عن عالم المنفى والمنفيين تغور الروائية العراقية في تفاصيل العذاب اليومي والتمزق الأسري الذي تعيشه الأسرة القادمة من ثقافة أخرى يسود فيها الرجل والدكتاتور وقيم مجتمعية صارمة، وما يصير بها في البيئة الغربية الجديدة التي كفلت بشكل دقيق الحرية الشخصية بنموذجها الدنمركي من تمزق وأمراض وخراب.

عندما تستيقظ الرائحة (رواية العدد)

رواية في ثلاثة فصول

دنى طـالـب

إلى عماد

الكلمات لها وزن ... لم أقلها لك بعد ... إن قلتها هبطت إلى قاع البحر

 

الفصل الأول

المحللة النفسانية

1

طلبتُ منها أن تختار بنفسها المرحلة التي تود التحدث عنها، أو حتى الموقف الذي ربما تجده قريبا إلى قلبها.

قالت:

- سأتحدث عن  " نرجس"!

- نرجس من؟

- نرجس!

تنظر إلي بعين تود أن تقول لي: وكيف لا تعرفين نرجس. لكنها وبعد لحظة تأمل تقول:

- نرجس إلهة سومرية، لم تكن على درجة من الجمال، ولأن الناس هناك يعشقون الجمال كانت نرجس منسية في حياتها، لكن وبعد أن حلَّ الخراب بموتها، أخذ الناس يسجدون لها وينذرون النذور.

- إلهة ماذا؟

- إلهة القهر... الحزن، الخراب والحكايات، يقال بأنها، طيلة فترة صمتها، كانت ناقمة على شعبها، لذا آل الحال بنا إلى ما آل.

- أ تقصدين ما حلَّ بوطنكم، أم ما أنتِ عليه الآن؟

- بل قولي كل الخراب الذي في العالم. لنترك سيرتها، أ لم تسمعي عن قصة النصارى والمجوس والمسلمين واليهود الذين سحرتهم إمرأة فصاروا أسماكاً بأربعة ألوان تسبح في بركة تحوطها أربعة جبال؟

لم أفهم وهي لم تنتظر جواباً مني. طلبتْ الإذن بتدخين سيجارة. كدتُ أفقد الأمل حينها عندما نهضتْ من مكانها، خلتها ستقول ثانية:- لنؤجل الحديث إلى يوم آخر.

لكنها وبشيء من الاهتمام المفاجىء بالجلسة نفثت جرعة كبيرة من الدخان واستأنفت:

- سأتحدث عن لحظة.

- تفضلي.

- لن أصفها لكِ بتفاصيلها بالطبع، ولكن بإمكاني أن أشرح لك ما عنته لي.

- ولم لا تصفينها لي، اللحظة؟

- لأنها حالة عشق، لا يمكن وصفها، مثل أول حب ، يوم حب، ساعات من الحب، الذروة في الحب، حين تصير اللحظة زمن حب، بعض ما يحدث لنا لا يحتمل تفسيرا.

- حسناً.

- كنت متأكدة تماما من حملي صباح اليوم الذي تلا الليلة تلك، حتى انني اتصلت بـ"نهلة" وأخبرتها بأنني أحمل ابنه في بطني.

- من هو؟

تفرك كتفها الأيسر.

-  هو، صاحب مقولة الأرض لا تذكر إلا من ينبِتُ بذره فيها. كان يصهر الحديد ويطوعه بيديه فيصنع مخلوقاته. ملهمي.

- ونهلة؟

- نهلة... نهلة كائن مزعج جدا، مخلوق بين الإنس والجن على سطح الأرض، شهية، متلونة، مترفعة.

- وهل صدَّقتْ نهلة نبوءتَكِ؟

- إلى حد ما، قالت لي بأنها شعرت بالشيء ذاته ذات ليلة شيطانية حميمية، ومن دون " رضا".

- رضا؟

وجهها يرتخي بابتسامة خفية تكشف عن عمق دلالة الإسم:

- كان هناك عرض سنوي للنشاط المدرسي في " بهو الإدارة المحلية" في البصرة، وقد أُسنِدَ له هذه المرة دور رئيسي في لوحة " رقصة الصيادين"، دخل رضا ذو البشرة الحنطية المسرح بخطوات رشيقة كراقص باليه روسي، كان خفيفاً وكأنه يطير، بزي شعبي زاده رشاقة، على رأسه "عرقجين"، مرتدياً دشداشة مفتوحة حتى البطن تكشف عن صدر عريض، أدخل ذيلها في حزام عريض استقر على وركه، فبرز من تحتها سروال طويل ضيق مزموم إلى الركبتين وقد بانت ساقاه المشعرتان بعضلتين بضتين قويتين، الله، أقول لكِ دخنا جميعا.

- من أنتم؟

- كل العذراوات، كنا نتهافت لحضور العرض السنوي لفرقة النشاط المدرسي لنرى جمال "يوسف" الذي يُشبِع الشوق المُبكي المكبوت بدواخلنا.

- لكن ماذا لو طلبتُ منك أن تختاري موقفاً ما أو لحظة حدثت لك بعد وصولك الدنمارك، أو شخصاً جديداً تعرّفتِ عليه هنا في كوبنهاجن مثلا؟

تصمت قليلا لتفكر. تكرر فرك كتفها، تمسِّج أعلى رقبتها. تمطّ شفتيها ثم تقول بصوت خافت:

- ستكون " مروى".

- مروى البصري؟

- أجل، مروى البصري.

نهضت مروى من مكانها وتوجهت إلى اللوحة الكبيرة المسنودة إلى الجدار في غرفتها. راحت تتحسس سطحها بيدها الملوثة بلون أخاله زيتيا. تبدو تعبة. تذكرتُ فجأة بأنها لم تحرص على أن تظهر لي بزيها الخاص الذي اعتادت أن تظهر به، كما هو مدرج. كنتُ قد جمعتُ ملاحظات هامشية صغيرة من الأوراق التي استلمتها ضمن الملف الخاص بها في البلدية. ترتدي منامة قطنية بدل القفطان المخملي الطويل، رأسها حاسر بدل العمامة، شعرها مجعد طويل فاحم اللون، لامع ملبد. تهيأ لي بأنها لم تأخذ حماماً منذ أسبوع. أعقاب سجائر في صحن على أرضية الغرفة وقطع ملابس هنا وهناك. صففتُ أوراقي في حضني فلم يكن هناك سطح فارغ في غرفتها أضع عليه أشيائي. تناولت معطفي من على سريرها. فكرتُ أن أؤجل موضوع سؤالي عن اللوحة التي كانت نصف منجزة. في اللوحة تخطيط لإمرأة تذكرني بنحت "أم الماء" المرمري لـ " كاي نيلسن"، لكنها أضخم بكثير، تشبه إحدى نساء ديلاكروا المستريحات، بدينة عارية، لكن ضفائرها سوداء متينة تنسدل على كتفين عريضين، بل إن الرسامة بالغت بتضخيم حجمها، فرسمت عينين جاحظتين، شفاهاً غليظة، أصابع يد متينة، بطنا بارزاً، صدراً يغطي نصف البطن يقطر حليباً، بينما يلعب أطفال رضع من حولها على الأرض.

تداخل الدخان ليكون حاجزاً كثيفاً بيني وبينها. كتبتُ لها الموعد المقبل على الكارت المطبوع عليه اسمي ورقم هاتفي وعنوان عيادتي. ناولتها إياه. سألتها إن كان الموعد مناسباً. أشارت برأسها موافقة وعيناها ما تزالان في اللوحة.

ودعتُها ونزلتُ أتلمس طريقي وسط ظلمة سلم البناية العتيقة. ارتحت للهواء البارد الذي لفحني. الدخان أفسد رائحة شعري وملابسي. اطمأننت إلى أن السيارة كانت على مقربة، فشارع " ياكت فاي" من شأنه أن يشتتني؛ غالبا ما تجعلني هذه المحلات التي يملكها الأجانب من الجاليات الصغيرة أحثّ الخطى مبتعدة.

في الطريق كنت أفكر بما يمكن أن أكون قد حصلت عليه بعد محادثة اليوم معها. مروى البصري تفضل أن تظهر لي عالمها السريالي. كانت تشك بأهمية الحديث. اختارت رموزا أثيرة في حياتها لتتحدث عنها. هي لا تجيد الدنماركية تماما، استعانت بالإنكليزية قدر استطاعتها لتتواصل معي. ولكنها بالرغم تشك بقدرتها على توصيل ما تريد توصيله، فتشك بالتالي بقدرتي على فهمها. مازال هناك شيء من اللبس والتردد أيضاً بما يخص دور المحلل النفساني. على العموم، أحاول قدر الإمكان فهمها. ألا أبالغ في تحليلي لكل ما تقوله لئلا أقع في مصيدة أكاديميتي.

دخلت بيتي وتوجهت مباشرة إلى المكتب. ضغطت الزر ليجهز الكمبيوتر ريثما ألقي عني ملابسي التي ما عدت احتمل رائحتها. صعدت بخطوات سريعة إلى الحمام. رغم الجهد الذهني والنزر القليل الذي حصلت عليه منها كنت أشعر برغبة في مواصلة عملي بقية اليوم. نزلت بعد أن أخذت حماماً سريعاً. ممتنة للهدوء الذي يغلف المكان في البيت من حولي. اطمأننت إلى الزهور على الطاولة في الصالة، لم تذبل بعد، تحتاج لتغيير الماء وقص الأطراف فقط. يمكنني فعل ذلك لاحقاً. أعددت لي كوب قهوة سريعة ودخلت العيادة. خَفَتَ صوت ضوضاء المدينة وحركة المارة والسيارات في رأسي. لا أحتمل البقاء في مركز المدينة لأكثر من ساعتين. حمدت الله بأني أسكن في أطراف كوبنهاجن. جلست أمام الكمبيوتر مع كومة الأوراق التي وضعتها على جنب. تلكأتُ قليلاً. خففت إلى الصالة وتناولت المزهرية بالزهور إلى المطبخ. فتحت الماء قويا في الحوض لأوظبها وأنعشها.

عندما جلست ثانية في مكتبي كان بإمكاني رؤية الزهور تتوسط الطاولة في الصالة. أدرت حينها رأسي وبهدوء تقربتْ أصابعي من لوحة المفاتيح. كانت الشاشة تجذبني مثل مغناطيس لأبدأ بفتح ملف " الحالة: مروى البصري".

أخذت أقلّب الأوراق. أخشى فضولي تجاه عالمها فأوراقها أثارت اهتمامي منذ استلمتها. هي لم تحضر إلى عيادتي في الموعد الأول، كذلك إلى الموعد الثاني، رغم اننا اتفقنا عبر الهاتف على أن يكون اللقاء في غرفتها، إن كان ذلك يريحها. لم تفتح لي الباب، حتى انني شككت بالعنوان الذي أعطتني إياه. كانت غالبية الأسماء المدرجة للساكنين في العمارة أجنبية غريبة. تطلب أمر إيجاد اسمها جهدا خاصاً مني. ومرت أسابيع طويلة على احتفاظي بأوراقها. ربما هي البلدية التي عثرتْ عليها ثانية وأجبرتها على الإتصال بي من أجل عمل موعد جديد معي. كانت مروى قد تقدمت إلى مشرفتها الإجتماعية بطلب منحها إجازة مرضية طويلة الأمد من أجل اعفائها بذلك من دورات التنشيط التابعة للبلدية.

عملي الجديد يتيح لي الإحتكاك باللاجئين من مختلف الجاليات في كوبنهاجن. عهدتْ ثلاث بلديات لي بدراسة حالات خاصة لمراجعيها من المرضى، أو الذين يصعب تحديد حالتهم الصحية. المهمة تنتهي بتحليلي وتقييمي للحالة النفسية وكتابة تقرير فيها، تستخدمه البلديات لأغراض مختلفة كالطلب الذي تقدمت به مروى إليهم. غالبية اللاجئين بحاجة إلى مساعدة وعلاج وإن لم يكونوا واعين لذلك. اختار أن تتم الجلسات في مكان سكنهم إن تعذّر عليهم الحضور والإلتزام بالمواعيد بسبب وضعهم النفسي أو الصحي. غالبا ما أقوم بإحالتهم بعد جلسات المحادثة إلى إحدى مراكز العلاج النفسي في كوبنهاجن، والتي يتم فيها العلاج عموماً على أساس المزج بين الدواء والمحادثة والمساج، رغم تعارض قراراتي أحيانا مع ميزانية البلديات وأولوياتها.

 عملي الجديد سهّل من أمر حصولي على دراسة مكمّلة في مجال علم التحليل النفسي. وهي فرصة كنت انتظرها تتيح لي التعمق والتخصص في الحقل هذا. أعترف بأني ولإدراك وفهم بعض خصوصيات هذه الحالات اضطررت مراراً إلى الإستعانة بزملاء سبقوني في التجربة، فلم يسبق لي أن اختلطتُ بهذه الفئة من قبل. الدنماركيون ذوو التخصص في العمل مع اللاجئين قليلون، لذا فكرت بأن في العمل والدراسة في هذا المجال احتمالاً لتأمين مستقبل لا بأس به، بعد أن قررت العمل لحسابي الخاص. أعترف أيضا بأني لم أمتلك مثل هذا الحرص من قبل في إقبالي على دراسة كالتي بدأت بها.

...

فتحتْ الباب لي. بدت أكثر ارتياحا هذه المرة. لا يبدو بأنها تحب الإستحمام يوميا. قفطانها المجعد مفتوح الأزرار حتى أسفله يكشف عن ثوب قطني تحته. أما قبعتها فتذكِّر بالكاتبة "سوزانه بروكر". أدارت الماء المغلي في كوبين ألقت فيهما كيسي شاي لم تخبرني عن نوعه. وضعتْ الكوبين والسكر في صينية مع كأسي ماء ثم حملتها بيد راجفة إلي.

تسألني فجأة:

- أي الأيام أحبُّ إليكِ؟

وكأنها هي التي ستقرر إدارة الحديث، أو ربما لتعلن لي عن استعدادها اليوم للحديث. إشارة إيجابية. أحاول أن أستبطن غايتها فأسألها:

- لكننا اتفقنا في آخر لقاء على أن نتحدث عنكِ، مروى البصري في الدنمارك.

- لا ينفع.

تبدو متحمسة. علامة مطمئنة. تتغير ملامح وجهها بشكل ملحوظ إثر ابتسامة شفتين مطليتين بأحمر شفاه بلون غامق، تكشفان عن أسنان مدمنة على التدخين. لكن وكأن العضلات المسؤولة عن ابتسامتها تتخذ حينها القرار متحملة نتائجه، إذ سرعان ما تعود ملامح وجهها إلى ما كانت عليه. تقول:

- أبدأ من هناك، من البصرة.

...

تبدأ من البصرة حيث وُلدت. معلوماتي البسيطة تقول بأنها من المدن الكبرى والقديمة في العراق، في الجنوب منه، على الحدود مع الكويت.

جلستْ على سريرها وسحبتْ جسدها إلى الخلف متكئة إلى الجدار، تحضن كوب الشاي بين يديها، وجهها إلى النافذة  الصغيرة وحاجباها مرتفعان لتغرق بالسرد:

- " الخميس المُنتَظَر يأتي. أتمم بلا حماسة طبق البرياني احتفالا بالمناسبة، وإذ بهم يخبرونني، أنا الطفلة، ألا أعدَّ لـ نهلة طبقاً زفراً. إن أطعمتها لحماً أو سمكاً ستموت. يجب أن تسمع بالخبر على بطن خاوية، قيل. كيف لي أن أفهم، أن أهضم قاموساً مليئاً بالحكم والمعتقدات. أحتار بأمري، وما عساي إطعامها؟ كيف لنهلة أن تتفهم خلو الوجبة من قطعة لحم أو سمك، على الأقل لمناسبة بهيجة كهذه. كيف سنواري الفستان عن أنظارها، وأين تراها ستبات هذه الليلة؟ أتأملها. أتمنى ألا يقع الإختيار عليَّ لإخبارها. اللفافات تملأ رأسها؛ فلتتْ بعض خصلات صفر من ربطتها، معقوفة وغير معقوفة إثر الرطوبة التي احتفظت بها ومفعول مثبِّت الشعر الذي أطفأ لمعان شعرها الذهبي. شعر نهلة الذهبي وبشرتها البيضاء جوازها أينما حلّت. اعترتني رجفة وأنا أضع قدح الماء أمامها على الأرض حيث تربعت. رجفة تشبه رجفتنا ونحن نحمله لأبي عندما كنا صغاراً، نخشى غضبته إن اندلق. ساقاها وهما ممددتان على الأرض يذكرانني بساقي اختي الكبرى غير الشقيقة نرجس. أتأملها ملياً مرة أخرى. انها متشاغلة عن كل ما يحيطها وأنا تتنازعني مشاعر شتى، أجهل ما يجب أن أظهره منها. كان كل ما تأتي نهلة به من حركات كوميدية يدفعنا للضحك، يثير الهرج بين البنات في الصف. بل تكاد كل بنات إعدادية البصرة أن تميزه فيها. الطريقة التي تجلس بها على الأرض تقرِّبها من إمرأةٍ متقدمة بالعمر، محدودة العلم والتعليم، كـ- نرجس- لطالما قلّدت طريقة نرجس بالتنهد والتحسر والغناء. وهي تجيد أيضاً رقص بنات الغجر في برنامج ظهيرة يوم الجمعة، بالذات تلك القفلة التي يختمن بها فاصل الرقص. كنا وحيدتين، وحَوْش البيت فارغ. اختفى الجميع بسبب الخبر. الشمس بدأت بالإنسحاب مع الضوء إلى الجهة الأخرى. لا أحد يطلّ أو يتصل"

...

الضوء الأحمر لجهاز التسجيل يشير إلى توقف البكرتين عن الدوران. تنظر مروى إلي دون انفعال كبير في وجهها. تشرب بقايا الشاي وتنهض من مكانها. لم يكن الكرسيان في غرفتها ملائمين للجلوس لأكثر من نصف ساعة. لكنني رحبت باختيارها لغرفتها. أخطط لأن تكون الجلسات في عيادتي حالَ كسبي لثقتها. الجو خانق لرطوبة المكان ورائحة الألوان الزيتية والسجائر. وهي لا تفضل فتح الشباك الوحيد المطل على الشارع في غرفتها. تخشى البرد، تقول. قولها، بأنها ترى في أيلول نهاية للصيف وبداية للشتاء، يثير استغرابي. لكنني لم أستطع أن أتواصل معها في هذا الموضوع. هي تُمسك عن الحديث في كثير من المواضيع وهي توجه لي بين الآونة والأخرى نظرة مشككة، تماما كالنظرة اليائسة التي تسددها ابنتي لي، ظناً منها بأنني لن أفهم. الموقف ذاته مع ابنتي؛ إن فهمتُ أم لم أفهم، فلن يغير ذلك من أمر قرارها التزام الصمت.

لكنني كنت متحمسة لمتابعة الجلسة وإن كان ظنها في محله. هي مادة تطبيق، ستعينني في دراستي، لا سيما وإن الحالات التي تم اختيارها في دورتي الدراسية تخص اللاجئين، المعرضين للتعذيب منهم خاصة، القادمين من دول تحكمها دكتاتوريات على صعيد الأنظمة والأسرة، يسودها الظلم، تنعدم فيها الديمقراطية والشعور بالأمن. كل ما كنتُ أسمعه صار قريباً مني الآن. وفي قرارة نفسي أشعر بشيء من الحرج أيضاً. أصطدم بعوالم أخرى لم أفكر بها من قبل. أنا في حيرة حقاً فالأعراض التي أجمعها معروفة، طبائع البشر واحدة والإنسان يسلك عموما سلوكا واحداً، هو هو أينما كان، بردود أفعاله، بدوافعه، لكن المحيط الذي تطرح مروى عليّ تفاصيله غريب، يرغمني على التفكير في أن هناك ما أجهله، ثمة ما يتعين علي احتواؤه أولاً لكي يكون تشخيصي سليماً.

أحاول ألا أعطيها أدنى انطباع عما يدور في بالي، ولا عن تسامحي إن هي فكرتْ بإنهاء الحديث. أتابع شرب الشاي وأتشاغل بأوراقي.

تضحك فتتحرك معاني وجهها عن أمكنتها، تنظر لي مما يزيدني حرجاً. أسأل:

-  هل أخطأتُ بشيء؟

- لا، أضحك أسىً للموقف. أساي لذكرى نرجس. نرجس أختي غير الشقيقة... يكاد فارق العمر أن يكون معدوما بينها وبين أمي. ولكنها بقيت تنكر تلك الحقيقة طيلة حياتها. كانت تنادي أمي بـ "الحجية" أو زوجة الأب لتؤكد لنفسها ولأمي بأنها هي الأصغر.

- وأنتِ، أنت كيف كنتِ ترينها؟

 تلوح ابتسامة صغيرة في زاوية فمها وهي تجيب:

-  كانت تجلس عند الضحى في الحوش تخيط أزرار ثوب جديد وهي تغني أغنية " يا مرسال الهوى"، أغنية مصرية لـ "نجاة الصغيرة"، صوتها الريفي المتهدج وهو يسكب على الأغنية لونا جنوبيا محليا، فيه من فيض عشقها الغامض لمجهول، حرمانها، ومن لهجتها الجنوبية ما يبعد نجاة الحالمة الوردية تمام البعد عن أغانيها. أذكرها وهي تحيطني بنظرتها تلك، تنقل إليّ على حين غرة كل ما اعتراها على مرّ حياتها.

- عندما كنتِ طفلة؟

- وهل كبرتْ الطفلة فيّ؟ أشعر بأن الطفلة مروى مازالت تسكن في داخلي... كم تقدرين عمري الآن؟

تضحك بانفعال، تدير وجهها عني وتسرع لتكمل:

- لكن أقول لك، ببساطة شديدة تتمكن الطفلة في ومذ كنت طفلة من التعاطف معها والحزن من أجلها، رغم ضيقي بها، ورغم الغموض الذي يكتنف الأجواء والحروب المعلنة وغير المعلنة من حولي. الأجواء في الصغر ليست إلا حزمة متناقضات.

تراءى لي أن مروى كانت تضحك استنكارا لوجودي وسخرية بي وهي تنهض لتخلع عنها القفطان. انتبهتُ فجأة إلى طريقة رسم عينيها الكبيرتين بالكحل. طريقة تحتاج إلى دقة وثبات باليد. لا تطيل النظر في عيني، شأنها دائماً. وجهها صغير مستدق حاد المعاني. بدت قصيرة القامة في ثوبها الداخلي القطني، حمالتا الثوب أبرزتا تدويرتي كتفين عاريين ناعمين. وركها عريض جدا، جعل نصفها الأعلى النحيف على غير تناسق مع نصفها الأسفل. تشير إلى ثوبها بينما تبدر منها حركة أشبه باعتذار، أو هكذا تراءى لي وهي تشير إلى ملابسي وملابسها. أحاول أن أؤكد لها حقها الكامل بالتصرف كما تريد، لكنها تقطع علي ذلك بأن تلمّ شعرها الكثّ الذي حررته من القبعة إلى الخلف وتختفي خلف الحاجز إلى المطبخ المجتزأ من الغرفة.

...

أقيِّد ملاحظات سريعة حول الحالة مروى البصري، حول اختها الكبرى غير الشقيقة نرجس. أراجع الأوراق التي تخصها بين يدي. أعيد على عجل قراءة الملخص بين يدي. جلسة أخرى في غرفتها و لم تأتِ بعد على ذكر ما هو مكتوب بين يدي. لم تأتِ على ذكر من أُعدموا في عائلتها، لم تذكر ما تعرضت له هي وأخوتها من قبل أجهزة الأمن هناك. بل هي لا تذكر لي شيئاً عن يومها.

أشعر بأنها تود التحرر من رموزها، فاضطررت إلى تغيير خطتي بالتعامل مع حالتها. تركت خطتي اليومية المفترضة ولجأت إلى ترك الحديث يأتي انسيابياً مفتوحاً عل ذلك يحقق نتائج أفضل.

تعد الشاي وتأتي بالصينية بيدها المرتجفة.

- هل تصفين لي نهلة؟

- نهلة؟

- أجل نهلة، أنتِ لم تتحدثي عن سواها.

- "سأحدثك عن نهلة، صديقتي، نهلة ابنة تلك الأجواء، أم البساطة، الثرثرة، كبة الحامض وأغاني "حضيري" وعراك الجيران، المتنكرة بلسان وزي عصريين، البشرة المشتهاة، العينان الملونتان، الشعر الأشقر السارح والعطر الفرنسي. كنا أنا وهي في ذلك الموقف وحيدتين، حاولت أن أتذكر ما ينصحن به النسوة، أعتقد بأني مسكونة بالرعب لإحساسي بجهلي. كان عليّ أن أعالج صدمتها، كان عليّ أن أعدها للموقف. يجيد الأصغر مني عمراً أموراً أصعب بكثير. يصعب علي تقليد النسوة، سأضحك ربما. أي خبل أتلبس كي يعتريني شعور كهذا. المسكينة المبتلية تنتظر مني جواباً وأنا أتنقل بين المطبخ وغرفتي محاولة تجنبها، أدور بالحوش مرة وأخرى قبل أن أعود إليها. أنا بفاقتي الإجتماعية عندما أتقرب منها في الموقف الصعب هذا لا آتي بشيء إلا في نصحها، أن تتمدد لترتاح، أو لتشرب بقايا قدح الماء لحين وصول خبر إلينا. وتأكدَ الخبر. قالوا هناك من اتصل وأكَّدَ الخبر وقد وصلَ أيضا للمدعوين. آه، لو حاولتُ وصفَ شعوري حينها فبي من لوعة نرجس عندما تضيق بها الحياة ولا تجد سبيلا إلاّ النواح دون مواس؛ " هَلي يا ظُلاّم".

تتوقف مروى، تهزّ رأسها تأكيداً على شيء:

- " رغم ذلك لم تفكِّر نرجس بالهرب للخلاص من الحياة التي فُرِضتْ عليها، أو العصيان والتخلي عن مسئوليتها، عوضا عن ذلك يختار جسدها بديلا. هذه النرجس، كوابيس ونوبات من التشنج والانهيار، لا تنجو مرارا من عواقبها من دون الأبر المهدئة والحبوب المنوِّمة. هي نهلة فقط، من تتمرّد، تتوسل، تحتال، تهدد. اختارت حبيبها فاعترض الكل. عمرها الفتي، تقول الأم، مستقبلها الدراسي، يصيح زوج الأخت، شيعة، تبعية، شيوعيون، يعترض العم، يُستدعى الخال فتصرخ؛

 - " ليس هناك من يقرر عني"

مروى تشير فجأة بحركة من رأسها إلى لوحة، تقول انها اختارت لها عنواناً أحبته، من وحي ليلة من ألف ليلة وليلة: 

- " ألوان الليلة الرابعة"  تخطيط لنصب لربما يجد له مكاناً صغيراً يوما ما هناك، ليحل فيه محل واحد من آلاف النصب للقائد.

تنهض من مكانها، ترفع اللوحة بخفة عن الأرض إلى الكرسي:

- أسماك منتصبة مبرومة مثل شجرة في حوض مائي، رؤوسها إلى الأسفل، وجوه أسماك باسمة مطلقة، يغطي الماء نصفها في الحوض، ذيولها في الأعلى مضفورة إلى بعضها في أطرافها، ستكون ألوانها مختلفة صارخة، ترمز إلى التعايش الذي اختفى بين الناس في تلك البقعة من الأرض"

أجهل ما تهدف إليه في لوحتها، لكنها تذكرني بنصب ما قد مررت به يوما، يؤكد لي بأن فكر الإنسان بعيد عن ثقافته وعلى مر التاريخ في كل مكان واحد.

تبتعد مروى عن اللوحة وهي تتأملها، تتابع:

- " كنت وحدي، بانتظار من ينقذني أو يعينني في تخفيف شدتها ذلك اليوم. أضع طلاء الأظافر الفضي أمامها. أنظرُ إلى أظافري. هي تحبّ حرصي على حملي للمبرد والطلاء أينما أحُلُّ. لكن نهلة لا تطيق صوت خشخشة المبرد على الأظافر. أفتح الشباك، دخانها يحرجني، بيت أبي، أمي، أخي، زوجة أخي. أفكر بأن أبدِّل دشداشة البيت وأعدِّل من هيئة شعري المعقوص إلى الخلف قبل أن يدخل علينا أحد، ينتابني مغص شديد أمكث إثره طويلا في الحمام. بالرغم من ذلك أقدِّم لها طبق البرياني الذي عملته احتفالا بالمناسبة. أمر اضطراري. لن تموت، لا أستطيع التغلب على فكرة حاجتها لطاقة، لطعام لتحمّل الخبر برغم كل ما نصحوني به. كما لا يمكنني إعداد بديل الآن وانتظاري للنسوة يشلّ حركتي. قد لا تتصورين ذلك، لكن خلطة بهارات البرياني التي تغلب عليها رائحة الكاري، تتغلغل لتُخلّفَ لوناً أصفر تحت جلد أظافري لن ينغسل أبداً، رائحة يضيق لها صدري كلما دخلت أنفي".

