تحقق دراسة الباحث المصري المرموق، أو بالأحرى كتابه، وهو يؤسس على مهل بصمته كناقد شعر متميز، التوازن الحساس بين التنظير والتحليل النصي، وتكشف عن منهجية جديرة بالتأمل لأنها قادرة على فك شفرات القصيدة، وقراءة مضمرات المعنى والمبنى فيها، بصورة تضيف الجديد لنقد محمود درويش.

التأويل والمكان

دراسة في شعر محمود درويش

عبدالرحمن عبد السلام محمود

مفتتح:

تتجلى تجربةُ الكتابةِ الشعريةِ عند محمود درويش"1942ـ 2008م" في فضاء الحداثة العربية كأنها قطبٌ مغناطيسيٌّ عنيفٌ في قوة جذبِه وأسرِه وبسطِ غوايته على مركز المعمورة الشعرية العربية وعلى أطرافها؛ عبر فتنة التأثير التعبيري الشفيف، وهيمنة مداليل القضية الفلسطينية المشعة في سياقاتها النضالية، والوطنية، والقومية، والإنسانية المقاومة لفعل الطغيان والعدوان؛ ومن خلال وهج طموحه المتوثب صوب غايةٍ منفتحةٍ على مالا يحدُّه حدٌّ أو شرطٌ في مطلق الشعر عربياً وعالمياً؛ يخالجُه وعيٌ ما يلبث أن يتلبسه فيتشربه حتى الثمالة بأنه"مدينة الشعراء" التي بحث عنها في زورق الأوديسة المكسور.من ثم يعلن تساؤله الطموح:"هل أصير مدينة الشعراء يوما؟"(([1] ليأتيه جواب بعض النقاد عن نبوءته التساؤلية في نهاية التجربة مباشراً وحاسماً:" إن تحولات أسلوب محمود درويش على وجه الخصوص تكاد تختزل بشكلٍ مكثفٍ تحولات الشعر العربي المعاصر كله؛ بحيث يصلح نموذجاً جلياً يمكن أن يجعله بالفعل مدينة الشعراء".([2])

وغاية القول في طموح الشاعر بتحوله إلى"مدينة الشعراء" هو حيازتُه للتجربة الشعرية العربية في قديمها وحديثها، وفي تشكلاتها المتنوعة والمختلفة والثرية، وفي تحافها مع الميراث الشعري الإنساني في تزمنه وتزامنه، وكأن الشاعر شاء أن يصير وعاء الشعر أو فضاءه الذي يُرحل إليه طلباً لفرادته ونفاسته، واستجابةً لغوايته وهيمنته؛ بما في ذلك كله من فتنة الجمال الشعري في تجلياته اللامحدودة. وعلى حد قول صلاح فضل فإن الشاعر"يريد أن يصبح مكاناً لجميع الشعراء، والمكان هو بيت التاريخ، والتاريخ صناعة اللغة التي هي أخطر مقتنيات الإنسان".([3])

هذه الفتنة المكانية التي مارست غوايتها على محمود درويش؛ بحيث صارت حلمه وغايته في الحياة الشعرية، هي التي مارست غوايتها على مشروع هذه الدراسة أيضا؛ حيث يتحدد هدفُها في محاولة قراءة تجربة محمود درويش من حافة المكان، أو بالأحرى قراءته قراءةً مكانيةً أو قراءة المكان في شعره من خلال نص التأويل الذي تنتهجه هذه الدراسة في علاقتها بالنص. على أن تأطير الدراسة يرتسم في ثلاثة أقسامٍ رئيسةٍ تتعاقب وتتكامل هي: التأويل، والمكان، ونص التأويل – قصيدة الجسر. هو ما تُفَصِّلُه الدراسة على النحو الآتي:

1:التأويل:
1ـ1: تحرير المصطلح: (ضبط التصور):
لا غرو أن تُملي ضرورة تحرير المصطلح تأمله في الأفق التداولي له. ويبدو أن إجراء أية ممارسةٍ تأمليةٍ لوضعية مصطلح" التأويل" تفضي إلى استنتاجٍ بيِّنٍ مفادُه تعدد الرؤى وتباين مساحة المقاربات النقدية والدينية التي أنجزت اشتغالاً عليه يختلف في المرجعية والغاية. وإذا كان معلوماً في شأن هذه الدراسة، أنه ليس من مرادها هنا إنجاز تحقيق أصولي أو تقرٍّ عميق متسع في شأن مقاربة المصطلح ورصد شجرة نسبه في المتون اللغوية والمعرفية والدينية والأدبية والفلسفية، فإنه من الحتمي، في منطلق بناء الدراسة ذاتها، الوقوف على مقاربةٍ تحريريةٍ وجيزةٍ تروم بناء تصورٍ اصطلاحي عن "التأويل" عامة وعن "التأويل" الذي تنتهجه الدراسة في علاقتها بالتجربة المكانية في شعرية محمود درويش خاصة.

اتكاءً على هذا التأسيس تتجلى المرجعية اللغوية عبر النص المعجمي مفيدةً في التوطئة للتصور الدلالي عن التأويل. فقد ورد في"القاموس المحيط" قوله:" أوَّله إليه: رجَعَه...وأوَّل الكلام تأويلاً، وتأوَّله: دبّره وقدّره وفسّره. والتأويل: عبارة الرؤيا"([4]).

 إن المفاد الدلالي لنص المعجم يتجلى في الأبعاد الآتية:

أـ إن التأويل هو إرجاع إلى الأول، وكأنه فعلٌ يبحث في الجذور وعن الأصول المطمورة.

ب ـ إن التأويل اشتغالٌ عقليٌ على الأمر المؤوَّل يبتغي الإحاطة به عبر فعل التدبر، وتقييمه من خلال المَعْيرة والوزن في التقدير؛ وكأنه سعيٌ لفتح مدار الاشتغال العقلي على مجاوزته الجزئي الظاهر في المساق إلى الكلي المتواري في السياق وحيثيات ملابساته.

ج ـ إن التأويل طاقةٌ متوثبةٌ صوب ثقب الغياب واستشراف المستقبل من خلال قدرته على"عبارة الرؤيا"، أو"عبورها" على حد نص القرآن الكريم في شأن رؤيا الملك في مصر زمن يوسف الصديق:"أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون"([5]).

 على أن وعينا بعبور الرؤيا هنا يؤشِّر إلى أمرين دلاليين:

1ـ إن ارتباط عبور الرؤيا (تعبيرها/تفسيرها/تأويلها) بالإفتاء(افتوني) يفيد طلب الحكم في أمرٍ مشكلٍ أو خفيٍ عبر فعل الكشف والتجلية بإزالة كثافة الإلغاز أو المجاز أو الرمز في متن الرؤيا.

2ـ إن ارتباط عبور الرؤيا (تأويلها) بالإنباء عما هو واقع في الغيب، وسوف يقع في المستقبل، كما في شأن صاحبي يوسف الصديق في السجن:" نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين"([6])، وقول يوسف عليه السلام في نص الآية الكريمة التي تعقب آية صاحبيه: " لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتُكما بتأويله قبل أن يأتيكما "([7])، هو إماطة السدف وكشف المحجوب في إطار قراءة المُعَبِّر/ المؤوِّل للمتن وللسياق الحاكم لمتن الرؤيا معاً في بعد عرفاني إشراقي يقنص المعرفة المستترة ويعري أبعادها؛ فكأن التعبير/التأويل قراءةٌ في الحال والمقال في آنٍ.

د ـ إن نص المعجم جمع بين التأويل والتفسير على صعيد واحد.وهذا شأنٌ مدارُ الاختلافِ فيه بيَّنٌ على تفاوتٍ في مساحاته ورؤاه.

على أن مغادرة الفضاء المعجمي الحرج إلى فسحة الاصطلاح العام تفضي إلى ضرورة تَبَصُّرِ الفروق التصورية في بناء الوعي الاصطلاحي بالتأويل من وقت إلى وقت، ومن متن معرفي إلى متن معرفي مغاير. وغاية القصد من هذه الإشارة الموطئة لحيز الاصطلاح التأويلي هو أهمية التنبه إلى البناءات التصورية التي تقيمها حقول المعرفة المختلفة تاريخياً ونوعياً لمصطلح التأويل. ومفاد هذا أن وعي المعرفة الدينية ـ وهي المتن الأهم استحواذاً في الأفق الثقافي العربي الإسلامي ـ بالتأويل يتغاير مع وعي المعرفة الفلسفية، والأدبية والتاريخية...، بل إنه يمكن الإيحاء بأنه يتغاير في المتن المعرفي الواحد كما هو واقع في تطور المعرفة الدينية بصفة عامة. ومن هنا يتأطر تصور"التأويل" في وعي السيوطي بوصفه نموذجا للمقاربة الدينية للنص، على هذا النحو:" التأويل ما استنبطه العلماء العاملون لمعاني الخطاب الماهرون في آلات العلوم"([8]).

 ثم أورد تعريف قومٍ آخرين للتأويل منهم البغوي على هذا النحو:"التأويل صرف الآية إلى معنى موافقٍ لما قبلها، وما بعدها تحتمله الآيةُ، غيرَ مخالفٍ للكتاب والسنة عن طريق الاستنباط"([9]).

 غير أن المائز الذي يُرجى الالتفات إليه في المتن الاصطلاحي الديني للتأويل هو إبراز الفرق بين: التأويل، والتفسير؛ حيث فرَّق العسكري بينهما على نحوٍ مؤداه أن التفسير هو" الإخبار عن آحاد الجمل، والتأويل الإخبار بمعنى الكلام، وقيل التفسير أفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل والتأويل الإخبار بغرض المتكلم بكلام"([10]). وبه نفهم أن حدود التفسير تقتصر على الجزئي الظاهر في الألفاظ المشكلة، وفي ظاهر مجمل الخطاب، وقد يرتبط عند بعض المفسرين بالسماع والرواية الشفاهية، في حين أن التأويل بحثٌ عن مقصدية الخطاب يستند إلى الدراية والخبرة والغوص في مرامي الكلام والمتكلم مستفيدا من الاستقراء والاستنباط والافتراض والمقايسة.

 من هنا يفاد من العلاقة بينهما دخول التفسير الذي هو جزئي وظاهر ضمن إجراءات التأويل الذي هو كلي وعميق يحوز المساق والسياق معاً. على أنه من الأهمية بمكانٍ التأكيد على أن هذه الإشارة التي قنعت بها الدراسةُ هنا في شأن التفريق بين التأويل والتفسير وآمنت بمرادها الموحي بانفتاح التأويل على الأشمل والأغور في الإحاطة بالنص ومراداته، وبالمتكلم وغاياته، ليست القول الوحيد في شأن ماهية العلاقة بين التفسير والتأويل؛ إذ هناك من يرى توحد أو تقارب كل من: المعنى، والتفسير، والتأويل، وأن هذه الثلاثة ـ على حد قول ابن فارس ـ وإن"اختلفت فالمقاصد بها متقاربة"([11]). لكن الدراسة تحسب أن النزوع إلى التصور المائز بين التأويل والتفسير هو الجدير بالاتباع، وهو ما سيتم العمل به والاشتغال عليه؛ إذ إن"التأويل تفاعلٌ معرفيٌ بين بنيةٍ ذهنيةٍ وبنيةٍ نصيةٍ وبنيةٍ سياقيةٍ مؤطرةٍ لهما، وبنيةٍ من النصوص الغائبة والعلوم المرجعية؛ لذلك فإنه يحتوى التفسير باعتباره نظراً في الظاهر"([12]).

من البين أن نغمة الإشارات التصورية السالفة إن لم تكن قد أبانت عن فحوى التأويل بقدر كافٍ فإنها ـ حتما ـ وطَّأت للتساؤل المباشر عنه: ماهو التأويل؟ وأي تأويلٍ تتكىء عليه الدراسة في مختبر اشتغالها على التجربة المكانية في شعر محمود درويش؟

 إن هذا السفور في تجلي السؤال عن ماهية التأويل وهويته، هو الذي يلزم بوعي التمايز بين الديني والأدبي، أي بين تصور الاشتغال التأويلي على نصٍ مقدسٍ في متنٍ معرفيٍ له حدوده ومحاذره، وبين الاشتغال التأويلي على نصٍ أدبيٍ بخاصةٍ؛ حيث هو مدار المغامرة في علاقته بآليات التأويل ودراية المؤِّول. ومفاد هذا التمايز الرئيس هو إدراك أن تحرير المصطلح هنا لا يتلبس الإطلاق، وإنما يتشبث بالنسبي الخاص بحقل المعرفة المنتمي إليه النص المؤوَّل وحدود رؤى المؤوِّل ذاته في التقيد والانفتاح، أو القصد والإفراط. بناءً عليه يمكن أن تُقبل تصورات محمد بازي في مشروعه التأويلي العربي الإسلامي في إطار الثقافة الحاكمة للنص والمؤوِّل. وبه يمكن رصد تصوره للتأويل في أكثر من صياغةٍ على النحو الآتي:

1ـ قوله:" التأويل فيما نرى، كل فعل قرائي يروم بناء المعنى، استناداً إلى أدوات ومرجعيات وقواعد في العمل، والتزام مطلق بحدود البلاغة التأويلية، وهي خلاصة تجارب جماعية في تأطير الفهم وبلوغ الدلالة"([13]).

2ـ قوله:"مفهوم التأويل، كما نتصوره، فهو جهد ذهني ومهارة في تشييد المعنى، استناداً إلى آلات العلوم؛ جهد ومغامرة نحو معنى في طريقه إلى الانكشاف والتشكل، وذلك بصرف البنية، موضوع الفهم إلى معنى محتمل، أي إنجاز افتراضات واستقصاء أكثرها موافقةً لمساقها من الكلام، وأكثرها تناسبا مع القصديات الكبرى للخطاب القرآني، إنه اشتغال ذهني مرفق بالدليل الراجح والإحالة على مرجعيات قوية ومقبولة"([14]).

3ـ لقد قاد تمحيصُ التعريفات العديدة المؤلفَ إلى ضرورة الوعي بـ"التأسيس لزاوية نظر، ترى في أفعال التأويل مجموعة من العمليات الإدراكية والتمثيلية بإزاء نصٍ موضوعٍ في أفق بناء معانيه اعتماداً على خطوات متدرجة"([15]).

 إن ما تقدمه الدراسة في الحيز السالف، على هيئته السالفة ـ مع الاعتذار عن طول بعض مقتبساته ـ يكشف عن لدانة الدلالة الاصطلاحية وتمددها في سياق مرن يسمح بالإعادة والتكرار في مساحات تضيق وتتسع بغيةَ الإمساك بزاوية تصورية أو دلالية، أو إجرائية في محاولة المؤلف تحرير مصطلحه الذي يشكل جوهر مشروعه العلمي فيما أنجزه. غير أن وعي الدراسة بما قدمه محمد بازي يُلزم بالإشارة إلى الآتي:

1ـ إن تعدد التصورات التي يقدمها بازي باثاً إياها في مواطن متناثرة في العمل، يومىء بوضوح إلى الماهية المراوغة والهوية الملتبسة للتأويل، وأنه عُني بارتياده وترويضه في مسعاه لتأسيس مرتكز دلالي وإجرائي يمكنه الاتكاء عليه في الاشتغالين: التأسيسي، والتطبيقي معاً.

2ـ إن الأس المراوغ للتأويل لا يعرف واقع أزمة تحرير المصطلح فحسب؛ وإنما هو- فوق ذلك وأهم منه ـ يكشف عن انفتاح دلالة السمة التصورية التي تحكمه في منظومة المصطلح؛ بما يؤكد نسبية أي اشتغال اصطلاحي عمد إلى تثبيته وقولبته، وأن تأطير دلالة السمة التصورية سيظل مفتوحاً مع تنوع المتون المعرفية، وتبدل ملابساتها، وتغاير مرجعياتها، وتباين أيديولوجيات المؤوِّلين.

3ـ إن إقرار بازي بأن التأويل "مغامرة" نحو معنى خفي تروم كشفه أو بناءه أو تشكيله، يؤكد أن كلاً من التصور والإجراء شأنٌ ذاتيٌ احتماليٌ في علاقته بالمؤوِّل،وأنه محفوفٌ بخطر الخطأ في علاقته بالنص المؤوَّل وفحوى الكشف عن مقاصده وغاية مؤلفه. إن الإجراء التأويلي حفرٌ متأنٍ في جدارية النص..، إنه رحلة اشتغال بالبحث والتنقيب والاستقراء والاستنباط والافتراض والتخمين والتساؤل. وبه فإن كشوفاتها ـ مهما عظمت ـ تظل مرتهنةً في قبولها أو رفضها بمدى الاتساق مع المساق والسياق معاً. وهذا فيه من الاحتمال والتعدد أكثر مما فيه من الآحادية واليقين.

4ـ إن التصورات التأويلية التي يقدمها محمد بازي، وبالضرورة المشروع الذي يؤسِّسها وينضوي فيها، هي تصوراتٌ تنتمي إلى المتن المعرفي الديني أكثر من انتمائها إلى المتن المعرفي الأدبي، وأن همها الأعظم هو النص القرآني العظيم، وإن عرجت على بعض النصوص الأدبية وسيلةً لبلوغ مأربها التأويلي في علاقتها بالقرآن الكريم. ومفاد هذا الكلام عند بازي ـ فيما ترى الدراسة ـ هو انشغاله بثنائية الحق والباطل، الصدق والكذب، الخير والشر،الحلال والحرام، صواب الحكم أم بطلانه..، إن ما يقدمه بازي يمكن وسمه بأنه تأويلٌ دينيٌ في عمومه، وتأويلٌ قرآنيٌ في خصوصه، ومدى ارتباط هذا التصور بقوة الأدلة والأقيسة وعلاقتها بالمقاصد الكبرى للشريعة في أبعادها الأصولية والتاريخية والفقهية وغيرها؛ برغم ما ساقه بازي من تأويلات شعرية.

 وإذا كان لهذا من أهمية، فإنها تتمثل في إدراك حدود التأويل ومدى رحابته وانفتاحه أو حرجه واكتنازه في متن المعرفة الدينية. وفي وعي الدراسة فإن شأن تأويل النص الأدبي بعامةٍ والشعري بخاصةٍ قد يقارب هذا أو يتحاف معه في بعض زوايا أو مواطن، لكنه - يقيناً - يبتعد عنه في المقصد الذي يتجاوز حفريات المعنى الخفي إلى الانفتاح التأويلي الذي قد يصل إلى حد الإفراط. وهذا شأن يلزم ببلورة تحرير المصطلح أدبياً في الحيز الآتي.

 تتبدى الدراسات الأدبية في بعديها: التأصيلي الاصطلاحي، والإجرائي النقدي، مكترثةً بشدةٍ بهمِّ التأويل حتى ليبدو المتنُ المعرفيُّ الأدبيُّ محتشداً بنسبةٍ قد تُوحي باللغط من فرط التجاذب والسجال. على أن الوعي بهمِّ الدراسة في علاقته بتجربة درويش يقف مانعاً صلباً من الوقوع في غواية الاختلاف وفتنته حتى لا يستنفد طاقةً فيما ليس من مقصد الدراسة. ومع الوعي بهذا الاحتراس فإن الوقوف على السمة التصورية الأدبية أو النقدية للتأويل شأنٌ يتجلى بالغَ الأهميةِ في متغيا الدرا سة وصلب مشروعها. ومن ثم ترصد الدراسة التصورات الآتية:

1ـ ما أورده دليل الناقد الأدبي في الحدين الأدنى والأوسع وهو:

أ ـ "التأويل في أدق معانيه هو تحديد المعاني اللغوية في العمل الأدبي من خلال التحليل وإعادة صياغة المفردات والتراكيبب ومن خلال التعقيب على النص"([16]).

ب ـ "التأويل في أوسع معانيه...هو توضيح مرامي العمل الفني ككل ومن خلال مقاصده باستخدام وسيلة اللغة. وبهذا المفهوم ينطوي التأويل على شرح خصائص العمل وسماته مثل النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وعناصره وبنيته وغرضه وتأثيراته"([17]).

2ـ تصور أمبرتو إيكو عن التأويل على هذا النحو:"أن تؤوِّل نصاً يعني أن تفسر لماذا يمكن لهذه الكلمات أن تفعل أشياء شتى(لا غيرها) عبر الوسيلة التي يتم تأويلُها بها"([18]).

 وفي مسرد المصطلحات الواردة في كتاب إيكو ذاته، ورد تصورٌ عن التأويل على أنه" فهمٌ يحدث بمقتضاه امتلاكٌ للمعنى المضمر في النص من جهة علاقاته الداخلية وكذا علاقاته بالعالم والذات"([19]).

3ـ ما ذكره إيزر في متن نظرية التلقي عن التأويل في القديم والحديث كما يأتي:

أ ـ إن الأسلوب القديم في التأويل، رغم احترامه للنص، كان يضيف معنى آخر للمعنى الحرفي للنص"([20]).

ب ـ "الأسلوب الحديث للتأويل فإنه يحفر، وأثناء الحفر يحطم، يحفر هذا التأويل" وراء" النص ليصل إلى النص التحتيsubtext الذي هو النص الحقيقي...فللفهم لا بد من التأويل، وللتأويل لا بد من إعادة شرح الظاهرة للعثور على مقابل لها"([21]).

 لعل من الحكمة التواضع بإقرار الازدحام الذي يغص به المتن المعرفي الأدبي في بعده الإجرائي لرسم تصورات عديدة عن التأويل، وإنه لمن اليسر لأي باحث جمعها وسردها في متنه البحثي، مع الوعي بعدم كثرة الفائدة المرجوة من الحشد والتكرار. لكن الثابت في وعي الدراسة هو انفتاح سؤال التأويل أبدياً على استجابات محدثات النصوص ورؤى النقاد معاً. وبه فإن أي تصورٍ للتأويل لا يرتكز على هذه القاعدة الجوهرية فيظل مفسحاً لنبوءات المستقبل ومفاجآته..، قد يجانبه الصواب. من ثم تعزم الدراسة على تحرير التصور الاصطلاحي للتأويل الأدبي الذي تروم الاشتغال عليه على النحو الآتي:

التأويلُ الأدبيُّ هو الاشتغالُ العقليُّ النقديُّ المنهجيُّ المستنفدُ لجميعِ طاقاتِه الإجرائيةِ على النصِّ؛ ابتغاءَ كشفِ معناه باطناً وظاهراً، وإعادةِ بنائه وتشكيله انسجاماً مع مقاصدِ الكاتبِ والنصِّ والقارىء، وفقَ القواعدِ والمرجعياتِ المُؤطِّرةِ لبنيتي المساقِ الداخليِّ والسياقِ الخارجيِّ في علاقتِهما بالذاتِ المؤوِّلة وبالعالمِ في سياقٍ نسبيٍّ ليس فيه سمةُ اليقينِ.

 انبثاقاً من هذا التصور فإن وضعية التأويل تطرح ثلاثة أسئلة جوهرية هي:

1ـ ما علاقة التأويل بالمعنى وبالقصد؟

2ـ ما معيار التأويل وحدوده؟

3ـ ما وظيفة التأويل وغايته؟

هذه الأسئلة هي التي تمهد للإجابة عنها فيما هو آتٍ من أحيزة الدراسة، كما سيتضح تواً.

2ـ1: المعنى والقصد:
تعي الدراسة أن منعقد "المعنى"شأنٌ يكثر فيه القول. ولعلها تؤشِّر إلى هذا احترازا منها لعدم التوسع فيه، وإنما حسبها منه الوقوف على جوهره الدال والمفيد في سياقها التأسيسي للتأويل ومدى تعلقه بالمعنى والبحث فيه وعنه وإخراجه من كمونه وسريته إلى البناء والارتسام في خطاب علني ينبني على مقاصد الكاتب والنص والقارىء ٍ.

إن جوهر الشأن هنا يتعلق بطبيعة المعنى عامة. وبالمعنى الشعري خاصة. ولئن تيسر لأية دراسة أن تلم بتصورٍ عن المعنى أن تقول في بساطة: إنه ما عناه العاني وقصده حين تكلم بكلامه، فإن من اليسر أيضا الزعم بأن شأن المعنى أكثر عمقاً وتعقيداً من مثل هذا الطرح. ولقد أشَّر بول ريكور في "صراع التأويلات" إلى هذا الواقع المعقد بقوله:" إذا استطاع نصٌ من النصوص أن يحتوي على عددٍ من المعاني، كأن يكون، له معنى تاريخي مثلاً ومعنى روحي، فيجب اللجوء إلى مفهوم فى المعنى أكثر تعقيداً من ذلك الذي يكون للإشارات في المشترك اللفظي والذي يتطلب منطق البرهنة"([22]).

 اتكاءً على هذا النزوع التعقيدي للمعنى، تسبر الدراسة زاوية تتأطر فلسفياً في الظاهراتية؛ حيث التماهي بين المعنى والمعرفة والإنسان. فالإنسان ـ وفق هذه الرؤية ـ وجود معرفي، أو هو صيرورة معرفية وتحقق حركي لممكنات حقيقته الإنسانية التي"ليست شيئاً آخر سوى المعنى الذي يشتقه الإنسان من المعرفة، ولذلك فإن سؤال المعنى يردف سؤال الإنسان نفسه من حيث إن المعنى هو في النهاية تأويل الإنسان لذاته ولمعرفته تأويلاً غائياً يكسب نظاماً ومنطقاً داخلياً فيتحقق عالماً"([23]).هكذا يدخل المعنى في تأسيس معرفة الإنسان مثلما يدخل في تأسيس هويته؛ إذ يتمظهر كائناً خُلق للمعنى وبه ولخلقه.

 إن الحديث عن المعنى العام يقود حتماً إلى الحديث عن "القصد" ومعنى ارتباطه بالوعي بوصفه مبدأ وجودياً ومعرفياً، ولئن كان القصد يتحدد أولياً في أنه توجه حركة أفعال الوعي والفكر إلى الشيء الذي تريد وعيه ورغبتها في الإحاطة محاولةً استغراقه وما نجم عن هذه الإحاطة وذلك الاستغراق من معرفة كاملة أو شائهةٍ، فإن الطابع القصدي للوعي يتجسد في قدرته المجهرية على السبر والإحاطة والاستكناه من خلال التركيز والكشف والربط العلائقي للظاهرة بغيرها من الظواهر الأخرى المتاخمة لها أو المتداخلة معها أو المقابلة لها في الطرف النقيض. وبه فإن "القصدية ليست سوى فعل يعنى، والماهية التي يسعى الوعي إلى إدراكها في الظواهر هي المعنى الذي يستنتجه منها أو يسبغه عليها ويؤسسه فيها عن طريق القصد"([24]).

 قد يكون مسوغاً الانتقال من الدلالة الجزئية للمعنى العام إلى الدلالة الكلية للمعنى في العمل الأدبي بعامة وفي النص الشعري بخاصة. ورغبةً في طي كثير قولٍ هنا، تخلص الدراسة إلى استصفاء خصائص المعنى في النص الأدبي العام وفي النص الشعري خاصة ليتبين لها أنها خمس توردها الدراسة على النحو الآتي:

1ـ السرية والغموض:
 إن النص الأدبي لا يسعى لحيازة المعاني المكشوفة أو العادية؛ وإنما يتعمد تغميضها وإزاحتها إلى ما وراء الدلالة المعجمية إلى حيث متاهات الدلالة المجازية والرمزية والأسطورية والتشتيت والتشعيب. وهكذا تتبدد الحقيقة فيه بتعمدٍ، ويصبح الظاهر منه مضللا إذا تمت القناعة به من دون سبر ما ورائيته. وهكذا "تصبح الحقيقة مطابقةً لما لم يُقل، أو ما قيل بشكلٍ غامضٍ وينبغي فهمه فيما وراء أو تحت سطح النص"([25]).

 وإذا أُخذ بالمفهوم الهرمسي في شأن الحقيقة وسريتها، فإن" كل شيء أرضياً كان أو سماوياً يخفي سراً، كلما اُكتشف السر، فإنه يشير إلى سر آخر في حركة تتقدم صوب السر النهائي"([26]).

إن السرية والغموض اللذين يتشي بهما النص يكسبانه جاذبية وفتنة وغواية أكثر من أثرهما في الحجب والمنع.

2ـ المراوغة والحركية:
إن عفوية الغموض في النص الشعري تحديداً تمنحه قابلية الحركة والمراوغة والتفلت. ولعل هذا ما تنبه إليه جلال الدين الرومي قديما بقوله:" المعنى في الشعر لا يكون خاليا من الغموض وهو كحجر المقلاع لايمكن السيطرة عليه"([27]).إن الوعي بحركية الدال والافتنان باللعب به وتحويله إلى معلم رئيس من معالم شعرية الحداثة ومابعدها، تؤكده النزوعات التفكيكية في فلسفة ما بعد الحداثة؛ حيث التأكيد على أن مجمل المعنى لا يستقر في الدال وإن أشار إليه وأوحى به. إنه" ليس صعباً إدراك فكرة الانزلاق المستمر للمعنى. وقد عبر بول فاليري عن الفكرة، فبالنسبة إليه لا يوجد معنى حقيقي للنص"([28]). وليس غريباً على الشعر مفهوم المعاني الثواني، والمعاني المجازية وكثافتها بفعل الانحراف أو العدول أو المعنى المضاعف الذي نبه إليه بول ريكور مؤكداً أن"أي تعبير له أبعاد متغيرة، فهو إذ يعني شيئا فهو في الوقت ذاته يعني شيئاً آخر من غير أن يتوقف عن أن يعني الأول"([29]). وبه فإن المعنى في الشعر يقيم دائما في الـ"ماوراء"، وأن "القصيدة" تقول شيئا وتعني شيئا آخر. فالسر الذي يضيء كل ماهو عميق ومهم ينتج الخطأ القائل بأن كل ما هو غريب ومهم شيء أساس"([30]). من هنا يصبح الشعر عدولاً دلالياً، وخطأ متعمداً، وتكتماً، وتأثراً، وقلقاً في سياق حركي زلق.

3ـ الانفتاح والتعدد:
 إن المعنى الشعري، وبخاصة في نصوص الحداثة وما بعدها، وفي كل شعر أصيل عميق قديما كان أو محدثا، يروغ من الأحادية والانغلاق والاستقرار. إنه طاقة دلالية ذات إيحاءات عديدة توميء إلى إطلاق الإمكان في توجيهه وتلوينه وبنائه وتشكيله. من هنا ينفر المعنى الشعري من سمة اليقين، والأكيد، والقول الفصل، وادعاء الحقيقة. ولقد استقر هذا في سيرورة الوعي بالشعر وفي ماهية الشعر وهويته؛ إذ يؤكد فيليب سدني، منذ القرن السادس عشر أن"الشاعر نفسه لا يؤكد شيئا"([31]). وإن عرض تأكيد في نصه فإن غايته هي إثارة القارىء نحو الرفض. وإنه لصحيح أن "أي نص يدعي تأكيد شيء واضح المعنى هو كون مجهض"([32]).

من هنا يتبدى المعنى الشعري كوناً مفتوحاً على إمكان التأويل واستنباط ما لايحصى من الترابطات والعلائق؛ ذلك أن ماهية الشعر وهويته يؤشران إلى خاصية جوهرية فيه تظل مفتوحة على مدارات الاختلاف والتعدد؛ حيث " يقدم الشعر شيئاً يظل مفتوحاً على جميع أنواع القول التخييلي"([33])، كما يراه غادامر في تأسيسه لتأويل فلسفي؛ لكأن المعنى ـ في وعي الدراسة ـ ومن ثم في ارتباطها به، كون من الطبقات والرؤى والأوجه تتجلى للقاريء حسب إمكانياته هو في السبر والوعي والإحاطة والاستغراق. إن مسألة الحقيقة هنا ـ حسب فلسفة بول ريكورـ لم" تعد مسألة منهج، ولكنها مسألة تجليات الكائن"([34]).

4ـ الفراغية والنقصان:
 بما أن المعنى ليس ثابتاً فلا يمكن الإحاطة به؛ وبما أنه ليس كاملاً في الكتابة كما في أدبيات التفكيكية وفلسفة ما بعد الحداثة، وكما أنجزه جاك دريدا تحديداً، فإن المعنى الذي هو ماهية النص وجوهره يظل ظاهرةً محيرةً؛ حيث يتبدى كامناً في بطن الشاعر وفي بطن النص، وفي بطن القاريء في آنٍ. وهو في كمونه في الأحيزة المختلفة يتجلى احتمالياً لا يقين فيه. ولعل هذا يفسر منطق الفراغات والنتوءات المسكوت عنه في النصوص. ووفق نظريات التلقي فإن القاريء هو الذي يمارس اشتغاله على المعنى بسد هذه الفجوات. لقد أشر إيكو إلى أن النص"نسيج من الفضاءات البيضاء، والفجوات التي يجب ملؤها، وأن الذي أنتجه (أرسله) كان، ينتظر دائماً بأنها ستملأ"([35]).

 إن النص الممتلىء بعناصر الإثارة وإمكانيات الجمال...، يظل مرتهناً في التعيين والاشتغال والتخمين بفاعلية القاريء في تحكيك هذه المقدرات النصية وبناء المعنى بها وفيها محاولاً ملء الفراغ وإكمال النقصان من دون الاقتناع بأن ما يقدمه - مهما عظم ـ قد قال كل شيء في حقيقة المعنى النصي الناقص دائما. وحسب تودوروف فإن"النص مجرد رحلة خلوية يجلب فيها الكاتب الكلمات بينما يجلب القاريء المعنى"([36]). غير أنه معنى وإن تغيا ملء الفراغ وإكمال النقص فسوف يظل ناقصاً من جهة أنه احتمال لا يقين فيه ولا كمال.

5ـ الكلية والشمولية:
 إن جل ما تتوخاه الدراسة في حيزها هذا، هو الإشارة إلى ضرورة الوعي بالطابع الكلي أو الشمولي للمعنى الشعري في النص؛ إذ لم يعد بوسع القاريء الاشتغال على علاقة تأويلية تتكيء على النثريات والجزئيات. إن المعنى الشعري المراد هنا هو ما يتجاوز التأويل في علاقته به وبالنص، المفردات اللغويةَ، والجملةَ، والعبارةَ والمقطعَ، إلى حيث استيعاب الخطاب كله، والتشبث بالمقصد الجمعي الذي يظلل ويهيمن على مكونات النص الجزئية؛ إذ بات مؤكداً أنه" لم يعد تصور المعنى مقصوراً على الدلالة أو المعجم، بل أصبح إنتاجاً يعممه مجموع الخطاب"([37]). من ثم فإن عملية التأويل ابتغاءَ إنجاز مأربها من النص تمدد ظلال المعنى من المساق النصي كله إلى المرجعية السياقية الملامسة لحيثيات تكونه ووجوده، وهو ما يجعل المعنى كامناً في النص وفي سياق النص أيضاً، وعلى المؤوِّل الاشتغال عليهما معا.

