هنا تقدم الكاتبة قراءة لرواية هدى بركات، وترى في سير الشخصيات وافتراقاتها المصيرية تراجيديا شكّلت الأرضية السوداء للسرد، دون أن تسقط من اعتبارها بقع بيضاء متفرقة هي الأمل بأجيال متتالية تكتب تاريخها وتمضي.

في «ملكوت هذا الأرض» لهدى بركات

سحر عبد الله

"فرس المذوق" التي عادت أدراجها بعد أن رفضت بغريزتها التقدم في وحشة الثلج والضباب، تاركة خيّالها يدنق من البرد لتأكله الضباع، تضرب الفرس عتبة الدار بعنف وتصهل. أم سابا تصرخ وتمزق ثيابها وتغمر وجها بشحوار الموقد. هكذا يدخل أبناء المذوق فناء يتمهم الأول بأبيهم. أم سابا، زوجة المذوق، الأرملة الشابة الجميلة والتي ستصاب بجلطة، وهي في زيارة لأختها فوز الميسورة الحال، عوضاً عن العودة بمونة الزيت والزيتون والصابون لأسرتها الفقيرة. تعود في كفن.

يموت الوالدان ليولدَ عبءَ الإحساس بالذنب عند طنوس وسلمى، كبيرة البيت، بسبب موت الأب والأم في فترتين متقاربتين. طنوس يبقى يؤنبُ نفسه طيلة حياته لو أنه أصرّ على والده بالعودة لما مات، وكذلك لو أن الأم المريضة لم تذهب لوحدها لزيارة خالتهم فوز لما ماتت هناك بعيدة عن بيتها وأولادها.

طنوس الذي يحيا في صوته وغيابه وتكبيته لنفسه، في تراتيله الحزينة للعذراء النقية، حيث كان يشدو بصوته العذب، ويبكي ويُبكي كُلَ من استمع إليه في دير قزحليا، الذي سيقضي فيه وقتاً طويلاً يتنسك ويتعلم أصول التراتيل، ليغادرَ الدير بعد أن تأكد أن يسوع لا يريده لأنه لا يحبه، أو ربما لأنه يريد له أن يسير في غير ِطريق.

سلمى التي لا تنتبه لعنوستها وكم مرّ من الأيام، إلا عندما ترى كيف يكبر أبناء إخوتها أمام عينيها، فتتلمس جفاف جلدها وصدرها وفرجها ساخرة من نفسها، وتقول لو أن الطبيب فحصني لن يجد شيئاً سوى لحمة يابسة، ربما خلقني الله لحكمة هكذا كي لا تحرقني الرغبات ولا يعذبني دنس الإحساس بالذنب. لكن الله منّ علي بهنودة، وهنودة هي بنت نبيهة أخت سلمى، التي تزوجها نجيب ابن عمها.

"تقول سلمى: فرحنا نحن الاثنتين بالبنت، كان يشبه اتفاقاً سرياً أو تواطؤاً إضافياً غريباً لا نفهمه حتى إن حاولنا. حين ننزع ثيابها لنحممها ننظر مندهشين إلى عضوها الزهري الصغير كبرعم وردة، نضحك حتى تطفر الدموع من أعيننا، نروح نضحك بلا سب ونستغرق في البحث عما نسمي به طزطوزها الغالي إذ نريد له لقباً فريداً لا يستعمله أحد غيرنا".

وفي مقطع آخر تتحدث سلمى عن غفوات هنودة "وتنام هند في حضني فأقضي ليلتي لا أتحرك. فقط لذتي بدفء جسمها الذي أتكور حوله تجعلني أصحو مراراً لأفرح بها مراراً، ولأعود وأحضنها بكل الهناء الذي قد يمنحه القديسون والآلهة للأبرياء، ولطاهري النفوس والأيدي والسرائر".

خلط الأساطير بالقصص الشعبية تقدم شريطاً سينمائياً للفترة الممتدة من قبل الاستقلال لما بعده ووصولاً للحرب الأهلية بلبنان عبر حكايات أبطال الرواية وبشكل أساسي طنوس وسلمى.

تتناوب سلمى وطنوس رواية الرواية بمجملها عبر قصتيهما الفردية التي تتداخل في فتراتٍ زمنية وتتباعد في أُخرى، لتفترق حسب مجريات الأحداث، حين يجد طنوس وسلمى نفسيهما قد تورطا وبدقائق في جريمة قتل العسكري الفرنسي الذي أقنعهما بشراكة سريعة لتهريب الدواليب فيقبرا فقرهما المذل والمهين في لحظة سوداء خاطفة بين الإحساس بالذنب والتعاسة لتورطهما غير المقصود بجريمة قتل شخص غريب. يدفنا الجثة في أرض بنحلي لتبقى سراً عصياً وعنيداً ممنوعاً على أي شخص يفكر في الاقتراب من قطعة الأرض تلك لشراء أو بيع أو إعمار. حيث ترقد عظام ذلك الجندي الغريب؛ ينقذهما قدر ما من ذنب ذاك الجندي بينما يهمون بمغادرة الضيعة مرة أخيرة وإلى الأبد. تنزلق بالعاصفة المطرية الهائلة تلك الأرض هي والعظام لوادٍ سحيق.