تخفي مروى وجهها وتبكي بوجع. ألملم أوراقي وأنا أشعر بارتياح وثقة لردة فعلها. لا تنظر إلي، تبحث عن لفة المنديل الورقي في الفراش. أسرع لاستغل الوقت باحثة عن مخرج آخر للحديث.

- أنا أجد رد فعلك طبيعياً.

- " لم يكن هناك وقت للحرج من نفسي والإنزواء. أتمتم خافضة العينين، خجلة لئلا أخطىء، بكلمات مجاملة تقال في لحظتها. لا أعرف، لا أجيد مثل هذه الأمور، ألعن تورطي بها. كنت أشعر بجوعها أيضاً؛ نهلة، ودون كل البنات لا يمكنها الإنتظار، سواء أمام حانوت المدرسة أو في حلولها ضيفة على أحد. هكذا نعرفها، انها من بين المجموعة من تتميز بمطالبها الفردية. هي التي تحرص على الإستجابة لما تهوى. تفرض علينا ما تشتهي فنقبل به. انها من تتملص من التزام الجماعة فتأتي وتذهب متى تشاء. تجعلني أشعر بتراجعي دوما وهي التي تتقدم".

- هل كنتما تتحدثان عن ذلك؟

- عندما سألتُ نهلة عن رضا، قالت لي؛ - هذه المرة تختلف يا مروى. وتكرر، هذه المرة تختلف. وتقول لي إنه كان يرغبها بشدة. كان ذلك مفاجئاً بالنسبة لي. ألقي بقلقي وكلمات كـ احذري هذه المرة، أو هكذا كان يتراءى لي، مؤشرا لمرحلة عمرية، هي بداية العشرينات. لم نكن نبخل على بعضنا بمبالغاتنا بالنصح، ممارسة دور من سبقونا، وإلا فإنني أفكِّر وحدي، وفق العالم المحدود المتكشف أمامي، بأن الرغبات، أحيانا، قد تكون كافية لأن نتخذ قرارات خطيرة وندافع عنها، وإلا فمقدار سذاجتي لم يتغير بشأن الموضوع هذا، فأفترض أما الحب أو المادة سببا لعقد اتفاق. لا أدري إن كانت الرغبات وحدها هي التي تجعلها تتابع أمر تفاصيل كثيرة وتخوض غمار المجازفة. مرة أخرى تؤكد لي، إني بطيئة، بل بتراجع مستمر، يُسرَق مني ما عندي ومذ كنت طفلة. برغم كل الاحتدام بالعواطف والدموع أفترض أن القرار يمكن أن يكون وفق مبدأ الورقة الأخيرة لوردة عين البقرة. إنها اختلافات بسيطة تلك التي تجعلنا أمام منعطف فجأة. هل هناك بالفعل حب مراهق وحب ناضج؟ أ هو شأن المرأة أم كليهما؟ تلك الخبرات التي أجهد في سبيل جمعها يبقى عصيا عليّ لحمها ببعضها البعض. من أجل هذا يبقى انبهاري مستمرا كحالة مرضية، وكأني لم أنشأ وأكبر في المكان ذاته"

...

الضوء الأحمر لجهاز التسجيل الصغير يشتعل،  لكنني لم أشأ مقاطعتها وقد بدا الإنفعال واضحاً على وجهها. لم أكن متأكدة  فنغمة صوتها ولغة جسدها مع تعابير وجهها كانت تتعارض أحيانا كثيرة مع ما تقوله. كان موضوع نهلة هو كل ما سمحت لي الخوض فيه. لم تأت على ذكر أي مما هو مكتوب بعد في ملفها. أذكر جيداً بأن مشرفتها الإجتماعية سلمتني الملف بوجه مليء باليأس والتساؤل.

لطالما ركزت في تمعني بالوجوه لأقرأ ردود أفعالها. كنت أشك في كونها نغمة استهزاء تلك التي رافقت الإبتسامة الخفية أثناء الحديث وهي تقول:

- " تختارني تفاصيل عرسها، ها أنا أحظى بضيافتها، وأفراحها التي تشاركنا بجمعها تتحف غرفتي. أرشُّ التول بالنشاء والماء ممتنّة، أنشر الثوب على فراشي، أثني ذيله بأصابعي وأغرز الأبرة بخوف في القماش، ألمّ اللآلئ، أنظم الخرز والنمنم، أجمع دبابيس الشعر، أحضر مجفف الشعر وأبحث عن التوصيلة. أتشرف بتصفيف شعرها، نتف حاجبيها، صفّ فردتي حذائها، الحقيبة الساتان و... يأتيني صوتها متذمراً: - " أوه مروى، أين وضعتِ المصحف بربكِ والمرآة". آه، الخميس الوعد، خميس الأعراس، مواعيد الحب، إنه خميس النذور وحلال المشاكل، خميس رضا. أحتار في تكييف الغرفة منذ الصباح لتكون باردة تليق بها. مبردة الهواء زادت من رطوبة الجو، أفسدت شعرها وعصفت بحاجياتها في الغرفة. حتى الماء زاد من حيرتي في تلك الظهيرة فتوقف عن الدوران في صفائح التبن وراح جسم المبردة الضخم يخذلني لينثّ هواءً لافحاً محرجاً يحمل معه زفر القاع الصدىء"

- لكن ما الذي كنت تخشينه بالتحديد؟

- " كان علي أن أفعل شيئاً، أجهل كل شيء عن شاي الأعشاب أو البذور والنقوع. فكرت بأن أعد لها كوب لبن فيه ملح وقطعة ثلج يداري صدمتها. كنتُ طفلة عندما سمعت خطأ ذات يوم في طريق العودة من المدرسة إلى البيت بأن بيتنا يحترق. أجلستني نرجس على التخت في المطبخ، غسلتْ وجهي بماء بارد :- " وجهكِ مخطوف"، قالت ثم خفّت لتعمل الشاي وتسقيني إياه. قلت لها: - " غريب الطعم"، " بسبب الفزّة"، أجابتني. هل كان حضنها أم الشاي غريب الطعم الذي أذاب الرعب في قلبي؟ هناك طفلة أبدية مرعوبة، قابعة فيّ، تختض رعباً من هذا العالم. غضبتُ، تعرّقتُ وضربتُ رأسي بغفلة عن نهلة بالحائط "

سكتت مروى حينها. خلتُ جسدها يختض بالفعل أثناء حديثها. أبقيتُ عينيّ في ورقتي لتسترسل في حديثها:

- لِمَ تم اختياري لتولي هذه المهمة؟ تسبقني مخاوفي، تخيلتُ نهلة وهي تأتي على شدّ شعرها، تمزيق ثوبها، لكنني فكرت لا، لا، ليس غير هلعي الشديد لهلع من حولي يدعوني لتخيل حدوث أمر نحس. أتعرفين، الكل هناك مسكون بالهلع، عندما يشقّ صراخ نسوة المكان فجأة، منطلقاً من مكان بعيد وكأنه ينذرهم يقيناً بفقد حبيب أو قريب. جزع نرجس لوفاة أبي، عويل أمي وهي ترى الشوال الذي حمل أخي. أعجبُ كيف تهتدي الطفلة فيّ لتفسير مطمئن إزاء صور الفواجع المطبوعة في ذاكرتي منذ الصغر. وفجأة يرّن الهاتف فأهرع لرفع السماعة قبل بثّه الفزع. لِمَ لمْ أتحصن بالموروث، من أين يأتين بالكلمات، ما الذي سأقوله وأي الألفاظ سأنتقي، وبدل أن تزَّف، أبتهل ليصل وفد النسوة وينقذني. لكن حينها سيتوجب علي تقبيلهن، الواحدة تلو الأخرى، مرتين على كل خد، وقد نتقاطع، يمينا أم يساراً، ثلاث قُبلٍ أم أربع! تلك الغمامة السوداء التي ستقبل عليّ، الكلمات المتعارف عليها، التي يجب أن أردّ بأحسن منها، القبل اللجوجة الرطبة التي ستطبع بضغط شديد مع لهيب الشمس والعرق المتفصد واللهاث على خدي. وهي جالسة، تتبرم من جفاف فخذيها البضين وساقيها، تختار طريقا لا يشبهها، انها تناور، لا تود أن تعلم، تستعير مرة أخرى الكريم المرطب مني. حصلتْ في الصباح على كريم طبي خاص لليلتها الأولى نصحتها زوجة أخي باستعماله. نعتقد أنا ونهلة بأن ليلتها ليست الأولى، وحينها، عندما نظرتْ إلي فجأة أبعدتُ عيني خوفاً من فضحي لأسرارها. كانت تدهن جلدها مراراً، باذخة بإظهار ترفها دون قصد. رقبتها العالية، نهداها الصغيران الحليبيان وحدّا دائرتي حلمتيها الكبيرتين الغامقتين يطلان بلا اكتراث من شق الثوب الواسع. اختارته ليسهل نضوه عنها، دون أن يفسد لها تسريحة شعرها ومكياج وجهها. أراقبها فأخفي رجفتي. هي لم تتذكر جوعها، لم تحاول أن تسألني عن شيء ما، عن أي شيء. لِمَ كانت عندي؟ أ لأني صديقتها؟ سمرة بشرتي وبياض بشرتها؟ نحولي، امتلاؤها؟ أ لأني بحاجة لها، من ساهم بإعداد حفلها؟... قد أكون مسحورة بها، كما تقول نرجس، لا علي، كانت فكرة الهروب تراودني"

...

جلساتي تتابعت مع مروى وإن تراوحت في طولها، عمق محتواها ودرجة استجابتها. لم أعتد جو الغرفة الممتليء بدخان سجائرها. وكلما بدأتُ الحديث معها شعرت بأني أنسى الدرس الذي تعبت في تحضيره. تقف عند النافذة المقفلة مولية لي ظهرها. تشكو من آلام ظهرها، من تيبس فقرات عنقها. أحاول عبثا أن أدون شيئاً. تبقى تدور في حدث أو زمن معين دون أن تتمكن من الانتهاء منه. تشكو من صداع قوي يلمُّ بها فتتوقف فجأة. لكني بقيت أتلقف ما تتلفظه، أحفظ ما يمر ببالي وأجمع الكاسيتات بصوتها وكأنها أدخلتني في تحدٍ لأفهم حالتها.

- أ لا تفكرين بالغد أبداً؟

- "وماذا أفعل بذاك الوطن المُلِّّح، البلد، مسقط رأسي، بلد أجدادي، جذوري. هل تعرفين، هو بحاجة لبعض من التنويع عليه. أودُّ وصفه، رسمه، إعادة تشكيله، نحته لأتخلصَ من مرارته، من حنقي عليه وازدرائي له، لي!"

- لمَ حزنكِ إذاً، ما الذي حصل بعد ذلك؟

- " لا تسأليني، تلك الدروب التي تستبيح البيوت، تسمّي البشر وترسم مشاويرهم اليومية وكأنها تنقطع فجأة قاصدة التهلكة. يُلقي الغروب بكآبته على تفاصيل الغرفة. ينقطع التيار الكهربائي. الطائرات المغيرة تبحث عن ضوء. لم نكن هدفا، لا يطلّ علينا أحد، لا تأتي النسوة، ونبقى متحاضنتين. يصيب نهلة نصف المتزينة خرسٌ. تتكوم على كتفي مطاوعة، مندسّة هي ولفافات شعرها في لحم عنقي. تشتد حرارة الفانوس فيتوضح قربنا الشديد من بعضنا. أتمنى  أن تحلَّ إحداهن محلي فتمسِّد شعرها أو تُبكيها. أشكّ، كون حزني لا يكفي، شأني دائما، فألبثُ ساكنة. يقولون لي بأن نساء السنّة لا يلجأن إلى اللطم كما الشيعة، يحتفظن بأناقتهن في الحزن، يصففن شعورهن عند حضورهن الفواتح، كالنصارى، يتهامسن دون أن يفلت أدنى تعبير من وجوههن وهن يرشفن القهوة بصمت. كيف يحزن اليهود إذاً؟ فجأة يغير عليّ شبح سرب من النساء، يشرعن بتمزيق أثوابهن الفضفاضة. الضوء الذي يرشح من الفانوس يظهر ويختفي وسط تلك الحلبة التي ينـزلن إليها في الحوش. وكأنهن ومنذ الأزل عشقن اللعبة، وما أن يدعو الموت واحدا حتى يفيض الحنين بهن فيتجمعن على جناح السرعة ليلعبنها بخفة وبراعة من جديد، حلقتان: كرّ وفرّ، يتهدل الشعر و يُنكَش، تتساقط العباءات، تدعَس أغطية الرأس، تسرَح حمالات مشدّات الصدر، تتهدل الجوارب السود وهن يضربن الأرض على إيقاع الأحّو. ومثل "البابوشكا" الروسية يتكشف الوجع، وجع داخل وجع داخل وجع، الإيقاع سريع والرقص صولات تتكرر حتى تغمرهن أقصى حالات الإنتشاء بالحزن"

...

أبلغتني البلدية باختفاء مروى البصري المفاجيء. بابها كان موصداً آخر مرة طرقته. رُفع اسمها من على صندوق البريد وحَلّ ثانٍ تصعب قراءته. كما لم يكن لها عنوان مسجل في قاعدة البيانات كما أبلغتني البلدية.

تم دفع الأتعاب لي، رغم عدم إكمالي مهمتي. احتفظتُ بأوراق وملاحظات وكاسيتات ما زالت غير مفرّغة تخصها. لكنني  بذلت جهدا في فحصي لجزءٍ من الحالة بتعمق تناولته في أوراقي لأنهي دورتي الدراسية. عدد المرات التي ذكرتْ مروى خلالها كلمة خوف، رعب، موت، كابوس، كانت ملفتة للنظر بشكل مقلق. لكني أدركت بنفس الوقت بأن عالمها الذي تتحرك فيه واسع جدا.

يستوقفني يومها المكتظ بالأحداث كلما تصفحت أوراقها، مستغربة خيالها الخصب الذي يجعل كلمات مثل الحب، الرغبة، الحزن تتردد علي أكثر مما اعتدت عليه طيلة حياتي وهي تصفها بشكل يختلف:

- " عالم الكبار الصعب الاقتحام، صفوف من الشناشيل العالية على الجهتين تلتقي في نهاياتها، طولا، عرضا، تفتح السماء لها بالكاد شقا، لتُسقِط الشمس على الأرض خطاً رفيعا مستقيما دافئا. ومنذ الطفولة وأنا أفترض حتى طقوس الحزن في تلك البيئة مختلفة. لِمَ افترضتُ بأن السُنّة- بيت الشناشيل يعود إلى جدي لأمي- يعتلون دوما معمارا شناشيليا مستقرا هادئا يعلوه بعض من شموخ، لذا فالحزن يسكنهم بهندسة تقترب من المعمار. أما الشيعة، جدي لأبي، فبيوتهم طينية، أحواشهم مفتوحة، وسياجاتهم واطئة بمسحة واضحة من التواضع. بالتالي فحزنهم متطرِّفٌ بتكشّفه. حتى سفرة الطعام بأطباقها المختلفة التي تمتد على بساط الشيعة على الأرض أرى فيها من الكرم المتهور ما يقابل البخل الحكيم في الوجبة الموضوعة على طاولة الطعام عند السنّة. أزعمُ وأنا أمازح أخي الكبير غير الشقيق بأن ذلك مردّه شطارة السنّة في التجارة مقابل كسَل الشيعة وتبطرّهم. جوٌ رطب بارد مظلّل يشي بعتق المكان وتتقمّصه الحواس. هو المعمار الذي يفترض ذلك التشابك بين علاقات البشر، فأتصور الأمور على درجة من التعقيد في هذا الحي. ألعق ما رسمه الملح على خشب الشبابيك من أمواج كريستالية بنهايات صاعدة نازلة. مازالت كسرة من ذلك الخشب المفجج الحائل اللون منغرسة تحت جلدي. حتى مساماتي تشربتْ الرطوبة التي نفثتها جدران تلك البيوت وجاءت الشمس لتضرب سطح جلدي المالح بلون أخضر مائي لم تغسله السنون... كرائحة ابنتي النابتة فيّ منذ ولادتها. مشاعر عنيفة لا تحجمها المدنية التي نكتسبها فيما بعد. لو أبقينا على قلب ولسان الطفل، لتمكّنا، ربما، من إبقاء الدهشة حية فينا. في ظل تلك الشناشيل  تبَني ذاكرتي دون علمي أو علم أحد عشَّها، ولا أعلم أي حبٍ أو خَفْق يتآزر ويعلو مع درجات السلم العريض الذي يحتضن انهمار الشمس في الضحى، وينسفح على أرض تلك الأروقة لينـزل من ثم إلى السراديب الباردة في الظهيرة عندما تنسحب إليها نسوة البيت على مهل، بقصد إغفاءة يمررن عبرها تعب النهار. يقتلن الظهر اللاهب الطويل ويجمعن أفكارا لتسالي العصر ووجبة المساء. أي رعبٍ يسكن فيَّ إثر سوالف نرجس وكوابيسها وصفوف الجنّ تسير حاملة خزائنها، عندما توقظني ليلا بانطلاقها من حمام البيت خلف السلّم، الحمّام الرطب المظلم الزوايا الزلِق الأرضية، المعتّق برائحة صابون الغار الأخضر والثريا الأصفر، بينما صفوف الجنّ في طريقها إلى السطح، مخلِّفة في مسارها خطوطا بلون الرصاص المنصهر اللامع وسط الظلمة الحالكة. خانات واضحة تتكون في رأسي تبقى منفصلة تماما عن بعضها، بعدد طوابق الشناشيل، الشرفات والسراديب و"الشيلمان والقَوَغ" في ذاك البيت العتيق".

...

أتممت دراسة حالات جديدة أخرى، للاجئين ولاجئات من مختلف الجنسيات، قدمت فيها تقييمي الذي كنت مقتنعة به. لكن ملف مروى البصري بقي عالقاً في ذهني. تُرِكَ موضوعها مفتوحا. ما أفرزته الحالة يشير إلى تشخيص حالة " اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية" PTSD وهو تشخيص مقلق، خصوصا مع محاولتيْ انتحار فاشلتين مرت بهما كان لا يمكن لها أن تستمر دون علاج ومساعدة.

 

2

الملف الذي بين يدي جاء بعد فترة. بلغني بأن الدراسة مستعجلة إذ ناب الحالة بعض التأخير. لم تكن هي المرة الأولى. غالبا ما يصاحب تكليفي بعمل ما إشارة من هذا النوع من قبل البلدية. استلمت حالات لم يبت في أمرها منذ أكثر من نصف سنة، وما عليّ إلا أن أشرع بالعمل فيها. وما دمت قد اتخذت قرار العمل لحسابي الخاص واقتطعت من البيت جزءاً ليكون عيادة خاصة لي، في عمري هذا، توجب عليّ أيضاً أن أحرص على إرضاء زبائني.

كان ذلك في منتصف نوفمبر، حيث الشمس في البعيد لا تعلو الأشجار كثيرا. أقصد الطرق التي تمر بالمساحات المكشوفة لأشبع نظري. أوقف سيارتي وأترجل لأسير لمسافة، أتأمل خلالها خريف نوفمبر، عندما تتباين ألوان السماء بظل رمادي مخفف بمسحة محببة من لون لؤلؤي رقيق على صفحتها، تقطعها غيوم مثل سجادة بلون الجمر ممتدة من الأفق. أتتبع الأشكال التي تكونها الأشنات الصفر التي تزحف على الصخور وسقوف البيوت. ورود جورية متأخرة عنيدة بين أوراق ذابلة، أشنات باللون البني الذهبي يلفظها الماء الصاخب الذي يفوح برائحة الملح الحريفة. الأجواء الرمادية غالباً ما تتسبب في كآبة عدد كبير من الناس. أنا لا أحب تسميتها بـ كآبة؛ لا أحسبها غير فترة تكيف من قبل الإنسان للتغيرات التي تطرأ في الأجواء، ولا عجب في اختيارهم لتوقيت احتفالات الميلاد في تلك الفترة من السنة. بالنسبة لي هي حالة سوداوية ملهمة، أترك لنفسي فيها أن تعيش حالة تأمل، ربما يشوبها القليل من الحزن أكثر من أي وقت آخر، لكنه إحساس صادق نادر، مثل غروب قدسي أميل إلى الإستمتاع به قدر الإمكان. ثم تلك الحركة الإعصارية التي تنبعث فجأة في المحلات التجارية تأهباً لاجتياح الناس قبل عيد الميلاد ورأس السنة. أتنقل خلال نزهاتي الليلية بين واجهات المحلات المقفلة، أنضم إلى آخرين خرجوا وحيدين من أجل نزهة ليلية هادئة أو ليرافقوا كلابهم جولتها الليلية. أتأمل اللمعان في العيون التي أقابلها، ذلك اللمعان المتأتي من شدة البرد والإنتظار المجهول. لكنني قد أشعر في تلك الفترة، أكثر من أي وقت، بحنين إلى حضن صديق دافىء، لا إلى قُبلاته.

في الليلة التي عدت فيها من نزهتي وفتحت ملف المدعو "المولاني" تفاجأت بوصول ابنتي من برلين في زيارة لي غير مخطط لها. أعدتُ الأوراق إلى مكانها بعد أن تصفحت جزءاً كبيرا منها. ملف يحتاج إلى تركيز ودراسة، وأنا لا يمكنني القيام بذلك بوجود أحد بالقرب مني. ابنتي لن تستطيع حضور عيد الميلاد هذا العام لنحتفل سوية. ستسافر مع صديقها لإحياء العيد مع أهله في لايبزش. لم تعلمني مسبقا بخطتها لكنني كنت فرحة لزيارتها رغم ذلك. أعطيت نفسي إجازة من العمل لمدة يومين لنقضي وقتا معاً. قضينا نهارا كاملا نظفنا فيه الحديقة من الأوراق، قلعنا الشائخ من الأعشاب، ختمنا يومنا بعمل حساء البطاطا والكراث الذي تحبه. خرجنا سوية كي نشتري لبعضنا أكثر من هدية بمناسبة العيد، هي طريقة أقل متعة ومفاجأة، لكننا كنا متفقتين على إنها الأنسب هذا العام، عوضا عن الإستعانة بالبريد وتبادل قوائم غبية نكتب فيها ما نتمناه من هدايا فيما بيننا. أدرجنا قائمة بأسماء الأقارب والأصدقاء الذين نتبادل معهم بطاقات التهنئة في عيد الميلاد سنوياً. قمنا بكتابة العناوين على المظاريف وملء البطاقات ولم يتبق غير إرسالها في حينها. هكذا كنا قد أتممنا المهمة الشاقة الملقاة علينا مبكرا هذا العام، علاوة على المتعة التي غمرتنا خلالها.

 لكنني بقيت أفكر بين الآونة والأخرى بالإسم والجزء الذي قرأته عن الحالة التي استلمتها مؤخراً. كنت مستمتعة بالوقت مع ابنتي، وأعتقد بأنها كانت كذلك. لم أعد أفكر وأنا أتحدث معها بكم الأسئلة التي كانت تطفو على وجهها كلما التقت عيوننا. منذ قرارها الإنتقال مع صديقها إلى ألمانيا للعيش هناك ونحن نقضي أوقاتا جميلة، نتجاذب فيها أطراف أحاديث شتى أثناء زياراتها لي. لعلها تجاوزت أزمتها معي وفهمت نفسها.

كنت بذات الوقت مستمتعة بفكرة الشروع بالعمل حال سفرها. لن أشعر حينذاك بالفراغ الذي يعقب غيابها والضيق الذي يتخلف حينها من القيام بالأشياء المعهودة العادية كل يوم. وحالما جاء أبوها ليصحبها إلى بيته مساء اليوم الثاني، ودعتهما عند الباب وهرعتُ إلى مكتبي أبحث بين الأوراق عن ملف سأحتاجه لاحقاً. عندما وقعت عيناي على رقم ملف البصري شعرت باطمئنان. سحبته بعناية ووضعته أمامي على الطاولة ليكون جاهزاً حال عودتي إلى العمل.

...

كنت أكثر ثقة بنفسي هذه المرة وأنا أتوجه إلى العنوان المكتوب عندي للقاء الحالة الجديدة المولاني. انها نهايات نوفمبر. ندف الثلج المتساقط بغزارة تبعث فيّ الكثير من البهجة والإنتشاء. فتحت فمي لأتلقف شيئا منه. لم يكن عندي أدنى شك بأن الحالة المولاني هي ذاتها المذكورة في ملف الحالة البصري. رغم ذلك كان علي ان أشكك في يقيني. كان علي الحذر فقد يأتي ذلك بنتائج عكسية. لم أكن قبل ذلك واعيةً لما يدور حقيقة في العالم وما يمكن أن يواجهه انسان في حياته. العراق صار اسما متكررا، أقرأ عنه في الصحف وأتابع بخصوصه برامج وثائقية في التلفزيون، قمت بتسجيل أغلبها لأحفظه في مكتبتي. تاريخ معقد يحكي قصة محصلة تنافس القوى الكبرى في العالم، المتخانقة على مدى التاريخ من أجل الفوز بمصالح أكبر وأكثر فيه. صرت أملك خارطة  أكثر وضوحا في رأسي، بعد أن كنت أتصوره مجرد مكان من الأمكنة المنكوبة الفقيرة في العالم لا أكثر. أي صدفة تضعني أمام الإمتحان هذا. التداخل الذي كان في مخيلتي في أسباب لجوء الفئات العراقية مختلفة الأحزاب والمذاهب والمدن زال بعض الشيء. الأمور توضحت أكثر بكثير. هنالك قوميات وأديان مختلفة بنسب متفاوتة، وهناك طوائف أيضا للدين الواحد ثم أحزاب ليس لها الحق في ممارسة انشطتها. بلد يحكمه دكتاتور، يقال بأنه فاق الدكتاتوريين في العالم باستبداده، لذا فكل انواع الإضطهاد الديني والفكري هي السبب في الغالب وراء وجود العراقيين هنا، ثم الحرب والحصار في الحالات الباقية.

في البدء كنت أشعر بارتياح لاستعانتي بمترجم أو مترجمة يسهل لي نقل كلمتي وتوصيل أفكار الطرف الآخر أثناء الجلسات النفسية. استعانتي بهم كانت أيضا وسيلة للتقليل من ارتباكي كلما بدأت جلسة مع أحد هؤلاء المراجعين. كان من شأن ذلك أن يمنحني فرصة للتفكير بعد كل سؤال أطرحه. لكنني مع توسع إدراكي لما يتطلبه عملي وتطور ثقتي بنفسي بما يخص العمل مع الأجانب صرت أفضل الإستغناء عن المترجم. في أحيان كثيرة كان يتملكني ضيق لعدم احساسي بتواصلي مع الحالة، الأمر الذي عزوته إلى عدم كفاءة المترجم. لذا وبرغم الجهد المضاعف الذي أبذله صرت أصر على أن نتفاهم إن كان بمقدور الحالة توصيل فكرته أو فكرتها دون وسيط. كان مهماً عندي أن يكون المريض مطمئنا لي ولما يحيطه. رغم استهلالي الجلسات بالتأكيد على التزام المترجم بواجب السرية أثناء عمله، أسرّ الكثيرون لي بعدم ثقتهم بالمترجمين الذين استعنت بهم. وكأن حالة غريبة من الشك تبدأ تتنامى أثناء الجلسة بين المترجم والمريض لتجعلني أحتار أخيراً في تعيين الجهة التي أستمع لها. بل أنني وعندما فرحت مرة بأن أفلحت بالعثور على مترجم من بلد المريض ومدينته تفاجأت بأن رفض الإثنان بعضهما. تمكنت بعد فترة وإلى حد ما من  فرز الكلمات التي يصعب عليهم لفظها بالدنماركية دون تمييز بين حروف العلة، واستطعت نتيجة التكرار فهم بعض التعبيرات الناقصة أو المبالغ في التعبير عنها.

لم يكن المولاني هو الذي تكلم معي بشأن الموعد. كانت المشرفة المسؤولة عنه في المستشفى هي التي تحدثت بشأنه واتفقت معي. البلدية استعانت بالمستشفى التي كان نزيلاً فيها كي تبتّ في أمر طلب تقدمَ به لإحالته على التقاعد لأسباب مرضية.

نفضتُ الثلج عن معطفي وضربت بقدمي الأرض عند عتبة البيت وطرقت الباب.

جو الشقة خانق وأنا أعبر مدخلاً صغيرا يؤدي إلى الصالة. بدا متعبا، مرتبكا. جلس دون أن ينظر تجاهي. لو لم ينطق لظننته دانماركيا لطول قامته، للون بشرته و شعره الطويل المرجل إلى الخلف. لكن أنفي التقط أيضاً رائحة جسده التي كانت مختلفة، مؤشراً لجنس وبشرة يختلفان، وكأن الرائحة تضع بالحال مسافة بيني وبين من اختلط بهم من هذه الفئة، باشرني القول بوجه متجهم:

- بدل أن نقول بسم الله الرحيم الرحيم سأقول لكِ: أنا لست مريضاً، لكنني أود الحصول على التقاعد وأريد مساعدتك.

