانةِ أدركتُ أنّ الصممَ في أحيان كثيرة يكون نعمةً لا يقدّر قيمتها الإنسان، فكما يتخلصُ الأطرشُ من سماعِ ضوضاء الزفّةِ وثرثرة المحتفلين وبذاءاتهم، فأنّ الغريب هو الآخر يدخلُ المكانَ ويجالسُ رواده ولا يعرفُ ما يدورُ حوله وأيّ كلامٍ يتداولونه، إنْ ابتسمَ إليه أحد رفعَ كأسه محيياً وهو لا يدري إنْ كانتْ هذه الابتسامة شفقةً أم سخرية، وإنْ شتمه آخر فلا يغضبُ حتى لو عرفَ أنّ الآخرَ قد شتمه فهو لا يستطيعُ تقديرَ حجمِ الشتيمة، وحتى لو غضبَ فبأيّة لغةٍ يستطيع إيصال غضبه، فهو غافلٌ عن طرب الزفةِ وعن ضجيجِ الإطلاقات، مستعذباً صممه، بعيداً عن دوخة الرأس.

ارتفعَ لغطُ في دائرةِ الجالسين فخمنتُ بأنّ الحديثَ يدور عني حيث أنّ نظراتهم كانتْ مصوبة نحوي وهم يتصارخون، وكلما همّ شخصٌ منهم بالنهوض ليهجمَ عليّ ،ينهض آخر ويمنعه. فكرتُ بالهربِ من الحانةِ حينما تأكدتُ بأنّ الحديثَ يدور عني وأنّ من بينهم من بلغَ بهِ السكرُ حدّ الاستعداد لارتكابِ جريمة، غير أنّ دائرة الجالسين كانتْ تسدّ بابَ الحانة وأنّ خروجي منها يقتضي كسرَ محيطها من نقطتين، وربما هذا سيثيرُ شهية القرشِ منهم على افتراسي. أخرجتُ كتاباً من حقيبتي ورحتُ أقرأ متجاهلاً ما يدورُ في الحانةِ كحالِ الأطرشِ في الزفّة. انتبهتُ على صوتِ أقدامٍ تتحركُ باتجاهي فتوجستُ خيفةً. رفعتُ رأسي فوجدتُ جثةً ضخمةً قد سدّتِ الفضاءَ حولي. شاب بذراعين متعضلتين مغطاتين بالوشم. تشاغلتُ عنه فضربَ الطاولة بقبضتهِ وهو يترنح. تطلعتُ في الوجوه فلم أرَ من بينهم مغيثاً يغيثني منه فقد انشغلَ كلّ منهم بالحديثِ مع جليسه وكأنهم لن يروا ما سيحدث. قلتُ له بأدبٍ وبجملٍ دنماركية تدربتُ عليها كثيراً لأني كنتُ أحسبُ أنني سأحتاجها يوماً:

" تفضل.. ماذا تريد؟ "

" لا أريد أن أراك؟ "

" ولكني موجود بغير إرادة مني أو منك. "

" هذه ليست مشكلتي. اذهبْ إلى وطنك! "

" سأذهبُ حينما تسمح لي الظروف. "

لم يجدْ ما يرد به على كلامي فتوقفَ صامتاً يحدقّ إليّ بعدوانيةٍ والزبد يملأ شدقيه. تجاهلتُ وجوده ورحتُ أفتعل القراءة في الكتاب، عندها هجمَ على يدي وأخذ الكتابَ بقوة. أدارَ وجهه إلى جهةِ جلسائه وهو يصرخُ بصوتٍ هستيري:

" نحن نعمل وندفع الضرائب كي يأتوا إلينا ويقرأوا القرآن. "

ثم راحَ يمزقُ الكتابَ ويسحقه بقدميه بجنون. تطلعَ إليّ منتشياً بانتصاره ثم بصقَ على الأرضِ وغادر إلى حيث يجلس رفاقه. بعد دقائق جاء إليّ صاحب البار فحسبتُ بأنه جاء ليقدمَ الإعتذار نيابةً عنه. توقفَ أمامي دون أنْ ينظرَ إليّ ثم قال هامساً:

" أعتقد أنّ وجودك هنا غير مرحب به، لذلك أرجو منك أن تغادر الحانة. "

شربتُ بقايا كأسي وغادرتُ بصمت وقد رافقني صاحب البار حتى الباب.

غربة.. غربتان.. ثلاث..

ماذا بوسعِ هذه الروحِ أنْ تحتمل؟

وعلى أية نقطةٍ في محاورِ الغربةِ يقفُ هذا الجسد؟

الجسدُ ـ العالة، عالة على الوجودِ الضيق برغمِ اتساعهِ غير المحدود وعالة على صاحبه، وعالة صاحبهِ بعقله المنخور بعثّة الماضي، الماضي الذي مسخه حشرةً وأحاطه بشبكة عنكبوته وراح يمتصّ دمه متلذذاً بصراخهِ واندحاره كلما حاولَ أنْ يتخلصَ من محنته. فأنّى له أنْ يتخلصَ من سطوةِ الماضي والحاضر؟ فما بين وجوده في المكان ووجود المكانِ فيه ضياع يتجه نحو كلّ الجهات.

غربة بين أناسٍ لايربطكَ بهم أيّ شيء. محكوماً بالتشرد دونما ذنبٍ وجدتَ نفسكَ مرمياً على قارعةِ طريقهم، متسولاً لحظة أمانٍ فأشاروا إليكَ بها، وما أنْ اقتربتَ كي تحوزها سحبوا يدهم وهم يتضاحكون، ومع علمكَ بأنهم يريدونك لحظةَ تسليةٍ إلا أنكَ لا تكفّ عن المحاولةِ لأنكَ فاقدُ الإرادة وهم لا يكفّون عن السخرية إلى ما لا نهاية.

... وغربة أشدّ بين أبناءِ جلدتكَ الذين كلما هربتَ منهم تلاحقكَ سحناتهم ولغتهم ومناطيد دخانهم التي تسدّ عليكَ آفاق انطلاقكَ، وكلما ارتفعتَ عن أرضهم سنتمتراً واحداً في فضاء سموّكَ تناختِ الأذرع وهي تشدكَ إلى تحت حتى تغورَ بكَ في وحلِ زمنها أو تركن لأقداركَ كسولاً مثل جاموس يتلذذ برطوبةِ الوحلِ هرباً من هجيرِ شمسٍ حارقة.

سجنٌ، سعيرُ شمس وأحلامٌ من شمع، وكلما فكرتَ بالتحليق شعرتَ بغربةٍ عن الأرض، فالأرضُ ليستْ نافذةً تطلّ منها على زهرةٍ تتفتحُ، والمدى جدار.

إذنْ فلتكتفِ من فضاءِ رؤيتكَ بالعماء، أو لتكتفِ بالغناءِ في عتمتكَ كبلبلٍ غريبٍ في حديقةٍ لا وجود لها.

وهكذا من دائرةٍ ضيقةٍ إلى أخرى أضيق، والأسماء التي تعلمتها في بدء المنفى كأبجديةٍ تقاومُ فيها خرسكَ، نسيتها، وعدتَ كما كنتَ قبل الخليقة.

" أنتَ!!! "

" منْ؟ "

" آدم المشنوق بحبلِ قماطه ... "

كنتُ أعود كلّ ليلةٍ فأجدُ عاشور سكرانَ وقد أخرجَ كائناتهِ وصفّها أمامه على الطاولةِ وراح يتحدثُ إليها بحوارِ طرشان....

" هه.. رفيق. "

ويمسك عنقَ زجاجةِ البيرة كأنه يخنقُ شبحاً مستسلماً إلى قبضته.

" رفيق المسألة ليست بهذهِ البساطة.. وما هذا اللغو سوى تبرير لا يقنع عاقل أو مجنون .. طريق التطور اللارأسمالي كذبة.. عن أية جبهةٍ تتحدث؟ ستقولُ لي قال ديمتروف أو لا أدري من .. طز بيك وبديمتروف.. التحالفات لابد أن تكون بهدف استراتيجي وعمر البرجوازية الصغيرة لم تعرف في نهجها مثل هذا الهدف فكيف إذا استلمتْ مقاليدَ الحكم ولها السطوة والإعلام وقوى الأمن.. كلكم ببغاوات تردد ما تسمع دون أدنى تفكير.. اخرسْ رفيق أنت حمار.. وأنت كلب كنت تكتب تقارير على رفاقك حتى تروح تدرس بجامعة موسكو عن الماركسية والمرتد غارودي.... ها ها ها ها ها.. هه.. رجع الأخ من موسكو شرطي أمن.. وأنتَ.. نسيت؟ كنت تتحدث عن جايكوفسكي وبحيرة البجع ورحت تدرس الباليه.. من رجعتْ مو حجبت أختك.. تذكر من سألتك.. هاي شنو أبو فلاديمير قلت لازم نحترم تقاليد مجتمعنا.. تفووو.. عليك وعلى تقاليد مجتمعنا.. تقول وحدة وطنية.. ولكْ ليش تظل أرعن.. وين الوحدة الوطنية؟ تتذكر..؟ حينما كنا جالسين في المقر بعد عودة مفرزتنا من إنهاء مهمتها وتدمير الربية وأسرنا جنديين من العمارة.. كنا نسمع إذاعة مونتي كارلو.. كانت المذيعة تقول إن معدل ست قذائف في الدقيقة الواحدة تسقط على مدينة البصرة ... "

رفع عاشور قنينة البيرة وراح يتحدث معها:

" تعرف ماذا قال الرفيق أبو سرباز.. لا تغشم حالك.. تسوي روحك نسيت.. الرفيق أبو سرباز قال حيل بأهل البصرة.. كلكم سكتوا إلا أنا قلت له ليش رفيق قال شنو بس سيد صادق تنقصف.. رفيق.. لا حزب شيوعي ولا بطيخ.. عشاير.. نعم عشاير.. بعد تجربة التحالف مع البرجوازية الصغيرة رحتوا تتحالفون مع الإقطاع ورؤوساء العشاير.. والأضرط.. جاي تتحالفون مع ولاية الفقيه.. راهنتوا على صدام يصير كاسترو وهسه تراهنون على عمامة الخميني.. ومنو يدري.. يجوز عزيز محمد فد يوم يطلع بالتلفزيون مثل كيان نوري ليعلن أسفه أنه لم يطلّع من قبل على أفكار شهيد مطهري... تقول أممية.. كلْ خرا.. شوف السوفييت يتملقون لطارق عزيز حتى يبيعوه كم دبابة.. وطز بالمبادئ ... "

في تلكَ اللحظةِ يكونُ عاشور قد أفرغَ كلّ ما في حوزته من قناني البيرة وبدأ صوته يخفتُ شيئاً فشيئاً حتى يختفي تماماً ويبقى يطوح بذراعيه في الهواء حتى تسقطا على جانبيه، فيرتفع شخيره. أسندُ جسده على كتفي وأرمي ذراعه المرتخية تماماً على ظهري وأحمله إلى السرير. أتطلعُ إلى وجهه فأراهُ وديعاً وأليفاً كأني أتطلع في المرآة.

على الجانبِ الثاني من غربتي ثمة دوائرُ العراقيين التي كانتْ تتسعُ مع مرورِ الأيام بانضمامِ وجوهٍ جديدةٍ تحملُ سماتِ العذاب نفسها والانفعالاتِ ذاتها وصفاتٍ أخرى كالغضبِ السريعِ والصوتِ المرتفعِ والعدوانيةِ المضمرة. وجوه جديدة تدخل مقهى البيت الاجتماعي أول مرةٍ بوجلٍ وخجلٍ واضحين، لكنها سرعان ما تنضمّ إلى الدوائر بشكلٍ آلي كأنها تجد الأمانَ في التكدّسِ والدوران حول مركزٍ مألوف. خيول تسعى جاهدةً إلى ترويضِ نفسها لتركنَ إلى مصيرها الواضحِ حتى لو كان مصيرها العدم طالما أنّ الوجودَ بوابة إلى القلقِ ومفترق طرقٍ،  وعلى السائرَ أنْ يتخذَ القرار. وعلى الرغم من أنّ الفرصةَ أمامها مؤاتية للانطلاقِ خارج مضمار الترويض غير أنها أدمنتْ وجود جلدتا (الحنديري) على جانبي عينيها فظلتْ تدور باتجاهٍ واحد حتى بدون حنديريها....

دوائرُ.. تدورُ.. تدور.. سَوراتِ غبارٍ في صحراء ضياعها، وكلما اتسعتْ اتضحَ وجودها في المحيط الدنماركي كنقاطٍ سودٍ على صفحةِ البياض، أو كما عبّر أحدهم:

" نحن غربان على الثلج... "

في البدءِ كانتْ تلك السَوراتُ تجتذبُ بعضَ المارين من الدنماركيين فيقفون عند محيطها للفرجةِ على هذه الكائنات الغريبة، أو لاكتشافِ عالمٍ مجهولٍ يحمله هؤلاء القادمون من بلادِ الأساطيرِ والخرافاتِ والأديانِ والتقاليدِ المتزمتة، وقد يستبدّ الفضولُ ببعضهم فيدخلُ ضمن هذه الدائرةِ غامضةِ المحيط والمركز. صبايا يستهويهنَ الدورانُ والرقصُ على الجمرِ أو السير على شظايا المأساة، عجائزُ تفيض فيهنّ مشاعرُ الشفقة وجدنَ بهذه الكائنات أهلاً للصدَقةِ فمددنَ لهم فتاتَ محبةٍ وتآخٍ.

