كثر الحديث عن الزمن الردئ دون أن يتوقف أحد أزاء هذا المصطلح الشائك. هنا يحاول الشاعر المصري الذي اغترب نتيجة آليات مناخ الزمن الردئ الطاردة أن يتريث أمام هذا التعبير بالتأمل والتعليل.

من الزمن الجميل إلى الزمن الردئ

فرانسوا باسيلي

يشير كثير من الكتاب والمثقفين إلى الزمن الجميل الذي عاشته مصر قبل حلول وقتنا الحاضر الذي يصفه معظمهم ـ علي اختلاف ميولهم ومشاربهم ـ بالزمن الرديء! فما هو بالضبط ذلك الزمن الجميل؟ و ما الذي جعله جميلا؟ وما الذي أوصلنا بعده إلى الزمن الرديء.

قرأت تعبير الزمان الجميل لأول مرة في قصيدة "مرثية للعمر الجميل" للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، والتي كتبها في ايلول (سبتمبر) عام 1971 في ذكري مرور عام علي رحيل جمال عبد الناصر. وقد كتب الشاعر تحت عنوانها عبارة في ذكري عبد الناصر والقصيدة هي احدي اجمل اعمال حجازي الشعرية، وفيها يدخل الشاعر ـ الذي يطلق علي نفسه فيها لقب المغني ـ مع الزعيم ـ القائد عبد الناصر في حوار فكري وعاطفي مثير ومرير، هو مزيج من المرثية والمناحة والمحاورة العاتبة الغاضبة المتألمة المستفهمة المستنكرة. يعتب فيها المغني في حزن وجودي هائل علي بطله الذي خذله، في محاولة شعرية لفهم اسباب الانكسار وطبيعة العلاقة السحرية التي كانت بين الشاعر والمثقف المصري بشكل عام ـ وبين عبد الناصر ـ الرمز المجسد لاحلام جيل عربي كامل، فراح الشاعر حجازي الذي فجع في هزيمة بطله يبحث في نسيج انساني شعري عظيم ـ يذكرك بمراثي أرميا وحزنه علي أورشليم في العهد القديم ـ عن معاني ومفاتيح ألغاز الثورة والبطولة والهزيمة. وفي المقطع التإلى من القصيدة الطويلة يشير حجازي إلى الزمان الجميل وهو يحاور بطله الملك ويتساءل في نوع من الاعتراف بالمسؤولية في اشتراكه في الخديعة السحرية المتبادلة:

من تري يحمل الآن عبء الهزيمة فينا
المغني الذي طاف يبحث للحلم
عن جسد يرتديه
ام هو الملك المدعي ان حلم المغني
تجسد فيه
هل خدعت بملكك
حتي حسبتك صاحبي المنتظر
ام خدعت بأغنيتي
وانتظرت الذي وعدتك به
ثم لم تنتصر
أم خدعنا معاً
بسراب الزمان الجميل؟!

وهكذا دشن عبد المعطي حجازي تعبير الزمن الجميل في مرثيته هذه لعصر عبد الناصر. ويمكن بذلك القول ان الزمن الجميل قد انتهي برحيل عبد الناصر في ايلول (سبتمبر) 1970.

بداية الزمن الجميل
كانت سنوات الثورة المصرية التي قامت في 23 يوليو 1952 ـ وعهد عبد الناصر الذي مثلها وقادها ـ هي سنوات الحلم والامل والتوثب الشبابي والتفتح الثقافي والتحول الاجتماعي والصعود السياسي علي الساحة العالمية. وبهذا تكون فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين هي فترة الزمن الجميل. وان كان البعض يقول إن الزمن الجميل يعود إلى ما قبل الثورة، في مرحلة الكفاح ضد الاحتلال الانكليزي من اجل الاستقلال في ثورة 1919 بقيادة الزعيم سعد زغلول والاشتراك الفعال الحميم لعنصري الامة من مسلمين واقباط بالاضافة إلى ما اتسمت به تلك الفترة من ديمقراطية قريبة من الديمقراطية الغربية تجلت في تعدد الاحزاب وانتخابات حرة نزيهة بالاضافة إلى الفكر النهضوي التحرري الذي كان من اعلامه في مطلع القرن قاسم امين الملقب بمحرر المرأة ومحمد عبده الشيخ الازهري المستنير محرر الخطاب الديني. والشيخان الاخوان عبد الرازق، والرائد المإلى التجاري الصناعي طلعت حرب ثم طه حسين والعقاد وسلامة موسي، ومع هذا كله حركة عمران بديعة في القاهرة والاسكندرية (مع اهمال لبقية القطر!) ولا شك ان القاهرة كانت اكثر جمالا ونظافة واناقة في تلك السنوات اذ كانت اقل ازدحاما وتكاد تخلو من السيارات.