 إزاء هذه الخصائص المميزة للمعنى الشعري فإن محاولة حيازته ترتبط بقضية القصد. لكن الشأن هنا يحتم التساؤل: أي قصد نقصده؟ أهو قصد المؤلف من عمله؟ أم هو قصد العمل/النص؟، أم هو قصد القاريء المؤوِّل للنص؟

إن التأويل لا يمكنه أن يُنجز بعيداً عن إدراك هذه الثلاثية المشتبكة بتداخلها المعقد. غير أن التأويل في جوهره قد لا يعبأ كثيراً بقصد المؤلف، في حين يكون المحك هو قصد النص وعلاقته البنائية والتشكيلية بقصد القاريء المنتج للمعنى من خلال النص. ولعل هذا ما أشَّر إليه ستيفان كوليني بقوله:"إن القصد ما قبل النصي للمؤلف ـ الغايات التي ربما أدت إلى محاولة كتابة عمل معين لا يمكنه أن يزودنا بحجر محك التأويل، بل إنه قد يكون غير متصل بالموضوع ـ مضللٌ كدليل لمعنى أو معاني النص"([38]).

 أما قصد النص فإنه يمكن تحديده وفق الآتي:

1ـ إن قصد النص، أيا كانت درجة الغموض والانفتاح فيه، فهو المصدر الأساس للاشتغال على بناء المعنى. إنه بؤرة الانبثاق والمرتكزبوصفها إجباراً للقاريء يحددان منطلقاته وحدوده.

2ـ إن قصد النص "لا يكشف سطح النص، أو، إذا كشفه فسيكون ذلك في شكل رسالة مختلسة"([39]). من ثم يتلبس قصد النص المبني من لدن القاريء سمةَ التخمين لا اليقين.

3ـ إن قصد النص ـ وفق رؤية إيكو في القاريء المثالي ـ هو"أساساً إنتاج قاريء مثالي قادر على القيام بتخمينات حوله"([40]).

4ـ إن إدراك قصد النص فحواه إدراك استراتيجيته السيميوطيقية.

5ـ إن البرهنة على قصد النص مرتبطةٌ بالتماسك النصي والنظر إليه بوصفه كلاً مترابطاً. في هذا السياق فإن قصد القاريء المنبثق أساساً من قصد النص، إنما يُحيِّنُه فعل التأويل وحدوده وغاياته كما سيتبين لاحقاً.

3ـ1:حدود التأويل: (التأويل والتأويل المفرط):
ثمة تأويلٌ معتدلٌ، وتأويلٌ مفرِّط،ٌ وتأويل مفْرِطٌ.فما هي حدود المساحة التي يمكن للتأويل أن يتحرك فيها في علاقته بالنص المؤوَّل؟ ولئن كان معلوماً للدراسة، مثلما هو معلوم لكثير من الدارسين والنقاد، أن هذا المبحث تختلط فيه الأقاويل بين مؤيد ومعارض، فإن المقتضى الأصولي لكل ممارسة تأويلية، هو أن تكشف عن دقة وعيها بملابسات الشأن التأويلي ومدى انحساره أو انفتاحه بين حدين متناقضين هما: الإفراط والتفريط، أو تماثله مع الحد الأوسط القائم على الحكمة والاعتدال.وإذا كان حد التفر يط ملفوظاً أو مرفوضاً بداهةً، فإن جوهر الإشكالية يتقلص في حدود التأويل والتأويل المفرط. فالأول في طرفي هذه المعادلة موسومٌ بالاعتدال والحكمة الموضوعية، في حين يُوسم الثاني بالهوس والتجاوز؛ حيث مطلق الانفتاح على ما لا ينتهي من المعني من دون قيد أو شرط.

 على أية حال فإن الدراسة لا تشاء الانغماس في هذا الإجراء التأسيسي؛ حيث إنه مفصل في مظان عديدة؛ ولكن حسبها منه الإبانة عن احتراسها واحترازها في شأن ممارستها التأويلية لنص محمود درويش من خلال التأويل المكاني. من ثم يتوجب الإشارة إلى الآتي:

1ـ إن الدراسة تؤكد على خصوصية مقتضيات تأويل النص المقدس، وأن شأن الانفتاح في تأويله مغامرةٌ قد لا تكون محسوبةً ولا مأمونةً، فلا بد من التقيد فيه بقيود اللغة والأسلوب والسياق والثقافة الحاكمة والسلطة الدينية القائمة عليه؛ نظراً لما يترتب على هذه النصوص من محاذير وأمور قد تُحِلُّ حراماً أو تُحرِّمُ حلالاً، أو تُحدث فتنةً أو خطراً في مجتمع ما. وقد نبه إيكو في طيات رؤاه التأويلية على هذا الاحتراز في الثقافة الأوربية بقوله:" في حالة النصوص المقدسة بالفعل، فلا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالكثير؛ حيث إنه عادةً ما تكون هناك سلطة دينية وتراث يسعى إلى الاحتفاظ بمفتاح تأويله"([41]).

2ـ إن متغيا الدراسة هو تأويل النص الأدبي، وأن حد التأويل الذي ترتضيه؛ ومن ثم تمارسه، هو حد الانفتاح في تأويل النص الأدبي عامة، والشعري خاصة.

3ـ إن الدراسة تعمد إلى تبئير الحدين المتقابلين في التأويل بغية الإبانة عن حيثيات رؤيتها وآفاق ممارستها. من ثم تؤشر إلى كل من التأويل (المعتدل) والتأويل المُفْرِط على النحو الآتي:

الأول: التأويل المعتدل:
يقود هذا التصور تأسيساً وممارسةً أمبرتو إيكو منطلقاً في وعيه بمعيار التأويل من تجربته التنظيرية في كتابه"السيميائية وفلسفة اللغة" محدداً موقفه من العلامة؛ حيث إزاحة مفهوم الاستبدال الثنائي بين العلامة والمدلول ليحل مكانه وجوب التأويل المحتمل. من ثم نعي أن ممارسة التأويل تجاه العلامة لا يمكنها الاكتفاء بكشف الموضوع المباشر، أو المضمون الكلي للعلامة في حرفيته؛ وإنما يعمد التأويل إلى التوسع الدلالي في مراحله المختلفة.يقول إيكو:"معيار التأويل يسمح بالانطلاق من علامة لقطع كامل دائرة توليد الدلالة، المرحلة تلو الأخرى...العلامة هي دائما ذلك الشيء الذي يفتح على شيء آخر. لا نجد مؤوِّلا لا يحول أثناء توضيح العلامة التي يؤوِّلها ـ ولو بصفة طفيفة ـ من حدودها "([42]).

 غير أن إيكو ومن معه، برغم اعترافه بأنه"لايبدو مبرهناً على وجود أية معايير شكلية يمكن بحسبها لهذه الحدود أن تتأسس في مصطلحات نظرية"([43])؛ فإنه عمد إلى تدعيم رؤيته التأويلية في مواجهة رؤى التأويل المفرط بعدد من الحيثيات التي يمكن التأشير إليها في الآتي:

1ـ خصائص النص: وقد أشار إلى هذا بقوله:"إن خصائص النص ذاته تضع حدوداً لنطاق التأويل المشروع"([44]). وكذا قوله في نهاية ردوده على مخالفيه: "إن النص يبقى حداً معيارياً لتأويلاته المقبولة"([45]).

2ـ العلاقة النصية: إن إيكو يركز على فحوى التعليل في التأويل مفترضاً حتمية الإجابة عن سؤال افتراضي أيضا نصه:" لماذا يمكن لهذه الكلمات أن تفعل أشياء شتى لا غيرها عبر الوسيلة التي يتم تأويلُها بها"([46]).

3ـ تقييد المطلق: يرى إيكو أن التأويل ممارسة انفتاحية، ولكنها انفتاح على النسبي وليس على المطلق.من ثم يؤسس لهذه الرؤية بعبارة حاسمة تقول:"إنه ليس صحيحاً أن كل شيء صالح"([47]). ثم يتحدى عبارة فاليري القائلة إنه"لايوجد معنى حقيقي للنص"بقوله:"إنني أقبل العبارة التي تذكر أنه يمكن للنص أن يحوز معاني مختلفة. إنني أرفض العبارة التي ترى أنه يمكن للنص أن يتضمن كل المعاني"([48]). ثم يعلق على رسالة أحد الأعمال الأدبية مؤكداً أن الرسالة "يمكنها أن تعني العديد من الأشياء، ولكن ستكون هناك معان من المحال اقتراحها"([49]).

إن ما يمكن الخلوص إليه من إلحاح إيكو على معيارية التأويل وحتمية نسبيته وحدوده، هو تأكيد وجود الطرف النقيض، وهو التأويل المفرط. وقد ألقت هذه القضية بظلالها على رؤى التأويلية العربية. وتكتفي الدراسة ثمة ـ رغبةً في اقتصاد الطرح ـ برؤية محمد بازي في مشروعه التأويلي؛ إذ عمد إلى ذم التأويل المفرط مؤكداً على إسرافه وتخمته الدلاليه الزائدة. من ثم يتحدد تصور التأويل عنده من خلال الحدود والضوابط في الآتي:"إن التأويل في تصورنا ليس بالضرورة بحثاً عن مقاصد المؤلف، ولا هو أفعال قرائية متحللة من أية معايير؛ وإنما ممارسة مشروطة بآليات يجب اعتمادها، وقد حصرناها فيما يقدمه النص من أدلة لغوية أو نحوية أو بلاغية أو غيرها"([50]).

 غير أن "بازي" وهو بادٍ أنه مسكونٌ بهاجس التأويل الديني في خصوصية الخطاب القرآني ما يلبث أن يُلح على حتمية القيود والإرغامات النصية. إن التأويلية عنده"مقيدة بإرغامات العلاقات النصية وبمعطيات السياق الخارجي، والثقافة التي ينتمي إليها ذلك النص "([51]).

 هذه الحجج التي تبدو مسوغةً منطقياً تملي ضرورة وعي نقيضها وهو التأويل المفرط الذي تؤشر الدراسة إليه هنا.

الثاني: التأويل المفرط:
يتأسس هذا الاتجاه في وعي جونا ثان كلر ورفاقه على مقولة مهمة تبين حدود العلاقة الإدراكية من القاريء المؤوِّل تجاه النص المؤوَّل:"القاريء الحقيقي هو الذي يدرك أن سر النص هو خلاؤه"([52]). إن وعي الدراسة بعملية "الخلاء" أو "الإخلاء"هو وعي بفعل تعمد الإزاحة وتفريغ النص من مقاصده التي قد يكون المؤلف قد انتواها، أو يكون النص بمعياريته قد أملاها. فكأن المفاد من العبارة هو إمكان دخول المؤوِّل إلى كون النص"على بياض" في سياق مطلق الحرية والانفتاح. وبه فإن النص يُنقذ من "توهم المعنى"إلى حيث الإدراك بأن المعنى"لانهائي" وأن كل شيء في النص يخفي معنى سرياً، وأن اكتشاف السر يفضي إلى سر آخر في عملية لا تنتهي.من ثم يتحقق مجد القاريء في قدرته على اكتشاف أنه"يمكن للنصوص أن تقول كل شيء، عدا ما يريد مؤلفوها أن تعنيه، وبمجرد أن يدعى اكتشاف المعنى المزعوم نكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي؛ حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد "([53]).

 هذه العلاقة التدحرجية وراء سرية المعنى وغواية تخفيه في متاهات ومدارات متعاقبة بلا نهاية، هو التماهي مع فكرة الغنوصية التي تؤكد أن"الحقيقة سرٌ، وأي بحثٍ في الرموز والطلسمات لن يكشف أبداً حقيقةً مطلقةً، ولكنه،ببساطة، سيزج السر إلى مكان آخر"([54]). من هنا يمتزج التأويل المفرط بالهوس. وعلى حد قول جوناثان كلر في دفاعه عن التأويل المفرط، فإن" قليلا من الهوس أمرٌ جوهريٌ لتقدير القيمة الصحيحة للأشياء"([55]).إن التأويل "يصبح مثيرا فقط عندما يكون متطرفاً"([56]). وبه فعلى النقاد أن "يطبقوا أقصى ما يستطيعون من جهد تأويلي، أن يذهبوا بعقولهم إلى أقصى ما تستطيع"([57]). هكذا يقوم التأويل المفرط على الحد الأقصى المنفتح على مطلق القدرة التأويلية وإمكانياتها في قنص التصادي (من الصدى) بين النص وغيره من النصوص القريبة والبعيدة على السواء، وأن هذا الوعي والإنجاز في الممارسة التأويلية هو ما سيضفي على التأويل وعلى النص فتنة وجاذبية وحيوية وقيمة.

 إزاء هذا الذي سلف في شأن التأويل والتأويل المفرط يتحتم التساؤل: أية وجهةٍ توليها الدراسة وجهها؟ في أي اتجاه تسير ممارساتنا التأويلية في علاقتها بمكانية محمود درويش؟ وفي اقتضابٍ غير مخلٍ ترى الدراسة أن التأويل المتغيا لديها هو ذلك الذي يرتكز على النص ومعياريته اللغوية والنحوية والبلاغية والسياقية والثقافية محكاً للانطلاق ومرجعاً للمرد. ولعل الدراسة في هذا توافق إيكو فيما ذهب إليه في مذهبه سالف الذكر. غير أن الدراسة تتماهى مع جوناثان كلر في حتمية تطبيق الحد الأقصى في التأويل. على العقل المؤوِّل أن يستنفد جماع أمره في السبر والفهم والتحليل والربط والمقارنة والمقابلة والاستنباط...عليه أن يتمتع بشيء من الهوس، لكنه هوس بالنص وبتأويل النص معاً. ومفاد ذلك أن حضور هوس النص في هوس التأويل هو منح الحجية من المقترح من التأويلات،؛إذ لايمكن قبول القول بأن كل ما يقال صحيح، وأن النص فيه كل شيء، وأنه محال أن يخرج عنه معنى ما...فكل ذلك يُدخل التأويل في مطلق الانفتاح، لكنه يدخل أيضا في مطلق العبث. وهو ما ترفضه الدراسة وترى أنه يضر بالمؤوِّل والمؤَّول معاً. إن الإيمان بضرورة إدهاش التأويل ممكن، وبمقدرته الفذة على العجب والإبهار والحفر والاستحواذ والاستغراق في معتمات النص...كل هذا مطلوب، بل هو حتمي؛ إذ هو الذي يمنح التأويل مذاقه، ويمنح النص بعضاً من الكشف عن بواطن فرادته واغتنائه. غير أن الخروج بهذا كله إلى انفتاح الإسقاط، وادخال المحال، والانغماس في الثرثرة الفارغة من دون حجية نصية في المساق أو السياق، فإنه يعد مسلكاً مذموماً لا نؤمن به ولا تتخذ الدراسة منه سبيلا؛ حيث إنه ينأى عن كل غاية للتأويل. وهذا عينه ما يحمل على إيضاح تلك الغاية منه.

4ـ1:وظيفة التأويل:
ما الذي يرومه فعل التأويل من علاقته بالنص المؤوَّل؟ هل غاية التأويل هي إخراج المعنى الخفي للنص؟أم هي محض إدراك ماهية النص وطبيعته؟ بعبارة أخرى، هل وظيفة التأويل هي الإلمام الدقيق بالكيفية التي يشتغل النص وفقها؟ أم هي فهم النص وسد فجواته وبياضاته وإكمال نقصه باعتبار أن النص يعيش على فائض قيمة المعنى؟ وهل للتأويل علاقة بالتاريخ والعالم والذات المؤوِّلة؟

 إن تمديد هذه الأسئلة على نحو ما سلف بالغُ الأهمية ليس في الكشف عن غائية التأويل في إطلاقها فقط، وإنما عن غائية هذه الدراسة في علاقتها بتجربة درويش في بعدها المكاني. وبه فإن التساؤل مثار لا محالة. ما مراد فعلنا التأويلي من التجربة المؤوَّلة؟

 وإزاء هذا فإن الدراسة تُؤسس لرؤيتها التأويلية بالتأكيد على وعيها بأن التصور الماثل لديها عن وظيفة التأويل يتجاوز حرفية وحرج محض إخراج المعنى الخفي للنص؛ إذ هذا تصور يتسم بالجزئية والحَرْفية في علاقته بالنص، كما هو متجاوزٌ لحيثية الكشف عن كيفية البناء النصي وتعرية نُظم اشتغاله، وهو، مع قيامه بسد الفجوات...، فإنه لا ينحسر في سد الأفق التكميلي..، إن وظيفة التأويل هي الاشتغال على كل هاتيك الغايات مجتمعة ومنصهرة في سياق يضفر بين المساق النصي والسياق المنتج له والحاكم فيه والذات المؤوِّلة له والعلائق الواشجة بين ذلك كله والمجتمع والعالم.

 إن المعنى المؤوَّل ليس شيئاً يقبض عليه ويتم استخراجه من جوف النص فيُضحي النص خاوياً أو فارغاً وكأنه كهفٌ أُخرِجَ الكنزُ منه، إنما المعنى التأويلي أثرٌ يُعاش في العملية التأويلية ذاتها. والنص هنا لا يُفرغ، ولا يُستهلك، وإنما يُفعَّل ويُشتغل ويُستثار إلى أقصى درجات الاستثارة والإنتاج، وكأن التأويل فعل استثمار ممكنات النص ليس لما هو قائم فيه فحسب، وإنما لما يمكن أن يقبل قيامه فيه أيضاً من دون شطحٍ أو فجاجةٍ أو إسرافٍ. وبه يصبح الفعل التأويلي فتحا للنص وانفتاحاً له على ممكنات عديدة ومتنوعة ما دامت موشجة بالبنية الداخلية أو السياق الخارجي أو المرجعية الحاكمة لإنتاجه فيحدث التصادي بين النصوص والذوات في ديناميكية تفتح على مطلق التجربة الأدبية ومطلق التجربة الإنسانية لإحداث التقارب في بناء رؤية للعالم. وحسب تصور بول ريكور عن وظيفة التأويل فإن"عمل التأويل نفسه يكشف عن عزم عميق للتغلب على البعد، والتباعد الثقافي، كما يكشف عن عزمٍ لجعل القاريء معادلاً لنص أصبح غريباً، وكذلك لدمج معناه في الفهم الحاضر والذي يستطيع الإنسان أن يأخذه من نفسه بالذات"([58]). ووفق تصور محمد مفتاح فإن وظيفة التأويل مرتبطةٌ بصنع التاريخ؛ إذ يقول:"التأويل عملية تاريخية وتاريخانية، بمعنى أنه خاضع لإكراهات التاريخ ومستجيب لها، وأنه صانع للتاريخ ولثوراته"([59]).

غير أن ما قدمته الدراسة في حيزها السالف عن وظيفة التأويل يوجب الاحتراس من أمرين:

الأول: هو ما يمكن أن نسميه بخروج المعنى المؤوَّل بفعل التأويل عن المعايشة والبنى والمرجعيات الحاكمة، إلى حيث إنشاء نص جديد من قبل المؤوِّل لا علاقة له بالنص المؤوَّل. فهذا في عرف الدراسة خارج عن نطاق مسؤوليتها التأويلية وقد لزم الاحتراس منه.

الثاني: خروج تأويل النص إلى استخدام النص واستعماله، لإسقاط غايات ذرائعية وذاتية تنحرف عن سياق النص وعن فحواه الدلالي إلى حيث منفعة المؤوِّل كما هو شأن التأويل البرجماتي عند جوناثان كلر وتريتشارد رورتي؛ حيث الإيمان بتجاوز المعنى إلى المغزى فيما يعرف بالقراءة الملهمة التي تحقق غايات المؤوِّل. يقول رورتي:"ينبغي علينا أن نتواءم مع استخدام النصوص لأجل أغراضنا الخاصة وهذا ـ في رأيه ـ هو كل ما يمكننا عمله معها على أية حال"([60]). وكذا قوله:"نتمتع نحن البرجماتيين بذلك الأسلوب في طمس التمايز بين العثور على شيء وصنعه"([61]).

فإذا تم للدراسة وعيها بما سلفت الإشارة إليه على ما فيه من اتئاد وافتئات، فإنه يسوغ لها رصد إجراءتها المنهجية للممارسة التأويلية التي تعزم على إنجازها على مكانية محمود درويش من خلال نص"الجسر" وهو ما ترصده في حيزها الآتي.

5ـ1: بلاغة التأويل:
 يقتضي الفعل التأويلي بروحه المغامرة وعي حدود بلاغته، أو بالأحرى ملامح شعريته التي يتكىء عليها وينبثق منها؛ حتى يمكنه ضبط إيقاع حركته ووزن أطر منطلقاته فلا يصبح فوضى تأويلية غير منهجية. وإزاء هذا فإن الدراسة هنا تؤشر إلى كلمتين مهمتين هما: المبادىء، والآليات. وبهما فإن الدراسة تسعى إلى تجسيد كل ما سبق من رؤى ومفهومات تأويلية في خطى محسوبة ومدروسة تحكم إيقاع الفعل التأويلي في علاقته بتجربة محمود درويش المكانية. وهو ما يُرصد على النحو الآتي:

أـ مبادىء التأويل:
تمثل زمرة المبادىء المشار إليها لاحقاً الإطار المرجعي الباني والحاكم للفعل التأويلي من قبل الدراسة إزاء النص المؤوَّل. فهذه المبادىء أو القواعد أو الأصول المرجعية هي البنية التحتية التي يرتكز عليها الفعل التأويلي في إنجاز ممارسته. وهي مباديء برغم حاكميتها وتأثيرها الجوهري، فإنها تظل كامنةً في الخلفية المؤسسة لوعي المؤوِّل. ويتمثل أبرز هذه المباديء فيما يلي:

1ـ الانفتاح:
إن وعي الدراسة بالتأويل يقوم في واحد من أبعاده المؤسِّسة على المرونة والحركية والانفتاح؛ إذ ليس التأويل محض استخراج المعنى الخفي أو المعجمي أو إكمال الناقص منه..، وإنما هو عمليةُ بناءٍ للمعنى ومعايشةٌ للأثر. ومفاد هذا الكلام هو الانتقال من الثابت إلى المتحرك، من الجمود إلى السيرورة والصيرورة معاً، من الكشف والعثور إلى التحقق والبناء والمغامرة، وهو ما يجعل التأويل منفتحاً على مدارات النص وبناه المساقية. فإذا كان التأويل متجاوزاً لمفهوم الاستبدال بين الدال والمدلول ليتحرك في فضاء احتمال الدلالة، وإذا كان التأويل يتكون فيما بعد اللساني؛ فإن هذا التمفصل يجعله - حسب دلتاي ـ يمثل "جزءا من ميدان من ميادين الفهم الأكثر سعةً. ذلك لأنه يمتد من حياة نفسية إلى حياة نفسية غريبة"([62]).

 من هنا يتكىء التأويل على الحركة السيارة بين مكونات النص وموازياته ومرجعياته وسياقاته ومقاصده من دون إغلاقٍ لمدود الإشارات الدلالية؛ حيث"لا يوجد في الهرمينوطيقا إغلاق لعالم الإشارات...هذا لكي نستعمل كلمة ساندريس بيرس فإن الهرمينوطيقا تكون تحت نظام انفتاح عالم الإشارات"([63]). ولعل هذا ما حمل بول ريكور على طرح سؤال الانفتاح والإجابة عنه على هذا النحو:"ماذا نعني بالانفتاح هنا؟ إننا نعني أن التأويل في كل مذهب هرمينوطيقي يقوم على مفصل يقع بين اللساني وغير اللساني، وبين اللساني والتجربة المعاشة مهما كانت هذه التجربة"([64]).

2ـ الدائرية:
إن الحركة الانفتاحية السيارة المؤسِّسة لفعل التأويل كما سلف هي في ذاتها حركةٌ دائريةٌ أيضا تصل بين مجموع الكل ومكوناته الجزئية في حركة ذهاب إياب خلاقةٍ وحيويةٍ. ويرتكز هذا المبدأ على مفهوم دلتاي عن" الحلقة الهيرمينوطيقية " ومفاده:" كي نفهم أجزاء أي وحدة لغوية لا بد أن نتعامل مع هذه الأجزاء وعندنا حس مسبق بالمعنى الكلي، لكننا لا نستطيع معرفة المعنى الكلى إلا من خلال معرفة مكونات أجزائه. هذه الدائرية في الإجراء التأويلي تنسحب على العلاقات بين معاني الكلمات المفردة ضمن أية جملة وبين معنى الجملة الكلي، كما تنطبق على العلاقة بين معاني الجمل المفردة في العمل الأدبي والعمل الأدبي ككل"([65]).

3ـ المنطقية:
من المبادىء الفاعلة في تكوين الفعل التأويلي وتوجيه حركته ما يمكن وسمُه بالمنطقية؛ بحيث يعمد التأويل إلى الإفادة من فحوى الاستدلال استنباطاً واستقراءً وتمثيلاً، موظفاً إمكانيات الإحصاء والجرد والتنضيد والتصنيف وغيرها؛ بما يضمن اتساق الخطاب التأويلي في كليته ويكشف عن دلائليته.

4ـ الكفاية:
يتكيء فعل التأويل على مفهوم الكفاية بأنواعها: الكفاية الموسوعية، الكفاية الاستدلالية، الكفاية التنسيقية. ويتغيا فعل التأويل من هذه الكفايات تحقيق فحوى الانفتاح على الموسوعة في أبعادها اللغوية والثقافية والمعرفية والتاريخية...بغية إشباع الدلالة، كما يروم من كفاية الاستدلال حيازة المقبولية في حدود المنطق والإقناع، وهو في فعل التنسيق يسعى لبنينة الخطاب واتساقه في هيكله الكلي؛ بحيث يبدو متماسكاً انطلاقاً من التماسك النصي الذي يرتكز عليه فعل التأويل.

5ـ التضافر:
إن بلاغة التأويل قائمة في جوهر ممارساتها على فحوى التعاون والتضافر والتداخل بين مستويات بناء المساق النصي. ولعل الإيماءات السالفة إلى مبادىء الانفتاح والدائرية والمنطقية والكفاية تؤشر بقوة إلى حصول التضافر أو التساند ـ حسب مصطلح محمد بازي ـ حيث الخطاب التأويلي هنا " شبيه بطريق سيار بين النص ومجموع الموازيات والمعارف والسياقات التي تحتويه؛ فاللغة تعمل إلى جانب الاشتقاق والأنساق النحوية التي تدعم بدورها النسق البلاغي، والنصوص الموازية تغذي المعاني والتخريجات والفروض والاستكشافات"([66]).

6ـ التقابل:
هذا المبدأ الإجرائي شديد الأهمية من حيث أهمية الوعي به، وضرورة الكشف عنه مبدئياً وإجرائياً كما سيأتي تفصيله في حيز الآليات. وترجع أهمية هذا المبدأ في عرف الدراسة إلى جملة حيثيات لعل أهمها ما يأتي:

1ـ إن التقابل فوق كونه مبدأً تأويلياً، فهو مبدأ كونيٌّ عام يُهيكل ناموس الكون والطبيعة والحياة ويهندس جمالياتها. إن الكون ومفهوماته انتظام ثنائي تقابلي يتكامل أحياناً كثيرة ويتضاد أو يتغاير أحايين أخرى. فالوجود حياة وموت، دنيا وآخرة، حق وباطل، صدق وكذب، رجل وامرأة، غنى وفقر، ماء ويابسة، أرض وسماء، إنس وجن،إيمان وكفر، حاكم ومحكوم...، إن بالإمكان سرد العديد من التقابلات الفاعلة في منظومة الكون وأثرها في قانون اشتغاله.

2ـ إن التقابل مبدأ جمالي عام كونياً وحياتياً وفنياً. من ثم يدخل التقابل في أسرار الصناعة البلاغية، ويسكن في سر النصوص الخالدة؛ بما يكسبه إياها من حيوية وحركية وتناجز. إنه"يشكل البنية القاعدية والخطاطة الذهنية الأولية التي انطلقت منها عملية الإنتاج من خلال اختيارات استبدالية قام بها المنتج فيزيد من درجة حضوره أو غيابه" ([67]).

3ـ إن التقابل ـ فيما تحسب الدراسة ـ مبدأ شعري رئيس يتكىء عليه الشاعر في صناعة معانيه وحسن تصوره لها بحذاء بعضها قائمةً على علاقات تقابلية تضيء كل منها الأخرى في اتجاه انعكاسي. ولعل أي استقراء متأن ٍ لشعر المتنبي وشوقي وأبي تمام وكبار الشعراء العرب قديماً وحديثاً، يكشف عن أن قدراً غير يسير من شعرية نصوصهم يرتكز على بنية التقابل المتكررة بكثافات متفاوتة في النصوص المختلفة.

4ـ إن التقابل هو "محاذاة المعاني بعضها ببعضٍ، والتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي لإحداث تجاوب ما، أو تفاعل معرفي وإضاءة بعضها للآخر، وهو خاصية تواصلية وإدراكية، فالأمور تُفهم وتُتمثل بشكل أفضل بعرضها على مقابلاتها"([68]). وهو بهذه الوضعية مدخل نقدي مهم لتأويل الأعمال الشعرية في القديم والحديث، ولعل" جدلية الخفاء والتجلي" لكمال أبي ديب شاهد على ذلك. غير أن ما يهم الدراسة في هذا الحيز هو رصد بعض النقاد الحداثيين والأسلوبيين لخاصية التقابل في شعر محمود درويش؛ إذ"إن طبيعة العلاقة التركيبية لديه تقوم على أساس التقابل، وهو إما تقابل خارجي ينشأ من توالي الجمل الاسمية والجمل الفعلية أو تقابل داخلي ينشأ بين جملتين من جنس واحد. ولهذا التقابل قيمته الأسلوبية الكبرى؛ لأنه يعكس تقابلاً بين صوت كان صوت مقيد بزمان" كان الشاعر طرفاً فيه = الجملة الفعلية " ومعنى ثابت لا يتغير ولا يتقيد بزمان"= الجملة الاسمية"([69]).

 وأيا كانت الإشارة إلى تجليات هذا التقابل في عموم التجربة الدرويشية، فإن ما يهمنا هنا هو الارتكاز على تأثير حركيته التعبيرية وحيويته في بناء التجربة المكانية في شعر درويش. ولعل صنوف هذا التقابل سوف تتضح في ترسيم الإجراء وفي ممارسة فعل التأويل في اشتباكه مع النص كما سيتبين. وبه فإن هذه المبادىء الإجرائية الحاكمة لرؤية التأويل هي ما تؤهل لرصد الآليات التأويلية لتجربة المكان في "جسر" محمود درويش في الحيز الآتي:

آليات التأويل:
تتأسس آليات الفعل التأويلي على مبادىء البلاغة التأويلية السالفة وتنبثق منها؛ لأنها مرجعيتها الحاكمة. غير أن هذا التأسيس الإجرائي لتأويل المكان الشعري عند درويش يعمد في حيز الارتسام إلى الاستناد إلى مقولتين رئيستين هما: المساق والسياق، والتضافر والتقابل. وهاتان المقولتان المبدئيتان تحتويان - ضمنياً ومن خلال الفعل الإجرائي- بقيةَ مبادىء البلاغة التأويلية المشار إليها آنفا.

ومفاد القول في فحوى الآليات التأويلية هنا هو اشتغال التأويل على بنيتي الداخل والخارج، النص وملابسات تكوّنه في آنٍ. كما أن الفعل التأويلي في فحوى إنجاز ممارسته التأويلية على النص عبر الانفتاح والمنطقية والدائرية والكفاية؛ فإنه يتكىء على استرتيجية التضافر والتقابل في الدوائر المساقية الصغرى، وفي الدوائر السياقية الكبرى. من هنا تتحدد بنى المساق والسياق على النحو الآتى:

أولا: البنى المساقية: (دوائر التأويل الصغرى): وتشمل:
1ـ اللغة:
وفي هذا الإجراء يعمد الفعل التأويلي إلى قراءة معجم النص، أو قراءة لغته من خلال دلالات المعجم ومدى ثرائها وانفتاحها صوب المعاني المواراة أو المتخفية أو، المجاورة، أو المتداخلة؛ فبما أن النص نسيج لغويٌ؛ فإن المعجم مركزيٌّ في تأويله.

2ـ الاشتقاق:
وفيه يسعى التأويل للوقوف على دلالات البنى الصرفية الفاعلة في تكوين المعنى وفحوى وقوع اختيار الشاعر عليها وفق أبنية وصيغ محددة دون غيرها.

3ـ التركيب:
وهو قراءة المستوى النحوي في النص ودلالات إعراب الكلمات وبناء الجمل، ونوعها، والضمائر وعلى أي شيء تعود، ومخالفة الأصل...وغيره من مباحث النحو.

4 - البلاغة:
ويجلي فيه التأويل الدلالات البلاغية الكامنة في الانحراف الاستعاري والتشبيهات والكنايات، وكذا دلالات الخبر والإنشاء والقصر، وفنون البديع المختلفة التي تندرج تحت علوم البلاغة في البيان،والمعاني، والبديع. إن البلاغة هي الركن الأهم في التأويل الأدبي.

5ـ السرد:
وفيه يقرأ التأويل دلالات الوصف والسرد، والزمان والمكان والشخصية، والحوادث والصراع الدرامي، وإيقاع الحركة وغيره مما يتعلق بالسرد.

ولعل التراتب المقصود قصدا من قبل الدراسة للآليات المشكلة للقوانين الداخلية للنص في مساقه يبين قصدية التدرج في الفعل التأويلي في علاقته بالنص، وما ينضوي عليه هذا التصور من بنائية ومنطقية تسهم في إشباع الدلالة وكفايتها وفي تسويغها ومقبوليتها في آنٍ.

ثانيا: البنى السياقية:(دوائر التأويل الكبرى): وتشمل:
1ـ مكانة الشاعر ووعيه بالشعر:
 وتعد هذه الدائرة مهمة في توطئتها لفحوى الخطاب المهيمن على النص؛ إذ وضعية الشاعر ومكانته تكشفان عن كثير من ظروف تكونه، وفرادة شعره، ومشروعه، وموقفه، وعلاقاته...إلخ

2ـ ملابسات النص: (الرؤية للعالم):
 وتضيء هذه الدائرة الظروف الفاعلة في إنتاج نص محمود درويش، ومدى تأثيرها في صياغة رؤيته وتشكيل أبنيته، وبناء معناه وخطابه، وتحديد موقفه من العالم وقضاياه المجتمعية والإنسانية.