حتى غدا المشهد مألوفاً: دائرة بمحيطين، محيط لاعبي الورق المشغولين بفنونِ اللعبة.. شاتمين أقدارهم وسوء الحظ الذي يؤكده لهم دائماً ورقُ اللعب، ومحيط آخر من الصبايا الدنماركيات اللواتي يرقبنَ المشهد بفضولٍ وملل.. منتظراتٍ بلهفةٍ نهايةَ اللعبة وانفضاض الجمع لتصطحبَ كلّ واحدة منهن عشيقها إلى مخدعها ليمارس حرفته.. الحرفة الوحيدة التي يجيدها الغريبُ باتقانِ خبير.

دخلَ حامد دولار المقهى وصرخَ بخوفٍ:

" يا جماعه منو شاف جبار الثوري؟ "

توقفَ الجميعُ عن اللعبِ وهم يتطلعون في وجوهِ بعضهم البعض ببلاهةٍ كأنهم اكتشفوا فجأةً أمرَ غيابه.

كان جبار قد أقامَ حفلةً قبل خمسة عشر يوماً بمناسبة انتقاله إلى شقته الجديدة. دعا إليها جميعَ العراقيين باستثناء عاشور، أما أنا فقد دُعيتُ ولكني لم أذهب، حيث أني وعلى الرغم من حضوري يومياً إلى المقهى الذي يتجمع فيه العراقيون والإشتراك معهم في الأحاديثِ أو اللعب إلا أني كنتُ أشعرُ بأنّ جبار وغيره من العراقيين المقيمين في هذه المدينة أشياء من الماضي، وأني وإنْ كنتُ أشعرُ بحميمية وحب تجاههم إلا أني كنتُ أغالبُ نفسي للحفاظ على مسافة معقولة بيني وبينهم مكتفياً بعبارات المجاملة والتحيات العابرة:

" هلو عيني هلو.. اشلونك أخي.. الله بالخير.. الحمد لله.. الله يخليك.. في أمان الله...... "

أما عاشور فأنه لم يكلفْ نفسه حتى بكلماتِ المجاملة هذي، فقد قطعَ آخر شعرةٍ تربطه بالآخرين، وكانوا يبادلونه الجفاء بالمثل، ويعتبرونه فظاً ولا تطاق معاشرته، أسواء في حالاتِ سكرهِ أم صحوه، وعاشور نفسه يعرفُ ذلك لكنه لم يعرْ للأمرِ اهتماماً بل إنه لايطيقُ سماعَ كلماتِ اللوم أو العتب حتى مني، أنا الشخص الوحيد الذي بقيَ معه محافظاً على شعرةِ العلاقة على الرغم من أنه كان يتحينُ الفرصة من أجل قطعها، فقد ثارتْ سورةُ غضبهِ حينما وجهتُ إليه لوماً على الإساءة غير المبررة التي وجهها إلى عبد الزهره الشيخ خنجر حينما راح الأخير يلحّ بالسؤال:

" شلونك أستاذ عاشور؟ "

" أهلا.. أخي.. أهلا. "

" صحتك شلونها؟ "

" الحمد لله .. الله يحفظك. "

" أحوالك؟ "

" الله يخليك. "

" بعد شلونك؟ "

عندها تطلع إليه عاشور ولاحتْ على وجهه علاماتُ الغضب وجحظتْ عيناه ثم انفجرَ بوجه عبد الزهره:

" يا أخي قلت لك الحمد لله، الله يحفظك، الله يخليك، ماذا تريدني أن أقول لك بعد؟ هل تريدني أن أقول الله يطيح حظّك؟ "

" يمعودين.. جبار ما طلعَ من شقته من ليلة الحفلة ولحد الآن. "

صرخَ حامد دولار مرة أخرى. فرمى البعضُ الورقَ من يديه على الطاولة وراح يتطلعُ ساهياً منتظراً أنْ يأتيه نداء يكذّب الهاجسَ الذي طغى على النفوس. أدلى كلّ منهم بدلوهِ في بئر التوقعات محاولين بتحايلٍ مفضوح، التغافلَ عن الهاجس الكبير، حتى أنقذَ رضا الخطاط الموقف حينما أعلنَ:

" جبار سافر إلى هامبورك لزيارة صديقه. "

عندها تنفسَ الجميعُ الصعداء وهم يلعنون رضا على تأخرهِ بإعلان هذا الخبر، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه وازدادوا انشراحاً وهم يتذكرون ما جرى في الحفلة:

" يمعودين عزرائيل نفسه يخاف من جبار الثوري. "

" منين يجيه الموت.. صحته مثل الحديد.. السبع يأكل بيه أسبوع.... "

" شفتوا شقته شقد حلوه؟ ما صارف كرون واحد على تأثيثها. "

" طبعاً إذا هو سرق حتى أوراق التواليت من التواليتات العامه. "

" ملعون ما يصرف من راتبه الشهري كرون واحد، يسرق حتى البصل. "

" ............................................ "

"يمعودين انتم تحكون عَ الرجل وهو الآن ميت في شقته."

قال حامد دولار بغضبٍ فالتفتَ إليه الجميعُ وبصوتٍ واحد:

"يا أخي انت ليش تتفاول عَ الرجل مو قال لك رضا الخطاط بأنه سافر إلى هامبورك. "

هبّ حامد دولار واقفاً باسطاً ذراعه أمام الجميع، وقال مراهناً:

" أقطع إيدي إذا جبار مو..... "

لم يكمل جملته، ولكي يعطي مبرراً لتوقعهِ قال بصوتٍ واطئ:

" هل من المعقول جبار ما يجي يستلم راتبه واليوم خمسه بالشهر؟ "

حجة أقنعتِ الجميع ولم يستطعْ أحد أنْ يجدَ مهرباً من صحتها. صمتٌ عمّ المكانَ وغادرَ البعض خلسةً كأنه يهربُ من أمرٍ بدا في حكمِ المؤكد.

ثلاثةُ أيامٍ مرتْ على وجودِ جثة جبار الثوري في ثلاجة المستشفى بعد أن تمّ اقتحام الشقةّ من قبل الشرطة بصحبة بعض من أصدقاء جبار الذين نقلوا لنا المشهد الذي يؤكد بأنّ جبار قد فارقَ الحياة بعد لحظاتٍ من مغادرةِ آخر المحتفلين، حيث أنّ قناني البيرة والصحون التي استخدمتْ تلك الليلة لاتزال على الطاولة بينما ارتمى جبار على الأرض فاتحاً ذراعيه وهو يحدقُ إلى السقفِ بعينين مفتوحتين.

اقترحَ أحدهم الإتصال بالسفارةِ العراقية لنقلِ الجثة إلى العراق فجوبه الإقتراح برفضِ الجميع أو على الأقل التنصلَ من هذه المسؤولية، بينما اقترحَ البعض الآخر الإسراع بدفنه في المقبرة الإسلامية، لكنّ إدارة المستشفى رفضتْ تسليمَ الجثةِ لحين استكمالِ إجراءات تحديد سبب الوفاة. أثارَ هذا الأمرُ الغموضَ والريبةَ في نفوسِ البعض الذين بدأتْ مخيلاتهم تجترحُ قصصاً غريبة، لكنّ أمراً لم نعرفه قد حدث غيّرَ قرارَ إدارةِ المستشفى وتمّ تسليمنا الجثة التي نقلتْ إلى مدينة أودنسا القريبة من مدينتنا والتي توجد فيها المقبرة التركية. وحينما عاد المشيعون أقيم مجلس الفاتحة في المنزل الكبير.

قال أحدُ الجالسين في الفاتحة:

" يقولون إنّ سبب الوفاة انفجار في المخ. "

تطلعتُ إلى عاشور الجالسِ أمامي فرأيته يبتسمُ فخمنتُ ما يدور في ذهنه. لم يكنْ عاشور وحده الذي تلقفَ الإشارةَ فقد ارتسمتْ ابتسامات على وجوه كلّ الحاضرين وكلّ منهم يخفي تصريحاً لا يجرؤ على إعلانه:

" الحمد لله إن لجبار الثوري مخّاً. "

في اليوم الثاني من أيامِ مجلس الفاتحة، وبينما كان عبد الزهره الشيخ خنجر يتلو " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربكِ راضيةً مرضية " دخلَ حامد دولار مسرعاً. توقفَ في منتصفِ الصالةِ وهو يضعُ كفيه على خصره. أنهى المقرئ تلاوته وانشدتِ الأنظار مستفزّة بانتظارِ سماعِ ما سيقوله حامد. تطلعَ في الوجوهِ كأنه يبحثُ عن سرّ كامنٍ فيها ثم قال:

" تقرير المستشفى يقول إن جبار مات مقتولاً بضربة على رأسه. "

أحدثَ هذا الخبرُ هزّة في النفوس وراحَ الجالسون يتطلعون في وجوهِ بعضهم البعض منتظرين أنْ يعلنَ حامد عن كذبِ مزحته الثقيلة، غير أنه راحَ يؤكد ذلك بثقةٍ.

قال أحد الجالسين:

" الحمد لله إني ما كنتُ معكم في الحفلة. "

" فقال الآخر:

" وأنا كنتُ مسافراً. "

" أنا أول شخص غادر الجلسة. "

وهكذا راح كلّ شخص يذكر مكان تواجدهِ في الليلةِ الأخيرة لجبار وكأنه يحاولُ إبعادَ التهمةِ  عنه، تهمة القتل التي لم تتأكد، لولا أنّ الشرطةَ أجرتْ تحقيقاً مع الأشخاصِ القريبين من جبار والذين حضروا الحفلة، ولسببٍ نجهله أغلقَ التحقيق دون معرفة نتيجته. ولم تمرّ سوى بضعة أيام على موت جبار حتى طويتْ صفحته تماماً وغدا الحديثُ عن موتهِ كأنه فتْحٌ لملفِ التحقيق واتهامات تطال الجميع. ولأنْ ليس لجبار الثوري حسنات تُذكر، فقد صارَ خاطره لا يمرّ على الجالسين إلا كطرفةٍ عابرةٍ أو حينما تُذكر السرقات أو العنتريات، مترحمين على روحه.

دخلتُ على عاشور فوجدتُه متكوراً على الصوفة، ماسكاً جريدةً من جرائد المعارضة العراقية وغارقاً في الضحك فحسبتهُ يضحكُ بسببِ اسم الجريدة، (العراق الديمقراطي). رمى الجريدة وهو يردد:

" صار جبار الحرامي مناضل. "

وحينما سألتُه عن مغزى كلامه، تناولَ الجريدةَ وراح يقرأ بصوتٍ عال:

" تنعى الحركة الديمقراطية في العراق المناضل جبار قُلي ملكشاهي الذي توفي بشكل غامض بالدنمارك حيث يقيم لاجئاً. وكما كانت السلطة الفاشية تخافه في حياته فقد أخافها موته حيث أنها رفضتْ دفن جسده الطاهر في الأرض التي ناضل الفقيد من أجل تطهيرها من الزمرة الفاشية التي تتحكم برقاب شعبنا الأبي. وبغياب المناضل جبار قد فقدت الحركة الديمقراطية العراقية والحركات اليسارية مناضلاً شريفاً ليس من السهل تعويضه، لكننا نعاهد الرفيق الراحل بأننا سنواصل مسيرة النضال التي رهن حياته من أجلها حتى تحقيق حلم شعبنا بالتحرر من الفاشية وإقامة النظام الديمقراطي في عراقنا العزيز. "

رمى عاشور الجريدة وانفجرَ بالضحك ثانية. لم أستطعْ مجاراته في الضحك فقد كنتُ أفكر باحتمالِ صحةِ ما تناقله البعض من أنّ جبار مات مقتولاً، ومَن ذا الذي له مصلحة بارتكابِ هذا الفعل. ولكي أوقفَ عاشور عن المبالغة في الضحك، سألته:

" هل تعتقد بما قيل عن مقتل جبار؟ "

تطلع إليّ ببرودٍ وردّ سائلاً:

" ولماذا أجرت الشرطة تحقيقاً مع الذين كانوا معه في الحفلة لو لم يكن عندها شك بالأمر؟ "

" ومَن له مصلحة بقتل جبار؟ "

صمتَ وهو يهز رأسه فأعدتُ السؤال موجهاً الى اللا أحد وكأني أتحدثُ مع نفسي:

" مَن ترى قتل جبار؟ "

تطلع إليّ عاشور بعينين جاحظتين ثم قال:

" أنا. "

ضحكتُ بسخريةٍ من مزاح عاشور، فضربَ الطاولة بقبضته ثم أشار بسبابته إلى صدره وهو يتطلعُ إليّ بنظراتٍ يختلطُ فيها الجد بالجنون:

" أقول لك.. أنا.. أنا الذي قتل جبار. "

نهضتُ من الصوفةِ ضجراً ووقفتُ عند النافذة، أتطلعُ إلى الأشجار الغارقةِ في الظلام، منصتاً لهذيانِ عاشور الذي تجاهلَ وجودي وراح يتحدث مع كائناته:

" تسللتُ بعد مغيب الشمس بقليل إلى المقبرة القريبة من المنزل الكبير وكنت أعرف أنّ جبار سيجتازها في طريقه إلى المنزل.. لمحته قادماً من جهة الباب الصغير فأختبأتُ خلف شجرة وفي يدي قنينة بيرة فارغة.. وحينما اجتازني ببضع خطوات ركضتُ خلفه حتى أصبحتُ على بعد خطوة منه.. صرختُ به فالتفتَ مذعوراً وقبل أن يتهيأ لحماية نفسه كنتُ قد سددتُ إليه ضربةً على هامته.. ترنحَ قليلاً ولكنه حاول الهجوم علي فالتففت خلفه وسددتُ إليه ضربة أخرى فتطلع إلي دون أن يستطيع رفع يده.. الآن سأقتلك يا سافل .. حرامي.. قذر.. جبان.. حشرة.. توسلَ بي أن أتركه.. ركعَ أمامي وهو يحاول أن يقبّل حذائي.. فبصقتُ على وجهه وتركته يحاول النهوض.. وغادرتُ المقبرة. "