- هل يمكنني أن أسألكَ عن السبب؟

- ما الذي يمكنني عمله، هل تعتقدين أن بإمكاني الحصول على عمل، لنقل بعد ألف شهر في التنشيط والتطبيق في مئة مكان.

- هل ترغب حقا بالعمل؟

- طبعا، وهل هناك انسان لا يرغب بالعمل. لكن هل تتصورين بأن الدنمارك ابتداءً من الملكة وحتى المشرفة بانتظار ما سأقدمه لهذه المملكة؟

- كلٌ له دوره وقيمته بالطبع.

- هذه هي النسخة الرسمية، أما النسخة غير الرسمية والمعمول بها فهي إن لم يعجبك فالباب يسع جملاً، هل تفهمين ما يعني هذا المثل؟

- أعتقد ذلك. ما الذي تفكر في عمله إن تقاعدت؟ الكثيرون تسوء حالتهم بعد التقاعد، عندما لا يجدون ما يفعلونه ولا يختلطون بالناس من حولهم...

يقاطعني. انفعاله سريع، مفاجيء:

- لا تقومي بدور المشرفة الإجتماعية، الأمر لا يعنيك. قومي بما كلفوك به لننتهي.

لم تكن المشرفة المسؤولة عنه في المستشفى تفضل لقائي به في بيته ومن دون رفقة مترجم، لكنها تركت لي القرار بعد ان اتفقنا على أن تكون الجلسة الأولى بمثابة فحص للأمر. وهي طريقتي دوما عندما أشعر بعدم تمكن المريض من الإلتزام بموعد أو حتى مجرد الخروج إلى الشارع في بعض الأحيان.

- حسنا، هل تفضل أن نبدأ من جديد؟ بإمكانك الإطلاع على كل ما سأقيده في الورقة لاحقا، من حقك المطالبة بذلك، إطمئن، هل نحاول من جديد، اختر ما تشاء أن تحدثني عنه، مرحلةً ما من حياتك، لحظةً أو موقفاً تتذكره في حياتك، شخصاً مهماً، أو حالة مررت بها هنا بعد وصولك الدنمارك.

أطلق ضحكة عالية تردد صداها في أرجاء الصالة المظلمة. لكنه لم يكن شديد الثقة بنفسه لذا آثر أن يستسلم. نهض من الأريكة التي كان شبه غاطس فيها. لا لياقة في طريقة نهوضه ولا نشاط. وجهه يحمل عمرا أكبر بكثير من المواليد المذكورة أمامي، قال:

- لحظة أتذكرها في حياتي؟ دعيني أفكر؟ ما الذي سأذكره لكِ، هناك آلاف من اللحظات والحالات والأشخاص، آه، أعتذر لعدم قيامي بضيافتك. إنها من الأمور التي آمل أن أجيدها يوما، ربما عندما أحال على التقاعد.

ضحك عالياً ثانية. عاد وكأنه ينوي الجلوس ثانية:

- غالبا ما يفوتني الأمر، ونهلة برغم كل محاولاتها لم تفلح.

- نهلة؟

نفخ الدخان بعيدا عن مربع جلستنا وقال:

- زوجتي، أم أولادي، حبيبتي، أمي، رفيقة عمري، هي كل وأغلى ما أملك. ألا تعرفينها؟

- الإسم غير مذكور هنا، كما ظننت بأنكما مطلقان كما هو في الأوراق التي تخصك.

- نحن منفصلان فقط، حالة مؤقتة، مررنا بظروف صعبة، الدنمارك لم تسهلها علينا، هي أشبه بإنذار لكلينا، وقت لمراجعة نفسينا.

- هل تظن بأنها متفقة معك في ذلك؟

- ما الذي تقصدينه؟ هل تحدثتِ معها أنت أيضاً؟ ما معنى زيارتكِ إذاً، الإيقاع بي ثانية، تجسس ومراقبة في كل مكان، الله أكبر، تتدخلون في أدق تفاصيل حياتنا، لم أعد أثق بشيء وبأحد هنا إطلاقاً، لو سمحتِ أنا متعب، أرجو منك المغادرة.

كان واقفاً في مكانه، تماسكه وانشداده بعثا بي قليلا من الرهبة. ازدادت عندما أضاف بنوع من التهديد:

- " احذري. الرغبات الحيوانية لا مجال لتصريفها في مجتمع متحضر تشتد فيه الرقابة على الفرد، لهذا تصدر بشكل متطرف كما ترين أحيانا في المجتمع، أو أثناء السفر إلى الخارج وبعيدا، أنتم أعرف بذلك "

 قال جملته الأخيرة بشكل مختلف. كنت جالسة في مكاني، أنظر إليه محاولة فهم سبب انفعاله، إن كان عابراً أم منذراً بما هو أشد خطورة.

- أرجوكِ، أريد أن أنام.

 صوته كان عاليا متوعدا وهو يشير بيده تجاه الباب.

بدأت بجمع أوراقي على مهل من على الطاولة الواطئة أمامي. لم أتوصل خلال ذلك إلى طريقة أنقذ بها الموقف. أجنح دوما إلى سلوك الطريق الأكثر أمنا وهو النزول بالحال عند رغبة المريض متى شعر بذلك.

صوته يحمل استدراكا فجائيا وهو يقول بتردد:

- آسف، آسف، لا أقصد مضايقتك، أنا بحاجة للتحدث مع أحد يفهمني.

- أشعر بذلك.

-  ليس لديك أدنى فكرة عما مررت به من ظروف، تسفير، سجن، ضرب، مرض، إهانات، خيانات، غربة، أنتِ لا تعرفين ما بي الان.

- كان يجب ألا تترك الدواء الذي وُصف لك.

- لا أستطيع الاستمرار عليه. يجعلني أشعر بأنني مجنون.

- يمكنني مساعدتك بالاستعانة بطبيب آخر.

- مللت وضعي، مللت حظي، لا أشعر بقدرتي على المواصلة. لا أحد يمكنه مساعدتي.

تهالك على الكرسي القريب منه. ينظر إلى النافذة. تركته مستغرقا بتلك الحالة أنتظر أن يلتفت لي لأعرف ما يتوجب علي القيام به. بقي ساكناً.

- هل تود مني المغادرة؟

- لا، لا، أعتذر.

هبّ واقفاً:

-  سأعمل لكِ قهوة لن تنسي مذاقها ما حييت.

-  شكراً.

استدار بخطوات سريعة إلى المسجل وأداره لتنطلق موسيقى القوميات الكئيبة التي لا أفهمها إطلاقا.

أتلمس إيجابية في حركة جسده. يده تشير بحماس إلى حيث المسجل وبصوت أكثر حماساً يلتفت إلي بألفة ثانية ويقول:

- انصتي، هذا مطرب عراقي مشهور يغني موالا للوطن.

...

الثلج الذي تراكم في الخارج منذ دخلت شقة رضا بدأ بالذوبان عند مغادرتي. يتساقط كتلا رخوة من على سقوف العمارات. اليوم هو الجمعة وزينة أعياد الميلاد كأنها تحارب ببسالة ضد ظلمة شديدة البأس. قدت سيارتي بحذر. كنت متعبة ومتضايقة. لقاء استنفد جزءاً كبيراً من طاقتي. بعد الغد أول آحاد الميلاد. لطشات الثلج وهي تضرب الزجاج تذكرني بطفولتي. تذكرت أبي والزلاجة التي اشتراها لي رابع شتاء في الروضة. كنت أخشى ابتعاده عني كلما دفعني من أعلى التل الذي اكتسى بالثلج وازدحم بالناس فجأة. مرت سنوات أبي الأخيرة بسرعة لم أعها إلا بعد رحيله. ربما لأن وظيفته الوحيدة التي أجادها هي صدّه لي. حتى إن حزني لأجله لم يكن اكثر من حزن طبيعي تلاشى بعد هزة شملتني عند نبأ وفاته. رغم هذا فلم أع وحدتي كما وعيتها إلا عندما توفي. شعور غريب وكأنني صرت معلقة بالهواء. لكنه شعور يسهل التآلف معه بتقدم العمر مع ذلك. وأنا اقترب من عوالم هؤلاء البشر تلمست طبقة أكبر من الغموض أو الإيهام تغلفهم، قد تكون هي السبب خلف معاناتهم. فكرتُ باختلاف نظرة البشر إلى الحياة. يمكن للإنسان أن يرى الحياة بشعة إن رغب، حينها لن يتركه ميله هذا لأن يرى الجوانب الأخرى المشرقة فيها، بمعنى إنه لن يسعى لتغيير وضعه؛ ربما علي ان أدير الحديث بهذا الإتجاه في المرة القادمة، لا أدري، أفكر ثانية بدور الضحية التي يتبناه كل منهما، مروى ورضا. أشعر وكأني بحاجة إلى كمية اوكسجين إضافية. لكن ماذا لو لم تكن هناك بالفعل جوانب مشرقة؟ ماذا لو واجه الإنسان كماً مهولاً بالفعل من أحداث رعب وتهديد،... كماً مهولاً من الخسارة؟

عدت إلى البيت لألقي حاجياتي تحدوني رغبة لتغيير ملابسي بالحال. سرعان ما يختفي ضوء النهار. علي أن أنجز العديد من المهام لكني أشعر بالضيق. خرجت مجدداً إلى محل الزهور القريب. اخترت إكليلا من الزهور للوالد لأضعه يوم الأحد على قبره. كما اخترت للصالة شكلاً بسيطاً أنيقاً لإكليل شمعات الآحاد الأربع. بشراء الإكليلين شعرتُ بروحي تنبسط وهي تتنفس براحة أكبر.

 

3

حضرتُ بمناسبة الإحتفال بيوم حقوق الإنسان محاضرة يدور موضوعها حول تأثير التعذيب والترهيب على العوائل التي عاشت الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها في الأجيال، بعد مرور أكثر من خمسين عاماً. غريب أن يستذكر المرء في خضم التهيئة لعيد الميلاد أحداثاً كهذه وأن يُحتفل ويُذَكَّرَ بها. كان لدي شعور رغم ذلك بأنه سيكون موضوعي الأثير مع بداية العام الجديد. عندما عدت إلى البيت راجعت بعض مقالات كنت طلبتها حول " اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية"، المصطلح الذي اتفق عليه أول الثمانينات في مجال الطب النفسي العسكري، وهو ما أفرزته حرب فيتنام من معاناة ألمّت بالجنود الذين خاضوها. خطر ببالي خلالها مراجعة الجزء الأخير من أوراق مروى لأمسك بخيوط الحالة الثانية التي تعود إلى المولاني. ربما قمت بفعل ذلك لإشتباك الحالتين أيضاً بالنسبة لي. كثيراً ما كانت ردود أفعالهما تتشابه وتربكني. كان تذكري للكثير من تفاصيل صغيرة قاما بسردها يشتت تركيزي أثناء المحاضرة ويحول دون سماعي لتعليق المشتركين. وما أكثر تفاصيلهما. لكنني أتفق مع ما طرح حول كون أغلبية اللاجئين شغوفين جدا أيضاً بسرد أدق تفاصيل حياتهم، وذلك بلا شك محاولة منهم لإنصاف النفس التي ترزح تحت ضغط الشعور بالظلم.

فرشت أمامي على طاولة المكتب كومة من تعليقات مدونة بخط يدي السريع على أوراق الملاحظات. الغريب إن رضا لم يأت على ذكر مروى إطلاقاً طيلة الجلسات. كان ينسى الأسماء جميعها فجأة، يعزو ذلك إلى الكوابيس التي يتصارع معها كل ليلة فتخونه الذاكرة.

عدت وأحضرتُ ملف مروى، الكاسيتات والملاحظات ثانية. أقف في مكاني للحظات وأنا أنظر إلى الأوراق من حولي. أقرر أخيراً أن استخدم الصالة استثناءً هذه المرة لمتابعة عملي. جمعت كل شيء ووضعته على الطاولة الواطئة أمامي في الصالة لأسمع من مروى المزيد عن رضا، عن نوع العلاقة التي تربطها به، عن تطور العلاقة بينهما وموضوع تهجير الشيعة العراقيين إلى إيران، الذي تردد ذكره أيضا على لسانهما.

تقول مروى:

- " أنا لم أهرب من نهلة، هي التي اختفت. أين، كيف، لا أدري. لا أكاد أذكر. هل هي الحروب، أم التاريخ الذي يدرّسوننا إياه، هل دولة الخروف الأسود هي السبب، الأبيض، هل هم القرامطة، المغول، السلاجقة، أم صاحب الزنج، في أي زمن نحن، عن أية حقبة يتحدثون. أخشى أنني أضعت التواريخ عمداً. لم أعد أجهد نفسي في فهم شيء، ولا حتى في حساب عمري. كم كان عمري عندما قبّلني رضا، عندما توفي أبي، عندما تزوجني عدنان، غياب أخي، معركة ديزفول، قصف مستشفى الطوارىء للولادة، مديرية الأمن في البصرة، في بغداد، الشعبة الثالثة، جزيرة يولاند؟ رضا هو الذي جاء بخبر انتهاء الحرب. هو وحده من يحق له أن يختار تاريخاً لنهايتها. الله، كم جميل أن يعود سالما من معركة خاسرة مُرة، تتطاير فيها أشلاء أجساد رفاقه أمام عينيه فيقرر إنهاء فترة خدمته، مثل رواية من تلك الروايات العالمية في مكتبته الصغيرة. لا أتخيله بزيه العسكري مثل كل الشبان الذين كانوا من حولنا. لا أتخيله بزي غير زيه المدني ذاك، الذي يتعمد أن يظهر فيه مظهر الكائن غير المسئول أو المعني بما يحدث له و ما يدور في العالم. أعرف موعد إجازاته الدورية عبر أخي. ألمحه بالصدفة أو بالقصد، آه، أكمام قميصه المرفوعة إلى أعلى زنديه، جبينه الأبيض الذي تلوحه الشمس دائما. يقف هناك ليساعد معارفه في مكتبة "أبو سمير" في سوق الهنود. ذلك كان قبل حملات التسفير. البنات يقصدنها، وأنا من بينهن، لوسامة الشبان الذين يعملون فيها رغم اختناق المكان وضيقه. تزداد قامته طولا، أشك بأنه يخصني بإيماءة رأسه، يحييني لأتصبب عرقاً، ليغور قلبي وتنقطع أنفاسي فأكتفي بفوزي العظيم وأقرر العودة إلى البيت.

 - هل كان حبيبك؟

تبقى مروى مبحلقة في وجهي قبل ان تجيب:

-  معرفتي تسبق معرفة نهلة به لعلاقة أهلينا ببعضهم مذ كنا صغاراً. أن نختلف أو نتصالح، أنا وهو، كان ذلك بسبب سدرة النبق الملاّسي في حديقة بيتهم. كاد رضا أن يغيب مع جل أهله لتبعيتهم، ولخطأ ما تنجو العائلة وتنزوي في بيتها. ثم ألقي  في السجن بسبب تهمة ملفقة تقف خلفها ميوله اليسارية. كان خطبا جليلا أصابنا جميعا حينها. صعبت علينا الموازنة بين التستر عليه والتنكر لتلك الجيرة.

تتوقف، ثم تتابع:

-  لكنني ومنذ أن تعارفا، وكلما التقيتهما معا يخطر ببالي أمر، لا علاقة له بهما؛ منذ أن ارتبطا صار وجود نهلة معه يشتّتني فأعيش باللازمن اللا مكاني. لا أدري لِمَ، كان وجودُهما وكأنه يُفرِح العالم ويقلقه في آن واحد. كان موضوع تابعية رضا موضوعا سريا جدا بسبب هجمات التسفير التي حدثت في أوائل السبعينات أولا، ثم تكررت في الثمانينات، كانت قد استهدفت التجار على الأخص. ربما لكثرة الأحداث واحتراف الكذب لم نكن نتردد في تصديق خبر، أي خبر، أياً كان، وذلك يحدث؛ أن تشتبك الأمور، العاطفي منها بالسياسي، بالديني، ولا حيلة لأحد منا في ذلك. شقٌ فيَّ يقول بأننا لا نأبه تماما لما يحدث لأننا لا نريد تصديقه، أمر لا تحتمله أعمارنا، يصعب تحليله، يفوق طاقاتنا، أو هي رغبتنا الشديدة في الإحساس بالعيش بمزاج رائق وسلام أو حتى الإدعاء بذلك. يحدث التسفير مرة أخرى فنفقد القريب بصمت، الصديق، العزيز، المدرّسة، الجار، المُعيد، بصمت، بصمت، بل إن البعض منا لا يشعر بما يدور، البعض لا يحمل تعاطفا بالمرة، نصير جميعا شعبا ضريرا طيعا قابلا للصفع على خديه، تُركِعه قبضةٌ من حديد فيسقط صريعاً مستريحاً."

- هل لديكِ مقربون سُفّروا؟

- " في حملة التهجير الأخيرة في الثمانينات واندلاع الحرب صار الفقد أقرب وأقرب بكثير، بين البنات في المدرسة الواحدة، الصف الواحد، في المقعد الدراسي الخشبي الواحد، إعدادية البصرة للبنات، إبنة القديفجي، المدائني، خدادات. تحدث خلخلة في مَعْلَم ما من معالم البصرة التعيسة، تطيح  بمحلات "علي موسى" للأثاث والتأجير في البصرة القديمة، مكتبة " أبو سمير" وشبابها في العشار، "أفران الأنصاري"، ويشطب "أبو نؤاس " وكل أشعاره. ينسّل من بين أصابعنا التاريخ هكذا، نخسر تراكمه. لا يبقى غير رملٍ أغبر وخلطات اسمنت جاهزة لترقيع الثقوب والحفر، لا يستجد في الشارع غير زيٍّ للجيش الشعبي وزيٍّ للمخابرات وزيٍّ للجنود، وشوارب رجال تستفز، وعموما لا يأتي أحد على ذكر شيء. تلك هي الثمانينات التي لم تكن غير نذير، تتسربل بين الوهمي والحقيقي وتسحق سنيني."

توقفت مروى هنا وكأنها تحاول أن تسترد أنفاسها لتختم ما بدأتْ به. ظللتُ أبحلق بجهاز التسجيل لفترة استمر فيها صوت البكرة المتابعة دورانها حتى عاد الصوت ثانية بنغمتها المتذمرة، المنفعلة:

- " لم تكن حياتنا لتبدو مربكة لولا تلك المعارك التي تُداهمنا، أو يتم تسريب الأخبار حول اقترابها. الحياة أكثر من عادية، الأمهات اللواتي لا يتذكرن أعياد ميلاد من ينجبن. التقويم الرسمي يسير وفق حملات التبرّع وعدد البيانات العسكرية أو الطلعات الجوية والمفكرات التي تدوِّن تواريخ إشاعات الإنتصارات. نحن بطبيعتنا ومن دون أن ندرك نجهد لننسى"

 ...

تكاد شمعة الإكليل على الطاولة منتصف الصالة أن تحترق كلياً. شمعة الأحد الثاني التي أوقدتها منذ أيام. أزحتُ أوراق الحالة مروى جانباً. شعرت بأني أدخل متاهة لن أجد لي فيها طريقا يعينني. أوشكت أن استسلم. بدأ فضولي يقف عائقا في طريق بحثي ودراستي وتخصصي. تذكرتُ زميلاً استشارياً لي يعمل في مركز ضحايا التعذيب. اقتنعت بأني بحاجة إلى نفساني مشرف يرشدني في عملي ويتناقش معي في كيفية وضع خطة جديدة غير خطتي لإتمام دراسة الحالة المولاني. فكرت بأن أعرض الحالتين معاً عليه أو أخبره فقط بتسلمي بالصدفة لحالتين من مكانين مختلفين، مرتبطتين ببعضهما، على الأقل في ماضيهما. أجل، بدأت بجمع الأوراق وانا أنوي الإتصال به في المركز. تناولت دفتر الهاتف لأعثر على رقمه. تخيلت ما يمكن أن يقوله لي فتوقفت- تصرف أعمى وغير مهني. كنت ساخطة على نفسي، مترددة جداً. لم أفهم حقيقة مشاعري. شعرت برغبة كبيرة بحفظ الحالتين لي وحدي فقط. انحرفت في عملي إلى ما يشبه عمل مخبر يقتفي كل الآثار ذات العلاقة حتى نهاياتها. أحداث ضخمة، خاصة عامة، نظام بوليسي، أسماء كثيرة، أحزاب، أديان، طوائف، قصف مدفعي، سجن، تفاصيل لا تعد. هل يمكن للمرء أن يتعرض لكل هذا في يوم واحد؟ كنت أريد النجاح في مهمتي دون معين. وضعت خطة لدراسة الأوراق الأخيرة لمروى قبل استدعائي لرضا في موعد جديد. قررت أن أدرج أسماء الأمكنة في قوائم، الأحداث في جدول زمني، قررت أن أقصد المكتبة لأبحث عن مجموعة من الكتب تعطيني نبذة عن تاريخ العراق، عن المستعمرين الذين تعاقبوا عليه عبر التاريخ، العثمانيين ومصالح الألمان، تقسيم الإنجليز للمنطقة واهتمامات الأمريكيين. وتداعبني أيضاً فكرة أخذ دورة دراسية في مباديء اللغة العربية.

...

التقويم أمامي. سعيدة بعطلة الميلاد التي ستتيح لي التفكير بحرية أكبر. الحديث ذاته يتكرر في كل مكان؛ ناسٌ تسأم هذه الفترة سأما كبيراً فتقرر أن تسافر هربا من كل ما يمت بصلة إلى العيد والزينة والطعام وشراء الهدايا، وناس تغرق نفسها بوعي وبهوس في إحياء التقاليد والطقوس لهذه الفترة. أقرر الإستمتاع بالميلاد على طريقتي. أحاول أن أوفق بين المواعيد وجدول مطالعاتي الذي قررته. أشعر بأنني كالمدمن الذي يغيب عما حوله.

رنين الهاتف يكسر صمت المكتب ويزعجني أثناء عملي. الرقم على شاشة الهاتف يعود لإبنتي فأقرر رفع السماعة.

- عيد ميلاد مجيد.

- شكراً، الوقت مبكر.

- ماما، هل أنت بخير؟

- قررت السفر لدولة عربية ربما الربيع المقبل.

- فكرة جنونية كبرى، ما هذا التغير الطارىء؟

- بي فضول للتقرب من تلك العوالم.

- هل أقلق؟ أفكر بأنك ضجرة، أين ستقضين ليلة الميلاد؟ هل ستحضرين القداس؟

- لا داعي للقلق، سأتوجه إلى الكنيسة بعد الظهر وأعود بعدها إلى البيت.

- ...

- هلو

- هل تدعينني للسفر معكِ؟

- ... لا أظن، أود السفر لوحدي.

أغلقتُ الهاتف وأنا أشعر بالجوع. أشعر برغبة لتناول خبز طازج حار للغداء. الساعة لم تتجاوز الثانية عشرة ظهراً بعد. قررت التوقف عن العمل والتوجه إلى المخبز القريب، لكنني سرعان ما غيرتُ رأيي. أسرعت أقصد الأسواق الصغيرة القريبة من البيت لأشتري خميرة وطحيناً قبل إقفالها بمناسبة ليلة الميلاد. اشتقت لرائحة الخبز وهي تنتشر في أركان البيت.

مزجت نوعي طحين وعجنته بيدي. ممارسة الخبز هي نوع من ممارسة رياضة يوغا بالنسبة لي، لا سيما مرحلة العجن التي تريح الدماغ من صراعاته؛ نوع من التفريغ، التنفيس. ثم يصير البيت مأهولاً.

الشمس كانت ساطعة، انتقلتْ إلى الداخل وشغلت مساحة كبيرة من الصالة وأول السلم، كما نشرَ دفؤها رائحة أبصال الهايسنث في البيت بأكمله. الحرارة دون الصفر في المقياس على نافذة المطبخ. العشب تكسوه طبقة ثلج خفيفة. يوم مشرق يبشر بميلاد مسيح بالفعل. درتُ في البيت أطفىء المدافىء المائية. فتحتُ الشباك لأتنسم حبات الهواء النقي، رتبت البيت ومسحت أسطح الأخشاب. قررت المشي لحين يختمر العجين. صعدت إلى غرفتي لأرتدي ملابس رياضة وأنا أشعر بقناعة وارتياح لما أنجزته حتى هذه اللحظة. تلكأت قليلا أمام المرآة أنظر إلى جسدي. منذ فترة لم ألق نظرة عليه أو أتحسس التجاعيد التي بدأت تتضح في وجهي.

سلكت الممر الضيق المؤدي إلى الغابة. شعوري بالعيدان والأوراق المتجمدة وهي تتكسر تحت قدمي يمدني بحيوية. الجو يضفي بصحوه سكونا على البحيرة الصغيرة منتصف الغابة. تجمعت على السطح في منتصفها والضفاف طبقة ثلجية شبه معتمة. المداخن تلوح بنهار مزدحم بالعمل في مطابخ البيوت. بضعة نوارس ضخمة، أخرى صغيرة حطت على المرسى الخشبي الصغير.

دبت الحياة بجسمي. هكذا هي الطبيعة، علاجنا الوحيد. توقفت أتأمل الأشجار العارية، شممت حطب المداخن بحب. أنفاس الناس وهي تمر سريعا بي سرعان ما تتكاثف ما أن تلامس الهواء. حييت البعض منهم مَن فضّل الركض، ربما ليتغلب على البرد الأزرق أو ليبدّد الوقت لحين حلول المساء واستقبال الضيوف، ثم الأكل ومن ثم فضّ الهدايا والغناء والرقص. حتى الكلاب التي حييت أصحابها بدا نشاطها واضحاً في نزهتها هذا اليوم.

...

بدأت الناس تتوافد في دفعات عصر ليلة الميلاد. امتلأت الكنيسة بالكبار والصغار. صدى الكورال المتناغم كان يعظِّم من فضاء الكنيسة الكبير. أحسسته رائعا منسجما مع روحي التي انتعشت بعد أن زفرتُ هواء أعبائي في الغابة وعببتُ نقاءها. لمعت الجدران بكل تفاصيلها الذهبية وأضاءت الشموع القلوب. يمكنني رؤية الفرح وهو يغمر الوجوه التي أتطلع إليها من حولي، وقد جعلني الجو الكنائسي وأنا أرتل النشيد الديني مع الجمع أشعر بأني أكاد أرتفع انتشاءً إلى أعلى.

وبدل الدوران حول شجرة الميلاد، أدور مساء العيد بين العيادة والصالة في بيتي، أتنقل بين شاشة الكمبيوتر والأوراق على الطاولة بشعور من الرضا والإسترخاء.

أتساءل عن مصدر إحساسي، لابد وأن تكون نشوة القداس وراء حماسي وتورطي في العمل.

 

4

في معرض تكملتها الحديث عن جزء من حياتها بعد الحادث، سألتني مروى ذات يوم عن أمي وأبي وابنتي وأبيها.

لا أدري ما الذي ضايقها في جوابي. أعدت مراجعة موقفي. كنت قد أخبرتها باقتضاب بأن والديّ قد توفيا، وإنني مطلقة منذ عدة أعوام، أما ابنتي فقد انتقلت لتستقل في سكنها بعد أن أتمت الثامنة عشرة، كانت تبتسم بعد كل جواب دون تعليق. وفجأة انخرطت بالضحك دفعة واحدة. أفهم فيها هذا السلوك الذي يعكس حرجها وانفعالها. كانت تريد أن تهرب بوجهها بعيدا عن عيني. قلت لها:

- لا أفهم، لم تضحكين؟

شاب صوتها انفعالٌ:

- ولن تفهمي. لستُ على اختلاط مع الدنماركيين فعلياً كما تعرفين، ولكنك وكأن التربية تفرض عليك خنق إنفعالك الآن، كتم الدهشة والهزيمة معاً، كجزء من التحضر والتأنق، هذا ما نقرأه عنكم، وما سمعته من الآخرين هنا، وهو ما أشعر به الآن أيضا وأنت تجيبينني على كل سؤال وجهته لك، كيف يمكنكِ مساعدتي وأنتِ بنفسكِ بحاجة إلى مساعدة، أم إنني على خطأ؟

لم أجبها. ضقت بها. سادت فترة صمت احتجت خلالها لأن ألملم أفكاري. جوابي لها كان على قدر سؤالها. لم أشأ أن أعطيها الفرصة لأن تتدخل في الخاص من حياتي. من شأن ذلك ولا شك أن يربك عملي ويربكها، لاسيما وهي تعاني من حالة تشتت ذهني حاد كجزء من حالتها المرضية. كان يكفيها ما هي عليه من تشوش وصعوبة في التركيز.