ولكن هذا كله كان تحت نير الاحتلال البريطاني الذي كان هو الآمر الناهي في نهاية المطاف، وكان الذهب المصري يرحل بالسفن إلى بريطانيا كل عام والجنود الانكليز يرتعون في مدن مصر وقراها بلا حسيب ـ وحادثة دنشواي خير دليل ـ وما كان لشعب تحت الاحتلال ان تكون له أحلام أبعد من حلم الاستقلال فقد كان هذا هو الهم الاكبر الذي استحوذ علي كامل الجهد والطاقة للقادة والشباب علي السواء . وبهذا لم يكن من الممكن ان يكون ذلك الزمن جميلا مرصعا بالاحلام والآمال وما كان لمصر مكانة سوي مكانة كل وطن جريح وكل شعب مستعبد وتحت الاحتلال.

وليس الامر امر جمال المباني والشوارع فهذه وحدها لا تصنع ـ ولم تصنع ـ زمنا جميلا يتلألأ بطاقات النمو وعافية التحولات الاجتماعية والثقافية الهائلة التي نقلت مصر من ريف هادئ خـــامل يستجم فيه الباشوات إلى حركة مباركة وصلت بها درجة التوثب واللهاث خلف النمو إلى حد افتتاح مصنع كل 48 ساعة في عهد عزيز صدقي أبو الصناعة المصرية. وهكذا ومع الاعتراف بفضل أجيال جميلة سابقة ارست لقواعد فكر النهضة بانفتاحها علي الحضارة الغربية في اوروبا ـ فإن الزمن الجميل بدأ في مصر مع الحركة المباركة وهو الاسم الذي عرفت به الثورة في شهورها الاولي. وقد حققت هذه الحركة أهم انجازاتها بتوقيع اتفاقية الجلاء عام 1954.

ما الذي جعله جميلا؟
للجمال جوانب متعددة، ولكن اكثرها اثارة هو جمال الصبا والشباب بما يتميز به من براءة ونزق واندفاع وراء الاحلام الكبيرة في مغامرة مستمرة مثيرة هي مغامرة صنع الحياة واقتناص فرصها واللهاث خلف بريق وعودها. كان لزمن الثورة الجميل هذا الجانب المثير من جمال الصبا وتوثب الشباب بحيويته الهائلة المتدفقة والمتأمل لسنوات الثورة لا شك ستذهله السرعة الخاطفة لتوإلى الاحداث الجسام والانطلاقات الاولي في كل مجال وتلاحق الانجازات في لهاث متصل وكأن ذلك الجيل ـ جيلنا ـ جيل الثورة ـ كان يعرف ان عمره قصير كالزهور ولذلك كان متسرعا متعجلا يريد تحقيق كل شيء في لمح البصر. انك لتدهش بلا شك حين تري ان مصر قد تحولت في غضون ثلاث سنوات فقط من دولة نائمة تحت الاحتلال الانكليزي عام 52 إلى دولة رائدة مؤسسة ـ مع الهند ويوغسلافيا ـ لحركة عالمية هائلة هي حركة عدم الانحياز، متوجة مكانتها التي اكتسبتها في لمح بصر الزمان عام 55 في مؤتمر باندونغ! لا يمنحنا التاريخ المعاصر مثالا مشابها لدولة ارتفعت من القاع إلى القمة بمثل هذه السرعة!

لست هنا في مجال تعداد انجازات الثورة وان كنت الاحظ ـ للأسف ـ ان الكثيرين من الجيل التإلى لجيل الثورة لا يعرفون هذه الانجازات بسبب حملة التشويه الهائلة التي قام بها عهد السادات وزبانيته وترعرع الجيل المصري التإلى في وسطها فتأثر بها وسقط في حبال منزلقها الاخلاقي والتاريخي فراح يتصور عن الثورة تصورات هي في الكثير منها هلوسات مرض الكراهية العمياء وحقد الجهلاء. بالاضافة إلى ما قام به الاخوان المسلمون من الأخذ بثأرهم التاريخي من عبد الناصر وثورته بجهد لا يكل في الافتـراء عليها وتشويهها والطعن بكل انجازاتها. والمضحك المبكي هنا انه حتي انجاز هائل مثل السد العإلى وهو انجاز صناعي هندسي زراعي بحت يحاولون عبثا الحط من قيمته حتي ظهر في مطلع هذا القرن تقرير عالمي وضعه خبراء هندسيون في الغرب يعتبر السد العإلى احد اهم عشرة مشاريع هندسية في العالم في القرن العشرين!

