يتناول الباحث الجزائري هنا الإشكاليات التي يطرحها الأدب الصوفي على دارسيه، وماهية المقتربات القادرة على فك أسراره وبنياته. وبعد أن يميز بين التيار السلوكي والتيار النظري في التصوف، يتناول التجربة الصوفية في الأدب كاشفا عن أن منطق الإشارة العرفاني فيها يتطلب تناولا خاصا لفك شفرات تلك النصوص.

الأدب الصوفي ــــــ الإشارة والعرفان

عبدالله شطاح

1. تمهيد
التراث الصوفي، من بين مختلف ميادين المعرفة والإبداع التي خلفها الأوائل، وحده ظل يثير أشد المواقف تضاربا واختلافا وتناقضا، كما أثارها قديما في حينه، وأثارها بعد عصره بأعصر، وما انفك يثيرها في وقتنا الحاضر، بتفاوت قليل، واختلاف يسير. لا شيء تقريبا تغير في الأمر، باستثناء بعض المقاربات الأدبية التي اصطنعت مناهج النقد وأدوات اللسانيات واللغويات المعاصرة، طامحة إلى حل المشكل القديم، وحسم النزاع القائم مذ ذاك بأدوات العلم الحيادية، وأساليبه الصارمة. بيد أن الأمر لم يكن بذلك اليسر الذي صوره ذلك الطموح، ولا بذلك القرب الذي تصورته تلك الحماسة، لسبب بسيط لا يمكن إغفاله بحال من الأحوال، هو موقع التصوف من الفكر والعقيدة والفقه وسواها من المعارف المحيطة بالدين الإسلامي إحاطة قريبة من الشمول والاحتياز العصي على الاختراق، تلك هي خصوصيته الأولى التي هيأته ليحتل موقعه الإشكالي من الدين والأدب جميعا.

أما الدين فقد انبرى الفقهاء، منذ الإرهاصات الصوفية الأولى، إلى تفنيد مقولات المتصوفة وأساليبهم، وسمتهم، واختياراتهم السلوكية المائزة لهم تمييزا عرفوا به خاصة من بين الطوائف والفرق، والجماعات التي اخترقت الفضاء الإسلامي اختراقا مبكرا بدأت بوادره مع الدولة العباسية، بموقعها من خريطة العالم الإسلامي، وموقع الثقافات والشعوب الوافدة إلى حضنها بمحمولاتها الفكرية والحضارية القديمة، فلم يستسغ الفقهاء بروز الحب وارتكازه في قلب الممارسة التعبدية، بالدرجة نفسها التي حبستهم عن استساغة الدعوى الجديدة القائلة بإمكان ألا يعبد العبد ربه طمعا في الثواب ولا خوفا من العقاب، ولكن حبا في كماله وتمظهرات جماله التي ليس العبد وعبادته، والكون والوجود، إلا محض فيض من فيوضاته المتقلبة بين الظهور والخفاء في استسرار لا نهاية له.

وليس يخلو الفكر الإسلامي، في كل عصر، ممن يشنع على المتصوفة، وينكر مذهبهم، وينسبهم إلى منكرات العقائد وضلالات المذاهب حينا، وإلى الإلحاد الصرف أحايين كثيرة، لا سيما في عصرنا هذا الذي أخذت فيه مظاهر التدين سبيلا لا يرخص للتأويل إلا قليلا، ولا يستسيغ التوسع إلا نادرا، ولا يبيح للعقل أن يأخذ بأسباب الاجتهاد التي كان يبيحها الأوائل إباحة، متغاضين عن توثبات العقول وأشواقها، وطموحاتها الوجودية التي هي من صميم كينونتها التي أودعها خالقها فيها، حتى إننا لننظر اليوم، على بعد ما بين العهدين، بدهشة ممزوجة بالغبطة لكثير من منتجات العقل الإسلامي في تلك المرحلة المبكرة نسبيا من عمر التاريخ الإسلامي، متسائلين فيما إذا لم يكن عصرهم، على تقدمه، أكثر تقدمية من عصرنا هذا الممعن في التشديد على كل اجتهاد صادم لرفاهية الاعتقاد الراسخة المريحة، لكأنما أريد للعقل الإسلامي، من بين العقول جميعا، أن يكف على التطور والتمدد واقتحام المجهول، وأن يصوم عن متع المغامرة والتجريب، وأن يكتفي بدلا عن ذلك بالمساحات الهندسية التي سطرها الفقهاء الأول تسطيرا مدهش التحديد، لا يخرج عنها ولا عن قالبها مهما آنس من نفسه فهما غير الفهم، أو استعدادا غير الاستعداد الفاشي بين الناس على تفاوت الهمم واختلاف الاستعدادات، هذا موقف الفقهاء قديما وحديثا، تسفيه كلي لتراث المتصوفة الضخم وإقصاء سريع مريح لا لبث معه ولا عناء، فهذا محمد الغزالي الذي اتسع صدره لضروب الفلسفات الدخيلة مشرقا ومغربا، يصرح، بسرعة مثيرة للاستغراب، بأنه قلب طرفه هنيهة في شذرات من الفتوحات المكية – موسوعة ابن عربي الخالدة – ثم حسم الأمر بناء على تلك القراءة السريعة في تلك الشذرات المقتطعة اقتطاعا من أسفار الفتوحات الضخمة بالقول بأن الصواب أن تسمى الفتوحات الرومية.

هذا الإطلاق وحده يبين إلى أي مدى لم يكن مصرع الحلاج على يدي فقهاء عصره بشيء اختصت به تلك العصور القديمة وحدها، وأن صراع العقل المبدع مع المحسوم من أفكار السلطات المعنوية في العالم الإسلامي هو شيء ركين في طبيعة الآليات الإيديولوجية المتحكمة في إنتاجه للفكر والمعرفة، شيء متجاوز للأزمان، متجدد على الدوام، لا ينقصه سوى السلطة الفعلية لتكرار مأساة الحلاج رسميا في مستقبل الدهر في أصقاع هذا العالم الإسلامي الرحيب في جغرافياه، الضيق ضيق الحسرة في منظومته الفكرية التي لم تبد في تاريخها أجبن مما أصبحت عليه.

وهكذا تتجدد محنة الحلاج كل عصر. بيد أن المصلوب ليس الحلاج ولكن المصلوب على الدوام، بأهون حجة، وبأقل سبب، هو تراث الصوفية الخلاق. ويتأكد كل مناسبة بأن الحلاج وتراث الصوفية الضخم واقع في قلب مأزق التلقي الذي ليس التكفير، والتسفيه المكرور كل عصر، سوى بعض نتائجه القريبة. أما ما خلفوه من المنظوم والمنثور مما يصر المتأخرون على إلحاقه بالأدب، فلم ينسبه المتقدمون تلك النسبة، ولم يوصفوه توصيفا يلحقهم بأهل صناعة البيان والإنشاء وبديع الشعر، إلا ما كان من توظيف أهل البلاغة لشواهد من أشعار المتصوفة لانتقاد طرائقهم المعروفة في الصياغة التي تتداخل فيها الضمائر تداخلا يدفع بالكلام إلى عويص المعاضلة ومستقبح التنافر، ولم يخفف من ذلك طموح متأخر شعراء الصوفية في القرن الخامس والسادس كابن الفارض الذي كان يفخر بعارضته البلاغية وعبقريته الشعرية فخر عموم الشعراء، وعفيف الدين التلمساني ومحي الدين بن عربي في كثير من قصائدهما التي نزعا فيها منزع الشعراء في الجري على قوالب الشعر المعروفة التي تنسج على موروث لا يخلوا من استقرار وعراقة تمتد به إلى جاهلية العرب، وديوانهم الذي صرفوا إليه القلوب والعقول، فأحكموا قوانينه وأرسوا قوالبه، وخلفوا الطريق أمما لمن لحق بهم ونحا نحوهم.

بيد أن المتلقي في الفضاء الإسلامي العام، لم يكن يستقبل منظوم المتصوفة ومنثورهم منطلقا من أفق انتظار متحفز للاستهلاك وفق السنن الموروث لاستهلاك الأدب، ففي هذا المضمار لا يخلو النقد الأدبي العالم مثلما لا تخلو الذائقة الشعبية من تراكم تموضع في الذائقة وفي الاستقبال، بما يجعل التلقي ممكنا والتواصل يسيرا مهما تحداه الغموض أحيانا، أو أقحمه الشعراء في معمعان البحث عن المعتاص من المعاني، يحلق في أفقها أحيانا ويقصر، ويغوص عليها أحيانا أخرى فيقرب ويبعد، كما قد يحوم ولا يصل، ولكنه في أثناء ذلك كله لا يبعد من ممارسة التلقي وفق منظومة التداول المرساة منذ أحقاب، والتي تقطعت فجأة، أو في أقل تقدير لم تعد تمارس بالفعالية الأولى حينما فاجأ المتصوفة، مع أواخر القرن الثاني للهجرة، ذلك الأفق بما لم يألفه في سياقات الشعر من موضوعات، وبما لم يألفه في الشعر من مقولات واصطلاحات تدور في فلك واحد لا تعدوه، وتلتف التفافا لحوحا حول محور واحد هو بؤرة النشاط اللغوي لإبداع المتصوفة الذي تمثل خاصة في التعبير عن التجربة الروحية العميقة المسترسلة في رحلتها القاصد نحو الاتصال بالله في مطلقه الخلاب.