بعد محاولات عدة اعدتها إلى الحديث الذي بدأته فتابعت:

 - " البدلة، التي أخيِطُها لنهلة لِتُظهِر حزنها، لا تكون سوداء اللون. كانت نيلية كُحْلية بوبرة لامعة، كما أرادت. وهي وبرغم نكبتها تعترض لعدم إجادتي خياطة السَحّاب، المرحلة التي تفقدني عقلي في الخياطة. تنضوها وتجلس حذوي بفخذيها العاريتين منتظرة بنفاذ صبر انتهائي. أتمالك أعصابي من أجل إتمامها بالشكل الذي تريد. أشعر وأنا أغالب دموعي بأن شرط الوفاء المفروض علينا لا يشملها. كل ذلك الوفاء فيَّ لم يكن كافيا وفيَّ من السخرية والندم ما يكفي ليرافقني بقية عمري، باستثناء الجزء الذي يعود فيه الوفاء إلى السنين الأولى من طفولتي."

أذكر جيدا حركة يديّ مروى الملوثتين بالزيت وكأنها تحاول أن تتحسس شيئاً ما بين أطراف أصابعها وهي تقول:

- الصمت الذي يخلِّف الحادث ويشملنا جميعا غريب. نستشعر ظلمة غير مرئية تشتد في البلد. ينـزل الستار أسود مبطنا ثقيلا مدهناً على فصل يمر من حياتنا. قسوة تصبغ كل شيء. تغذينا العُزلة بجهلٍ مخيف. تتغير قاماتنا، معاني وجوهنا، لون بشراتنا، يزداد الشك والريبة فيكسر البعض منا كل المرايا في بيته. ظروف تحول دون تمكني من السؤال عن نهلة ورضا. زوبعة عاتية أجهل من يكون خلف إثارتها. تنعدم الرؤيا وكأنها رغبة بسحق العائلتين، بل العوائل جميعا! إشاعات تجيء لاحقا وتختلط بحقائق مدفونة، مجهول مصدرها. إشاعات تصل العائلتين تزيد الهوة بينهما"

- هل كنتِ حزينة بسبب فراقها؟

- " بعد خبر الوفاة نتوارى عن بعضنا لفترة طويلة، نختفي عن وجه الأرض وينقطع الكلام. الوقت يمر ونحن وكأننا في ساحة الوغى، نخوض حربا بالسلاح الأبيض. سيوف تتبارز، جياد تكبو، بيوت تشبّ بها النار. بانتظار أن يهدأ كل شيء، أن يهمد الغبار، يتبدد الدخان ويطلع النهار لنعرف مَن الغالب ومَن المغلوب. لا أعلم ما الذي يصيبنا جميعا. في ذهني تسقط الفترة في فراغ، لا يمكنني استعادتها. اختفي في غرفتي لأمارس هوايةً، أسرّ لي أخي بامتلاكي لها إن واظبت عليها. لكن الرسم كان فعلا شاقا، وكأنه يريدني ولا أريده. العمر الذي يمّر محض تهويم. هل هي الرغبة اللا واعية بإسقاط شيء من الذاكرة. التعذيب، الشحة، العوز، تصدير الشباب إلى الجبهات والمعسكرات في إيران، اللجوء إلى دول اللجوء، التخلف عن أداء الخدمة العسكرية، الحيطان وآذانها، الوفيات، الدراسة التي تختارها كل منا ولا تفلح في اتمامها، القصف الذي يقذف كلاً منا إلى جهة يظنها آمنة، يساريته، سنّيتها، منع التجول لفترة، حملة تعداد السكان، تبعيته الإيرانية، أصولها اليهودية، تبعيث البلد، الشيوعية الملاحَقة، " أوكار المتدينين"، السجون التي تبعد آلاف الأميال والمقابر التي ليس لها أثر".

تتوقف مروى. يصعب عليها ترتيب الأفكار التي تهجم وتختلط بمشاعرها ما يشكل ضغطاً كبيراً لا تستطيع التعامل معه. أختار احياناً التدخل لأخفف عنها الضغط. تعود لتتابع بهدوء:

- " عدنان قال لي، نحن نختار خطأ، نخلص خطأ، نخون خطأ. كان المكان يصغر ويصغر. لاحقا وأنا أسير في زحمة شوارع بغداد أو في المناطق المسموح لنا المرور فيها، أتساءل، أية هوية تجمعنا كلنا؟ السؤال ذاته، الآن بعد كل تلك السنين، يشوبه بعض من مرارة. هل الرعب الذي يتملكنا له علاقة بالقدر ليتدخل ويقرر مصائرنا؟ أم هو هاجس تحاول نرجس أن تزرَعه فيَّ عبثا، ويتمكن من سكن أخريات بسهولة؟ أدخل عالمهن مُصابة بالذهول. تقسيمات بشر لا يحتملها قلبي ورأسي. وكأني نشأت في غفلة عن كل ذلك ثم وعيته مرة واحدة. "نحن مثل مدّ الثيل" يحاولون تلقيني دون جدوى، كذب، يحاولون غرغرتي بتلك المقولة التي أعاند كي لا تنـزِلَ في جوفي. وأبقى تلك الطفلة الغريبة، تفيض عيني بالدموع لأدنى سبب. ربما أغيب لوهلة فيغيب عني الكثير. صوتٌ بِقِدَم شناشيل السيف، غريب عن عصره يردد، بشر يضيَّعُ إدراكه بين الله والمذاهب والأحزاب، الفروع والأصول"

- لكن ما الذي ألمّ برضا ونهلة بعد الحادث؟

- " بعد يوم أو يومين، شعرا بأن من حقهما تقرير احتياجهما وزمن اتصالهما دونما حاجة لإعلان الأمر، كما حدثتني نهلة. كثيرة هي التفاصيل والإعتبارات التي تهملها. ولم يكن ذلك بعيدا عن الصورة التي أعرف رضا بها، فلم يأخذ الأمر منه ما أخذ من الحقوقي مدحت عبد الرزاق في رواية "الرجع البعيد"، كان رضا مسكونا بهاجس السباحة ضد تيار القطيع المتحجر. لم يحتج لأن يهرب ويقبع في تلك الكوة القذرة في حي الأكراد لأسبوع كي يباحث نفسه، أياماً وليالي من العذابات لينتصر على المغروس بداخله. أشعر بأن نهلة لا تلبث أن تنصرف من حديث إلى حديث، ما يخلِّف بداخلي شعورا بانتفاء الحاجة من قبلها وقبله لإشراكي بالموضوع. وكأن الحاجة إليّ قد انتفت. أشعر بتخلّفي، أجهل ما هو الأهم في الحياة، وكم تبدو الأمور تافهة إلى أبعد حد في ظرف ما. ينتابني خجل واحتقار لنفسي. أدركُ بأنهما حينها طلعا من المكان والزمان  ليهزآ بكل شيء وينسفا كل شيء. أدركُ بأني بدأتُ أفقد إيماني بنفسي وبالآخرين تدريجيا، أفقد الإحساس بكلمة الأمل. أوشكُ الإعتذار له- أرى رضا وهو ينهض بي، يعاتبني، يأمرني بأن أكبر. يخيل إليّ أني أبكي متهالكة عند قدميه، أقول له؛ - الإيمان يا رضا نسلّمه الآن لأول قاطع طريق من أجل أن ننجو. لكنها نهلة، شأنها دائما، أن تُفقِد الأشياء قدسيتها، وكأنها تقصدني أنا، تُمعِن في تفريغي من تقليديتي، أو ربما تجريدي من أوهامي وخيالاتي. يفتر حماسها للحديث معي فجأة، تنشغل في التفكير بطريقة ما لحرق اللحظة التي نحن فيها. إنها هي، كما أراها الآن، مَنْ يمتهن فضّ بكارة الأشياء فأتبعُها. ولا أعلم إن كان لجوؤنا لبعضنا حاجة حقيقية أم وهمية. أ هو الآخر المكمّل الذي نشتاقه كما يتوهمه البعض؟ أم هي تلك الروح الثقيلة التي تسكننا ولا يمكننا حملها لوحدنا؟ كان عرسهما المفترض قد حدث أثناء حرب الخليج الأولى. انها الثمانينات، توالت المآسي في هذه الأعوام. لم يكن بإمكان أحد التخطيط لشيء. كنت أتساءل كيف يمكن لأحدهم أن يخطط للزواج، بينما الآخر وجد طريقاً للهروب إلى كردستان وثالث قابع في السجن ورابع سيولد بعد ساعات في ذات العائلة؟"

- لابد وأن تبدو الأمور مختلفة ولو قليلا في نظركِ الآن؟

- " لا أدري، هذا البلد يدفعني الآن للبتّ بأن الأمر سيبدو طبيعيا بشأن حادث وفاة أخت رضا في يوم حفل زفافه على نهلة، وربما سيكون مدعاة ضحكي ومجاملتي بسبب عنصر المفارقة لو نُقِلَ إليَّ الآن. لا أدري، صارت المواقف لشدة دراميتها تضحكني. إنها الدنمارك، تلك الشوارع المستوية العقلانية، لوحات الإعلانات المتساوية الأحجام، مواقف الباصات ذات التصميم واللون الواحد، ارتفاع مستوى الثيل والأشجار المدروس في المتنـزهات، القوانين التي تحكم كل فاصلة كبيرة وصغيرة في المجتمع، حس التفوق والكمال والوطنية. كل شيء مستوٍ مشذّب محسوب يؤثر كثيرا في امتصاص انفعالاتي، حسابِها، وتعريف احتياجاتي. هه، أشكال الإنفعال والتفاعل لا تُحدّدها التقاليد المتّبعة في البيئات المختلفة فقط بل ديكورات مجتمعاتها أيضا. الوجه الآخر والأخطر للأمر هو أن ذاكرتي مركّبة، جزءٌ منها لا يعود لي، جزء فيه من الخيال حد الشكّ في نفسي. أميل إلى احتراف الكذب والتمويه وإن كان مع نفسي. إنني أُمعن في نسيان أشياء وأُبدع باختلاق أشياء أخرى، أستبدل وجوهاً وأسماءً بوجوه وأسماء أخرى. أنا أيضا مشوشة بسبب التفكير بالفعل الصح، أتأرجح بين الصحو والغياب، يرهقني التفكير بما يجب أن يقال وما لا يقال، بين الحلم والكابوس، أترك للظروف أن ترسم خطواتي وتحدد مصيري وأنا..."

- هل تشعرين بالعجز؟

صوتها يخفت:

- " نهلة تقول لي إنّ إدمانهما على فعل الحب إثر الحادث، رغم صدمته والحزن والقصف المستمر، فِعلٌ لا يُصدق، فعل عنيف غريب متواصل وكأنهما يتعاطيان مفعولا سحريا يغيِّب الحياء عنه وعنها، يمدّه بالقوة ويمدّها بالشهوة، تتصاعد ساعة بعد ساعة. تتساءل نهلة بصوت عالٍ، إن كان ذاك، فعل الحب تقصد، حزنا أم فرحا أم جوعا، أم إنه هاجسها الذي يضنيها وتنتهي منه. أشعر، وأنا الجاهلة، برغبة المرأة فيها، التي لا يمكن قهرها، في استعراض انتصاراتها. نحن لا نتعرى أمام بعضنا كما تفعل هي. أفعال وإدراك يعكس أيضا وراثة البعض دون الآخرين، نساء ورجالا، لتلك الدراية والخبرة. تلك الحلقة من تداول الموروث التي تنقطع هنا، في هذا القسم من العالم فيصير خطُّ مسارها مستقيما؛ تجربة أحدكم تنتهي عند حدود حياته، قد تعبر لتصل للذي من بعده وقد لا تصل. شعارها القطيعة مع أسلافها، مثل نهلة، أما نحن فنعود إلى البدء ذاته من جديد، المرة بعد الأخرى. لا أعلم كيف يتشكل التقليد عندنا والوعي ونحن لا نشبه بنهجنا بعضنا. كيف لتجربتها الفردية بخصوصيتها، تجربته، وآخرون لا ينتمون إلى تلك الحلقة، أن تنضوي أيضا تحت لواء العام دون أن تفلت من تلك الدائرة، دون أن تتمكن من فرض نفسها تؤسس لوعي جديد له سلطته؟  لِمَ لَمْ أرث إلا القليل؟ لا أدري ما الذي لي، ما عليَّ، وما أحبّ! أ هو ذات الإحساس الذي يكمن خلف شعوري بعجزي أمام تجارب الأخريات ومغامراتهن؟"

- وما هي تجربتك؟

- " الحبّ وهو يتلمّسُ طريقه إليّ أدهشني، ربما لصغر سني. لم أُكمل العاشرة فأهرع لأمي: هنا أماه، صخرة في البلعوم. حبٌ يشبه تشابك الخشب في تلك النوافذ البالية، يشبه زخارف الأبواب وعتمة مثلثات الزجاج الملون الملتحمة ببعضها. كِسَرٌ صغيرة رقيقة من الصدأ الأخضر المزرق من الخارج المحمر من الداخل تعلقُ بأصابع يديّ العشرة، بعدد سنيني، قابضة بقوة على أسياخ الحديد المُضلّعة المعقوفة لتشكِّلَ قلبا أو نباتا أو حلزونا له روح. أمدُّ رأسي من شباك الشناشيل في "السِيف"، الله، رائحة الخشب القديم المنقوع بالرطوبة والحديد الصدىء لا تبارح أنفي، لها موعدُها الذي تستيقظ فيه عندما تلح الشمس. أحرص على أن يكون جذعي مرتكزا على حافة الشباك الذي حُدِّدَ له أن يكون بهذا المرتفع، ما يضمن عدم سقوطنا من علّو الطابق الثاني في ذلك البيت العتيق. لكن نصفي كله يندفع إلى الخارج وأنا أطلُّ على الدنيا في الزقاق الضيق الضاج بالحركة فتزعزعني صرخة الكبار فزَعاً لرؤيتي: - مروى. إذاً لا يُمكِنُ لِشَعري أن يصلَ إليه رغم طوله، وهو رجلٌ لا يلتفتُ إلى أعلى. الدهشة الحلوة والإرتواء الحسّي المبكر يعودان إلى نقاء الطفولة، عندما أدخل الحُلم لأراهُ يلامس خصلات شَعري، أوه شعري الذي لم يحتفظْ بلونِه وانقلبَ ذاك الذهب الأصلي العَجَب إلى سواد، تقول نرجس التي تعشق أن تمشّطني"

...

هذه الصدفة التي جاءت إليّ بكل من الحالتين المولاني والبصري أرغمتني على التفكير بما حولي، وإن كان ما حصل برأيي محض صدفة. لكن ما الحكمة في كل ذلك؟ في كل دقيقة أنسى خلالها تخصصي وكل ما له من علاقة بالطب النفسي أشعر وكأني أوضع أمام اختبار من اختبارات الحياة، أكثر حقيقية وتماساً بي. أتدارك الأمر بعدها وأنفض الفكرة عن رأسي.

أصفّ آخر ورقة طبعتها عن لسان مروى وأنا اتذكر تفاصيل الجلسة تلك التي تركتها مروى مفتوحة النهايات:

- " ابتعدَتْ نهلة. يهرب فارسُها بها فأفرغ، يفرغ بعدها بيتنا من نفر آخر هو أخي، يغادرنا مُجبرا إلى شمال العراق ومن ثم إلى دول الشمال. ثم يغيب عدنان ولا يبقى لي سوى اختي وأخي الكبير غير الشقيقين وزوجة أخي. نتجه صوب بغداد لنضيع هناك. علينا أهلاً وأقارب أن نتفرق قدر المستطاع لندرأ عنا خطر كلٍّ من السلطة و"قصف الجارة العدوة" والقدر-  قليلون الذين يموتون ميتة عادية تلك الأيام. لا يعود هناك مكانٌ للهموم الصغيرة. قليلة هي الأحداث الصغيرة، أو نحن نادرا ما نلتفتُ إلى الأحزان العادية. لا أغفر لنفسي هذا. زوجة أخي تولول بصوت خفي وهي تُحزِّم أغراضها في غرفتها استعدادا لانتقالنا. يتفطّر قلب نرجس الجالسة في الحوش حزناً عليها فتلكزني لأذهبَ وأُواسيها. عالمها الوحيد الذي يمدُّها بالإستقرار والطمأنينة هو غرفتها، تقول. ينقلبُ البيت إلى مأتم، بغداد تبدو لزوجة أخي مَفرمةً للبشر. أجلس على جانب من سرير نومها بشراشفه القطنية المنشّاة. من النادر ما أدخل غرفتها. للغرفة خصوصيتها. أتجول بعيني في زواياها. بينما تقف هي متسمرة عند طاولة الزينة. حجم حزنها غير عادي تُشهره بصمتها بدرجة أكثر كثيرا من المعهود. تتلمّس سطح الطاولة الصقيل من خشب الساج، ومن ثم تَسحب بثقلٍ علبة مكياجها المستقرة، المحافظة على شكلها، محتواها ومكانها منذ مئة عام، المغلّفة بقماش من الساتان الفاقع اللون، وقد احتوت خمسة ألوان للشفّة مركّبة فوق بعضها في إصبع طويل ذي رائحة تفوح بالعتق والدسم، خمسة ألوان للجفن، مستطيلاً صغيراً للكحل أوجدَ استعماله حفرة في وسطه فبان قاعه، بجانبه فرشاة صغيرة من البلاستك للرموش. تضع الأشياء بأناة في الحقيبة. في الزاوية يلوحُ قميص نومها خلف ستارة من الدانتيل، لم يتحرك من مكانه منذ أن زُفَت إلى هذه الغرفة. غريبةٌ تلك الرائحة التي تَعْلق بالمخادع الزوجية التقليدية، غرف مؤسسة لتكون محطات أخيرة للنساء. غريبة تلك الستائر المسْدَلة التي تحفظ عطر زيوت أثيرية في ثناياها وبخوراً في شرائطها، وكأنها تخشى أن تسرِّب بعضا من أسرار مخادعها. رائحة لا يمكن فرز مكوناتها، فيها عطر رخيص لكنه منعشٌ، فيها قدم وعتق لكنه دافىء نوستالجي، فيها رائحة جنس داعر مغلّف بالخفر والعيب. أفتقدُ الرائحة وليس لغرفة نوم بعد ذلك التاريخ سأدخلها وستحمل ذات الخصوصية والغموض. أن يشعر المرء أنه يملك زمام الأمور آنذاك ضرب من البطولة، أضف إليها كل الإحباطات السياسية والاجتماعية. زوجة أخي تتجاهل وجودي تماما وهي تصفف أشياءها فأغادر الغرفة."

شعرت بشيء من الأسف لعدم اتمامي جلساتي مع مروى. تنبع بي رغبة لأن أعود وأبدأ جلساتي معها من جديد، بتسلسل آخر. كثيرة هي أسئلتي الشخصية، تبرز في رأسي أثناء قراءتي لها وهي تقول: 

- " أتخيل بأن الصدفة وحدها تفرض علينا الالتصاق بالأرض. كل ما هو جميل سماوي، وكل سماوي جميل، إننا لم نُخلَق لنعيش بهذه الدرجة من القرب من الأرض، ولاحقا الفاجعة؛ أن تصحو يوما فتجد نفسك تتساكن مع بيت وأثاث حد التكبيل، تتقاسم فراشا واحدا مع آخر بإحساس المجبر على ذلك، رغم انه من تختار وتحب! صدفة ما مقيتة ترمي بحواء إلى الأرض تسلبنا أجنحتنا العريضة ناصعة البياض. تلك المسافة القريبة جدا التي تُفرَض بدعوى الحب هي السبب لأن نخفق بالحبّ، نعتذر، نناكف، نعطي ونغفر. وبالمقابل فنحن عاجزون عن إيجاد فكرة بديلة تحفظ لنا أن نعيش بأمان وتوازن على هذه الأرض. لا عجبَ أنني أفكر بالطيور كثيرا، يشغلني دوما تحليقها وتغيّر مساراتِها. لا تشترط أو تخون أو تمتثل لقانون، صغيرة جدا لكنها تملك سماءً بأضعاف أضعاف حجمها. لا عجب بأني أحاول أن أتلّبس الواقع في أول خطوة فأفشل. تلك الأحلام المكدسة المخزونة، تَخيُّل الكمال وإمطارنا بالقيم لا يترك لنا فرصة لأن نرى الحياة ونفهمها كما هي. تركني أو تركته لا فرق عندي. هو الذي لم يعينني. الحب لا يكفي لكي ينحشر كلانا بين جدارين، يجمعنا سرير ويسعنا باب واحد. كل ذلك لم يكن مبرّرا لكي تنص القاعدة على جمعنا نحن أيضا. أية قاعدة، أتساءل بسرّي: أنتِ يا مروى متى ستفهمين، أيتها الغبية. هاجس الانفصال يشدُّ عدنان بقوة. أشعر بتلك الرغبة فيه، تخبو وتضطرم لكن لا يمكنه قتلها. لم يكن تداخلي فيه ولعقي لأطرافه إصبعا إصبعا إلا صرخة خفية لإشتهائي الإلتحام به والذوبان فيه. إعلان صريح لا لبس فيه، عن حاجتي له والموت دونه. المستوى الآخر هو ذلك الأرضي، وتلك القوة العاقلة التي تملك أسبابها فتطردنا عن بعضنا ليرى كل منا حياته، وجوده الكامل، مكانه الصحيح، في مركزه، في القطب الآخر. هو كل ما تركه لي كتذكار. كم أشتاق أن أبقى طويلا عند عظمتي كتفيه وهو يشكرني كل مرة بعد فعل الحب، يتسلّق رائحتي ويصعد إليّ على مهل من جديد ليضع بحنان قاس قبلة على عنقي. لو يموت، أفكر ونحن نمارس الحب، قدر تشابكنا لو يموت. وكأنه يقتصّ مني. يُنبِتُ لي أجنحة رغبةٍ مُهلكةٍ ويكسِّرها. أشعر باختناقه، أحاول أن أفهمه، ولا أملك إلا أن أقبلَ وأدفعه إلى قراره. كلما قرّبتُ المسافة كلما ازداد الحبل ضيقا على عنقه. يضيق فكري، ينقص عقلي، أروح أنعي، يقرف مني، ألطمُ، وأندب حظي، أتمنى موته، أتوسل إليه ليفهمَ خوفي، رعبي من فقدانه، أود أن ألغي المسافات بيننا، أتشبث بأذياله، أصرخ به، أريد أن تذوب حدود التقاء جسدينا لنتداخل ببعضنا، ليظل لصقي، لأستقرّ فيه وأغفو تحت جلده. بل قلت له سأرسم يوما هذه الحدود، نقاط التقاء أمكنة عشوائية في جسدٍ واحد؛ هي ليست حدوداً تفصل جسدين، خطوطا غامقة لثنيات أجهلُ في لحظة موتي، بل ولحظات طويلة بعدها، أ تعود له أم لي. غرفة زواجنا تعود لتصير غرفتي وحدي. لا أنفاس تعلق بالمكان. قصة حب مراهق لإثنين ناضجين. أَختارُهُ ليشبه أخي، ليشبه رجل لوحاتي، ليشبه رضا. أختاره لكي يكون معارضا. أختاره مطلوبا مطاردا، لأدفعه بعيدا عني، ليغيب، ليختفي أثره، لأتخيله وأفرشه في اللوحة، وحيدة أستدعي فعله الحب الإستثنائي معي."

تنحدر دموع مروى على خديها، تبقى ساكنة في مكانها، رأسها إلى الجدار متابعة:

- " أود لو أُحمل كقياصرة الصين لئلا تطأ قدماي تلك الأرض الملوثة. وتلك الأرض، أجسادنا، كيف نُحصر، يا للضيق، هكذا بين ما فوق سطحها وما تحتها. يختار أهلي أن يسموه زوجي بعد اختفائه، وأبقى بشعور مختلط، بين تحررّي منه وحدادي عليه. بين أن أُحسَبُ عليه أو أتخلصُ من عبئه. أشبع موتا، جزعا، خوفا. لا أريد الحياة فتيأس البشر مني ونرجس تظن أننا، أنا وهي، والبيت تصيبنا عين حاسدة. تلازمني كظلي، تدعو، تشعل البخور كل خميس وتنذر النذور، لكنها لاحقا تبيع مصوغاتها وتمنح ما لديها من أجل إيجاد طريق لخلاصي وإيصالي إلى أخي. وكأن الألم يظل يشملني من رأسي حتى قدمي، كأنني ألد ابنتي للتو، أخشى كل حركة يأتون بها، وكلَّ تماس بجلدي. نرجس وأدعيتها، مللُ الممرضات آخر الليل وضحكاتهن. البقع الزرق البرتقالية الصفر في زوايا الغرفة في مستشفى الطوارىء. الشبابيك المغلوقة بأكياس الرمل. بين افتقادي له وحَنَقي عليه، وظهري يرفض أن يلامس سطح السرير كما يودون له. ألم كالصقيع  يمتدّ كخط ماء ثلجي حارق حتى أسفل ظهري، يصرُّ على إسقاط الشيء من أحشائي أياً كان".

 هنا تغيب مروى عن المكان. تضع يدها على بطنها وهي تنظر عاليا في السقف غافلة بترديدها وجودي تماما):

- " إنه، المغفرة، وطن فوضى يا ابنتي، حبيبتي، لا يستحق العيش فيه، تتحرق يدي إلى صفعه على خده، هو وطن يتشابه فيه الحبيب، السجان، الأب، إمام الجامع، الناشط السياسي، المعارض والنائم على الرصيف".

...

الضباب يهمي طبقات كثيفة على البيوت. كتبتُ قائمة مشترياتي ليومي العطلة القادمين وتركت البيت. يمكن للمرء أن يرى أن الناس راغبون بأن يستمروا بابتهاجهم تكملة للاحتفال بعيد الميلاد. يضايقني الزحام في حركة السير واللا تسامح الذي يظهره السائقون في الطرقات. أقف في الطابور الطويل في السوبرماركت، منتظرة دوري لأدفع حسابي. أتململ في وقوفي. لِمَ لم أقصد الكشك القريب من البيت وأكتفي بما لديه. حركة متوترة وجو مضطرب. قوائم التسوق طويلة وعربات التسوق التي تتصادم ببعضها ملأى بقناني الشمبانيا لإحياء ليلة رأس السنة، كعك عجينة اللوز، المحار والقواقع واللوبستر وسمك القدّ، قبعات ملونة مزركشة وصفارات. كأنني أتأمل كل ما حولي من على مبعدة تماماً.

عقارب الساعة تتطابق أخيراً معلنة عن الساعة الثانية عشرة. أتمهل مع حبات العنب لأبقى أمام التلفزيون لساعة قبل أن أخلد إلى النوم. أشعر بأن الوقت لن يكفي ما تبقى من عمري لكي أتقدم في مجالي الذي اخترته بالعمل مع اللاجئين. إنه مشروع طموح وكبير. ومازال أمامي الكثير الذي علي التمكن منه وفهمه.

أصعد السلم بخطى ثقيلة. أرتدي منامتي، أطفيء النور، أفتح الستارة وأدخل فراشي. لم أستطع النوم. بقي صوت المفرقعات احتفالا بالمناسبة عالياً. أراقب السماء عبر النافذة وأنا مستلقية في سريري؛ تثور وتتفجر، عويل هستيري متصل، يتصاعد، يتتابع، ينحف، يئزّ ثم ينتهي بانتهاء انفلاقاتها الملونة. أنهض لأغلق الستارة. أختار الجانب الأيمن من السرير. أشعر بأن جنوناً قد أصاب البشر. أطنان من البارود تتفجر في السماء، يتسلل دخانها إلى أنفي، تتساقط جمراً وقمامة على السقوف وتملأ الحدائق.

 

5

ما يقولونه بشأن شهر كانون الثاني، كونه من أطول أشهر السنة وأشدها ضجراً يصدق هذا الصباح. كان الجو غائما أمامي عبر النافذة عندما صحوت فمكثت تحت اللحاف. بقيت أتقلب في فراشي. موعد جلستي مع رضا بعد ساعتين. كنت أتصارع مع نفسي كي أحجم عن دعوتي له للخروج وشرب فنجان قهوة معي. أقنع نفسي بأنها رغبة متخصص مشروعة في التعايش مع الحالة بكل أبعادها، أو رغبة في تجربة نفسي بالتعايش مع حالة من هذا النوع. أنقلب إلى الجانب الآخر من فراشي. ربما من الأفضل دعوته إلى العيادة هنا في البيت. تفكيري غير عقلاني. أخشى فشلي معه بعد أن خسرت ملف مروى. في يأسه إغراء كبير لي. لا علاقة له بالطب النفسي العسكري أو غيره. هو يحرك شيئاً ما فيّ يحسسني بمسئوليتي تجاهه. بل هو، وعلى عكس ما خبرته عند الأجانب، على الأخص العرب منهم، لم يكن يدّعي قدرته على انقاذ العالم. كانت تلك الخصلة الشيقة التي تخصهم تدعو للاستغراب ولكن للتأمل أيضاً في مفاهيمهم بالنسبة لي: - أن يأتيني مريض فيأخذ فجأة ربما لتعليق يصدر مني أو تصريح، دور الرجل المعافى القادر على مساعدتي كإمرأة ضعيفة. ينسى ما جاء من أجله ليعرض علي استعداده، بضربة من يده على صدره، لتنفيذ كل ما أطلب وأشتهي، ربما لمجرد سؤال عابر يصدر مني.

...