صبا الفكر وجمال الثقافة
بالإضافة إلى انجازات الثورة اللاهثة في المجالات السياسية والصناعية والاجتماعية ومشروعاتها التي حققت للغالبية الساحقة من فقراء مصر من الفلاحين والعمال مستويات اعلي من المعيشة حولتهم إلى طبقة وسطي فاعلة نشطة فلا شك ان من اكثر انجازات الثورة جمالا واثارة لشاعر مثل حجازي ـ ولشاعر ناشئ مثلي كانت تتفتح براعمه الوجدانية علي كل ما هو جديد ومثير في تلك الفترة ـ هي تلك الحركة الثقافية الفنية الفكرية الابداعية الهائلة التي انطلقت بشكل تلقائي فريد لتواكب الثورة وتساندها وتغذيها وتتغذي بها. فقد شهدت الخمسينات ـ وبشكل متزايد الستينات ـ انطلاقة بالغة الاثارة في كل مجال من مجالات الفنون التي كانت معروفة في مصر من قبل ـ بالاضافة إلى عدة مجالات جديدة لم تكن معروفة فعشنا وشاهدنا ابداعات وانطلاقات مثيرة في الاعلام المصري ـ اذاعة وصحافة ثم تلفزيون ـ وكانت مصر ـ الثورة اول دول الشرق الاوسط معرفة للتلفزيون ورأينا الاهرام تتحول بقيادة محمد حسنين هيكل إلى مؤسسة صحافية رائدة وشامخة حيث استقطب هيكل عمالقة الفكر والأدب في ذلك الوقت لينضموا إلى هيئة كتابها، من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف ادريس إلى لويس عوض وحسين فوزي وصلاح جاهين وكمال الملاخ وغيرهم. وحظي جيلنا بقراءة اعمال نجيب محفوظ الشامخة المتمردة ـ مثل اولاد حارتنا واللص والكلاب وميرامار وغيرها علي صفحات الاهرام . اما الاذاعة فيكفي ان صوت العرب كان له دور عظيم في نشر فكر وثقافة ومشاعر التحرر والاستقلال والكرامة في ارجاء العالم العربي حتي ان دولة مثل فرنسا اشتركت في العدوان الثلاثي عام 1956 علي مصر لكي تحد من صوت العرب وتحد من تأثيره في تأجيج ثورة الجزائر ضدها!

واندلعت في مصر حركات التجديد في الفكر والفنون، وكان صلاح عبد الصبور وحجازي من أعلام التجديد الشعري فيما عرف بحركة الشعر الجديد وخاضا ـ ومعهم نقاد مصر في ذلك العصر الذهبي من لويس عوض ومحمد مندور إلى رجاء النقاش وغإلى شكري ـ معركة ضارية ضد العقاد وجودت ومدرسة الشعر القديم.. وفي المسرح ظهرت فرقة المسرح القومي باعمالها الراقية بجانب عدد كبير من الفرق العامة والخاصة الاخري فاندلعت حركة مسرحية باهرة كانت تغرف من الطينة المصرية ابداعات اصيلة فيما هي تغترف من الثقافة العالمية بانفتاح مدهش، وكان باستطاعتي ان اشاهد علي مسرح الجيب آخر صيحات مسرحيات العبث لصمويل بيكيت ويوجين يونسكو بعد عام او عامين فقط من ظهورها علي مسارح لندن وباريس. وكان اهتمام الثورة بالفنون باهرا حقا، فأقامت الدولة الفرقة القومية للفنون الشعبية ومسرح العرائس وأنشأت قصور الثقافة في مدن وقري مصر. وكانت السينما المصرية صناعة زاهرة تنتج ما يزيد عن خمسين فيلما جديدا كل عام، وكانت الاغنية المصرية في اوج مجدها يصدح بها فنان الثورة عبد الحليم حافظ ومعه جيل شاب من المؤلفين والملحنين المبدعين مثل كمال الطويل والموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي، كما ابدع الجيل القديم ـ عبد الوهاب وام كلثوم والسنباطي ـ اعظم اعمالهم في عصر الثورة وكانت ام كلثوم سفيرة الثورة إلى العالم العربي والعالم كله، وأصبح عبد الوهاب موسيقار الأجيال بتطويره الدائم لأعماله الفنية.