شعرتُ بأسى لما وصلَ الحالُ بعاشور الذي راح يتخيلُ أشياءً بعيدة عن الواقع، حتى اقترحتُ عليه بعد ترددٍ أنْ يراجعَ طبيباً نفسانياً، ولكي أخففَ وقعَ كلامي عليه قلتُ:

" صدقني، كلنا بحاجة إلى مراجعة طبيب نفساني. "

" ................................... "

" هل تعتقد ما مرّ بنا يذهب دون أن يترك آثاراً سلبية. "

" .................................. "

" على الأقل ستحصل على التقاعد، وتتخلص من مراجعة البلدية، وعندها يكون من حقك السفر والإقامة في أي بلد تشاء. "

" ............................ "

" أنتَ بحاجة إلى السفر لكسر العزلة التي أحطتَ نفسك بها. "

لم يجبني ولكني أدركتُ أنّ منسوبَ حقده عليّ قد ارتفع، وصرتُ كلما أعود ليلاً للمبيت عنده يقلبُ وجهه ويقومُ بأفعال تدلّ على نفوره من وجودي كأنْ يتحدث مع نفسه متجاهلاً وجودي تماماً أو أنْ يردد عباراتٍ مبهمةً، وفي الصباح حينما يستيقظ قبلي يُحدثُ ضجةً مفتعلة لإيقاظي أو يرفعُ صوت التلفزيون.... حتى استطعتُ الحصول على غرفةٍ صغيرة في الجانب الآخر من المدينة. وعلى الرغم من أنها تقعُ في الطابق الخامس وبمطبخٍ وحمام مشترك مع نزلاء الغرف الأخرى والذين كان أغلبهم من المدمنين على المخدرات والسرّاق والعاهرات، إلا أني وجدتها حلاً للتخلص من عاشور ومزاجه المتقلب. تنفسَ كلانا الصعداء وهو يتخلصُ من عبء صاحبه ويودعه بكلماتِ مجاملة للإبقاء على شعرة علاقتنا التي أصبحتْ واهية جداً بل إنّ إبقاءها أو قطعها لا يعني شيئاً لكلينا.

وبمغادرتي لشقته لم أزره بعدها إلا مرةً واحدة بعد سبعة عشر عاماً، وكانت المرة الأخيرة التي أراه فيها.

" إذن هذهِ هي الدنمارك. "

البلد الذي لا نعرفُ عنه شيئاً سوى برودةِ طقسهِ وحكاياتٍ قديمةٍ سمعناها من غيرنا، وعلى الرغم من أننا نقيمُ الآن فيها إلا أنّ لما سمعناه كان الوقع الأكبر في نفوسنا.

" المشكلة ليست في المكان. "

كان عاشور يردد كل ليلةٍ مع كائناته الصامتة، ويضيف:

" المشكلة زمنية. "

" .................... "

" العالم الثالث ليس بقعة جغرافية.. ليس أوطاناً أو أقاليمَ بحدودٍ ومخافرَ وحرس... العالم الثالث مرحلة زمنية. "

" ................... "

" أين تقع الدنمارك؟ "

سأل أحدهم وكان يعني:

" أين نقع نحن في الدنمارك. "

فالعبارة وأن اختلفت كلياً إلا أنها واحدة في جوهرها.

قال أحدهم:

" دير. "

قال الآخر:

" ماخور. "

أما أنا فقلتُ:

" في العراءِ المهندمِ .. النوافذُ تغدو سجناً وفي ذاكرةِ الأشياءِ تتسعُ خلواتٌ شاغرةٌ . الطائرُ الذي فكّر بالهربِ صدّته الجهاتُ قبل شروعه، الجهاتُ الأسيرةُ التي تنتظر القمرَ، القمرَ الزائر الجريء الذي يتسلل كل مساءٍ بين النوافذ كي ينكثَ روحه ويوزعها خيوطاً للجهاتِ، الجهاتِ التي تنسجُ القمر كل يومٍ. العراءُ امرأةٌ عاريةٌ، نسيتِ ـ الجهاتُ، النوافذُ، الطائرُ، القمرُ ... الخ ـ نفسها في حضرتها لتقيمَ موتها تمثالاً. العنقاءُ انزوتْ في قفصها الرمادِ تراقبُ العراءَ وهوسَ النوافذِ الشبقة. أقتفي أثري. بوصلةٌ عاطلةٌ تشير إليّ فأضيعُ..

ـ دلّني يا عراء!.

قلتُ للجهاتِ الأسيرةِ ـ آسرةِ الطائر المتمردِ ـ:

ـ اندفعي!

قالتْ:

ـ ليس خلفَ العراء فضاء.

قلتُ للعنقاءِ:

ـ اخرجي!

قالتْ:

ـ ليس بعدَ الرمادِ عشبٌ.

قلتُ للعراءِ:

ـ تعرَّ

قالَ:

ـ عرائي الذي يجعل سجنكَ أكثر إلفةً ورحمةً .. أنتَ المنعتق بي، أسيرُ مفاتني.

ـ ولكني أسير.

ـ لأنكَ لم تتسعْ مثلي، ولأنكَ واسعٌ بلا جهات، ولأنكَ بلا قمرٍ مشاكسٍ، ولأنكَ أنتَ.... أنتَ المقتفي أثركَ مثل عتبةٍ حرون، وإنْ تهربْ تهربْ مثل نفقٍ، تظنُّ أن لصحرائكَ نسغاً يسعُ مروركَ، أيها البحّارُ الضرير، الظامئُ مثل قدحٍ، أية بوصلةٍ ستقود المراكبَ إليكَ؟ أنتَ المتعثر بمركزكَ، الدائر حولكَ، الراسم مومياءكَ، الحافر هاويةً في الروح. حين تميطُ لثامَ آثاركَ تجدني وأنّى ترحلْ فأنا غربتكَ، أنا الدمُ المتصاعدُ في شرايين تمثالكَ، وسياجكَ الأليف. حينما أغراكَ الإبحارُ نسيتَ بان القاعَ مقبرةٌ شرهة، أغراكَ صراخ لؤلؤةٍ أسيرةٍ فأطلقتَ سراحها لتسكنَ الصَدَفَة. بحثتَ في جماجمِ الغرقى عن فكرةٍ تحملها إلى جزرِ الكلامِ ونسيتَ أن الفضاءَ تنخرهُ عثةٌ تعزفُ الخرابَ بأقواسِ قزحٍ. تسوقُ قطيعَ فراشاتٍ إلى مهدِ كهولتكَ والبحرُ يشرقُ بالسفنِ العائدةِ إلى جزرِ الكلام. نسيتَ... نسيتَ سفينتكَ المحملةَ بالفكرةِ والفراشاتِ وصولجاناتكَ المرصعةِ باللآلئ. كنتَ كخالقٍ ضريرٍ يضيء نسلَ الجاحدين... والآن... اقرأْ ماذا كُتبَ على جبينِ أعصاركَ: تسكن بي .. تحيطكَ جهاتي.. أيها العنكبوتُ المتواطئُ مع القمر... "

غربةٌ والدائرة تضيقُ.. تضيقُ.. والكلّ هنا يبحثُ عن وجودهِ.. لن يعثرَ على وجودهِ إلا كجثةٍ تثيرُ الغثيان في نفوسِ العابرين، وفي أفضلِ الأحوالِ سيعثرُ على وجودٍ زئبقي يركنُ إليه لينفلتَ من قبضةِ المكان (أو من قبضةِ الزمانِ كما يصرّ عاشور على تسميته) متى شاء مُلقياً عن نفسه صداعَ الرأسِ الذي تسببه الحيرة.

" نتواءات. "

" لا. "

يعترضُ عاشور ويستدركُ:

" ثآليل على خريطةِ البياض. "

ومن هذا الإرتباكِ وهذهِ العزلة تأتي سلسلةُ الأخطاء التي تحيطُ بالأعزل الحالمِ في الطيران، وكلما قطعَ بأسنانه خيطاً من الشركِ الملتفّ عليه وحسبَ أنه أصبح قادراً على الإفلاتِ سقطتْ عليه شبكة أخرى. وحينما يستكينُ إلى قدره ويهربُ إلى العزلةِ من أخطائه التي تتضاعفُ، يسقطُ في فخّ الوحدة ليواجهَ نفسه في مرآةٍ يتداخلُ فيها الماضي بالحاضر ليرى وجهه مهشماً فيظنّ بأنّ المرآةَ مكسورة.

" ألم أقلْ إنّ المشكلة ليس في المكان وإنما في الزمان. "

يقولُ عاشور، وعلى الرغم من أني أهربُ من الإتفاقِ معه إلا أني لا أجدَ مفراً من الرضوخِ إلى آرائهِ الغريبة فأصمتُ.

" ليست المرآة مكسورةً بل إن الوجهَ تشظى. "

" ................................ "

للعزلةِ رائحةٌ عفنةٌ كرائحةِ غرفةٍ مهجورة أو زريبة أو.... ماخور. مرةً ونحن خارجان من حمامٍ عمومي في طهران قلتُ لعاشور، إنّ لرائحة الحمّام التركي عفونةً تثيرُ شبقي، فوجدتُه يتفق معي مفسراً الأمرَ بطغيانِ رائحة الأجساد الزنخة. ولأن الأجنبي هنا محكوم بالعزلةِ وبزنخِ جثتهِ المتفسخة فأنه منتعظ طوال الوقت لا يهدأ جسدُه حتى لو ضاجعَ نساءَ الغربة كلهن. ومن هنا، ومن هذا الجوعِ الكامنِ في النفس يلقي اللومَ على المرآةِ (الأنثى) التي تُظهر له صورةَ وجههِ مشوهةً ظناً منه بأنّ المرآةَ هي المكسورة.

يتجمعُ اللاجئون متكدسين على بعضهم في زاويةِ المكان فتسمعُ نشرةَ أخبارهم:

" قتل فلان صديقته لأنها تركتها إلى عشيق آخر. "

" فلان طعن دنماركياً في الديسكو بسبب امرأةٍ. "

" الحانة الفلانية أغلقت أبوابها بوجوه الأجانب. "

" كلّ الدنماركيات عاهرات. "

" فلان سافر إلى المغرب كي يتزوج."

" يمعود سنتين، ومن تحصل على الإقامة ستتركه. "

" قحاب. "

" قحاب."

" كل النساء قحاب. "

" ........................ "

" توقفتْ الحرب العراقية الإيرانية. "

" خيسوا هنا، صدام طلع منها. "

" وين اللي راهنوا على عمامة الخميني. "

" يمعود كل السياسين قحاب."

" ........................ "

في الجانبِ الجنوبي من المدينةِ شارعٌ ترابي بمحاذاةِ النهر يصلُ المدينة بالمكتبة العامة، كنتُ أقطعه يومياً وحدي فألتقي بعاشور، جالساً على حافةِ النهر، واضعاً بين ساقيهِ كيساً مليئاً بقناني البيرة. أتجاهله مرةً وما أنْ اجتازه يصرخُ خلفي متوسلاً أنْ أشاركه وحشته، ومرةً أمرّ من أمامه فيتجاهلني فأتوسلُ بهِ أنْ يشاركني ضياعي، وهكذا...

اللغةُ تضيقُ بيننا على الرغم من أنّ بيننا قاموساً ضخماً من الأفكار والذكريات، ولكن كمَنْ يتحدثُ مع نفسه يقفُ أحدنا قبالة الآخر مكشوفَ النوايا كأننا نرى الفكرةَ وهو تدورُ في الرأس وقبل أنْ ينطقَ بها أحدنا.

" تعرف عاشور ذكر الأوز برأسه الأخضر وصدره المنقط بنقاط ذهبية أجمل من أنثاه. "

ارتفعَ صوته بالضحك، فالفكرةُ قد خطرتْ في ذهنه بالتأكيد وهو يتأملُ كلّ يوم منظرَ الأوز السابح في النهر، إلا أنه لم يترك الملاحظةَ العابرة تمرّ دون أنْ يقلبها بما تشتهي نفسه:

" ولكنه غبي وأرعن. "

" كيف؟ "

" انظرْ إلى ذكر الإوز هذا! "

وأشارَ إلى ذكرٍ يطارد أنثى وهي تتملصُ منه.

" منذ أكثر من ساعة وهو يطارد أنثاه وهي ترفضه، لكنه بلا أية كرامة أو عزة نفس.. إنظرْ! سأرمي إليه قطعة خبز.. لن يأكلها بل سيقدمها إلى الأنثى. "

" ألا تعتقد أنه جنتل أوز؟ "

سألتُ مشاكساً فأجابَ دون تفكير:

" لا، إنه كائن رخيص.. إنه يتوسل.. يتملق.."

فجأةً هبطَ ذكرُ أوزّ ثانٍ، انزلقَ على سطحِ الماء برشاقةٍ حتى استقرّ بالقرب من الزوجين. هجمَ على الأنثى ناقراً رأسها عدة مراتٍ ثم أنشبَ منقاره في رقبتها ساحلاً إياها إلى حافةِ النهر، وما أنْ خرجا من الماء حتى ركبَ على ظهرها وهي تحاولُ الإفلات منه إلا أنه استطاعَ أنْ يثبّتَ جسدها على الأرض بقوةٍ. استرختْ تحته وهو يهتزّ عليها مفرغاً شهوته فيها بعنفٍ وكبرياء. نفضَ ريشه ثم رفعَ جناحيه وطارَ إلى الجهة التي جاء منها.