عندما فتح لي الباب ودخلت شقته، ارتحت بالحال لطردي فكرة شرب فنجان قهوة معه في مقهى.

تابعت معه الحديث في جو الشقة الوخيم بعد أن حصرت تفكيري كلياً فيما سيتعين علي تقريره بشأن وضعه. كان يجلس على طرف ذراع الأريكة عندما قاطعني:

-  لا حل، لا دواء ولا هم يحزنون، دكتورة لا حل لي سوى في الحصول على التقاعد للتحرر من هذا الكابوس الذي اسمه الدنمارك. مدينة صغيرة مثل دمشق كفيلة لأن تخلصني من كل هذة التعقيدات والكآبة والأمراض الغربية التي بليتمونا بها، أن تعيدني إلى الرجل الذي كنته.

- أي رجل؟

- على الأقل، الرجل الذي ...

- ولكنك تقول بأنك رجل مسحوق، ألم تقل هذا بنفسك؛ تشعر بأنك مسحوق وأنت تنظر إلى جسدك، عضوك، كتفيك، ذراعيك، قدميك؟

أخشى أنني وجهتُ تركيزه إلى نقطة في توقيت خاطيء. هدأ فجأة. شعر بأني جادة في تشخيصي لمرضه. جلس على الأريكة وأطرق ساهما لفترة  تابع بعدها:

- " كان ذلك أثناء الخدمة العسكرية، نعم، بل كنت متمسكا جداً بزيي العسكري، فيه تسليم بواقع مفروض، فيه إعلان عن لا مسؤولية مرتديه، إعلان صريح عن العنف الواقع عليه. كانت تنتابني رغبة بالمخالفة حينها، ارتكاب حماقة ما ونحن نسير جنودا في شوارع المدينة، رغبة بالقهقهة بصوت مسرحي عال، ولمجرد نظرة ما توجهها إمرأة أو طفل يركبني الجنون، كنت أشعر وكأني المعتوه الذي يركض الأطفال خلفه، ولا أملك إلا أن أريهم جنوناً أكبر".

- ما الذي حدث بعدها؟

- " تشاء الصدف أن أحب، أو يصيبني وهم الحب. كان من شأنه أن ينسيني هم التحاقي بعد الإجازة، ينسيني ثقل بسطالي الحارق ظهر النهارات الصيفية. تلك الصغيرة المندفعة تجاه الحياة تلهيني ساعات استلقائي في الحظيرة. لقاءاتي بها تتركني لخيالات حارة لذيذة مخدرة. نهلة تجعلني رضا الحبيب، تخطفني كلما تهيأت لنا فرصة فتقرصني، تعضّ شحمة أذني أو تطبع قبلة ناشفة على فمي فأشمّ عرق جسد امرأة مشوباً بعطر خفيف يملأ رئتي فأكاد أطير"

- هل تغير الأمر حينها؟

- " حياتي بتلك الشروط المفروضة علي من الصعب السيطرة عليها. كنت آمل حتى لحظة تخرجي انتهاء الحرب. تلك المزحة التي لم يصدقها أحد. مسخرة، ذلك الوعد الذي ينسف حال قراءة أول بيان حرب يصدر. تعويضي أزاء ذلك كان إغراق في اللا تفكير. يرصدني المحيطون بي، يظنوني مطمئناً. هل أقول التفكير الواقعي والموضوعي لا أرض له. أملك أسباب تمردي ولكن بحكم ظروف عائلتي كان علي أن أتجنب القرارات التي توازي الإحساس هذا. لا يعود الأمر برمته إلي، كما شخصي وكياني- كنت سأختار دراسة المسرح أو الأدب-  كنت راقصاً، الأمر يعود إلى المعدل في امتحان الثانوية، جنسيتي المطعون بعروبيتها، وممارستي لنشاط معارض".

- هل أنت نادم على خياراتك في الحياة؟

- " لا أحد يحترم الرقص أو يقدره، خصوصا بالنسبة لرجل، ثم إنني ولو أنصتُ لداخلي فلن ألبي نداء الوطن، ولا أرتدي الكاكي الخشن، كي يلقى بي في أتعس الأمكنة واتعرض لشتى العقوبات. حيث تكتب ضدي عشرات التقارير وأنزل سجونا دون توضيح أو قرار، اللعنة تلاحقني، وستطأ قدماي المكان أياً كان لتحكم عليه بالحرق واليباس، وكأن اسم رضا يبرز في كل مكان بخطين أحمرين تحته. لم أفكر بشيء، بما أعيشه وبما من شأنه إغناء تجربتي، إن فكرت لثوان فلن أحتمل الكون، لما التزمت فكراً، أو دخلت ارتباطا جديا بإمرأة. ما كان يحدث لا يمكن أن يكتسب جدية".

- وماذا في المبدأ أو الفكر المعارض الذي اخترته كطريق لك؟

- " الكتب كانت واقعي الوحيد. الأرض وكأنها تموج من تحتي دوماً، ولكن للحظة أشعر بأني ثابت، كان الكتاب هو اللحظة التي لا تحتمل المزح أو الكفر، اللحظة التي تجعلني انسانا عنوة، تسرق مني الإحترام، لحظة الإعتراف والمقاومة بذات الوقت".

يصمت ثم يتابع:

- قد لا تصدقين، أخجل من قولي بأني لم أقرأ كتاباً منذ غادرت البصرة، ليس غير بضع مقالات هنا وهناك بين فترة وأخرى، عندما وجدت نفسي في الكتب كنت مثل نهر صادفته عوارض فتغيرت وجهته، هي الكتب التي دفع بها أصدقاء إلي أنْ تغيرَ مسار النهر. وأمي التي تشتم رائحة الخطر في الكراريس الممنوعة والمطبوعات السرية المهلهلة والكتب المعارة لي فتجن في الليل؛ تتوسل باكية لأترك لها أن تشعل بالكتب الحمر النار وأترك انا الرفاق. أشعر بخلاص حينها، تلتهم ألسنة النار بعضها حتى تخمد عند الفجر؛ وكأني أطوي ملفات حياتي، الواحد بعد الآخر وإلى الجحيم، رغم ذلك لم يتعدل مساري ولم يكفوا عن ملاحقتي. لن يتخيل أحد الزوبعة الدائمة التي كنا نعيش فيها. فوقنا سماوات أخرى، الأرض من تحتنا أخرى، والمدن التي تحتوينا أخرى".

-  ونهلة؟

- " كان هروبي معها أمراً لا يحتمل تفسيرا منطقياً. نهلة أعلنت انتهاء الحرب وقررت تسريحي. التخلي عن تلك الأم المهزوزة وعصياني الذي يمتلك مبرراته، ذلك كله لا يعود إلى جسارتي كصفة شخصية لي، كما يتصور البعض. الحياة يخيل إلي بالمنطق الطبيعي العادي تحتاج إلى حماسة أشعر بعدم قدرتي على بعثها في. نهلة أغلقت الباب علينا دون ترك خبر لأحد. هي التي قررت هروبي. ليس لي لا القدرة على اتخاذ قرار ولا نقض قرار".

يبتسم، ثم يقول وكأنه يسرني بشيء بنغمة مختلفة:

- " ثم انها لا تنسي تحمل أصولا يهودية".

- كيف؟

-  " أنا لم أر شيئا يهوديا فيها، لكن يقال بأن أجدادها كانوا تجارا معروفين في البصرة، لا أذكر حقيقة التفاصيل، الأكثرية المهجرة من اليهود في الوطن العربي عاشت في العراق، كانوا يعيشون بأمان وراحة وكان لهم دورهم في العراق، كان لهم دورٌ في بناء البلد، في السياسة والتجارة والفن، المهم أهلي رفضوها ومقاطعتي لهم جاءت بسبب ذلك".

-  هل شعرت بأنك لم تكن مخيراً في قرارك، هل شعرت بالعجز؟ هل تشعر بالعجز؟

لا يجيب. يصمت فترة. يفرك لحيته وجبهته:

- " كيف ننتهي فجأة في مدينة تفرغ إلا منا ولنا؟ تحطّ بي نهلة في بقعة خالية من بشر. تصلح لأن يشرع الإنسان ببناء هيكل جديد من وحي عزلتها. من بين الغيوم تبرز أسئلة عنيدة أمقتها؛ كيف سأحقق مشروعا متناغما مع حلمي وحلم من سبقوني، كيف ستتناسق خطط تلك المدينة مع الدمار من حولي ومن أين سأستوحي أفكاري؟ لا أذكُرُ لونَ عشبٍ أو ورق أخضر في الطريق الذي قادتني إليه؛ أبواب البيوت مفتوحة، الغرف خالية، كما أنني أرى أشباحاً تتنقل من نافذةٍ لأخرى، بل أسمعُ صراخَها المكتوم. من أجل الصمت القليل وحدِه كان يمكنني الإتيان على فعل أي شيء، أن أنسى كل شيء، أجل هذا هو الصوت المرادف لصوتي طوال الرحلة التي قادتني فيها. بل إنَّ خيطاً ضوئياً من الفرح اخترقني مثل شعاع شمس شفيف يريد أن ينهض بي لأرقصَ. تخليت للعائلة عن شهامتي ودوري المفترض في الشدة كأخ أكبر، تناسيت أمر الثلاثة أيام وطقوس التعازي وما تقتضيه. أمي وحيدة في محنتِها، لكنني أُمسِك بذراع "نهلة"، أتشبّث بها أخشى مثل طفلٍ أن تُفلتني. أقرِّر أن أنتمي لإمرأةٍ وأتخِّذُ منها سكناً".

- هل تكره نفسك كونك رجلا؟

- " أسئلتكِ باردة يا دكتورة وأنا متعب جدا، لم أنم، أقول لكِ ذلك الصراخ والوجع الذي يمتّد عمرُه قروناً في البيت لا يترك لأمي لأن ترْحَمَ أحداً. قوافل التهجير إلى الحدود، ومنذُ كبرتُ وحتى اللحظة، تسدُّ الطريق علينا. يأتي الإنذار ليلاً بأن نُغادِرَ. الأحداث المشؤومة لا تحدث إلا ليلاً ونحن أطفال فيبدو كل شيءٍ مرعباً. نُبلَّغُ بأنَّ انتماءنا مشكوكٌ فيه بسبب تبعيَتِنا الإيرانية. ولاءنا للوطن لا حقّ لنا فيه. تنظر الناس إلى بعضها غير متأكدة. تختلط الأقاويل بالقرارات والإشاعات: "حملة تهجير"، فيُصيب هؤلاء البشر دُوار وهم يَنظُرون لما حولهم؛ النخلات التي تُسَجَّلُ بأعمارِ الأطفال، وتعلو في الحديقة مثلما يعلون، سدرة النبق البمباوي والملاّسي ودعوتها السافرة للأطفال لأن تُهاجَمَ عبر سياج الحديقة، العُقَلُ التي يشتلُها الوالد ويطعّم بها السدر في حدائق الجيران بيتاً بيتاً لنَسْلم على سدرتِنا وننتهي من مضايقات الأطفال. يَرفضُ الجيران شراء ما يُعرضُ للبيع من أثاث إستنكاراً للقرار، تماما كما يُذكَرُ عندما أبتْ أنفسُ الناس شراء قطعة واحدة من عوائل اليهود حين هُجِّروا. التاريخ يتكرر، اليهود كانوا أيضا جزءً من هذا البلد، كبروا فيه، مثل الكورد الفيلية وغيرهم من التركمان والكلدان والآشوريين ممن اضطروا قسرا لترك العراق، نهبت ممتلكاتهم وثرواتهم. الكل صار مطاردا، الكل فرهود: المسيحي، الشيوعي، المؤمن".

يصمت وهو ينفث سيجارته، لكن حدة الإنقباض والعصبية لحضوري تخفّ تدريجياً، يكمل:

- " يُصيبني الملل، العجز في إستيعاب حزن هذا البيت وهلع أمي المصدومة دوماً، المسكونة بالخوف عليّ والتي تعدّ علي خطواتي؛ ها هم يأتون، سيأتي دورها، لا تنام، تتخيلُ طرقة الباب في كل لحظة، ترصد رجل أمن أو شرطي من خلف الستارة؛ ها هُمْ سيأتونها حاملين أمر تسفيرها هي وولدها وأخوته إلى الحدود. لا أحتمل البيت. أكتم صرخة في صدري، أرفس الباب ببسطالي وأخرجُ إلى الشارع أبحثُ في وجوه الناس، في صدورهم عن مقاومةٍ تُقابِل كمَّ الحقد الذي تنفثه تلك السلطة المجرمة"

يقول بأنه يعاني من صداع في رأسه. ينهض بتثاقل من مكانه ليتناول حبة مسكن. أطلب قدح ماء فيعتذر لنسيانه ذلك. يخبرني ثانية بأنه لم ينم. خشي النوم صباحاً مخافة أن يتركني أنتظر عند الباب- إن غطّ في النوم ليس من السهل إيقاظه. لم يأكل شيئاً كذلك.

جاء بقدحي ماء، استل سيجارة بيد راجفة وجلس بالقرب مني.

- إن رغبتَ يمكننا تأجيل الجلسة لتستريح.

يده ومن دون أن ينظر إلي تحطّ للحظة على كتفي بمعنى ابقي مكانكِ. يبقى جالساً قريبا مني على الأريكة الجلدية، فأفهم بأنه بحاجة لأن يتحدث.

- هل كنت تثق بها، هل تشعر بالأمان معها، هل شعرت...

- نهلة؟

يقول ورأسه ملقى إلى الوراء وقد تغيرت نبرة صوته:

- بالطبع، أجل.

تشوش فكري. تشاغلتُ بأوراقي، عبثتُ بها، أعدتُ صَفّها، متشبّثة بحلة تخصصي، ريثما ينتهي من تدخين سيجارته.

يتحدث وهو مغمض العينين:

- " نهلة مع المكان الذي تختاره والزمن الذي فُرِضَ توقيته تكاتفوا من أجل تعطيل ذاكرتي. رغم القصف الذي كان يتواصلُ لوقت غير محدّدٍ أحياناً فقد كنت هانئاً. الزمان والمكان غير معرّفيْن إليّ، وسلطة السلطة، الجيش، المجتمع وكلّ قوانين الأرض تقف عند حدود هذه البقعة من الأرض التي تكتَشفها أو تغزوها هي. الهروب ألزمني الصمت التام الثقيل، أول يوم، الثاني، وثا... ما لا تحتمله فيّ. نتناول الوجبات بهدوء معاً؛ الأكلات التي كانت معدّة لإستقبال ضيوفها، التي تكبَّدت عبء حملها من مكان لآخر وعبء المحافظة عليها. أفضُّ مُغلَّفَ حبوب، آخر معينٍ لي، آخر تذكارٍ من الحظيرة الرابعة. أبلعُ الحبّة بعد الحبّة. لا أستطيع انتزاع صور الأشباح من مخيّلتي، لكن المكان يبدو أليفاً بعد وهلة، ونهلة تتحرك بحريةِ مَنْ يسكن المكان ويخْبرهُ. أشعر بها، وأنا أتهالكُ على أول مقعدٍ، وكأنها قطة تصكُّ على رقبة صغيرها بأسنانِها، تحمله من سطح دارٍ إلى آخر، لتصلَ أخيراً إلى هذه البقعةِ النائيةِ الآمنة. تتمسَّحُ بالجدران وهي تنظُر إلي، متعرِّفة على المكان بفرح، ناسيةً دون أسف أمكنتها الأخرى. يغلبني تصميم عينيها في كل مرةٍ أطيل النظر فيها. تخلعُ عني ملابسي باهتمام وحذر، تمسح جلدي بمنشفة وتستبدل القطع الداخلية بآليةٍ تزيدُ من إدماني عليها. لم تكن حبيبة، زوجة، أماً، كانت هي فقط. إمرأة تتسلطنُ عليّ، تُخضعني وأُذعن لها. ترشُ عطرا رجاليا على صدري، تحت إبطيْ، تلبسني بيجاما جديدة اشترتها لإحياء ليلتها الأولى. أمسك هذا الوجه لأتملاه؛ ليست هي المرة الأولى التي أضيعُ أمام عينيها في تلمّس المكان وتحسّس الجدران. وأنا أتعمّقُ في تلك العينين أشعر بحمايةٍ غريبة. يتنحّى الوجوم بتقدِّم عقارب الساعة، على مدار اليوم والذي يليه وفعل الحبوب. يصادف أنْ يحتكَّ جسدي بها، أكثر من مرةٍ، أثناء مرورها الخاطف بي، وهي في طريقها لإلتقاط حاجة ما، تماسّنا الصاعق والنظرةُ التي تبتليني بها لها فعلها كلما التفت إليها في نسياني المكان من حولي والحادث المشؤوم. قليلاً، قليلاً. نظرتُها تتعجَّلني، تلّحُ بشدّة رغبتِها بالإلتحام بي. لا أود التقرُّب منها قبل التأكد من ارتخائي. سيخذلني. إنها ورغم كل شيء ليلتها الأولى. أتصارعُ مع نفسي لأغادرَ روحي وأُبقي على جسدي. أخشى الظلمة، في طريقها إليّ لا محالة، تكبر وتكبر وتتدحرج تجاهي. هي لحظات حتى يتمكّن الحزن مني فأغيب عنها. تتبعني وجوه مخيفة تتوعدني فأُسْحَلُ رغما عني بعيداً بعيداً والصوت يلاحقني. وأنا أخشى أشدّ ما أخشى أن أفقدها الآن هذه اللحظة. أبقى مُقْعياً على الكرسي. من خلال النافذة تعبرُ قطع أثاث محمولة في الهواء، متأرجحة بين مغادرتها وبقائها؛ صورٌ متحركة لما يمرُّ، قبل حين، قبل سنين، الآن. بشرٌ من دون ملامح. أنظرُ إلى أرض مترامية الأطراف مكشوفة تختفي في لحظة، طرق وعرة وجبال، أشلاء تتطاير، صناديق، لافتات، نخلات وكأنها تغتصب الفضاء، يتناهى إلى سمعي صوتُ إمرأةٍ تستغيث بي، أجدها في حضني تقصّ لي حكايات غريبة، تتأوه، تريني ندباً هنا، جروحاً هناك، هو وجه أختي هذا المدوّر، هي خصلات شعرها الأشعث، يتملّكها التعب، أخشى انفعالها، عارية تماماً، ألمّ وجهها الوردي بكفي، أقبل الشفتين المزمومتين زعلاً، أشدُّها بكلِّ وَهَني بين ذراعي، ويسقُطُ وجهي على بطنها المكشوفة الضامرة الباردة الناعمة، أُمرِّغُه على جلدها، أبلله بدمعي، تصحو قليلا، يرفعُنا الماء فتتماوج بين ذراعَيَّ وتسبقني شفتاي نهمتين، طالعتين نازلتين. تَغمُرُني ليونتُها ويسيلُ عليّ دفؤها، كثيفاً حاراً يدخلني في أغوارِها العميقة المحرقة فأُحبُّها من جديد".

بقي مغمض العينين، صدره يعلو ويهبط مع إيقاع انفاسه. يشدّني إليه بحزنه فألقي رأسي إلى الوراء أيضاً ونبقى صامتين.

- هل تشعر أحياناً بأنكَ تجاهد من أجل أن تكتم عطفك على نفسك... تحاول أن تنسى وحدتك؟

- إممم.

- هل تفكر بالموت؟

- " الموت هاجس، مشاع، قدر متربّص، قضاء سهل، يمشي معك أينما تحرّكتِ، في أية لحظة، يكون بسرعة البرق أو قد يختار أن يأخذَك ببطء. أن يموت المرء من الجزع أو السخرية، أن يموت إثر إصابته بشظية صغيرة الحجم جدا، تختارُه من بين البشر، تئز أزّاً خاطفاً في زحمة السوق لتقطعَ شريانه هو، أن يأكلَ وجهه لغمٌ فتتركه حبيبته لِمَلَلِ أهله مِنْ عَوقِه. أن يشتهي نائب عريفٍ لي موتاً خاصاً فيتفنّنَ بإذاقتي مُرَّ الشهوة السادية العربيدة التي تقضُّ مضجعه. تقرير وشاية من بعثي يريد ترقية، أن نموت موتاً جماعياً نفياً في قافلة تهجيرٍ للأكراد الفيلية، تولولُ فيها النسوة على الحدود البرية بينما يلعقُ الأطفال الرمل في زوايا أفواههم؛ وليمةٌ مجانيةٌ للذئاب. مازلت أشعر بورمة في صدري، هل تصدقين، أنا لا أنام. كنت أقف عندما كنت طالبا عند جسر متوسطة النضال، ألقي الحجارة بعد الحجارة  في النهر غضباً، أنتظر سماع صوت ارتطامها بالماء الراكد الآسن ليبرد صدري. أين هم الأصدقاء، أين هم الرفاق، وكل ما هتفوا به ونادوا؟ تبدد كل شيء ولا علينا إلا الخرس والتخفي لنحفظ أرواحنا. وكأننا نخسرُ الرهان بلمح البصر، نخسرُ كل شيء مرة واحدة، الحلم، الزهو وحتى السمعة. ولم يتسنَ لنا محاسبة بعضنا تحت موجة القتل والتشريد والسجن والتخوين والترهيب. ولتأت من ثم الحربان. وسيتغلغل الغضب والمرارة عميقاً، كالسخرية فينا والحنق. حتى البيت، أكرهه فأفضّلُ تيهي على دخوله في إجازاتي الدورية. لكنني أتجنب زيارة الأصدقاء مخافةَ أن يُتّهمُ الواحدُ منا باحتفاظه بفكرِه. في الطريق تتربصني العزاءات، تستفزّني قراءات الفاتحة والمآتم وصوت خشخشة مكبرات الصوت التي تنقل تلاوة قرآن. ينقبضُ صدري لإستنشاق رائحة حطب الطهي في الأزقّة الضيقة. آخذ بالضحك بصوتٍ عالٍ من تلك الخيم التي يظنون بأنها ستعيد الإعتبار إلى الميت وترجعُ له هيبته. تكبرُ بي الرغبة في تهشيم كل تلك الكاسيتات التعِبةِ، الكراسي المصفوفة، قدور الرز والمرق وتمزيق لافتات النعي السود، بي رغبة لطرد الناس، غلق الشوارع وسدّ الأبواب. تُقامُ الفواتح حُزناً على الأحياء. أن تقصدَ أُمٌّ في مشوارها الطويل المحفوف بالأخطار حضور عزاء ما فلأنها تودُّ البكاء واللطم على ابنها الحي. لِمَ إذاً سخطي على أختي؟ ".

كان طيلة استرساله بالحديث لصقي. يتوقف ليشعل له سيجارة يتذكرها فجأة، وبحركة سريعة خفيفة يعبر فيها عن اعتذاره تدنو يده قريبا جدا حتى تصطدم بيدي يقدم لي سيجارة، أشكره، أكرر: - لستُ مدخنة.

عيناه تغرقان بالحزن. أرتبك في جلستي. ترتخي يدي الممسكة بأوراقي. انفعاله يقتضي مني التوقف لئلا يوصله التداعي إلى نقطة انهيار نفسي. لكني كنت أود عدا عن ذلك المغادرة وقد صعب علي ذلك. بدا متعبا أكثر من أية جلسة سابقة، تعتمل في صدره صراعات شتى، رغم أنه لم يكن عنيفا في ردوده. علي أن أنهي الجلسة. أوشكُ أن أتناول قدح الماء حتى أجده ينزل إلى الأرض ويجثو على ركبتيه أمامي، تهاجمني رائحته التي ميزتها فيه يوم لقائي به أول مرة. يداه تحضن ركبتيَ ورأسه يندس في صدري وهو يتابع بصوت مخنوق:

- تموتُ أختي قرباناً لخميسي اليباب، المحترق الملعون الأغبر. الفاجعة ليست في موتها شابة، بل لأنها تموت بدلاً عني، قرباناً لي. أقولُ لها الموت شأنُ الخريجين أمثالي، الموت للشباب، لا الشابات أيتها الخاسرة، لا الأمهات الخريجات الجميلات البريئات من أمثالكِ.

يستمر بالحديث بينما صوته مدفون في فتحة قميصي ويده تتحسس متنقلة عنقي، كتفي، ذراعي:

- " الأيام مع نهلة هاربة، يسقط الزمن عندي في فراغ، تسقط أمي بعد اختي، يسقط السجن والسجان و"سعيد" و"نادر". سلسلة من الإستثناءات لا تدفعني إلا للإقبال على المزيد دون تردد. هي مبادراتُها التي كانت تدعوني للسرحان والإسترخاء والإستلقاء طيلة النهار. تُلْقِمُني حَبّةً. تراقبني. تطلُّ من النوافذ في تلك البقعة المنقطعة، تصعدُ سطح البيت مُسْتَكشِفةً. تلتقط قطعةً جديدة من حقيبة الثياب المعدّة للسفر لتجرِّبَها؛ الحيطة والحذر هو شأنها، حتى في أمر حدوث حَمْلٍ. تصعدُ أرواحٌ على الجدار، تعود أشباح لتدخل من النافذة، تسافرُ لعب أطفال في المكان، وتتراقص فناجين قهوة مرّة، قلائد نساء، تمر شاحنات تخلف صوت تكسر عظام بشر في الآذان، تتهاوى خيام، تدفن بقايا طعام، بساطيل عسكرية، هياكل سائبة وأنواط".

يرفع جسده من على الأرض ليجلس لصقي على الأريكة، يده تفتح الزرين العلويين بأناة وتدخل تحت قميصي لتمسك نهدي:

-  "حبيبي"، صوت إمرأتي المبحوح يأتي من الأصقاع، تتهالك ركبتاي، نهلة لا تتعب، تنغرز أظافرها بلحم كتفي تشدّهما إليها بقوة؛" الآن"، هنا. صوتها شبه مكتوم، متوسل، متأوه، " الآن" نداؤها يتكرر، يصير زعيقاً يوقظني"

يده تنزل لتخترق بحركة سريعة عنيفة ما بين ساقي. أدفعه عني قدر استطاعتي، فأكتشف فيه طاقة جبارة. يكشف نهديّ، يقبلهما، يقبل رقبتي ويضمني بقبضة ذراعه القوية إليه. أهمد تماما تحته، تهون يداي في مقاومتي له وهو يشرع يخلع عني بعجلة كل ما على نصفي الأسفل. أجدني في ثانية على الأرض تحته وهو ينزل بنطلونه. أراقبه وهو يدخلني بعينين مفتوحتين. كان المشهد كلينيكيا. ظللت بلا حراك حتى انتهى وانسحب بثقله من فوقي وقد صعقت للموقف بأكمله.

ينهض ويغادر الصالة. يعود ليلقي بلفة ورق التواليت بالقرب مني على الأرض و يأخذ علبة سجائره ويختفي.

أصلح من وضعي. أترك له دون كلمة تصدر مني الموعد المقبل ورقم هاتفي وأغادر شقته.

...

لم أعد إلى البيت قبل المساء. لا أعرف أين قضيت بقية النهار بعد مغادرتي لشقته. جزء في مقهى، آخر في التسوق، أدخلت سيارتي ورشة التنظيف وبقيت مبحلقة بالفرش وهي تدور وتدور  وماء الصابون وهو ينهمر.

هبط الظلام تماما. بدا البيت خاليا من الأثاث تقريبا عندما دخلت. باردا موحشاً جدا وأنا أقف منتصف الصالة. أضأت شموعا أخرى، ألقمتُ الموقد جذعين وأعددت شاي المساء. صعدت إلى الحمام لأترك للماء الحار ينزع عني الإرهاق الذي أشعر به. وجهي في المرآة المضببة بالبخار يثير شفقتي. تسري رعدة في بدني فأمقت شعوري.

نزلت ودخلت المكتب لأ لتقط جريدة اليوم والبريد فاعترتني رعشة مفاجئة. وجدت أمامي على الجدار لوحة معلقة بدت وكأنها جسم غريب ضخم قاتم الألوان جاثم في مكتبي. ما الذي أتى باللوحة إلى هنا؟ أسرعت بإطفاء الضوء والمغادرة. تهالكت على الأريكة أمام التلفزيون متقرفصة بالغطاء. أحسست بجسمي ضعيفا جدا. أخمدتُ الصوت بعد دقائق. دفء الحمام أصابني بالخدر فنعست.