علمانية عالمية
بجانب الانفتاح المثير علي الثقافات العالمية شرقا وغربا، كان للتوجه العلماني للثورة ـ اي فصلها للدين عن السياسة وحفظها للدين في مكانه ومكانته بعيدا عن المعترك السياسي واختفاء النعرة الدينية والتشدد الديني وانحسار سلطة الفقهاء والعلماء والشيوخ علي العامة، كان لهذا اثره في ترعرع الفنون والآداب. ورغم ان الثورة لم تطلق شعار العلمانية علي الاطلاق الا ان سياستها الداخلية كانت سياسة علمانية تقدمية مستنيرة بشكل واضح لا لبس فيه وكانت الاشارات تأتي واضحة من اعلي السلطة فلم يكن عبد الناصر يستعمل في خطاباته التي كانت تلهب مشاعر الجماهير عبارات دينية كما فعل خلفه السادات، ولم يكن يقحم اسم الله ولا ايات القرآن في كل خطاب وكان يبدأ خطبه دائما بعبارة ايها الاخوة المواطنون اي انه اسس قواعد المواطنة الحقة قبل نصف قرن من محاولة ادخالها إلى المشهد السياسي الحإلى الذي تحول إلى مشهد ديني سلفي منغلق بفضل استيلاء الاخوان المسلمين علي الشارع المصري وتشكيلهم للوجدان المصري وللثقافة المصرية علي هواهم السلفي المعروف.

الهزيمة ليست النهاية
رغم فداحة الهزيمة العسكرية عام 67 فلم تكن هي نهاية الزمن الجميل بدليل الأداء الباهر في حرب العبور بعد ذلك بست سنوات فقط والجيل الذي حارب وعبر القناة وحقق انتصارا كبيرا بكل المقاييس هو نفسه جيل الثورة الذي تفتحت عيونه وحواسه وافكاره علي مباهج الزمن الجميل. هذا الجيل اذن هو صانع نصر اكتوبر ولا يمكن القول ان ضربة 67 كسرت عزيمته او حطمت ارادته إلى الابد. وحين انظر إلى اعمإلى الشعرية التي بدأت كتابتها ونشرها بعد 67 اجد ان بها جرعة كبيرة من التشبث بالامل والتبشير باستمرارية الحلم. فأول قصيدة نشرها لي الاستاذ رجاء النقاش في مجلة الهلال عام 69 كانت تقدم الأمل الجميل القادم في زمن الحب رغم فداحة زمن الحرب :

بعد قليل
زمن الحرب قتيل بعد قتيل
زمن الحرب عويل
زمن الحرب وداع
دمع ومناديل
زمن الحرب طويل
بعد قليل
بعد قليل
تضحك ياأرغول
ترقص ياأرغول
ارجع من غابات النار
من عطش الاسفار
املأ ارضي فرحا ومواويل
اكتب اسمي
واسم حبيبي
فوق ضفاف النيل
يا وطني وأقول:
زمن الحب جميل.
وفي قصيدة أخري كتبتها في نفس الفترة أقول:
وعد
مالت علي النخيل
الشمس ثم غابت
وأطبق الظلام فوق الوادي
لكنها من قبل أن تميل
أهدت إلى وعدها الجميل
ان لا يطول الليل والعويل
في بلادي

وهكذا نجد ان 67 لم تكن بالضرورة هي نهاية الزمن الجميل اذ استمر جيل الثورة في التعلق بالامل الذي بعثته فيه سنوات الرايات والبروق. وآمن فعلا انه رغم الكارثة فمن الممكن ان ينظر إلى ما حدث باعتباره نكسة يقوم بعدها. وهذا ما أثبتت صحته حرب العبور.

