بنكهة سردية خاصة يرسم لنا القاص السوداني أجواء الموت وحوار الروح والجسد في اللحظات الأولى للفراق والجسد وحيدا تراه الروح يغسل وتحضره تلك الأطياف والرؤى في جو صوفي يستثمر هذه الموضوعة الأبدية في أسرارها

نشيد الروح

صالح شوربجي

قال الشيخ أبو مدين وهو من أكابر العارفين. (قد يصح بيني وبينك الاجتماع بالأرواح. وأما الاجتماع بالأجسام في هذه الدار فقد أبى الله ذلك)

رؤية:-

(وانه إذا شاء اخذ بيد المريد من أسفل سافلين وألقاه في عليين في لحظة واحدة)

الرجل الذي غسل جثتي كان قبلها قد سبقني إلى المسجد. صلي ركعتين علي عجل. ثم هرول لبائعة المريسة[1] وتناول عبارين بمهل. اتكئ علي حائط المسجد. أشعل سيجارته وأصابعه تعبث بحبات السبحة في وجل. يرقب جثتي وهي تزاحم مئات الجثث التي تنتظر دورها للدفن. كانوا فرحين يطلقون روائح الحزن من أفواههم. يدرؤون بها الخوف الكامن في عيونهم. في المقابر لم يكن ثمة احد. وحدي مسجياً ألاطف الثري مستمتعاً بملابسي البيضاء، ورائحة عطر البخور تعبق مني، كأنني ذاهب للقاء حبيبتي.

من تحت (البرش)[2] تناولت رواية لتولستوي كنت قد بدأت قرأتها قبل موتي.

- اممم...  نعم هذا الكاتب مخادع، سمعته من باطن الجسد يشاركني فكرتي عن الكاتب.ذلك عندما غادرت الروح باب جسدي، حامت فوق مجالي العائلي، تتذوق في كل قطرة دمع ملح الحياة. حط الحمام علي أهداب الورد.

ما اقسي أغنية الوداع يا خليل.

اصطفوا هنا. نعم نعم هنا. كانوا في منتصف الرؤية. بيض كأنهم خلقوا من صفحة القمر عند تمامه، بجوارهم تماما وقف الرجل الذي غسلني ومعه أخر يتهامسان. بالكاد اسمعهما كانا يتناولان شراب من قصعة (قرع).

- هل قرأت علي روحه الفاتحة.

- ااااه نعم .ما كلنا فاتحين منها.ثم طوح بيديه في الهواء.اخرج (رق) من جيبه وبدا يغني بصوت مكرور مبتور.

عروس الروض يا ذات الجناح

يا حمامة.

قلت له؟

- يا شيخي أرى العالم ابيض كالثلج.

اطرق برأسه للأرض. نكت بعكازته شقوقها الناتئة وقال:

- نعم هذا ما نراه بين المجيء والذهاب. حقيقة العالم يا بني ما قبل زحام البشر.

ولكزني برفق وأردف:

- هل رأيت جبال الثلج؟.

- نعم رايتها. كانت بيضاء.

رايته بعدها يرهز ويرعد مثل ورقة في ريح شديدة. ثم تغير نطقه:

- هل رأيت المصباح وتينك العينين وجبل الصدر الذي ينشق عن نور هائل؟.

-  نعم نعم. ذلك بالضبط ما رأيته.

ارتمي علي الأرض واضعا يديه على رأسه وهو يردد:

(لقد رأى مولاي في هذا الطريق وما علم به احد. لجة وساحل، فالساحل ينقال واللجة لا تنقال. والساحل يعلم واللهجة تذاق.ما أريدك هكذا.ما أريدك هكذا). أخذ يرددها حتى أختفي.

كنت واثقاً من حنين الروح لأرضٍ معادها، ولم الاستعجال والعودة أمر مفروغ منه. وكمصادفة لا تحدث إلا مرة في العمر داخل الرواية ثمة حوار رومانسي، الروح فيه تعلي قيمة الانتماء إلى الحبيبة.الأرض. واستمرارية التمرد علي قانون الناموس. الآن سقطنا في فخ الانتماء كأجمل حبيبين يختلسان قبلة في ليلة تواري قمرها خلف سحابة خجولة. أزحت الغطاء. وضعت الرواية في مكانها. حامت الروح في فضاء الحرف. تسللت بين المسام والطين. انتهيت إلى المقام. قبضت يدي إلى صدر حبيبي صادحاً بأغنياتي.