تطلعَ عاشور إليّ بنشوةٍ كأنه قد أحرزَ انتصاراً وراح يردد:

" إذا ما ذهبتَ إلى النساء فلا تنسَ السوط... يقول نيتشه. "

الأيامُ تمضي... صنبورُ مياهٍ عاطل، يقطرُ بإيقاعٍ رتيبٍ يقتلُ الغفوة ويغرزُ الكابوسَ عميقاً في روحِ الساهدِ، وكلما نهضَ في ظلامِ أيامهِ لإصلاحِ الخلل، يرتطمُ بنفسهِ فتتهشمُ تفاصيلُه وتتناثرُ في المكانِ الغريب. لم يبقَ أمامه سوى أنْ يحشوَ أذنيهِ بقطنٍ هرباً من الأصواتِ التي تحاصره، فالزفّة بأفراحها وشخوصها لا تعنيه بشيء سوى الضجيجِ الذي ينخرُ الروح.

حوافُ البركةِ الآسنةِ تتصدعُ تحت أقدامِ الواقفِ الذي ينتظرُ شراعاً قادماً من الأفقِ القصي أملاً في الإبحارِ في طريقِ العودة... والبركةُ تتسعُ. وعلى الرغم من إتساعها فأنّ ماءها ليس راكداً فحسب بل هو متجمد. حجرٌ واحدٌ لا يكفي لإيقاظه. إنه بحاجةٍ إلى صاعقةٍ تهطلُ عليه... وهكذا، كان الجميعُ بانتظارِ تلك الصاعقة التي ربما تحرقُ ظلاماً هندساً يحيطُ بالروح، لعلّها تنيرُ مسافةً فيستدلّ الضائعُ على خطوته...

في بدءِ المنفى كنّا نبحثُ في القاموسِ عن مفردةٍ تصفُ المعنى في اللغة الأخرى، نحن الآتين من لغةٍ حبلى بغبارِ الحربِ ورملِ الصحراءِ وحزن الأسرى... نمضي بقصاصةِ ورقٍ تأتينا من أطرافِ الأرضِ كمنشورٍ سري... نتهجى أحرفها كي نرتبَ اسماً من الأسماء الأولى... نخطئ في اللفظ.. (لا بأس) حتى تراكمتْ عندنا مفردات نافرة في لغةٍ غامضة... والآن وقد مرّ علينا وقتٌ كافٍ لكي ندركَ اللغةَ الأخرى، غير أننا كلما أضفنا إلى قاموسنا مفردةً جديدة نسينا ما قد تعلمناه سابقاً... وهكذا... ذاكرةٌ منتعظةٌ ولكن بلا جسد، ولسانٌ يتلعثمُ في ذكر الأسماء الجديدة.

كان البعضُ يراهنُ على نهايةِ الحرب العراقية الإيرانية، منهم مَنْ تصورَ أنّ نهاية منفانا رهنٌ بنهاية الحرب، فما أنْ يسمعَ بانتصارٍ يحرزهُ الجيشُ الإيراني على جبهاتِ القتالِ حتى يشدّ حقائبه استعداداً للعودة. فقد صدّقَ بجهالةٍ ما كان يردده الخميني وتابعه رفسنجاني أو بالأحرى أنه صدّق وهمه، غير أنّ الحربَ انتهتْ ولم ينتهِ المنفى، بل إنّ توقفها لم يتركْ أثراً في نفسِ المنفي، كأنه خارجَ المعادلة التي تعنيه بالدرجة الأولى.

سنتان مرتا على نهايةِ الحرب الإيرانية.. فترة كافية لإقناعِ هذا المسافر أنْ يلغي وهمه أو على الأقل يؤجله إلى أجلٍ غير مسمّى فيؤثثُ بيته ويرتبُ خزانةَ ملابسه المرميةِ على الأرض استعداداً للعودة.

" هل يعودون؟ "

" لا أظن. "

" لقد اعتادوا الوهم. "

" لكي يبقوا بانتظار الصواعق. "

ولكن هذه المرة كانتْ صاعقةُ الوهم التي هطلتْ على بركتهِ الراكدة أكبر مما يتخيل، فبدلاً من أنْ تحركَ مياهه الراكدة سقطتْ عليه.

عادَ العراقيون إلى دوائرهم وإلى اجترارِ التوقعات.

" وماذا بعد احتلال صدام للكويت؟ "

البعض عاد إلى وهمهِ، بل إلى وهمِ وطنهِ الذي سينتصرُ.. سينتصرُ على جيوشِ الأرضِ قاطبة... وانتعظَ الشعورُ الوطني بانتظارِ رؤية الدمِ الذي سيسيلُ على أفخاذِ البلادِ التي لم تكن يوماً عذراء مذ أنجبتنا، غير أنّ أبناءها الغيورين يرقّعون لها بكارةً كلما أفتضتْ بكارتُها.

والبعضُ الآخر انتشى فقد عادتْ إليه شهوةُ المراهنات، فهو واثق هذه المرة من الربح، لأنه يراهنُ الآن على حصانٍ أمريكي، لا يسبقه حصان آخر.

وما بين هذا وذاك يقفُ الصمتُ في زاوية المكان، يرنو بحزنٍ إلى متفرجينَ لا يربطهم باللعبة سوى انفعالِ المتناطحين وألمِ الخسارة... ولأنهم منفعلون بصراعِ المتلاكمين فقد راحتْ أكفهم ـ وهم خارج الحلبة ـ ترتفعُ دونما إرادةٍ منهم لتوجّهَ اللكماتِ للفضاء، ولأنّ فضاءَ الدائرةِ ضيقٌ فقد تشابكتْ أكفّ المتفرجين وسالتِ الدماءُ من الأنوفِ والأفواه، فما كان مني سوى اختيارِ الهروب، والإنزواء بانتظار أنْ تنتهي اللعبةُ أو يدرك المتفرجون سخفَ انفعالهم، وهذا ما كان من أمرِ عاشور الذي اختفى منذ الثاني من آب.

كان الطقسُ ساخناً على غير العادة، فنحن الآن في نهايةِ شهر آب، حينما اتصلتْ بي الصحفيةُ الشابة التي تعمل في جريدة (فايله) والتي كانتْ تعد ريبورتاجاً عن رأي اللاجئين العراقيين المقيمين في المدينة حول الغزو العراقي للكويت وعن استعدادِ جيوش العالم لشنّ الحرب على العراق وربما اسقاطِ نظامِ صدام حسين. طلبتْ مني أنْ نكملَ ما فاتها أنْ تسأل عنه بالأمس، ولأنها تريد انجازَ المقالة بأسرعِ وقت فقد اقترحتْ أنْ تزورني في شقتي. رحبتُ بها بلباقةٍ وكبرياءٍ ممزوجٍ بافتعالِ الحزنِ والغضبِ لما يحدثُ في بلدي.

اهتزازٌ خفيفٌ في الكبرياء حدثَ، حينما شعرتُ بأنني أنفردُ بجسدِ أنثى طاغٍ بعنفوانه، جسد فوضوي لا يفتعل التمردَ على أسرِ الثياب، بل إنّ الثيابَ نفسها تخجلُ عن أسرهِ فتنحسرُ لتتركَ النهدين يشعّان برقاً في عينِ الظامئ، وساقين متناسقتين كساقي لاعبة تنسٍ يسيلُ لهما لعابُ الذي لا يجيد سوى التلصص. تصدّعَ جدارُ الكبرياء الذي حاولتُ تدعيمه بالحزنِ وجدّيةِ الموقف، موقف المفكرِ النخبوي المتحضرِ وهو يرى بلاده مهددةً بالتدمير... انهارَ الجدارُ حينما جلستْ قبالتي على الطاولةِ الصغيرة فكانتِ المسافةُ الفاصلةُ بين أرنبةِ أنفي ونهديها العاريين بضعة سنتمترات. اختلطتْ أنفاسنا ساخنةً وجفّ ريقي والسيجارة لم تفارقْ يدي محاولاً دوزنة القلق الذي بدا واضحاً في اهتزازِ ركبتيّ دونما شعور مني، وتلعثمتِ الكلماتُ على لساني المعقود بالدهشة. أدركتْ ذلك فراحتْ تضعُ كفها على نهديها كلما انحنتْ على الطاولةِ للكتابة، لكن ذلك لم يغيّر من الأمر شيئاً فتنورتها القصيرة التي انحسرتْ بجلستها لم تعد تغطي شيئاً. حاولتُ أنْ أتماسكَ قليلاً. نهضتُ مراتٍ عدة إلى المطبخ لإحضار القهوة. غير أنّ ارتجافةَ يدي وهي تحملُ كوبَ القهوةِ كانتء تشيرُ إلى ارتباكي بوضوح. حاولتْ أنْ توحي لي بأنها لم تلحظَ ارتباكي، فراحتْ تتطلعُ بين لحظة وأخرى إلى اللوحات المعلقة على الجدار أو تقلّب كتاباً لا تفهمُ من لغته شيئاً، حتى سألتني بعد أنْ نفدتْ مقدرتها على التحايل:

" هل أنتَ مريض؟ "

" لا. "

قلتُ بارتباكِ الجافلِ من غفوتهِ.

" هل تشعرُ بالتعب؟ "

وقبل أنْ أجيبها، قالتْ:

" أم أنك تشعر بالإحراج من وجودي. "

عندها انتفظتْ كبريائي مدافعة عن نفسها، ورجولتي التي كادتْ تُهزم فبادرتْ بالهجوم كدفاعٍ عن نفسها في اللحظات الأخيرة. تطلعتُ إليها ببسالةٍ وأنا أغرز نظراتٍ حادةً في عينيها فشجعني أنها تراجعتْ منذ الطعنة الأولى فقلتُ بصوت واطئ لكن بثقةٍ وأريحية:

" أعرفُ أنّ صدام حسين بدوي جلف غزا الكويت طمعاً بآبار نفطها واستعراضاً لسطوةِ فحولته، أما أنا فلا تهمني آبار النفط ولا خزائن الأرض ولكن ماذا أفعلُ إذ وهبكَ الله كلّ آبار الجمال هذي. "

طلبتْ مني برجاء أنْ أعيدَ ما قلته فأعدتُ دون أنْ أنسى كلمةً مما قلتُ على الرغم من أنّ الجملة جاءتْ إلهاماً آنياً. توقفتْ قليلاً لكي تستوعبَ ما قلته ثم انفجرتْ بضحكةٍ رقيقة راميةً جسدها إلى مسند الصوفة فانتشرَ شعرها الأشقر في فضاء الغرفة محدثاً موجاتِ عبير ومطباتٍ جوية هبطَ على أثرها قلبي فتشبثتُ بمسندي الكرسي. غطتْ وجهها بكلتا كفيها وهي تهزّ كتفيها بمرحٍ وثقة. تطلعتْ إليّ وقد لاحَ في عينيها شعاعٌ ذهبي وابتسامةٌ رقيقة تقلّصتْ شيئاً فشيئاً حتى حسبتُ أنها ستنهضُ غاضبةً. بللتْ شفتيها بطرفِ لسانها بالعةً ريقها بصعوبةٍ وقد ارتفعَ صدرها بزفرةٍ مكتومة. امتدتْ يدها إلى علبةِ السجائر. تناولتْ واحدةً وراحتْ تنفثُ دخانها إلى الأعلى دوائرَ دوائرَ ترتفعُ إلى السقف وتتلاشى كما الحسرات، ثم امتدتْ يدها ماسكةً كفي برقةٍ فاحتضنتُ كفها بكفي الأخرى. أغمضتْ عينيها فهدأتْ أنفاسي بعد أنْ تأكدتُ من إعجابها بغزلي أو على الأقل عدم غضبها. قرّبتْ شفتيها فتقدمتُ بجرأة استعداداً للقبلة، غير أنها تراجعتْ قليلاً وبصوتٍ أنثوي مرحٍ ومغناج سألتني:

" أحقاً جمالي الذي فعلَ بك ذلك أم الطقس الحار؟ "

" جمالكِ والطقس الحار و.... "

كدتُ أقولُ " والحرمان الذي ينخر عظامي " إلا أني تراجعتُ مستعيداً هيئةَ الكبرياء التي حازتْ على شيء من الانتصار فاستعادتْ نشوتها. رفعتُ كفها وطبعتُ قبلة عليها وأنا أتطلعُ في عينيها فندتْ عنها تنهيدةٌ حاولتْ كتمانها فقالتْ بشكلٍ يوحي بالجدّ:

" لا أعتقد بسبب جمالي بل بسبب الطقس الساخن. "

ثم أردفتْ:

" بدليل أني أشعر بنفس شعورك. "

لم أدركْ مغزى كلامها إلا بعد حين، فقلتُ برجولة فظّة:

" لا تتواضعي.. لا أحب التواضع. "

سرعان ما انتبهتُ إلى صيغةِ الأمر في كلامي والأنا المتفاخرة بخوائها فأعدتُ الجملة:

" أعني أنك لطيفة. "

تطلعتْ إليّ بصمتٍ كأنه ينذرُ بعاصفةٍ ستقلعني من مكاني. دعكتْ سيجارتها في المنفضةِ فشعرتُ بخوف من أنها ستغادرُ المكان، غير أنها مسكتْ أطراف قميصها الحريري بيديها من الخصر، رافعةً إياه ببطء مموسقٍ فبانَ خصرها ونهداها، وارتفع شيئاً فشيئاً ليخرج رأسها كأنها تولد أمامي. تجمدَ دمي وأنا أتطلعُ إليها عارية تماماً كقطوفٍ دانية تتدلى على فمِ الراقد تحت سدرةِ المُشتهى. ابتسمتْ بشماتةٍ من ارتباكي، ثم قالتْ بلطف:

" هل تسمح لي أنْ أهديكَ جسدي؟ "

حاولتُ النطقَ إلا أنّ الكلماتِ تجمدتْ في حنجرتي، وجفّ حلقي ساعلاً كأني اختنقتُ بجملةٍ عصيّة على الخروج. شعرتْ بذلك فأضافتْ ضاحكة:

" ... ولكن دونما غزو فأنا أخاف من العراقيين. "

مدتْ يدها ماسكةً ذراعي ونهضتْ وهي تسألُ عن غرفة نومي.