2. تحولات المضامين/ إكراهات الذات والموضوع
لابد من الإشارة ابتداء إلى أن الفكر الصوفي يخترقه تياران معرفيان لا يلتقيان بالضرورة ولا بالقوة، بقدر ما يتقاطعان ولا يجتمعان في آحاد الأعلام إلا في النادر، تيار سلوكي توارثه الناس وتداولوه بسهولة ويسر، وتيار نظري لم يكفوا عن الاختلاف فيه وحوله، بدون اقتصاد ولا هوادة. أما السلوكي فهو ما يقرأه الأتقياء ويتواعظون به، ويلتزمون به في حياتهم التزاما يتفاوتون فيه تفاوتهم في معاني الإيمان واليقين والاحتساب والصبر، وغيرها من المعاني التي لا تخرج في مجملها عن السنة المطهرة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتزمها الصحابة والتابعون وتابعوهم، ثم احتوتها كتب الرقائق التي ما زال الناس يقرؤونها بغبطة وشغف، ويجتهدون في اتباع ما فيها دهرا بعد دهر، وعصرا بعد عصر، وهي المعاني التي تدور كتب ابن قيم الجوزية في فلكها، وكتب غيره من العلماء الذين رتبوا ذلك ترتيبا أسموه مقامات للسالكين أو منازل للسائرين، وهو تيار سلوكي لا يلزم الأتقياء سوى باتباع القيم الروحية العليا التي جاءت بها رسالة الإسلام، وبالزهد في الدنيا، واطراح الغرور، وإفشاء السلام والمحبة بين الناس، بالترغيب فيما عند الله، وبالترهيب من عذابه الذي توعد به الكافرين والفجار والمبطلين، وهذا الضرب من التصوف لم يتوقف الناس عن الاستماع إلى رقائقه، كما لم يكفوا عن ترديد معاني الناظمين فيه، وإنشادها وتناقلها أمثلة تغري بالسير في سبل الهدى والتزام الجادة، والصوم عن الآثام ونشدان نعيم الآخرة الخالص العميم، لأنه تيار منسجم أشد ما يكون الانسجام مع الموروث من سيرة المصطفى (ص) وصحبه وتابعيه من تلك الطائفة التي ما زالت تجسد المثل الأعلى في مخيال الأتقياء من المسلمين، وفي لاشعورهم الجمعي كلهم في مشارق الأرض ومغاربها.

هذا اللون من التصوف استمر على ما كان عليه، وحافظ على نقائه الأصلي، مستندا على المصادر الإسلامية التي أجمع المسلمون على صحتها، واتفقوا على تقديمها، وعلى رأسها القرآن والصحاح وسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، لم يتسع لثقافة وافدة على ما اعتور العصور المتقدمة والمتأخرة من ثقافات وروافد شتى، وظل عصيا على الشغب، متمنعا، مكتفيا بذاته، محاطا بجلال خاص لا يزيده الزمان إلا قداسة. من أجل ذلك لم يتسع متنه لخلاف ذي شأن اتساع غيره من المعارف الإسلامية، ولا سيما تيار التصوف الآخر النظري الذي حفل بمقولات لم يكن التلقي الفقهي خصوصا، والتلقي المعرفي العام قابلا لتداوله تداول نظيره السلوكي الصافي.

وعلى هذا الأساس أصبح التصوف النظري موئل الخلاف ومحل الجدل والنكير والشغب، قديما وحديثا، تتجلى فيه هوة القطيعة التداولية التي ألبست الفكر الصوفي لبوس الإلحاد الصرف، وألبست أدبه تهمة الاستغلاق على الأفهام بغموضه، والتواء أساليبه، وغرابة مصطلحاته التي تجعل من تعاطيه، من قبل غير البصير بلغة الصوفية واصطلاحاتهم، عناء متصلا، لا يفضي مبهم منه إلا إلى ما هو أكثر إبهاما وعسرا وانغلاقا، مما حدا بالناقدين، والمصنفين في الأدب العربي وأهل البلاغة إلى اطراحه من ديوان الشعر المستهلك باعتباره شعرا وأدبا وفنا وصناعة، فانطوى على نفسه في مصنفات الصوفية، وهمش إلا ما يتلى منه في حلق المتصوفة وأهل الخصوص المنتسبين إلى ذلك المسلك من المعرفة والنظر والقيل، المعروفين بأهل الإشارة تمييزا لهم عن أهل العبارة.

وقد كانت مقولة الحب الإلهي مبتدأ تلك النقلة الفاصلة في تاريخ التدين، مهدت لمقولات أخر، واستدرجت القائلين به إلى مقولات نابعة منه، وتابعة له، ومتصلة به اتصال المسبب بالسبب، وهي مقولة تقع في قلب التصوف النظري الذي لم يعدم دارسين كثر يلحقونه بمبتدأ التصوف، الذي ابتدأ زهدا خالصا، ساذجا وبسيطا لا تعقيد فلسفي أو نظري فيه، وبتاريخه الذي تطور تطورا ذاتيا من خلال الممكنات المركوزة فيه، ومن خلال تجارب أربابه الذين أصبغوا عليه من ذواتهم وهممهم وقرائحهم ما انتهى به إلى ما هو عليه الآن، تراثا فردا لا تأتي على الإحاطة به جهود العصبة من الأفذاذ.

مهما يكن فإن الزهد، على بساطته التي عرف بها في صدر الإسلام، قد كان نواة أساسية مهدت للتصوف، وأطلقت في النفوس نشاطا روحيا، ويقظة وجدانية استثنائية أشبهت الموجة الفكرية العارمة، وقد اختلفت عن التصوف في الرؤية إلى العالم وإلى الحياة، وحينما "يشعر الزاهد شعورا وجوديا بالغربة عن هذا الكون فإن المتصوف يعي تضاده مع القوى الاجتماعية السائدة". والزهد كما يقول آسين بلاثيوس: "هو علم عملي وفن للعبادة، ومنهج للحياة، وأداة تؤهل للتصوف." وفي العموم فإن جمهرة من الباحثين قد ظلت، على خلاف بعض الدراسات التي جهدت في إخراج التصوف من حيز الفضاء الفكري الإسلامي إلى فضاءات أخرى قريبة الوشيجة بالغنوصية والأفلوطينية الجديدة والبوذية وسواهما من ديانات الشرق والغرب، تصر على ربط التصوف ومقولاته الأشد غلوا بالبيئة الإسلامية الصرف، ويربطون تفاصيله الدقيقة بالتطور الطبيعي عن الزهد الذي عم البلاد الإسلامية في العصر الأموي. يؤكد شوقي ضيف بهذا الصدد بأن "كل من يدرس هذه الموجة من الزهد، ويتعقبها في الأقاليم الإسلامية أثناء عصر بني أمية، يستطيع أن يلاحظ في وضوح أن أهم إقليم انتشرت فيه هذه الموجة هو إقليم العراق."

ولم يأفل الشعر الزهدي بأفول الدولة الأموية، بل أينع وازدهر في العصر العباسي الذي شهد نبوغ أكبر شعراء الزهديات على الإطلاق، أبي العتاهية الذي ارتاد بهذا اللون من الأداء آفاقا استعصت على كبار المتصوفة الذين جاءوا بعده، على الرغم من كونه لم ينطلق في زهدياته من قاعدة سلوكية صوفية، أو روحانية عالية، بقدر ما صدر عن نظرة فلسفية خاصة إلى الوجود والعدم، ولكنه مع ذلك كان السابق إلى شد هذا الوتر الجديد في قيثارة الشعر العربي ويعزف به ألحانا روحانية عالية.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى الفرق الشاسع بين الزهد الفلسفي المتشائم من الحياة والأحياء، والزهد الصوفي الذي هو القاعدة الأساس في معاريج الترقي الروحي نحو الكمال، وفي مغامرة البحث اللحوح عن الاتصال بالمطلق، يقول السهروردي في كتابه (عوارف المعارف) مبينا أركان الترقي في مدارج الكمال: "وإني بمبلغ علمي وقدر وسعي وجهدي، اعتبرت المقامات والأحوال وثمرتها، فرأيتها يجمعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان(...) ومن تحقق بحقائق هذه الأربع يلج ملكوت السماوات، ويكاشف بالقدر والآيات، ويصير له ذوق وفهم لآيات الله المنزلات، ويحظى بجميع الأحوال والمقامات، فكلها من هذه الأربع ظهرت، وبها تهيأت وتأكدت، فأخذ الثلاث بعد الإيمان التوبة النصوح، والثاني الزهد في الدنيا، والثالث تحقيق مقام العبودية دوام العمل لله تعالى ظاهرا وباطنا من الأعمال القلبية والقالبية من غير فتور وقصور." بيد أن الأمر لا يخلو، فقد بين ابن سعد في طبقاته الكبرى بأن "الصوفي بربه والزاهد بنفسه." إشارة إلى دوام استلهام الصوفي العناية العليا لتتداركه بالمعونة ولتسدد خطاه في سفره القاصد نحو الأقدس من المقاصد، على خلاف الزاهد الذي انشغل بالأكوان على خلاف المكون مهما بدت إرادته خالصة في الإعراض عنها على رأي أرباب الهمم من كبار المتصوفة.

وقد كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان مضرب المثل في الزهد والعكوف على العبادة، ولكن أحدا لم يطلق عليهم اسم المتصوفة ولا الزهاد، بالنظر لاختلاف المقاصد بين أولئك المتقدمين وهؤلاء المتأخرين، ولكن ذلك الإطلاق يجري على "أبي حمزة البغدادي والسري السقطي وأبي القاسم الجنيد بن محمد والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم من رجال القرن الثالث فما بعده." فبعدما كان أقصى مراد المتقدمين السلامة في العاجلة والفوز في الآخرة، أصبح المتأخرون يرتاضون بالزهد والعبادة والذكر تهيئة لقلوبهم وأرواحهم لاستقبال الفيوض الإلهية، وعلى هذا الأساس من الفرق في المقاصد تمت القفزة الهائلة بالزهد إلى التصوف مضمونا، أما شكلا فقد اتخذوا رسما مميزا لهم، وزيا خاصا وسمتا يوحدهم، ويخصصهم من بين غيرهم من الجماعات والفرق، فسموا صوفية لما " فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة." كما قال ابن خلدون.

