يحاكي نص الكاتب المصري أجواء الأندلس وكتب الفروسية وشخصيتها عبر صوت طبيب يهجر الطب ليدرس السرد زمن المعتمد مقارناً بين أجواء الحرية في بلد مثل أسبانيا وبلده.

تهاويل أندلسية

هاني حجّــاج

(دلثينيا دل توبوسو)

عكف ضون كيخوطي على قراءة كتب الفروسية، بل باع جزءاً من أملاكه كي يغني مكتبته بكل ما استطاع من المجلدات التي هيأت له تشكيل ثقافته وتشبّعه بالقيم المتضمنة في تقاليد السلف. هي الأفكار السائدة على كل حال ولن يلام كثيرا إن اتبعها. وكان يتحرك وفق مسار غير منظم من ذي قبل؛ حيثما اتفق ودون اتجاهات محددة نحو عالم كان ينفتح أمامه بشكل واسع، لكنه مل السخرية وخاف القيل والقال من ثم آثر السلامة في الغياب.

***

(روثينانته)

الليلة ينوي زيارته شريف من الأعيان ذوي رماح المستودعات البترولية والدروع قديمة النقوش والجياد العويلة، لكنه مستعد؛ فواجهة المكتبة تعج بمجلدات التراث التي تروق لهذا الصنف من الأغلبية ومن الطوائف، والقدر في المطبخ يألف لحم البقر الخشن أكثر من لحم الضأن الطري، انتهى زمان توهّم قطعان النعاج جيشاً معادياً يستحق المنازلة، ومردة الطواحين، وجنونه في حب دولثيني.

***

(سونشو بنثا)

تحدث مصادفة لم تخطر له في بال. إذ يهيئ الحديقة لاستقبال عين الأعيان، فيجد حي بن ظبية يفترش العشب، ولم يدر تحديدا بأي تكتيك سيتعامل معه: كطفيل مؤذي يجب الخلاص منه فوراً قبل مقدم الأمير أم يطيّب خاطرة بكلمتين إكراما لذكرى شيخهما الجليل البلخي ثم يخفيه إلى حين، خلف المكتبة مثلاً.

-"السلام عليكم."

-"وعليكم! تحية تُدوولت كثيرا حتى فقدت معناها."

بداية غير مشجّعة والحوار معه في غير وقته أساساً، لم يخف تبرّمه لكنه غلّفه بأناقة تليق بمركزه الجديد:

-"لأي شيء جئت يا حي؟"

في أريحية وسخرية سريعة قال:

-"أنت هو أنت رغم اللباس الغالي واللحية الفاخرةّ!"

إذن فلتأنيب الضمير جاء، وإذا تمادى معه في الفر والكر الكلامي لن يخلص، سيجاريه حتى الغروب وحتى يستلهم وسيلة لصرفة دون صخب. تمدد إلى جواره على العشب، فضحك الآخر:

-"يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون."

يلج إليه من إطاره الجديد بالذات.

-"يعلم الله أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح السيرة."

-"لفظة البراءة ذات شجرة لغوية عريقة الجزع وكثيرة الغصون، وكلما تعانقت فروع المشتقات تولّدت الدلالات وإن كان يشدّها في الخفاء خيط رفيع موحّد."

-"لقد مات الإمام، فلا تتحدث عن الحب ضمن دلالاتك، نحن أبناء زمن جديد."

-"ابن حزم فتح الباب بحيائه، وأغلقه ابن زيدون بجرأته."

أطرق برأسه في حيرة:

-"عفا الله عما سلف."

-"وهل عفا عن السلف؟"

-"لو كنت تتحدث عن كارمن، حسبك، فإني أخاف الله."

-"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن!"

-"لماذا لا تعود إلى واق الواق؟"

***

(طوق الندامة)

أسبانيا – ربيع 2007، وقد هجرت الطب لأدرس الفضاء السردي عند المعتمد. "مدريد أصلها مجريط أي مجرى النهر" كذا تعلّمت من رفيقة مسكني (نيفادا جبر) مهاجرة من بلدي "لكن أسبانيا الآن ذات حكم ذاتي يشبه النظام الفيدرالي الأمريكي." قلت لها وأنا أجرّب النبيذ للمرة الأولى في حياتي: "جئت لدراسة الأدب لا السياسة" قالت ضاحكة كالأطفال " وأنا أدرس الفلسفة لكني لا أقاوم التاريخ." تماهت المرارة الأولى في حلاوة بدايات العادة، وقامت بعد أن قبّلتني تغيّر ثيابها. تسلّيت بترتيب الكتب وصوتها من الداخل "إنها ليلة من ألف ليلة وليلة." وتبدّت عند المدخل في بدلة رقص غجرية فتجلّى نشاط ظاهر في الروح والأعضاء. وقبيل الفجر كنا كآدم وحواء.

قلت لها:

- نتزوج!.

فأجابت بدلال وهي تمتطي صهوتي:

- "دعني أفكّر!"

وغمر شعرها وجهي كالشلال وهي تسقط في صدري، تمتمت بشيء ما في نشوة وسعادة ورضا وراحة؛ لأن فارق الديانة لا يوجب القتل في هذا البلد الجميل.

 

hany_haggag@hotmail.com