.....................................

عدنا إلى الصالةِ روحين تحلقان بالنشوة. ارتدتْ ثيابها وتناولنا سيجارتين وبدأنا العملَ بنشاط. عند البابِ الخارجي وقفتْ أمامي كقامةٍ من كبرياءٍ وجمال وعفّة. أدارتْ لي صفحةَ خدها فطوقتُ خصرها بذراعيّ وقبلّتها تحت أذنها. وحينما شعرتْ بأني قد أطلتُ فترةَ عناقها، تملصتْ من بين يدي كسمكةٍ ماهرةٍ وانطلقتْ ملوّحة لي بالوداع.

بعد ما يقاربُ الساعتين طُرقَ البابُ وسلمّني بائعُ الزهور باقةً حمراء منداة بقطراتِ ماء بلورية، وعلّقتْ بغصنٍ منها ورقةٌ صغيرة كُتبَ عليها:

" شكراً على اللحظات السعيدة. "

نعم... كانتْ لحظات، ولكنها في زمنِ عمري قد شكّلتْ منعطفاً كبيراً. كانتْ انفجاراتِ ألغامٍ ديستْ بأقدامِ الحالة لتنفجرَ مدويةً فيهتزّ كياني كله. فبعد خروجِ ملاكِ اللذة (هكذا أسميتُها) من شقتي ولم تزلْ رائحةُ الحب تملأ بعبقها المكان وتكنسُ عفونةَ وحدتي التي خمّرتْ جسدي وروحي في دنانها، ارتبكَ كلّ شيء في داخلي، كأن جدرانَ وجودي بدأت تنهارُ بصمتٍ مدوٍ لتعيدَ بناء نفسها من جديد. أخرجتُ نفسي وأجلستُها قبالتي على الطاولة، وفي المكانِ نفسه الذي جلسَ عليه ملاكُ اللذة، فبدتْ أمامي مثلَ قوّادةٍ عجوز تثيرُ التقززَ بأضراسها المتسوسة، تجاعيد وجهها ورقبتها، أصباغها وزنخ أنفاسها. أخرجتُ مخي وأفرغته من كلّ ما اختزنتْه خلاياهُ من أفكارٍ رعناء وخيالاتٍ مريضة. حاصرتُ رقيبي حتى حشرتُه في زاوية مظلمةٍ.. كبّلتُه.. صفعتُه.. بصقتُ على وجهه.. ثم ركلتُه خارجاً... رأيتُه يتدحرجُ ككرةٍ سوداء على سلّم ماضيَّ.. يتدحرجُ.. ويصغرُ.. يصغرُ.. حتى تلاشى.

وجوه كثيرة مرتْ على شاشةِ الجدار المقابل لي.. تلك الوجوهُ التي كانتْ تغرز فيّ نظراتها الوقحة بسفالتها وتحاصرُ متعتي بالانكسارِ ثم تشمتُ بي منكسراً... وجوه من الماضي البعيد كانت توعدني بالعذاب كلما رأتني مبتسماً في غفلةٍ عن سطوةِ المأساة. كانتْ تظهرُ لي وكالأدرانِ تغلّفُ ذكرياتي. أبي، أمي، أخوتي، أصدقائي، المعلم، الشرطي، رجل الدين... قطراتُ قطرانٍ عالقة في ثيابي.

كلّ وجهٍ يظهرُ كنقطةٍ سوداء في عمقِ الجدار.. تقتربُ وتكبرُ.. تقتربُ وتكبرُ، حتى تتجسدَ وجهاً أصفرَ بتكشيرةٍ سوداء.

" تفووووووووووو.... "

يختفي الوجهُ فتظهرُ نقطةٌ سوداءُ ثانية في عمقِ الجدار.. تقتربُ وتكبرُ.. تقتربُ وتكبرُ، حتى تتجسدَ وجهاً أصفرَ بتكشيرةٍ سوداء.

" تفووووووووووو.... "

يختفي الوجهُ فتظهرُ نقطةٌ سوداءُ ثالثة في عمقِ الجدار.. تقتربُ وتكبرُ.. تقتربُ وتكبرُ، حتى تتجسدَ وجهاً أصفرَ بتكشيرةٍ سوداء.

" تفوووووووووووووووووووو ... "

وهكذا...

أصواتٌ ناشزة تنخر أذنيّ بعثّةِ النصائحِ والوصايا:

" ديرْ بالكْ تره إهنا لا حب ولا بطيخ.... "

" تفووووووووو.... "

" المرأة كائن قبيح... "

" هههههه .... تفوووووووو... "

" ناقصة عقل.... "

" تفوووووووووو... "

" نيتشه يقول... قابل أنت أحسن من نيتشه.. "

" تفوووووووووو... "

" .... يقول ... "

" تفوووووووووووووو "

" تعالي أيتها النفسُ السابحةُ في بركةِ الانحطاط.. تعالَ أيها المخّ المعلّق بحبلِ الغباء.. تعالَ أيها القضيب التافه، المغرور بانتصابه.. تعالوا .. في هذه اللحظة التي تخليتُ فيها عن رقيبي، عن القضاة والمدعي العام، عن المحامي الثرثار وعن نفسي الواقفة بذلّ في قفصِ الإتهام، أيتها المرآة المخادعة... تعالوا الآن نقف وجهاً لوجهٍ لأعلنَ براءتي منكم جميعاً... وإنْ شئتم لنتباهلَ.. أنتم بكلّ ماضيكم التافه الذي تفخرونَ به وأنا بميلادي الجديد.. أنتم بعفّةِ نسائكم المزيفة وأنا بملاكِ لذتي.. أنتم بقضاياكم الكبرى وأنا بابتسامةِ حبّ ترتسمُ على وجهي.. أنتم بثقلِ ماضيكم المقدس وأنا بلحظةٍ نبيلةٍ واحدة.. أنتم بوهمِ معراجكم وأنا في غورِ لحظةٍ حسيّة صادقة.. تعالوا .. وليرمِ كلّ منا روحه.. ستكونُ أرواحكم أفاعيَ تسعى وتلدغُ ما حولها.. أعترفُ لكم بقدرتكم وسطوةِ ماضيكم.. لكني سأرمي الآن روحي لتكونَ نورساً ناصعَ البياض يحلّق بنشوتهِ عالياً.. عالياً.. بعيداً عن عفونةِ مستنقعاتكم الراكدة.. ستفخرون بانتصاركم ولكني سأسمو بربحِ خسارتي.

أما أنت يا توأمي.. تعالَ.. نضع حداً للمهزلةِ التي جمعتنا خمساً وثلاثين سنةً... ليمضِ كلّ منا في طريق.. اتبرأ منكَ.. بل سأتبرأ من الرحم الذي جمعنا.. "

وصلتْ عاصفةُ الصحراء إلى مدينة (فايله) فتطايرَ مع غبارها العراقيون، منزوين في جحورهم أو حاملين خيامهم ضاربين بأطنابها على البحر، يصلّون صلاةَ الاستسقاء فتمطرهم السماءُ ناراً فيهربون.. يهربون وكلّ منهم يغطي رأسه التي غدتْ محض حجارة مثبتةٍ على جسدِ ثور.. يركضون بلا اتجاهٍ وكلّ منهم يغطي رأسه، كأنّ القذائف التي سقطتْ هناك وصلتْ شظاياها إلى هنا.

حينما مرّتْ العاصفةُ وعمّ السكون ثانية عادوا إلى دوائرهم حاملين خيامهم المهترئة، مرتابين من المدينةِ التي بدأتْ تضيّق الخناق عليهم. عادوا بدواً لا يجيدون حتى حرفةَ الرحيل فظلوا في أماكنهم واقفين، ضالعين في المتاهة، ضالين في تيهِ أرواحهم.

كنتُ جالساً في ركنِ المقهى ومعي صديقتي التي عاشرتها قبل كابوسِ عاصفة الصحراء، حينما دخلَ عاشور متلفتاً كأنه يبحثُ عن شيء لا وجود له. كانتْ نظراته مرتابةً وقد علقَ برموشه غبار كأنه قادم من الصحراء أو خارج من القبر. حينما رآني توجه إليّ فأدركتُ بأنه يبحثُ عني. اقتربَ من الطاولةِ فنهضتُ مرحباً به. وقفَ أمامي مرتعشاً وقبل أنْ أسأله عن سببِ ارتباكه وجّه إليّ لكمةً أطفأتْ نورَ عيني لحظاتٍ. تطلعتُ إليه مستفسراً فمسكَ بياقة قميصي وراح يهزني بعنفٍ وهو يردد:

" خائن.. خائن .. "

وحينما سألته عمّا يقصد، تطلعَ إلى صديقتي التي كانتْ ترتعش خائفةً، ثم خاطبني وهو يشيرُ إليها بنظراتِ مجنون:

" إلا تعرف أنّ هذه العاهرة التي معك هي زوجتي؟ "

تطلعتُ إليه مشفقاً فقد أدركتُ بيقينٍ أنّ الجنونَ قد بلغَ به أقصاه. غادرَ المقهى ولم ألتقِ به بعد ذلك إلا مرةً واحدة.

أما صديقتي فقد كانتْ تبكي وهي نائمة، وحينما أيقظتها قالتْ:

" كنتُ في العراق. "

لملمتْ ملابسها وغادرتْ شقتي ولم تعد.

......................................

سافرتُ إلى دمشق سائحاً لكني أقمتُ فيها أربعَ سنوات ثم عدتُ إلى الدنمارك بزوجةٍ وطفلتين. أقمتُ في حيّ شمالي المدينة التي لم يتغيرّ فيها شيء سوى ازديادِ كراهيةِ أهلها للأجانبِ وازديادِ عزلةِ العراقيين ليس عن المجتمع الدنماركي فحسب بل في ما بينهم حيث أنّ أغلبهم قد تزوجَ وأنجبَ وراح يدور على نفسه في ظلّ همومِ العائلة والأطفال. لم أرَ عاشور الذي كان بالنسبة لي العلامة الوحيدة التي تربطني بعراقيتي في هذه المدينة، وقد كنتُ مشتاقاً لرؤيته أو بالأحرى كنتُ مشتاقاً لمعرفةِ ماذا حلّ به، وحينما سألتُ عنه علمتُ بأنه يقيمُ في الحيّ نفسه ولا يبعد عن شقتي سوى بضعة أمتار.

مرات عديدة كان يدفعني الفضولُ إلى زيارته فكنتُ أذهبُ إلى شقته متوجساً، وقبل أنْ أطرقَ البابَ كنتُ أتراجع عن نيتي وأقفلُ عائداً، حتى جاء يومُ الحدثِ الكبير الذي كنّا نحسبه حلماً لفرط ما انتظرناه.

روايةٌ مملّة يقرأها السجينُ مجبراً، مؤجلاً نهايتها لحين اقترابِ موعدِ انعتاقه على الرغم من تشوقهِ لمعرفةِ النهاية.

التاسعُ من نيسان..

الصفحة الأخيرة من روايةِ النفي العراقي. رواية فرضتْ نهايتُها الملتبسة على قارئها أنْ يلقي ولو نظرةً سريعةً على فصولها وشخوصها، على أحداثها المملة بدمويتها وإطنابِ حوارها.

كنتُ بحاجةٍ إلى شخصٍ أستعيدُ معه فصولَ الرواية، التي انتهتْ هذا اليوم بسقوطِ تمثالِ صدام حسين في ساحة الفردوس بحبلِ دبّابة أمريكية، جاءتْ يوماً ما بحزبِ صدام إلى الحكم، والدائرةَ اكتملتْ كحبلِ مشنقةٍ أو كدورةِ سرفةِ دبّابةٍ تركتْ آثار براثنها الحديدية في قلبِ أرض العراق.

ضغطتُ على زرّ التلفزيون حالما سقط التمثالُ مدوياً كأنّ سقوطه قد أيقظني من كابوسٍ دام أكثر من ثلاثة عقود. لم أعدْ أستطيعُ تحمل المزيدِ من الفرحِ أو الألمِ أو السخريةِ من النهايةِ السخيفةِ لهذه الرواية التي خُطتْ بدماءِ الملايين من الضحايا.

تركتُ البيتَ مسرعاً كي أتحررَ من أسرِ اللحظة فقد ضاقَ فضاءُ البيت كأن صخرةً جاثمة على صدري، ولكي أخفي ارتباكي من طفلتيّ اللتين عاشتا معي عشرين يوماً تحت قصف الطائراتِ وركامِ المباني المنهارة.  

طرقتُ البابَ بارتباكٍ ولهفة لمعرفةِ الطريقة التي سيستقبلني بها عاشور، وكيف سيعبرُ عن فرحهِ بانتهاءِ الكابوس. كانتِ الكلماتُ مخنوقةً في داخلي ولكني كنتُ واثقاً من أنه يشاطرني الشعور ذاته، وأنّ كلاً منّا سيتفهمُ وسيعذرُ صاحبه عن الطريقةِ التي يعبّر بها عن فرحهِ حتى لو كانتْ حركات ساذجة، فاللحظة التي نحن فيها خارجة عن حساباتِ الصداقة والعداء، إنها لحظة يشتركُ فيها العراقيون، خاصةً الذين اكتووا بنارِ سلطة البعث وذاقوا مراراتِ الحروب والسجون والمنافي.