وعليه تحددت ملامح الزهد وتخصصت، وأخذت أقوال الزهاد تدق وتعمق، وتجنح إلى ارتياد أعماق النفس واقتفاء آثار المواجيد، منتهية انتهاء طبيعيا إلى مقولة الحب الإلهي المركزية في الفكر الصوفي، وقد "مهد التوكل والرضا في القرن الثاني تمهيدا طبيعيا لظهور الحب الإلهي في القرن الثالث، فإن المبالغة في التوكل والرضا استتبعت الحب، وهو تطور طبيعي سار فيه التصوف الإسلامي بين القرنين القاني والثالث." على حد قول عبدالحكيم حسان.

وباستقرار مقولة الحب الإلهي في بنية الفكر الصوفي العميقة، أخذت الهوة بين المتصوفة وأهل الشريعة/ الفقهاء تأخذ منحى إشكاليا لا يزال قائما إلى يومنا هذا، فقد فتح الحب الإلهي مجاله التعبيري والوجداني واسعا لإنتاج مقولات أخر صادمة لمفاهيم الشريعة المستقرة، مثل الفناء في المحبوب، والاتحاد، والمشاهدة، والبقاء، وقد ذهب زكي مبارك في بحثه الضخم حول التصوف الإسلامي إلى أن "أهل الحقيقة تكلموا جميعا في الحب، لأن هذه الحال هي الفيصل بينهم وبين أهل الشريعة الذين يعبدون الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب ولا يستقيم حال المتصوف إلا إن خلص من دنياه وأخراه، فلا يكون له مأرب غير لقاء الحبيب."

بدأ القرن الثالث إذن بمذهب الحب الإلهي، وانتهى بالاتحاد ووحدة الأديان على يد الحلاج من متصوفة القرن الثالث الذي ألبس الفكر الصوفي الموروث عن سابقيه من متصوفة القرن الثاني لبوسا فلسفيا ممعنا في التجريد والاستفزاز لليقينيات الشرعية من جهة، وفي الاعتياش على مسلمات التلقي الأدبي من جهة أخرى، فقد خلف تراثا أدبيا وفكريا لا يكاد يلتقي مع سابقيه إلى موضوعة الحب الإلهي في أي منحى، فقد كان ذو النون المصري أول المتصوفة المحسوبين على التيار النظري، وأول من جرت على لسانه عبارات الحب والهيمان، وكلمات الشوق والوجد والمحبة والغرام، الأمر الذي يجعلنا نقول كما يؤكد ذلك الدكتور علي صافي حسين بـأن "ذا النون المصري كان أول من أنشد شعر الحب والغزل الإلهي، وإنه أول من وردت في شعره مصطلحات الصوفية، كما أنه أول من تحدث في الأحوال والمقامات." بيد أن شعره، وعباراته الواردة في هذه المعاني، لا تغرب إغراب عبارات الحلاج، ولا تستغلق استغلاقها، ولا تقحم التلقي في مأزقية العجز المطلق، بل جرت مجرى الغزل العذري الذي ملأ أصحابه أصقاع البلاد العربية بقصائدهم وحنينهم وأشواقهم التي ما زالت تتلى، من ذلك أبياته التي أوردها أبو نعيم الإصفهاني في موسوعته حلية الأولياء:
 حبك قد أرقنــــــي
وزاد قلبي سقمـــــا
كتمته في القلب والـ أحشاء حتى انكتمـا
لا تهتك السر الذي
ألبستني تكرمــــــا
 ضيعت نفسي سيدي فردها مسلمـــــــا

 ولقد اصطبغ القرن الثالث بصبغة الحب الإلهي، موضوعة التصوف المركزية التي شغلت الأقلام والأذهان وتناشدها الصوفية وتواجدوا عليها حتى تلفت نفوس أكابرهم وهي تروم المستحيل على ما تروي كتبهم ، وحتى أن صوفيا كالحارث المحاسبي (ت243 ه) كرس رسالة للحب الإلهي وحده من بين موضوعات الصوفية الأخرى ليبين كيف " يتم الاتحاد بين المحب والمحبوب اتحادا يتم خلاله كشف كثير من أسرار الوجود." من أجل ذلك نعى المتصوفة على أولئك الذين يطلبون على عبادتهم ثوابا، الذين عرضت بهم رابعة العدوية بقولها:
 كلهم يعبدونك من خوف نار
ويرون النجاة حظاً جزيـلا
 أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا
بقصور ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظٌ
أنا لا أبتغي بحبي بديـــــــلا
 قد تخللت مسلك الروح مني ولذا
سُمي الخليلُ خليـــــلا

أما الحلاج، فعلى عادته في الإغراب والإتيان بكل صادم لمألوفات الحس والعقل، فقد صرح بأن جل ما يبغيه بحبه وإرادته هو ملذوذ العذاب الذي لم يذق منه فصار غاية أمانيه، يقول:
 أريدك لا أريدك للثواب
ولكني أريدك للعقـــــــــــــــاب
 فكل مآربي قد نلت منها
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

ليس غريبا أن تتواطأ أشعار المتصوفة مع أشعار الغزلين العرب، فالحب مضماره الشعر، ولم يمارس الغزلون في التراث غزلهم نثرا، بل صرفوا هذا الأخير لمواطن الرهبة والرغبة والجلال والحماسة، كما صرفوا الشعر لما ظرف وخف والتصق بالغنائية العاطفية أكثر من التصاقه ببرودة العقل وصرامته الهادئة، وعلى هذا الأساس وصف المتصوفة حبهم الإلهي وهيامهم بالذات الإلهية عبر التقليد العربي العريق، ولكنهم وهم يفعلون ذلك، أنزلوا الله في خطابهم منزلة حسية، وجعلوه يُحَب ويحب ، وأفضوا إليه بمكنوناتهم كما يفضي العاشق الولهان إلى معشوقه، وتطلعوا إلى كل لمحة من جماله، وإلى كل وعد وصاله، يمرغون الوجوه عند أعتابه، ويعشقونه ويتلفون فيه عشقه المهج، ويتلذذون بإقباله وإدباره، ونعيمه وعذابه كما صرح بذلك الحلاج في بيتيه السالفين.

وعلى هذا الأساس، يلقى القارئ غير البصير بأساليب المتصوفة ومصطلحاتهم كثيرا من العنت ليميز أشعارهم في الحب الإلهي عن أشعار الغزلين من شعراء العرب البارزين، ولم يكن للمتصوفة بد وهم يتغزلون بالمطلق، أن يردوا موارد الأحنف بن قيس، ومجنون ليلى، وجميل بن معمر، مهما صرفوا العيون والخدود والثغور عن معانيها الحسية الصرف إلى مجالي القدرة في الموجودات. وربما ألجأتهم الحاجة، على ما يرى نيكلسون، إلى هذه الأساليب لأنهم لم يجدوا "لشرح أفكارهم وسيلة أقرب إلى صور وشواهد منتزعة من عالم الحس"، فأصبحت وجنات الحبيبة الموردة، بلغة الرمز والتلويح "تمثل ذات الله منكشفة في صفاته، وغدائرها الليلية تصور (الواحد) محجوبا بـ(الكثرة) وإن قال: (أدر الكأس علها أن تحل إسارك) فإنما يريد أن يقول: امح نفسك الترابية في السكر بالتأمل الإلهي." وعلى هذا الأساس أهاب المتصوفة بالرمز الذي أطلق العنان لمواهبهم الشعرية، فخاضوا به كل مهمه، وهجموا على كل عويصة، وارتادوا به دقائق المعاني التي عجزت عنها لغة الحياد التي وقفت ببعض المتصوفة عند المبذول من المعاني الموافقة لظاهر الشريعة وباطنها دفعا لسوء التأويل تارة، وإشفاقا من سوء التلقي الذي أودى بالحلاج والسهروردي معا.

لقد كان من الطبيعي أن يفضي الحب الإلهي بأصحابه إلى المتاهات الرديفة بكل حب عظيم، فالفناء في المحبوب والاتحاد به، والسكر بحبه، والصحو على وصله، والبقاء به، والإرادة والمريد والمراد، كلها ولائد للسبب الأول، لا يتسع الحال، كما لا تتسع اللغة لتجوس أثناءه دون طبيعة الرمز الخلاقة، قال محمد بن عبد الجبار النفريفي (المواقف والمخاطبات): "كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة." كما قال في المعنى نفسه: " لقد ضاق اللفظ واتسع المعنى." إشارة منه إلى عمق التجربة الروحية التي يعبر عنها الشعراء من المتصوفة، وإلى دقة المعاني والرؤى التي يحاولون القبض على بعض التماعاتها المستعصية، متوسلين إلى ذلك جميع ممكنات الرمز والإشارة والمجاز وغيرها من الأساليب التي تتسع للرؤيا والتأويل.

يؤكد نيكلسون بأن رمزية الخمر والغزل لم "تبد في غير التصوف بمثل هذا الغنى وعلى نحو ذلك من الصدق." روى أبو نعيم الإصفهاني في الحلية أن يحي بن معاذ كتب إلى أبي يزيد البسطامي: "سكرت من كثرة ما شربت من كأس المحبة، وكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحار السماوات والأرض وما روي بعد، لسانه خارج على صدره وهو يصيح: العطش، وأنشد في ذلك:
عجبت لمن يقول ذكرت ربــــي وهل أنسى
فأذكر ما نسيــــت
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب
وما رويـــــت."

وعلى هذا الأساس، وفر الرمز والغزل والحب الإلهي للمتصوفة استرتيجية تواصلية لا تهدف إلى الكشف بقدر ما تهدف إلى الحجب، تبدو كأنها "دعوة من المتصوفة لممارسة الاختلاف الذي أساسه العشق." والعشق في نهاية المطاف متعة ولذة وتحرر. ولا غرو، فقد أصبح الحب الإلهي، مع متصوفة القرن الثالث ومن بعدهم "فلسفة معقدة تفسر نشأة الوجود تفسيرا فلسفيا، بحيث غدا الحب لباب الوجود كما غدا لباب التصوف." أما الحلاج فقد ارتقى بالحب إلى مقام الألوهية الأقدس، جاعلا منه مبتدأ الوجود، وعلة الخلق، ومحرك الإيجاد في لحظة الخلق الأولى، قال: "إن جوهر الذات الإلهية هو الحب، فإن (الحق) أحب ذاته قبل الخلق، في وحدته المطلقة، وبالحب تجلى لنفسه في نفسه، فلما أحب أن يرى ذلك الحب بعيدا عن الغيرية والثنوية في صورة مظاهرة، أخرج من العدم صورة من ذاته لها جميع صفاته وأسمائه، فكانت هذه الصورة الإلهية آدم الذي تجلى الحق فيه وبه."