بداية الزمن الرديء
ما الذي قضي علي الزمن الجميل إذن؟ وما الذي دشن بداية الانحدار نحو الزمن الرديء؟ برحيل عبد الناصر في ايلول (سبتمبر) عام 70 بعد ثلاث سنوات فقط من هزيمة 67 بدا ان كل شيء ينهار وليس بالغريب ان يكتب شاعر مثل حجازي مرثيته للعمر الجميل والزمن الجميل بعد عام من رحيل عبد الناصر، فقد جاء السادات لا ليكمل المسيرة الثورية ونهضتها التنويرية العلمانية الباهرة بل ليغير اتجاهها مائة وثمانين درجة. وقد شعر الشارع المصري بفطنته التاريخية بهذا رغم اعلانات السادات المتكررة باستمراره علي نهج عبد الناصر، وانطلقت وقتها النكتة الذكية التي تقول ان سائق سيارة السادات وصل بالركب الرئاسي إلى مفترق طرق، فسأل اي اتجاه آخذ يا ريس؟ فسأله السادات: واي اتجاه كان يأخذه عبد الناصر؟ فأجاب السائق: كنا نتجه إلى إلىسار. فقال له: اذن اعط اشارة الاتجاه لليسار واتجه بنا لليمين!

وهذا ما فعله السادات بالضبط. فقد اسلم مصر قيادة وشارعا لقوي إلىمين ـ سياسيا واقتصاديا ودينيا ـ واستعان بالاخوان المسلمين لمواجهة إلىساريين والناصريين. ومنح لهم الضوء الاخضر للاستيلاء علي اتحاد الطلاب بالجامعات واتحادات العمال ونقابات المهن وسحب قيادات الاعلام من إلىساريين والوسطيين ومنحها للاسلاميين وإلىمينيين فسحبت مجلة الهلال من رجاء النقاش واعطيت لصالح جودت شاعر الذوق القديم البائد فترك النقاش مصر غاضباً حزينا، واقال السادات كافة المثقفين المستنيرين وإلىساريين من مناصبهم وأسلم الإعلام والثقافة المصرية بأكملها لقوي التشدد الديني وإلىمين السياسي ـ وهي دائما وفي كل مجتمع ـ بما فيه المجتمع الامريكي ـ قوي معادية للفكر والفنون والانفتاح الثقافي ـ فإلىمين في كل مجتمع هم اهل المظاهر الدينية الصاخبة من ناحية والتجارة والمال من ناحية اخري، ففي امريكا إلىوم هم المحافظون الجدد والمسيحية الصهيونية والوول ستريت وفي عهد السادات كانوا هم الاخوان المسلمون وعثمان احمد عثمان وشركات توظيف الاموال. ومع صعود اسهم هؤلاء راحت الثقافة المصرية التي كانت دائما هي الثقافة العربية الرائدة تتراجع وتنحدر وراحت الفنانات يهجرن الفن باعتباره حراما ويعتزلن ويتحجبن وكانت نهاية السينما المصرية والمسرح المصري والابداع المصري بشكل عام. واختفت كافة مظاهر الفنون والجمال والذوق من الشارع المصري والوجدان المصري الذي راح ـ بقيادة الاخوان وارشادهم الروحي والمادي معا ـ يتخذ من الوهابية السعودية والرجعية الطالبانية امثلة تحتذي فإذا بنا نري أحياء شعبية كاملة بقلب القاهرة تتحول إلى افغانستان اخري! هل يمكن لانسان يعشق مصر حضارة وتاريخا وريادة ان يقبل ان تصبح مصر تابعة لاكثر مجتمعات الارض تخلفا وتزمتا وانغلاقا فكريا وحضاريا؟ وهكذا وصل بنا الحال إلى الزمن الرديء البذيء المتردي في الاسفاف والانحطاط.

فالهزيمة العسكرية ليست هي التي قضت علي الزمن الجميل في مصر ـ ولكنها الردة الحضارية الرهيبة التي اطلق السادات العنان لها ولم يفلح نظام مبارك في ان يتصدي لها بثقافة مضادة وحضارة حية حيوية بديلة، فاستسلم الشارع المصري لثقافة الزار والهوس الديني والصراخ السلفي والرجعية الوهابية حتي أصبحت مصر ـ ام الدنيا وفجر التاريخ واولي حضارات الزمان ـ قطعة من أفغانستان! هذا هو مسار المأساة ـ الملهاة التي نعيشها إلىوم. هذه هي حكاية مصر من الزمن الجميل إلى الزمن الرديء. وما زال الزمن يزداد رداءة. ولكننا سنستمر في الكتابة استدعاء لزمن يعيد لمصر جمالها وبهاءها.. وعندها:

أملأ أرضي فرحا ومواويل
واكتب اسمي
واسم حبيبي
فوق ضفاف النيل
يا وطني واقول:
زمن الحب جميل!

كاتب وشاعر من مصر يقيم في نيويورك