جاء الحب مثل الدم في عروقي وفي لحمي أفناني وملأني بالمعشوق. والمعشوق تخلل كل خلية في جسدي

ومني لم يبق سوي اسم.وكل شي آخر هو هو

...

صاح منادي من أقصى فرجات غربة الروح:

- الله يا هذي المدائن من فنائي خذيني في حضرتك، ألقمني كلمة الحق.

سال شيخي:

-  هل حضر ابن تاغرت.

أجابه الفراغ:

- لا لم يحضر بعد سيأتي في أي لحظة فالشيخ ابن وقته.

حولي كان الموتى أنصاف الروح يلبسون حقيقة الجسد، يلفظون ألسنتهم ثم يعودون لقصعة الحق فلا يجدون سوي لحم اسود. أطفال يشعلون أعواد جافة في فناء المقابر، وطبل يهزم الليل صوته، دم.. دم.. دم.. دم.. يأتي كحفيف أوراق الشجر في نسمات خفيفة.

- قم هيا.. هيا.

انه مولاي أبو جعفر العريني  يقول:

- أنهضوه فالبيت لم يخرب بعد والساكن لم يرتحل!.

توسطت نعشي. أحاور الروح لمنتصف الجسد. كنت لساناً مشغولاً بسبر تلاوة أسرار الأزل. عمدني شيخي بماء وضوء . ونفخ في فوهي فارتميت بعدها على الأرض اهتف في الرمل كقط جريح يحاول عبثا الوثب، كادحاً إلي البقاء. أمامي كل الأشياء نثار. نثار. أخمش طرف ثوب سيدي. ينشق العالم إلى طريقين العارفين والسالكين. روحي تمكث في طريق لا يغادر محطات السؤال. يا روح يا روح. أين منك إلي. من الأبد وإلى حيث أسكنك الرب تعودين. وطبول تحشد الفراغ بالحضور. دم.. دم.. دم.

جبال بيضاء كالثلج. رجال لا تحصيهم دائرة تعريفاتي. رأيته بينهم. أنه ابن صناجة القادم لتوه من بلاد المغرب. يقولون انه تلميذ سيدي الأمام الأكبر. يتوسط دائرة من نور.واقف علي رجل واحدة كطائر الكركي. يمدح بصوت رخيم.

وقالوا:

شربت الإثم كلا وإنما

شربت التي في تركها عندي الإثم

هنيئا لأهل الدير.! كم سكروا بها

وما شربوا منها، ولكنهم هموا

والتفت إلي قائلا:

- تبين لك ما لم يكن عندي. وفتح لك باب الترقي بعد الموت. انظر إلى النور والظلمة تطول وتقص .لذا ارفع الهمة.. ارفع الهمة.

ما بال شيخي يلمزني بالكلام.؟ بيني وبينه آلاف الفراسخ.يمد فمه ليكلمني هامسا في أذني.

- أن معرفة الله هي توحيده. وتوحيده تميزه عن خلقه. وكل ما تصور في الأوهام فهو تعالي بخلافه. كيف يحل به ما منه بد.

- إذا أنا لست في عالم الأموات.

- لا أنت مسكون بثقل العارف التائه في ملكوت الجمال. الق حمولتك واستقم. هيا..هيا. انهض قم إلينا.

لكن بيني وبينكم عوالم.

ثم أنشد:

للطف المعاني، والمعاني بها تنموُ

وقد وقع التفريق، والكل واحد

فأرواحنا خمر، وأشباحنا كرمُ

ولا قبلها قبلُ، ولا بعدها بعد

وقبلية الأبعاد، فهي لها حتمُ

نهضت..استويت علي جادة الطريق.. قبلتها.. ثم لذنا في تراتيل النشيد.

 

·                        كاتب وقاص

·                        نشيد الروح. نص من مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان (ضوء.لون.وفراغ)

 

 

 



[1]   - شراب محلي يصنع من الذرة .

[2]  - فرش يصنع من سعف النخيل.