بناء على هذا التصور المفرط لعلاقة الحب المتجاوزة لكافة الوسائط التي يقيمها المتصوف بينه وبين الله، أقتحم الحلاج وطائفة من المتصوفة النظريين مناطق ملغمة من الفكر الإسلامي، وهجموا على مواطن الصمدية والتجريد والتنزيه بانفجارية عاطفية تزعج أكثر مما تمتع، وتقلق أكثر مما تريح، لأن المتلقي لشعر كنهه ولحمته إحلال الله في قلب المعادلة الجامعة للأنا والله والعالم في لحمة واحدة، لم يكن يتوفر في الغالب على خلفية معرفية قادرة على جعله يستسيغ ناهيك عن تذوق جرأة الحلاج وهو يزج به في موقع مأزقي لا يبعد كثيرا الإلحاد في ذات الله حين يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنــــا، نحن روحان
حللنا بدنــــــــــــــا
نحن مذ كنا على عهد الهوى،
تضرب الأمثال للناس بنــــــــــا
فإذا أبصرتني أبصرتـــــــــــــه وإذا
أبصرته أبصرتنــــــــــــــــــــا
روحه روحي وروحي روحــه
من رأى روحين حللنا بدنــــــــا

غير أن الشيخ الأكبر، محي الدين بن عربي، رائد المتصوفة النظريين في كل العصور، استطاع أن يلتف على الوضعيات المأزقية في التداول التي وضعته فيها غزلياته ومقولاته التنظيرية بأن يتصدى بنفسه إلى شرح مشكلات أشعاره وآرائه، متقمصا دور المتلقي الفعال الذي يسهم في إضاءة مغمض النصوص ومستغلق معانيها، منافحا في الوقت نفسه عن شرعية المحمولات المضمونية الصادمة للمستقرات العقدية المستأنفة للتصوف السني خلال القرن الخامس الهجري. فقام بوضع شرح لديوانه (ذخائر الأعلاق) سماه (ترجمان الأشواق) بين فيه دواعي نظمه أشعار الغزل والتشبيب، وتلويحات أساليبه على المعاني الإلهية العالية دفعا للنكير الذي أبداه عليه أهل الشريعة حين نسبوه إلى الصبوة، وجعلوا رموزه محض تستر وسعي لحفظ السمت وشهرة الصلاح دون ما عداها من المعاني الصوفية.

 قال: "وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدرا الحبشي، والولد إسماعيل بن سودكير، سألاني في ذلك، وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكرون هذا من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ يتستر لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين، فشرعت في شرح ذلك وقرأ علي بعضه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء، وما ياتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهية، فاستخرت الله تقييد هذه الأوراق، وشرحت ما نظمت بها إلى معارف ربانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف، روحاني لطيف."

لقد اضطر ابن عربي بفعل الأقاويل وإنكار الفقهاء، على ما بينه المقبوس السالف، إلى أن يتولى مهمة الدفاع عن المتصوفة من حيث يدافع عن نفسه، فأذاع بفعله ما يشبه البيان التأسيسي للأدب الصوفي ولأشعار الحب الإلهي تحديدا، كما سوف يفعل في مواطن أخرى من بيانه، بخصوص الآليات التعبيرية الأخرى التي يصطنعها المتصوفة في البوح بمواجيدهم وأشواقهم، وتنزلات المعاني التي تعتريهم في ذروة معاناتهم العاطفية في تعشق الذات الإلهية. وقد استطاع ببيانه ذلك أن ينجز فعلين متباعدين في القصد والنية، أولهما محاولة ردم الهوة الفاصلة بين المتلقي العادي ونصوص الأدب الصوفي التي أخذت تتحدد وتمتاز وتتخصص، وثانيهما إحداث الإقناع تفسيرا لما عجز عنه إنشاء، بمعنى آخر، أن الرجل تمكن من توصيل الرسالة بفعالية اللغة المحمولة، وعجز عن ذلك أو أعجزته أفضية الفضاء الفكري عن الفعل نفسه عند توظيف اللغة الموضوعة، الأمر الذي صيره متلقيا شارحا أنجح منه مبدعا منشئا.

3. التجربة الصوفية في الأدب/ السياق والنسق
لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى خصوصية الأدب الصوفي الناتج أساسا عن تجربة روحية، ومعاناة وجدانية لا تشترك مع غيرها من التجارب الفنية إلا على صعيد الإلهام الذي يبقى، في التجربة الصوفية، محكوما بشروط الرياضة المعنتة القاسية التي تزج بالمريد، منذ بالبداية، في أفق روحي يلغي الواقع ويقصيه، ويصوم عنه وعن مقتضياته إلا في القليل الذي يقوم بشرط البلغة، والحفاظ عن النفس في أدنى شروط الاستمرارية، لأن الواقع، في المفهوم الصوفي، لا يمت بأية صلة إلى الإيحاءات السوسيوثقافية والفنية الأدبية التي التصقت بظلال الكلمة مع مد الواقعية الناهضة على أنقاض الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر.

وإذا كان النبوغ في كثير من الفنون، ولاسيما في الشعر، لا يستجلب ولا يحدث ولا يصطنع بقدر ما تأتي به الطبيعة هبة لا فضل فيها لصاحبها، إلا بقدر ما للنحلة من فضل في صناعة العسل، وللزهرة في نث الشذى الزكي العطر، فإن التجربة الصوفية، في شقيها: السلوكي والإبداعي، ما انفكت، منذ بداياتها الأولى، تستجلب بضرب من الجلب، وتستدرج بنوع من المراودة والاستدراج القائم على الصبر على مرارة الغصص، وأشواك المدارج وغربة المنازل، وقديما قال أحد هؤلاء القوم: " طريقنا هذا لا يصلح إلا لقوم كنست بأرواحهم المزابل," إشارة إلى ما يكفلون به أنفسهم من ضروب الرياضات الشاقة الرامية إلى تطهير محل الله منهم، ومن البشر جميعا، من مذموم الأخلاق والعادات والمساوئ، إعدادا له لاستقبال الفيوضات الإلهية، والنفحات الربانية مكاشفة لهم بالآيات والعجائب، وما لا يستقصى من مباهج البشائر وغرائب الأسرار والمعارف، يقول أبو حامد الغزالي في إحيائه: "إن الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك، وإنما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك، فصار ذلك حجابا بينك وبينها، فلا تحتاج إلا إلى أن تنكسر الشهوة، ويرفع الحجاب، فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب." يلخص المقبوس السالف لوحده، على قصره الذي لا يوحي بنظرة استثنائية إلى قضايا التصوف، لباب التجربة الصوفية ومدار أشواق الصوفية، ومحور مجاهداتهم المضنية التي صنف فيها شيوخهم مراحلها مقامات، وثمراتها أحوالا، ولم يزل أرباب الهمم من مريديهم، منذ البدايات التي تحددت فيها ملامح الفكر الصوفي وتقاطيعه، يتطلعون بشوق يمزق الأكباد إلى اختراق حجب الحس، والنفاذ إلى اللوح المحفوظ حيث تغترف المعارف اغترافا، وحيث لا حس ولا خبر، ولا شيء سوى الحق في مطلقه، وحيث النور وسبحات وجهه الذي أشرقت له ظلمات الوجود، وحيث العرفان والجوهر الفرد، بيد أن دون ذلك عقبات العلائق والشهوات التي تثقل الكاهل عن الغوص إلى الأعماق، لأن رحلة الصوفي في نهاية المطاف هي رحلة منه إليه، رحلة من كثافة الحس إلى نورانية الروح، من حجب الشهوات إلى رحابة النسك والطهر والقداسة، ومن رق العلائق والأغيار، إلى الحرية المنزهة عن الوقوف مع كل موقف ومقام ومسلك: وكل مقام لا تقم به إنه حجاب فغذ السير واستنجد العونا على ما قال قائلهم.

وعلى هذا الأساس يمسي كل تعلق، بأي ضرب من ضروب الحياة، نفيا لعقد الحرية المطلق الذي ينبغي أن يلزم المريد به نفسه في رحلته تلك، حتى إننا لنجد في كتب المتصوفة، التي أبانوا فيها عن شروط الإرادة، صنوفا من التصورات المستقصية لمعاني الحرية، تكاد تنتهي إلى ضرب من الشطط الذي لا تطيقه إلا آحاد النفوس في الدهور المتطاولة، وقد وجدناهم يدرجون العكوف على العلم وحده حجابا، والعبادة نفسها حجابا، والزواج، والعمل والتجارة ومختلف نشاطات البشر في العمران حجبا لا مناص من الفكاك منها لمن صحت إرادته في طريق القوم، وعلى هذا الأساس ازدحمت كتب المناقب والرقائق، والطبقات المنصرفة لتوصيف أحوالهم وأفعالهم، بالسرود التي يمكن تصنيفها بسهولة ضمن العجائبي والخوارقي أو القصص الفانتاستيكي، لا سيما تلك النصوص المستقصية لسياحات المتجردين من كبار القوم، وما يعرض لهم في أسفارهم من ضروب الخوارق امتحانا لنواياهم في التوكل التي يعقدون عليها أدق معاني الحرية والتنزه عن الأغيار والبراءة من ملاحظة الأكوان، والوقوف مع المكون وحده بلا علاقة، على ما تحدد مفاهيمهم واصطلاحاتهم. من أجل ذلك دعوا إلى استكمال شروط الإيقان بترك الاختيار جملة. قال السهروردي: "وقد يسمى ترك الاختيار والوقوف مع الله فناءا يعنون به فناء الإرادة، وهذا الفناء هو الفناء الظاهر، فأما الفناء الباطن وهو محو آثار الوجود عند لمعان نور الشهود يكون في تجلي الذات وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا."