3ـ النصوص الموازية:
 وتشمل هذه الدائرة درجة عالية من انفتاح النص على غيره من النصوص الأخرى الموازية له في تجربة الشاعر في السابق أو في اللاحق على النص، وفي تجربة الشعراء المجايلين له أو السابقين عليه.

4ـ التأويلات الموازية:
 وتلم هذه الدائرة بالقراءات التأويلية السابقة على هذه الدراسة، وكيفية تأويلها للنص، وما وصلت إليه من دلالات ومعاني وخطابات، وما يتعلق بالنص من أخبار أو ثقافات أو عادات.

ومن المهم في هذا الحيز من الشأن التأويلي التأكيد على استراتيجية التقابل بوصفها آليةً ماثلةً في كل هذه الدوائر، أو في أكثرها حسب مقتضيات الفعل التأويلي في الدوائر الصغرى والكبرى، وهو آلية فهمٍ تعمد إلى إضاءة المعنى عبر التناقض أو التباين، أو التماثل أو التفارق أو المواجهة..ومن ثم فهو أشمل وأوسع من الترادف والتضاد والمقابلة وإن احتواها في طياته. من هنا تعمد الدراسة إلى الإشارة إلى صنوفه في بنية المساق والسياق على النحو الآتي:

1ـ تقابلات المساق: ومنها:
أـ التقابل النقيضي.
ب ـ التقابل النظيري.
 ج ـ تقابل التشابه.
د ـ تقابل التشارك.
ذ ـ تقابل الإثبات والنفي.
رـ تقابل حال الذوات.
 زـ تقابل الفاعل والمفعول.
 س ـ تقابل التناسب.
ش ـ تقابل التشاكل.
ع ـ تقابل المعنى ومعنى المعنى.
 غ ـ تقابل الأمكنة....إلخ

2ـ تقابلات السياق: ومنها:
أـ تقابل النص والعنوان.
 ب ـ تقابل الفقرات والمقاطع والوحدات.
 ج ـ تقابل النص مع النصوص الموازية من إنتاج الشاعر.
 دـ تقابل النص مع نصوص موازية لشعراء آخرين.

 ر ـ التقابل النووي والتقابلات الاستتباعية.
ز ـ تقابلات النسق التواصلي للخطاب.
 س ـ تقابل النص والسياق التاريخي.([70]).

 ولئن كان واقع إجراءات التأويل وآلياته كما سلفت الإشارة إليه، فإنه من الأهمية بمكان هنا الإشارة الختامية إلى ملمحين مهمين:

الأول: يتعلق بوعي الدراسة في فعلها التأويلي للتجربة المكانية في نص درويش بضرورة عدم التعسف أو الاعتساف والحَرْفية في تطبيق بعدي المباديء والآليات على النص. إن الحرفية أو الاعتساف فيها يقتل روح التأويل ويحد من وثباته ويقلص من روح المغامرة والانفتاح والمرونة فيه. من ثم فلن ينشغل فعلنا التأويلي بالشكل على حساب الجوهر؛ وإنما سيتمتع بالمرونة اللازمة لتحقيق حرية الحركة التأويلية في إطار بلاغة التأويل.

الثاني: يتحاف مع الأول أو ينبثق منه تأطيراً وتعميقاً، ومؤداه ما قرره أمبرتوإيكو من"أن تقرير طريقة عمل النص يعني تقرير أي من مظاهره المختلفة، يكون أو يمكن أن يصبح متصلاً بالموضوع، أو منتمياً بالنسبة للتأويل المتماسك له، وأي هذه المظاهر تظل هامشية وغير قادرة على دعم قراءة متماسكة"([71]).

 وبه تتحقق مشروعية الحركة التأويلية المرنة في البدء والانطلاق والتضافر بين المستويات البنائية للنص. ولظهوراته المهيمنة، وبهذا تكون الدراسة قد تأهلت بعدتها المفهومية وعتادها الإجرائي لإنجاز فعلها التأويلي على نص درويش.

2: المكان:
2ـ1: تحرير المصطلح
:
يحوز الحضور المكاني في الفن بصفة عامة كثافةً لافتةً تتجلى حيثياتُها في علة ارتباط المكان بالدلالة على الواقعية وفي دلالته على الزمن، ومن ثم التاريخ، وما يرتبط بذلك من حفريات الاركيولوجيا، وفتنة السرد، وعبرة الحوادث، وخلابة الرؤية. من هنا يمكن للدراسة أن تقر مع ياسين نصير بأن"الفن إذا ما ابتعد عن احتواء المكان فقد واقعيته، وأن الفن إذا ما تنكر للمكان عاش تاريخ اللاتاريخ"([72]). ومن ثم يتبدى المكان في حيز الشعرية الحداثية العربية نسقاً حاضراً جمالياً بقدر كثافة تعقيده؛ إذ هو" ليس كياناً حاملاً لكل التواريخ الصغيرة والكبيرة فقط. إنما هو اللحظة الزمانية التي أرى فيها هذه التواريخ وقد انبنت بطريقة منهجية"([73]).

 اتكاءً على التأسيس السالف، فإن مقاربة تحرير مصطلح"المكان"هنا لا بد أن تتحدد في بعدين: دلالي وأدبي، مع ضرورة الوعي بالتحام العلاقات التصورية في البعدين معاً، وهو ما تؤشر إليه الدراسة في تناولها لهما فيما يأتي:

الأول: البعد الدلالي للمكان:
 تكاد دلالة المعجم لا تفيد كثيراً في شأن رسم تصور دقيق عن المبتغى من الوعي بالمكان هنا؛ فقد ورد في معجم"القاموس المحيط" ما نصه:" المكان: الموضع ج:أمكنة،وأماكن"([74]).

 غير أن تقري دلالة المعجم وتوسيعها، يفضي إلى مكان الوجود المادي لشيء ما؛ إذ هي تطلق على وكنات الطير، والمنازل، وأماكن الإقامة والاستقرار والعيش والثبات، وهو مآل السفر والهجرة والارتحال..،إنه ما يمارس فيه وعليه الإنسان مناشطه الحياتية والوجودية من الأرض وما بين هذه الموجودات من علاقات. وحسب مفهوم"ديفيز" عن حداثة مفهومي الزمان والمكان، فإن المكان هو محض "وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن هذه العلاقات...، العلاقات المكانية بين الأجسام لا تحتاج إلى وجود شيء ملموس قائم بذاته اسمه المكان إلا بقدر ما تحتاج العلاقة بين مواطني بلد ما شيئا ملموسا اسمه المواطنة"([75]). من هنا تقود الدلالة إلى المفهوم السيميائي للمكان. فلئن كان المكان وجودا، فإنه وجود علاماتي، أو هو تعلق بعلاقات كائنة فيه. والعلامة ـ وفق نظرية أمبرتوإيكوـ "كيان واسع الامتداد"([76]). كما أنها تقوم على جدلية الغياب والحضور وفق التصور البنيوي للعلامة، وتقوم مكانيا على مفهوم الاختلاف في وعي جاك دريدا، فمفهوم المخالفة الذي تكلم عنه سوسير في تحديد وظيفة المفردة، والاختلاف الذي أكد عليه دريدا في فلسفة التفكيك، هما مفهومان مكانيان بالضرورة. إن حركة الاختلاف هي المرتكز الرئيس لإكساب اللغة عبر مفرداتها سمة التمايز، وما بين هذه المتمايزات من متضادات ومتقابلات. وقد ذهب دريدا إلى"أن إنتاج هذا التمايز والاختلاف ينجم عن "بنية" مكانية تقابلية بين المتضادات..؛ لهذا فإن الاختلاف هنا يتحدد على أنه توزيع مكاني"([77]). وبه فإن المكانية وفق مقولة الاختلاف، تتحدد بأنها"عنف الانفجار والانفصام التي من خلالها يتأتى للمفاهيم والمصطلحات ضمن البنية المتضادة أن تنفصل عن بعضها وتتقابل حتى يتسنى لعملية الدلالة أن تتم"([78]).

 ولئن كان الوعي السيميائي بدلالة العلامة أنها كيان واسع الامتداد، فإن هذا يقود إلى أهمية الوعي بالمكان ضمن غائية التأويل التي تنطلق من اللساني لتتحرك فيما وراءه. من ثم فإن كان للمكان مظهر فزيائي تمثله أطره الجغرافية كأن نتكلم عن: بيت، جبل،جسر، ملعب، منصه، مدينة، دولة،...، فإن ثمة دلالة مخفية تؤشر إليها كثير من المفردات من طرف خفي كأن نقول: رحلة، سفر، سياحة...، حيث يكون للمكان حضوره المتواري الذي يملى على المؤوِّل إكماله واستظهاره للعلن. ولعل هذا ما يفضي إلى الوعي بالتصور الأدبي للمكان.

الثاني: البعد الأدبي للمكان:
 يتكون البعد الدلالي الأدبي للمكان من ركنين رئيسين هما: المكان والمكانية. وبرغم أن هذين الدالين، أو التصورين متداخلان ومتكاملان إبداعاً ونقداً، فإن الدراسة تؤثر إشارتها إليهما على النحو الآتي:

المكان: وفيه تُثار أسئلةُ شعريةِ المكانِ أو بلاغةِ المكان حينما يغدو المكان ـ أيا كان ـ داخل النص الأدبي متخيلاً، أو مصوراً وفق رؤية المبدع، وحسب إمكانياته في الصوغ والصناعة والخلق. لذا فإن بلاغة المكان الأدبي تثير مساءلة شأن الكتابة الحداثية؛ حيث ترتسم وفق تمثيل مخصوص لفضاء أو مكان أو حيز يتكون من مادة أدبية. من ثم يتخلق الوعي النقدي أو التأويلي بالكتابة المكانية، أوبالمكان في حيازة النص الأدبي ليس على أنه محض وجود مادي، أو وجود جغرافي، وإنما هو خلق جديد، أو إعادة خلق لما كان من قبل، في سياق منفتح قد يصل بالمكان في النص إلى عتبة عليا من الانزياح البلاغي، أو الأنسنة، أو الأسطرة...، أو غير ذلك من ممكنات الخلق الأدبي غير المقيد، وغير المشروط بحد معلوم. وبه فإن الجمالية في المكان تتداخل في جمالية النص تصنعها أو تتضام معها من أجل صياغة المكان الجديد على عين المبدع وحسب مهارته في الحذق والافتنان. من هنا فإن المكان أو الحيز حسب مراد عبد الملك مرتاض"مشكل أساسي في الكتابة الحديثة"([79]). وهو عنده "ليس مكاناً بالمفهوم التقليدي للزمان وإنما هو تصور ينطلق من تمثل شيء يتخذ مأتاه من مكان وليس به، ثم يمضي في أعماق روحه يفترض عوالم الحيز المتشجرة عن هذا الحيز الأصل الذي لا ينبغي أن تكون له أبدا؛ لأن كل حيز يفضي إلى حيز آخر، فترى الصورة الفنية تتعمق بانشطارها إلى أشطار وتجزئها إلى تركيبات، وبمثل ذلك تستوقي الرؤية موقعها فتتبوأ مكاناً مكيناً"([80]).

 من المهم هنا التأكيد على ارتباط الصورة الشعرية بالمكان كما هو في رؤية عز الدين اسماعيل؛ إذ يقول:"الصورة المرسومة تشكيل مكاني صرف"([81]).
لكن هذا المكان المؤسس للصورة والمكون لها، يندغم في العالم النفسي للمبدع وينبثق منه؛ إذ إن الشاعر أو الروائي أو القصاص..،إنما يدخل المكان الواقعي إلى مصهرة المخيلة ليعيد خلقه وفق هوية خياله وحسب إمكانياته ورؤاه في الصياغة والابتكار. لهذا يتشح المكان المصنوع بالصبغة النفسية للصانع، وعلى هذا "ينبغي أن ننظر إلى الصورة لا على أنها تمثل المكان المقيس بل المكان النفسي"([82])، وهو ما يمنح المكان/الصورة كثافة الشعور وكثافة الانزياح، وكثافة الرؤية في آنٍ. وقد تعددت تقسيمات النقاد لهذا المكان الأدبي في الشعر والسرد، فهو مكان متحرك، ومحاصر، ومتصارع،ومعادٍ، ومجازيٌّ، وهندسي، ومعاش، ومهمش،ومهيمن، ووعاء، وإطار..إلخ كما أن المكان عادةً ما يتم النظر إليه من زاوية التقاطب أو التقابل من خلال هذه الثنائيات: القرية/المدينة، الانغلاق/الانفتاح، الشرق/الغرب، الوطن/المنفى، الانقطاع/الاتصال...،وهذا كله ما يجعل من وضعية "المكان" بؤرة جمالية ذات بعد إثاري مهم في تجربتي الإبداع والنقد معاً.

2ـ المكانية: إن المقصدية من مكانية النص الأدبي هنا، تتكىء على مفهوم الاختلاف الدريدي ـ نسبة إلى دريدا ـ في بعده التفكيكي ومتغيا حدوث التمايز بين وحدات اللغة ومكونات النص في جملة فقراته ومقاطعه؛ حيث إن هذا التمايز هو ما يكسب كل وحدة هويتها، ووظيفتها، وعلاقتها بغيرها من الوحدات الأخرى.على أن وعينا بمكانية النص وفق ما سلف، ينبغي أن يتسع ليشمل الرؤية الكلية للفضاء الطباعي للنص، والاتكاء على البعد البلاغي البصري أيضاً في ارتسام النص وتفضيئه وفق إخراج المبدع له شاملاً كل عناصره ومستوياته بدءاً بالمفردة ومروراً بالتراكيب النحوية والهندسة العروضية أو الإيقاعية، والإهداءات، والرسومات، أو الأيقونات، والأشكال، والجدل الصراعي بين السواد والبياض، وسمك الخطوط، إن مكانية النص متعلقة بالبلاغة البصرية حيث علاقة المكان بالنص وبالدلالة، وبالفضاء، وباللغة، وبالخط، وبالعلامة في سياق تشعيبي معقد يفتح على فحوى شعرية الدال والالتفات النوعي والبصري، الشأن الذي يؤشر إلى أهمية المكانية في النص الحداثي العربي ويضبط تحرير دلالة المصطلح المكاني في علاقته بفعل التأويل.

2ـ2:المكان في شعر محمود درويش:
 لقد ألزم هذا الحيز من الدراسة بمساءلة تجربة محمود درويش الشعرية والكتابية في نسقها الكلي، وفي تفاصيل جزئياتها. وهي مساءلة مضنية مكلفة حتى الرهق، لكنها ضروريةٌ ضرورةَ الحتمية والوجوب؛ ذلك أن الوعي الكلي بالتجربة الدرويشية مفيدٌ بحدود قصوى في تشكيل الرؤية المركزية المؤوِّلة لرؤيته الشعرية من حافة، كما هو مفيد في دقة الوعي بالكيان المكاني في مجمل التجربة من المهاد إلى الختام من حافة أخرى. من ثم يتحيَّثُ هذا الحيز في الدراسة من جهتين مهمتين:

الأولى: فرض الدراسة:
 والقصد من فرض الدراسة هنا هو تمام إجرائية المنهج؛ حيث يعمد التأويل إلى الدخول إلى مغامرته مع النص المؤوَّل وفق رؤية درسية كلية تمكِّن من تفسير التجربة أو من تأويلها. وبه فإن فرض الدراسة لتأويل تجربة درويش يتكثف في الرؤية المكانية. وخلاصته هي: إن تجربة محمود درويش بوجه خاص، والشعر الفلسطيني بوجه عام، هي تجربة مكانية حتى السقف الأعلى لعتبة الإبداع والتأويل.بعبارة أخرى؛ فإن الفرض قائم على المدخل الأهم في تأويل التجربة الدرويشية وهو التأمل المكاني؛ إذ المكان هو لب التجربة وأهدابها، وهو منطلقها ومآلها، وهو مصدرها وباعثها، ومتغياها. المكان هو الوعي واللاوعي في التجربة الدرويشية، المكان العام المطلق، والمكان الوطن المفقود والمبحوث عنه، المكان الواقع المغيب، والمكان المنفى والشتات...، المكان بتجلياته المختلفة هو سر هذه التجربة وهاجسها، هو كيانها وروحها الساري في تفاصيل التفاصيل، هو ماهيتها وهويتها المكونة لها والمائزة لها عن أغيارها في آنٍ. المكان في تجربة درويش مكونٌ نوويٌّ يتناسل ويتكاثر في المكونات البنائية والجمالية سراً وعلانيةً، يتكثف حينا ويُضغط؛ فيصبح مهيمناً على النص، كما هو في كلية المآل الختامي مهيمن على مجمل التجربة، وقد يتخفف حيناً آخر فيتوارى في متاهات المعنى، وسراديب اللغة، لكنه لا يتلاشى؛ وإنما يظل حضوره فاعلاً في الحالتين كلتيهما وعلى أية كيفية شاء.

على أن هذا الفرض لا يتكىء في حيثياته على خلابة الحدس الناجم عن علاقة المؤوِّل بالنص، وبمجمل التجربة فحسب، وإنما يتكىء على التجربة الشعرية أو الدرويشية في كليتها وامتدادتها ذاتها شعريةً كانت أم نثريةً. ولعل الشأن هنا يتجلى غيرَ معقدٍ؛ حيث ينبني على تصور متماسك مؤداه استلاب الوطن الفلسطيني من الإنسان الفلسطيني، والدرويش جزء من هذا الكيان المستلب. من ثم فإن علاقته بالوطن هي علاقة متحولة إلى قضية جوهرية ومفصلية، قضية بحجم وطن مسلوب ومغيب، والوطن كيان مكاني منفتح ومشع على خلايا الروح والوجدان والوجود. وبه ينشأ الالتزام به في البحث عنه والنضال من أجله إلى أقصى ما تتحمله طاقة الشاعر. يقول درويش:" لعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وإنما صار نبضاً في الدم"([83]). ثم يعود ليؤكد جوهر شعريته بقوله:" إننا شعراء قضية قبل أي شيء آخر"([84]).

ولقد تنبه النقد منذ بواكير علاقته بتجربة الدرويش، إلى حيثية الوطن ومدى مركزيتها في الرؤية الشعرية؛ فإذ يقدم محمد دكروب لديوان الدرويش يقول:" ويبقى شيء عن الوطن.. وهو على كل حالٍ، الشيء الأساس، سواء في شعر محمود درويش، أم كتاباته، وخصوصا في نشاطه الثوري"([85]). وحين يتحدث الدرويش عن الوطن بين الذاكرة والحقبة، يطرح السؤال مباشرة ويجيب عنه على هذا النحو: "ما هو الوطن؟ ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي. حياتك وقضيتك معاً... هو هويتك"([86]).

الوطن إذن: حياة، وقضية، وهوية. ولا جرم أن هذه الثلاث متماهيات مع ذات الشاعر الذي جعل من شعره استجابةً حيةً لوجوده، ووطنه، وحياته، فقصد إلى المقاومة فيه، وبه، قصداً يصل حد الاستغراق، فتتحول المقاومة إلى عيار جمالي للشعر. يقول درويش:

كل شعر جميل ... مقاومة([87]).

هذه المقاومة الساكنة في جوهر الشعر، والمعلنة عن هويته، متلبسةٌ بالوطن ومتشبثةٌ به، انفجاراً منه، وذوداً عنه.غير أن هذه الحالة الالتباسية المتماهية تندغم في المكان، تتمسك به،وتحتمي فيه، وتحميه. هكذا تبلور المخرجة السينمائية سيمون بيضون هوية محمود درويش في حوارها مع مسؤول المستوطنة الإسرائيلية التي أقيمت على أرض قرية الشاعر فيسألها عن درويش وتجيبه على هذا النحو:

ـ من درويش هذا؟

ـ إنه يكتب عن هذا المكان، عن شجرات الصبار هذه، عن هذه الأشجار، وعن البئر.([88]).

لكن المكان في وعي درويش، وفي مصب ختام التجربة، يتماهى مع الحقيقة، ويدخل مدار الغواية والافتتان؛ لأنه لايزال المكان في مكانه. يقول درويش:

ـ ها نحن قادرون على الافتتان بحقيقة واحدة: مازال المكان في مكانه.([89]).

وهذا الافتتان عينه هو الذي يمارس فتنته على التأويل ليصبح المكان هو فرض الدراسة.

الثانية: تجليات المكان:
 يعظم حضور ظهورات المكان في شعر درويش بقدرٍ لافتٍ لعله يصل حد الهيمنة على المعجم، وعلى الرؤية، وعلى التجربة برمتها. ويفيد هنا مبدأ الكفاية التنسيقية في الجرد والتنضيد والإحصاء والتصنيف؛ حيث رصدت بعض الدراسات النقدية كثافة حضور المكان في شعر درويش ليبلغ874([90]). ظهوراً مكانياً موزعين على عدة أمكنة على النحو الآتي: البلدان الأجنبية:121، البلدان العربية:398، الخيمة والمنفى:187، فلسطين:161،القارات:7. على أن هذه المسميات المكانية ذات عمومية واسعة تحتوي ضمنها تفاصيل مكانية دقيقة. غير أن الدراسة هنا لا تعتمد هذا التنضيد المكاني، وإنما تسلك في تصنيف المكان وتنسيقه مسلكا آخر؛ حيث تتجلى أمكنة درويش في وعي الدراسة على النحو الآتي:

1ـ المكان/التصور:
 يتجلى هذا الظهور المكاني في تجربة درويش مرتبطا بإشكالية التصور، أو المفهوم الذهني عن مدلولية المكان في بعده المجرد. وهذه الوضعية الضاغطة على رؤية الشاعر، والمؤزِّمة للشعور والوجدان النفسيين، كاشفةٌ عن عمق القلق الذي يساور الشاعر على مكانه الخاص المستلب؛ فيحمله حملا على التساؤل عن كنه التصور المكاني:

فقلت له ـ والمكان يمر كإيماءة

بيننا: ما المكان؟

فقال: عثور الحواس على موطىء

للبديهة؟

ثم تنهد.([91]).

هذا المفهومي الذي يضغط على وعي الشاعر فيبدو متماهياً مع الموطىء الأرضي؛ بما هو شأن بدهي، يتجلى ظهوراً آخر في إشكالية التعريف وارتباطها بالبلدان والمشتتات والمنفى متجاوزاً الأمهات ورائحة المريمية:

كنت أحسب أن المكان يُعرَّفُ بالأمهات ورائحة المريمية. لا أحد

قال لى إن هذا المكان يسمى بلاداً،

وأن وراء البلاد حدودا، وأن وراء الحدود مكاناً يسمى شتاتاً ومنفى

لنا.([92]).

إن الوعي التأهيلي بماهية التصور المكاني وارتسامه في هوية مائزة له، يتحدد هنا في دلالة البلاد، وفي دلالة الحدود، وفيما وراءها من شتات ومنفى، وكأن إرغم المكان حين تجلى منفى وشتاتاً، قد أيقظ المكان البلاد في وعي الشاعر وحفَّز ذاكرته على المقارنة والاستعادة ليتجسد المكان في العاطفة وكأن الشاعر قد حدد تصوراً للمكان على نحو حاد وقاطع:

المكان هو العاطفة.([93]).

2ـ المكان المطلق:
المكان العام أو المكان الغائم بعموميته، هو واحد من تجليات درويش المكانية وهو يؤشر عادة إلى فحوى التيه، أو التضاؤل، أو النكرة والتخفي. يقول درويش في جداريته:

ما زلت أحيا في مكان ما، وأعرف

ما أريد...

سأصير يوماً ما أريد.([94]).

وقوله في"سرير الغريبة":

ضعي في المكان الصحيح

الزمان الصحيح.([95]).

3ـ المكان/الأرض:

 الأرض، هذه الكلمة المفتاح في وعي الفلسطيني، هذه الكلمة الأم، والكلمة السر، والكلمة المأساة ..، الأرض أس الأساس، وأس البلاء، وأس الأمل. من ثم كان احتفال الفلسطيني بيوم الأرض رغم وجع التضحيات. والأرض التي هي فضاء مكاني متسع يتأطر في أرض الوطن فلسطين، ويتسع لشمل مطلق الأرض. لكنَّ المدلولين مرتبطان ومتداخلان يصدي أحدهما في اتجاه الآخر في علاقة تضفر الحب والتوحد بالنفي والتشريد في المناحي والفيافي. من ثم يغص درويش بهذا السؤال الاستنكاري:

فكيف تشردني الأرض في الأرض

كيف ينام المنام([96]).

إن الوعي بحيوية المكان الأرضي في تجربة درويش، يقف على عمق التوحد بين الشاعر وبين الأرض؛ فيحمله معه أو فيه، وتحمله هي أملاً في طريق السفر برغم بعد المكان:

أمسُّك مسَّ الكمان الوحيد ضواحي المكان البعيد

على مهل يطلب النهر حصته من رذاذ المطرْ

ويدنو رويدا رويدا، غدٌ عابرٌ في القصيدْ

فأحمل أرض البعيد وتحملني في طريق السفرْ([97]).

هذه العلاقة ذات البعد الصوفي الشفيف، هي التي تصنع من الأرض وطناً معشوقا للشاعر الذي تعب في محبته، فطلب منه تمهيد الأرض وإعدادها ليستريح:

أعدي لي الأرض كي استريح

 فإني أحبك حتى التعب.([98])

 لكن الأرض السليبة، والمغتصبة، لابد أن ترتبط بأصل الحياة، وأن تفجر بعث القيامة في بعده التبشيري التفاؤلي، وفي عمقه الثوري المتمرد على واقع الاحتلال:

إنا جذور لا نعيش بغير أرض...

ولتكن أرضي...قيامة.([99])

 غير أن التجلي الأهم للمكان/الأرض، تجسده قصيدة "الأرض" لدرويش احتفالاً بيوم الأرض في 30 آذار من كل عام؛ الذي يعود إلى ذلك التاريخ من سنة1976عندما صادرت السلطات الإسرائيلية مساحات شاسعة من أرض الفلسطينيين تعنتاً، واغتصاباً، فأضرب الفلسطينيون، وقمعت إسرائيل الموقف وزادت في مصادرة الأراضي وخاصة في الجليل وقراها، فصار ذلك اليوم هو يوم الأرض، ومن ثم كانت قصيدة درويش"الأرض" حيث التماهي بين ذات الشاعر وموضوع الأرض في حلولية وجودية وصوفية مائزة:

أنا الأرض

والأرض أنت.([100]).

 هذا الفضاء المكاني الأرضي يتجلى ظهوراً ديناميكياً فاعلاً ومفعولاً به، وبخاصة في شهر آذار؛ إذ"نمتد في الأرض...تنتشر الأرض فينا "؛ لتكشف أنهارها وأزهارها وفتنتها؛ فتتحول إلى سيدة لا بمعنى الأنثى فقط، وإنما بدلالة العلو والسلطة، أو القيمة المتحكمة:

سيدتي الأرض!

أي نشيد سيمشي على بطنك المتموج بعدي؟([101])

هذه العلاقة تحدد مأساة الدرويش بين العشق والسجن في إطار الأبدية:

أنا العاشق الأبدي...السجين البديهي

رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكر([102])

لكن عشق الدرويش للأرض الأنثى ليس محض علاقة ذكورية تقع في غواية الأنثى في الدلالة الأيروسية أو الشبقية فحسب، وإنما هي دلالة ثرة بتنوعاتها، وبمدلولاتها المنفتحة على العديد من الأبعاد والرؤى؛ يلتحم فيها الشبقي بالوطني، العشق بالأبوة بما فيها من حنان ودلال وحماية. هكذا يتجلى المكان الأرضي في سؤال الدرويش التعجبي:

هل نهضت

طفلتي الأرض!

هل عرفوك لكي يذبحوك؟([103])

هذه الموجات الدلالية من الرفض والثورة والاستنكار، تنتهي في قصيدة درويش في ختامها إلى حالة شفيفة، وفريدة من التماهي بين ذات الشاعر وذات الأرض؛ فيصبح هو الأرض جسدا يحرث، ويمرون عليه، لكنه يتحدى الغاصبين أن يمروا:

أيها العابرون على جسدي

لن تمروا

أنا الأرض في جسد

لن تمروا

أنا الأرض في صحوها

لن تمروا

أنا الأرض. يا أيها العابرون على الأرض في صحوها

لن تمروا

لن تمروا

لن تمروا([104])

المكان/ الوطن:
 يمثل الوطن ما يمكن أن نسميه بـ "المكان النووي". وتتغيا الدراسة من هذا المسمى التأكيد على مركزية الوطن من حيث كونه مكاناً حاضراً بكثافة باذخة في تجربة درويش الشعرية والنثرية؛ إذ يمثل "نواة" كائنة في لب الرؤية، والنفس، ومجمل التجربة؛ حيث تتكثف ظهوراته في كل الدواوين بصور مختلفة، وهو نواة تحضر سراً وعلانيةً في كيانات النصوص وفي بناها؛ بوصفها " الوسيط المتجانس
Homo geneous medium الذي لا يمكن أن يتحقق العمل الفني ـ أنطولوجيا ـ إلا من خلال توافره"([105])

على أن الوطن مكانياً الذي هو نواة في شعرية الدرويش، هو مكان بنائي حاضر في التجربة يهيكلها، ويمنحها أنموذجها، كما هو مكون جمالي يمثل حقلاً شعرياً ذا فرادة ومذاق في شعر درويش، إن لم يكن هو مصدر فرادتها، وهويتها بإطلاق. من ثم يتجلى المكان الوطن بصور عديدة: فهو الأرض، وهو فلسطين، وهوالحبيبة على إطلاقها، وهو وراء المنفى، والطريق، والجسر، وهو البيت والحصار، والثورة، وهوالحلم والحياة والخيال...الوطن المكان الأم، مكان الأمكنة قاطبةً، وهو مفتاح تأويلها، كما هو مفتاح تأويل التجربة الدرويشية بلا منازع؛ لأنه أس الأساس فيها من المهد إلى اللحد. من هنا يتجلى وطن الدرويش على هذه الصورة التي توحد بين العاشق والحبيبة:

آه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست المسافر

إنني العاشق...والأرض حبيبة([106])

ويعمد درويش إلى تقديس الوطن، حتى وإن صار مقصلة، فإنه يعبد سكينها:

وهذا الوطن

مقصلة أعبد سكينها

أن تذبحوني، لا يقول الزمن

رأيتكم.([107])

5ـ المكان/البلاد:
هذا الظهور من ظهورات المكان لا ينفصل عن الوطن، ولا عن الأرض، وإنما هو مندغم فيهما، ساكن الفضاء ذاته. غير أنه يبدو مرتبطاً بالبعد عن الأرض الفلسطينية في الأسر أو النفي، الأرض التي يخشى عليها الشاعر من الاحتلال والضياع:

بلادي البعيدة عني.... كقلبي!

بلادي القريبة مني...كسجني!

لماذا أغني

مكانا، ووجهي المكان؟([108])

وإذ يبدو الشاعر مهووساً بالخوف من ضياع البلاد بفعل الاحتلال، يعمد إلى تأكيد ملكيتها له في تكرار دال:

بلادي لي

بلادي لي

كتبت اسمي بأسناني

على أشجارها وصخورها

وترابها الحاني...

أأنساها..وتنساني؟

بلادي لي.([109])

6ـ المكان/ البيت: (الدار ـ المنزل):
 لا شك أن البيت؛ بما هو مكان شخصي، مكان خاص، فإن حضوره بالغ الفاعلية في تكوين الشاعر. ولقد عالج "جاستون باشلار" شأن المكان البيتي مؤكداً أنه "جسر وروح، وهو عالم الإنسان الأول قبل أن يقذف بالإنسان إلى العالم، وأي ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة؛ لأنها قيمة مهمة، نعود إليها في أحلام يقظتنا"([110]).

من هنا يتجلى هذا الدال المكاني على مستويات عدة يمكن الإشارة إليها على هذاالنحو:

أـ البيت لحظة الخروج:
 ربما يكون ديوان درويش"لماذا تركت الحصان وحيداً" أكثر أعماله تجسيداً لهذه اللحظة المأساوية بما فيها من قهر وترك وخروج. يقول درويش في قصيدة" أبد الصبار":

ـ ومن يسكن البيت من بعدنا

يا أبي؟

ـ سيبقى على حاله مثلما كان

يا ولدي!

تحسس مفتاحه مثلما يتحسس

أعضاءه واطمأن([111])

ويزداد عمق هذه اللحظة الفارقة بظهور الحصان ودوره في أنس البيت، وتعلق الشأن بموت البيوت المهجورة:

ـ لماذا تركت الحصان وحيدا؟

ـ لكي يؤنس البيت، يا ولدي،

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها...([112])

ب ـ البيت في ذاكرة المكان:
حين تحقق الاحتلال، ووقعت المغادرة والخروج القسري،حمل الشاعر البيت في فضاء الذاكرة؛ فأضحى ذكرى فاعلة في المخيلة:

ورائحة الأرض: عطر

وطعم الطبيعة:سكر

كأني على سطح بيتي القديم

ونجم جديد...

بعيني تسمر([113])

ج ـ البيت طلل:
 إن البيت المهجور والمخرب بفعل الاحتلال، يتحول إلى طلل يجسد دراما الحياة عبر مفارقة الماضي والحاضر، وعلاقة الذات بالموضوع؛ الشأن الذي يحدث اللوعة ويستوجب البكاء؛ وكأن الشاعر يستحضر بكائية الشاعر الضليل على أطلاله وهي الأشهر في سيرورة الشعر العربي، يقول درويش:

قفا نبك

على أطلال من رحلوا وفاتوها

تنادي من بناها الدار([114]).

د ـ البيت: تفاصيل المكان:
ويشمل هذا الحيز من المكان البيتي تفاصيل جزئية في البيت مثل: الباب، السطح، التنور، حبل الغسيل، الشرفة، القهوة...، وهي كلها متعلقات بتجربة الشاعر في بيته الشخصي في فلسطين، وتعلق الشاعر بحلم العودة. يقول درويش في هذه التفاصيل:

ـ يا أمنا انتظري أمام الباب. إنا عائدون.([115]).

ـ كأني على سطح بيتي القديم([116])

ـ ضعيني إذا ما رجعت

وقوداً بتنور نارك...

وحبل غسيل على سطح داركْ([117]).

ـ أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي([118])

7ـ المكان/ المنفى:
 تؤشر بعض الدراسات النقدية عبر إجراء الإحصاء إلى أن الخيمة والمنفى"كان أعلى ورود لها في شعر محمود درويش؛ إذ بلغت 187مرة."([119]) لقد تحول المنفى إلى بديل للوطن، وتكاد الإقامة فيه تكون أبدية، وما لهذا المنفى من مضاعفات نفسية وحياتية.