فتحَ عاشور البابَ بتوجسِ الأعزل أو ساكنِ المغارات البعيدة وأطلّ عليّ بقامةٍ ناحلةٍ تكادُ تنكسر، ولحيةٍ كثّةٍ تصلُ عند أسفل عينيه وتستطيلُ حتى تغطي عنقه. تطلعَ إليّ بصعوبةٍ رامشاً كأنه خارج من عتمةٍ. كانتْ عيناه غائرتين في محجرين عميقين وتحيطهما دائرتان من السوادِ الغامق. مسحَ عينيه الحمراوين بكمّه فأدركتُ بأنه كان يبكي قبل أنْ اقتحم عليه عزلته. دخلتُ دون أنْ أنتظرَ منه السماح لي بالدخول. ولكي أكسرَ الصمتَ الذي سببته زيارتي المباغتة، قلتُ وأنا أشده من كتفيه:

" مبروك. "

تطلع إليّ بعينين تتقادحان شرراً كعينيْ مجنونٍ غاضب، ثم قالَ بصوتٍ متلعثمٍ كأنه قد نسيَ في عزلته الكلامَ:

" على ماذا؟ "

فأجبتُ على الفور:

" على سقوط صدام حسين ونظامه... طبعاً. "

طأطأ رأسه فحسبتُ كأنّ الأمرَ لا يعنيه أو أنه لايزال كعادته مشاكساً. حاولَ أنْ ينطقَ فخذلته شفتاه. هززته من كتفيه بقوة كي أوقظه من سرحانهِ وسألته باستغراب:

" ما بكَ؟ هل أنتَ مريض؟ "

أزاح يدي عن كتفهِ بنفورٍ وخطا نحو النافذةِ الكبيرة ثم وقفَ مطلاً على الخارج شابكاً كفيه ببعضهما إلى خلف ظهرهِ، بينما وقفتُ متسمراً وسط الصالةِ محاولاً أنْ أجدَ تفسيراً لسلوكه الغريب. شعرَ بما يدورُ في ذهني، وقبل أنْ أغادرَ شقته التفتَ إليّ، وبلهجةٍ حزينة خاطبني دون أن ينظر إلي:

" هذا أسوء يوم في تأريخ العراق. "

" لا أعتقد ذلك. "

قلتُ مفتعلاً الثقة بيقيني، ولكيلا أتركَ له فرصةً للسخرية من يقيني، أردفتُ:

" وهل تعتقد سيأتي نظام أسوء من نظام صدام حسين؟ "

تطلعَ إليّ وقد أمالَ رأسه قليلاً رافعاً طرفَ فمه إلى الأعلى بحركةٍ توحي بالاستخفاف، ثم ركّزَ نظره في الأرض وهو يردد بصوتٍ واطئ لكنه شديد الوضوح:

" هذا الكلام صحيح لو بقيَ وطن اسمه العراق. "

فأجبته دون تردد مفتعلاً السخرية من كلامه:

" وهل تعتقد أنّ صدام كان محافظاً على وحدة العراق؟ "

" هذا كلام ساذج. "

فال بطريقةٍ وقحة مفتعلاً دورَ المحللِ السياسي الذي يتنبأ بيقينٍ بما ستؤول إليه الأمور. تقبلتُ رده على مضضٍ محاولاً معرفةَ ما يدورُ في ذهنه، فقال وهو يطبقُ جبهته على زجاج النافذة متشبثاً بمقبضها:

" إنّ المخطط الذي بدأت أمريكا بتطبيقه اليوم لا يستهدف نظام صدام حسين بل إنه يستهدف العراق كوطن ويستهدف المنطقة بأكملها. "

" هذا كلام ليس بجديد. "

قلتُ، وبعد لحظاتِ صمتٍ أضفتُ:

" وهذا ما كان يردده صدام والبعثيون، كأنهم حريصون على وحدة العراق. "

حاولَ أن يردّ على كلامي إلا أني قاطعته قبل أنْ ينطق:

" مهما يكن الأمر فأنّ نظام البعث في العراق كان لابد أنْ يسقط، فوجوده أصبح عالة على العراقيين والمنطقة بل على العالم بأسره. "

تطلعَ إليّ مستخفاً بما يسمعه فلم أعره اهتماماً وأكملتُ:

" وبما أنّ الشعب العراقي قد عجزَ عن اسقاطه فلا ضير من الاستعانة بالقوة الخارجية التي هي الأخرى من مصلحتها أنْ تزيلَ هذا النظام الذي صنعته بيديها ثم أصبح وجوده عالة عليها. "

لم يتطلعْ إليّ وراح يهرشُ لحيته بغضبٍ ثم قال:

" أنتَ تنطلقُ من موقف ثأري.. عشائري.. أناني.. "

" ........................ "

" فكلّ الذي يهمكَ الآن أن تثأر لنفسك من البعثيين وصدام حسين حتى لو كان ذلك على حساب الوطن فأنتَ ... "

صمتَ قليلاً وهو يبلعُ ريقه بصعوبةٍ ثم أضاف:

" أنتَ لا ترى من الجدار إلا الشرخَ الموجود فيه... ولكيلا ترى الشرخَ تسعى إلى هدم الجدار وبالتالي لا يهمكَ سقوط البيت كلّه.. طالما أنك أشبعتَ شهوةَ انتقامك... "

" ...................... "

" .. متناسياً القيم والثوابت التي على المثقف أنْ يلتزم بها ولا يساوم عليها... لأن الإخلال بها إخلال بالموقف الحضاري للمثقف وبذلك إخلال في المبادئ الأخلاقية التي لا قيمة للمثقف الخارج عنها. "

" ............................. "

استغلَ صمتي فتقدمَ مني شاداً ذراعي بقبضةٍ مرتعشة:

" هل تنكر أنّ الحرب التي شنتها أمريكا وبريطانيا على العراق كانت خارجة على قرارات الشرعية الدولية وبحججٍ واهية واضح كذبها؟ "

" ............................ "

" هل تعرف ماذا يعني انتصار أمريكا في كل حربٍ تخوضها؟ "

" ............................... "

" هذا يعني انتصار البسطال الأمريكي على العقل البشري. "

" ............................. "

" ثمّ ماذا لو حدثتْ غداً الحرب الأهلية؟ "

" لن تحدث. "

قلت بثقةٍ ثم استدركتُ:

" حتى لو حدثتْ فأنها ليست أسوء من نظام صدام حسين. "

قهقه ساخراً وأشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى وهو يردد:

" انتظرْ... سترى. "

قال وغادر الصالةَ فبقيتُ وحدي أنتظر عودته، إلا أنه دخلَ غرفة النوم ولم يعد فحسبتُ ذلك إشارةً لي بالخروج.

غادرتُ شقّة عاشور بشعورٍ محايدٍ كأنّ فرحتي قد تبخرتْ، فعلى الرغم من أني كنتُ أحاول أنْ أكونَ النقيضَ وأردّ على كلّ رأي يتفوه به عاشور إلا أني وجدتُ أنّ شيئاً من هواجسه قد تسللَ إلى نفسي فبترَ فرحي وكأن عبارته الأخيرة " انتظرْ.. سترى " قد كشفتْ لي بأنّ الروايةَ المملة التي حسبتُ أنها قد تمتْ بسقوطِ نظام صدام حسين لم تنتهِ بعد، وأنّ هناك فصولاً أخرى في هذا الكتابِ الأسود كتبتْ مسبقاً أو ستكتبُ لاحقاً.

" لا أدري... لننتظرْ سنة إضافية أخرى. "

"...................... "

" لننتظرْ منفى آخر! "

" .................... "

" لا أدري. "

ولكن الذي لا أدريه أيضاً ولم يخطرْ على بالي هو أني لن أرى عاشور بعد اليوم ولن يكسبَ أحدنا الرهانَ بالتأكيد.

 

 

القسم الثالث

الثاني عشر من حزيران هو يومُ ميلادي الثامن والأربعون حسب بعض الروايات، فقد اختلفَ الرواةُ في تحديدِ يومِ ميلادي، منهم مَنْ قالَ إنّه اليومُ الثالث من شهرِ كانون الأول من عامِ 1955، ومنهم مَنْ قالَ إنّه اليومُ التاسع والعشرون من شهر صفر من سنةٍ لا أعرفها بل لا يعرفها الراوي نفسه. ولأن يومَ ميلادِ كلّ العراقيين غير مهمٍ في نظرِ أهليهم فقد حسمتِ السلطةُ الأمرَ بقرارٍ ذي مغزى حينما جعلتِ الأولَ من تموز هو يوم ميلاد كلّ العراقيين الذين ولدوا قبل عام 1957.

في أولِ اتصالٍ تلفوني حصلَ بيني وبين أهلي بعد سقوط نظام صدام حسين، سألتهم عن تأريخ ميلادي. أثارَ سؤالي استغرابهم، فبعد أكثر من عشرين عاماً على غيابي كانوا يتوقعون بأني سأسألُ عمّنْ ماتَ وعمّنْ فُقدَ في السجون والحروب. تداركتُ بَطَري بحجةِ حاجتي لمعرفةِ تاريخِ ميلادي لأمورٍ تخصّ إصدار وثيقةٍ مهمة. وبعد تداولاتٍ استغرقتْ أكثرَ من نصف زمنِ الاتصال اتفقوا بالأغلبيةِ على أن يومَ الثاني عشر من حزيران من عام 1956 هو يوم ميلادي والله أعلم.

ورضوخاً لإلحاحِ عائلتي على إقامةِ حفلة بالمناسبة، ولكي أبدوَ متحضراً أمام طفلتيّ اللتين قررتُ ومنذ ولادتهما أن أحررهما من عقالِ عراقيتي، فقد وافقتُ على الجلوسِ متسمراً على الصوفةِ أمام طاولةٍ صُفتْ عليها شموعٌ مضاءة وقطعةُ كيك، بينما وقفتْ ابنتاي استعداداً لترديدِ أغنيةِ عيد الميلاد المعروفة:

" Happy birth day to   "

رنينٌ متواصل على جرسِ البابِ بترَ الأغنيةَ على شفاهِ ابنتيّ، فهرعتا إلى فتحِ الباب بفرحٍ، ظنّا منهما بأننا قد خبأنا لهما مفاجأة سارة.

" عجوز دنماركي بالباب يريد الحديث معك. "

قالت ابنتي الكبيرة هامسةً ثم اختبأتْ خلفي لتنصتَ إلى ما سيقوله الزائرُ الذي وقفَ متكئاً على الجدار. هزّ رأسه بتحيةٍ وقورة فرحبتُ به وأنا أنظرُ إلى عينيهِ المرتعشتين، مستجمعاً فطنتي لصرفهِ بطريقةٍ مهذبة، فقد ظننتُ أنه أحد المبشرين من جماعةِ شهود يهوا الذين اعتادوا على المجيء في أوقاتٍ غير محددة والوقوف طويلاً عند الباب باحثين عن مدخلٍ للحديث عن ضلالِ الخلق وغضبِ يهوا، غير أنّ هذا العجوز فاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه:

" هل أنّ أخاك مسافر؟ "

" أخي!؟ "

قلتُ مستغرباً ثم أضفتُ:

" ليس لي أخ في الدنمارك. "

تطلعَ إلي بريبةٍ ثم سألني:

" أليس أخاك الذي يسكن في البناية 55؟ "

وحينما أجبتُ بالنفي، هزّ رأسه اعتذاراً، ولكي يبررَ سؤاله قال:

" كنتُ أظن أنه أخوك بل توأمك، فهو عراقي ويشبهكَ تماماً. "

أدركتُ أنه يقصد عاشور، وقبل أن يتركَ العجوزُ المكانَ سألته:

" إنه صديقي، ولكن ما به؟ "

تطلعَ إلي بارتياحٍ كأن أمراً زالَ غموضه، فقال:

" لا.. لا.. لا شيء ولكن منذ أكثر من أسبوعين لم أسمعْ صوتاً في شقّته ولم يقمْ بتنظيف درجِ البناية حسب جدولِ التنظيف، فقلتُ ربما هو مريض أو... "

أدركتُ سرّ خوفه وتردده في إكمال الجملة. انقبضَ قلبي وارتعشتْ ساقاي على الرغم من أنّ الفكرة بأسوء احتمالاتها ليستْ غريبة، بل كنتُ أتوقعها ويتوقعها الآخرون في كل لحظة، فموتُ الوحيد واقتحام الشرطة للشقّة بعد أن يكتشف الجارُ رائحةَ الغياب مشهد مألوف في المجتمع الدنماركي، ولكنّ لموتِ الغريب الأعزل في شقّته بعداً مأساوياً يضافُ إلى مأساة الموت.

" انتظرني، سأذهبُ معكَ لمعرفة الأمر. "

قلتُ فرحبَ العجوز باقتراحي كأنه تخلصَ من حملِ نصفِ المسؤولية. ذهبتُ مع العجوز دون أن أخبر زوجتي عن الجهةِ مكتفياً بترديد:

" سأعود حالاً... "

ضغطتُ على زرّ الجرسِ وانتظرتُ فلم أسمعْ صوتاً أو حركةَ أقدام. طرقتُ البابَ بكفي متشبثاً بظنّ تحايلتُ بهِ على نفسي، فلقد سمعتُ رنين الجرس بوضوحٍ ولا مجال لسوء الظنّ بسمعي سوى بما يتمناه المرءُ في مثل هذه الأمور. دفعتُ بأطراف أصابعي غطاءَ فتحةِ البريد المعدنية ومددتُ أنفي فلم أشمّ رائحةً تدلّ على وجود جثةٍ. قرّبَ العجوز أنفه من فتحة البريد فلاحتْ على وجهه ابتسامة بعد أن تأكدَ بأن لا وجودَ لرائحةٍ تدلّ على موت:

" أكيد أنه مسافر. "

" لا أعتقد ذلك. "

قلتُ جازماً فتطلعَ إليّ مستفسراً عن سرّ اعتقادي فقلتُ موضحاً:

" إنه صاحبي وأعرفه جيداً، فهو لا يعرفُ على هذه الأرض أحداً سواي ولا يفكر بالسفر. "

" ربما مريض. "

قال العجوز، غير أنّ عدداً من سكّان البناية الذين تجمعوا عند بابِ شقّة عاشور راحوا يؤكدون اختفاءه منذ أكثر من أسبوعين:

" لا يمكن أن يكون مريضاً كل هذه المدة، فإما أنْ يشفى وإما أنْ... "

قال أحد الواقفين مترنحاً من شدة السُكر، فالتفتَ إليه الباقون بنظراتِ تأنيبٍ ولومٍ فصمتَ منزوياً. فترة صمتٍ كان الحديث يدور خلالها بالأذرعِ وتقاسيمِ الوجوه، حتى انطلق السؤال من أحدهم:

" والآن ما العمل؟ "

عندها راح يتلفتُ كلّ منهم ثم يلوي عنقه ويتركُ المكان.