كنت في المكتبة المحلية لاستلام كتابين حُجزا لي عن العراق عندما وقعت عيني على إعلان لمعرض فني مشترك يقيمه عدد من الرسامين الأجانب تحت عنوان " صور جوية للوطن". سيستمر المعرض مدة شهر لذا فكرت بزيارته في العطلة الأسبوعية- ربما استطعت من خلال ذلك الحصول على عون لي في استيعاب مهمتي. استلمت الكتابين وعرجت في طريقي لأطل على اللوحات سريعاً في صالة العرض. لم يكن التعرف على لوحات مروى البصري المشاركة في المعرض صعباً. كان قد مر على اختفائها حينها زمن طويل. خجلت بعض الشيء من شكي بإمكانيتها على انجاز شيء. كدت أجزم بأن هذه الفئة من المرضى التي اطلعتُ على الأعراض التي تعاني منها عن قرب، مصابة بإعاقة كاملة تجعلها عاجزة عن انجاز شيء تماما رغم ما توهم نفسها به. سرتُ مضطربة وأنا أحمل الكتابين. اعتراني انفعال. لا أعرف إن كان دافعي خلف كل ذلك هو إثبات قدرتي ضمن مجال تخصصي أم إني شخصيا صرت متورطة بهلوسات هؤلاء البشر، نفسياتهم المتأزمة، تبتلعني الجلسات فلا أهجع حتى أنتهي من قراءة فصل من حياتهم. كما أنني نادمة بعض الشيء لشعوري بعدم قدرتي احتواء اضطرابات مروى بالشكل الذي كانت تريده مني. بحثت بين الوجوه علّي أقابلها. ها هي اللوحة التي كانت مسندة إلى الجدار على الأرض في غرفتها تحتل مكاناً متميزاً في الغاليري تحت عنوان " صور جوية للوطن- الرقم واحد". بدت لوحة ذات سلطة في المكان. احتدمت مشاعري. إذاً مروى ما زالت موجودة في كوبنهاجن. ربما تكون في رسمها هذه اللوحة قد تغلبت على خوفها أو قلصته. رسمت لليأس الذي يملؤها صورة مؤثرة غير تلك التي وصفتها لي حينها. نقلني احتدامي إلى اللوحات الأخرى، جميعها كانت بفِرش لاجئين، رسامات ورسامين. في العادة لا إقبال على هذا النوع من المعارض، لكني وجدت فيه مادة لي. كان معرضا يبوح بما تحمله عوالمهم المختلفة. عوالم غريبة وغامضة. كنت أجمع الرموز بمروري بعجالة بين اللوحات. لعله استلامي للحالة رضا المولاني أيضاً يتطلب مني ترتيب القطع المفقودة في اللوحة. أزعم أني امتلك أدوات تفكيك هذه اللوحات أكثر من غيري بينما أرقب خلال كل ذلك وبوعي متوجس انغماسي في اللعبة دون أدنى تصدٍ لنفسي.

أتوقف وأقرر ترك المكان والعودة إلى المعرض ولوحات مروى لاحقا. في طريقي لمغادرة الصالة تصطدم عيناي بجزء مقتطع من جريدة محلية لصق على الجدار، يكتب فيه الصحفي عن اللوحات " صور جوية للوطن واحد، اثنان، ثلاثة": 

"جداران في المعرض يحملان البصرة على يد الرسامة العراقية "مروى البصري"، لا أشدّ غرابة من بصرة العراق هذه، لون جصي، آخر ترابي، لون موحِلٌ مائل إلى الحمرة، لكنها حاضرة مجسّمة، يكاد المتلقي يتحسّس ملمس ترابها وتركيبة طين شعب أنهارها. خالية من لون الخضرة والماء، يختلف عما يُفتَرضُ لتلك البقعة من الأرض، مهد الخصب، عراق البصرة بلا خريطة أو حدود الآن، بلا رمز بريدي، بلا رقم شارع أو علامة مرور. مربعات ترابية متراصة مختلفة الأحجام، متراكبة على بعضها، قامات منتصبة متطاولة من لون أحمر ناشف مشوب بلون الحناء تصطف على خلفية المربعات ذات اللون والتركيبة الجبسية".

" توقيت مناسب لمعرض تقيمه عراقية ليس لها عنوان، يدل وجهها، زيها، صمتها على ذلك. "صور جوية للوطن" لوحات من الجدار إلى الجدار تصور العراء، الغبار، تبرز خلله علامات حرف أكس باللون الأبيض الطباشيري، تميل إلى أن تكون إشارات صليب فنرى أهدافا للرصد وقبورا بذات الوقت. فنها مدهش، ذلك الاقتصاد المتعمد في اللون، محاولات الهروب والتخفي من المكان، اختيار حجم اللوحات الذي يجبر المتأمل على تخيل طلوع "مروى البصري" ونزولها وضياعها في المساحة الهائلة أمامها. كيف ينكسر البياض المقاوم العنيد أمام إصرارها، هي تجرنا إلى التفكير منذ اللحظة الأولى بالسؤال: كيف ستَقهر الأبيض حتى يتلاشى؟"

 ويتابع الصحفي:

" لكنني أخلص لأقول هنا بأن التطور الطبيعي الذي نعرفه لا يعنيها، لا يدخل في خصوصية فنها، لا نخالها تبدأ بتخطيط غرافيكي ينتهي بلوحة، عندها لا يتطور الإحساس ليصير حُبا، ولا الكلمة لتصير شعرا أو الخاطرة رواية، لا ينتهي عزف آلة بأوركسترا ضخم، لا نعلم من أين نبدأ معها، ما الذي يتشظى منها، وما الذي يتقاطع بداخلها، حتى نشتهي أن تطلع لنا فجأة من الصورة في زيٍ بدوي، أو معيدي، بل عارية بلون جسدها الأسمر الملتاث بالحناء ".

جلست في سيارتي لأفكر قليلا بالمعرض وبما كتب عن مروى، الصحفي أظهر جانب قوة في مروى لم أره، عثر عليه من خلال لوحاتها، إلى جانبي كتاب حول الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين وقد بدت عينا مروى جاحظتين في عيني إلاله الكبيريتين المحددتين بالكحل على الغلاف. عندما سألت عنها، أعطتني أمينة المكتبة رقما هاتفيا للإتصال بـ " جاك" الرسام الفرنسي المسؤول عن المعرض فالرسامة تعتذر عن الحضور. وصلتُ البيت وقد برزت في داخلي الرغبة واضحة لأن أبحث لي عن طريقة أتصادم بها مع نفسي وأحتدم. أذكر مرورها على هذا الإسم. أعترف بأني لم أكن واثقة من كلامها. شككت بصحة ما أخبرتني به عندما تحدثت عن مشاركة سابقة مثيلة قائلة:

- " تحرجني الأسئلة. أتهرب منها. أمزج ألواني وأدفعها كدرع لي أواجه به، كقناع أتستر خلفه. لا قيمة لرأيي، فأية جدوى منه؟ لم أعتد على الأسئلة. لم أتربَ على توجيه سؤال. لم أعتد أن يطلب مني الإدلاء برأي. تأتيني الأسئلة مباغتة؛ - بصرة العراق أم المغرب؟ لون بشرتك أم الطين، من الجنوب أنتِ أم الوسط؟ ما رأيك، قولي، اكتبي. أتملص، أتراجع، أتخفى. أشعر وكأن العالم كله يتبعنا، يبحث عن أجوبة؛ - ليستمدوا المعلومات من التقارير اليومية التي تبثها القنوات الفضائية، من الموسوعات القديمة، من... لا أدري. جدوا لكم من هو طبيعي وبذاكرة أصفى لتسألوه: - " قولي"، فأدمدم بضع كلمات، تنقل عبر ألسنة أخرى ويسقط من الترجمة ما يشيب الرأس. لست متحدثة باسم مكان أو جمع. ميلادي خطأ، وعيي لا أعرف لمن، ديني؟، ذاكرتي؟ أوه، هذا الزمن الذي مر، الذي يمر؟ كيف أُفهم صديقي الفرنسي أن لا داعي لتدوين تاريخ على لوحة، لا داعي لذكر أسماء الأيام وأرقام الأسابيع، لا داعي لمذكراتكم التي تنام تحت وسائدكم وتسيِّركم".

أتحاور مع اللوحة. أقرر شراءها. اقتربتْ تفاصيلها مني فأحسست بها أكثر وأكثر. مروى أرادت لهذه اللوحة أن تجسد حلمها البسيط الخالي من حفر القذائف والفوضى والرعب. اخترت الجدار أعلى رفوف المكتبة على اليسار في العيادة لتعليقها. غطت مربعاتها الدافئة اللون، المتدرجة في احمرارها المكان كله وقد جعلت مفردات المكتب تلتم بلحمة واحدة تفصل العيادة عن البيت، تفوح منها رائحة رطوبة البيوت منخفضة السقف التي تنعم بالفضاء الكبير والزمن الهادىء العتيق؛ بيئة بدائية مستسلمة وديعة.

أذكر اهتياجها السريع وهي تنهي قولها. كانت تبحث عن علبة سجائرها وهي في أقصى حالة من الاستثارة العصبية، انهارت إثرها وأخذت تبكي وهي جالسة على السرير. تقول بأنها تتخيل حادث وفاة أخت رضا مع طفليها في طريقهم إلى صالة الحفل. العروسان نهلة ورضا كانا سيصلان بعد ساعة. تتخيل الفزع الذي أثير بين الناس الذين كانوا قد حضروا وأخذوا مكاناتهم. قصدتهم قذيفة بلا انذار فماتوا جميعا في التاكسي. انفعالها كان في أشده وهي تصرخ:

- " حفر، حفر، حفر، تبتلعهم أتربة الشوارع، صخب أشرطة التسجيل، الأغاني الريفية المختلطة بصفارات الإنذار، عيون الأطفال الباعة على الرصيف، تحقيق الشرطي العجوز، أبواق السيارات الهيستيرية، الحفر تكبر وتكبر على  الجدران، في الأهواز، في هلاهل المدعوين، قصر شيرين، العبدلي، في الأقبية، في الشاشة التي يبرز منها المذيع قارىء البيانات، حفر على واجهات المحلات، في إسفلت الشوارع والوجوه".

تصمت مروى، تتغير وتهفت نبرة صوتها:

-  لكن لا، حجم الدراما تضاءل الآن. بل ينتابني حرج لنسياني تفاصيل كثيرة تجاه تلك الليلة المروعة كما بدت ذلك اليوم، نحو ذاك الوطن و تلك السنين التي أتممتها من عمري. إلى أين نسير وأين سننتهي؟ الزمن الذي يمرُّ عندنا مسرحُ عرائس بخيوط متوترة، تتقافز الناس فيه وترقص الأحداث بحركات فجائية من دون سيطرة تامة عليها، بخلفية لا يسعف الوقت لتبديلها".

 

كأن شيئاً ثقيلا سقط على مقربة مني فصحوت. جسمي كان متيبساً بعد غفوتي على الأريكة. صببتُ الشاي ورحت أتفحص البريد. كانت الساعة لم تتجاوز السابعة والنصف بعد. لا شيء غير فاتورة الماء الحار، مجلة علم النفس عبر الثقافات، كشف من البنك لحسابي، ثم عرضين من مكتب السفر الذي اتصلت به لقضاء العطلة الربيعية، واحدة في مصر والأخرى في المغرب.

نظرت إلى الهاتف في الركن مرات عديدة. تمنيت لو يأتي الجهاز إلي فقواي لن تساعدني. نهضت بشعور بالعجز لأضعه على الطاولة أمامي. تذكرت علبة الشيكولاته المُرة في المطبخ فعطفت عليها في طريقي.

جلست ملتحفة. أشعر برجفة تعتريني، شربت جرعة من الشاي، خشيتُ أن أكون قد أُصبت بنزلة برد أو إنفلونزا. تذكرت بأن ابنتي لم تتصل بي منذ ليلة عيد الميلاد. قضمت قطعة من الشيكولاته. لكن ما الذي ينسيني إياها؟ لِمَ لم أتصل بها؟ هي خلقي، باختياري، ثمرة حب مئة بالمئة، أ لم تكن هي كل ما تمنيت أن يحصل لي في حياتي؟ أ لم يمكننا التواصل حقا أنا وأبوها. دفعتها بعيدا عني. أشك بأني قد فعلتُ كل ما بوسعي من أجل الحفاظ عليها لتعيش في كنفنا.

بقيت متقرفصة في مكاني. مشهد رضا يتكرر مرات ومرات أمامي، أتقلب إلى اليمين واليسار على الأريكة فيزداد وضوحا وأزداد تأثراً. قررتُ عند الفجر بأن ذلك كان مجرد جزء من حالته المرضية، لم يكن اغتصاباً أبداً.

...

 أجلت موعد الجلسة التي قررت أن تكون الأخيرة مع رضا. انتظرت حتى شعرت باستعدادي للقائه. اقتصر الحديث فيها حول الحادث الذي تعرض له خلال التدريب العسكري بعد تخرجه. كانت رائحة كحول قوية تشوب أنفاسه وهو يستقبلني. بي غصة كبيرة لتجاوزه وعدم استئذانه مني في كل ما بدر منه. قررت مواجهته بمجيئي وتحمل نتائج ما يحصل إن فشلت مهمتي. كنت أنتظر بشدة، بدل أن أسمع قصته، اعتذارا منه. ومع ذلك لم يفعل. كان يتوجب عليه ورغم كل شيء كرجل أن يتحدث معي حول ما حصل ويعتذر. لكنه سكران أو ربما قد تناول إلى جانب ذلك مخدراً ما، لحظت ذلك في عينيه الزائغتين، طريقة رويه الهادئة وإصراره على ذكر تفاصيل كثيرة دقيقة بلسان ثقيل:

- " أشكُ في رغبتي بامتلاك حاسة بصر أو شم أو سمع، لو تتعطل هي الأخرى كالذاكرة. رائحة دم، لحم مشوي وبارود عالقةٌ في أنفي. أشمُّ رائحة جزعي الكريهة فأوشك على التقيؤ. أصوات أقدامٍ آتيةٍ تستدير فجأةً وتبتعد. يأتي من يُعلِن عن زيارة لي. أصوات الأقدام في ممرّات المستشفى العسكري تتقدّم. تقترب جداً، أعاند في تردّدي، أشكُّ في رغبتي في فتح عيني. لن تكون هي المرة الأولى التي أفتحُ فيها عيني فأرى زخمَ زرقةِ عيني نهلة تمعِنُ في وجعي مرة واحدة. إنها تتقدَّمُهم، أهلي النسوةَ اللاتي يُخَلِّفْن وراءهن كهلاً يؤثر أن يبقى عند مؤخرة السرير. أصحو دفعة واحدة من تأثير المخدِّر لأجد في الزرقة بحثاً شقياً عن ضالةٍ تفترسها. حضورُها يؤكد لي بؤس حالي، برودة الحياة فيّ، يُريني مرة واحدة الشبابيك الموصدة بلحام، الحرس من حولي والعتمة والموت. سردت القصة بصوت خفيض ولسانٍ أَثْقَلَه المورفين لمدة أسبوع. نهلة تتمكَّن هكذا من مرافقة أهلي في سفرهم، وكل ما بيننا هو مروى وعلاقة الجيرة"

- لم تحدثني عن مروى؟

- " فتاة مؤدبة من عائلة طيبة، من ضحايا النظام، أعدِم أخوها الرسام، صديقي القريب، عندما استلمت عائلته جثته كان عليهم أن يدفعوا للسلطة ثمن الطلقات التي أماتته، وصدر قرار بشأن ذلك، كانت صديقة لنهلة... آه، نهلة، ليت العالم يختصر مسيرتَه ويغيِّر معيارُه مثلَها. كان وجودها في المستشفى يخزني. بدت في غاية القلق وهي تسألني عن الآخرين. أية حجةٍ اختلقتْ ليسمحَ لها الأهل بالسفر من البصرة إلى بغداد مع أهلي؟ أُشيرُ إلى سرير " نادر" بيدي الناجية نصف إشارة؛ لا يمكنني الإستدارة كلياً تجاه سريرهِ. - " نادر من ضمن الذين تفجَّر اللغم الحقيقي في وجوهِهم أثناء درس الألغام في المدرسة العسكرية"

- ماذا كان تخصصك؟

- " نحن خريجو دفعة واحدة من كلية الهندسة، ننتهي في مكان وحظ واحد عاثرٍ في الجيش. سنوات الدراسة تأجيلٌ لحتفٍ ينتظر. يا للتعاسة، الجامعة ليست مخططاً لكسر الإرث الإجتماعي، كما يقول الرفاق الشيوعيون، القاعدة يجب أن تتَّسع لتشمل العالِم، الطبيب، المهندس والقاضي إلى جانب العامل والفلاح. ها ها ها ومن الفقر سيبرزُ الأكاديمي، أنا، ليختالَ بانتصاره، الجامعة كسرٌ للظهر يا رفاق، ملاحقات، سجن واختفاء. كان يوما ماطراً خانقاً لكننا كنا طربين بشكل غريب، رغم درس الألغام. بانتهائه سيسمح لنا بالنـزول من المعسكر. في السبت سيتم التحاقنا لا أعلمُ أين. نادر كعادته يقنِّنُ فرحه بسبب طبعه الجاد فيؤثرُ أنْ يجلسَ في الصف الأول لقاعة التدريس، وليتجنّبَ ممازحةً مُلّحة سمجة منّا إن بدَرَ منا تصرُّف أحمق حول تصريح الإجازة كالأسبوع الذي سبق. كنا نفضل الجلوس دوما في الخلف. آخ، كيف يا نادر المسيحي الأنيق تروحُ في الخفاء منهمكاًَ في تعلّم اللغة الروسية أثناء الخدمة، يُرهبُكَ الوقتُ المهدور باللا معنى وبطءُ استيعابِكَ أحياناً! بل تحاول تلقيننا جملاً تعلمتها وأخذتَ ترطن بها كلما انزوينا إلى حالنا. فريقان ومنضدتان والضابط يعطي تعليماته، بيده لغمٌ وفي الصندوقين ألغامٌ للتدريب، درسٌ في مكونات اللغم، نزع الصاعق، حِمْله، الإحتفاظ به والحيطة منه. لا أذكرُ غير الإنفجار المدّوي، يجيء مفاجئاً لحظة تحرّك المِنضدة، الضابط يرتدُّ أشلاءً إلى الخلف ونادر في ثانية يرتمي قريبا مني على الأرض بنصف وجه. يأكلُ اللغم المفترض أن يكون خُلَّبا وجه نادر ويضرب يدي. تسأل نهلة عن سعيد على يميني. أجيبها وأنا أشيرُ نصف إشارة من يدي الثانية المكسورة نحو سريره، بأن كتفه قد طار، ثلاثتنا متّهمون بدسّ اللغم. كان الجندي المكلّف بالحراسة منشغلاً عنا، قلت لنهلة: تنتظرنا محاكمة ربما، وبالتأكيد سجن أو إعدام. أمي تصفع خدها ونهلة لا تكفّ عن طرح أسئلةٍ لا أرى فيها نفعاً غيرَ أنفاسِها ورائحة طريق السفر فيها وهي تقوى مع درجة احتدام الحديث فتلفحُ جانبَ وجهي. ماتَ ثلاثة، جُرِح خمسة عشر. نُتهّمُ لأننا من " أهل البصرة"، كل واحد يفصّل على هواه، مَن يقول أننا منـتمون إلى حزب الدعوة، ومَن يقول شيوعيون نخطِّطُ لإنقلاب، ومن يشكك بنوايا نادر. يحضر رئيس أركان الجيش بنفسه في "خان بني سعد"، يُمنع النـزول من المعسكر و يثبِت تقرير الإستخبارات العسكرية الخاص بالحادث بأننا وراء تدبير حادثٍ كهذا، لكن دون وجود إثباتات. أمي تخشى حديثي فيرتفع صوت عويلها. نهلة تشيرُ متسائلة بحركة خفيفة من وجهها إلى خطيبة نادر التي تحضرُ لزيارته كلَّ يوم، تجلسُ على طرفٍ من حافة السرير، تزيِّنُ شعرها بوردةٍ حمراء وتمسكُ بصليبِ سلسلتِها باكية. لا أعلمُ، أقولُ للعينين الزرقاوين القلقتين. حالة  نادر غير مستقرة، يفقد نصف وجهه وبَصَرِه إلى الأبد. الصوت في سري: أنتِ تسألينَ أسئلةً لا تعنيني عن مصير الخطيبة ذات الوردة الحمراء، عن يدي. أمي تبدأ بولولتها ثانية فأهدِّدها بضرورة تركها المكان إن استمرَّت ولطمت وجهها. نهلة توجّه إليّ نظرة تعني بها ما تعني. يتضاعف عجز الكهل المرافق وخوفه من حدوث أمر ما فيوسِع الطريقَ للنسوة بتراجعه إلى الخلف أكثر وأكثر. كيف لم تتردد نهلة بتصدِّر أهلي في الدخول إلى الردهة في المستشفى العسكري الذي يغص بالمرضى والجرحى ورجال الأمن والإستخبارات؟ هكذا تقفز حواجز وأعراف مرة واحدة، دون سابق معرفة بيننا توازي خطوتَها. أفكر حينها، لو يمكن اختصار شقاء البشر هكذا بلحظة واحدة؟ هي قريبة من حافة السرير. وددت لو أُمسِك يدها المتدلِّية بارتخاء، قريبة من يدي، تنبعثُ منها رائحة حياة، لأتشبَّثَ بها، تُخلِّصني من أسئلتها وسماع الأنين الخانق ونظرة أمي متناهية الضعف. لكن نظرات مَنْ هم حولي تثير أعصابي، إذ تأمرني بإظهار بأسٍ لا يلزمني أو يَلزمُ أحداً. تأمرني بأن أستدعي الرجل فيّ وأواجههم به. أقرف من وجودِهم جميعاً قربي، أشعر بصداع حادٍ وأفضّل النوم".

بحركة من رأسي فَهِمَها رضا رفضتُ تقربه أكثر وأكثر وأنا جالسة على الأريكة. وضعه يدعو الآن لمزيد من القلق. شعرت بعبء مسؤليتي. أنوي إنهاء آخر جلسة لي معه، كي يتم إجراء اللازم لمساعدته. أحسست بأني قد استنفذت كل طاقتي في الأيام الأخيرة. عشت حالة من القلق لا أفكر الآن إلا بالتخلص منها في أقرب وقت. يتكىء برأسه على كتفي الأيمن وهو يتابع حديثه:

-  " نهلة وهي تأخذني إلى تلك المنطقة النائية أشعر وكأننا ابتعدنا دهراً. لم تعد لي صلة بكل شيء. لكنها تقرِّرُ الإنتقال، بينما أتآلف أنا مع الأشباح والصمت الذي يتخلّفُ بعد القصف، شواهد القبور، الفراش الممدّد أرضا، المشّبعُ برائحة الغبار، الرطوبة العفن والبارود. تقرر الإنتقال بعد أن ألفتُ فعلَ الحبِّ معها على الأرض لصق الجدار الذي أتخيَّله في لحظات هديري وخدرها المجنون من الورق المقوّى؛ في تلك البقعة من الأرض التي اختارتها منفى لنا، في تلك المساحة من الزمن ابتدعتْ لي إمرأتي زمناً جديداً صار فيه معنى لقذفي. أُعارض لأعود فأقبل بشروطٍ يفرضها طفلٌ عنيد، يبكي، يلهو، يضرب، يعضُّ، لا يعرف ما ينوبه. لكنها لم تعدْ تأمن المكان. كقطةٍ تتشمَّمُ مُزمجرة رائحةً مُنذِرةً، تدور، تسكن، تأتي، تخرخر، تروح، تموء؛ يجب أن نبعد كثيراً".

غطّ بالنوم في حضني. لا يختلف تشخيصي لحالته عن حالة مروى، أعراضهما يتجه كلٌ منها باتجاه. رأسه ثقيل على ساقي. شخيره خافتٌ. أجرّ نفسا عميقا. الهالات الزرق حول عينيه تتوضح. تتقرب أصابعي تتحسس بحذر ذقنه غير الحليق وشاربه. صدره يعلو ويهبط بانتظام تحت قميص أبيض صيفي شفاف مكشوف. بدا رجلا طبيعيا أثناء نومه. وكأنني أنا التي كنت أحتاجه.

 

الفصل الثاني

هيلينا سابا

1

ريحٌ خريفية تُنذِرُ بشتاء قريب جداً. أقفلُ النافذة وأنـزل سلّم العمارة على عجل. موعدي مع المشرفة الإجتماعية الساعة العاشرة.

العتمة الصباحية التي تخترقُني عند السلّم تهيؤني لرمادية الشارع. أوراق أشجار نصف حية متجمعة عند المدخل. تتملكني رغبة بإثارة صوت خشخشتها بقدمي. أفتح صندوق البريد قبل مغادرتي مبنى العمارة. أفضُّ رسالة معنونة باسمي على عجل، أعلَمُ مُسّبقا بسبب شكل المظروف والطابع فحواها. أدسُّها في حقيبة الظهر وأخرج إلى المرآب.

أركب درّاجة صديقتي وأنطلق. النسمات الباردة تخترق بلوزتي. أستعيد في بالي النقاط التي سأتطرّقُ لها. تفكيري مشوش. الرغبة في سباق أخبارِي تجعلني أنطلقُ وكأنني أعتلي صهوة جواد، كمتسابقي الدرّاجات في موسم الصيف.

لا بأس، سأقول، ستعود الأمور إلى نصابها، سأكرّر البحث عن عمل بشكل جدي حالما تمرُّ الأزمة. سأقول بأن العودة مرة أخرى إلى المساعدات الإجتماعية أمرٌ لا يسِّرُ حقيقة، لا يصل إلى هذه الحقيقة إلاّ من يعتاد اعتماده على نفسه. العمل بالنسبة إلي هو ما يؤمن لي معيشتي. ليس غير ظرفي الطارىء ما اقتضى لجوئي إلى البلدية.

وأقول بأن ظروفي تضطرني لترك العمل لفترة، أشدُّ ما أضيق به هو حاجتي المادية، لا يزيدني ذلك إلا إقبالا على العمل بنهم. أضحك. وأقول بأنني اكتشفت قدرتي على تنظيم جدولي اليومي بدقة ونظام، درستُ لمدة عام هنا ما يؤهلني للحصول على فرص عمل لا بأس بها.

- هيلينا سابا؟

- نعم.

تُبدي المشرفة ارتياحها لما تلمسه من اندفاع من جهتي لإعالة نفسي. تعيد قراءة النقاط المدونة وتنظر إلي مبتسمة بمعنى انها استحصلت كل ما تريده مني من معلومات. تعود بكرسيها إلى الخلف لتتناول منشوراً صغيراً من على الرف تسلمه لي. حولتني إلى إحدى المشاريع التابعة للبلدية، يتم من خلالها تنشيط العاطلين لحين الحصول على عمل مقابل المعونة المادية. تنصحني بقراءة المنشور وتحدد بالإتفاق معي موعدا جديدا تثبته في المفكرة بشأن المتابعة. ينتهي اللقاء قبل الوقت المقنّن له. ترافقني حتى الباب.

- هاي هاي.

أودِّعُ المشرفة قافزة درجات السلّم في مبنى البلدية. شعوري الخفيف بالضيق يتبدّد، وحذائي الرياضي يجعلني أكثر خفّة. أصير خارج مبنى البلدية تماما فأتنفّسُ بعمق.

أفكّر بأن هذا الحل المؤقت سيتيح لي فرصة للتفكير، سيضمن على الأقل أمر الإيجار والمأكل لفترة. ما تبقى هو إيجاد سكن أنتقل إليه مع الطفلين. أترك الشقة له اضطراراً. أشعر بالحرج في مشاركتي صديقتي السكن. وسيأتي ما تبقى؛ الأثاث، قسط رياض الأطفال ووو.

أحتاج الآن إلى نفث نفسٍ عميقٍ. انظر إلى الدراجة وكأنها صارت صديقة لي، أتمشى معها متلفّتة باحثة عن مقهى وجريدة. أوراق الخريف بألوانها تتجمع لتصفق العجلات بصخب واحتفال يبعث بهجة في قلبي. لكنني أتنبه إلى نفسي فأتجنّب النظر إلى المارة لئلا تلتقي عيناي بِمَنْ له معرفة بي وبه. أي لقاء من شأنه أن يهّدَ من صرح القناعة والتصميم الذي أشرع بترميمه. لا مزاج لي للتحدث مع أحد، للإبتسام والمجاملة. مزاجي يميلُ الآن إلى الإنفراد بنفسي، يميل إلى مكأفاة نفسي والإحتفال بها باحتساء كوب قهوة طازجة والبحث في الجرائد.

" ستهدئين وتهدئين"، كم أحّب مزاجي هذا. لِمَ المماطلة وغيرها مما يدعونه الناس، الحسم والإختصار بالمعاناة ضروري وإن لم يره الآخرون كذلك. البقاء على الحال نفسه إنما يزيد الأمر سوءاً يوماً بعد يوم.

أدفع باب المقهى وأدلف إلى الداخل، حيث ركن قرب النافذة تتكوم فيه جرائد اليوم المبعثرة.

السيجارة تجعلني أقبل على كوب القهوة بلهفة وشوق. لكنني وأنا أرفع رأسي أجد نفسي قافزة فجأة تجاه العاملة خلف النضد لطلب قطعة معجنات دنماركية طازجة. تجول عيناي باهتمام بين المعروض من قطع المعجنات خلف الزجاج؛ تلك، أشير بإصبعي موجِهة الفتاة إلى واحدة في الزاوية. نضحك لبعضنا. تلك الإبتسامة الدنماركية تطمئنني إلى أبعد حد، ابتسامة متسامحة تميِّز شعباً بأكمله، من شأنها أن تجعلني راضية عن نفسي، متقبِّلة لها رغم كلِّ عللها، تدعوني إلى الإرتخاء وتجاذب الحديث مع الناس في كل مكان:

- " أنا بصراحة لا أستطيع مقاومة المعجنات الدنماركية. التفاحة، البرتقالة وحبات الجزر التي أرميها في حقيبتي أعود بها كما هي إلى البيت، أو أُلهي الطفلين بها في طريق العودة من المدرسة.