لقد احتل المنفى فضاء المكان في كثير من شعر محمود درويش، وهو دال يكاد يقوم بذاته مكونا حقلا شعريا ذا فرادة وهوية داخل سياق التجربة؛ إذ إنه كان وراء كثير من الرؤى والمواقف التي تتجلى في الصمت والكلام، في الحب والكراهية، في الإقامة والترحال، في الأنا والآخر، في الشرق والغرب، في الواقع والعالم...، إن المنفى هو الغياب المؤقت، لكن تأقيته تمدد:

الغائبان أنا وأنتِ

أنا وأنتِ الغائبان([120])

هذا الغياب الذي يحتوي الشاعر في الخارج، ويطبق على الوطن في الداخل بفعل الاحتلال، ليصبح الشاعر ووطنه غائبين، هو ما يفجر صرخة الألم الوجودي والقيمي داخل الشاعرفي قصيدة "رسالة من المنفى" على هذا النحو:

ما قيمة الإنسان

بلا وطن

بلا علم

ودونما عنوان

ما قيمة الإنسان؟([121])

لكن السؤال عن القيمة في المنفى، يتحول إلى سؤال عن إمكان العودة ومن يقف في وجه الشاعر موصدا الأبواب دونه:

وأنا على أسوارك السوداء ساهد

عطشى الرمال أنا...وأعصاب المواقد

من يوصد الأبواب دوني؟

أي طاغٍ؟...أي مارد!!([122])

المكان/ الغياب:
 من يدرس تجربة درويش لابد أن يتوقف ملياً عند بعض عناوين دواوينه الدالة على الغياب المكاني، أو المكان الغائب. ولعل أبرز هذه العناوين هي: "في حضرة الغياب"، "ذاكرة للنسيان"،"حيرة العائد". على أن اللافت المائز في هذا المنعقد، هو توطئة درويش لديوانه" في حضرة الغياب" بهذا البيت لمالك بن الريب:

يقولون لا تبعد، وهم يدفنوني

وأين مكان البعد إلا مكانيا([123])

فكأن الغياب الذي هو سليل الإبعاد والنفي، ورديف الموت الجسدي والمعنوي، قائمٌ في حضوره وفي ديمومته. إن المفارقة التي ينبني عليها عنوان الديوان، وهو ـ قطعا ـ أهم دواله المؤثرة في الرؤية والتكوين، تكشف عن انعكاس دلالي يتأسس على انبثاق النقيض من النقيض، وما لهذا التقابل النقيضي من دلالة حادة، وهو الشأن عينه في "ذاكرة للنسيان". على أن أهم ما تنشغل به هذه الدراسة في هذا الحيز هو التأكيد على فاجعة الفقد، والتلاشي للوطن وللمكان حتى في الذاكرة.يقول درويش مخاطبا ذاته:

ماذا سيبقى من كلامك أنت؟

نسيان ضروري لذاكرة المكان!([124])

لكن النقيض يستدعى النقيض؛ إذ الغياب يفضي إلى البحث عن حضور المكان:

وقد أبحث عن مكاني

أعلى وأبعد،

ثم أعلى ثم أبعد

من زماني([125])

ويملي البحث عن المكان اتباع أوصافه:

...كنت أتبع وصف المكان([126])

وصفات المكان لصيقة بذات الشاعر:

أنتِ يا نفس، إحدى صفات المكان([127])

ويرغم البحث عن المكان،فإن الشاعر يظل في حيرة برغم عودته كما يتجلى في عنوان الديوان:"حيرة الغائب" وكما في "رسالة الغائب إلى الغائب"؛ حيث يؤكد درويش أنه والوطن غائبان؛ إذ يقول:

غائب أتى إلى غائب، فلا أدري إن كنت هناك أم هنا، ولا أدري هل جسدي هو كلامي أم كلامي هو جسدي. ولكنني في الحالتين غائب([128])

9ـ المكان/الطريق:
 بين هنا وهناك، بين المنفى والوطن، ثمة طريق لابد أن يوجد، وأن يُمشى لتحقيق غاية العودة إلى الأرض، ولإنجاز التحرر والاستقرار. من هنا يحوز الطريق هويته، وأهميته في دوال المكان؛ حيث يبدو حاضراً بكثافة لافتة في وعي درويش وفي شعره؛ وكأن الطريق وسيلة وغاية في آنٍ. غير أن تجليات الطريق تتراتب وتتدرج في وعي التجربة وفي وقعها على النحو الآتي:

أـ توحد الشاعر مع الطريق:
وهوطريق يجسد إرادة الشاعر في العودة واتخاذ القرار بذلك: يقول درويش:

وأنا سيحملني الطريق

وسوف أحمله على كتفي([129])

ب ـ الطريقة المفقودة:
وهذه الحالة تكشف عن حالة التيه واليأس من العودة: يقول درويش:

أين

طريقي الثاني إلى درج المدى؟ أين

السدى؟ أين الطريق إلى الطريق؟([130])

ج ـ الطريقة المهلكة:
وهي الطريق التي تجسد مخاطر العودة إلى الوطن ومقدار التضحيات: يقول درويش:

لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق

دم، ومصيدة، وبيد

كل القوافل قبلهم غاصت([131])

د ـ الطريق الطويلة:
وهي طريق تجسد حالة اللانهائي، وعدم الوصول إلى الغاية المأمولة من الطريق؛ حيث إن الهدف بعيد...بعيد. يقول درويش:

"كم البعيد بعيد"؟

كم هي السبل؟

نمشي

ونمشي إلى المعنى

ولا نصل...([132])

وإذ تتفاقم هذه الحالة عند درويش يعمد إلى كثرة الاستفهامات الكاشفة عن القلق في قصيدته"الطريق إلى أين" وكأن الطريق صار عبثا حينما تجاوز الوسيلة ليصبح هو ذاته غاية إلى اللانهائي. يقول درويش:

الطريق طويل إلى أين؟

...........................

كأن الطريق هو الهدف

اللانهائي، لكن إلى أين نمضي، ومن

أين نحن إذن؟ نحن سكان هذا

الطريق الطويل إلى هدف يحمل اسما

وحيدا: إلى"أين"؟([133])

هـ ـ الطريق/الإصرار:
وتكشف هذه الحالة عن إصرار الشاعر على العودة برغم كل الصعوبات فهو سوف يقطع الطريق إلى آخره.يقول درويش:

وسأحمل هذا الحنين

إلى

أولي وإلي أوله

وسأقطع هذا الطريق إلى

آخرى...وإلى آخره!([134])

وـ الطريق الغامضة:
وهذه الطريق تؤشرإلى رغبة الشاعر في تغيير الطريق الواضحة والبحث عن طريق غامضة تحقق غايته؛ لأن الطريق تسد الطريق: يقول درويش:

طريق يسد علىَّ الطريق

فيصرخ بي شبحي:

إن

أردت

الوصول

إلى

نفسك الجامحة

فلا

تسلك

الطريق الواضحة!([135])

ي ـ الطريق المفتوحة:
وهي ذات دلالة مجازية تكشف عن إصرار الشاعر على الحركة الدائمة من أجل تحقيق غايته بالتحرر بعد العودة إلى الوطن المحتل. هكذا يكشف درويش عن دلالة"المنفى المتدرج" وعلاقته بانفتاح الطريق على المجهول. يقول في شهادة له: "لم تنته الطريق لأقول مجازاً،إن الرحلة ابتدأت. فقد تفضي بي نهاية الطريق إلى بداية طريق آخر. وهكذا تبقى ثنائية الخروج والدخول مفتوحةً على المجهول"([136])

10ـ المكان/الجسر:
للجسر تموضع خاص داخل أحيزة المكان، فهو مكان الوصل بين طرفين، بين الطريق الطويل، المهلك..،وبين الوطن الذي هو غاية الطريق، ومأرب العودة. وهو بالغ الحساسية لأنه نقطة التقاء مع النقيضين في آن: الوطن والعدو معا. من هنا حاز الجسر توتره الدرامي العالي، وتمددت دلالاته بين الحقيقة والمجاز، تمددها بين المنفى والوطن، وبين الحياة والموت. ولأنه على هذه الحال وبهذه الماهية، وله فرادة الهوية المكانية المائزة له بين دوال المكان في شعر درويش، فقد تموضع في القلب من هذه الدراسة؛ إذ هو كبدها وغايتها، وهو موطىء التأويل فيها؛ وذلك من خلال قصيدة "الجسر" وما تملكه من قدرة فذة على الانفتاح على كامل التجربة الدرويشية بعامة والمكانية بخاصة. من ثم يُرجأ الحديث عنه لحيز ممارسة التأويل في القسم الثالث من الدراسة.

11ـ المكان بعد العودة:
 حق العودة، وحلم العودة، وطريق العودة...، دوال معبرة بقوة عن الهدف وماهية الغاية: العودة إلى الوطن، أو هو كما يقول درويش:

سأحلم ليلة أخرى

بشارعنا القديم وعودة الأسرى([137])

هكذا ظلت الذكرى تلح على المخيلة، وظل الشاعر، شأنه في ذلك شأن كل اللاجئين، يؤكد لأمه ولغيرها أنهم عائدون، وأن عليهم الانتظار خلف الأبواب الموصدة. وكان حلم العودة يقظا بحركيته وتوثبه وقوة ضغطه على الشاعر وعلى الحبيبة؛ فما تلبث أن تُقربه إلى أقرب وقت، إلى غدٍ:

وأنتِ تقولين لي: بعد غد

أعود إلى وطني

بعد غد!([138])

غير أن هذه العودة بعدما تحققت للشاعر وداهم الواقع تحت الاحتلال، علم أن العودة ـ رغم تحققها ـ مجازية ملتبسة؛ لأنها لم تنجز الغاية. هكذا يبلور ديوان"حيرة العائد" بنصوصه الشعرية والنثرية فاجعة العودة وحيرتها كما في مقال"البيت والطريق". يقول درويش:"هكذا أجد نفسي هنا. لم أذهب ولم أرجع، لم أذهب إلا مجازاً، ولم أعد إلا مجازاً"([139])

لكن الدال الأهم في البعد المكاني بعد العودة، يتجلى في ديوان درويش"لا تعتذر عما فعلت" ومن خلال تصدير الشاعر له بهذين التناصين مع أبي تمام الطائي، ولوركا، على هذا النحو: توارد خواطر، أو توارد مصائر:

لا أنتِ انتِ

ولا الديارُ ديارُ[أبو تمام]

والآن، لا أنا أنا

ولا البيت بيتي [لوركا]([140])

هاتان التوطئتان المتصدرتان لقصائد الديوان كاشفاتان عن أفق التوقع فيه للدال المكاني. فديار أبي تمام، وبيت لوركا، فاجعتان تجسدان فعل التغير السلبي الذي طرأ على المكان وعلى ذات الشاعر. وهو عينه ما حدث مع درويش عند عودته.من ثم استلهم في قصيدته "إن عدت وحدك" عبر التناص، تجربة أبي تمام ليتماهى معها. غير أن الفارق بين تجربة الطائي والدرويش هو الفارق بين فاعلية الزمن ـ محض الزمن- في تغير الذات والديار، وبين فاعلية الاحتلال والقهر، فاعلية الإنسان العدو المغتصب للأرض وللبيت، وللوطن، كما هو شأن درويش. من ثم يقع التألم انبثاقاً من غِيَرِ المكان. يقول درويش:

ألم يفجع أبو تمام قبلك

حين قابل نفسه

لا أنت أنت

ولا الديار هي الديار([141])

لقد عاد الشاعر مفتونا بالحلم وغوايته، لكنه فجع بصلف الواقع وجهامته؛ إذ وجد نفسه في وطنه في مفارقة مؤداها أنه برغم عودته إلى فلسطين، فهو سجين بلا وطن، ولا علم ولا أرض ولا بيت.يقول درويش:

سجين في بلادي

بلا أرض

بلا علم

بلا بيت

رموا أهلي إلى المنفى([142])

و هذا الواقع هو الذي يقود إلى دال المكان/الحصار.

12ـ المكان/الحصار:
في ديوان درويش"حالة حصار"المكتوب في رام الله عام 2002، وفي العنوان تحديداً ما يكشف عن هوية المكان في هذا الحيز الذي يتسع ليشمل رام الله وكل الوطن. والمكان هنا وعاء في وعاء، أي هو المكان الإطار داخل المكان الإطار أيضا. رام الله المحاصرة...وعاء الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة...الوعاء العام للمواطن العربي وللعدو. والمكان هنا قائم على دلالة المفارقة؛ إذ برغم وجود الشاعر في وطنه بعد العودة، فهو منفيٌّ فيه؛ لأنه محكومٌ بالحصار..الشاعر مسجون في وطنه الذي هو فضاء الحرية، أو هكذا ينبغي أن يكون. من هنا يتحول المكان المفارقي إلى فضاء للسجن والأمل معا:

هنا عند منحدرات التلال، أمام الغروب

وفوهة الوقت،

قرب بساتين مقطوعة الظل،

نفعل ما يفعل السجناء

وما يفعل العاطلون عن العمل

نربي الأمل([143])

في هذا الحصار أو في هذا السجن الكبير تتبلور معالم المكان المحاصر عند درويش ليتسم بالسمات الآتية:

أ ـ المكان سجن:
ـ نفعل ما يفعل السجناء([144])

ب ـ المكان حمأة:
ـ قليل من المطلق الأزرق اللانهائي

يكفي

لتخفيف وطأة هذا الزمان

وتنظيف حمأة هذا المكان ([145])

ج ـ المكان زمان:
وفي الحصار يصير الزمان مكاناً

تجحرَّ في أبدهْ

الحصار يصير المكان زمانا

تخلف عن موعده ([146])

د ـ المكان رائحة:
ـ المكان هو الرائحة ([147])

هـ المكان اندهاش:
ـ والمكان يحملق في عبث الأزمنة ([148])

و ـ المكان ثورة:
 يتجلى هذا البعد الثوري الناجم عن حصار المكان في ديوان درويش"ذاكرة للنسيان"؛ وكأن النقيض أفضى إلى نقيضه؛ حيث يعمد الشاعر المُحَاصَرُ حصارَ حصارِه في ثورة غاضبة ترتكز على رؤية حادة: إما أن يكون أو لا يكون:

حاصر حصارك..لا مفر

سقطت ذراعك فالتقطها

واضرب عدوك..لا مفر

وسقطتُ قربك فالتقطني

واضرب عدوك بي، فأنت الآن حرُّ

حرٌّ

وحرٌّ..

قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة

فاضرب بها، اضرب عدوك..لا مفر

أشلاؤنا أسماؤنا. أسماؤنا أشلاؤنا

حاصر حصارك بالجنون

وبالجنون

وبالجنون

ذهب الذين تحبهم، ذهبوا

فإما أن تكون

أو لا تكون([149])

13ـ المكان/ فضاء الولادة:
 يؤشر درويش إلى هذا المدلول في قصيدته"في يدي غيمة"؛ حيث يتحول المكان إلى شقوق تحتوي صرخات الأطفال المولودين، والأشباح الطالعة لتحرير الوطن. يقول درويش:

ـ يولد الآن طفلٌ،

وصرختُه،

في شقوق المكان

........

في آخر الليل وانتظروا

شبحاً طالعاً من شقوق المكان([150])

14ـ المكان/ النفي:
لقد حتمت رؤية الشاعر وثورته وحقيقة التاريخ ضرورة نفي المكان بالنسبة للعدو الإسرائيلي الذي يمثل الحاضر العابر: يقول درويش:

ههنا حاضرٌ

لا مكان له

........

ههنا حاضرٌ

عابرٌ([151])

15ـ المكان/ الخيال:
 إن هذه الأزمة المتفاقمة في وعي الشاعر، وإزاء حالة الالتباس والتيه.. إزاء كل مفارقات الواقع والتاريخ، يصبح الخيال هو مكان الشاعر وفضاءه الفسيح الذي يعيش فيه؛ لأنه هو الحقيقة الوحيدة في حياته. يقول درويش:

فانفتح الخيال

على مصادره، وصار هو المكان، هو

الحقيقي الوحيد([152])

16ـ المكان/ التناقض:
 ويتجلى هذا من حيث كون المكان قائماً على التقابل النقيضي بين مدلولين كقول دريش:

لغتي مجازٌ

للمجاز، فلا أقول ولا أشير

إلى مكان.فالمكان خطيئتي وذريعتي ([153])

وكذلك قوله:

أجسُّك جسَّ الكمان حرير الزمان البعيد

وينبت حولي وحولك عشب مكان قديم ـ جديد ([154])

17ـ المكان/ القطر:
 يتعلق شأن الدال المكاني هنا بالأقطار العربية أو الأجنبية التي ارتادها درويش أو علقت بمخيلته فكتب عنها في شعره. وهذا فضاء مكاني متسع في شعرية درويش يستأهل بحثا مستقلا، وهذا ذاته هو حيثية عدم غفلانه هنا، وضرورة الإشارة إليه لتمام رؤية التصور المكاني في التجربة وفي الدراسة معا.من هنا يتوارد ذكر الأقطار العربية في شعر درويش على هذا النحو:

أ ـ مصر:
ـ في مصر لا تتشابه الساعات...

كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل ([155])

ب ـ الشام:
ـ في الشام أعرف من أنا وسط الزحام

يدلني قمر تلألأ في يد امرأة...علىَّ ([156])

ج ـ دمشق:
ـ في دمشق

تطرِّد أسماء خيل العرب،

من الجاهلية حتى القيامة،

أو بعدها،

...بخيوط الذهب ([157])

د ـ بيروت:
ـ بيروت شمس ومطر. بحر أزرق/

أخضر وما بين اللونين من قربى ومصاهرة ([158])

هـ تونس:
ـ شكراً لتونس أرجعتني سالماً من

حبها. فبكيت بين نسائها في المسرح

البلدي حين تملص المعنى من الكلمات ([159])

إن بوسع الدراسة أن تفيض في جرد هذه الأماكن القطرية عربيةً وأجنبيةً، غير أن هذا الإجراء قد لا يفيد كثيراً في شأننا هذا، كما أن الدراسة لا تحتمل أكثر مما أشارت إلية لاكتمال رؤيتها حول تجليات المكان في الظهورات السالفة. ولعل هذا يؤهل الدراسة الآن لإنجاز القسم الثالث منها وهو: نص التأويل ـ قصيدة الجسر.

3: نص التأويل ـ »قصيدة الجسر«:
3ـ1: وضعية المتن:
 إن متن النص الذي هو مادة التأويل المكاني في هذا الحيز من الدراسة ومختبره، هو قصيدة"الجسر"المأخوذة من ديوان درويش"يوميات جرح فلسطيني". والنص موثق في ديوان محمود درويش المطبوع في بيروت، في دار العودة، سنة1971، وهو يشغل الصفحات من:454ـ461؛ أي إنه يملأ ثماني صفحات كاملة في الديوان تؤثر الدراسة رصدها كما هي على هيئتها التي هي عليها في الديوان حفاظاً على البلاغة البصرية لمتن النص وما قد ينجم عنها من دلالات تأويلية. وتشير الدراسة هنا إلى أنها سوف تعتمد هذا التوثيق الكلي توثيقاً للنصوص الواردة في متن الفعل التأويلي بما يغني عن إعادته في هامش الدراسة، كما أن الدراسة سوف تلجأ إلى ترقيم الأسطر الشعرية في النص التي تبلغ مائة وسبعة أسطر تيسيراً للإشارة إلى المقاطع التي سوف ترصدها الدراسة في النص كما سيتبين لاحقا.

3ـ2: نص المتن:

1ـ الجسر

 2ـ مشياً على الأقدام

 3ـ أو زحفاً على الأيدي نعود

 4ـ قالوا..

 5ـ وكان الصخر يضمر

6ـ والمساء يدا تقود...

 7ـ لم يعرفوا إن الطريق إلى الطريق

 8ـ دم، ومصيدة، وبيد

 9 ـ كل القوافل قبلهم غاصت؛

 10ـ وكان النهر يبصق ضفَّتيه

 11 ـ قطعاً من اللحم المفتت،

12ـ في وجوه العائدين

13ـ كانوا ثلاثة عائدين.

14ـ شيخ، وابنته، وجندي قديم

15ـ يقفون عند الجسر

                           16 ـ ( كان الجسر نعسانا، وكان الليل قبعة. وبعد دقائق

 17 ـ يصلون، هل في البيت ماء؟ وتحسس المفتاح ثم تلا من

 18 ـ القرآن آية.....)

 19 ـ قال الشيخ منتعشاً: وكم من منزلٍ في الأرض

20ـ يألفه الفتى

21ـ قالت ولكن المنازل ياأبي أطلال!

22ـ فأجاب: تبنيها يدان..

23 ـ ولم يتم حديثه إذ صاح صوت في الطر يق: تعالوا!

24ـ وتلته طقطقة البنادق..

25ـ لن يمر العائدون

26ـ حرس الحدود مرابط

27ـ يحمي الحدود من الحنين

28ـ ( أمر بإطلاق الرصاص على الذي يجتاز هذا الجسر.

29ـ هذا الجسر مقصلة الذي رفض التسول تحت ظل وكالة

30ـ الغوث الجديدة. والموت بالمجان تحت الظل والأمطار،

31ـ من يرفض يقتل عند هذا الجسر، من الجسر مقصلة الذي

32ـ ما زال يحلم بالوطن.)

33ـ الطلقة الأولى أزاحت عن جبين الليل

34ـ قبعة الظلام

35ـ والطلقة الأخرى

36ـ أصابت قلب جندي قديم

37ـ والشيخ يأخذ كف ابنته ويتلو

38ـ همسا من القرآن سورة

39ـ وبلهجة كالحلم قال، وعينيه عند النجوم:

40ـ عينا حبيبتي الصغيرة،

41ـ لي، يا جنود، ووجها القمحي لي

42ـ والفستق الحلبي في فمها

43ـ وطلعتها الأميرة، والضفيرة

44ـ لي يا جنود،

45ـ لي كلها، هذي حبيبتي الأخيرة!

46ـ قدموا إليه..مقهقهين

47ـ لا تقتلوها. اقتلوني

48ـ اقتلوا غدها، وخلوه بدوني

49ـ وخذوا فداها

50ـ كلَّ الحديقة، والنقود،

51ـ وكل أكياس الطحين

52ـ وإذا أردتم فاقتلوني!

53 ـ ( كانت مياه النهر أغزر..فالذين رفضوا هناك الموت

54ـ بالمجان أعطوا النهر لونا آخر. والجسر، حين يصير

55ـ تمثالا، سيصبغ ـ دون ريب ـ بالظهيرة والدماء

56ـ وخضرة الموت المفاجىء)

57ـ..وبالر غم أن القتل كالتدخين..

58ـ لكن الجنود الطيبين،

59ـ الطالعين على فهارس دفتر..

60ـ قذفته أمعاء السنين،

61ـ لم يقتلوا الاثنين..

62ـ كان الشيخ يسقط في مياه النهر..

63ـ والبنت التي صارت يتيمه

64ـ كانت ممزقة الثياب،

65ـ وطار عطر الياسمين

66ـ عن صدرها العاري الذي

67ـ ملأته رائحة الجريمة

68ـ والصمت خيَّم مرةً أخرى،

69ـ وعاد النهر يبصق ضفتيه

70ـ قطعاً من اللحم المفتت

71ـ في وجوه العائدين

72ـ لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق

73ـ دمٍ ومصيدة. ولم يعرف أحد

74ـ شيئا عن النهر الذي

75ـ يمتص لحم النازحين

76ـ ( الجسر مقصلة لمن عادوا لمنزلهم، وإن

77ـ الصمت مقصلة الضمير. هل يسمع الكتاب

78ـ تحت القبعات، خرير نهر من دم، أم يرقصون

79ـ الآن في نادي العراة كأن شيئاً لم يكن. ومغنيات

80ـ الحب ـ كالجنرال ـ يشغلهن نخب

81ـ الانتصار ـ؟)

82ـ لكن صوتاً، فرَّ من ليل الجريمة

83ـ طاف في كل الزوابع

84ـ وروته أجنحة الرياح

85ـ لكل نافذة ومذياع وشارع:

86ـ عينا حبيبتي الصغيرة

87ـ لي، يا جنود، ووجهها القمحي لي

88ـ الفستق الحلبي في فمها

89ـ وطلعتها الأميرة، والضفيرة

90ـ لا تقتلوها...واقتلوني"!

....................

91ـ وأضيف في ذيل الخبر:

92ـ كل الذين

93ـ كتبوا عن الدم والجريمة..

94ـ في هوامش دفتر التاريخ، قالوا:

95ـ ومن الحماقة أن يظن المعتدون

97ـ أنهم قتلوا الحنين

98ـ أما الفتاة فسوف تكسو صدرها العاري

99ـ وتعرف كيف تزرع ياسمين.

100ـ أما أبوهم الشهم، فالزيتون لن يصفر من دمه،

101ـ ولن يبقى حزين

102ـ ومن الجدير بأن يسجل:

103ـ أن للمرحوم تاريخا، وأن له بنين!

104ـ (الجسر يكبر كل يوم كالطريق، وهجرة الدم في

105ـ مياه النهر تنحت من حصى الوادي تماثيلا لها لون

106ـ النجوم، ولسعة الذكرى، وطعم الحب حين يصير

107ـ أكثر من عبادة).

3ـ3: فعل التأويل:
3ـ3ـ1: تأويل المساق:
يقصد الفعل التأويلي بالمساق مجموعة البنى الداخلية المكونة للنص في مستوياتها المعجمية والصرفية والنحوية والبلاغية والسردية. ولقد عمد الفعل التأويلي في علاقته بنص"الجسر" إلى تحديد هيكلة النص في مقاطع متتابعة، ومنح كل مقطع منها عنوانا ارتآه مناسباً له في تكثيف معناه والدلالة عليه. من ثم ينبني النص أو يُهيكلُ مقاطعَ وعنونةً على النحو الآتي:

1ـ القرار: من:1ـ4، 2ـ العودة: من: 5ـ12، 3ـ التسلل: من:13ـ22، 4ـ المنع: من:23ـ27، 5ـ القتل:من:28ـ56، 6ـ الاغتصاب:من:57ـ67، 7ـ الديمومة:من: 68ـ75، 8ـ الفضح:من: 76ـ81، 9ـ الإصرار:من:82ـ90، 10ـ البقاء والتحدي من: 91ـ107.

تأسيساً عليه يعمد فعل التأويل هنا إلى اشتغال النص حسب رؤيته المقطعية ذات العناوين السالفة وفق ما يأتي:

المقطع الأول: القرار من: 1- 4
أولاً: التأويل التضافري:
1ـ يكتسب هذا المقطع أهميته في فعل التأويل من دالين مائزين هما:العنوان، والاستهلال، وما لهذين الدالين من أثر في توليد النص وتنميته حتى مصب الختام. ينتصب العنوان"الجسر" في سقف العتبة العليا للنص بهذا الارتسام اللغوي في بناه المعجمية والنحوية، وكأنه دال الدوال، أو الدال النووي الذي يملك مقدرة التناسل والانسراب في تجاويف النص وبين شقوقه يحبِّلُها بالدلالة، ويصبغها بالمعنى، ويشكل رؤاها وتفاعلاتها في امتدادات أو تفريعات شعرية ذات صبغة تمدد موجي دائري يزداد في التعمق والاتساع؛ لكنه يظل رهين المنبع الرئيس الذي يملك خاصية الانبجاس، وفتنة الاشعاع، وهيمنة التأثير.

ولم يكن للعنوان كل هذا التوالد وهذه الهيمنة الدلالية والشعرية من فراغ، وإنما؛لأنه هو ما يمثل هوية النص في جغرافية الديوان، وفي مطلق التجربة الشعرية الدرويشية؛ فالعنوان توسيمٌ وإظهارٌ للنص على غيره من النصوص. وفي هذا تكمن دلالة العلامة المائزة؛ بما فيها من معنى الهوية، وفيه دلالة العلو والرفعة التي تجعل من العنوان قائداً لدوال النص يمنحها من روحه، ولونه، ورؤيته، فتصبغ به وتنتسب إليه؛ لأنه شجرة أصلها ومنبع تشعبها وتغايرها. ومن ثم يمتلك العنوان القدرة على إمداد الفعل التأويلي بزاد مكثف يعين على تفكيك النص؛ إذ "هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية القصيدة"([160]).

بناءً عليه يمكن الوعي بالبعد الوظيفي للعنوان متمثلاً في قدرته على الخطف، والإغراء، والإبهار، والإخبار، والإيحاء، والتعاقد مع القاريء بما يوحيه إليه من مشروع النص وأفق توقعه، وبما يفجره من طاقة شعرية تنبني غالباً على تقنية الحذف، والتكثيف والإشارة اللامحة اللامعة، وهو ما يؤهله للتفلت من التفسير المباشر وقطع الدلالة إلى حيث رحابة التأويل وتعلقه بالمتغيا الإشاري للدال العنواني، فكأن العنوان يغتني ويحتمي بالإرجاء والحذف، واللبس، والمراوغة ليظل منفتحاً على مدارات قرائية قد لا تنتهي.

 في هذا الأفق التأويلي يحدد المعجم معلم الصدارة ليؤشر أن"الجسر" هو" الذي يعبر عليه...ج: أجسرٌ، وجسورٌ، والعظيم من الإبل....والشجاع الطويل، كالجسور، والجمل الماضي، أو الطويل، وكل ضخم...وجَسَرَ الرجل جسوراً وجسارةً: مضى، ونفذ، وجَسَرَ الركابُّ المفازة: عبرتها....واجتسرت السفينةُ البحرَ: ركبته وخاضته"([161])

ويفاد من مادة المعجم أن الجسر الذي هو معبر، وإبل، وشجاعة، وإقدام، ومضي، ونفاذ...، أنه ركوب للخطر، كما هو ركوب المفازة بدلالة المهلكة، وركوب البحر بما يكتنفه من توتر وخطورة تجعل الحياة على حافة الموت؛ فكأن الجسر هو فضاء مكاني يصل بين أمرين أو طرفين متباعدين لتجنب الخطر أو الخلل، وتحقيق النجاة أو الحياة، أو الغاية أيا كانت. وهذا عينه ما يجعل منه فضاءً حركياً متوترا ذا حساسيةٍ خاصةٍ كما هو شأن درويش في عنوانه هذا. غير أن هذه الدلالة الخطرة في المعجم، أو معنى الخطورة في دلالته، هو ما يصل التأويل بدلالة المغامرة، والشجاعة، والجسارة، والمضي، والنفاذ ... ليلتئم جسر درويش بمشروع نصه القائم على ركوب المفازة، وامتطاء الخطر في رحلة العودة إلى الوطن، ومغامرة التسلل ليلاً عبر الجسر الفاصل والواصل في آنٍ بين المتناقضين الجوهريين:المنفى/الوطن، الموت/الحياة؛ ليضعنا العنوان عبر دلالته المعجمية فقط أمام جوهر القضية ومن دون معاظلة.

2ـ من حافةٍ أخرى، فإن البنيتين الصرفية والنحوية تؤشران إلى المحدد والمحذوف في آنٍ.

فالجسر بصيغته التعريفية يدل على شيء واضح ومعلوم، وإن لم يكن معلوماً في الواقع بدقة، فهو معلوم في الرؤية والمخيال. غير أن تقنية الحذف ا لماثلة في البنية النحوية للعنوان تفتح على ضرورة ملء الفجوات فيه: فأي جسر هذا؟ أين هو بالتحديد؟ ما طوله؟ما عرضه؟ ما أطرافه؟ متى بُني؟....إن بوسع الفعل التأويلي أن يسرد عديداً من الأسئلة حول ماهية الجسر، وموقعه، وخصوصيته، وحدود المجاز والحقيقة فيه ... لنصل في نهاية الأمر إلى أن الجسر،إن كان واحداً أو متعدداً، فهو تلك الأداة التي تتموقعُ في النص وسيلةً وغايةً في آنٍ. فإذا قدرنا أن الجسر هو مبتدأ لخبر محذوف يمكن تقديره بأنه طريقنا أو غايتنا؛ فيكون تركيب الجملة على هذا النحو:

الجسر طريقنا، أو الجسر غاية الطريق، أو الجسر وسيلة العبور. أما إذا قدرنا الجسر خبراً لمبتدأ محذوف فإن تقدير الجملة سوف ينبني على هذا التقدير: هدفنا الجسر، أو العودةُ عبر الجسر(شبه جملة) أو العبور على الجسر...إلخ إن فحوى الإضمار أو الحذف في العنوان قد تفتح التأويل على مدار السرد وتغري به عبر بلاغة العنونة وقدرتها على الإيحاء والغواية؛ فكأن هيئة العنوان تحتم السؤال: ما هي حكاية الجسر؟ وفي تطور بنية النص، وفعل التأويل، يقود العنوان إلى الاستهلال لنقف على هذا المطلع:

 مشياً على الأقدام

 أو زحفاً على الأيدي نعود

وللاستهلال شعريته وقواعده المتعارف عليها في عرف النقد القديم والحديث معاً. ولعل أبرز دواله التأثيرية أنه يمثل صدر النص الذي يفجأ العين أو يقرع الأذن فإما يستولي عليها بسلطان غوايته وقدرته على الخطف والاستحواذ، وإما يقع النفور منه فتمجه الأذن، وتعرض عنه العين أو تمر عليه دون أن تلتفت إليه، أو تتملى فيه. من هنا كثر كلامهم قديما من ناحية الإحسان في الابتداء إلى درجة التأنق؛ ليكون كلامه أعذب لفظاً، وأحسن سبكاً، فما من شيء في النص يعقب الاستهلال إلا وله نواة فيه؛ إذ هو يؤسس قواعد النص من حيث اتجاه المعنى، وبناء الرؤية ولون الإيقاع. إنه" يبسط حبلاً دلالياً نمسك به ويعلق أنظارنا ويقلق راحتنا حيناً بالشك والنقص، فهو بمثابة وجه شبه مقنع"([162])

 ولقد حدد ياسين نصير ثلاثة خطوط عامة لبنية الاستهلال في دراسته المخصصة له على هذا النحو:([163])

1ـ محتوى وفن النص الإبداعي يولدان مفردات الاستدلال.

2ـ هذه المفردات تمتد داخل خيوط النص كخيوط السدى لتولد صوراً ومفردات جديدة تشد بقية العمل إلى فكرته المحورية.

3ـ الاستهلال بنية متكاملة ذاتياً، يمكن معاينته منفرداً؛ إذ هو أشبه بالجنين المولود من أبوين، ومع ذلك له عضويته المتكاملة والمستقلة.