" المسألة لا تحتاج إلى تردد. "

قال العجوز مفتعلاً الشجاعة وكأنه يهيئ نفسه لمصيرٍ مشابه، ثم أردفَ:

" لنتصل بالشرطة. "

حاولتُ أن أجدَ مبرراً لتأجيلِ الأمر إلا أنه سبقني داخلاً إلى شقّته، ثم عاد بعد وقتٍ قصيرٍ وهو يردد:

" ستحضر الشرطة حالاً. "

وصلَ شرطيان بصحبةِ عاملٍ من عمالِ شركةِ السكن، ومع دورةِ المفتاحِ شعرتُ بدوارٍ وارتعشتْ ساقاي فاتكأتُ على الجدارِ وقد ارتسمتْ أمامي جثةُ عاشور مرميةً على الأرض، وعينان مفتوحتان تحدقان في السقف. دفعَ العاملُ البابَ بقوة فاندفعَ قليلاً، لكنه ارتدّ مرةً أخرى فارتطمَ وجه العامل بالباب. مفاجأة لم تكنْ في الحسبان حيث أنّ سلسلةَ الأمانِ لاتزال معلقةً. راحتْ الوجوهُ تتطلعُ ببعضها مصفرّةً. مدّ شرطي أنفه من فتحةِ البابِ الصغيرة ثم أعلنَ بيقينٍ عن خلوّ الشقةِ من رائحةِ جثةٍ. تنفسَ البعضُ بعمقٍ، لكنّ الأمرَ ازدادَ غموضاً، فوجودُ سلسلة الأمان يدلّ على أنّ عاشور لم يغادر شقته. حاولَ الشرطي أن يستفسرَ مني عن الأمرِ فرفعتُ كتفيّ نافياً معرفتي بهذا السر. تطلعَ عاملُ الشركة إلى وجهي الشرطيين منتظراً ما يؤمر به فأشارَ إليه أحدهما بكسرِ الباب.

اندفعَ الرجالُ إلى داخلِ الشقةِ، وكلّ منهم أخذَ اتجاهاً يبحثُ في الزوايا عن علامةٍ تفسرُ هذا الغموض. أعلنَ أحدَ الشرطيين عن عثورهِ على جوازِ سفرِ " آشور " وبطاقةِ البنك فسقطَ احتمالُ سفره. لم تمرْ سوى لحظاتٍ من الحيرة حتى اكتشفنا أنّ بابَ البرندة المطلّ على جهةِ الغابة مفتوح... (على الرغم من معرفتي بنزواتِ عاشور وجنونهِ إلا أني لم أستطع تخمين سببَ خروجه قافزاً من البرندة التي ترتفع عن الأرض بثلاثة أمتار تقريباً حتى قرأتُ لاحقاً مخطوطته أو صندوقه الأسود والعلاقة التي جمعته بالنورس). ناداني أحدُ الشرطيين من غرفة النوم فأسرعتُ إليه. كان يحمل دفتراً أنيقَ الغلاف، وجده تحت مخدة عاشور.

" ماذا به؟ "

سألني وقد انشدّتْ الأنظارُ نحوي لتعرفَ إنْ كان الدفترُ يحملُ وصيةً أو إشارةً تكشفُ سرّ الغياب. قلّبتُ أوراقَ الدفتر بيدين مرتجفتين:

" مخطوطة لقصص قصيرة وربما مذكرات. "

قلتُ فمطّ الشرطيان شفتيهما بخيبةِ أمل، لكني وقبل أنْ أطبقَ الدفترَ توقفتُ عند العنوان المكتوبِ بخطٍ كبير على الصفحة الأولى:

" الصندوق الأسود. "

" ماذا يعني هذا؟ "

سألني أحد الشرطيين فأجبتُ بتلعثمٍ:

" أعتقد أن آشور قد انتحر. "

هزّ الشرطي رأسه وهو يحكّ لحيته بطرفِ إصبعه، ثم سألني:

" وهل كان سلوكه يشيرُ إلى نيّةٍ كهذي كما تزعم؟ "

" نعم. "

أجبتُ بيقين.

طلبَ أحد الشرطيين من الأشخاصِ الذين امتلأت بهم الشقة المغادرة وأشارَ إليّ أن أبقى معهما:

" ربما نحتاجك لأمر ما. "

قال فهززتُ رأسي مرحباً، بينما انشغلَ الشرطي الآخر بالاتصالِ بمركز الشرطة. بعد أنْ أنهى مكالمته التي لم أفهم منها سوى بعض الإشارات، التفتَ إلي وخاطبني بكلامٍ لا يخلو من العجرفةِ ونفاد صبر:

" قبل ثلاثة أيام تمّ العثور في الميناء على جثةٍ لغريق. "

توقفَ قليلاً ثم قال مستدركاً:

" إنها جثة شخصٍ بملامح شرق أوسطية. "

 هززتُ رأسي بحزنٍ متطلعاً إليه بانتظارِ أنْ يقول شيئاً يمكنني أن أفعله، فسألني:

" هل عندك استعداد للذهابِ معنا إلى قسم الطوارئ للتعرف على الجثة؟ "

" نعم. "

أجبتُ على الفور مفتعلاً الصلابة.

تأكدَ لي بالحدْس أمرُ انتحارِ عاشور فارتسمتْ أمامي صورته وهو يحدّق إلى جسر فايله الكبير وحديثه الطويل عن الانتحارِ وأسهل طرق تنفيذه وأضمنها، واحتفاظه بصورة الجسر في الروزنامة القديمة.

" عاشور..

أية أسئلةٍ خطرتْ في ذهنكَ وأنت تقفزُ خارجاً وفي نيتكَ الوصول إلى العدم..؟ أية أسئلةٍ دارتْ في ذهنكَ وأنتَ تقطعُ المسافة ما بين بيتكَ والجسر..؟ وقفتَ متشبثاً بالسياجِ مطلاً على الظلامِ العميق.. المسافة بين الجسرِ وسطحِ الماء ليستْ قصيرة.. المسافةُ تكفي لأكثر من سؤال.. بماذا كنتَ تفكر وأنتَ تهبطُ نحو القرار.. القرار العميق.. هل ندمتَ على قراركَ وأنتَ تغورُ نحو قرار البحر..؟ وماذا وجدتَ في القاعِ..؟ بماذا تشبثتَ وأنت في النزعِ الأخير..؟ وماذا عن اللحظات الأولى لاجتيازكَ المعبر نحو العدمِ المنشود..

ـ عاشور من أنتَ؟

ـ ...................

ثمانٍ وأربعون سنة تماماً عمرُ الرحلة التي قطعناها معاً. كنّا نرددُ كلّ حرفٍ من حروفِ الأبجديةِ بصوتين مختلفين ولكنْ بدلالةٍ واحدة وكبرنا معاً، تركنا على الدروب آثارنا المتشابهة حتى لو اختلفت الدروب، ولم يكنْ أحدنا صدى لصوت الآخر، بل كنّا صوتاً واحداً يخرجُ من حنجرتين. أعرفُ أنكَ كنتَ تتحينَ الفرصة للانتقامِ من توأمكَ السيامي، كنتَ تحصي نقاطَ ضعفهِ كي تتسلى بتأنيبهِ وحينما يحاولُ أن يردّ على تأنيبكَ بتأنيبٍ تختفي، ولا أخفيكَ سرّاً كنتُ أفعلُ الشيءَ نفسه، ولكنْ مَنْ كسبَ الرهانَ أخيراً.. لا أحد.. لا أحدَ بالتأكيد، فكلانا تركَ الصمتَ لتوأمه وسؤالاً مُجهضَ الجواب. عاشور.. أيّنا كان وجود الآخر وأيّنا عدمه؟ أيّنا كان الطلسم وأيّنا تعزيم حلّه؟ "

" ................................. "

" علي.. يا علي.. يا علي.. قولي علي.. قولي علي.. علي.. علي.. خرجَ رأسه.. علي.. أضغطي.. علي.. شدّي.. قولي علي.. يا علي.. يا داحي باب خيبر.. علي.. قولي علي.. علي.. علي.. خرجتْ كتفه.. علي.. داحي باب خيبر.. قولي علي.. علي.. أضغطي.. بعد.. بعد.. علي.. علي ي ي ي ي ي ي ي ي ي.. خرجَ جسده.. وَلَد.. وَلَد.. وَلَد.. زغاريد طويلة وبكاء وليدٍ يملأ الفضاء. خرجَ الطفل من رحمِ الأرض. خرجَ الطفلُ عاشور أو حميد أو جبرْ أو....، مدفوعاً بقوةٍ مجهولةٍ. خرجَ من رحمِ الأرضِ إلى منفى اللاوجود.. حبا الطفلُ على يديهِ ورجليهِ.. تعَ تعَ تعَ تعَ تعَ.. نهضَ الطفلُ متكئاً على الفراغ.. سقطَ.. اسم الله.. سور سليمان ابن داوود.. خطا الطفلُ خطواته الأولى خارجَ الأرض.. تاتي تواتي.. تاتي تواتي.. سارَ الطفلُ إلى جهةٍ مجهولةٍ.. العيون ترقبه بحذرٍ.. تقيسُ خطوته.. تروزه.. سيكونُ طبيباً.. لا.. مهندساً.. ردتك ما ردت دنيا ولا مال.. الحسّاد كثر.. الأعداء كثر.. عدوك عليل وساكن الجول.. احذرْ من أصدقاءِ السوء.. احذرْ من أولادِ الحرام.. احذرْ من نفسك الأمّارة بالسوء.. قلْ أعوذُ بربّ الناس.. احذرْ من الغجرِ سيسرقونكَ ويعلمونكَ الرحيلَ إلى مدنهم البعيدة.. لكنّ الطفلَ رحلَ إلى المدن البعيدة.. نعم.. رحلَ الطفلُ.. بلا غجرٍ ولا بوصلة.

خرجَ الطفلُ من بيتهِ مقلّداً الطيور.. هبطَ على الأرض.. سارَ في ظلامِ الغابة نحو بصيص الضوء.. سارَ الطفلُ.. عارفاً وجهته بغريزةِ السائرِ على مضمارٍ مرسوم سلفاً.. وصلَ الجسرَ الكبير.. تشبثَ بسياجِ الجسر وأطلّ على المياه الغارقةِ في الظلام.. من الماءِ خُلقَ كلّ شيء حي.. وإلى الماءِ يعود.. لتنتهي دائرةُ رحلتهِ من سجن الرحم إلى منفى اللاوجود.. هبطَ الطفلُ هبوطاً حرّاً نحو القرار...

ماتَ عاشور.

ماتَ حميد.

ماتَ جبر.

والحكمة واحدة:

" جبرْ.. من كس أمه للقبرْ. "

.........................................

كانْ يا ما كانْ .. في قديمِ الزمانْ.. كان طفلٌ اسمه عاشور أو حميد أو جبر أو ...

كانَ.. كانْ...

كانَ كائناً...

ما كانْ. "

جفلتُ مستيقظاً من سَرَحاني حينما وضعَ الشرطي كفّه على كتفي. ابتسمَ حينما شعرَ بارتباكي، وهزّ رأسه معتذراً عن تكليفي بمهمةٍ صعبة بالتأكيد. أشارَ إليّ برأسه أن أتبعه ثم سارَ إلى يميني وسارَ الشرطي الآخر إلى شمالي كأنهما ماضيان بي إلى غرفةِ الإعدام. سرنا في ممرِ قسمِ الطوارئ في مستشفى فايله نحو ثلاجة حفظ الجثث. رجلٌ محكومٌ بالموتِ يسيرُ في الدهليز، يتعثرُ بأصفادهِ مصحوباً بموسيقى جنائزية وتراتيلَ تبشّرُ النفسَ المطمئنة برجوعها إلى ربها راضية مرضيةً. الدهليزُ طويل كأنه لا ينتهي بنقطةٍ ما. صمتٌ عميق تحفرهُ خطواتُ الشرطيين وعاملِ المشرحة الذي يتقدمنا ببضع خطواتٍ، بملابسه البيضاء الملطخة بالدمِ حاملاً بيده ساطوراً كبيراً يتدلى حتى يكادَ يلامس الأرضَ تاركاً نقاطَ دمٍ على البلاط، هكذا تراءى لي المشهد.. أصوات وأنين وصراخ معذبين، جماجمُ فاغرة أفواهها تطلّ عليّ من الجدران، وفي كلّ لحظةٍ أتوقع أنْ تمتدّ يد من الفراغ نحوي. ضغطَ عامل المشرحةِ على زر في الجدار فانفتحَ باب كبير:

" مرحباً بكم في حضرة السيد عزرائيل. "

فكرتُ بالهرب، لكني تماسكتُ متلمساً جسدي، مطمئناً نفسي بأنها مجرد زيارة لا غير، فأنا الآن شاهد يُدلي بشهادتهِ أمام السيد، وربما سيوقّع على وثيقةِ تعهدٍ بأن لا يمارسَ الحياة، هكذا علمتني الحياةُ ففي كلّ مرةٍ أذهبُ فيها للشهادةِ أجد نفسي متلبساً بالتهمةِ وحينما استيقظُ من الكابوس أجد بأنّ الثمن كانَ التنازل عن حقٍ من حقوقي في الحياة وربما ستكون هذه المرة كسابقاتها.