الواقع إن المتصوفة قد راكموا تراثا قصصيا مدهشا في هذا الباب من الأدب الصوفي بالتحديد، حيث انصرفوا إلى خلق لون من التوازن في مأزقية التلقي التي أحدثتها أشعار المتصوفة النظريين، إذ لا يكف المتلقين، مهما تفاوتت درجة استقبالهم، من تذوق النص الخوارقي لا سيما في المجتمع الإسلامي الذي لم يحسم موقفه نهائيا من كرامة الأولياء وخوارق العادات، على الرغم من إنكار الفقهاء وأهل الشريعة الذي يظل، على الرغم من كل شيء، قليل التأثير في الوسط الاجتماعي العام الذي يظل بحكم جماهيريته خاضعا لشروط الشعبوي المعروفة بولعها الأصيل بكل ما يثير فيها لذيذ الحلم المتعالي على تحديدات الوهم والخرافة، وعلى هذا الأساس انصرف الأمر برمته إلى استدراج المتلقي إلى خيز التداول الصوفي الذي أخطأه الحلاج في القرن الثالث.

ما نريد التأكيد عليه في هذا السياق هو أن التصوف موقف من الحياة وفلسفة وأسلوب، استتبع بحكم خصوصية مسلكه خصوصية لازمة له، وقائمة به، في مختلف تمظهراته السردية والشعرية، لان التصوف، على حد تعبير حسن حنفي ليس"مجرد قواعد باردة يطبقها الصوفي في موضوعه دون أن يلزم حياته بها"، وعليه، فقد كيف ذلك الموقف المخصوص من العالم مخيال أصحابه ومكوناتهم الشعورية واللاشعورية العميقة، وحتى بناهم العقلية التي جعلتهم طوال تاريخهم عرضة لمختلف الاتهامات التي أدناها الجنون المحض الذي إليه يرجع غلوهم في مقولاتهم التي لا يكاد يحيط به العقل الذي لم يجس جوس عقولهم في عوالم الروح، وألوان المطلق، وفنون الاستبطان التي انتهت ببعضهم إلى إحصاء الأنفاس والخطرات، ولا غرو، مادام مدار الأمر هو السعي الشاق القاصد نحو الاتحاد بالمحل الأعلى، موطن الروح الأول، بما يجعل الحياة برمتها محض اغتراب خصيصته صرف الألم.

وهكذا أحل المتصوفة الماهية قبل المادة، والشعور قبل الحس، والسماء في مطلقها قبل الأرض في كثافتها، بما يجعل الرحلة، في نهاية المطاف، رحلة محمولة على أكف الشوق إلى المحل الأعلى، وفي هذا المعنى نظم ابن سينا قصيدته الشهيرة في الروح التي مطلعها:
نزلت إليك من المحل الّأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
إشارة إلى الروح التي مصدرها المحل الأعلى، والتي غمضت، ودقت على البصائر حتى لا تكاد تبين عن حقيقتها. وعلى الأساس ليس يفيد المجتهد القاصد المشتاق أن يلتبس بالحياة وأشيائها إلا ما تقتضيه الضرورة، قصاراه أن يتخفف أشد ما يكون التخفف، وديدنه التشبث بقيم الحرية المطلقة التي بدت عندهم مقدسة هادفة، وشرطا في الرحلة وأساسا لا غنى للقاصدين عنه، لعل أجمل ما قرأت في هذا الباب هو التعريف الذي أورده أبو العباس ابن العريف، صوفي الأندلس الكبير وشيخ ابن عربي، عندما كتب إلى أحد إخوانه ناصحا: "احرص على الحرية إلا من رق المستحق بحقائق الربوبية، ولا تعرض نفسك لمكلة الأشياء وغلبتها عليك، واعلم بأنك لا تقدر على السلامة من ذلك إلا بحول الله وقوته، وملازمة لطفه ونعمته، ومطالبة نفسك بحجته، وذلك ملك دائم مخصوص به أهل حقائق الإيمان، فإن العبد إذا اتصلت حقيقته بسكينة إيمان، أمده الله في نفسه الأمن من الدنيا والجنة في العقبى، فاستعن بالله استعانة من لا يصلح لشيء، ولا يصلحه غير الله شيء."

لخص ابن العريف في نصيحته مجمل الأسس التي يقوم عليها مفهوم الحرية الذي جعله المتصوفة محور تجربتهم الروحية وموقفهم من العالم، ورؤيته إلى الحياة، وأعاد صياغة التعريف الشامل الذي وضعه متصوفة المشرق في القرن الثالث بقليل من التفصيل، ونعني به قولهم التصوف هو "الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق." محددين ابتداء قواعد الطريق ومقومات التجربة، وقالبين في الوقت نفسه ميزان القيم التي ستحكم الرحلة في توجهها من الخارج إلى الداخل، من الأسفل إلى الأعلى، من الحس إلى الشعور، ومترقبين في آفاق أنفسهم، دون سواها من العالم، إشراق كوكب اليمن والعرفان ومعالم الوصول.

الواقع إن التراث الصوفي برمته، سواء في جانبه المعرفي أو في جانبه الأدبي، لا يكاد يخرج عن مدار الرحلة وشروطها وغوائل الطريق وبشائر الوصول، حتى تلك التي انصرفت للمنافحة عن التصوف والرد على الخصوم والمنكرين من الفقهاء وأصحاب الشريعة الذين أطلقوا عليهم تارة اسم علماء الدنيا وتارة توصيف علماء الظاهر، محتجين في توصيفهم بالعجز عن إقامة حجة الحرية من الأشياء بالدرجة الأولى، من ذلك هذه المحاججة التي يوردها السهروردي لبيان فضل علوم الصوفية على علوم سواهم من منظور الموقف من الحياة دون سواه من الاعتبارات، قال: " وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء أن العلوم كلها لا يتعذر تحصيلها مع محبة الدنيا والإخلال بحقائق التقوى، وربما كان محبة الدنيا عونا على اكتسابها، لأن الاشتغال بها شاق على النفوس، فجبلت النفوس على محبة الجاه والرفعة، حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمل الكلف وسهر الليل والصبر على الغربة والأسفار وتعذر الملاذ والشهوات، وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا، ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى، قال الله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله)."

وعلى هذا يعلق السهروردي شروط الخوض في التجربة الصوفية على تحقيق الحرية في أسمى معانيها، قبل الاستعداد لتقبل العرفان ممثلا في الفيوضات الإلهية التي وعد بها الله عباده المتقين بحسب تأويله للآية الكريمة المتضمنة في المقبوس، ولا يخلو الأمر على كل حال من رياضات ومجاهدات وتمثلات متقايسة مع مجازات التحلية والتخلية، وغيرها من الممارسات الروحية التي تظل قبل كل اعتبار زاد المسافر وشغله وهمه ودأبه وديدنه، حتى يصل إلى مرتبة العرفان التي وصف أطوارها الجنيد توصيفا بليغا بقوله في وصف العارف: " عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقه ناظر إليه بقلبه، أخرقت قلبه أنوار هدايته وصفا شرابه من كأس وده، تجلى له الجبار عن أستار غيبه، فإن تكلم فبالله وإن سكت فمن الله وإن تحرك فإذن

الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله ومن الله وإلى الله."

وهكذا يضع الجنيد بين أيدينا ملامح الهوية الروحية التي تصيرها التجربة الصوفية الناضجة، خصوصا عند أربابها الذين أغنوا التراث الروحي في الفكر الإسلامي من حيث أغنوا الأدب العربي بتراث، على الرغم من الهامش الذي دفع إليه من الثقافة الرسمية، ظل يمارس أشكالا مختلفة من الإغراء والتحدي على مر العصور، شأنه شأن الآداب العالمية العظيمة التي لم تستنفذ مخزونها الجمالي والتأويلي على اختلاف المقاربات المتباعدة في الزمان وفي الأدوات النقدية. بيد أن التجربة الصوفية الواقعة في الخلفية المظللة لهذا الأدب هي التي حددته وميزته، وأعطته خاصيته الاستثنائية من بين مختلف الألوان الأدبية والفنية التي أنتجها البشر في مختلف البيئات والثقافات، ذلك أن الأدب الصوفي لا يصدر عن ممارسة فنية صرف، بل عن ممارسة عاطفية ووجدانية لا سبيل إلى إسقاطها في أية دراسة تحترم الشرط العلمي في مقاربتها، لأن اختزالها في بعدها اللغوي والأدائي يجردها أساسا من مادتها ولحمتها وسداها، فالأبيات القليلة والمقطعات الصغيرة التي يكتبها المتصوفة في لحظات الانخطاف التي أبان الجنيد عن جوانب منها في توصيفه السابق للعارف، وفي لحظات الوجد الغالب، والسكر العنيف المطوح باللب، لا يتريث فيها أصحابها تريث أصحاب الصناعة، لتقليب النظر في العبارة واستوائها، أو في بلاغتها وفصاحتها، بقدر ما يجهدون في القبض على البرق الخلب، واللَمع المتقطعة وراء الخيال، يقربون منها حينا ويبعدون أحايين كثيرة، يتربصون بها ولا يكفون عن مراودتها، حتى إذا برقت ولمعت، شغلهم الكشف عن التحقيق، واستغراق اللب بالسر عن الوعي باللباب والقشر بله عن الوعي بالنظم وما ينبغي له.