الإنزواء بأمان في ركن من مقهى صغير متعة كبرى؛- " آه، ما أحلى هذا الهدوء، الإنقذاف إلى الجهة الأخرى من العالم حيث العزلة والخصوصية، إنها من نِعَم الحياة فلا أتمنى أكثر من ذلك"

أتأمل الرواد. أرصد حركاتهم طويلا قبل أن أتنبه إلى نفسي. المرة الأولى التي تركت فيها الأطفال مع أبيهم لألتقي " نينا" كانت بمثابة بدء الزوبعة الحقيقية في حياتي. تناولت مع " نينا" فنجان قهوة تلبية لدعوة أولى للقاء. أتذكر المقهى وتفاصيل الجلسة جيداً. كنت متحرجة رغم فرحي، واللغة وإن حاولتْ كل منا فقد كانت عائقا، حينها لم  يكن قد مرَّ الكثير منذ أن وطئت قدماي الدنمارك.

لم أعترض على أسئلة نينا المتواصلة، لكن الإجابة كانت تتطلب الكثير من الجهد، حتى أنني عدت إلى البيت وكأنني قد قطعت طريق سفر طويل. أردت للغة أن تعينني، كما لم يكن حينها من السهل إشباع فضول نينا الكبير بمفردات لا تتجاوز منهج تعلم اللغة الذي كنت أتممته في مدرسة اللغة.

ولم تكن المقارنة بقصد المقارنة ولكنه كان أمراً لا بد منه فأقول لها بمزح: 

- لا حق للفرد وعلى الأخص المرأة لكي تنفرد عندنا، سواء في غرفة في البيت أم مقهى، سيبدو في الأمر حمق ما،

سيظنون حينها إنها مريضة أو مخبولة.

نينا ترد علي بالحال بشيء من الجدية:

- بالمقابل فمن النادر ما يبادر اثنان هنا قد يعملان في مكان واحد لأعوام ليلتقيا خارج إطار العمل، رغم انسجامهما، خطوة لا يخطوها الدنماركي أو الدنماركية دون تفكير وحساب. لقاؤنا لم يكن ليحدث، على الأقل ليس بهذه السرعة، لو لم تكوني أنتِ.

تعرّفتُ على نينا في المكتبة المحلية التابعة للبلدية حيث تعمل. مضى الشهران على تعارفنا عندما التقينا، لذا كان من الصعب علي في حينها إدراك ما كانت تعنيه. لم أرَ غير الإنفتاح والأدب واللطف والإنسانية في معاملة الناس لي حيثما تحركت، ومازلت.

الخبز الأسمر، المعجنات الدنماركية هي أيضاً من نِعَم الحياة الكبرى لدي، كذلك الكلبة التي اشتريتها وأطلقتْ نينا مزحاً عليها اسم " سالومي". هذا المجتمع يمدني بالثقة في نفسي. أشعر بخفة الآن لتحررّي أيضا من المكياج أيضا والكعب العالي والحُلي، المطبخ، اسم العائلة، الزوج بالمعنى المطلق، المظاهر، المجاملات، قيود اعتبارات العمر، وعشرات المئات من أشياء صغيرة جداً لا يني الناس هناك من حشر أنوفهم فيها، غير واعين فداحة ذلك.

لابد لي من قراءة الرسالة ثانية. الحقيبة تغصّ بتفاصيل شتى تعود للطفلين فيصعب العثور على الرسالة؛ كل شيء عادي، ويحدث، يقولون لي، يحدث لكل عائلة، لكل زوجين، فما الذي أفكِّر به؟ ما الذي يجري لي؟

 أجل ما الذي أفكِّرُ به، ما الجديد؟ ماذا أريد؟ لن يفهمني أحد. وأنا لا أرغب بالتحدث مع أحد، تلك هي مشكلتي وحدي.

تقول نينا:

- لكنكِ اعتدتِ مشاركة زوجك حياته وهو كذلك، ستجدين صعوبة في العيش وحيدة. الأمر يختلف لو كان معي مثلا.

- ولِمَ؟

تضحك وتقول لي:

- اسمحي لي أن أستعير الصيغة " نحن" التي تتحدثين بها دوماً، نحن بين قوسين لم نعتد على المشاركة كما اعتدتموها، نحن نكبر وننشأ باستقلالية، بالأحرى نتربى على احتراف الوحدة.

تتوقف، تثبّت نظرتها في عيني وهي تكمل دون أن تخفض ولو قليلا من صوتها:

- حتى فيما يخص الفراش، نحن بين قوسين ثانية لا نتشارك في بهجة الممارسة، لا نسقي بعضنا متعتها، لا، بل ينصرف كل منا في عالمه خلالها حتى ننتهي.

أضحك بصوت عال وأنا أنظر إلى نينا متفاجئة، مكذّبة ما تقول، أشبع صوتي باليأس لأرد عليها:

 - كيف أقنعكِ يا نينا وأنت التي تشكين فقدان المشاركة بمعنى التورط الجميل الكامل بين اثنين، كما تقولين، لن أستطيع أن أشرح لك اختناقي من المشاركة الإيجابية الإجبارية بيني وبينه في كل تفاصيل حياتي على مرّ حياتنا معاً.

أتنبّه إلى شرودي عما يحيطني في المقهى. أعود محاولة الإبتسام. أشعر بجوع بعد التهامي لقطعة المعجنات. أتعجّل التقاط سيجارة أخرى قبل أن أقفز لأطلب قطعة إضافية غنية بالزبدة. فرحة لتناقص وزني وأنوي التمتع بذلك. تخنقني حرارة المكان فأنضو عني بلوزتي وأكتفي بدفء القميص. زفرة طويلة أنفثها مرة واحدة لتشعرني بارتخاء لذيذ. خصلات شعري فالتة من ربطتها، أعيد لمّها وربطها أمام المرآة التي تشغلُ الجدار المقابل لي. ألمحُ وجهي فجأة بالمرآة، أتوقف عنده للحظات قبل أن أعود إلى الجريدة، سحابة من الدخان تعلق في عيني. أزرر فتحة قميصي؛ وجهه بالمرآة ثانية، وجه رجل ممسوح المعاني أمامي، نحن عاريان متلاصقان ننظر إلى نفسينا في المرآة، هذه المرة أقوى على النظر في تفاصيل جسدينا معاً. لا نتطابق تماماً، أجرؤ على التدقيق في جسده وجسدي، ازدادا ترهّلاً، وأنا لا أرمي بكل ثقلي عليه، هو الذي يشدّني إليه، أصرّ أسناني عندما تمتد يده لتداعب حلمتي، أتجنّب قبلات اللسان وهو يلاحقني بلسانه، لكنني أحاول أن أدّعي انسجامي وانخراطي باللعبة. أغمضُ عيني مخافة أن يلمحَ شيئا من رعبي. أخفي وجهي بدفنه في رقبته.

أية معادلة يجب أن تتحقّق كي تجنّبني الإحساس بالمقت، البرود إلى كلِّ ما يمت إلى تلك المرآة بصلة.

أجد قعر الكوب فارغاً وأنا آتي على رشف ما تبقى من القهوة. أنهض مسرعة.

...

تستقبلني " سالومي" بالتشكي والعتاب. أقبِّلها، أحضنها، أطبطب على جانبيها، أشدُّ أذنها تدليلاً وأدفعها بعيدا عني، لكنها تبقى تدور حولي.

- هل أنتِ جائعة يا سالومتي؟

نينا في ركن من الصالة حيث طاولة الطعام الصغيرة، منغمسة في تصفّح جريدة. ترفع رأسها لتقول بكسل:

- ألا ترين رقصة السبع غلالات التي تؤديها لكِ؟

- ماذا عن الشقق؟

لا يصدر عن نينا رد فعل.

إحساس بنوع من الضيق يتصاعد مجددا؛ السكن من المعضلات الكبرى هنا، إهدئي، إهدئي، إهدئي"، أتأفف، لا أفهم ما يعتريني.

أدخل المطبخ لأضع لـ " سالومي" أكلها الجاف في صحنها. أركل الصحن الذي يعترض طريقي، معتذرة لها. الشقة ضيقة جدا، لا تسع لنفرين كبيرين مع طفلين وكلبة ضخمة. الصناديق المعبأة بثيابي وثياب الأطفال تقطع الطريق على الداخل إلى الشقة. أعود إلى المطبخ لأغسل ما استعمل من صحون. أعيد الأشياء إلى أمكنتها وقد بدا لي بأني لن أنتهي. نظرة على ما حولي تجعلني أفكر بأن تحرري من الأثاث والزوج والأجهزة الكهربائية والفرش وعشرات الأشياء المركونة يجعلني للحظة أغبط نفسي. أجل، كل ما حولي الان يدعو للإرتخاء. ربما أحْسَدُ على ما لا أملكه؛- وماذا لو أنطلق مع الأطفال، أهيم على وجه الدنيا لأعيشها لحظة بلحظة على طريقتي أنا؟ لن أكدِّس الأغراض والصحون والثياب والسجاد، لم الخوف؟

أجلس على الأرض في الممر لأصفف قطع ملابس بعثرها الأولاد. أمسد بيدي طويلا قطعة ملابس قديمة. أشمها. أكاد لا أصدِّق بأنني قد قطعت كل هذه الرحلة بمخاطرها ومجاهيلها قبل وصولي الدنمارك. كيف تمكنت حتى وصلت هنا؟ كيف يمكن أن يرمي المرء خلفه كل شيء وينطلق في طريق مجهول فيخالف، يغش، يُضحك عليه، يسكت على غبنه وتتوقف دقات قلبه لثوان، غير متأكد أين سينتهي به هذا الطريق؟ لكني أشعر برهبة وبطعم يختلف وأنا أفكر أنني مقبلة على تغيير جديد في حياتي. ربما هو فِعْل تأثير هذا المجتمع علي، الذي يجعلني أستغرب الآن طريقة حياتي من قبل ويزيدني جبناً. ما الذي أصابني؟ هذا المجتمع وكأنه يسلبُ المرء تحدّيه وجسارته ويُخضِعُه للعيش ببلاهة ضمن الإطار القانوني الآمن له".

لم أنتبه إلا الآن إلى إن ما مررتُ به لم يكن بالهين. يُفترَض بي ألا أجد مبررا لخوفي الآن من القرار، مم إذاً خوفي؟

أدور بعيني أنظر إلى كل المتفرقات البسيطة الصغيرة التي تخص نينا فأشعر بتحرر. العوائل التي عاشت  نفس ظروفنا تهافتت على تأثيث بيوتها، حشت كل ركن فيها شوقاً لذلك البيت المفقود، خوفاً من الفراغ، وكأن في الفراغ فألاً سيئاً، وكأنه دلالة على فقر أو حالة طارئة قلقة. لست في وارد مثل تلك الهواجس. احتياجي آخر. أكاد أقول فرصي في الإختيار اخرى. أصف الصناديق جيدا إلى بعضها لينفسح الطريق. تضحك نينا بشيء من اللا مبالاة وهي تراقبني.

...

نينا عاطلة عن العمل أيضاً، يُعيلها صندوق البطالة وهي غير آبهة بذلك. ذلك كان اختيارها، وهي تقول بأنها دفعتْ ما يزيد إلى صندوق البطالة طيلة فترة خدمتها وقد حان الآن دوره؛ الحياة قصيرة. تلمع الفكرة فجأة في بالها فتتشبّثُ بها بحثاً عن التغيير. تقلبُ على أساس الفكرة الطارئة كلَّ مسار حياتها. تتركُ سنوات عملها وقد قاربت الأربعين كأمينة مكتبة دون تردّد، فهي تُقرّر أن تجد نفسها في شيءٍ آخر؛ تأخذ دورات تعليمية على صعيد الهواية في السيراميك، التصوير والتنجيد.

...

عندما انتقلت للسكن مع نينا وجدت شقتها في الأيام الأولى تكاد تكون شبه عارية، يتردد فيها طوال اليوم صوت مغنية جاز أمريكية سوداء يجعلني أشعر بأنني أسكن في مقهى. نينا كأنها زبونة مألوفة فيه، زائرة مستطرقة جاءت إلى العالم بالصدفة. يزين يدها خاتم من الفضة بفص بيضوي من العقيق على هيئة تموجات بلون أحمر بني شبه معتم، لولاه ولولا كرسي قديم ورثته عن جدتها لأبيها، وصحن من الفضة وشمعدان يعودان لجدتها لأمها، لولا ذلك لظن المرء بأنها مقطوعة من شجرة، وبأن حياتها مؤجلة بالفعل مؤقتاً. لكني أغبطها، ليس في حياتها من هو وصي عليها، لا أب أو عم أو خالة أو جد، يا لسعادتها، هي لنفسها، لذاتها، يا لسلطتها، هي سيدة أمرها، لا أب يمثلها ولا هي تمثل عائلة او مجتمع، لا تمثل إلا نفسها ولا تحاسب إلا على أفعالها.

في بيتها تيه كما في رأسها لكنها لا تأبه لشيء، لا تعير لكثير من الأمور أهمية والأهم إنها لا تحمل خوفاً في داخلها فتكرر لي:

- لن يموت أحدٌ من الجوع في هذا البلد أو ينام على الرصيف، ما لكِ هكذا مرعوبة، عبدة لهذا النظام، إن حصل تطور في العالم فهو يكمن في إدراكنا لضرورة التمتع بالحياة يوما بعد يوم، تذكري ذلك.

- أنتِ يا نينا قد أنفقتِ البارحة ما تبقى لديك من مصروف لآخر الشهر ثمناً لأجرة تاكسي يوفّر عليكِ مشقة انتظار الباص الليلي، أنا لا يمكنني فعل ذلك ولو اضطرّني لأن أمشي إلى الجزيرة الثالثة. كما إنني أقبلُ خاضعة ممتنّة شروط هذا البلد الذي يوفِّر لي ولأطفالي بالمقابل الضمان والأمان.

تبقى نينا مبحلقة لثوان في وجهي قبل أن ترد:

- ربما ضمان مادي نعم، ولكن ليس نفسياً.

...

تنهمك نينا بطحن حبات القهوة في المطبخ. أقف عند الباب الشرفة لأدخن متأملة تفاصيل حديقة الفناء الخلفي المقفرة أبدا. الصالة تفوح برائحة الخبز الأسمر الطازج الذي اشترته نينا من المخبز القريب.

تأتي بالقهوة التي فاحت رائحتها أيضا وقالب الزبد.

- حان الآن موعد شرب القهوة، هيا، تعالي، ستجدين حلا، عليكِ بالصبر.

أجيبها دون أن أدير وجهي:

- القرار صعب، وتلزمني شقة وعمل ووو.

أترك سيجارتي تخبو في الهواء الطلق. التدخين عدو نينا اللدود الذي لا تتهاون في أمر مناقشته. أقفل باب الشرفة وأدخل إلى الصالة.

صوت نينا يأتيني متأخراً، هادئاً، تقطِّعُ الجمل وتؤكد على الفعل فيها. فيه اتهام لي بالسذاجة، مشوباً بالضجر والإحتجاج وهي تعود لمتابعة الجريدة:

- وتلزمكِ سفرة قصيرة ترّوحين فيها عن نفسكِ، تخلقين لك فيها لحظة صفاء كي تتخذي ما تعتقدين بجدواه، كفى تبكيتاً للضمير، أنت لا تختلفين عن الباقيات، يبقى الإنسان يطمح للحصول على الأفضل، والصور تعددت اليوم لشكل العائلة كما اختلفت العلاقات أيضا. كوني رحيمة مع نفسكِ، انصتي إلى قلبكِ وعقلك في آن واحد، فكري ملياً.

تمسحُ كل منا قطعة من الخبز بالزبد.

- ربما عليّ أن أجلسَ لأستذكر أخطاءه عسى أن تساعدني في اتخاذ قرار، ذلك هو مبعث استقراري حالياً.

- هيا إذاً.

 نضحك.

- لا يرى ضيراً في ممارسة خلافاتنا صباح مساء، يرى المعاناة التي يعيشها معي يوميا، أرحم بكثير من القرار الذي أفرضه عليه. يرى يأسه طبيعياً، تداعيه عادياً، سلبيته، كآبته، عصبيته، كرشه، بساطته، هو لا يفكر إلا بنفسه، يرى رفضه لتعلّم اللغة مُبرَّراً، يضيق بكل تغيير يأتي مني وإن كان قصّة شعري أو امتناعي عن تناول الشاي بالسكر، نحن نختلف بكل شيء، أو صرنا نختلف، ما نحب، ما نكره. اختلفنا كثيراً.

-  أتخيَّلُ ذلك. المشكلة بأن الرجل الشرقي قد يعرف تماما ما يريد، شخصيته محددة. أما الدنماركي فهو محتار، لا هو يعرف ما يريد ولا ما تريده المرأة منه، ربما قد فقد في خضم المنافسة بينه وبين المرأة جزءاً من هويته، بالتالي فقد أصابه شيء أشبه بالإحباط واللامبالاة، ربما العطب.

- أما أنا فأرى الدنماركي مثاليا، كأب، كزوج، أحيانا لا أفهم ما تريدينه منه أكثر من ذلك، إيمانه حرفي بالمساواة، وكأن ما يظهره من عصرية، ما يظهره من مساندة وتعاون مع المرأة لا يكفيكم.

تضحك نينا. وكأنها كانت تريد أن تسمع ذلك مني:

- أخشى أننا نبحث عن صورة، عن شكل لم تلبّه عائلة صغيرة وطفلان وبيت وسيارة، نطمح للعثور على مثل أعلى من خلق خيالنا، ربما، لا أدري.

- ولكنني أفكّر في أسبابي، تبقى غير مقنعة. كل أمراض رضا ليست سببا في انفصال اثنين وهدم عائلة، سيقال. لن يقتنع أحدٌ بذلك. القرار ليس فردياً بحتاً، لا حق لي للتراجع بدعوى الإختلاف الآن. أمر متعارف عليه ومعمول به هناك، لن تفهمي. الوقت متأخر لأخذ قرار كهذا.

تستنكر بشدة كلامي بتهكم كامل لما قلته:

- لا دخل للعمر بالحياة، ليس عدد السنين الذي يحدد الإحتياج واتخاذ قرار شخصي. أ لم تخبريني بأن جلّ الصوماليين لا يقيدون أعمارهم ولا يقيمون احتفالا بأعياد ميلادهم. أرى أن هذا هو قمة السخرية بالأرقام التي توهمنا بما من حقنا فيه في الحياة والعكس. إنه قمة السخرية بالنظام الذي نسير عليه في الغرب. دعيكِ من التفكير الضيق هذا، ارتخي.

- لا أدري ما بي، أشعر بالغضب، لا أدري أ هي رسالة الإستدعاء أم لقاء المشرفة، أم دماغي المتلخبط.

تنهض من مكانها:

- هو سكونكِ، دورانكِ في المكان دون عمل شيء، دون تصريف طاقة، تحركي، هيا قومي، لنخرج ونلصق إعلانات البحث عن شقة، كي تجلبي الأطفال بعد ذلك، سالومي المسكينة تنتظركِ، إنه موعد نزهتها، لم تأخذ جولتها لحد الآن تلك الجميلة.

تصفر منادية سالومي قبل أن تدخل غرفتها. تقفز الأخيرة من مكانها إلى حيث نينا تبدأ مداعبتها.

أتمدد على الأريكة. أطلق صوتي عالياً مدّعية اليأس في إيجاد حلٍّ:

- لكن الأمور هنا تتطلّب صبراً أكثر من جميل، كل شيء يسير ببطء شديد قاتل، أم ترى ما ينقصني هو الجنس؟

ضحكتي عالية، ساخرة حائرة.

تصيح نينا من عمق غرفتها.

- ربما!

أضحك لفكرة أن يكون الجنس فِعلا كافياً لتصريف طاقتي. شيء من رائحته يشوب الفكرة، خيط من حسرة، حيرة، ورغبة بوقف ما يمكن أن يتداعى من الذاكرة الآن. تعتريني رجفة خفيفة، نضحك، أسأله بين صراخ ودلال الكفّ دون أن أعنيه، لا يتعب، يلح، كل الأمكنة، الفراش، الأغطية؛ الحشيات ضيقة، قصيرة، خفيفة، عتيقة، رطبة، يستبدلها بالأرض دوما؛ الأرض ثابتة، صلبة، مستقرة، قريبة، رحبة، تمتص صوتينا. يهيج إحساس يخترقني مثل تيار ناعم. أضّم ساقي وأتكوّر بجسدي محاولة إبعاد الخاطر عن تفكيري.

أجلس وأنزل ساقي، ترتاح راحتا قدمي على الأرض تماماً. يجب عليّ جلب الأطفال من الروضة.

...

نينا تنهض باكراً يومياً، تكون عيناها بلون العسل الرائق ووجهها صبوحاً ناعساً، سهل القراءة في كل الأوقات. تأخذ حمامها الصباحي المعتاد وتترك للهواء أن يجفف شعرها الطويل وهي تسير كالعادة بجسد طويل عارٍ في أرجاء الشقة. تحرص على أن تفتح نوافذ الشقة صباحا قبل كل شيء وإن كانت الدنيا تثلج. ليس على رف حمامها غير كريم لدهن الجسم ومانع تعرق لا يحوي مواد كيمياوية أو عطوراً. نينا تقنن في استخدامها لكل شيء. تقنن في ما تحتاجه من طعام وملبس، تقنن اكثر في استخدامها للماء والكهرباء، الأمر الذي يفوت عليّ غالباً تذكره، حتى إنني صرت أختصر وقوفي تحت الدوش كل ليلة قبل خلودي للنوم، فهي تغسل الصحون كلها في وعاء لا تبدّل ماءه وأنا أترك الماء يجري من الحنفية حتى أنتهي من غسلها. وإن كان في كل ذلك حرصٌ على البيئة ففي تقنينها للكلمات والمشاعر أحياناً ما يصعب على الفهم ويستفزني.

ربما اعتادتْ وحدتَها. انصرفتْ لأسابيع منهمكة بهدوء وفرح في تنجيد الكرسي الذي ورثته عن أبيها، بعد أن نزعت قماشته المهترئة وحشوته المتفصصة. قبلها اشترت مثقباً كهربائياً صغيراً، كابسة للتنجيد، مطرقة وكلاّباً ومسامير مختلفة في علبة أنيقة. عدة كاملة لمشروعها، تتأملها برواحها ومجيئها بالشقة.

هي تفضّل الوحدة على التقيّد بعلاقة تدخل بها في منافسة وحساب مع الرجل، كما تقول. تسرّني مراراً بخوفها من أن ينتهي العالم يوماً بأن تخلو النساء للنساء والرجال للرجال، بل تقسم بذلك أحياناً. مقتنعة بالمقولة التي ترى في الفردية تعبّداً للنفس، وهو برأيها ما يجعل الأمور في غاية التعقيد إن نشأ الفرد عليها وكَبُر:

- الفردية وراء كل ما يعمِّقُ الهوة بين الرجل والمرأة ويحرِّضهما على تحدي بعضهما.

تجلس متربعة على الأرض وقد عقصت شعرها بعشوائية حلوة إلى الخلف لتشتغل على الكرسي. يداها متجرحتان، تحاول أن تنقذ الأصابع بالضماد والدهان. تتمهل قليلا قبل أن تقول لي:

- الأمر في غاية التعقيد عندما يتوجّب على كل من الطرفين التنازل عن حياته المستقلّة لحظة اتخاذ قرار الإرتباط. الأنانية حق مشروع وجميل لكنه حق مكروه عندما يتضخم ويتضخم، لا يمكنك خنقه، لم تعد هناك مواقف وقيم عامة مشتركة بيننا هنا، اختلفت تربية البيوت فاختلفنا بما نتبناه من أفكار، لذا فإما أن يقرر المرء منا الإرتباط وهو فتي معصوب العينين معطل التفكير، أو يصعب القرار ويصعب بتقدم العمر، قرار الارتباط تليه تفاصيل عملية أو مادية صغيرة شائكة تبدأ بمن ينتقل عند الآخر ويترك شقته، هذا إن لم يكن لكل من الطرفين أطفال، ثم ما الذي سيتشارك به مع الآخر وما عليه رميه ووو حتى ينتهي بقائمة واجباتكَ وواجباتي. ليس لديك أدنى تصور لحجم المشكلة هنا، القرار بالإرتباط يصعب ويصعب لو تعلمين يا هيلينا. قد دخلنا حربا باردة، وهذه المساواة التي مازلنا نلهث لنحرسها قد جعلت هذا الإنشداد المطلوب بين الجنسين والشغف ببعضهما يتناقص ويتناقص، أصاب الإنشداد الطبيعي إرباكاً حتى فقَدَ الجنس بالتالي طعمه، صار مثل احتياج غريزي محض، صرنا نؤديه بلا قدسية، مثلما نؤدي تمرين رياضي.

ثم تدفع صدرها إلى الأمام مبتسمة بمكر وهي تقول:

- وإلا فهل تصدقين، أ من المعقول بأني لم أُدع من قِبل رجل لشرب فنجان قهوة أو كأس صغير لأشهر؟

...

نغادر الشقة مع سالومي لتنفصل نينا عنا وأكمل طريقي إلى الحضانة. يلفحني الهواء نقياً ممزوجا بلسعة برد منعشة. آخذ نفساً عميقاً. أحاول أن أرتخي، أن أترك خلفي صدى كلمات نينا وما أثاره النقاش من انفعال بداخلي.

أخشى القرار. أتابع لهاث الآباء والأمهات في طريقهم إلى جلب الأطفال والتسوق، في قسم الأطفال في المكتبة، في دفعهم لعربات الأطفال والتنزه معهم. تزاحمني صور الحياة العائلية ويحرجني طابع الاستقرار والاتفاق. هذه الصور من الابتهاج بالحياة أينما التفتّ صارت تشكل ضغطا نفسيا كبيرا عليّ. 

أنظر إلى الأمام، بعيدا، الطريق يبدو واسعا طويلا آمنا جدا يمنحني الحرية بأن أقرر إما النطّ أو الركض أو القفز بقدم واحدة.

أين أنا الآن؟ هل توصلت إلى قرار؟ الهدوء هو المفتاح، أردِّدُ في سرِّي، السكوت هو المفتاح، سأتدبّر الأمر بلا شك. ما حصل حصل، مِمَّ الخوف؟

أتباطأ في سيري.

 

2

أتلقّفُه باكيا منذ الليلة الأولى. أتركُهُ يتسكّن بالكحول والحبوب والأصدقاء. بعد الوساطة التي تمكنتُ من تدبرها يخرجُ من السجن فلا أستلمُ منه سوى شيء هو ما قبل الرميم. ثُمَّ يُرسَل إلى الجبهة وكل ما أفكِّر فيه حينها هو زواجنا لينتشله من اليأس الذي يسحقُهُ. أحبّه. أحدِّدُ موعد زفافي إليه وفي هذا أتحمَّل سبب وقوع الكارثة.

...

ما الذي تغيّرَ في رضا إذاً؟ لِِمَ أصبحت أنظرُ إليه كغريب؟ أخشى من نفسي ضيقها به. ينضُبُ عطفي، تفهمّي. لا يمكنني التراجع عن قراري. إنّه مرة أخرى يدفعني لأن أتخِّذَ قراراً وأنفِّذه وحدي.

في ساعات ارتياحي التي تتوفر فيها عدالتي أرى نظرته مليئة بفراغه، بحزنه لفقدانه أقرب الأصدقاء، بألمه الموجع لموت أخته وخذلانه المرير من الوطن، التهجير، الحزب والأصدقاء والسياسة التي آلت به وبالبلد هذا المآل. عقدة تأنيب الضمير المغروزة فيه لم تجعله في يوم راضياً عن نفسه. أخشى أنني أنا التي عمّقتُ فيه هذا الشعور!

اعتاد السكون، البحلقة بالأشياء وهي تدور من حوله. عالمٌ بأكمله يدور وهو ساكنٌ، يرضى، لا يرى في ذلك عيباً أو خللاً. خال تماماً من المبادرة.

...

في البدء كنا متفقين. استعاد نشاطه وحيويته في كردستان. الأمر برمته هناك لا يكلِّف مقارنة أو حسرة؛ مرحلة هروب انتقالية، توقف في الزمن، قليل من كسل، قليل من حماسة. مشاركة الباقين القَدَر الواحد، الإعلان عن التمرّد الكامل إزاء ما يحدث والبحث عن سبيل في كل الأحوال سيكون أفضل. تأتيه بين الحين والآخر ذكرى أخته. يرفع في كل لقاء نخب أخ مروى، صديقه الرسّام الشيوعي الذي أُعدم، ذلك الهادىء الذي إلتقيته لأول مرة عندما تبرّع في تنظيم معرض الرسم الكبير للإعداديات.