توقفَ رجلا الشرطة عند مدخلِ صالة المشرحة وأشار أحدهما إلي بأن أتبعَ العاملَ الذي اتجه بخطواتٍ واثقةٍ نحو خزاناتِ الجثثِ المدفونةِ في الجدار. تبعتهُ على مهلٍ كأني أحاول سرقةَ بعضٍ من الوقت عسى أن يغيّر العاملُ أو الشرطيان رأيهم فيطلقا سراحي. توقفَ العاملُ عند إحدى الخزانات، وانحنى ليسحبَ الجثة. تطلعَ إليّ بنظراتٍ تروزني لتعرفَ مدى استعدادي لتحملِ المشهد. أشرتُ إليه بهزةٍ من رأسي، زافراً بعمقٍ، عاضاً على أسناني كي أوقف اصطكاكها الفاضح لخوفي، عندها سحبَ العاملُ الجثةَ ببطءٍ ثقيل، حتى ظهرتْ بكاملها منتفخةً بشكل مرعبٍ. انحنى العاملُ على الجثةِ وأمالَ رأسَه قليلاً نحوي متطلعاً إليّ ليلتقطَ الإشارةَ النهائية لبدء العرض. تطلعتُ إليه بصلابةٍ مفتعلة. سحبَ سحّاب الكيس البلاستيكي الأبيض قليلاً كاشفاً عن رأسِ الغارقِ في غيبوبتهِ ووجهه وقليلٍ من العنق. أشارَ إليّ بيدهِ أن أتقدمَ فتقدمتُ ببطء حتى أصبحتُ قريباً من رأسِ الجثةِ، عندها تنحّى العامل مبتعداً، متشاغلاً بإعادةِ ترتيبِ أشياء لا وجودَ لها في الصالة.

وجه متآكلٌ أزرق، انتشرتْ عليه أخاديد وحفر سود كأنها محشوّة بقير، وأعصابٌ بارزةٌ كأنها أسلاك كهربائية. وجه بلا ملامح، فقد طُمستِ العينان تماماً وتآكلَ الأنفُ ولم يبقَ من الفم سوى أسنانٍ صفرٍ بارزة كأنها تكزّ على الوجود الذي لا وجودَ له. توقفتُ صامتاً برهبةٍ حتى كدتُ أصرخُ مُعلناً بأنه ليس صاحبي، غير أني تلعثمتُ واختنقتْ صرختي. زمن لا قياسَ له مرّ علي وأنا متجمد أمام هيكلِ الرهبةِ، لابد أنه زمن كافٍ للدخول إلى عالمٍ اللامحسوسات، حيث بدتِ الأشياء كأنها تفقد صفاتها ويغرقُ الوجودُ في المجازِ ليعلنَ عن عدميةٍ يتساوى فيها الموتُ والحياة، الخوفُ والجرأة. قرّبتُ وجهي من الوجهِ المستكين إلى عدميتهِ ورحتُ أتطلعُ فيه غائراً في آثارِ تضاريسه، وشيئاً فشيئاً بدأتْ ترتسمُ أمامي ملامحُ عاشور...

" نعم.. إنه هو.. "

ولكنْ هل كانَ هو حقاً؟ أم أنّ نظرتي التي راحتْ ترممُ حسبَ مشيئتها ما تآكل من وجهِ التمثالِ لتعيدَ ملامحَ عاشور واضحة.

" يا إلهي إنه يشبهني حقاً.."

" ..................... "

" يشبهني تماماً... "

" .................. "

" لا، إنه أنا... "

فأجهشتُ بالبكاء.

مسكَ الشرطيان ذراعيّ وسحباني برقّةٍ، بينما دفعَ عاملُ المشرحةِ الجثةَ لتختفي في الجدارِ إلى الأبد.

لا أدري كيفَ اجتزنا الدهليزَ عائدينَ إلى غرفة الإدارة في قسم الطوارئ، حيث أني وجدتُ نفسي متهالكاً على كرسيّ وأحد الشرطيين محنياً عليّ يحاولُ أن يضعَ كأسَ الماءِ بين شفتيّ، بينما كانَ الآخر يجلسُ أمامي ضاغطاً بيديه على ركبتي اللتين راحتا ترتفعان وتنخفضان دونما إرادة مني.

تطلعتُ إلى الجالسِ أمامي وبصعوبةٍ نطقتُ كلمة الشكر على اللطفِ الذي أبدياه معي. ربتَ على كتفي مبتسماً ثم أخرجَ جهازَ تسجيل صغيرٍ، قرّبه من فمهِ وسألني:

" ما الاسم الكامل للميت؟ "

فأجبتُ على الفور:

" حميد بزون مهدي. "

تطلعَ إلي باستغراب فاستدركتُ:

" أعني.. آشور وهيد سابر. "

سألني بضعةَ أسئلة عما أعرفه عن عاشور وعن الأسباب التي دفعته للانتحار وعن أصدقائهِ وعن آخر مرةٍ رأيته. أجبتُ بشكلٍ مقتضبٍ وفي داخلي سخرية مُرة من أسئلة الشرطي وإجاباتي التي تلخصُ بجملٍ قصيرة ثمانيةَ وأربعين عاماً من عذابٍ مديد.

وصلتُ البيتَ ليلاً فوجدتُ زوجتي واقفةً عند النافذة المطلّة على الشارع، تنتظرني بقلق. وقبلَ أنْ تسألني عن الأمر انفجرتُ بالبكاء وأنا أردد:

" ماتَ عاشور... "

تطلعتْ إلي مرتعشةً وراحتْ تهزني من كتفي وتسأل:

" مَنْ عاشور؟ "

تطلعتُ إليها بخجلٍ كأنها قد ضبطتني متلبساً بالخيانة، ولم يبقَ أمامي سوى أن أعترفَ لها بالسرّ الذي لا تعرفه:

" عاشور.. صديقي.. توأمي... "

" ولكني لا أعرف أن لك صديقاً اسمه عاشور! "

قالتْ بارتباكٍ فقلتُ لها:

" حكاية طويلة... "

ثمانية عشر عاماً مرّتْ على وفاةِ جبار الثوري، وفي يوم تشييعِ جنازته حضرَ جميع العراقيين إلا عاشور، وبلغَ الحزن بالبعض حدّ البُحران وأغمي على عددٍ منهم. أما اليوم فلم يحضرْ إلى مقبرةِ النورماركن سوى بضعةِ عراقيين ممنْ قدموا إلى المدينة في السنوات الأخيرة، وأغلبهم ممنْ لم يلتقِ بعاشور أو يتحدث معه، وحينما سألتُ عن سبب عدم حضور حجي تبسي، علي القيار، أبو حيدر بهارات، أبو برافدا الديمقراطي، خميس كازونوفا، رضا الخطاط، جابر الشلولو، كاظم لصقه، حامد دولار، جاسم التمساح.... جاءني الجواب همساً بأنهم يستحرمون حضورَ جنازةِ رجلٍ عاشَ كافراً ومات منتحراً. حتى إمام المسجد، الذي قضى قبلَ سنتين ثلاثةَ أشهرٍ في السجن بعد أن تمّ ضبطه في مطارِ كوبنهاكن وهو يحملُ في حقيبتهِ عدداً من جوازات السفر المزورة، حضرَ إلى المقبرةِ بحكم التقاليد، لكنّه امتنعَ عن الصلاةِ على الجنازة بالحجة نفسها، مكتفياً بإلقاء خطبةٍ جاهزةٍ، موجهة إلى الحاضرين الذين أحاطوا بالقبرِ مشكلين دائرةً لم تكتمل وقد كان أغلبهم من الفلسطينيين والأتراك، عن المصيرِ المحتوم واليوم الذي لا ينفعُ فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وقبل أن يُنهي خطبته أشارَ إلى القبر الذي أهيلَ ترابه تواً، وراح يتحدثُ عن عذابِ القبر وسؤال المَلَكين:

" بعد مغادرتنا المقبرة سيحضرُ إلى القبر مَلَكان، لكلّ منهما لحيةٌ تصلُ الأرضَ، يهتزّ الكونُ لثقلِ وطأتهما وتتصدعُ الجبال بصوتيهما. سيقفُ كلّ منهما عند كتفِ الميت وسيسألانه عما فعلَ وبمنْ آمن... "

وحالما انتهى من وعيدهِ استقلّ سيارته الفارهة وغادر المقبرة، فتبعه المشيعون مطأطئي الرؤوس. التفتُّ فلم أجد أحداً سوى فتاةٍ دنماركية ترتدي السوادَ وتحمل باقةَ زهر حمراء. تطلعتْ إليّ بعينين حمراوين، فتطلعتُ إليها بذهولٍ حيث أني لم أرها من قبل ولم أفطنْ لوجودها في المقبرة. همّتْ أنْ تقولَ لي شيئاً غير أنها أحجمتْ عن ذلك فركّزتْ نظرها في الأرض. سارتْ ببطءٍ حتى وقفتْ إلى جانبِ القبر، عند موضعِ الرأس تماماً. انحنتْ بخشوعٍ ورهبة وهي تضعُ باقةَ الزهر. تمتمتْ بكلماتٍ لم أستطع التقاطها وهي تمسحُ خطوطَ الدمع الذي سالَ على خديها، وبصمتٍ يليقُ بجلالِ الموقف غادرتْ دون أن تلتفتَ، حتى اختفتْ بين أشجار السرو.

اقتربتُ من القبرِ وجلستُ عند موضع الرأس. وضعتُ يدي على الترابِ الرطب وخاطبتُ الراقدَ همساً:

" عاشور، أيها الصامتُ المستريب.. إذا جاءكَ المَلَكان عمّا قريبٍ، وسألاكَ عمّا فعلتَ في دنياكَ.. وبمنْ آمنتَ.. فلا تُجِبْ! "

لم يردّ على وصيتي الأخيرةِ (طبعاً)، ليس لأنه ميتٌ، بل لأنه اتخذَ القرارَ مسبقاً. أنا على يقينٍ من ذلك، فهو الآن حرّ لا تثقله وطأةُ السؤال، وما وصيتي له إلا لإعلانِ براءةٍ أو إعلانِ اتفاقٍ معه.. اتفاق أخير....

 

 

إشارة

عدتُ من المقبرةِ خفيفاً كأني أفرغتُ حمولةً ثقيلةً كنتُ أنوء بها، بل كنتُ أشعرُ بشيء من الفرح... هل كان فرحاً؟ لا أدري، ولكني كنتُ أشعرُ برغبةٍ شديدة في الحياة، على الرغم من أنّ مشهدَ جثة عاشور في المشرحة تركتْ في نفسي شعوراً عدمياً وصلَ بي حدَّ النظر إلى عاشور بحسدٍ على جرأتهِ باتخاذِ أخطرِ قرارٍ يتخذه ابن آدم.

ألقيتُ بجسدي الغريب على السرير ونمتُ نوماً عميقاً، ولم أستيقظ إلا وقد انقضى النهار. أكلتُ بنهمٍ ودخنتُ بشراهةٍ. مارستُ الحبّ مع زوجتي برغبةٍ مجنونة، وحينما نامَ الجميعُ جلستُ خلف طاولةِ الكتابة. أخرجتُ دفترَ عاشور الأنيق ورحتُ أقلّبُ أوراقه بلهفةٍ كأني أقلّبُ أوراقَ مخطوطةٍ نادرة. مرّتْ أصابعي على السطورِ برقّة كيلا تطأَ الروحَ التي تختفي خلف الكلماتِ وبين السطور. توقفتُ عند العنوان الذكي (الصندوق الأسود)، مقلّباً الأوراقَ ثانيةً وثالثةً وعاشرةً، لكني لم أتجرأ على كشفِ محتويات الصندوق. فجأةً لفتَ نظري أسفل الصفحة الأولى سطرٌ مطموسٌ لم يظهر منه أي حرفٍ، حيث يبدو أنّ عاشور قد كتبه ثم ندمَ فانهالَ عليهِ بالشطب كي يخفي سرّه تماماً. استبدّ بي فضولٌ لمعرفةِ ما يخفي السطرُ المشطوب، فخطرتْ لي فكرة أن أقلبَ الصفحة وأعرضها أمام المرآة، عندها بدتْ لي الحروفُ المطموسة مقلوبةً، وشيئاً فشيئاً بدأتْ تظهرُ أمامي بوضوحٍ، فقرأتُها بصوتٍ عال:

(أُصغي إلى رمادي ـ الجزء الثاني) .

*********

 

كتبت الرواية بين 15/6/2004 و 12/9/2005 فايله / الدنمارك

 

المصادر

(.) طقوس الجنس المقدس عند السومريين. تأليف: س . كريمر . ترجمة: نهاد خياطة.

(.) الجنس في العالم القديم. تأليف: بول فريشاور. ترجمة: فائق دحدوح.

(.) هكذا تكلم زرادشت. تأليف: فريدريك نيتشه. ترجمة: فليكس فارس.

(.) تأريخ الطبري.

(.) قصة مقتل الحسين لأبي مخنف.

(.) أصغي إلى رمادي ـ حميد العقابي