هذه القواعد المؤطرة لبلاغة الاستهلال، تمنح الفعل التأويلي مساره في علاقته باستهلال درويش في "الجسر" على النحو السالف لنقف من المعجم فيه على الآتي:

ـ "مشى يمشي: مرَّ، كمشَّى تمشيةً، وكثرت ماشيته، كأمشى، واهتدى، ومنه"نورا تمشون به"([164])

ـ "زحف إليه، كمنع، زحفا وزحوفا وزحفانا: مشى، وزحف الدبا: مشى قدماً. والزحف: الجيش يزحفون إلى العدو، وزحف الصبيُّ: يزحف قبل أن يمشى، وزحف البعير إذا أعيى فجر فرسنه...وتزاحفوا في القتال: تدانوا"([165])

 إن إدراك فعل التأويل لدلالتي: المشي، والزحف، يكشف عن معاني: السير بإقدام إلى الأمام، كما يكشف عن معنى المواجهة مع العدو، والتداني أو التراص في مواجهته، كما يكشف عن بطىء السير لوجود علة تعوق سرعته كزحف الصبي، والبعير المعيا. وهذه الفضاءات الدلالية المعجمية تؤسس للمناخ الحاكم ليس للمطلع حسب، وإنما لمجمل النص لنعلم منذ البدء أننا في رحاب حركة سريعة أو بطيئة متجه إلى مواجهة خطرة مع العدو المرابط على الحدود.

من حافة أخرى، فإن حيوية المطلع تتكىء في جوهرها على التركيب النحوي له الذي عمد إلى كسر النمط الاعتيادي لبناء الجملة العربية إلى حيث تقديم الحال لبذاخة الاهتمام بها، هكذا يتجلى تركيب المطلع:

ـ مشياً على الأقدام: حال+جار+مجرور(متعلق به)+فعل وفاعل متأخران(نعود)

ـ زحفاً على الأيدي نعود: حال+جار+مجرور+فعل+فاعل مضمر.

وأصل الكلام هو: نعود مشياً على الأقدام، أو نعود زحفاً على الأيدي.

على أن دلالة التقديم القائمة على إرجاء الفعل والفاعل مرة لما بعد الجملة الثانية، ومرة لنهاية الجملة، يوميء إلى مقتضى الدلالة التي يقتضيها علم النحو من وضع الكلام حسب مراد عبدالقاهر الجرجاني. فالحال هنا ليست محض دال على هيئة صاحبها، أي ليست إشارة إلى الكيفية فقط، وإنما هي تؤشر إلى حركية صورة المشي أو الزحف وانتصاب المعنى فيها بقوة تجزم بالحسم والإرادة والتحدي لتكشف عن "القرار" الذي اتخذه الأسرى أو المنفيون، أو اللاجئون بحتمية العودة إلى الوطن أيا كانت الوسيلة، أو التضحيات أو الكلفة، أو الزحف المستغرق، أو نوعية المواجهة. إن الأداة "أو " القائمة بين الجملتين لا تفيد التخيير، وإنما تؤكد الإصرار وصلب العزيمة؛ فكأن الشاعر شاء أن يقول: إنا عائدون مشياً على أقدامنا، فإن أعقتم الأقدام، فإن العودة كائنة بالزحف على الأيدي؛ لنقض وهم الاستحالة بعدم العودة. من هنا تكتسب حركية الفعل المضارع فاعليتها في بناء المعنى وتحديد وجهته من الاستهلال إلى النص.

غير أن الفعل"قالوا" الذي تم إرجاؤه لنهاية الاستهلال، وكان حقه التقدم في صدارته،يمثل أمرين:

1ـ حسن التخلص من الاستهلال إلى جسد القصيدة.

2ـ تهيئة النص والمتلقي معاً لفضاء السرد وفتنته لنعرف بدء حكاية الجسر من لحظة القرار بالعودة إلى الوطن عبره؛ وكأن الشاعر يكشف، عبر التأخير المتعمد والتكثيف،عن أهم تقنيات بناء القصيدة في سياقها السردي الدرامي وفي غنائيتها الشفيفة.

ولئن كان التقابل هو محاذاة المعاني بعضها ببعض والتقريب بينها ذهنياً وتأويلياً لإحداث إضاءة لجوانبها وإدراك دلالاتها كما مرَّ تعريفه من قبل، فإن مقطع "القرار" ينبني تقابليا على النحو الآتي:

ثانيا: تقابلات "القرار": (الوحدات الصغرى)
1ـ التقابلات الظاهرة والخفية:
ــــــــــــــــــــــــ

العنوان/ الاستهلال

المشي/ الزحف

الأقدام/ الأيدي

                                       المنفى/ العودة

اللاجئون/ العدو

المأساة/ القرار

2ـ التقابل الداخلي (التوازي الجملي)
ـــــــــــــــــــــــــــ

جملة فعلية/ جملة فعلية

 حال / حال

متعلق به / متعلق به

فعل مضارع/ فعل مضارع

فاعل ضمير جمع مقدر/ فاعل ضمير جمع مقدر

إن تعدد مظاهر التقابل في مقطع القرار على هذا النحو الكثيف؛ إنما يكشف عن الوظيفتين الدلالية والجمالية الحاكمتين لبناء النص في نسقه التواصلي."ويتمثل ذلك في تعدد الأصوات وحركية التعبير، وهذا أبرز خواص السرد الشعري على مستوى التكوين اللغوي المباشر؛ حيث تؤدي إلى تعدد الفواعل وتشير إلى تباين عوالمهم المتصادمة؛ الأمر الذي يفضي بدوره إلى تجسيد المشهد وتقديمه لغوياً من زوايا عديدة"([166]) وهذا ما يجعل المقطع الاستهلالي مؤسساً لفضاء النص وراسما لمعالمه ولحدود شخصياته كما سنرى لاحقا.

2ـ المقطع الثاني: العودة: من: 5 – 12
أولا: التأويل التضافري:
1ـ يمثل هذا المقطع بداية رحلة العودة بعد اتخاذ القرار الحاسم بها. وبذا يكون النص مبنياً دلائلياً وسردياً وفق التراث المنطقي القائم على فقه الأوليات وما يعقبها في نسق متسلسل يحكمه السرد في بنيتي الحكي والوصف. غير أن المقطع يحوي ثلاث كلمات تجعل العودة إلى المعجم ضرورة دلالية فوق كونها ضرورة منهجية. هذه الكلمات هي: الطريق، مصيدة، بيد، لنجد الآتي:

ـ "الطرقةُ: بالضم: الظلمة، والطمع، والأحمق، وحجارة بعضها فوق بعض، والعادة، والطريق، والطريقة إلى الشيء، والطريقة في الأشياء"([167])

ـ "الصيدانة: الغول، والسيئة الخلق، والكثيرة الكلام، والصيداء: الأرض الغليظة...والمصْيَدُ والمِصْيَدَةُ..والمَصيدة كمعيشة: ما يصاد به"([168])

ـ " بادَ يبيدُ بواداً وبياداً وبيوداً وبيدودةً: ذهب وانقطع، وبادت الشمس بيوداً: غربت، والبيداء: الفلاة، ج: بيد"([169])

 وتفيد دلالات المعجم في تعميق معنى السلب أو الهلاك والفناء في الكلمات الثلاث. فالظلمة...والحجارة وعلاقتها بالطريق تفضي إلى التيه وعدم البصيرة، وإلى التعثر والصعوبة لعدم الاستواء. ومن دلالات الطريق المعروفة في مجاز العرب أنها تسمى: البالعة؛ لأنها تبلع من يدخل فيها بلا انتهاء؛ فإذ يدخل الطريق آلاف البشر كل يوم يدركهم التيه والغياب. وهذا يقرب دلالة الطريق في فضاء النص من دلالة"المصيدة" التي هي"غول"، و"أرض غليظة" و"المرأة السيئة الخلق" غير أن الهلاك الكائن في"المصيدة"قائم على الغواية والخديعة؛ فهي "فخ" نُصِبَ للمصاد حتى يوقع به. وهي في النص تتجلى أداة للإمساك، والإيقاع، والمنع، والقتل.من ثم ستتحول المصيدة فيما بعد في النص وفي علاقتها بالطريق، وبالجسر إلى"مقصلة". وأما الـ"بيد": فهي الصحراء المهلكة التي ترتكز على دلالة الغياب أو التغييب لمن يركبها، أو دلالة المنع للبعد كما في قول المتنبي:

أما الأحبة فالبيداء دونهم: فليت دونك بيداً دونها بيد ([170])

2ـ تؤصِّل دلالة المعجم السالفة للدلالة النحوية عبر التركيب الجملي القائم بكثافة على الجمل الاسمية وما يدخل عليها من نواسخ بالأفعال"كان" وبالحروف"إن" لنتأكد أن الرحلة التي تروم العودة إلى الوطن كان طريقها صخراً، وكان زمانها ظلمةً تتحكم في قيادتها يد المساء. ويبدو الزمن الليلي هنا دالاً بقوة، كما أن المكان الصخري دال بالقوة ذاتها على ممكنات الفناء في الطريق. وهذه الدلالة تتأتى من الأسلوب الخبري المرتكز على دلالة التأكيد بالأداة "إن" وعلى دلالة التقرير والثبات في بناءات الجمل الاسمية المشكلة لبنية المقطع لتلتحم مع "الدم" والخديعة الغادرة في "المصيدة"، ومع الفناء الكائن في البيد. غير أن هذا المعنى يبلغ تمامه مكانياً وزمانياً بقوله:

كل القوافل قبلهم غاصت

لنقف على تمدد المعنى تاريخياً في الماضي البعيد الذي هلك فيه العائدون في قوافلهم فغاصوا في الصحراء تيها وموتاً، وهو ما يتأكد بدلالة الغرق والبصق التي يمارسها النهر الذي عليه الجسر؛ حيث يصدم العائدين بجثث الموتى. وبه فإن البناء النحوي للمقطع يرتكز على الجملة الاسمية المنسوخة على هذا النحو:

1ـ فعل ماض ناسخ+اسم+خبر

2ـ حرف ناسخ+اسم+خبر

3ـ مبتدأ+خبر

3ـ من حافة أخرى فإن مستوى الانحراف في النص بالغ التأثير في تكوين المعنى وإحاطته بوهج الجذب والفتنة عبر الإسناد النحوي. وحسب جاك دريدا فإنه" مع كل استعارة من أي نوع، لابد من وجود شمس في مكان ما، ومتى تسطع الشمس تكن الاستعارة قد بدأت معها"([171]) من هنا تتجلى بلاغة المقطع على النحو الآتي:

ـ الصخر يضمر استعارة مكنية

ـ المساء يد تقود استعارة مكنية

ـ القوافل غاصت استعارة مكنية

ـ النهر يبصق ضفتيه استعارة مكنية

ـ الطريق دم، مصيدة، بيد تشبيه بليغ

4ـ يمثل المقطع المتوالية المؤسِّسة للحكاية في فضاء السرد الذي يتكىء عليه درويش في بناء القصيدة، وفي مجمل التجربة؛ إذ يبدو لقارىء درويش أن"تعويله على السرد كان سمة من أبرز السمات التي ميزت تجربته الشعرية التي امتدت على مدى ما يقرب من نصف قرن"([172]) وإذا كانت فنون السرد فنونا زمنية بحدود قصوى فإن المقطع يستثمر حيثية الزمن بكثافة عالية في إطار علاقات الماضي والحاضر والمستقبل. من هنا نفهم مدلول الحكاية في قوله: قالوا...، وماضيها في: كان الصخر...، كل القوافل قبلهم..، كان النهر..، لكن الماضي الذي يغور في البعيد يوّلد الحاضر؛ فالرحلة كائنة الآن في مضارب البيد والفلوات، وهي متجهة إلى المستقبل الماثل في العودة المرجوة إلى الوطن. لكن هذا البعد السردي الزمني يُضفر بالبعد الوصفي الذي يبطىء حركة السرد وحركة الزمن في آن؛ لتبدو الرحلة ثقيلة بهمِّها وقلقها ومخاطرتها. إن الوصف والتعليل (لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق دم...)الكائنين في ثنايا السياق السردي يعمدان بالجنوح بالدلالة إلى الغنائية والدرامية؛ لتبدو الأحداث آخاذةً آسرةً لنعي حدود امتزاج دوال المكان والزمان بالشخصيات الماثلة في صلب حكاية العودة، وفي كبد أحداثها على نحو ما سلف.

ثانيا: تقابلات العودة: (الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية:
ـــــــــــــــــــــــ

العائد / الطريق

الصخر / السهل

المساء / الصباح

النجاة / الهلاك

القوافل تسير/ القوافل غاصت

النهر ماء وحياة/ النهر يبصق ضفتيه بالجثث

الحياة/ الموت

المكان/ الزمان

2ـ التقابل المختلط: (التوازي الجملي)
 ونقصد بالتقابل المختلط هنا هو ذلك النوع من الجمل الذي يتركب من جملة اسمية: المبتدأ فيها اسم والخبر جملة فعلية؛ حيث يقع الاختلاط التركيبي في تكوين الجملة الواحدة فتصبح لاهي محض تقابل داخلي(نوع من الجمل) ولا محض تقابل خارجي (تقابل الجملة الاسمية مع الجملة الفعلية)

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

جملة اسمية جملة اسمية

(فعل ناسخ+اسم+خبر جملة فعلية) / (فعل ناسخ+اسم+خبر جملة فعلية)

(مؤكد+اسم+خبر مفرد) / (مبتدأ مؤكد+خبر جملة فعلية)

ويقود هذا الوضع التقابلي إلى تأويل المقطع الثالث.

3ـ المقطع الثالث: التسلل: من: 13 – 22
أولا: التأويل التضافري:
1ـ يقول درويش في قصيدته"يوميات الحزن العادي"وهي عنوان واحد من دواوينه المتأخرة:

 كل عودة تسلل.هذا هو حظ العرب.([173])

ويصلح هذا السطر الشعري من أحزان درويش إطاراً يعنون المقطع الثالث من قصيدة"الجسر"؛ حيث تصل شخصيات الرحلة العائدة إلى الوطن، إلى "الجسر" القابع على النهر والفاصل والواصل بين كل المتناقضات بدءاً بالضفتين، ومروراً بالمنفى والوطن ووصولاً إلى حدود الشرق والغرب مكانياً، والماضي والحاضر تاريخياً، والحياة والموت وجودياً. وإذ يصلون الجسر يعمدون إلى التسلل عليه وفيه ومنه إلى الضفة الأخرى؛ فهو وسيلة العبور والنجاة، وهو مكمن الخطر والمغامرة والموت. في هذا الفضاء تتعامد دوال المكان لتتكثف في الجسر تنطلق منه وتعود إليه، فهو المكان البؤرة وهو المكان المهيمن، وهو المكان النووي، وهو المكان التناقضي. الجسر مكان الأمكنة في النص وهذا عينه ما يحدد مكانيته فيه، كما تتعامد عليه في الآن ذاته دوال الزمان في سياق موحد يصنع، عبر التضافر، أجواء التسلل الذي هو الحدث المركز في النص. غير أن المقطع يؤشر إلى فاعلية كلمتين مهمتين هما: المنازل، الأطلال. والكلمتان ليستا غامضتين من حيث دلالة المعجم فدلالة المنزل معرفة، بمعنى مكان الحل والإقامة. ورد في المعجم:

ـ "النزول: الحلول. ونزلهم، ونزل بهم، ونزل عليهم ينزل نزولا ومنزلا: حلَّ"([174])

وللمنزل مكانة خاصة في مخيلة الشعر العربي. من ذلك قول المتنبي في مطلعه الشهير:

لك يا منازل في القلوب منازل: أقفرت أنت وهن منك أواهل ([175])

لكن المنزل، وهو الفضاء المكاني شديد الخصوصية، يفتح الدلالة على "الطلل"؛ إذ هو جزء منه ودال عليه. ورد في المعجم:

ـ "الطلل محركة: الشاخص من آثار الدار....ج: أطلال وطلول"([176])

لكن الكلمتين تفتحان على دال استراتيجي في فضاء الشعر العربي في الجاهلية وما بعدها بقدر غير يسير؛ حيث حازت الأطلال والوقوف عليها مساحة رئيسة في بنية القصيدة العربية حتى إنها كادت تحتكر المطالع في جلِّها، ولعل أشهرها قاطبة أطلال امرىء القيس في بكائيته الأسرة في مطلع المعلقة: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". ولعل هذه الدلالة التي يمتزج فيها المنزل بالطلل تجسد حالة زمنية مفارقة بحسها الدرامي المرتبط بصراع الأزمنة بين الماضي والحاضر، ما كان وما هو كائن الآن، وارتباط ذلك بالعشق والذكرى. وهو عين ما أشَّر إليه درويش في مقطع التسلل ليزيده وهجا ودرامية وتوترا؛ إذ يقول:

قال الشيخ منتعشاً: وكم منزل في الأرض

يألفه الفتى

قالت: ولكن المنازل يا أبي أطلال!

2ـ ينبني المقطع تركيبياً على التضافر بين نوعي الجملة الاسمية والفعلية. وكما تبدو الأساليب متنوعة بين الخبر والإنشاء، والسرد والوصف، وفي حوارية متوترة مشوبة بالحذر والترقب كما هي مفعمة بالأمل والألم معاً على ما صار من شأن البيوت التي أضحت أطلالاً شاخصة. من هنا يتجلى التركيب النحوي على هذا النحو:

1ـ جملة اسمية: فعل ماض ناسخ+اسم+خبر مفرد:

[كانوا ثلاثة عائدين ـ كان الجسر نعسانا ـ كان الليل قبعة]

2ـ جملة اسمية:حرف ناسخ+اسم+خبر مفرد:

[لكن المنازل يا أبي أطلال]

3ـ جملة اسمية استفهامية: أداة استفهام+جار ومجرور(خبر)+مبتدأ مؤخر:

[هل في البيت ماء]

4ـ جملة فعلية: فعل+فاعل+متعلق ظاهر أو محذوف:

[يقفون عند الجسر ـ يصلون..]

إن الدلالة المأمولة من نحوية المقطع هي الكشف عن التنوع التركيبي والأسلوبي بين الاسمية والفعلية والخبر والإنشاء لاستحضار حالة القلق والتوتر التي تجتاح المتسللين عبر الجسر إلى منازلهم المدمرة.

3ـ يتجلى المستوى البلاغي في المقطع دالاً بقوة، أو هو كبد الدلالة ورأس المعنى. يتبين ذلك في الآتي:

1ـ السطوع الاستعاري في قول درويش:"الجسر نعسان، الليل قبعة" وهاتان الاستعارتان مشخصتان لمعنى التسلل ومحفزتان عليه؛ فكأن الشاعر يمنح النص ومتلقيه حيثيات التسلل وممكنات الإغراء به ممهداً للتورط في المأساة فيما بعد. غير أن ركناً أصيلاً من بلاغة المقطع لا يكمن في الأسلوب الإنشائي، ممثلا في:"كم، وهل"، وإنما أهم منه، في قدرة المقطع على التناص الرشيق مع دوال المنزل والطلل بما لهما من إرث دلالي وروحي وجمالي عميق في الذاكرة الأدبية العربية. ويتجلى فعل التناص في:

1ـ التناص مع أبي تمام حبيب بن أوس الطائي في مقطعه الشهير:

البين جرعني نقيع الحنظل: البين أثكلني وإن لم أثكل

ما حسرتي أن كدتُ أقضي إنما: حسرات نفسي أنني لم أفعل

نقل فؤادك حيث شئتَ من الهوى: ما الحبُّ إلا للحبيب الأول

 كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى: وحنينه أبداً لأول منزل ([177])

وقوله أيضا:

 ولقد سلوتُ لو أن داراً لم تلح: وحلُمت لو أن الهوى لم يجهلِ

 ولطالما أمسى فؤادُك منزلاً: ومحلة لظباء ذاك المنزل ( [178])

2ـ التناص مع الأطلال. وهذا دال يفتح النص على مدلول واسع في جغرافية الشعرية العربية في أمدائها كافة، تكتفي الدراسة هنا بالإحالة إليه.

4ـ يبدو المقطع سردياً درامياً عبر الحكي والصراع والتوتر. فلقد حدد الشاعر شخصيات المغامرة بثلاث: الشيخ، الابنة، الجندي القديم. وهي شخصيات دالة على التفاوت العمري، والنوعي، والوظيفي. لكن الشخصيات الثلاث تتضافر عبر تقنيات الأداء في بناء المعنى السلبي، حيث يقع الانتهاك والموت عليهم جميعا. وإذا كان الشاعر قد وظف تقنية السرد في حكي الأحداث عبر مفهوم الراوي العليم العارف والفاهم لكل شيء، فإنه اتكأ على اصطناع الحوارية المباشرة بين الشيخ وابنته ليؤكد تعدد الفواعل، وتنوع الأصوات، وهو ما يعمق الدرامية بصراعها، ويبعد عن الذاتية والمباشرة ليتماهى المتلقي مع توتر اللحظة الفاصلة في التسلل.

ثانيا: تقابلات التسلل: (الوحدات الصغرى)
1ـ تقابلات الثنائيات الظاهرة والخفية
ــــــــــــــــــــــــــــ

الطريق/ الجسر

الرحلة/ الوصول

الغطاء/ الانكشاف

الظهور/ التسلل

النوم/ اليقظة

البيت/ المفتاح

المنازل/ الأطلال

الهدم/ البناء

الأرض/ الألفة

الخوف/ الأمل

المغامرة/ الحذر

2ـ التقابل التركيبي
ـــــــــــــــــــــ

1ـ جملة اسمية / جملة فعلية

[فعل ناسخ+اسم+خبر مفرد] [فعل+فاعل+متعلق]

2ـ جملة اسمية/ جملة فعلية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[حرف ناسخ+اسم+خبر مفرد] [فعل+فاعل+متعلق محذوف]

هكذا يبدو التأويل التقابلي كاشفا عن المشهد النصي في دقة بالغة تلامس عناصر الإثارة والدراما والتشويق فيه؛ دلالة تمزج بين تعدد الفواعل وشفافية البعد الغنائي للشعر الدرويشي.

4ـ المقطع الرابع: المنع: من:23 – 27
أولا: التأويل التضافري:
1ـ يتحدد هذا المقطع صغيرا في جغرافية النص؛ لكنه مفصلي في تطور الأحداث ونقل النص من الإيقاع البطيء إلى حيث المفاجأة والسرعة المباغتة، وهو ما يبعث على الدهشة والخطف. وحسب الفعل التأويلي المُكث القليل عند دلالة "الصياح، والطقطقة" لندرك من أمر المعجم فيهما ما يأتي:

ـ "الصيح، والصيحة والصياح: الصوت بأقصى الطاقة،...وصيح بهم: فزعوا، وصيح فيهم: هلكوا، والصيحة: العذاب"[179] إن دلالة المعجم تدعم فعل الخشونة، والغضب، والهلك،..وكلها دلالات قاتمة تفاقم معنى العذاب والموت. ومن ذلك قوله تعالى:" وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين"([180]) وهو معنى متكرر في القرآن الكريم في سور أخرى منها: الحجر، المؤمنون. وفي شأن"الطقطقة": لا نجد في المعجم إلا هذا: طقْ: حكاية صوت الحجر، والاسم: الطقطقة. وطق: صوت الضفدع يثب من حاشية النهر"([181])

على أن ما يهم التأويل في هذه الدلالة المعجمية هو استلهام دلالة الصوت وربطها بفزع الصيحة، وإدراك دلالة الوثب المفاجيء من جهة النهر أو الجسر وربطها بإحداث الصدمة والإرباك على المتسللين الممتلئين بالأمل. وهذا هو بيت القصيد في مقطع درويش القائم على تجسيد المنع؛ لأن الطقطقة المحدثة ناجمة عن صوت الرصاص الآتي من العدو المرابط وليس صوت الحجارة.

2ـ يتشكل المقطع تركيبيا من جمل فعلية قصيرة، ومتوالية في إيقاع يعكس سرعة الحدث وفجأته للعائدين. وتتنامى هذه الجملة متصاعدة بالدلالة إلى حيث قرار المنع المطلق بصيغة النفي المستقبلي:

لن يمر العائدون

ويزداد هذا المعنى بختام المقطع بجملة اسمية تعلل المعنى وتمنحه منطقه إذ:

حرس الحدود مرابط

يحمي الحدود من الحنين

وإذ تحمل الجملة دلالة الثبات من التركيب الاسمي في المبتدأ والخبر، تحمل في الحال المكملة لها دلالة الهيئة القائمة على دلالة السخرية؛ لأن الحرس لا يمنع الأرض من العدو، وإنما يمنعها من أصحابها"من الحنين" وهذا لب المأساة في النص. من هنا يتأطر التركيب في البناء الجملي على النحو الآتي:

1ـ خمس جمل فعلية ذات أزمنة مختلفة: مضارع منفي+ماض+أمر+ماض+مضارع منصوب دال على النفي+الفواعل+المفعولات.

2ـ جملة اسمية: مبتدأ+خبر+جملة حال في محل نصب تجسد المفارقة.

ويبقى هذا المقطع مفيداً من الدلالة الصوتية في الصياح، وفي النداء المفاجيء(تعالوا) وفي التكرار الصوتي المقطعي في الطقطقة بما يشحن المشهد بالشعور الفوار والإحساس المتوتر لانكشاف أمر العائدين.

3ـ تتكىء بلاغة المقطع على التنوع الأسلوبي بين الخبر والإنشاء، كما تعتمد على سرعة الإيقاع الدلالي في بناء المشهد. غير أن الاستعارة القابعة في ذيل المقطع تكشف عن تفاقم المرارة لدى الشاعر؛ إذ يتحول الحنين إلى عدو يقتله العدو المغتصب للأرض وللوطن، وفي هذا ما فيه من الأسى والالتياع

4ـ يتجلى الإيقاع السردي في المقطع سريعاً للغاية يخضع لتقنية الحكي الكثيف من دون وصف؛ لأن النص يعتمد بناء الأزمنة وضفرها في أبعادها الماضية والحاضرة والمستقبلية من دون هوادة. كما أن الشخصيات تتوارى نسبيا لحساب الأدوار والأحداث التي تطغى على المشهد بكثافة باذخة تؤكد التنبؤ، وتوظف التقابل الساخر.

 ثانيا: تقابلات المنع: (الوحدات الصغرى)

1ـ تقابلات الثنائيات الظاهرة والخفية
ـــــــــــــــــــــــــــ

التمام/ النقصان

الصياح/ النداء

المرور/ المنع

الحدود/ الوطن

العائدون/ العدو

الحراسة/ الحنين

2ـ تقابلات الخارج
ـــــــــــــــــــ

جملة فعلية قصيرة ومتنوعة/ جملة اسمية

[سرد، أمر، تقرير، نفي] [مبتدأ+خبر+جملة حال]

5ـ المقطع الخامس: القتل: من: 28 – 56
أولا: التأويل التضافري:
يمثل هذا المقطع ذروة سنام الرحلة، وتمام تفاقم الأزمة؛ إذ قد وقع المحذور، وتبدد الأمل، وضاعت معه الحياة كما ضاع الوطن من قبل. ويبدو المقطع قاتماً بظلال الموت الداكنة وكابوس القتل المطبق على الأجواء والتفاصيل في كل أرجائها بدءا بالأمر المباشر بإطلاق الرصاص على من يجتاز هذا الجسر، مروراً بقتل الجندي القديم، ثم قتل الشيخ والد الفتاة وقتل شرفها، مع تكرار مفردة الموت بالمجاز تارة، وبالمفاجيء تارة أخرى، وهو ما يضاعف القتامة والدراما ويعمق الفاجعة.

على أن اللافت لفعل التأويل من حافة المعجم في المقطع هو مفردتان هما: المقصلة، والقهقهة. وفيهما يورد المعجم الآتي:

ـ" قصله يقصله: قطعه، كاقتصله، فانقصل واقتصل...وقصل عنقه: ضربها...وسيف قاصل: قاطع، ولسان مقصل: ماض"([182])

ـ "قهقه: رجع في ضحكه، أو اشتد ضحكه، كقَهَّ فيهما، أوقهَّ: قال في ضحكه قهْ، فإذا كرره، قيل قهقه"([183])

إزاء هاتين الدلالتين المتفاقمتين ينجز التقابل النقيضي وظيفته في بناء المعنى الحاكم لخيوط المشهد والمقطع فيشدها إليه بإحكام الغازل أو الناسج فلا يكاد يُرى من خلل خيوطه إلا آثار الدم والقتل والفناء، في إطار الفرح والضحك والسخرية والقهقهة، وهذا هو لب التناقض وجوهر المأساة المشكل للمعنى في المشهد وفي المقطع وفي النص، وفي قلب تجربة درويش الشعرية والحياتية، وفي كل القضية الفلسطينية بإطلاق؛ حيث انتصاب المفارقة في أعلى تجلياتها المتناقضة كتفارق الموت والحياة.

2ـ ينبني المقطع تركيبياً على التقابل الخارجي؛ حيث ينقسم إلى قسمين:

الأول: مشهد العبور على الجسرتسللاً إلى الوطن. وهذا المشهد تتتابع فيه الجمل الاسمية في إيقاع حاسم جازم سريع يكشف عن حسم المتسللين لقرارهم بالعبور، وعن حسم الجنود لقرارهم بإطلاق الرصاص عليهم. وهنا يتجلى الدال المكاني"الجسر" فضاءً لمسرح الأحداث. من ثم يرد على هذا النحو:

ـ أمر بإطلاق الرصاص على من يجتاز هذا الجسر.

ـ هذا الجسر مقصلة الذي رفض التسول.

ـ من يرفضه يقتل عند هذا الجسر[جملة شرطية]

ـ من الجسر مقصلة الذي مازال يحلم بالوطن.

ثم تتتابع الجمل الاسمية في إيقاع سريع مركبة من: مبتدأ+خبر جملة فعلية:

ـ الطلقة الأولى أزاحت...

ـ الطلقة الأخرى أصابت...

أو: مبتدأ+جار ومجرور(شبه جملة) خبر:

ـ عينا حبيبتي...لي...، وجهها القمحي لي، الفستق الحلبي...لي، كلها لي.

الثاني: مشهد القتل؛ حيث تنبني فيه الجمل بناء فعلياً متتابعاً ومتنوعاً بين الماضي والأمر، والنهي، في سياق دلالي درامي يجدل من ضفيرتي التوسل والاستهزاء في آنٍ في مفارقة صراعية تجسد الضعف والقوة في ذروة جبروتها:

ـ قدموا إليه...مقهقهين

وهذه الجملة الحالية جملة وصفية تجسد حركة الجنود الإسرائيليين المسرعة وهيئتهم الساخرة فاضحةً أخلاقهم السيئة في التعامل مع العائدين إلى وطنهم.

3ـ تقوم بلاغة المقطع على عدة مستويات هي:

الأول: البلاغة البصرية المتعلقة بتفضيء المقطع وهيكلته طباعياً في جسد النص وعلى بياض الصفحة. فمن هذه الحافة كتب المقطع على هذه الشاكلة:

فقرة مكتوبة بخط صغير وموضوعة بين قوسين، وكأنها وصف تعليقي على مجريات الحدث.

ويمثل هذا التفضىء الطباعي نوعاً من المسرحة في عرض الحدث؛ حيث يعمد الشاعر إلى قطع وتيرة السياق والنص معاً بخروج مفاجىء ليعطي بياناً أو ينجز تعليقاً بوصف الأحداث، فكأنه عملية قطع ومونتاج لتسلسل الأحداث حسب رؤية الراوي/الشاعر. ولا شك أن هذه التقنية في البلاغة البصرية تحول النص من التدفق الشفاهي السماعي إلى التأني البصري؛ الشأن الذي يصنع التؤدة ويمليها إملاءً على المتلقي من غير رتابة ولا ملل.

الثاني: مستوى الانحراف القائم على البناءات الاستعارية والتشبيهية في النص من ذلك:

ـ الجسر مقصلة.

ـ الطلقة الأولى أزاحت عن جبين الليل قبة الظلام.

ـ اقتلوا غدها.

ـ خضرة الموت المفاجىء.

وتتجلى الصور قتالية بإطلاق: المقصلة، الطلقة، القتل، الموت المفاجىء، وهي صور تُنمِّي بناء المعنى الكلي في القصيدة وتصنع منه كوناً نصياً متماسكاً. ولعله من الأهمية أن نلحظ هاتين الصورتين في مقطعين مختلفين من القصيدة:

1ـ الطريق دم ومصيدة وبيد.

2ـ الجسر مقصلة.

إن العلاقة بين الطريق والجسر كائنة؛ إذ إن الجسر هو غاية الطريق، أو هو جزء من الطريق المؤدي إلى الوطن. لكنه جزء يشكل بمفرده غايةً؛ حيث إن اجتيازه هو المحك الأهم في رحلة العودة إلى الوطن، والنجاح في تجاوزه هو نجاح في تجاوز الموت عينه. وإذا كان الجسر تطوراً رأسياً في سيرورة الرحلة، فإن المقصلة هي تطور دلالي باذخ في دلالة المصيدة، والدم والمهلكة. وبهذا يبدو النص متنامياً بعنف صوب غايته عبر التشكيل الصوري له.

الثالث: إن التراكيب الكنائية الماثلة في المقطع، تسهم في بناء المعنى وتجلية القصيدة، من ذلك قوله:

ـ كانت مياه النهر أغزر.

ـ أعطوا النهر لونا آخر.

ـ الموت بالمجان.

وهذه التراكيب الكنائية تؤشر إلى كثافة الموت، وكثافة القتل، وكثافة العبث الإسرائيلي في آن.

الرابع: ملأ الفراغات: مثال ذلك قول درويش في المقطع:

ـ والشيخ يأخذ كف ابنته ويتلو

همساً من القرآن سورة...

إن دلالة الحالية الناجمة عن هيئة الهمس التي ينتصب فيها الشيخ لاتفتح أفق المعنى على الخوف والتوتر والضعف فحسب، وإنما تومىء إلى ضرورة اشتغال التوقع لإدراك المهموس به من القرآن في مثل هذا الموقف. وهذا الاشتغال هو بلاغة القارىء أو المؤوِّل، وهو اشتغال نسبي احتمالي لا يقين فيه؛ ليظل النص مفتوحاً على العديد من الرؤى المتوقعة لهمس شيخٍ خائفٍ على حياته وعلى ابنته من بطش عدو مستبد. فماذا كان يقول الشيخ؟ أتراه قرأ قوله تعالى:" وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سداً فاغشيناهم فهم لا يبصرون"([184])

متوسلاً ببركة سورة يس، أم تراه قرأ المعوذتين أو إحداهما...، إن النص مدارٌ ثرٌّ للتوقع، وهذا ركن أصيل من بنائه، وتقنيته، وبلاغته.