وهم في ما يعرض لهم من أحوال، وما يملأهم من وجد، وما يستغرقهم بالكلية في لحظات الكشف تلك التي يعودون منها بأطياف خيال، ورعشات إحساس، ومعلوم كالمجهول، وعيان كالخبر، يحدوهم الأمل في أن يكونوا على شيء، وأنهم أدركوا المنازل وحطوا بالديار بعد طول السرى، ولكن الريبة تستولي عليهم سريعا، والسؤال المحير، والإشفاق من استيلاء الوهم واختلاط أمشاج الرؤيا تدفعهم في الصحو المنبلج بعد محاق المحو، إلى إعادة صياغة التجربة على ضوء تصنيفات السابقين من الراحلين إلى الله، وتعريفات الأئمة في أبواب هذه النحلة، وتفريعات أهل النظر من شيوخ الطائفة، فيتخذون من مقولاتهم عناوين لتلك البوارق التي لاحت، وأسامي لتلك التباريح، وإشارات على تلك المنازلات، لا يحسمون، ولا يقطعون، ولا يريحون ولا يرتاحون نظرا ولا تجريبا، لأن المأمول خطير، والمعالم ليس عليها دليل، والمعشوق عبقري الدلال، فلم يبق إلا القيل المحمول على ألف احتمال، وإلا الإلغاز أغلب الوقت، ليس بضرب اختيار، وإنما نزولا عند مقتضى الاضطرار، فلا تكاد اللغة تسع الحال، ولا الإشارة تفي بالإدلال.

وعندما تجنح الأحوال هذا الجنوح، وتنزع المشاعر هذا النزوع، لاسيما في مضمار التجربة الصوفية التي مبتدأها ومنتهاها ما وراء الحس والخبر، تنحرف الملفوظات صوب التعالق الحميم مع الفلسفة والفكر والنظر، ويصبح التنكب عن هذه الوشائج إسقاطا سيئا لمكون جوهري في تركيبة الخطاب الصوفي الذي يزج بنا، في هذا المقام، في مبحث شديد الضيق والخصوصية بتصديه لبحث التعالق القائم بين الأدب والفلسفة، الذي وقف بصدده رينيه ويليك متسائلا:

"هل يغدو الشعر أفضل إذا كان فلسفيا بصورة أكبر؟ وهل يمكن أن يحكم على الشعر بحسب قيمة الفلسفة التي يتبناها؟ أم هل يمكن أن يقاس بمعيار الأصالة الفلسفية أو بدرجة تعديله للفكر التقليدي؟" تساؤلات لا تخلو من تقرير ظاهرة مركوزة في طبيعة الأدب التي تصدر من ذات يؤكد غويو مارلي بصددها: بـ"أن الصفة الأساسية التي يمتاز بها الشاعر هي في جوهرها الصفة التي يمتاز بها الفيلسوف." ولأن الفلسفة فكر، وفي مضامين الأدب والشعر أفكار لا يضيرها الأصالة والابتذال، ولا السطحية والعمق، ظل الأدب أكثر استيعابا ومحاورة لمضامين الفلسفة، يتمثلها ويجادلها وفي الأقل الأحوال يشير إلى تمظهراتها المختلفة في منتوجات العقل وسيرورتها الإنسانية في الأفراد والجماعات، وإذا كان "الأدب تفكيرا بالصور كما يرى أرسطو، فإنه موجود بالتالي في غالب الفلسفات بهذا القدر أو ذلك." وقد قيل: إن الفلسفة التي تخلو من العاطفة ولا تقيم نفسها في خضم العاطفة الإنسانية وألوانها وأشواقها وإحباطاتها فلسفة جافة، وفي الوقت نفسه، يصبح الشعر الذي لا يهدف إلى فكرة حقيقة أو رمزية يضيع صداه سريعا ويفر صداه من القلوب سريعا." على حد تعبير الدكتور خليل الهنداوي.

الواقع إن الأدب الذي استطاع أن يمزج في تضاعيفه، بين الجمالي والفلسفي، مزجا بارعا رفيقا، محسوبة مقاديره بعناية، هو وحده الذي استطاع أن يطاول الأذواق على اختلافها، والأزمان على امتدادها، فما أسرع ما يمتد الملل إلى النصوص التي تبيح نفسها في المباشرة الأولى، ولا تمتد عميقا ولا عاليا، بل امتدادا مسطحا لا التواءات فيه ولا تسويف ولا مماطلة، وما أكثر ما تكلف النفوس بالغموض الحابل بالمعنى الموارب، والوعد المتقارب، والتمكين المبذول للطالب، جاعلا من فعل مباشرة القراءة شراكة إبداعية، ومساهمة لا تخلو من متعة المغامرة والاكتشاف، وقهر عويص النص وتذليله، الانتقال بفعل التلقي من السلبية الباردة إلى الإيجابية المتفاعلة، ولا يعني هذا بأية حال من الأحوال أن الغموض والإغراب محمودان لذاتهما دون اعتبار، ولا توفرهما، بالوفرة التي هما عليها في الشعر الصوفي خصوصا، يعلو بهذا الأخير أو يهوي به إلا بمقدار ما بينهما من تناسب لا يلغي أحدهما الآخر بالكلية.

 قال إبراهيم زكريا بهذا الصدد: "لو عدنا إلى تاريخ التفكير الميتافيزيقي لاستطعنا أن نقف على الصلة الوثيقة التي جمعت بين الحقيقة والشعر، ومهما حاول الفيلسوف أن يحكم عقله في كل شيء، بل مهما وقع في ظنه أن مذهبه الميتافيزيقي هو نظر عقلي خالص، فإنه لابد من أن يجد نفسه محمولا على أجنحة الخيال إلى عالم يختلط فيه الحقيقة بالشعر، ويمتزج فيه الواقع بالمثال." هذا شأن الفلسفة في جانبها الميتافيزيقي المجرد، لا يمكنها الخلاص من الشعر، ومن روح الشعر مهما حدا بها الزهو بالعقل المجرد إلى دعوى البراءة من شذور الشعر الممتدة عميقا في صلب الأشياء وحقيقتها، مهما بدت لها أحيانا على خلاف ذلك، ولا يخلو الشعر بدوره، لاسيما في الأدب الصوفي، من اقتحام مجاهيل الميتافيزيقا وتجريداتها الرياضية المعجبة، بل يمكن الجزم بلا خوف من غلط، بأن الشعر الصوفي المصنف في القسم النظري من الخطاب الصوفي يمثل لوحده نمذجة متفردة لتداخل الفلسفي بالشعري، أو الشعري بالميتافيزيقي.

وعلى حد ما تساءل جان فال: "ماذا عسى أن تكون الميتافيزيقا، وماذا عسى أن يكون الشعر؟ إلا أننا نعلم على الأقل أن جوهر الشعر لابد أن يظل ميتافيزيقيا، ومن الجائز أيضا أن يظل جوهر الميتافيزيقا شعريا، أليست الميتافيزيقا هي شعر الفلاسفة، كما أن الشعر هو ميتافيزيقيا أفضل، والشاعر فيلسوفا لكي يصير شاعرا أفضل؟" بهذا المعنى يرتكز الشعر في قلب المعادلة الفكرية برمتها، وتصير للرؤيا الشعرية أفضلية الالتباس بالجوهري في الحياة، من حيث التباسها بالشرط الإنساني القاسي، وبحثه الدءوب عن المعنى الذي ارتقى إليه كل المراقي، واستعان في بحثه اللحوح ذاك بكل ما أتاحته له إمكاناته البشرية التي تضؤل أحيانا حتى تصير في حكم

العدم، ويغذيها الشعر والخيال أحيانا حتى تلج غيابات المجهول والمستحيل.

الرؤيا الشعرية إذن هي البدء والمنتهى في الرؤى والأفكار والفلسفة و الميتافيزيقا وكل المعارف التي تتاخم الحلم الإنساني وتعضده في القبض على المعاني المغيبة ومستحيلات الأشياء، ولا تعجز أحيانا في تضمين الشعر الذي تلبسه برؤى بعيدة ورسالات تحب أداءها، وأغراض تشيعها ورسالات تبلغها، فتقع ضحية الالتزام الإيديولوجي الذي يزيل عنها براءة الرؤيا وعذوبة التأمل القريب الذي يتحلل بسهولة في جماليات الشعر وأدواته الإنشائية، فلا يطغى أحدهما على الآخر، متيحين للعملية الشعرية أن تستوي بتوازن حذر بين الطرفين، يؤكد روستر هاملتون بأن المسألة في نظره " تعتمد على طبيعة الغايات البعيدة من جهة وعلى نوع الشعر من جهة أخرى، ذلك أنه لن نستطيع أن ننكر أن تدخل بعض الغايات البعيدة في بعض أنواع الشعر قد يؤدي، بل إنه كثيرا ما يؤدي، إلى تقليل قيمته، ولكن من الواضح أن هناك أنواعا أخرى من الشعر تعتمد قيمتها الشعرية بلا شك على اعتمادا مباشرا على الغايات البعيدة التي تغنى بها."

4. منطق الإشارة
لما كانت التجربة الصوفية، قبل كل اعتبار، تجربة روحية مدهشة بعمقها، وتفردها، والتباسها بما يقع خارج مجالات الإدراك العقلي المجرد، ظل أربابها يؤكدون على أن الذوق هو مناط العرفان، وصرحوا بالقول بأن من ذاق عرف، وأن لا سبيل إلى الإحاطة بمعانيهم نظرا ولا فكرا ولا تلقينا ولا مدارسة، لأن معارفهم لا تنال من الألواح وإنما من الأرواح، ولا تنال من الأوراق وإنما بالأذواق، وعليه جعلوا الذوق الذي يريدون به التجربة في قلب عملية العرفان الشاقة، وأحلوا الرمز مكان البوح، والإشارة مكان العبارة، فليس ثمة ما يعبر عنه لغير الملتبس بالتجربة، ولا ما يباح به لغير المخترق بنفسه أسوار العرفان الشاهقة المنيفة. ولما لم يكن هناك معلوم يورد بألسنة العوام، اضطر القوم إلى التلويح بأذواقهم إشارة حتى قال قائلهم:
وعني بالتلويح يفهم ذائق غني عن التصريح للمتعنت

لا يخفى أن الإشارة لوحدها تكرس القطيعة التداولية في أكثر صورها وضوحا، فقد جعلت الاستغلاق مطلوبا لذاته، والغموض ذريعة إنشائية مقصودة، وعلقت التلقي بشرط متعذر يشبه المستحيل، فلا يتصور أن يخوض الناس تجربة التصوف الشاقة من أجل الظفر بفك إشاراتهم البعيدة، كما لا يتصور أن تشيع الإشارة في الناس إلى حد يصير تداول النص الصوفي بينهم شيئا مبذولا ابتذال كلام العوام، بما يلغي غموضه العصي، وامتيازه المحير، ومبرر تحديه للعقول واستنفارها، وأساس الرهبة والتقديس الذي ما انفك يثيره في الوسط الإسلامي على الرغم من النكير، وانقطاع أسباب التداول، واستغلاق نصوصه الجليلة عن أفهام أكثر الخلق.