بطريسة، طفل يتيم ربته سلمى مع إخوتها الأيتام أصلاً، ربته لغياب إخوته وهجرتهم لأستراليا وهو صغير، فحمل الطفل الذي كان، هذا العرفان عميقاً وبعيداً. ترسله سلمى لطرابلس ليتعلم فيصبح مهندساً لامعاً ويرد الجميل لِسلمى، التي تحار بمَ تناديه لم يعد بطريسة الصغير الدلوع الذي له فم يأكل ولا يتكلم، أصبحَ المهندس اللامع الذي يصرف كل راتبه على البيت، فتفضل سملى بمناداته يا بيتي ورجاي، يا تحويشة العمر، يا عمري يا خيي..

يهيئ بطريسة البيت التحتاني إلى يوم عودة طنوس من منفاه إذ اضطر للهرب إلى سوريا بعد مقتلة الجندي الفرنسي، ولم تُسمَع أخباره لسنوات ولم يعد أحد يتذكره، فالكثير ظنه ميتاً إلا سلمى التي لم تفقد الأمل بعودته يوماً. وحين يعود طنوس، تبقى سلمى مرتبكة أيام تنتظر منه أن يحدثها ولا يفعل، وهي لا تلح ولا تطلب، لكن كل منهما كان يطلق لوعات الرغبة بالاستماع لقصص الآخر عن العالم الذي لم يكن فيه طنوس يريد أن يعرف عن الضيعة من سلمى، وهي بدورها تريد وبحرقة معرفة أين كان طنوس كل تلك الفترة وأين عاش وماذا كان يفعل.

"يروي طنوس لسلمى كيف ذهب إلى حلب كي يتعلم فن الموشحات والقدود على أصوله: وكان حب طنوس لحلب لا يتوقف عند وضع المسيحيين هناك. راح يتكلم عن كثرة الأقوام والأجناس فيها كأن ذلك نعمة من عند الرب. وكان يروي عن قلعة فيها عظيمة القدم، وعن أبواب في سور نصف دائري، وعن سكة حديد كانت تصل أقصى بلاد العرب باسطنبول، وعن طريق الحرير التي تتوقف في أسواق يصل طولها، وهي مسقوفة، إلى عشرات المرات من طول جبة ضيعتنا لم أقاطعه أبداً، ولا حتى أستفهم في بعض الأشياء كنت كأني معه مسافرة إلى حلب، حتى قال لي: يا سلمى في حلب مأكولات وطبيخ لا يخطر لك على بال. دعي المحاشي جانباً، سأحدثك عن طعمها في ما بعد لكن الكبة. الكبة التي نعتقد أنها من عندنا ونفتخر بها في حلب سبعة عشر نوعاً من الكبة سبعة عشر . ليس هذا كلاماً، سبعة عشر نوعاً يطبخونها في بيوتهم. أما بيزتهم ظللتُ أمشي في حلب أياماً ضائعاً ومبهوراً".

تسرد الكاتبة باختصار دال ودقيق حالة الحبس والتناقض بين الطقوس الاجتماعية والدينية الصارمة وبين الانفتاح على السياحة، وتمزق القرى بين النزاعات والصراعات المذهبية والمناطقية.

وتعرج عبر فصول الرواية على طهارة الكهنوت، وعفة توصل الكثير من بنات القرية للموت عازبات ومتزوجات، فهذه سلوى التي تجرعت سماً بسبب رحيل عشيقها الحوراني، الذي عاد لبلده وزوجته وأطفاله.

تراجيديا سير الشخصيات وتقاطعاتها الحياتية وافتراقاتها المصيرية، شكّلت الأرضية السوداء لرواية هدى بركات الخامسة "ملكوت هذا الأرض" يتخللها بقع بيضاء متفرقة هي الأمل بأجيال متتالية تكتب تاريخها وتمضي. وتبقى شجرات أرز الرب، كالموت، أعجز من أن يحصيها أحد.

تبدأ الكاتبة فصلها الثاني من الرواية بالقول "يا ملاك النسيان الأجمل بين الملائكة. يا ملاك النسيان ذا جناحي الرأفة والرحمة ، أفردهما على الخطأة. يا ملاك الشفقة الأقرب إلى قلوب البشر أقم بيننا ولا تنسنا. انزل إلى جفوننا وأغمضها عما رأت وشاهدت، واطوِ صفحات المرارة، واغسل أفواهنا وحلوقنا من طعمها ومن أشواكها وإبرها العالقة".

لولا النسيان كيف كان من الممكن أن نستمر بالحياة رغم كل هذا الموت؟!!