4ـ يؤدي البناء السردي في المقطع دوراً حيويا للغاية في معايشة المعنى وتذوقه، والإحساس به، فالمقطع مفعم ـ على غير العادة في النص ـ بالشخصيات ممثلة في:

الجنود، الشيخ، الجندي القديم، الابنة، وكالة الغوث، اللاجئون. وتتجلى هذه الشخصيات فاعلة في المشهد السردي عبر الأدوار المنجزة في إيحاءاتها القريبة والبعيدة: فالجنود هم رمز الاستبداد والطغيان، والشيخ يؤشر إلى الشعب العربي العجوز أو الضعيف، والجندي دال على الجيوش العربية التي ما حركت ساكناً تجاه مأساة الفلسطينيين ومنيت بهزائم مخزية، فالجندي لا حراك له في المشهد، وكأنه جاء ليقتل لا غير، والفتاة تتماهى مع فلسطين...وهكذا يمكن للتأويل أن يؤشر إلى هذا المعنى أو ذاك الرمز. غير أن سردية المقطع تنبني في جلها على الوصف والحوار أكثر من انبنائها على الحكي التتابعي، وهو الشأن الذي يكاد يوقف حركة السرد فيه، ويجعلها جد بطيئة مستعيضاً عن ذلك برشاقة الحوار والحيوية الدرامية الناجمة عن توتر الصراع بين الفواعل فيه. ويبقى المكان هو الدال السردي الأهم في هذا المقطع، وفي القصيدة كلها، بل في التجربة الدرويشية برمتها كما أسلفت الدراسة من قبل في فرضها، وفي رحلتها التأويلية. فالجسر هنا هو مكان الأحداث، أي هو مسرحها ومفجرها، ومنميها، وهو حلقة الوصل لأوصال القصيدة؛ حيث كان الجسر نعساناً من قبل فصار الآن مقصلة. وهو في الحالين موظف شعريا وسرديا بدقة بالغة. كما أن النهر وهو فضاء مكاني تحت الجسر ومتعلق به، معمق للحدث بغزارة الدماء فيه وحمرة لونه. فيما يبدو الزمن واقفا في فضاء الليل يحتوي الأحداث في وصفيتها وحواريتها وتوترها الدرامي الغنائي الشفيف.

ثانيا: تقابلات القتل:( الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية
ــــــــــــــــــــــــ

الجـسر نجاة / الجسر مقصلة

الحلم / الواقع

التسول/ الأنفة

الظلام/ الضياء

الجندي القديم/ جنود العدو

الخوف/ الطمأنينة

3ـ تقابل التراكيب
القسم الأول / القسم الثاني

تقابل مختلط / تقابل داخلي

جملة اسمية قصيرة/ جملة فعلية قصيرة

ـ مبتدأ+خبر جملة فعلية/ فعل+فاعل+مفعول به.

ـ مبتدأ+خبرشبه جملة / فعل+فاعل+متعلق.

6ـ المقطع السادس: الاغتصاب: من: 57 – 67
أولا: التأويل التضافري:

1ـ يُعد هذا المقطع تطويرا للمقطع السابق وتفصيلا له؛ حيث التأكيد على قتل الأب وإلقائه في مياه النهر تحت الجسر على يد الجنود، بينما تم اغتصاب البنت عبر تمزيق ثيابها وتعرية صدرها الملوث برائحة الجريمة:

والبنت التي صارت يتيمه

كانت ممزقة الثياب،

وطار عطر الياسمين

عن صدرها العاري الذي

ملأته رائحة الجريمة.

ولئن كان الأب قد قُتل مادياً، فإن الفتاة قد قُتلت معنوياً بقتل شرفها وانتهاك عفتها بفعل اغتصاب الجنود لها. من ثم أصبحت هي الدال الأهم في المقطع لتُراكمَ، في تكثيفٍ، جرائم العدو الإسرائيلي. وتبدو المفردات دلالياً واضحة ليست في حاجة إلى تأويل معجمي أو صرفي.

2ـ تم نسج المقطع تركيبياً بمهارة الضفر بين نوعي الجملة: الاسمية والفعلية، في سياق تقابلي اختلاطي متوازن؛ يضمن رشاقة المعنى، وحركية التركيب ومرونته، وتدفقه. وتتجلى بناءات الجمل على النحو الآتي:

ـ جملة اسمية: فعل ناسخ أو حرف ناسخ+اسم +خبر مفرد

ـ جملة اسمية: فعل ناسخ أو حرف ناسخ+ اسم+خبر جملة فعلية

ـ جملة فعلية قصيرة: فعل+فاعل+مفعول به

ـ جملة فعلية قصيرة: فعل+فاعل+متعلق به

3ـ برغم غنائية المقطع وسرعة تدفق إيقاعه بما يتناسب مع بناء المعنى والتصاعد به صوب سقف عتبته العليا في تكثيف القتل والدم بالموت المادي والمعنوي، فإن المقطع يُحمل بلاغياً على وهج بعض الصور المتألقة في نسج الدلالة وتكوين المعنى لعل أبرزها قوله:

ـ القتل كالتدخين.

ـ قذفته أمعاء السنين.

ـ رائحة الجريمة.

هذه الصور الثلاث المضفورة من قوة التشبيه وفتنة الاستعارة معاً، هي التي تصبغ لون المعنى، وسفح المقطع كله بالدكنة والدم. غير أن البعد الأعمق في فاعلية الانحراف البلاغي هنا إنما يُستمد من الحس المفارقي الساخر واللاذع حتى الألم، فالقتلة هم جنود العدو المحتل. وهم لا أرض ولا حق لهم، إنما قذفتهم أمعاء السنين القديمة استناداً على خرافة الحقوق التاريخية لهم في فلسطين. وتتجلى الصورة الناجمة عن قذف الأمعاء نتنةً مؤذيةً إيماءً إلى حقارة العدو وقذارة أخلاقه.؛ وإذ هو كذلك فإن السخرية تبلغ سقفها الباذخ بفعل واقعية قوته وتحكمه في أصحاب الوطن الحقيقيين. كما أن المشهد البلاغي يمتاح من معين العبث المفرط حينما يصبح"القتل كالتدخين" أي يصبح إجراءً مزاجياً عفوياً لا يشوبه أي اكتراث بحرمة الإنسان أو بقداسة الحياة.

4ـ تتراجع فاعلية السرد في هذا المقطع لحساب غنائية شفيفة متدفقة تمتاح من البعد الحسي والحركي والصوري الذي يملأ المقطع متدثراً بغلالة رقيقة من الوصف المبطن للسرد والمبطىء لحركته. ولولا اتكاء درويش على فعل الكينونة أكثر من مرة وتموقعه في سدة الراوي العليم الذي يبني الأحداث ويطرحها من وجهة نظره، لخلى المقطع من سمات السرد، ولأصبح غنائياً مستغنياً بتوتره الدرامي وشغف الالتياع. كما أن المقطع مكانيا وزمانياً يتكىء على سابقه باستثناء الإشارة التاريخية الخاطفة في"أمعاء السنين"..

ثانيا: تقابلات الاغتصاب: ( الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجنود الطيبون(سخرية) / الجنود القتلة

 أمعاء السنين / حاضر الاحتلال

القتل الجسدي للشيخ / القتل المعنوي للفتاة

عطر الياسمين / رائحة الجريمة

2ـ تقابل الاختلاط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ جملة اسمية منسوخة بالفعل أو الحرف / جملة اسمية منسوخة بالفعل

خبرها مفرد / أو بالحرف خبرها جملة فعلية.

ـ جملة فعلية قصيرة: / جملة فعلية قصيرة

[فعل+فاعل+مفعول به] / [فعل+فاعل+متعلق]

7ـ المقطع السابع: الديمومة: من: 68 – 75
أولا: التأويل التضافري:
1ـ من الممكن وسم هذا المقطع بـ"العود" أو"التكرار" أو" الاستمرارية" أو "العبث" نظراً لحدوثه بصفة دائمة في يوميات حياة الفلسطيني وبشكل تلقائي أو عفوي.من ثَمَّ فإن هذا المقطع هو اجترار لمقطع "العودة" الذي سبق تأويله من قبل. ولعل هذا ما يحمل فعل التأويل على تجاوز المعجم والتركيب إلى ما استجد من شأن البلاغة هنا ويتمثل في الآتي:

1ـ تكرار المقطع مع بعض التحريف اليسير فيه: والتكرار ـ كما هو معلوم ـ ضرب من ضروب البلاغة قديماً وحديثاً، ويقع في الحرف، واللفظ، والجملة، والمعنى، والمقطع. ولقد أولاه الشكليون اهتماماً خاصاً بوصفه من الأسس البنائية والجمالية في الشعر؛ لأنه تكرار منتظم بالوزن، أو بالإيقاع بصورة كلية أو جزئية متضافرٌ مع بقية عناصر الشعرية الأخرى. غير أن ما يهم في هذا الشأن هو الوعي بالبعد النفسي إضافةً إلى البعد البلاغي للتكرار؛ حيث ينشأ عن حالة" شعورية شديدة التكثيف يرزح الشاعر تحتها ولا يملك لنفسه تحولاً عنها؛ إذ تبقى ملحةً عليه ولا تفارقه فتظهر مكررةً فيما يقول"([185])

ولا أحسب أن ثمة شيئاً يضغط على درويش أكثر من حلم عودة الوطن إلى أصحابه، وحلم عودة اللاجئين إليه. إنه الحلم الوردي والحلم الكابوس في آنٍ. فبين الرجاء بالتحقق واليأس منه مساحة قلقة مضنية تمس شغاف النفس وتهز أرجاءها فتملي العودوية والتكرار شعورياً أولاشعورياً. لكن الشاعر هنا يكرر عن قصدٍ متعمدٍ بغيةَ المعنى والبلاغة معا لنجد أنفسنا مرة أخرى إزاء الآتي:

ـ وعاد النهر يبصق ضفتيه قطعاً من اللحم المفتت...

ـ الطريق إلى الطريق دم ومصيدة.

وكأن الشاعر شاء أن يقول في قصده النصي: هذه هي حالنا دائماً: حلم بالعودة تسلل قتل على الجسر غرق في مياه النهر. هكذا دواليك فالعدو مرابط هناك.

2ـ تطور الانحراف في الصور الاستعارية بإضافة الجديد، أو ترشيح القديم وتمديده:

أ ـ الصمت خيم مرة أخرى: هذا التجسيد الذي يبنيه الانحراف النحوي بلاغياً يوحي بألم الوخز، فكأن الشاعر شاء أن يقول: إن الجريمة قد وقعت وتمت ودُفنت حقيقتها من دون أن يحدث أي شيء. لقد عادت الأمور إلى طبيعتها المستأنفة. وهذا فحواه الإيماء بقابلية تكرارها مستقبلاً مع كل عودة عبر الجسر والنهر.

ب ـ تطوير الاستعارة القديمة في سابق النص:

النهر يبصق ضفتيه النهر يمتص لحم النازحين.

لكن تطوير الانحراف البلاغي على هيئته السالفة جاء في طيات التعتيم الإعلامي والسياسي والمعرفي على هذه الجرائم التي تُمارس على العائدين: يقول درويش:

ـ ولم يعرف أحد

شيئا عن النهر الذي

يمتص لحم النازحين

هذه الأبعاد البلاغية في المقطع هي التي أنجته من رتابة التكرار وعلة السأم ومنحته حيثية موقعه في النص فصار دالاً على تفاقم القضية وتعمق حسها المأساوي كما هو فاعل في تنمية معنى القصيدة والدفع بها غنائياً ودرامياً إلى ما هو أبعد. وهذا ما يغني عن رصد التقابلات المختلفة أو السرد، ففي مقطع"العودة"السابق ما يكفي لبيانه.

8ـ المقطع الثامن الفضح: من: 76 – 81
 أولا: التأويل التضافري:
1ـ يتموقع هذا المقطع في النص وكأنه تعليق من المبدع على ما سلف من وحدات الحكاية، وأحداث القصيدة، ووقائع الرحلة. وهو مقطع يعتريه التكرار أيضا بنسبة أو بأخرى، لكنه تكرار موظف ومحوَّر لصالح دلالة الفضح والتعرية والوخز. لقد عمد درويش إلى استثمار معظم مفردات معجمه السابقة في مقاطع القصيدة، ولعله كاد أن يستنفدها أو يستنزحها دلالياً، وهو ما يغني عن التأويل المعجمي هنا، وكذا التأويل الصرفي، والنحوي، والسردي. لكن النص المقطعي يتكىء بقوة مفرطة على نسجه البلاغي المكرر والمفاجىء على هذا النحو:

ـ الجسر مقصلة لمن عادوا لمنزلهم.

 ـ إن الصمت مقصلة الضمير.

 فالبناء الصوري عبر علاقات الإسناد يرتكز على"المقصلة" في الصورتين، لكن المعنى ينبجس ويتشكَّلُ عنيفا من مفاجأة الإسناد الإضافي، فتتحول المقصلة من موت العائدين إلى موت الضمير، من موت المادي إلى موت الأخلاقي والمنطقي. من ثم ينفجر السؤال عفوياً في وعي ونص درويش:

 "هل يسمع الكُتَّابُ تحت القبعات خرير نهر من دم أم يرقصون الآن في نادي العراة كأن شيئا لم يكن؟"

 إن إنشائية الأسلوب الاستفهامي هنا لا تتغيا طلب المعرفة والعلم، فهذا يقينا حاصل عند درويش، وعند المتلقي، وإنما تروم الاستنكار، والتوبيخ، والنقد والوخز المؤلمين أخلاقياً لطائفة الكتاب المدعين الثقافة والمعرفة وما يتسمان به من أبعاد منطقية وأخلاقية؛ شأنهم في ذلك شأن مغنيات الحب اللائي يشربن ـ مثل الجنرال ـ نخب الانتصار؛ وكأن الشاعر أراد أن يعري الجميع ويفضح أمرهم.

ثانيا: تقابلات الفضح: (الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجسر مقصلة العائدين/ الجسر مقصلة الضمير.

نهر من دم/ نهر من ماء

الكُتَّاب لا أخلاق لهم/ الكتاب ينبغي أن يكون لهم أخلاق.

المقطع التاسع: الإصرار: من:82 – 90
أولا: التأويل التضافري:
1ـ هذا المقطع يمثل خروجاً مفاجئاً على سياق النص، فهو وإن اعتمد على تقنية التكرار بقدر كبير؛ حيث كرر الشاعر عبارات الشيخ عن ابنته وافتدائها وتملكها..، فإن أثر المعنى، وبناءه، ومعايشته تقود جميعاً إلى دلالة الإيجاب، والحياة، والمقاومة. وهذا هو متغيا الشاعر، ومراد النص في تدرج البناء الدلالي عبر أنساقه كافة؛ لنقف على فكرة"الإصرار"على البقاء، والمقاومة، والانتصار على دكنة الدم، وقتامة الموت، وفزع القتال. من ثم يملي فعل التأويل العودة إلى المعجم في كلمتين مهمتين هما: فرَّ، الزوابع، وذلك على هذا النحو:

ـ " الفرُّ والفِرارُ، بالكسر: الروغان والهروب"([186])

ـ "الزوبعة: اسم شيطان أو رئيس للجن، ومنه سُمِّي الإعصار: زوبعة. وأم زوبعة وأبا زوبعة، يقال فيه شيطان مارد"([187])

ويضعنا المعجم دلالياً أمام دلالتين تتناقضان، وتتكاملان في آنٍ. الأولى: الروغان والهرب. وهي تؤشر إلى الضعف والمكر؛ حيث إن القوي لا يتجه إلى هذه الأساليب في المواجهة، أما الثانية: فهي دلالة القوة والعنف والخروج على ناموس السيطرة الطبيعية والإنسانية من خلال تعلق دال الزوبعة/الزوابع بإرثه الأسطوري الذي يصله بالجن والشياطين، وما لهذا الفضاء الغيبي والعجائبي من دهشة الخرق، وفتنة الخطف والقوة؛ ذلك أن الشيطان هو"كل عاتٍ متمردٍ من إنسٍ أو جنٍ أو دابةٍ"([188])

ولو شاء فعل التأويل هنا الإفراط، استسلم لغواية المعنى الذي يفتح على شياطين الشعر، ووادي عبقر، وعلى المدى الشعبي في تعلق ذاكرته بهذا الأفق اللامحدود. غير أن فعل التأويل يلتزم الاقتصاد والاعتدال؛ حيث إن النص هو معيار حد التأويل كما أسلفنا. من ثم يحيل الفرار على الحيلة والقدرة على خرق حاجز المنع في ليل جريمة العدو المطبق. وتأتي دلالة"صوت" بصيغة الإفراد والتنكير لتكشف عن المحدودية والعمومية في آنٍ. فهو صوت عام سكن الزوابع بصيغتها الجمعية المعبرة. فكأن المفرد تناثر وتناسل ليطوف جميع الزوابع ساكناً في عتوها، وجبروتها، مشمولاً بأسطوريتها في الخرق والتجاوز لترويه أجنحة الرياح لكل وسائل الإعلام: المذياع، النافذة، الشارع. مرددةً:

 حبيبتي الصغيرة

لي، يا جنود، ووجهها القمحي لي...

2ـ برغم البداية بالجملة الاسمية في مفتتح المقطع محققةً ثبات الدلالة واستقرار المفاجأة؛ فإن بناء المقطع غير المكرر يرتكز على تتابع الأفعال الماضية في الجمل الفعلية موحية بانقضاء الأمر وخروجه على سيطرة العدو وسبل قهره وتحكمه؛ لتؤكد دلالة الإصرار على الرفض والمقاومة. من هنا تُبنى الجمل على هذا الشكل:

ـ فعل ماض+فاعل محذوف يعود على الصوت+متعلق به.

ـ فعل ماض+فاعل محذوف يعود على الصوت+متعلق به.

أما المقطع المكرر من السابق فيلتزم البناء الاسمي الدال على ملكية الشيخ لابنته، أو الفلسطيني لوطنه، كما مرَّ بيانه.

3ـ تؤسس الاستعارتان الواردتان في النص لبلاغة بناء المعنى والتماس مع أثره، وهما قوله:

ـ فرَّ من ليل الجريمة.

ـ روته أجنحة الرياح.

فإذا كان الفرار+الليل+الجريمة، متضافرةً بنائياً وبلاغياً في إحكام معنى الظلام والغشم والتحكم والقدرة على الخروج منه، فإن أجنحة الرياح تبني معنى الانتشار والتوسع بما يبنيه من قوة الحركة، وقوة الإعلان والمعرفة والفضح لجرائم العدو؛ كأن الرياح هنا ذات بعد دلالي تقابلي، حيث تمثل نذيراً وفضحا للعدو؛ فيما هي كاشفة عن إصرار الوجود وحتمية المقاومة وكسر أطر الاحتلال.

4ـ تتراجع غواية السرد في المقطع لحساب الوصف الذي هيمن على الجمل المتتابعة مكرسةً لهيئة الصوت الفار من قبضة العدو، كما أن الشخصيات تتوارى لحساب دور الصوت الذي ينهض بالحدث الأهم في المقطع، فيما الزمان يحدد بالليل، والمكان مفتوح على مطلق مساحة الزوابع والرياح من غير حدود ليعم النداء/الصوت الوطن كله.

ثانيا: تقابلات الإصرار: (الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحبس/ الفرار

الكتمان(الجريمة)/ الفضح (الصوت)

المقيد(الجسر)/ المطلق (الزوابع)

اقتلوني/ لا تقتلوها

2ـ تقابلات التركيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقابل مختلط / تقابل داخلي

ـ جملة اسمية جملة اسمية

مبتدأ+ خبر جملة فعلية/ مبتدأ+خبر شبه جملة

10ـ المقطع العاشر: البقاء والتحدي: من: 91 – 107
أولا: التأويل التضافري:
1ـ هذا المقطع هو ختام القصيدة، فيأتي كأنه تكثيفٌ وضغطٌ لمقصدية الشاعر ورسالة النص. والانتهاء، كما قال ابن رشيق،"هو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكماً: لا يمكن الزيادة عليه ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه"([189])

 ولقد عمد درويش أن يكون قفل القصيدة رداً على استهلالها لإحكامها وسبكها فعنون بالجسر وختم به في نهاية النص ليظل حاضراً في الذاكرة مشكلاً الرؤية ومتحكماً فيها. غير أن المقطع الختامي يلزم بالإشارة إلى كلمة " الخبر". إذ تبدو هذه الكلمة الواردة في أول المقطع مهمة في تشكيل الدلالة والرؤية؛ حيث لا ترتبط فقط بدلالة الإعلام الصحافي أو المتلفز، وإنما ترتبط بدلالة التدوين في"هوامش دفتر التاريخ" وبالتسجيل بأن للمرحوم تاريخاً. فانفتاح الخبر على الإخبار والإعلان والإعلام يتوازى مع انفتاحه على تثبيت الحقيقة في سجل التاريخ، وكأن الشاعر يلتجىء إلى التاريخ يلوذ به ويحتمي فيه صوناً للحقيقة، وتدويناً لاستلاب الواقع، واستدعاءً للنصرة والغلبة؛ فالتاريخ مدونة الزمن والواقع، وهو خبير بماضي الأرض والإنسان الفلسطينيين. ولقد نصرهم زمن صلاح الدين على هجمة الصليبيين وعادت الأرض إلى أهلها بعد زمن اغتصابها. واستدعاؤه سراً وعلانيةً هو نبش فيه يجدده ويبعث روحه ويحمي الحقيقة والذاكرة من الزيف والتدمير. من هنا نعي إلحاح درويش على المُكث في محرابه، والسكنى في جلاله؛ لأنه يكشف الحوادث ويبقيها حيةً وجودياً فلا تذهب مع الزمن.

وإذا كان صلب الخبر متعلقاً بالصوت الفار من ليل الجريمة في المقطع السابق، معلنا الإصرار، فإن"ذيل الخبر"يؤشر دلالياً إلى عناصر مهمة في تشكيل رؤية البقاء والتحدي هي:

الأول: تدوين عار جريمة الأعداء، وأنه مهما فعلوا فلن يقتلوا الحنين إلى الوطن.

الثاني: تدوين وجود الفتاة في الواقع وفي المكان الغاية، وأنها سوف تنهض من جديد رغم ما أصابها.

الثالث:تدوين دم الشيخ القتيل، وأن دمه لن يفسد الزيتون، رمز الأرض، ولن يحزنه.

الرابع: تدوين أن للمرحوم تاريخاً، أي أنه مؤصل في أرضه وماضيه، فهو صاحب الحق والحقيقة.

الخامس: تدوين أن له بنين، أي أن ثمة رجالاً يخلفونه في حمل الراية وقيادة النضال حتى يستردوا وطنهم. وهذا تأكيد للتحدي الوجودي والنفسي والتاريخي في آنٍ.

2ـ يتركب المقطع من مزيج من الجمل الفعلية والاسمية؛ شأنه في ذلك شأن بقية المقاطع السالفة، غير أن الجمل الاسمية تعلو نسبتها في التركيب حرصاً من درويش على تثبيت الدلالة وتأكيد حقيقة الخبر. وتتجلى الجملة الاسمية معقدة في تركيبها، ويتوالى بعضها من بعض على هذا النحو: كل الذين كتبوا عن الدم والجريمة...في هوامش دفتر التاريخ قالوا...

مبتدأ+مضاف إليه موصول+جملة صلة(فعل+فاعل+متعلق+متعلق)+خبر جملة فعلية.

3ـ يؤدي المستوى البلاغي دوراً حيوياً في المقطع الختامي في القصيدة ويتشكل ذلك على النحو الآتي:

1ـ التشبيه: الجسر يكبر كالطريق.

2ـ الاستعارة: الجسر يكبر.

ـ هجرة الدم

ـ لسعة الذكرى

ـ طعم الحب

ـ قتل الحنين

3ـ الكناية: تكسو صدرها العاري ـ المرتدون ثياب شاه.

 ـ الزيتون لن يصفر من دمه ـ الحب أكثر من عبادة.

4ـ البلاغة البصرية في التفضىء الطباعي لختام المقطع وختام القصيدة كلها.

إن التراكم الصوري بهذه الكثافة، يعكس ديناميكية المعنى في المقطع وإشراقه صوب التفاؤل والأمل والتضحية والفداء والبقاء والتحدي برغم ممارسات العدو، التي تعظم وتتفاقم. ينهض بهذه العلاقة معدل الانحراف في قوله:

ـ والجسر يكبر كل يوم كالطريق.

ـ هجرة الدم في مياه النهر تنحت من حصى الوادي تماثيلا لها لون النجوم.

فالجسر الذي هو حيز مكاني محدود وثابت، صار يكبر كل يوم كالطريق؛ لأنه يبتلع العائدين بالقتل؛ بما أن الطريق بالعة تبلعُ من فيها في الغياب المستمر، وهجرة الدم الغزير تشكل تياراً يجرف الحصى في الوادي، إيماءً إلى عنفوان التيار وغزارة الدم المسفوك. وبرغم ذلك كله فإن مقولة الفداء تتجلى مؤثرةً ببذخٍ؛ حيث تتماهى مع عشق الوطن الذي يتشي بالقداسة والسمو كما في قوله:" وطعم الحب حين يصير أكثر من عبادة". وهذه هي الجملة القفل التي قفل بها الدرويش قصيدته ليردنا من طرف خفى على مطلعها المفعم بالحسم والحزم في إنشاء قرار العودة وتنفيذه مهما كانت كلفته:

مشياً على الأقدام

أو زحفاً على الأيدي نعود

وكأن القصيدة في بدئها الجسري، وفي ختامها القائم على قداسة الحب للتضحية فوق الجسر الذي يكبر كالطريق كل يوم، في إشارة إلى الديمومة والتكرار، كأنها مكورة مدورة مردود عجزها على صدرها في إحكام من السبك والحبك ظاهراً وباطناً موكدةً الصمود والبقاء والتحدي في مطلق تجليه الباذخ.

4ـ يمنح الخبر الماثل في صدر المقطع دلالة السرد، كما الدفتر والتاريخ، والهوامش، والتسجيل..، كلها دوال كتابية تشكل فضاءً للحكي التدويني. وهذا الشأن هو ما يلبس النص ثيابه السردي برغم تدفقه الغنائي والدرامي؛ إذ إن الشاعر المستحضر لعبرة التاريخ وبهائه وجلاله، إنما شاء أن يوقفنا في عباءة الزمن في أمدائه التعاقبية من القدم ماضياً، إلى الواقع حاضراً، إلى المأمول مستقبلاً.

لكن هذا السرد المخفي في الإخبار وفي التاريخ، ,في التدوين...، يعانق الوصف كما يعانق الدرامية أيضا. وبذلك يضفر المقطع المتدفق من كل هاتيك التقنيات مجتمعةً وملتحمةً في غنائية شفيفة أسرة بفتنة تدفقها ورشاقة إيقاعها.

ثانيا: تقابلات البقاء والتحدى: ( الوحدات الصغرى)
1ـ تقابل الثنائيات الظاهرة والخفية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الماضي / الحاضر

التاريخ / اللاتاريخ

المعتدى عليهم / المعتدون

 المتحضرون / المتوحشون(المرتدون ثياب شاة)

من يزرع الياسمين/ من يسفك دم الجريمة

 وتأسيسا على تأويل المساق في المقاطع العشر السالفة، فإن فعل التأويل عمد إلى إضاءة الدوال المكانية في النص وإدراك العلاقة بينها بوصف هذه الدوال هي فرض تأويل القصيدة والمكون البنائي لجسدها؛ لنتبين أن دوال المكان الرئيسة في النص تنتظم في أربعة دوال تتكامل وتتناقض في آنٍ مشكلةً بؤرة الصراع الدرامي والسردي، أو مناط الرؤية الشعرية في قصد المبدع وقصد النص وقصد المؤوِّل ما أمكن التأويل التضافري التقابلي للنص. وهذه الدوال المكانية مرتبة حسب أهميتها في تشكيل النص و بناء رؤيته كما يلي:

1ـ الجسر 2ـ النهر 3ـ الطريق 4ـ المنزل(الوطن)

ويمكن لفعل التأويل إدراك التنامي الدلالي لكل دال مكاني على النحو الآتي:

1ـ الجسر: تنمو فيه الدلالات على هذه الهيئة:

أ ـ مكان يقف عنده العائدون إلى الوطن.

ب ـ كان الجسر نعسانا.( إغراء بالعبور)

ج ـ الجسر مسرح لإطلاق النار على العابرين

د ـ الجسر مقصلة من رفض التسول من وكالة الغوث.

ر ـ الجسر مقصلة من رفض الموت بالمجان تحت الأمطار.

ز ـ الجسر مقصلة الذي مازال يحلم بالوطن.

س ـ الجسر تمثال مصبوغ بالدماء وخضرة الموت المفاجىء.

ش ـ الجسر مقصلة لمن عادوا لمنزلهم.

ص ـ الجسر يكبر كل يوم كالطريق.( إشارة إلى ديمومة المأساة)

ض – الجسر مقصلة الضمير.

هذه الحيثية المتنامية والمتفاقمة في إيحاءاتها، هي ما ينقل دال"الجسر" من المكان إلى المكانية؛ إذ هو واسطة عقد القصيدة وبؤرة مركزها المشع في اتجاه الدلالات كافة، وهو الذي يتمركز مكانيا في القلب من علاقات الدوال المكانية؛ حيث الطريق قبله، والبيت والوطن بعده، والنهر أسفله، وهو قابع في العمق من الكل يحدد هويته ويمنحه كينونته في النص في سياق صراعي يشكل دراما القصيدة ويوتر حساسية العلاقات فيها.وبهذه الوضعية حاز الجسر مكانة العنوان.

هكذا يتأطر موقع الجسر وعلاقته بالأماكن الأخرى في النص على هذا النحو:

 الطريق (الجسر)البيت(الوطن)

 

 النهر

2ـ النهر:
 وهو الفضاء المكاني الماثل تحت الجسر، وهو علاقة فارقة في تقابلها النقيضي؛ حيث يفترض في النهر أنه حامل للماء، وباعث للحياة؛ فإذ به وعاء للموت والدم في كثافة وغزارة.

من هنا تنمو صورته الدلالية في النص على هذا النحو:

أ ـ النهر يبصق ضفتيه قطعاً من اللحم المفتت في وجوه العائدين.

ب ـ كانت مياه النهر أغزر لكثرة القتلى الملقين فيها.

جـ ـ صُبغت مياه النهر بلون الدم وخضرة الموت المفاجىء.

د ـ عاد النهر يبصق ضفتيه قطعاً من اللحم المفتت...( إشارة إلى ديمومة القتل على الجسر)

ر ـ لكثافة القتل تحول النهر من نهر ماء إلى نهر دم له خرير( خرير نهر من دم)

ز ـ هجرة الدم في مياه النهر تنحت تماثيل من حصى الوادي.

 من يتأمل دلالة مكانية النهر في النص وعلاقته بالجسر، يجد أنها مكانية قائمة على التقابل في بعده المتوازي والمتناقض معا. فالجسر يتوازى مع النهر في أن كلاً منهما يفترض فيه أنه إشارة إلى الحياة والنجاة، وهذا هو بعض من التوازي التقابلي الافتراضي. غير أن النهر والجسر معاً صارا إشارتين للموت. وهما في هذا متوازيان ومتناقضان مع الافتراض السابق. وهذا التوازي والتناقض في الأبعاد التقابلية الخفية هو ما ينشيء الصراع ويمنحه حساسية التوتر.

3ـ الطريق:
من حافة الأمام يتصل الجسر بالطريق. وهما مكانان بينهما علاقة وجودية؛ إذ يفضي أحدهما إلى الآخر، كما أن الآخر يتموضع غاية له. من ثم فإن دلالة الطريق تنبجس من المعين ذاته الذي تنبثق منه دلالة الجسر والنهر معا، وهي دلالة الموت والفزع والفجيعة. من هنا تنمو دلالة الطريق في النص على النحو الآتي:

أ ـ الطريق صخر يضمر.

ب ـ الطريق يقودها الظلام.

جـ ـ الطريق دم.

د ـ الطريق مصيدة.

ر ـ الطريق بيد.

هذه الدلالات تحوز شعريتها في النص من توطئتها لما هو آتٍ بعدها في فاجعة الجسر. وهذا ضرب من الترابط الخفي في بنية النص؛ حيث تملك الدلالة منطقها وقدرتها على التماسك والإقناع.

4ـ المنزل:
 هذا الدال المكاني يحوز مكانيته وشعريته من غائية النص، ومن غائية الرحلة من قبل. إن مراد العودة هو الوصول إلى المنزل ولو تسللاً. غير أن المقدار الأهم من شعرية مكانية المنزل تتأتى من الترميز؛ حيث المنزل هو رمز الوطن، وهو وإن كان ملكاً خاصاً للشيخ، فإن العودة إليه في جوهرها هي عودة إلى مجموع الوطن. والوطن ـ على حد قول صلاح فضل ـ "فكرة غافية لا يوقظها سوى الشعراء بالتحنان والغناء"([190]) والعائدون مفعمون بالتحنان والشوق والأمل. ولعل هذا ما يقود إلى سمة أخرى من سمات شعرية هذا الدال المكاني وهي انفتاح النص على قداسة الألفة والحب للحبيب الأول عبر التناص مع نص حبيب بن أوس الطائي كما أشار التأويل من قبل. كما أن الوعي بطللية البيت أو المنازل يفتح شعرية الدال على مجال خصب في الذات وفي الذاكرة العربيتين. من هنا تتكثف دلالته في هذا التركيب التناقضي:

1ـ المنزل مألوف الشيخ وابنته وكل العائدين(كم منزل في الأرض يألفه الفتى)

2ـ المنازل مهدمة ومهجورة (لكن المنازل أطلال يا أبي!)

وبهذا يتم فعل التأويل تأويلَ المساق ويكمل وعيه بالنص عبر تأويل السياق فيما يأتي.

ثانيا: تأويل السياق:
يتحرك فعل التأويل في السياق في الدوائر التأويلية الكبرى المحيطة بالنص والمحايثة له؛ بحيث تشكل إضاءتُها إضاءةً للقصد النصي ولقصد الشاعر؛ الشان الذي يسهم في بناء قصد المؤوِّل من خلال بناء المعنى ومعايشته في فعل التأويل. وتتحدد هذه الدوائر التأويلية عبر المفهوم التقابلي الناظم لها على النحو الآتي:

2ـ1: درويش والشعر:
 إن الشأن هنا ليس رغبة فعل التأويل في كتابة سيرة ذاتية عن محمود درويش، فلمثل هذه الغاية وسائل وأحيزة أخرى، وإنما الغاية هي وضع الشاعر في محاذاة الشعر الذي هو هويته الفنية والجمالية، والذي هو مدار فعل التأويل من خلال نص التأويل ـ قصيدة الجسر، كما سلف في شأن المساق.