لابد من التأكيد في هذا السياق على الفرق بين الرمز والإشارة، فقد أهاب المتصوفة بالرمز وجعلوه مدار أشعارهم واتخذوه ذريعة لإنشاء بدائع القصائد في الخمر والغزل، وزاحموا أربابها في التراث العربي الزاخر بهذا اللون من القصيد، وواقعوهم بالحافر، وزاحموهم بالبلاغة، وتناصوا، وتصادوا معهم لغة ومعنى، حتى صح الشاهد من هذا على ذاك، ومن ذلك على هذا، وتداخل الأدبان في الغرضين تداخلا لا يميز بينهما من لم يحط بدقائق الأدبين، وبالاستناد على القرائن الكامنة المتوصل إليها بغير قليل من التبصر، لأن الرمز، في النهاية، الظفر بطي معناه ممكن، والإحاطة بمراميه مبذولة ولو بالتأويل البعيد، وهو، كما عرفه السراج الطوسي: "معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر." بخلاف الإشارة التي "هي ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه."

على ضوء هذا التعريف لوحده، يمكن النظر إلى مأزقية التلقي التي أحدثها المتصوفة في الأداء الأدبي، منذ مرحلة مبكرة، بمنهج يضطلع قبل كل شيء بالبحث في التجربة الصوفية وأنساقها المعرفية ومفعولاتها الانفعالية والوجدانية، قبل الانصراف إلى مباشرة الأدب الصوفي من موقع لغوي أو لساني أو سردي، أو من أي موقع يبتدعه النقد في تحولاته السريعة. فالنص، على ما يرى إيزر، لا يمكن أن يكون إلا من خلال الوعي الذي يتلقاه، سواء في لحظة البث أو في لحظة القراءة ومسارها التاريخي.

يروي القشيري في رسالته بأن أبا علي الروذباري لما قرب أجله وكان رأسه في حجر أخته قال:
 وحقك لا نظرت إلى سواك بعين مودة حتى أراكــــــــا
 أراك معذبي بفتور لحــــــظ وبالخد
المورد من جناكــــا
ثم قال: يا فاطمة، الأول ظاهر، والثاني فيه إشكال.

لقد اضطلع الروذباري بدورين مختلفين ومتكاملين في نفس الوقت، بحسب ما يقرر الخطاب النقدي المعاصر في أكثر من منهج، دور التلقي ودور الإيداع، ولا ينفك المؤلفون على اختلاف مجالات إبداعهم يقومون بتقمص شخصية القارئ الفعال الذي يملأ فراغات النصوص ويتأول مشكلاتها قبل أن تخرج من يد صاحبها نهائيا إلى متلقين يتفاوتون في مواقعهم من النصوص بحسب كفاءاتهم المنهجية وخلفياتهم المعرفية، وعلى هذا الأساس أبدى الروذباري ما يشبه (الورع) الديني بإزاء البيت الثاني الذي تلقاه في حالة تختلف بالكلية عن الحالة الأولى، حالة يطلق عليها المتصوفة مصطلح الصحو تارة والبقاء تارة أخرى، ولا يجيء الصحو إلا بعد محو، كما لا يجيء بقاء إلا بعد فناء.

هاتان الحالتان اللتان تنسب إليهما جل شطحات الصوفية التي يخرجون فيها عن مقتضى (الورع) الفقهي والعقلي، ويشفقون من تبعات التصريح بالعبارة ويكتفون بالتلويح والإشارة. وعند التأمل نجد الروذباري قد أعاد قراءة البيتين على ضوء مقتضيات التصوف السني الذي ما انفك منذ عهد الجنيد البغدادي يؤطر تلويحات المتصوفة وشطحاتهم إلا في القليل النادر، فقد ألزم القوم بحجة الشريعة في قيلهم وفعلهم، وأناط بمقتضياتها كل (دعاويهم) الصادمة للمستقر من مقولات التوحيد و قواعد الشريعة، فكان بحق أول من لطف من الصدامية التي أحدثها المتقدمون عليه بين أفق التصوف وأفق الشريعة مأزمين وضع التلقي إلى أبعد الحدود. وعلى هذا الأساس استساغ الروذباري (دعواه) المتضمنة لما يشبه العهد المقطوع بأن لا يتعلق قلبه بشيء سوى الحق جل و علا. وقطع العلائق كما معروف شرط في السلوك الصوفي، ومنزل من منازل السائرين، ومدرج في سلم المترقين، فلا يتصور أن تسافر الأرواح ولا أن تعرج وهي موثقة بأغلال العالم الأدنى. فالمعنى بهذا الاعتبار لا شطح فيه ولا دعوى، بيد أنه سرعان ما يصبح كذلك في البيت الثاني، حيث ينصرف القول إلى شكوى غزلة، تنسب للحبيب خدودا موردة وألحاظا (مريضة) فاتكة، وتمنعا، ودلالا، ودلعا كدلع الغواني، يبدو ساعة الصحو إشارة إشكالية ملتبسة بمحاذير كثيرة، ومتصلة بدعاوى لا يسيغها الورع، وشطحا لا يحيط بوجوهه الروذباري نفسه، الأمر الذي جعله يصرح بما في البيت من إشكال.

نخلص من هذا إلى نتيجة مهمة في هذا السياق، وهي أن الإشارة تستغلق على أربابها أنفسهم، وتستعجم على مورديها وصانعيها غالبا، حتى اضطر البعض منهم إلى تكلف شرحها بما يناسب أفق المتلقين المؤطر وفق قواعد العقائد الشرعية والمذاهب الفقهية، على نحو ما صنع ابن عربي مع كثير من أشعاره المنظومة تلويحا وإشارة. ولا يخلو الغموض المكتنف بالإشارة الصوفية من أحد سببين، أولهما:
طبيعة التجربة الصوفية نفسها، التي نهدت إلى ألطف المسائل وأبعد الغايات الإنسانية كلها، فقد نصبت الذات الإلهية مطلبها ومبتغاها ورائدها، ومنطق وجودها أصلا وتفصيلا، لا تنشد إلا إياه، ولا تقف عند رسم، ولا كون، ولا مطلع، ولا لائح سواها، ولا تطلب معرفة من عقل، ولا نظر، ولا فكر، خارج ذاتها المنصرفة أبدا إلى إجلاء باطنها وصقله، وإعداده لانطباع الفيوضات الإلهية والمعارف اللدنية التي تلوح كما تلوح البروق حينا بعد حين، تملأ القلوب بالمعاني الرائقة، والمعارف اللطيفة التي لا تحوطها العبارة لما في العبارة من تناهي، وتقرب الإشارة من حماها لما في الإشارة من عدم التناهي. فالإشارة الصوفية، بهذا المعنى، فكر ومعرفة وعلم، ولكنها علم مخصوص، ومعرفة عزيزة مصروفة إلى طائفة موصوفة بالخاصة وخاصة الخاصة، وتلكم هي السبب الثاني من أسباب غموض الإشارة واعتياصها على الأفهام، فقد لج بالقوم الحرص على معانيهم أن تتداولها العوام، وعلى علومهم أن تتبذلها الأفهام، فاصطنعوا لها اصطلاحات تدور بينهم وحدهم، ضنا بها على غير أهل الخصوص حينا، و دفعا لشنيع التهم عنهم أحيانا كثيرة.

يروي الكلاباذي عن أبي العباس بن عطاء حين قال له بعض المتكلمين: "ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين وخرجتم على اللسان المعتاد؟ هل هذا إلا طلب للتمويه، أو تستر لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزته علينا، كيلا يشردها غير طائفتنا ثم اندفع يقول:
 أحسن ما أظهره ونظهـــــــره بادئ حق القلوب شعـــــره
 يخبرني عني وعنه أخبـــــــــره أكسوه من رونقه ما يستره
 عن جاهل لا يستطيع ينشره يفسد معناه إذا ما يعــــبره
 فلا يطبق اللفظ بل لا يعشره ثم يوافي غيره
فيخـــــــــــبره
 فيظهر الجهل وتبدو زهره ويدرس العلم ويعفو
أثـــــــــره

يجمل ابن عطاء في هذه الأبيات موقف المتصوفة من العوام الذين ينسبونهم إلى الجهل تارة، وإلى الوقوف مع الظواهر والرسوم تارة أخرى، وهم يعنون في الحقيقة كل من لم ينتسب إلى الصوفية ولم يخض غمارها، فتعذر عليه الذوق الذي جعلوه شرطا في التلقي، ويعنون به الانفعال والفهم والإحاطة بمضامين الإشارة، وما يغني صاحبه عن التصريح، ويرفعه فوق مقتضيات العبارة، ولا يتيسر ذلك إلا لمن جرب وذاق، ليس يهم كونه من أهل البدايات مادام لا يخلو من مشاركة وجدانية، ومن معرفة حاصلة بالقرب من فحوى تلك المعاني اللطيفة الراقية دون الإحاطة بمنتهاها، فالذوق الصوفي نفسه منازل ومقامات يتفاوت فيها أربابها تفاوتهم في الصدق والهمة، والعرفان الحاصل بالفتح الإلهي.

هذه المعاني وغيرها، جعلت المتصوفة يبررون مصطلحاتهم التي استحدثوها وأداروها بينهم، بما عهدوه في اصطناع كل فرقة لعبارتها واصطلاحاتها الخاصة بها، على النحو الذي بسط فيه القشيري القول في رسالته، حيث قال: "إن لكل طائفة من العلماء ألفاظا يستعملونها انفردوا بها عن سواهم وتواطئوا عليها لأغراض لهم فيها، من تقريب الفهم على المخاطبين بها أو تسهيل على أهل تلك الصفة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها، وهذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإخفاء والستر على من باينهم في طريقهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع التكلف، أو مجلوبة بضرب التصرف، بل هي معان أودعها الله قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرار قوم."

الواقع إن تلك المعاني التي أودعها الله قلوب أولئك القوم المصطفين، لا تخلوا بدورها من خصوصية تجعل الكتم والاستسرار ضرورة لا اختيار معها، مثلما تجعل البوح مغامرة مخفوفة بالمخاطر، لأن التجربة الصوفية من حيث التعريف تجربة وجدانية منسوب جميع مضامينها إلى الحدس الذي لا يقوم عليه الدليل والبرهان، وما أسرع ما يبادر الناس إلى الإنكار، وما أيسر ما يؤدي الإنكار إلى التنكيل بالخارجين على المرسوم من حدود الشريعة في التاريخ الإسلامي العريض، وما أكثر ما لقي بعض المتصوفة المستهترين من العرب والفرس والأتراك حتفهم جراء خروجهم على الاستسرار وبوحهم بشيئ من أسرار العرفانن على حد تعبير نيكولسون.

من أجل ذلك وجدنا ابن عربي يعبر بامتنان عميق عن فضل الرموز والإشارات على العارفين، فلولاهما لهلك أكثرهم، ولولاهما لما قامت لهم حجة ولا أدركتهم سعادة، قال:
 ألا إن الرموز دليل صــــــــــــدق
 على المعنى المغيب في الفـــــــــــؤاد
 وإن العالمين له رمـــــــــــــــــــــوز
 وألغاز ليدعي بالعبــــــــــــــــــــــــاد
 ولولا اللغو كان القول كفــــــــــرا
وأدى العالمين إلى العنــــــــــــــــــاد
 فهم بالرمز قد حسبوا فقالــــــــوا
بإهراق الدماء وبالفســـــــــــــــــاد
 فكيف بنا لو أن الأمر يبـــــــدو بلا
ستر يكون له استنـــــــــــــادي
 لقام بنا الشقاء هنا يقينــــــــــــــا
وعند البعث في يوم التنـــــــــــــــاد
ولكن الغفور أقام ستـــــــــــــــرا
ليسعدنا على رغم الأعـــــــــــــادي

إذن فالرمز البعيد والإشارة اللطيفة كلاهما أدوات فنية وعرفانية أهاب بها المتصوفة قصدا حينا، ودون قصد أغلب الأحيان، من أجل التعبير عن المعاني المغيبة في الفؤاد التي غالبا ما تصطدم مع ظاهر الشريعة، ومع ما توضع عليه الفقهاء والمحدثون إقامة لحكمة التشريع قبل أي اعتبار آخر. من هنا اضطر المتصوفة منذ مبتدئ أمرهم إلى التفريق بين كيانين معرفين رئيسين: الشريعة من جهة، والحقيقة من جهة أخرى، الظاهر والباطن، الخاصة والعامة، وغيرها من التقاطبات القائمة على أساس العرفان ومجال التجربة، فإذا كان شأن الشريعة هو الحفاظ على استمرارية الخلافة البشرية في الأرض، من حيث تنظيم العلاقة بين الناس أفقيا، ومع رب الناس عموديا، فإن المتصوفة قد وجدوا أنفسهم منذ بدايات تجاربهم الروحية المنهكة بإزاء معارف لا يقوم عليها بالضرورة شيء من أسباب استمرارية الخلافة البشرية، بقدر ما تقوم عليها الحقيقة الفردية المتعالية عن الجماعة، ومن ثم بدت الحاجة إلى التفريق بين الحقيقة التي لا يطيق مضامينها سوى الخواص الذين لا ينبغي النظر إلى منازلاتهم بمنظار الشريعة ولا بمقاييس العموم بأي حال من الأحوال، وبين مقتضيات الشريعة القائمة على العموم أصلا وتفصيلا.

لقد كان هذا التفريق إيذانا بإطلاق الحرية الفكرية والروحية، وتخلصا ذكيا من الضرورات التي تقوم عليها حياة العوام، وتبريرا منطقيا لما يتعاطاه الخواص روحا وفكرا وكتابة، ما دام مصروفا عن الحياة العامة إلى الخاصة، ومن قوام الجماعة إلى حيز الفردية الخاص، وعليه أمكن للذوات الخاصة، ولآحاد الممتازين من النوابغ أن يتبادلوا المعارف التي حصلوا عليها إشارة ورمزا، حصرا للمعرفة من جهة وقياما بحق الاستسرار من جهة أخرى. قال ابن عجيبة في شرحه للحكم العطائية: " فإذا انفرد القلب بالله وتخلص مما سواه فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها وإنما هي رموز وإشارت لا يفهمها إلا أهلها ولا تفشى إلا لهم، وقيل من أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه وتعرض لقتل نفسه كما قال أبو مدين رضي الله عنه: وفي السر أسرار دقاق لطيفة تراق دمانا جهرة لو بها بحـــــــنا."

لا غرو بعد ذلك أن يستغلق النص الصوفي وأن يمعن في الغموض، وأن يطرح، قديما على الأقل، على هامش المعرفة الرسمية العالمة، وأن يحدث في التداول العام تلك القطيعة التي لم تفلح تعريفات اللاحقين من المتصوفة، ولا شروحهم، من أن تردم الهوة السحيقة بين خصوصية النص الصوفي، وعمومية (الاستهلاك) العام للأدب بوصفه منتجا قابلا لتحديدات السوسيولوجيا والاقتصاد ونظريات القراءة.

5. على سبيل الخاتمة

الواقع إن مناهج النقد، على اختلاف أدواتها، وبغض النظر عن الوتيرة السريعة في تقلب منطلقاتها وفرضياتها، تمدنا الحين بعد الحين بأدوات فعالة في استقراء النصوص، وتحدد لنا مواطن الضعف من كياناتها القابلة للاختراق، وزوايا الرؤية الفعالة، وطرائق الهجوم القادرة على فتح مغالق النصوص وانتهاب مكنونتها وذخائرها، بيد أنها لا تقدر، بأي حال من الأحوال، على تغيير الطبيعة الجوهرية لتلك النصوص، ولا إخراجها من أحيازها الذاتية المخصوصة إلى أخرى ليست من صميم وجودها. فالنص الصوفي نص متفرد في بابه ولغته وغرضه، لا يخرج عن طبيعته تلك إلى حيز النصوص الأدبية المحكومة بتداولية الأدب مهما أطلقنا على شؤونه إطلاقات الأدب المعروفة، ومهما ألبسته نظريات النقد أسامي تشركه في الآخر، وتدخله في فضائه، وتقاربه على أنه تمظهر أدبي يخضع لمقتضيات الفنون اللغوية، ويستجيب بحكم مادة الأساس لما تستجيب له فنون القول، وذلك لسبب جوهري أطلق عليه نحاتنا الأول اسم الوضع الذي يعنون به القصد الابتدائي المتحكم في نية المتكلم، حتى إنهم أخرجوا كلام النائم من حيز (الكلام) لغياب النية والقصد في فعل التلفظ.

أما الأدب الصوفي، وما اصطلح عليه كذلك، للدلالة على ما أنتجه المتصوفة في المنظوم والمنثور، لا يريدون به سوى تحقيق فعل الكلام في أسمى صوره، من خلال التقاط الحقيقة وقولها بإخلاص إلهي، ونقل تجارب العرفان وليس صنائع البلاغة والبيان، فجاءوا به عفوا لترجمة تباريح الشوق والقرب وطلائع الفتح الروحي الذي لا تطيقه العبارة إلا لماما، ولا بواطئ مألوفات التوقع والاستقبال إلا نادرا، فاحدث القطيعة وتوارى إلى الهامش إلا عن باحث جاد يموضعه في سياقه الصحيح من التجربة وحدود المقاربة اللغوية وقصور الفهم غير المتمرس بمقولات القوم وخلفياتهم المعرفية.

من هنا جاء سوء الفهم القديم والحديث للأدب الصوفي، أما قديما فقد أوخذ فقهيا وشرعيا على نحو ما أسلفنا الإشارة، أما حديثا فقد راودته بعض الدراسات بممكنات الخطاب النقدي المعاصر، ومقولاته المحفزة، وأدواته اللسانية واللغوية الفعالة، وصنفته ممارسة شعرية تخييلية يجري عليها ما يجري على سواها من فنون القول والتخييل، وأغفلت الطبيعة العميقة للقيل الصوفي، ومضامينه العرفانية التي لا يجيئ إلا ليشير إليها من حيث يغمض، نزولا عن مقتضى خصوصية التجربة والاعتقاد. أما الانزلاق النقدي على سطح اللغة ومعمار النصوص، فلا نعتقد بأنه قادر على استيفاء حقوق الأدب الصوفي المنصرف من حيث التعريف إلى مواطأة الحق والمطلق وكنه الوجود. الأدب الصوفي، في نهاية المطاف، وعلى حد تعبير زكي مبارك، هو الأنشودة الباقية يوم تفنى الأناشيد. ليس إنجازا منصرفا للإنشاء الأدبي فيطلب طلاب الأدب ويقرأ قراءته، ولكنه حقائق عرفانية متعالية تنقطع الأماني دونها أو تكاد.

 

 جامعة خميس مليانة ـ الجزائر

 benchettah@gmail.com