وغاية القول التأويلي من حافة محاذاة الشاعر للشعر الإيماءة الكثيفة إلى المكان والمكانية معاً؛ إلى مكان درويش الشعري من حيث هو واقعٌ حاضرٌ في جغرافيا الشعر العربي بمحصوله الإبداعي الممتد كماً وكيفاً، مكاناً وزماناً في مساحة كبيرة وغنية، ومن حيث هو كيان شعري له هويته المائزة، وفرادته الفارقة بين أقرانه ومجايليه من شعراء الوطن، والعروبة، والإنسانية.

على أن فعل التأويل هنا يشاء اختزال الأمر وتكثيفه في مبدأين رئيسين حاكمين لعلاقة الشاعر بالشعر هما الآتي:

الأول: مفارقة التكامل بين الجزئي والكلي، أو المحدود والمطلق.
الثاني: مفارقة التناقض بين المحو والغياب، والحضور والتألق.
وتؤسس المفارقة التكاملية الأولى لسؤال الشعر في ذاته، وفي ذات محمود درويش، ومعيار جماليته الذي يكمن قدر كبير منه في قدرة الشعر على تمثل الكلي أو الجمعي أو المطلق، فيما هو جزئي أو مقيد. وحسب"شلنج" فإن" ما يميز الشعر في ذاته هو ما يميز جميع الفنون، وهو تمثيل المطلق فيما هو خاص"([191]). وفق هذا المعيار فإن محمود درويش المولود في 13مارس(آذار) 1942 في قرية البروة التي تبعد تسعة كيلو مترات شرق عكا، ومات في 19أغسطس(آب) 2008"([192]) أي في مساحة زمنية تربو على سبعة وستين عاما، قد استطاع بالشعر أن يتمثل هذا الكون الشخصي الضيق الماثل في القرية والوطن، إلى حيث يصل به مصاف الكون العالمي؛ حيث استطاع في مراحله الأكثر نضجاً واستواءً أن"يخلق في قصائده المعادل الشعري لكرنوتوب باختين في الرواية. فقد تضافرت الغنائية الدرامية، وسلاسة التدفق الشعري، وتوترات المواقف ومفارقات الصور لتموضع الزمان في المكان، والزمان في الذات والنحن معاً ولتقوم تلك البنية الكرنوتوبية الجديدة بنوع من التركيب والتفكيك الشعري للمواقف والوحدات والدخول بها في جدل حواري مع نظائرها على مدى التاريخ يوسع من أفقها ويعمق من إدراكنا لخوافيها"([193])

وحسب رؤية سمير الزبن فللتجربة الدرويشية بعدٌ ذاتي ينفتح على المطلق الكلي؛ إذ يمكن قراءتها"بوصفها واحدةً من التجارب الكبرى في تأملات الوجود والقلق الإنساني. والحال أن وجوه درويش المتعددة لا يمكن فصلها: فهي مجدولة كضفيرة بين الشخصي والعام"([194])

في هذا الوعي تمددت القرية الصغيرة "البروة" لتشمل فلسطين، ثم تجاوزت فلسطين لتصبح قرية كونية حين أسكنها درويش شعره، وحملها في خياله ليطوف بها العالم عارضاً مأساته مازجاً بين الواقعي والأسطوري والفردي والإنساني المطلق" بصورة تتحول معها القضية الفلسطينية الخاصة إلى تجل جديد من تجليات المأساة الإنسانية عبر التاريخ"([195])

إن هذا التمثل للكوني والإنساني والمطلق، لم يحدث إلا في الشعر وبالشعر. بالشعر استطاع درويش أن يكون شاعراً للقضية الفلسطينية، وشاعراً إنسانياً عالماً، والشعر في وعي درويش منذ الصغر، سلاح يرتبط بالمقاومة لفعل الاضطهاد الأبدي:"علمني الاضطهاد بأن الشعر قد يكون سلاحا"([196])

وهو ما يدعمه درويش شعرا:

نحن يا أختاه، من عشرين عام

نحن لا نكتب أشعارا ولكنا نقاتل([197])

من هنا ارتبط درويش بالشعر بوصفه هويته الفارقة، وارتبط شعره بالقضية، وارتبطت القضية والشعر معاً بالثورة على واقع الاحتلال الصهيوني. من ثم نفهم كيف كان التزام درويش "نبضا في الدم" وأن جوهر الشعر الأصيل يكمن في الثورة؛ إذ هو " ثورة على نفسه، بمعنى أنه في حركة تجدد دائمة، فهو كذلك يحمل مهمات ثورية بين الناس"([198]).وبه فقد أصبح الشاعر وشعره ملتحمين بالقضية، وبالثورة، وبالجماهير، وبه صار درويش"شاعر المقاومة"في فلسطين. وقد ارتضي هذا الشاعر الشاب بلقبه الذي عبر آنذاك عن "قصيدة تبشيرية تَعِدُ بتحرير الحاضر من قيوده، وعن شاعر غاضب اشتهى مستقبلا لا شذوذ فيه"([199]) إن المقاومة التي هي الوجه الأمثل والأعمق في التعبير عن شعر درويش لم تتخذ في شعره نبرة واحدة، وإنما تبدل إيقاعها حسب مراد تطور الشعرية الدرويشية ذاتها؛ حيث تتجلى أهم معالمها في الآتي:

1ـ الرومانسية: وتمثل هذه المرحلة إنتاجه في دواوينه الأولى، مثل: عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون..،وتبدو رومانسية درويش عذبة بحسها الانفعالي المقاوم، كما أنها تمهيد عفوي للمرحلة التالية لها وهي المقاومة.

2ـ المقاومة: وهي المرحلة التي تعقب هزيمة67 وما نجم عنها من كوارث نفسية وعسكرية..،فانعكس ذلك على شعرية درويش الذي وهب نفسه للمقاومة بقدر غير محدود، متمردا على الواقع بكل تشكيلاته المكونة للموروث الثقافي والفكري والحاضر المحتل من الصهاينة فعمد إلى تأكيد الهوية بكل قوته الشعرية، فكانت دواوينه...يوميات جرح فلسطيني، وآخر الليل..

3ـ البحث الجمالي: وهي المرحلة التي تبدأ من مجموعته: حبيبتي تنهض من نومها...إلى تلك صورتها وهذا انتحار العاشق. والبحث الجمالي مصطلح دال سكه صبحي حديدي ووافقه عليه صبري حافظ، ومؤداه الاهتمام بالصوت والمعنى الخافت الموارب المضمر، وتجنب الأصوات والمعاني الجهيرة الشعارية الصادقة أحيانا التي تثير هيستريا الجماهير"([200])

4ـ الملحمة: وهي المرحلة التي تعقب اجتياح الصهاينة لبيروت عام 1982؛ حيث بدأ بمطولته "مديح الظل العالي" وصولاً إلى جداريته الشههيرة. وبرغم أن الدرويش كان يعمد إلى إصباغ صفة الملحمية على نصوصه الشعرية في هاتيك المرحلة، فإن الظلال الدرامية والغنائية ظلت سارية في تجاويفها وتفاصيلها؛ حيث تتستر حيناً وتجهر حيناً آخر. وبوسع الفعل التأويلي القول: إن التعبيرية الغنائية هي قاسمٌ مشتركٌ في كل تجربة الدرويش، قد تظهر حيناً إلى درجة السفور الباذخ، وقد تتوارى في أواخر التجربة من دون التلاشي أو الانعدام، بل يظل نسغها الخفي حاضرا في النص.

5ـ الرؤيا: وهي المرحلة التي وعى فيها الشاعر جحيم الواقع وكثافة تناقضاته واستعصائه على التغيير لفرط العبثية وبذخ اللامعقول، فانعكس على الرؤية والبناء لتنبهم القصيدة الدرويشية أثر تحولها العميق في الرؤية والشطح من دون أن تفقد تماسكها وحسها الحيوي المترابط؛ وذلك بدءاً من "ورد أقل" مروراً بمأساة النرجس، ملهاة الفضة، أرى ما أريد.. أثر الفراشة؛ بحيث يتأنق درويش في تنقية اللغة وتكثيف الرؤية وتقطيرها عبر "انحراف جلي في الإسناد يبلغ بدرجة النحوية إلى أدنى مستوياتها، مع التماسك المنتظم في البنية النحوية المرجعية؛ فيما يتكىء على قاعدة إيقاعية بارزة"([201])

لكن درويشاً يعبر في نهاية التجربة عن كنه الشعر بهذا التصورالبدهي عبر طرح السؤال الماهوي والإجابة عنه في قصيدته"بيت القصيد" إذ يقول:

الشعر.. ما هو؟

هو الكلام الذي نقوله

حين نسمعه أو نقرؤه: هذا شعر!

ولا نحتاج إلى برهان([202])

وأما مفارقة المحو والغياب، والحضور والتألق، فهي"تنطلق من المحو الجغرافي والإنساني على السواء، وتنتهي بأبهى أشكال التحقق والوجود في قلب العالم وفي وعيه معاً"([203]) وهي مفارقة تكتنف الوجود بالمعنى الأنطولوجي، والشعر أنطولوجياً وجمالياً. لقد عمد الصهاينة إلى محو المكان المنشىء لدرويش عبر تجريف قريته"البروة" ومن خلال النفي والتشريد والإقامات الجبرية المتكررة في أمداء مديدة من الزمن، وعبر الحصار العام والقاتل في الداخل والخارج أحياناً..، لقد عمدوا إلى محوه وتغييبه بكل السبل، غير أن درويشاً استطاع أن يقلب الطاولة فوق رؤسهم فقهر المحو، واستبد بالغياب ليصبح في عنفوان حضوره الأنطولوجي والشعري والإنساني والثقافي والفكري. لقد"انطلق محمود درويش من البروة التي محاها الصهاينة إلى العالم، فخلق عبر إبداعه قريةً من الشعر، توشك أن تكون قرية تخايل كل مخيلة تحس الشعر وتتلقاه، فهي قرية كونية راسخة أبدا في الضمير الإنساني يتشوف للتعرف عليها الناس في أربعة أركان المعمورة"([204])

لقد تجلى محمود درويش"هوميروس الأوديسة الفلسطينية" على حد رؤية سمير الزبن، فتحقق وجوداً صلباً عميقاً في جذوره شامخاً في أغصانه واستشرافاته مؤكداً حضوره المتأنق رغم كيد المعتدين، حضوره الشعري، وحضوره الوجودي، وحضوره الإنساني، حضوره إلى الأرض وفيها..الحضور في المكان المحدد كما كان يحلو له أن يقول دائما ليكون شاعر القضية والجمهور والطليعة في آن.

2ـ2: درويش والرؤية للعالم:
لا يبلغ فعل التأويل شأناً كبيراً من غايته ما لم يبلور رؤية الشاعر للعالم؛ ذلك أن الشعر نفسه خطاب؛ وبما أنه خطاب فهو تأويل للواقع. يقول بول ريكور:"إن الخطاب الدال تأويل، وهو الذي"يؤوِّل" الواقع، وذلك بما أنه يقول"شيئا عن شىء" وإذا كان ثمة تأويل، فذلك لأن التعبير يعد استحواذاً واقعيا بواسطة التعابير الدالة، وليس خلاصة مزعومة من الانطباعات الآتية من الأشياء نفسها"([205])

وبه فإن الشعر الذي هو في جوهره سلب لظواهرية العالم، وقبض لمألوفاته وإعادة إنتاجها في حالة الإدهاش والإبهار والمباغتة..، " يتوخى إعادة فهم الوجود ومساءلة الكينونة لتأسيس رؤية الاكتناه العميق، ومن ثم تغدو فاعليته تمارس التأويل الشامل"([206]). من هنا تتأسس قاعدة أهمية الرؤية للعالم وبخاصة في التأويل التكويني البنيوي عند جولدمان ورفاقه ومفادها بناء"وجهة نظر متماسكة وموحدة حول مجموع الواقع "([207]). وعادة ما تكون وجهة النظر هذه هي موقف جماعة أو طبقة واقعة في صراع مع طبقة أو جماعة أخرى، فيعمد المبدع إلى وعاء رؤيتها وبلورة موقفها بطريقة سليمة ومؤثرة تكشف عن التعارض الطبقي، أو تعارض الجماعات أو الفئات أو الهويات وتطمح إلى إنجاز التغيير المطلوب وتحقيق الغاية المرجوة.

ولعل إشكالية الواقع الفلسطيني، وهي إشكالية صراعية متوترة يصل صراعها حد البذخ، تحتم وجود رؤية درويشية حول مجموع الواقع الفلسطيني والإنساني. ولقد كانت مقاومة درويش عبر العقود الطوال تجليا لهذه الرؤية القائمة على تعرية الظلم الكبير الواقع على الإنسان الفلسطيني من قبل العدو الصهيوني ومن ورائه تمترس قوى غربية فجة؛ فجاء شعره في جوهره، وأهدابه فاضحاً لهذا الاختلال القيمي والأخلاقي وضرورة الثورة عليه وتغييره مهما بلغت التضحيات، فالأرض لأصحابها الأصليين، أو هي كم يقول درويش في قصيدته "أغنيات الوطن":

هذه الأرض لي

.................

هذه الأرض جلد عظمي

وقلبي.([208])

لقد كانت رؤية درويش لمجموع الواقع الفلسطيني رؤية تجلية لممارسات الظلم وفضحاً للعدوان وتعرية لتزييف الواقع والتاريخ، وكشفاً للتواطؤ العربي والدولي والسلطوي على قضية شعبه، وأن التغيير هو الغاية، وأن المقاومة هي السبيل الأمثل، تتجلى في الفعل الثوري، وفي الرفض والغضب وفي العودة ولو تسللاً، وفي صيانة الهوية، وحفظ الذاكرة، والتشبث بالأرض والعرض..،إنها رؤية البقاء والتحدي حفاظاً على وطن يفقد كل يوم بعضاً من أنفاسه وحياته ووجوده. وكان درويش مترعاً بوعيه بالظلم الغربي والإنساني الذي يُمارس على الإنسان العربي بعامة والفلسطيني بخاصة. وهي رؤية جعلت تتفاقم في داخله لتعم العالم كله. يقول درويش معلقاً على عدم حصوله على جائزة نوبل في الأدب: "يبدو أن عالمنا لايزال محكوماً في عمقه بشيء ظالم مضاد حتى لما هو إنساني"([209])

وهذا هو مناط الأمر وذروة سنام القلق والأرق، ومبعث الرؤية وحاكمها ومظهر تجليها وتمظهرها في الفعل الشعري والنثري الدرويشيين؛ حيث يتجلى المكان في ظهوره الكلي، وفي حضوره الجزئي هو المرتكز والغاية. وقصيدة"الجسر" بعضٌ من هذا المكان وبعضٌ من كون هذه الرؤية الدرويشية التي هي رؤية شعبٍ بأكمله.

2ـ3: تقابلات السياق: (التقابلات الكبرى)
1ـ التقابل النووي:
 المقصود بالتقابل النووي هو التقابل الرئيس في النص الحاكم لبنيته الدلالية والمولد لبقية التقابلات الاستتباعية الناجمة عنه في حيز النص من البدء إلى الختام. وقد يكون هذا التقابل بين موضوعين أو حالتين أو زمنين أو مكانين أو قيمتين أو وجودين، يؤثران تأثيرا مهيمنا على بناء المعنى وتشكيل الدلالة في النص. فإذا أنجز فعل التأويل التقابل النووي الجسري ـ نسبة إلى قصيدة الجسر ـ تبين أنه على النحو الآتي:

1ـ الموضوع الرئيس لنص التأويل هو»الجسر«.

2ـ الموضوعات الفرعية الناجمة عن الموضوع الرئيس هي عناوين مقاطع القصيدة كما أنجزها فعل التأويل وهي كالآتي:

1ـ القرار: 1ـ4، العودة:5ـ12،التسلل: 13ـ22، المنع:23ـ27، القتل:28ـ56، الاغتصاب: 57ـ 67، الديمومة:68ـ 75، الفضح: 76ـ 81، الإصرار: 82ـ90، البقاء والتحدي: 91ـ107

3ـ التقابل النووي في النص هو التقابل بين: المنفى والوطن. وهو تقابل مكاني جوهري في النص وفي عموم تجربة درويش الشعرية. ومن هذا التقابل الجوهري انبجست الموضوعات الفرعية في مقاطع النص وما نجم عنها من تقابلات استتباعية فرعية تخص كل موضوع في النص. ويبين الشكل الآتي علاقة التقابل النووي بالموضوعات والتقابلات الاستتباعية:

[النص]

[الجسر]

[موضوع رئيس]

المنفى/الوطن

ـــــــــــــــــــ

تقابل نووي

[الموضوعات الفرعية]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القرار العودة التسلل المنع القتل الاغتصاب الديمومة الفضح الإصرار التحدي

 

[ تقابلات استتباعية][مفصلة في تأويل المساق]

2ـ تقابل النص مع النصوص الشعرية:

وينقسم هذا التقابل إلى قسمين:

الأول: تقابل النص مع نصوص درويش الشعرية:
 يأمل فعل التأويل هنا في فتح النص المؤوَّل على نصوص الديوان الذي ينتمي إليه النص، وعلى مجمل نصوص تجربة درويش الشعرية في الدواوين الأخرى ليتحقق وعي تأويلي دقيق بمكانية النص المؤوَّل داخل أحيزة النصوص الدرويشية. وفي هذا الشأن فإن نص "الجسر" ينتمي إلى ديوان"يوميات جرح فلسطيني" وهو واحد من الدواوين التي كتبت بعد هزيمة 1967م. وتتجلى علاقة النص بالديوان تجسيداً لعلاقة الجزء بالكل ليس من حيث انتساب النص طباعياً أو تدوينياً للديوان، وإنما من حيث انتسابه إلى الرؤية الحاكمة للديوان القائمة على رصد جزئيات وتفاصيل الألم اليومي للفلسطيني الذي يتجلى في قول درويش في القصيدة التي يحمل الديوان اسمها:

صوتك الليلة،

سكين وجرح وضماد

ونعاس جاء من صمت الضحايا

أين أهلي؟

خرجوا من خيمة المنفى،

وعادوا مرة أخرى سبايا ([210])

وهكذا تنحو القصائد صوب تعميق فاجعة الألم اليومي الفلسطيني تدل عليه سيميائية العناوين مثل: سقوط القمر، الكلمة الأخيرة في الحوار، لن أبكي، لحظة وداع، نداء من القبر، العصافير تموت في الجليل، آه...عبدالله وغيرها.

فإذا كان شأن الديوان كذلك فإن مأساة الجسر ما هي إلا تفصيلةٌ صغيرةٌ في هذا الخضم العباب من الوخز والأسى. وبه يبدو النص متسقا في دلائليته مع دلالة الديوان في سياق كفاءة تنسيقية دقيقة تعتمد البنية المنطقية في البناء والتدليل على فحوى الرؤية وحيثياتها. من هنا يرد ظهور دال "الجسر" في هذا الديوان في قصيدة"سقوط القمر" وتكاد دلالته تكون تقابليةً في الشكل تضامنيةً في الجوهر. فالجسر هنا هو جسر النازحين الذين يُجبرون على المنفى. يقول درويش:

سألتني عن مواعيد كتبناها

على دفتر طين

ومناخ البلد النائي

وجسر النازحين([211])

وفي أفق الانفتاح على مطلق التجربة الدرويشية، نعثر على ظهورات للجسر تلتحم بالواقع وتنبجس من المجاز لإحكام دلالة ارتباط الجسر بوجع المشكل الفلسطيني المزمن. من ذلك ورود ظهور للجسر في قصيدة "قاع المدينة" ضمن ديوان"كتابة على ضوء بندقية" حيث يعكس الظهور الجسري التزمن التعاقبي للهوان والتضحية من قبل الفلسطينيين. يقول درويش:

يا جسرنا الممتد من فرح الطفولة

يا صليب ـ إلى الكهولة

الآن، نكتشف المدينة فيك

آه....مدينتنا الجميلة!([212])

في ديوان درويش"لا تعتذر عما فعلت"، وفي قصيدة"أنزل هنا، والآن" يتجلى الجسر موثوقا بامتداد الطموح وبإشكالية المكان التي هي أس الوجع.يقول:

ومد جسرك عاليا

فاللامكان هو المكيدة.([213])

أما ديوان"سرير الغريبة" فإن الجسر يدخل في تركيب عنوان أحد نصوصه وهو:"نمشي على الجسر" غير أن دلالته تكاد تكون معجمية وضعية لا تعمق الأبعاد الماضية، يقول درويش:

ونمضي إلى ما يقول المشاة

على الجسر([214])

ويبقى التجلي الأهم على الإطلاق في موضوعة الجسر، في ديوان"كزهر اللوز أو أبعد ... "وبالتحديد في قصيدة بالغة الأهمية في هذا الشأن هي"ضباب كثيف على الجسر"؛ حيث يمتزج فيها الواقع بالخيال، والحقيقة بالمجاز، والداخل بالخارج...وتبدو الرؤية الشعرية مندغمة في الرؤيا في دلالة التباس مقصود يكشف تطور البناء الشعري والرؤيوي عند درويش بعيدا عن النعومة الرومانسية، والجهر الصاخب في المقاومة...إنه التضافر الحيوي بين مستويات اللغة المنتقاة وعمق الرؤيا وتطور التقنية.

من ثم يتم أسطرة الجسر وتفعيل دواله المجازية والرمزية في أقصى طاقاتها ليرتسم مكانا شديد الالتباس ليس بحكم الضباب الكثيف الذي يقبع عليه فحسب، وإنما بحكم التباس الرؤية وكثافة الرؤيا ومروقها في فضاء التقابل النقيضيي في رشاقة حوارية لاتخفي مرجعية إطارها الفلسفي.من هنا يصطنع درويش حالة تماهي مكاني فريدة في تدلالها على المعنى. فالجسر مكان، والجسر فجر، أي لحظة زمانية فارقة بين نقيضي الليل والنهار، وهو تقابل نقيضي يمكن تمديده مجازيا إلى مدارات اليأس والبشارة، أو حتى الموت والحياة. وهذه الدلالة التي ينهض بها المجاز تتوحد مع دلالة/ الجسر المكان من حيث هو حيز فاصل بين متباعدين أو متناقضين كما هو في مأساة درويش والفلسطينيين. هذا هو القصد الالتباسي يفجأ به درويش قارئه منذ استهلال القصيدة:

قال لي صاحبي، والضباب كثيف

على الجسر:

هل يُعرف الشيء من ضده؟

قلت: في الفجر يتضح الأمر

قال: وليس هناك وقت أشد

التباسا من الفجر

فاترك خيالك للنهر([215])

ثم يتصاعد هذا الالتباس الدلالي على هذا النحو:

ـ إلى أين يأخذنا الفجر، والفجر

جسر، إلى أين يأخذنا؟

......................

أين أين يأخذنا الجسر؟

قال: وهل كان هذا الطريق

طويلا إلى الجسر؟

قلت: وهل كان الضباب

كثيفا على درج الفجر؟([216])

لكن ذروة التقابل النقيضي تتجلى في قوله الحواري مع صديقه:

ـ قال: كل جسر لقاء..على

الجسر أدخل في خارجى..

..............................

قلت:......كل جسر فصام

فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل،

ولا الكائنات هي الذكريات.

أنا اثنان في واحد.([217])

إن تأمل المعنى الجسري في نص درويش من حافة فعل التأويل، لابد أن يفضي إلى ملامسة الظلال الصوفية الشفيفة والآسرة بفعل التوحد في المقام الجسري بين الذات والموضوع، بين اللقاء والفصام، بين المكان والزمان، بين الدخول والخروج، بين المنفي والوطن، بين النور والظلمة، بين الليل والنهار، بين الأنا والأخر، بين الفردي والجمعي، بين الحياة والموت. الجسر برزخ بين دنيا وآخرة كما قال درويش وبين المنفى والأرض المجاورة؛ الشأن الذي يحقق فيه دلالة أسطرة المكان، فالجسر بؤرة مكانية جامعة لكل المتناقضات:

قلت: تمهل ولا تمت الآن.إن الحياة

على الجسر ممكنة. والمجاز فسيح المدى

ههنا برزخ بين دنيا وآخرة

 بين منفى وأرض مجاورة...([218])

هذا الفضاء البرزخي المُشكِّل لمكانية الجسر، لايكشف عن ديمومة التوتر والقلق أو أبدية العذاب والألم في حلم العودة فحسب، وإنما يتجاوز ذلك في تجليه الأعلى ليرمق بفعل الحدس والبصيرة إمكان الضياع والتلاشي للوطن. وقد ألمح درويش إلى هذا المعنى في قصيدته"يطير الحمام...يحط الحمام"؛ حيث الجسر مكان لضياع الأندلس، إشارة إلى ضياع فلسطين وتناصاً مع رؤية شوقي الشهيرة:"يا أخت أندلس.."يقول درويش:

يطير الحمام يحط الحمام

ـ رأيت على الجسر أندلس الحب والحاسة السادسة([219])

فكأن الجسر هو مقام المقامات، ومكان الأمكنة، ومناط التناقض؛ يتجلى عقدةً وعلةً، ويظهر انفرجةً وأملاً يضيء عتمة النفق، الجسر باب الحقيقة وباب الخداع، غير أن الشاعر يظل قائماً في رحاب المجاز فلا هو قادر على الدخول الحقيقي، ولا هو مستطيع المروق من الداخل إلى الخارج بحقٍ. إنها المأساة التي ينتصب فيها المكان عِقداً ويحل الجسر منه في الواسطة.

الثاني تقابل النص مع النصوص الجسرية لشعراء آخرين:
 يعمد فعل التأويل في هذا الحيز إلى فتح أفق تأويل النص على النصوص الموازية له والمتعلقة بموضوعة "الجسر" سواء وقع معها تناص أو لم يقع؛ إذ إن غاية هذا الانفتاح التأويلي هو إدراك تصور أرحب وأعمق يمنح جسر"درويش"مكانيته فتتحدد مقدرته الشعرية بمقارنته بغيره من الشعراء. إن النصوص يضيء بعضها بعضا وفق استرتيجية التقابل المعمول بها في نظم التأويل التضافري هنا. من ثم يتبين لفعل التأويل أن ثمة قدراً مهماً للغاية من النصوص الموازية بالتقابل، مجايلة أو غير مجايلة تُصنف على النحو الاتي:

1ـ جسر العودة:
وهو يشكل المعلم الرئيس في النصوص التي جعلت من الجسر موضوعها.وهذه النصوص تكاد تكون مختصة بالشعر الفلسطيني فقط؛ حيث التأزم بقضية النازحين والعودة إلى الوطن هي الفعل المحرك، أو البنية الدالة في كل ما يتعلق بموضوعة الجسر. وهذا الوعي هو ما يجعل النصوص الشعرية الفلسطينية في جلِّها في شأن الجسر متصادية متواردة في خواطرها، متماهية في رؤاها. فالموقف واحد وثابت من شأن الجسر والوطن والعودة والعدو.

ويؤشر فعل التأويل هنا إلى قصيدة"توفيق زياد" التي عنوانها"جسر العودة" وقصيدة فدوى طوقان" التي عنوانها"عند جسر اللمبي". فقد ورد فيهما على الترتيب النصان الآتيان:

أ ـ يقول توفيق زياد:

أحبائي!!

برمش العين

أفرش درب عودتكم،

برمش العين

وأحضن جرحكم،

وألم شوك الدرب،

بالجفنين،

وبالكفين، سأبني جسر عودتكم،

على الشطين

أطحن صخرة الصوان

بالكفين([220])

ب ـ تقول فدوى طوقان:

وقفتي بالجسر استجدي العبور

آه، استجدي العبور

اختناقي، نَفَسي المقطوع محمول على

وهج الظهيرة

سبع ساعات انتظار([221])

وكما هو بين، فإن درويشاً وتوفيقاً وفدوى في فضاء مكاني واحد، يمتاحون من الموقف ذاته ويبنون رؤية متماهية بصرف النظر عن التفاصيل الفنية التي تحمل قصيدة كل منهم. فالجسر هو الجسر الذي لابد من اجتيازه والعودة إلى الوطن بالصبر، أو بالتسلل، أو بالموت والقتال.

2ـ جسر التضحية:
وهو جسر يقع في الحقل الدلالي ذاته حيث الموت والقهر والاستبداد هو السيد في بناء الموقف. ويمثل فعل التأويل لهذا الدال الجسري بقصيدة الشاعرة العراقية "عاتكة الخزرجي"التي كتبت قصيدتها"الجسر" في فاجعة شهداء العراق الذين قتلوا على الجسر سنة1948وهم من الطلبة المنادين بإسقاط معاهدة(جبر ـ بيفن) في أثناء الاحتلال الإنجليزي للعراق. تقول عاتكة:

سيظل يوم الجسر أروع صفحة بفخارها تتيمن الأحفاد

شهداؤك الأبرار أحياء على قسماتهم نور الهدى الوقاد

 يتباشرون مجلجلين هتافهم عاش العراق ومات الاستبداد([222])

3ـ جسر التمرد:
ويمثل فعل التأويل لهذا الدال بقصيدة"قاسم حداد" "سورة الجسر" حيث يكشف الشاعر عن حالة الرفض والتمرد على الواقع فكرياً وثقافياً وحضارياً. الواقع مرارة ومأساة عند قاسم حداد. من ثم لابد من السورة، والخروج عن الطريق التقليدية الجامدة. إن الجسر هو مفجر الرفض ومعلم التمرد. يقول حداد:

للجسر الراقد

بين ميم المرارة وميم المأساة

حيث هنا أبعد من هناك

كتبت رسائل كثيرة

.......................

أيها الجسر الذي علمني الخطوة

وقال للطريق: خذي هذه القدم

شبت عن الطوق والطريقة([223])

4ـ جسر الرجعية:
 يقف دال الجسر في قصيدة  حلمي سالم "الجسر" موقف المكان الفاضح لمظاهر الرجعية والتخلف ويعمد إلى تبئيرها وتصويرها في سياق كاشف عن عوراته المفزعة والفاعلة في جسد المجتمع: يقول حلمي:

فصرت فوق الجسر، قالوا: ماذا ترى؟

قلت أرى شيخات زار يدققن الأرض بأجساد عصابية،

وهن ينزلن من أفواههن رغوة كرغوة البهائم"([224])

5ـ جسر البعث الحضاري:
 إن مسألة مقاومة الرجعية والتخلف والموات العربي في كل تجلياته، هي جوهر الرؤية الانبعاثية الحضارية في مشروع خليل حاوي من لحظة المهاد الشعري له حتى لحظة القرار الصعب بمغادرة الحياة بمحض إرادته انتحارا بعد مذلة العدو الصهيوني باجتياح لبنان عام 1982.من هنا يتجلى الجسر فضاء مكانيا مجازيا ينتقل فيه الإنسان العربي بخاصة والإنسان الشرقي بعامة من النقيض إلى النقيض، من الموت إلى البعث، عبر الجسر الذي يمتزج دلاليا بالتضحية. يقول حاوي في قصيدة "الجسر":

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد

إضلعي امتدت لهم جسرا وطيد([225])

6ـ جسر الهوى:
لعل جسر علي بن الجهم هو الدال الأبزر في هذا الشأن؛ حيث يتجلى الجسر مكانا للحب، أو لذكرى الحب كما في قصيدة نازك الملائكة" على الجسر" وبه فإن الجسر فضاء الهوى الذي يمسرح تجربته ويحفظ مدلولها وذكراها: يقول علي بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوتُ ولكن زدن جمرا على جمر

 سلمن وأسلمن القلوب كأنما تشك بأطراف المثقفة السمر([226])

وتقول نازك الملائكة في قصيدتها "على الجسر":

ومشيت فوق الجسر أبكي أمنياتي في سكون: وأدير وجهي نحو موجك عن عيون العابرين

أحزان حبي كلها في شاطئيك نفضتها: أسرار روحي كلها تحت الظلام نثرتها([227])

7ـ جسر الحياة:
الجسر هنا هو الحياة ذاتها التي يمر فيها وعليها العابرون إلى الآخرة. وهو جسر فضاؤه الزمان والمكان معا. من ثم له تفاصيله المغرية، وفتنة غوايته. ويمثل فعل التأويل لهذا المدلول الجسري بقصيدة عمرإدلبي بعنوان:"الجسر والعابرون"؛ حيث يقول:

جسر حياتي

وللجسر فتنته

للضفاف تفاصيل ساحرة،

للزمان غوايته والمكان

عابر كل هذا،

ولا شيء أعلى

سوى رقة لأصابع عاشقة

فوق خد الكمان([228])

وهكذا يكشف فعل التأويل عبر تقابل النصوص، عن اتساع دال الجسر في الذاكرة الشعرية العربية؛ الشأن الذي يجعل منه فضاءً مكانياً ذا فرادة شعرية وموضوعية.

3ـ تقابل التأويلات:
إن تجربةً شعريةً تتسم بالأمداء الأفقية والعميقة التي تتمتع بها تجربة درويش، لجديرةٌ بأن تكون مناطاً لتأويلات شتى، وقراءات تتسم كثرتها بالبذخ حتى ليكاد يضنى تتبعها وحصرها. غيرأن ما يهمنا من هذا الشأن التقابلي التأويلي هو ما يتعلق بتأويلية المكان عامة، وتأويلية قصيدة الجسر خاصة. وفي هذا الصدد ينجز فعل التأويل الإشارة الدالة على المكان والجسر على النحو الآتي:

أ ـ تأويلات المكان:
يؤشر فعل التأويل في هذا الحيز المكاني إلى دراستين عُنيتا بالمكان في شعر درويش:

الأولى: صورة المكان لفهد ناصر عاشور، ضمن كتابه: التكرار في شعر محمود درويش، وكما هو واضح فإن الدراسة إجراء جزئي ضمن إجراءات القراءة العامة لدلالة التكرار في شعر درويش. وما يهم فعل التأويل هنا هو خلوص الباحث إلى أن" صورة المكان في شعر درويش من أكثر الصور تكراراً بعد صورة الطبيعة؛ إذ تبدو هذه الصورة بما تحتويه من صور جزئية ماثلة بحيثياتها ودلالاتها المختلفة على نحو يصعب إغفاله. ولعل تكرار المكان بصوره المختلفة شاهد آخر على تعلق الشاعر بالأرض وارتباطه بها"([229])

ولقد خلص الباحث إلى حصر المكان في شعر درويش في: صورة المنزل: (الباب، السطح، القهوة الصباحية، رغيف الخبز) من دون أن يمارس فعلا تأويليا حقيقيا على تجليات هذه الصورة المكانية في شعر درويش.

الثانية: ذاكرة المكان وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر، لإبراهيم نمر مرسي، وهي دراسة منشورة في مجلة"عالم الفكر" الكويتية عام2007 تتعلق بدراسة المكان عند اثني عشر شاعراً فلسطينياً ورد درويش واحداً منهم في الرقم"10". وقد ركز الباحث على دراسة المكان من حيث دوال خمسة هي: فلسطين، الخيمة والمنفى، البلدان العربية، البلدان الأجنبية، القارات. وهي دراسة عامة أهم منجزاتها الإجراء الإحصائي الذي أُفرد لحصر الأمكنة وفق التصنيف السالف، وقد كشف هذا الاستقراء الإحصائي أن تجربة درويش في المنفى هي أعلى وروداً عنده من بقية الشعراء الفلسطينين الآخرين، وهو ما تمت الإفادة منه.

ب ـ تأويلات الجسر:
 يومىء فعل التأويل هنا إلى قراءتين اشتبكتا مع قصيدة "الجسر" لمحمود درويش:

الأولى: قراءة في قصيدة الجسر، لأحمد فضل شبلول. وهي قراءة تتشي بالتريث ولو قليلا عند دوال القصيدة. لكنها تركز على الفعل السردي في القصيدة أكثر من كافة الدوال الأخرى. فالقصيدة عند شبلول" حكاية بسيطة في ظاهرها عميقة في دلالاتها، أبطالها ثلاثة: الشيخ وابنته وجندي قديم...والشاعر يعد شاهداً على الأحداث أو راويا لها"([230])

غير أن الدال الأهم في قراءة شبلول هو التوفيق بين أمرين:

أـ بناء القصيدة على نسق التقابل الدلالي بين عناصرها. يقول شبلول:"ننتقل في هذا الجزء من حالة إلى حالة ومن شعور إلى شعور، ننتقل من النقيض إلى النقيض"([231])

ب ـ الوعي بمعيارية الجسر في القضية. يقول شبلول:"نعود إلى الجسر، ليس عنوانا للقصيدة، وإنما ككلمة محورية دار النص حولها، وتكررت ثماني مرات خلال العمل كله"([232])

وهو يرتقي بدلالات الجسر من الحالة الحيادية المتمثلة في كونه محض مكان، إلى حيث كونه مصدراً للخوف عند العائدين، ومصدرا للقتل..إلى أن يصير طريقا تكبر كل يوم، "طريقا من الصعب بل من المستحيل اللجوء إليه، فليبحث العائدون عن بديل آخر للوصول إلى منازلهم"([233])

الثانية: التداخل السردي في الشعر العربي الحديث قصيدة"الجسر"لمحمود درويش: نموذجاً لمحمود خالد البنا. والقراءة كما هو واضح من عنوانها، مشغولة بقضية السرد في النص الشعري. وقد جاءت مؤسسة على ثلاثة أقسام يختص أولها بـ:الشعر والسرد: مهاد نظري، وثانيها: الشعر والسرد في النقد الأدبي الحديث، وثالثها:السردية والشعرية في قصيدة"الجسر" لمحود درويش. على أن الشأن الأهم في هذه القراءة السردية للنص هو الآتي:

أـ انتباه القاريء إلى مركزية المكان في النص، وبخاصة الجسر ومحاولة إبراز دلالته الوظيفية من الوجهة السردية فحسب. فالجسر"هو بؤرة المواجهة الحقيقية بين الطرفين. إن تبئير المكان منذ العنوان، دليل على أهميته في الصراع الدرامي بين الشخصيات القصصية في القصيدة"([234])

ب ـ الإشارة إلى ما أسميناه من قبل"المكانية" وبخاصة في شأن الإيقاع، فإذا كانت القصيدة موزونة على تفعيلات البحر الكامل: متفاعل متفاعل متفاعل..، فإن الأهم في شأن الإيقاع الوزني هو سمة التدوير التي تلف بعض الأقيسة العروضية في القصيدة بما يجعل السطور الشعرية مرتبطا بعضها ببعض.

وقد انتبه القارىء لهذه الدلالة العروضية وربطها بالمعنى على هذا النحو: "إن أبرز وظيفة للتدوير هي إطالة فعل التأمل لما جرى مشاهدة، ولما كان قد جرى تذكرا، وإبراز المأساوية لكل متسلل. إنه يمثل الربط العضوي بين الإيقاع والمحتوى الفكري والعاطفي، وفي خلق حالة متكاملة وممتدة دون توقف؛ بفيض مشاعرها وانفعالاتها ودلالاتها"([235])

وهكذا فإن وضع التأويلات في صيغة التقابل يضيء النص المؤوَّل ويمنح المتلقي فرصة أثمن وأجدر بتعدد الرؤى والمداخل التي يمكنه ولوجها إلى كون النص للوعي بقصده، أو بقصد الخطاب الكلي فيه إبداعاً وتأويلاً؛ وإن كانت هذه التأويلات التي عمد فعل التأويل إلى تقابل اثنين منها في هيئة المحاذاة، لم تتجاوز النظرات الجزئية والمداخل العجلى من غير تأسيس عميق، ولم تمد بصرها صوب ديناميكية المكان في النص وجعله هو المركز الأهم في تأويل التجربة النصية الجزئية، ومن ثم تأويل التجرية الدرويشية في إطلاقها الكلي.

4ـ تقابلات السرد:
أنجز فعل التأويل بعضاً من التقابلات السردية الجزئية في تأويل المساق. لكن الشأن يختلف هنا في تأويل السياق؛ حيث ترصد عين التأويل المكونات السردية الكبرى للنص، وتضعها في النسق التقابلي لإضاءة حافاتها وجواهرها وأثر ذلك في بناء المعنى وفهم النص. ويرصد التأويل لهذه الغاية مسارين:

الأول: التقابل التكويني، ونرصده على النحو الآتي:

تقابلات السرد (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراوي/ المروي/ المروي له

الشخصيات / الأحداث

السرد / الوصف والحوار

الزمان / المكان

الثاني: هو وضع عناصر السرد في محاذاة تقابلية وفق النموذج العاملي الشهير لغريماس:

تقابلات السرد (2)
 الشاعر/ المرسل مرسل إليه (كل شعوب العالم)

 ( الرغبة)

 

الشيخ، الابنة، الجندي(الفاعل)(الموضوع) العودة إلى الوطن

المساعد المعارض

[الأمل، الإصرار، الصوت، الزوابع، الرياح، المذياع]. [جنود العدو، النهر، الطريق الموحشة]

وتأسيساً على الفائت كله، فإن فعل التأويل عبر منجزه التفصيلي في قصيدة "الجسر" في مستويات المساق والسياق، وعبر بلاغة تأويلية ترتكز على مبادىء محددة، وآليات دقيقة، قد خلص إلى سلامة الفرض النقدي الذي أسس به لدخول تجربة درويش وتأويله وفق استراتيجية التضافر والتقابل لتجزم بتماسك النص الدرويشي والتفافه حول جوهرية المكان الذي هو كبد التجربة ولبها وأهدابها في آنٍ. ويزعم فعل التأويل هنا أن أي تأويل لشعر درويش لا يستند إلى مركزية المكان المتعلق بدلالة الوطن والقضية والشعب، سوف يجانبه بعض من الصواب. إن المكان في شعر درويش هو الكلمة المفتاح، أو هو كلمة السر التي تبوح بها النصوص في سرها و تجهر بها في علانيتها في سياق من التحدي لكل عوامل العدم، وهو ما يمنح شعره شفافية الجذب وفتنة الغواية، وليس هذا بقليل على درويش شاعر المقاومة والجماهير والنخبة في لحظة واحدة برغم امتلئها بكثير تناقضٍ لا تغفلُه عينُ أريبٍ.

 

أستاذ النقد الأدبي الحديث

قسم اللغة العربية - كلية الألسن – جامعة عين شمس

 

الهوامش والإحالات



[1] محمود درويش، قصيدة " مديح الظل العالي " www.darwish.ps تاريخ الدخول: 10- 2 – 2013.

[2] ) صلاح فضل، نقد الشعر ـ أساليب الشعرية المعاصرة، دار الكتاب المصري،القاهرة،دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1،2009ـ2010،م2،ص192.

[3]) المرجع السبق،ص191.

[4] )محمد بن يعقوب(الفيروزآبادي)،القاموس المحيط، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، إشراف مكتبة البحوث والدراسات، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،ط1، 1995،مادة:أول.

[5] ) سورة يوسف، آية43.

[6] )المرجع السابق جزء من آية36.

[7] )السابق نفسه، آيه 37.

[8] ) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن،دار الكتب العلمية، بيروت، ط2،1991، ج2،ص382.

[9] )المرجع السابق، ص383.

[10] )أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، بيروت،ط2،1983،ص48.

[11] ) بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الفكر، بيرت، ط1، 1988،ج1،ص126.

[12] )محمد بازي، التأويلية العربية ـ نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، الدار العربية للعلوم ناشرون ـ منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2010، ص23.

[13] ) المرجع السابق، ص21.

[14] ) المرجع السابق، ص24.

[15] ) السابق نفسه، ص23.

[16] ) ميحان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،ط 5، 2007،ص88.

[17] ) المرجع السابق، ص88 بتصرف بالحذف.

[18] )أمبرتوإيكو، التأويل والتأويل المفرط، ترجمة: ناصر الحلواني، مركز الإنماء الحضاري، حلب،ط1، 2009،ص32.

[19] المرجع السابق، ص197.

[20] ) مجموعة من الكتاب، نظرية الأدب: القراءةـ الفهم ـ التأويل، ترجمة: أحمد أبو حسن، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط، ط1،.2004،ص59.

[21] ) المرجع السابق، ص59.

[22] ) بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياش، مراجعة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، ط1،2005،ص34.

[23] ) هلال الجهاد، جماليات الشعر العربي، دراسة في فلسفة الجمال في الوعي الشعري الجاهلي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،ط1، 2007، ص53.

[24] ) المرجع السابق، ص56.

[25] )أمبرتوإيكو، التأويل المفرط، ص.40.

[26] ) المرجع السابق، ص42.

[27] ) جلال الدين الرومي، مثنوي، ترجمه وصححه وقدم له: إبراهيم الدسوقي شتا، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،ط1، 1996،ص161.

[28] ) أمبرتوإيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص45.

[29] ) بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ص99.

[30] ) علاء عبدالهادي، قصيدة النثر والتفات النوع، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، القاهرة،ط1،2009،ص205.

[31] ) مجموعة من الكتاب، نظرية الأدب: القراءة ـ الفهم ـ التأويل، ترجمة أحمد بو حسن، ص60.

[32] ) أمبرتوإيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص49.

[33] ) هانز جورج غادامر،الحقيقة والمنهج، الخطوط التأسيسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم، علي حكم صالح، مراجعة: جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، ليبيا، ط1، 2007،ص172.

[34] ) بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ص40.

[35] ) مجموعة من الكتاب، نظرية الأدب:القراءة ـ الفهم ـ التأويل،ص31.

[36] ) أمبرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص32.

[37] ) علاء عبدالهادي، قصيدة النثر والتفات النوع، ص207.

[38] ) أمبرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص17.

[39] ) المرجع السابق، ص81.

[40] ) المرجع السابق، ص82.

[41] ) السابق نفسه، ص66.

[42] ) أمبرتوإيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة: أحمد الصمعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص 109، ص1010، بتصرف بالحذف.

[43] ) أمبرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص24.

[44] )المرجع السابق،ص24.

[45] )المرجع السابق ص174.

([46] المرجع السابق ص32.

[47]) المرجع السابق،ص 177.

([48] المرجع السابق،ص 173.       

[49]) المرجع السابق، ص 54.

[50] ) محمد بازي، التأويلة العربية – نحو نموذج تساندي فى فهم النصوص والخطابات، ص 55.

[51] ) المرج السابق، ص 55.

[52] )أمبرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص 50.

[53] )المرجع السابق، ص 50.

[54] ) المرجع السابق، ص 45.

[55] ) المرجع السابق، ص 142.

[56] ) المرجع السابق، ص 138.

([57]المرجع السابق، ص 139.

[58] ) بول ريكور، صراع التأويلات – دراسات هيرمينوطيقية، ص 34.

[59] ) محمد مفتاح، التلقي والتأويل - مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط1، 1994، ص 218.

[60] ) أمبرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ص 19،20.

[61] ) المرج السابق، ص 123.

[62] ) بول ريكور، صراع التأويلات – دراسات هيرمينوطيقية، ص35.

[63] ) المرجع السابق، ص101، بتصرف بالحذف.

[64] )المرجع السابق، ص 101.

[65] ) ميحان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ص 89.

[66] ) محمد بازي، التأويلة العربية – نحو نموذج تساندي فى فهم النصوص والخطابات، ص18.

[67] )المرجع السابق، ص 223.

[68] )المرجع السابق، ص 222.

[69] )محمد العبد، اللغة والإبداع الأدبي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،القاهرة ط1،1989، ص 165.

[70] ) تحيل الدراسة هنا الى منجز محمد بازي، التأويلة العربية،، فى ص 243 وما بعدها لدراسة صنوف التقابلات الصغرى التى حصرها بازي في أكثر من خمسة عشر صنفا يبدو بعضها مسرفا أو متكلفا قد نقبل بعضه ونعرض عن بعض آخر حسب مقتضيات الفعل التأويلي فى علاقته بنص درويش وإلي ص 267 وما بعدها لرصد صنوف التقابلات الكبري أو الموسعة. ولقد أفادت الدراسة من تجربة بازي فى بعض المفهومات والرؤي والتصنيفات حسب استجابة نص درويش لآليات المنهج ورؤية المؤوِّل وبلاغته التأويلية لذا لزم التنويه.

[71] ) التأويل والتأويل المفرط ص 179.

[72] ) ياسين نصير، إشكالية المكان فى النص الأدبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ط1، 1996، ص 8.

[73] ) المرجع السابق، ص 394.

[74] ) محمد بن يعقوب ( الفيروز آبادي ) القاموس المحيط، مادة: م ك ن.

[75] ) ديفيز، المفهوم الحديث للزمان والمكان، ترجمة السيد عطا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998، ص12. بتصرف بالحذف.

[76] ) أمبرتو إيكو، السميائية وفلسفة اللغة، ص 57.

[77] ) ميحان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبى، ص117. بتصرف الحدف.

[78] ) المرجع السابق، ص 118.

[79] ) عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواي – بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة،الكويت،عدد 240، ديسمبر 1998، ص 142.

[80] ) عبد الملك مرتاض، بنية الخطاب الشعري – دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1986، ص 113.

[81] )عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر،قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1971، ص 113.

[82] )المرجع السابق، ص 129.

[83] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، دار العودة، بيروت،ط1،1971، مقدمة،ك.

[84] ) المرجع السابق، ص..ل.

[85] ) المرجع السابق، ص.. خ.

[86] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1،2009،ج3، ص379 بتصرف بالحذف.

[87]) المرجع السابق،ج2،ص749.

[88] ) المرجع السابق،ج3،ص232.

[89] ) المرج السابق،ج3،ص216.

[90] ) تحيل الدراسة هنا إلى إبراهيم نمر موسي فى دراسته: ذاكرة المكان وتجلياتها فى الشعر. الفلسطيني المعاصر، عالم الفكر، الكويت، عدد35 مجلد 4 أبريل – يونيو، 2007، ص66، وما بعدها. وقد أنجز الباحث إحصاء على تجارب اثني عشر شاعراً فلسطينياً منهم محمود درويش، أثبت من خلاله مقدار الحضور القوى لذاكرة المكان في التجربة الشعرية الفلسطينية المعاصرة.

[91] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج2، ص282.

[92] )المرجع السابق،ج2، ص309.

[93] )المرجع السابق، ص309.

[94] )المرجع السابق، ج1،ص443، 444.

[95] )المرجع السابق، ج2،ص33.

[96] )محمود درويش، قصيدة: يطير الحمام..يحط الحمام، ص1WWW.adaba Arabic andwah.comتاريخ الدخول:18/10/2012.

[97] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج2، ص77.

[98] ) محمود درويش، قصيدة: يطير الحمام..يحط الحمام، ص1.

[99] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص298.

[100] )محمود درويش، قصيدة: الأرض، WWW.aricandwah.comتاريخ الدخول1/2/2013،ص1.

[101] )المرجع السابق، ص2.

[102] )المرجع السابق، ص3.

[103] ) المرجع السابق، ص3.

[104] )المرجع السابق، ص4.

[105] ) تحيل الدراسة هنا على ما طرحة علاء عبدالهادي عن نموذج النوع النووي في حقل الشعريات المقارنة، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2009، ص52.

[106] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص383.

[107] ) المرجع السابق، ص574.

[108] ) محمود درويش، قصيدة الأرض، ص2.

[109] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص463.

[110] ) جاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، دار الجاحظ للنشر، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد،1ط، 1980، ص74.

[111] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج1، ص298،299.

[112] )المرجع السابق، ص378.

[113] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص287.

[114] )المرجع السابق، ص378.

[115] )المرجع السبق، ص292.

[116] )المرجع السابق،ص287.

[117] )المرجع السابق،ص257.

[118] )المرجع السابق، 247.

[119] ) في هذا الشأن نوصي بمراجعة دراسة إبراهيم نمر موسى، ذاكرة المكان وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر، ص67.

[120] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ج1، ص41.

[121] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص175.

[122] )المرجع السابق، ص141.

[123] ) انظر محمود درويش الأعمال الجديدة الكاملة،ج2،ص175.

[124] ) المرجع السابق، ج1،ص16.

[125] ) المرجع السابق، ج1، ص48.

[126] ) المرجع السابق، ج1، ص138.

[127] ) المرجع السابق،ج1،ص140.

[128] ) المرجع السابق، ج3، ص247.

[129] ) المرجع السابق، ج1، ص25.

[130] ) المرجع السابق،ج1، ص98.

[131] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص454.

[132] ) محمود درويش الأعمال الجديدة الكاملة،ج2،ص592.

[133] )المرجع السابق، ج2،ص665، 666بتصرف بالحذف.

[134] ) المرجع السابق،ج1، ص208.

[135] ) المرجع السابق،ج1، ص123، 133.

[136] ) المرجع السابق،ج3، ص229.

[137] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص550.

[138] )المرجع السابق،ص444.

[139] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ج3، ص227.

[140] ) المرجع السابق،ج1، ص15.

([141]المرجع السابق،ج1، ص35.

([142]محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص346.

[143] ) محمود درويش الأعمال الجديدة الكاملة،ج1، ص177.

[144] ) المرجع السابق،ج1، ص177.

[145] ) المرجع السابق،ج1، ص222.

[146] ) المرجع السابق،ج1، ص242.

[147] ) المرجع السابق،ج1، ص243.

[148] ) المرجع السابق،ج1، ص222.

[149] ) المرجع السابق،ج3، ص66.

[150] ) المرجع السابق،ج1، ص286، 289.

[151] ) المرجع السابق،ج1، ص296،297.

[152] ) المرجع السابق،ج1، ص46.

[153] ) المرجع السابق،ج1، ص445، 446.

[154] ) المرجع السابق،ج2، ص78.

[155] ) المرجع السابق،ج1، ص123.

[156] ) المرجع السابق،ج1، ص121.

[157] ) المرجع السابق،ج2، ص135.

[158] ) المرجع السابق،ج2، ص787.

[159] ) المرجع السابق،ج1، ص117.

[160] )محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 1990، ص72.

[161] )الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: ج س ر. بتصرف بالحذف.

[162] )محمد بازي، التأويلية العربية، ص296.

[163] ) تحيل الدراسة إلى منجز ياسين نصير: الاستهلال ـ فن البدايات في النص الأدبي، ص215، للوقوف تفصيليا على قواعد الاستهلال الأدبي وشروط بلاغته.

[164] ) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: م ش ى.

[165] )المرجع السابق، مادة: ز ح ف.

[166] ) صلاح فضل، نقد الشعر، م2، ص208

[167] )الفيروزآبادي، مادة: ط ر ق.

[168] )المرجع السابق، مادة: ص ي د.

[169] )المرجع السابق، مادة: ب ي د.

[170] )أحمد بن الحسين(المتنبي)، ديوان أبي الطيب المتنبي، شرحه وكتب هوامشه: مصطفى سبيتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 د. ت، ج2، ص270.

[171] ) ديفيد دورد (تحرير) الوجود والزمان والسرد ـ فلسفة بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، ط1، 1999، ص13.

[172] )سامي سليمان، الشعر والسرد ـ تأصيل نظري ومداخل تأويلية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2012، ص275.

[173] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج3،ص402.

[174] ) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: ن ز ل.

[175] )المتنبي، ديوان أبي الطيب المتنبي، ج1، ص222.

[176] ) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: ط ل ل.

[177] ) الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه: راجي الأسمر، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 2007، ج2، ص290.

[178] )المرجع السابق، ج2، ص17.

[179] ) الفيروزآبادي، مادة: ص ى ح.

[180] )سورة هود، آية: 94.

[181] ) الفيروزآبادي، مادة: ط ق ق.

[182] ) المرجع السابق، مادة: ق ص ل.

[183] ) المرجع السابق، مادة: ق هـ هـ.

[184] )سورة يس، آية9.

[185] ) تحيل الدرسة في هذا الشأن الخاص بالتكرار إلى دراسة فهد ناصر عاشور: التكرار في شعر محمود درويش، المؤسسة العربية للدراست والنشر، بيروت، ط1، 2004، ص76. والكتاب كله عن تجربة محمود درويش من منظور التكرار.

[186] ) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: ف ر ر.

[187] )المرجع السابق، مادة: ز ب ع.

[188] )المرجع السابق، مادة: ش ط ن.

[189] )الحسن بن رشيق العمدة في محاسن الشعر، وآدابه، ونقده، حققه وفصله، وعلق حواشيه: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الطلائع، القاهرة، ط1، 2009، ج1، ص198.

[190] )صلاح فضل، نقد الشعر، م1، ص69.

[191] )صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، دار الكتاب المصري ـ دار الكتاب اللبناني، القاهرة،بيروت، ط1،2004،ص74.

[192] ) تحيل الدراسة في شأن مفاهيم ذاتية عن سيرة درويش إلى دراسة صبري حافظ: من المحو إلى الوجود في قلب العالم، مجلة الآداب، بيروت، عدد10ـ11، تشرين الأول(أكتوبر) تشرين الثاني(نوفمبر) 2008، ص55،والدراسة كلها مفيدة في هذا الشأن.

[193] )المرجع السابق، ص59. والمقصود بالزماكنية الباختينية هو "الصلة الداخلية بين العلاقات الزمانية والمكانية في الأدب"...، إن فحواه هو التعبير عن"أن الزمان والمكان لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخرالزمن باعتباره بعداً رابعاً...،إنهما في العمل الأدبي يندمجان بإحكام في كلٍ واحدٍ ماثلٍ للعيان... إنه يمكن القول إن ما يتحدد به الجنس الأدبي هو بالضبط ذلك الزمكان، وهو مقولة أساسية يتحدد من خلالها صورة الإنسان في الأدب ـ إلى حد بعيد؛ فصورة الإنسان هي دائما زمكانية من داخلها". راجع بهذا الشأن السيد ابراهيم، آفاق النظرية الأدبية الحديثة، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2008، ص125، 136. بتصرف بالحذف

[194] ) سمير الزبن، هوميروس الأوديسة الفلسطينية، الآداب، عدد10ـ11، 2008، ص78.

[195] ) صبري حافظ، من المحو إلى الوجود في قلب العالم، ص57.

[196] ) محمود درويش، لهم الليل والنهار لي، حديث منشور في مجلة الآداب البيرونية، عدد إبريل(نيسان) 1970، ص5.

([197] محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص: ز.

([198] المرجع السابق، ص: ل.

)[199] ) فيصل دراج، شاعر المقاومة في جميع الأزمنة، مجلة الآداب، عدد10ـ11، 2008، ص62.

[200] ) صبري حافظ، من المحو إلى الوجود في قلب العالم، ص59.

[201] ) صلاح فضل، نقد الشعر ـ أساليب الشعرية المعاصرة، م2، ص224.

[202] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج2، ص750.

[203] ) صبري حافظ، من المحو إلى الوجود في قلب العالم، ص56.

[204] )المرجع السابق، ص59.

[205] ) بول ريكور، صراع التأويلات ـ دراسات هيرمينوطيقية، ص34.

[206] ) عبد العزيز بو مسهولى، الشعر والتأويل، قراءة في شعر أدونيس، أفريقيا الشرق، المغرب، ط1، 1988، ص7.

[207] )تحيل الدراسة في هذا الشأن إلى دراسة نور الدين صدار: مدخل إلى البنيوية الكوينية في القراءة النقدية العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر الكويت، عدد1، م38، يوليو ـ سبتمبر2009،ص94.

[208] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص555.

[209] ) واسيني الأعرج، أمطار سنوكهولم الدافئة، مجلة الآداب، عدد10ـ11، 2008،ص75.

[210] ) محمود درويش، ديوان محمود درويش، ص385، 386.

[211] )المرجع السابق، ص450.

[212] )المرجع السابق، ص614.

[213] ) محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج2، ص34.

[214] ) المرجع السابق، ج2،ص30.

[215] ) المرجع السابق،ج2،ص281.

[216] ) المرجع السابق،ج2، ص282،283.

[217] ) المرجع السابق،ج2، ص294 بتصرف بالحذف.

[218] )المرجع السابق، ج2، ص299،300.

[219] ) محمود درويش، قصيدة: يطير الحمام..يحط الحمام، ص3.

[220] ) توفيق زياد، قصيدة" جسر العودة" WWW.adrwish.psتاريخ الدخول: 13/11/2012، ص1.

[221] ) فدوى طوقان، قصيدة"عند الجسر"WWW.adab.comتاريخ الدخول 13/11/2012، ص1.

[222] )عاتكة الخزرجي، قصيدة الجسر،WWW.ankawa.comتاريخ الدخول:13/11/2012،ص2.

[223] )قاسم حداد، قصيدة"سورة الجسر"،WWW.adaba.comتاريخ الدخول: 13/11/2012، ص1،2بتصرف.

[224] )حلمي سالم، قصيدة"الجسر"WWW.a-ahaly.com_تاريخ الدخول: 13/11/2012، ص1.

[225] )خليل حاوي، قصيدة الجسر، WWW.arabadab.netتاريخ الدخول:26/9/2012، ص2.

[226] )علي بن الجهم، قصيدة عيون المهاWWW.adabeh.comتاريخ الدخول: 13/ 11/2012،ص1.

[227] )نازك الملائكة، قصيدة"على الجسر"WWW.adab.comتاريخ الدخول: 13/11/2012، ص1.

[228] )عمر إدلبي، قصيدة"الجسر والعابرون"WWW.ahewar.orgتاريخ الدخول: 13/11/2012، ص1.

[229] )راجع على سبيل التفصيل لمكونات الصورة المكانية، فهد ناصر عاشور، التكرار في شعر محمود درويش، ص188. وتفاصيل الصورة المكانية بعد هذه الصفحة.

[230] )أحمد فضل شبلول، قراءة في قصيدة الجسر، للشاعر محمود درويش، WWW.alsadaqa.comتاريخ الخول: 13/11/2012، 1 بتصرف بالحذف.

[231] )المرجع السابق، ص2.

[232] )المرجع السابق، ص15.

[233] )المرجع السابق، ص16،17.

[234] )محمود خالد البنا، التداخل السردي في الشعر العربي الحديث قصيدة"الجسر"لمحمود درويش: نموذجاhttp://Arabic-net.comتاريخ الدخول: 13/11/2012، ص6.

[235] )المرجع السابق، ص9.

 

 

قائمة المصادر والمراجع

أولا: القرآن الكريم.

ثانيا: المصادر الشعرية لمحمود درويش. وتشمل:

1ـ محمود درويش، ديوان محمود درويش، دار العودة، بيروت، ط1،1971.

2ـ محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة(ثلاثة أجزاء) رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2009.

3ـ شبكة الإنترنت، وتشمل المواقع والأعمال الآتية:

1ـ محمود درويش، قصيدة"مديح الظل العالي"WWdarwish.ps

2ـ محمود درويش، قصيدة"يطير الحمام.. يحط الحمام"WWW.arabic andwah.com

3ـ محمود درويش، قصيدة"الأرض"andwah. WWW.arabic

 

ثالثا: المراجع العربية:

1ـ أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1983.

2ـ أحمد بن الحسين المتنبي، ديوان أبي الطيب المتنبي، شرحه وكتب هوامشه: مصطفى سبيتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، د.ت.

3ـ الحسن بن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، حققه وفصله وعلق حواشيه: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الطلائع، القاهرة،ط1،2009.

4ـ الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه: راجي الأسمر، دار الكتاب العربي، بيروت، 1ط1، 2007.

5ـ السيد إبراهيم، أفاق النظرية الأدبية الحديثة، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2008.

6ـ بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت، ط1، 1988.

7ـ جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت،ط2، 1991.

8ـ سامي سليمان، الشعر والسرد ـ تأصيل نظري ومداخل تأويلية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،ط1، 2012.

9ـ صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، دار الكتاب العربي ـ دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت،ط1، 2009.

10ـ صلاح فضل، نقد الشعر ـ أساليب الشعرية المعاصرة، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، ط1، 2009.

11ـ عبدالعزيز بو مسهولي، الشعر والتأويل ـ قراءة في شعر أدونيس، أفريقيا الشرق، المغرب،ط1، 1998.

12ـ عبد الملك مرتاض، بنية الخطاب الشعري ـ دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1986.

13ـ عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية ـ بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، عدد 240، ديسمبر1998.

14ـ عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1971.

15ـ علاء عبدالهادي، قصيدة النثر والتفات النوع، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2009.

16ـ علاء عبدالهادي، مقدمة إلى نموذج النوع النووي ـ نحو مدخل توحيدي إلى حقل الشعريات المقارنة، مركزالحضارة العربية، القاهرة، ط1،2009.

17ـ فهد ناصر عاشور، التكرار في شعر محمود درويش، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1،2004.

18ـ محمد العبد، اللغة والإبداع الأدبي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1989.

19ـ محمد بازي، التأويلية العربية ـ نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، الدار العربية للعلوم ناشرون ـ منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2010.

20ـ محمد مفتاح، التلقي والتأويل ـ مقارنة نسقية، المركز العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1994.

21ـ محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 1990.

22ـ محمد يعقوب(الفيروزآبادي)، القاموس المحيط، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، إشراف مكتبة البحوث والدراسات، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1995.

23ـ ميحان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،ط5، 2007.

24ـ هلال الجهاد، جماليات الشعر العربي: دراسة في فلسفة الجمال في الوعي الشعر الجاهلي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2007.

25ـ ياسين نصير، الاستهلال ـ فن البدايات في النص الأدبي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1992.

26ـ ياسين نصير، إشكالية المكان في النص الأدبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1996.

رابعا: الكتب الأجنبية المترجمة:

1ـ أمبرتوإيكو، التأويل والتأويل المفرط، ترجمة: ناصر الحلواني، مركزالإنماء الحضاري، حلب، ط1، 2009.

2ـ أمبرتوإيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة: أحمد الصمعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005.

3ـ ب.س.ديفيز، المفهوم الحديث للزمان والمكان، ترجمة: السيد عطا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،ط1، 1998.

4ـ بول ريكور، صراع التأويلات ـ دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياشي، مراجعة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، ط1، 2005.

5ـ جلال الدين الرومي، مثنوي، ترجمه وصححه، وقدم له: إبراهيم الدسوقي شتا، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 1996.

6ـ جاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، دار الحافظ للنشر، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ط1، 1980.

7ـ ديفيد وورد(تحرير) الوجود والزمان والسرد ـ فلسفة بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، بيروت،ط1، 1999.

8ـ مجموعة من الكتاب، نظرية الأدب: القراءة ـ الفهم ـ التأويل، ترجمة: أحمد أبو حسن، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط، ط1، 2004.

9ـ هانز جورج غادامر، الحقيقة والمنهج، الخطوط التأسيسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: حسن ناظم، علي حكم صالح، مراجعة: جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع ليبيا، ط1،2007.

خامسا: الدراسات المنشورة في المجلات والدوريات:

1ـ إبراهيم نمرموسى، ذاكرة المكان وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر، عالم الفكر، الكويت، عدد35، م4، أبريل ـ يونيو2007.

2ـ سمير الزبن، هوميروس الأديسة الفلسطينية، مجلة الآداب، بيروت، عدد10:ـ11، تشرين الأول(أكتوبر) تشرين الثاني(نوفمبر) 2008.

3ـ صبري حافظ، من المحو إلى الوجود في قلب العالم، مجلة الآداب، بيروت، عدد:10ـ11، 2008.

4ـ فيصل دراج، شاعر المقاومة في جميع الأزمنة، مجلة الآداب، بيروت، عدد: 10ـ11،2008.

5ـ محمود درويش، لهم الليل والنهار لي، حديث منشور في مجلة الآداب، البيروتية، عدد أبريل(نيسان)1970.

6ـ نور الدين صدار، مدخل إلى البنيوية التكوينية في القراءةالنقدية العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر، الكويت،عدد1،م38، يوليو ـ سبتمبر، 2009.

7ـ واسيني الأعرج، أمطار ستوكهولم الدافئة، مجلة الآداب، بيروت، عدد: 10ـ 11، 2008.

سادسا: دراسات ونصوص على الإنترنت:

1)أحمد فضل شبلول، قراءة في قصيدة الجسر، للشاعر محمود درويش، WWW.alsadaqa.comتاريخ الدخول: 13/11/2012.

2) توفيق زياد، قصيدة" جسر العودة" WWW.adrwish.psتاريخ الدخول: 13/11/201.

3) حلمي سالم، قصيدة"الجسر"WWW.a-ahaly.com_تاريخ الدخول: 13/11/2012.

4)خليل حاوي، قصيدة " الجسر"، WWW.arabadab.netتاريخ الدخول:26/9/2012.

5) عاتكة الخزرجي، قصيدة " الجسر"،WWW.ankawa.comتاريخ الدخول:13/11/2012.

6) علي بن الجهم، قصيدة " عيون المها" WWW.adabeh.comتاريخ الدخول: 13/ 11/2012.

7) عمر إدلبي، قصيدة"الجسر والعابرون"WWW.ahewar.orgتاريخ الدخول: 13/11/2012.

8) فدوى طوقان، قصيدة"عند جسر اللمبي"WWW.adab.comتاريخ الدخول 13/11/2012.

9) قاسم حداد، قصيدة"سورة الجسر"،WWW.adaba.comتاريخ الدخول: 13/11/2012.

10)محمود خالد البنا، التداخل السردي في الشعر العربي الحديث قصيدة"الجسر"لمحمود درويش: نموذجا http://Arabic-net.com تاريخ الدخول: 13/11/2012

11) نازك الملائكة، قصيدة"على الجسر" WWW.adab.com تاريخ الدخول: 13/11/2012