في سوريا سيكون في مجيء الطفل ملاذاً لنا. يتوزع انشغاله بين عمله المتقطع، المقاهي ومنادمة الأصدقاء والإلتزام الحزبي اليائس. لكنني أعجز في محاولاتي فهمه. حياة مؤجلة تمر الأيام فيها دون حدث او نتيجة. دون اتخاذ قرار او موقف. محاولة الحصول على مهرب لوضعنا لم تتم لولا إصراري. وكأنه لا ينتظر إلا الإيعاز لا المساعدة من الحزب. عملية إدخار مبلغ واستدانة آخر مكمِّل له لنغادر دمشق شكلت ضغطاً نفسيا كبيرا عليه فحاول جهده أن يصمد كي لا يضطره ذلك الدفاع عن حزبه أمامي. سورية وبلغاريا انتقالات مؤقتة تحققت بإلحاح وعناد مني حتى حصولنا على طريق يصل بنا إلى الدنمارك. أقنعته بأن في مغامرتنا ربح في كل الأحوال لا خسارة.

في دمشق، صوفيا كانت اللحظة ومتطلباتها هي كل ما يشغلنا؛ الغد لنفكِّر به غداً.

كان الإنتظار مريراً. مقاومة الرغبة عندي بالحياة أمرٌ يصعب السيطرة عليه. لدي طموحي، لا أريدُ لرغباتي أن تكون قابلةً للسحق دوما، السحق الذي أتخيله شعارا للناس هناك ومدعاة لتفاخرهم. لكني لا أفهم، لم التواضع، لِمَ التنازل هكذا ببساطة عن الحياة، عن نعمها بكل أشكالها والإكتفاء بالقليل حدا يصل إلى الخنوع والذلة يسمونه بالمقابل قناعة؟ لِمَن؟ ولماذا تكون هذه الصفة إيجابية؟

أم هو يعني ما يقوله بتغيِّري؟

أ يتعيَّن علي أن أعيشَ ركوده، إحباطه ثمناً لحبِّه الجميل وشقائنا المقدّس؟ هل يتعين علي أن أنكر على نفسي طموحها كي أبدو بنظره أماً طاهرة وزوجة مضحية؟ كلمة التضحية التي نتباهى بها هي كلمة سلبية يلجأ لها الجهلة بالحياة، الأميون الذين لا شروط لهم فيها.

وذلك الحلم بتعويض ما فات، هذه الحياة التي نحلم بأن تكون حقاً للوَلَدَيْن لا ينتزعها أحد منهما، أين كل ذلك؟ أم إن الحزب وما يتغنى به ليس سوى كلام!

أ هو العمر، أكتشفه فجأة غريباً عليَّ بهيئته أمامي، مملاً، متهالكاً على الأريكة مع كأسه والدخان ونشرات الأخبار المتكررة؛ منظره بكليته يصير لوحة قديمة متربة باهتة الألوان ثابتة في ركن من الصالة لا تثير الإنتباه.

...

نينا تدخل الشقة بوجه منبسط. اشترت نوعا جديدا من الشاي من محل شاي عثرت عليه بالصدفة في طريقها. لا تملك الصبر لتنتظر. متحمسة جدا لتجربته. حماس دنماركي خاص بدأت أميزه. حماس يخلق حاجزا نفسياً عندي يحول أحيانا دون مشاركتي إياها إعجابها كما تريد. إعجاب تام بالشيء يفسد عليّ الرغبة بطرح رأيي الخاص. دعوة دنماركية لا تعبّر عن نية لإشراكي بقدر ما تعبّر عن ضرورة ثنائي على الرأي. قصدتْ المطبخ وهي بنظرتها لي تقول: لا تتحركي من مكانك. تضغط زر غلاية الماء وتحضر الصينية مع ابريق الشاي على الطاولة أمامنا. تتفقد ما تحتاجه، كوبين وساعة التوقيت الصغيرة. لكنها كانت مرتاحة وكم أعشق طبعها. تكون أليفة قريبة صافية العينين عندما تكون راضية عن نفسها. لا أعلم لِمَ تزامن اختيارها للموضوع مع شرائها لنوع جديد من الشاي هذا المساء. أم تراها فكرت بأن مناقشة الموضوع تستلزم استعدادا لائقا. الموضوع الذي ظننت لفترة انها كانت تتجنب التحدث فيه ينفتح النقاش حوله دون تمهيد أو مناسبة. أكاد أجزم بأنه الشاي وهوسها به هو الذي جعلها تقبل على الحديث، ومن دون اختصار. "شيوعيو الصالونات" ما تطلقه نينا علينا؛ مجموعة خائبة لا تفقه من الشيوعية شيئاً، متمسّكة بقشورها الحالمة. تقولها حتى أشعر بأنها تطلق الكلمات لتتطاير دون أن ألحق لأمسك بها.

"نينا" تُطيح بزهوي مرة واحدة دون رحمة أو مجاملة. تأتي بأمثلة شتى، تتحدث عن الأيديولوجيات والسياسات، تعارضها مع الحريات والإبداع، بل حتى مع حقوق الإنسان. تضعني أمام حقيقة لم أفكِّر بها من قبل. تشككّ بالانتماء الحقيقي لرضا والأغلبية من الذين تلتقي بهم من العراقيين أثناء عملها، دون أن تسألني أو تتأكد من رغبتي أو قدرتي على مناقشتها في هذا الموضوع. تقول:

- أنتم تزهون بمبدأ لم تتعمقوا فيه، لا تفقهونه لأنكم منقطعون عما يجري ويدور في العالم.

توجِّه لي ضربتها، توقظ فيّ وبشكل فجائي حبي لرضا وانتمائه، وتفضحُ جهلي بالسياسة وما استجد ربما، لأني ولأول مرة أجد نفسي أجاهر في نقاشي معها برأيي:

- لكنه ليس ما تذكرين، ليس فيه ما يناقض الحرية، الديمقراطية، الدين والإبداع، كما تقولين.

لعلي كنت أتكل برأيي على رضا. لم يكن لي يوماً علاقة مباشرة بالأمر. موضوع شائك بالنسبة لي، لا يخلو من حساسية متخلّفة في داخلي تعود في جانب منها إلى تشويه الصور في المجتمع عندنا من قبل السلطة، وهي الإساءة التي سددت إلى سمعة الشيوعيين وكانت السبب في رفض أهلي لرضا، جانبها الآخر في قمع رضا لأي محاولة من جانبي لنقد فكره، هذا عدا عن النقاش المحظور علناً، ما يجعلني أنغلق على هذا الموضوع. إنه أمر يشبه السراب عندما أفكر فيه، أمر تحوطه قدسية أجهل مصدرها.

صبت الماء المغلي على أوراق الشاي وانهمكت بتوقيت المنبّه الصغير وهي تنظر لي هادئة مبتسمة.

- خمس دقائق، لا أكثر كي يعطي الطعم المطلوب ولا يفقده الأروما التي فيه.

شعرت ببعض من الضيق فقد كان علي أن أبتسم وأن أجمع أفكاري لأردّ، فالوطن، صار هنا في كوبنهاجن، مصطلحاً قديماً، الإكثار من الحديث عنه علناً يُعدّ أمراً مستهجناً، يتعارض مع مفهوم الدنماركيين لإندماجنا في مجتمعهم. أجل، تعلمت هنا بأن أتعامل مع الحياة بشكل سطحي قدر الإمكان، أو على الأقل بما يخص حركتي واحتكاكي معهم. بلا تلكؤ. وأنا وبما إني بدأتُ مشروع جمع نقاط قبولي دخول المجتمع هذا فتلك نقطة تُحسَبُ بالسالب؛ رغم الدرجة العالية من التفهم والتسامح التي أعيشها من قبل غالبيتهم، يبقى الوطن وطني وهو شأن خاص هنا، التأمل في أركانه، التغني به، التباكي عليه أو الحنق أمرٌ خاص يجدر بنا أن نفعله داخل شققنا.

وكأن صوتها يأتيني فجأة من بعيد:

- لكن هيلينا، كيف يمكن للفكر الشيوعي أن ينتشر هناك، في بلد هو إسلامي بالدرجة الأولى، الخطورة إلى جانب المفارقة أكبر بكثير لو قارنا بين العراق والدنمارك؟ 

صوت الكتروني رفيع متواصل يصدر من منبهها الصغير يشير إلى انتهاء الخمس دقائق. تقفز تصب الشاي في الكوبين وتعود لتتكىء إلى الخلف وقد رفعت ساقيها وتربعت على الأريكة وكأنها قد ملكت الدنيا بحالها. تدني أنفها من الكوب وتشم. ترشف رشفة، ثم أخرى وتنتظر. تنتظر رأيي بعد أن أخذتُ رشفتين الآن. طعم الشاي لا يعنيني. أحاول أن أجمع تركيزي ثانية في محاولة أخرى للرد،  رغم أنني أقِّرُ باللحظة بأن إدراكنا أعمى وأساسه عاطفي. أدحضُ فكرة أنه مجرد حلمٍ مُسالِمٍ يقرره فرد واحد يملك السلطة. لكنها تستمر في حديثها بانطلاق. وكأنه من نشوة الخمر ذاك الذي فيها. هي تلقي السؤال بعد الاخر. تضع كوبها على الطاولة وتتابع:

- أ هذا هو ما تريدونه؟

-  وما الذي لا تريدينه، إنها المساواة بين الناس، حق التعليم، العمل، المشاركة بلا طبقات أو فوارق، التضامن وكلٌ حسب طاقته ولكل حسب حاجته، دعم المرأة في نضالها من أجل تحررها، إن كان هناك مثقفون فهم شيوعيون. أنتِ لن تجدي فكراً آخر يُرشَّحُ كبديل غيره، لا للعراقيين ولا حتى العرب إنقاذا لوضعهم الحالي.

تضحك نينا مؤكدة:

- أنت تتحدثين ولا شك عن حزب آخر، أظن بأن هناك فرقاً بين الحزبين والأولى أن تجدي لحزبك إسما يستحقهُ. التطبيقات أخرى ربما أيضا، ما حدث في ألمانيا الشرقية وهنغاريا أفضل دليل، وهذا التدخل في دقائق الحياة، شيء لا يطيقه الدنماركيون كما قلت لكِ، لا في الدين ولا السياسة ولا اي مجال آخر.

 تحدثني عن دعم الدنماركيين لدول المعسكر الأشتراكي من أجل تخلصهم من أنظمتهم الشيوعية الدكتاتورية البغيضة التي فرضت مبادئها بدكتاتورية في ما يخص الفن و الدين والإقتصاد. تقول بأنها ستأتي لي بكتب علي أن أقرأها بنفسي لأطلع على الأمور على حقيقتها وليس نقلا عن رضا؛ ها هي قد أحاطتني بالصورة كي لا أدور مختالة بسبب لجوئنا. وهو انطباع الغالبية من الدنماركيين. تضحك، مما يزيدني حرجا، تقول:

- والداي شيوعيان، ربما ما زالا، دور الحزب الشيوعي المهم في الدانمارك انحصر في فترة مقاومة النازية ودحرها، بعدها لم يستطع أن يحتوي بمبادئه أبداً خصوصية المجتمع وفئاته كلها، حلت محله أحزاب أخرى، لنقل أن تحقق مجتمع الرفاهية أخذ على عاتقه تحقيق القاعدة التي تفرّد بها الحزب حينها.

- بما يخص الإسم أنت محقة، واعلمي بأن لسائر المجتمع حكما قاسيا عليه هناك، اجتماعياً أيضاً، وذلك قد خلق حالة من الإزدواجية نشأنا عليها. لكنك لن تتخيلي خيبة رضا منكِ إن سمعكِ، هل تتصورين حجم خيبته، هل تتخيلين أن فكرة، أو مبدأ يمكن أن يعلو بإنسان، يبنيه ويرفعه، بغياب هذا الفكر يمكن أن يتقهقر هذا الإنسان. التبرؤ من هذا الفكر يعني أن يُرفَض المرء من قبل محيطه، أن " يسقط" بين قوسين، بكل ما تحمل الكلمة من معنى سلبي سياسي واجتماعي. هذا الحزب بالنسبة للكثير من العراقيين يمكنكِ اعتباره الأب بكل المشاعر التي يحملها الأبن لإبيه، يستخدمون له في الشعر دلالات كبيرة مثل البيت، الظل الذي يقي من الشمس الحارة، الخيمة وأغاني العشق والعتب والهجر والشوق، إنه التربية التي ينشأ عليها الفرد ويكبر، الأخلاق والإلتزام والإخلاص والسمو الذي عرفوا به، ذلك هو كل زهو رضا. وهو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن.

-  شاي صيني يصلح للمساء فعلا، نوع راق حقاً، معطر، انظري إلى اللون الذهبي الفاتح الذي يغلب إخضراره الخفيف. قال صاحب المحل بأنه اول القطف من شجيرة متزاحمة الأوراق في دارجيلنك، من مزارع " مارغريت هوب"، حاولي أن تشمي، رائحة ورد جبلي وفاكهة لينة، تحسسي طعمه، ألا تحسين بنكهة من جوز الطيب، مع لذعة خفيفة جدا من حموضة؟

  

أفكر برضا. أدركُ فجأة بأن زهوه لربما كان مصدر زهوي به أيضاً. تجيش في صدري مشاعر شتى.

تحضرني مروى هذا المساء. معاكساتي لها بشأن الكتب والرسم وهمومها. لا أعلم شيئاً عن مصير اللوحة التي أهدتها لي. اللوحة التي شاركت فيها في معرض الرسم لإعداديات البنات. عُلِّقتْ بعد فوزها طيلة ما تبقى من العام الدراسي عند المدخل بين غرفة الإدارة وغرفة المدرّسات في إعدادية البصرة للبنات. فتاة ناعمة متقرفصة لا يكاد وجهها يبين. تتناثر خصلات شعرها شديد السواد تغطي جانب وجهها وجسدها والأرض من حولها، فوق الفتاة غراب أسود يحوم، يغطيها بجناح مفرد أكبر وأكبر من حجم الغراب، ألوان بين الأسود والنيلي، والرصاصي الغامق، ضربات من الرمادي تحجب ضوء سماء خفيف لكنها تترك الفتاة محاطة بشبه ظلام. الصورة التي التقطتُها لها وهي تقف بجانب لوحتها لا تترك مجالاً للشك لأحد؛ فتاة اللوحة ومروى شخص واحد.

يصلني خبر انهيارها بعد غياب عدنان ومحاولة انتحارها. تفلت الكلمات مني وأجدني رغما عني أقول لـ نينا:

- لن يمكنك أن تتخيلي حجم ما مررنا به في العراق، هل تتخيلين وجود نظام في العالم يفتك بمواطنيه لكي ينقرضوا؟

أسحب جسدي إلى الخلف لأتكىء وأستريح. نينا لديها صورة مغايرة تماماً للشيوعيين أيضاً، أسبابها معروفة لدى الدنماركيين، تصرِّح عن ذلك بصوت مرحٍ متفهم، فيه شيء من الجدية. بعد أخذ ورد تصمت. أخالها متوحدة مع شايها لكنها تعود وكأنها تستدرك أمراً لا يقل أهمية لتقول:

- هل تعرفين يا هيلينا، ربما كنا نحن على خطأ، نحن الدنماركيين، نحنُ نمعِن بالتراجع عن إيماننا يوما بعد يوم، الأحزاب هنا ما هي إلا برامج سياسية الهدف منها استمالة الناخب، نحن نحارب الثوابت والمسلمات ونتعالى على القيم، عدا قيم العمل التي صارت مركزية نكاد نفرغ تماماً. كنتُ أعتقد بأن قناعاتي ستترسخُ بتقدم العمر ولكن لا، أنا اليوم أكثر إرتباكاً وتشككاً من الأمس، لو تركنا جانب السياسة التي يمارسها الحزب الواحد من اضطهاد وقمع وتصفية ضد الأحزاب محظورة النشاط، فلن تجدي مَن يترك بلده من أجل فكرة أو مبدأ هنا، لن تجدي مَنْ يحارب هنا كما تحاربون، نحن ابتعدنا عن المبدأ والفكر، لا وقت لنا لنتعمق في شيء، الحزن، الفرح، الجيد والسيء، ليس لدينا تورط بالحياة ومهجة مثلكم، لا فرق، نكاد عموما نشبه بعضنا في كل شيء، أن نتّفِق، لا فرق رغم اليسار بمعناه واليمين بمعناه، جيل مغرّب عن ذاته، جيل اليوم أناني ولا يفقه شيئا مما نتحدّث عنه أنا وأنتِ الآن.

يسود الصمت. يأتي دور الموسيقى لتنفي ضرورة ما عداها. تهدأ مستمتعة بشكل يثير الإعجاب. هي فرحة لإنتقائها لنوع الشاي وأنا لم أبخل عليها في إطرائي لذوقها.

... عليّ إذاً أن أقرّ بأنني مقياس نفسي. أشعر وأنا أغطس في مكاني وكأني قد عدوت أميالا وأميالا.

 

نهلة صباح

1

المكان رسمي من أجل التقدم بطلب الإنفصال. أخيراً نلتقي. توقيتٌ سيء تختاره الجهات الرسمية لإستدعائنا. هذا الصيف الدنماركي المفتقَد يُطلق حسراتي عالياً. أشعر بـ رضا كمرجلٍ في طريقهِ إلى الإنفجار. أرتعد محاولة ألا يرى فزعي. سأضطرُّ لإخبارِه قبل دخولنا المكتب لإجراء المقابلة. أحسب قبلاً كيف سأنقلُ له الخبر، نظرتي، في أي اتجاه ستكون ومدى قربي منه. أسألُه إن كان يرغب في أخذ الطفلين عنده في الغد. يهزّ رأسه مرة واحدة أن نعم. ثم وبهدوء أخبرُه بأن إسمي الحالي هو " هيلينا" قبل أن يأتي دورنا. أفكر لئلا يفاجأ.

- " لِِمَ كلُّ هذا الرفض وكأن الإنسان يجب أن يُصَّبَ في قالبٍ اسمنتي يبقي عليه كما هو أمانةٌ حتى يعود ثانية إلى تربته، بإسمه، شكله وتربيته. اسمي الجديد هو جزء مني. الأمر ليس صعباً أو غريباً. مجرد مكالمة إلى الجهة المسؤولة تُنهي ومجاناً صفحة طويلة عريضة مسخّمة مربكة من حياتي. أنا التي اخترته، لا أبي ولا أمي أو غيرهم. الكل لا يجدُ صعوبة في تقبّله هنا أو نطقه. ما الرهيب في هذا؟ الكثيرون تتغيّر أسماؤهم خطأً ربما، دونما مشكلة. يجد المرء نفسه فجأة تحت اسم آخر، أ لم تُكَنّ أنتَ بـ " أبو شيرين" تغطية لهويتك. صديقة لي، بتصرّف غبي من موظف في دائرة النفوس يصِّر على إن اسمها غير المكتوب أمامه، يتغيّر اسمها، ذلك يعني أن تنـزل عند رغبته لتعيش بذاكرتين بعد أن أكملت السادسة عشرة من عمرها وأن تُعرَف بهويتَيْن. الملل يدعو أيضاً لتغيير الإسم، ويا أخي إن كانت عملية تجميلية بسيطة توفّر على المرء معاناته وشعوره بالنقص وتنهض به قليلاً وترفع من معنوياته فليفعلها، لِمَ كل هذا التعقيد والتأويل؟ أ تدري ما أنتَ بحاجة إليه، بل ما أنتم بحاجة اليه جميعا، أنتم بحاجة إلى بعض من خفة دم في الحياة وقليل من ارتخاء. اسم ثقيل صعب يختاره جد العائلة إجلالا لجدّه، ألا يحقُّ حينها تغييره؟ "هجران" هل تسمي هذا اسماً، عندما تصرُّ الأم التي هجرها زوجها وهي حامل أن تطلقه على الطفلة؟ ما الذي يمكن أن أجده بعد ويبرِّر اختياري لإسمي؟ هل كل هذا من أجل إسمٍ، كلّ هذا التهجّم والتوعّد، أن تُثار كل هذه الزوبعة؟ أم إنَّ اسمي تابع لكَ أيضاً، وكي أغيِّره عليَّ الرجوع إليك، أترجاك لتوقيع طلبي؟"

يضرب بيده الجدار بقوة. ينهال عليَّ بسيلٍ من الإتهامات المستهلكة من قبل أَلْسِنة المفرَغين من المقيمين هنا. لم يخطر ببالي أن تأتي على لسانه هو رضا:

-  إنه استخفاف، إنه الإنسلاخ والضياع بعينه، إنه أحد افعالكِ الإستفزازية ضدي، ذوبانكِ في الثقافة الغربية الفارغة، تملّقكِ لها

- لم لا تأتي بالعلم الأمريكي أيضاً وتحرقه أمامي.

- شعوركِ بالنقص هو الذي يدفعكِ لأن تتوسلي الدنماركيين وتركعين لهم ليتقبلوكِ. ستصيرين إضحوكة لطفليكِ عندما يكبران، وهل فكرتِ بعمركِ، هه؟ "هيلينا سابا" بعد عشرين عاماً، في الخمسين من عمركِ، هه، كيف ستستعيدين " نهلة صباح"، هل فكرتِ؟ هل تخيلتِ كيف سينادونكِ بهذا الإسم عندما تعودين إلى البصرة؟ لا شيء غريب في ذلك، إنه أصلكِ، أصل أمكِ وجدتكِ"

يضرب الجدار بقدمه هذه المرة. أوصاله ترتعد، أوردة صدغيه تنطّ وعيناه تلمعان غضباً.

أكتمُ صرخةً أكاد أن أُفْلتَها من أجل أن يكّف عن الكلام. أدير وجهي بانتظار استدعائنا. كان المكان هادئاً من حولنا حد اللعنة.

لقاؤنا هزّة كبرى لكلينا. لحيته تكاد تكون بيضاء تضيف إلى عمره سنيناً. شعره غير محلوق وملابسه متغضنة. لا أنفي بأني أحرص على أن يراني بشكل ينقُلُ له تماسكي ويؤكد قناعتي بما نمرُّ به، لكنه يفقدني صوابي في الموقف الذي يزجّني فيه هكذا. وأنا البطرة أردتُ له أن يقتنع بأن الحياة لا تتوقف، والمظهر أو الإسم لن يفرضه عليّ أحد، والدنيا ما زال فيها ملايين من المتع الصغيرة.

أجيبه بأقل عدد من الكلمات. أكرهه الآن، ومن قال بأني سأعود إلى هناك. لا أقصدُ إثارة حفيظته بتماسكي. لا، لا ضرورة لإيجاد مبررات تناسب مزاجه. هو يحاول أن يضعني في محاكمة أمام نفسي!

 ...

نطق رضا لأول مرة بما لم يجرؤ أحد على أن ينطقه أمامي. إذاً قد سمع هو الآخر عن أصل جدتي. ربما أنا الوحيدة التي تجهل ما يقولونه عني. وإن كان أبي يعرف بذلك لِمَ تزوج أمي إذاً؟  قال لي الأهل بأنه كان وراء تكتم البيت الشديد على ذلك. لكن جدتي الخرفة هي التي كانت تتسلل لتقصد أمكنة وأناساً غرباء لهم علاقة بها. وما علاقتي أنا بكل ذلك؟ ما الذي أشذّ فيه عن باقي ملتي؟

خرجت وأنا أشعر بحاجة ماسة لمكان يهاجمني فلا أفكر بشيء. كنت مختنقة وأنا أسير. سرتُ وسرت في الشوارع دون هدف. الزحام يجعل الأكتاف تتلامس، تتصادم ما يزيدني احتداماً وحاجة للمزيد. في داخلي يتصارع احساسان قاهران، إحساس بالظلم لكل ما مرَّ بي وإحساس بالذنب وكأني المسؤولة عن كل ما يحدث. أكرهه. ما الذي يحاول أن يزرعه بي. صرت أتخيل نفسي بوجه ساحرة شمطاء وعقل شرير. الظروف بدأت تتعقّد منذ مدة، ليس بسبب الحماقة التي ارتكبتُها فقط. ذلك كان شأناً آخر. رغبتي فيه بدأت تموت، شيئاً فشيئاً، ليس ذنبه أو ذنبي، لِمَ ننشغِل بالتحضير للأسباب ونبحث في العوامل المساعدة؟ هكذا تسير الأمور أحياناً، رغم إنه كان على استعداد دائم لتكذيب ذلك. لا يريد أن يرى أو يشعر بالفارق. لستُ معه، غائبة بعيدة عنه في نهاري وليلي. كان ثمة ما يجعلنا نتعجل الوفاق قبلاً لئلا نخسر يوماً فيه من المتعة والسفر الطويل والنسيان والعتب والغياب ما لا يعوَّض، فمن يعوّضني غيره، مّن يعوضه غيري؟ ذخيرتنا تتناقص حينما نرتبط، نعتاش بالقسم الباقي منها على ندم قرار الإرتباط، نحلم بما لا تسمح لنا الحياة بتجربته، ننأى عن تلك البقعة التي اتخذنا منها سكنا خاصا بنا، تمضي الأيام، يتناقص العمر، البويضات، الحيامن، شعري، شعره، تتسوس الأسنان، تختلّ الفكرة، تتحرك الحقائق، يفتر الحماس، تختفي سرعة البديهة، وتذهب كل خفة الدم التي ترافق ممارستنا للأشياء.

أبحث عن مكان ألتجيء إليه كي أوقف التفكير نهائيا بكل شيء. وجدتني عند ساحة البلدية حيث الأجواء، الأزياء والأطعمة في قمة اختلاطها، وحيث الناس لا تعرف بعضها. أهدأ قليلاً. مرور خاطف من شاب ونظرة مدققة منه جعلتني أشعر فجأة بحاجة شديدة إلى أحد ما يرأف بي، أسلّمه كل مسئولياتي ولو لساعة. متى سألقي عني كل هذا الحمل وأرتاح. متى يحين الأوان لكي نعيش عيشة طبيعية من دون أمراض وعقد، مثل كل الذين من حولنا. ليأت أحد ما ليحضنني، يضمني إليه ويسمعني. أنا الان مهيأة لنبذ كل ما هو مزعج في حياتي ومسح صور من أكرههم في لقاء غريبٍ لا يسألني عن اسمي، عمري، جنسيتي وعملي. أتمهل في خطواتي لأستأنس مع الفكرة التي جعلت عضلات وجهي ترتخي قليلا قليلا. حاد بي الطريق إلى اليسار من ساحة " كول تورف" راغبة بدخول مكتبة كوبنهاجن للإستراحة. ألفيتني أمرّ  بالقرب من الكنيس، على الجانب الأيسر منها. كنت أخشى النظر دوما إلى هذا المبنى أثناء المرور به. ليس لسبب ما، غير تجنب نظرات الحرس القاسية للمارة. كان المكان ومن يقف خلف أسواره يشعرني دوما بأن شيئا ما سيحصل. للمبنى عين شكاكة كما للحرس فيه لكل من يمر ناحية المكان. لكن فضولا غمرني وجعلني أعاند خوفي اليوم ، فأعبر إلى الجانب الأيمن، أتقرب جدا من السور، أمدّ رأسي لأرى ما بداخله. لا اشعر أطلاقا بشعور ما. كان هناك جهاز تخاطب ألكتروني بعدة أزرار. لم أسأل يوما كيف تتم زيارة الكنيس، وهذا المبنى بأسياخ سياجه التي تشبه الحربة برؤوسها ومبناه المقفل المنيع لا يعلن عن ترحيبه كما تعلن الكنيسة مفتوحة الأبواب عن تواضعها وترحيبها.

ينقذني المقهى على مبعدة أمتار من المنعطف بضجيجه ودخانه وكتبه فأتكوم في مكاني مبحلقة بالوجوه. أبحث عن سجائري لكني أتنبه إلى إن القسم خاص بغير المدخنين. جرّحني رضا بالكلمات ملتذّاً بنطقها. هاجمني بكل ما تبقى له من عنف. انتظرنا عند باب المكتب التابع إلى محافظة كوبنهاكن والمحدّد رقمه في رسالة الإستدعاء. الكراسي من خلفنا غير مستَغلّة. يغادر زوج من الدنماركيين. يصافحهما موظف عند الباب بلطف وينادى علينا. نتقابل أمام مكتب المسؤول الذي أعاد قراءة المعلومات في الإستمارة. تسري رعدة في بدني، مهلة للتفكير أمدها ستة أشهر، من الغريب بأني وفي غمار كل ذلك أتنبه بشعور قسري إلى أن قميص رضا كان مكوياً قدر الإمكان، وأنّ لحيته التي كانت في أولها ستشبه الرجل الذي سأختاره يوماً وشعره غير المحلوق، نظيفٌ لامع.

 

رضا المولاني

1

أنتَ تجلسُ منهكَ القوى، كتفاكَ تتدليان وأنتَ متكىءً بعكسيكَ على فخذيك. تبحلقُ طويلاً بماء القناة أمامك. الساعة تتجاوز ربما الثالثة ظهراً. خيطٌ من الضوء يُرسَمُ في الأفق خلف البحر، ينشرُ ظلالاً مرآتية على سطح الماء، لكن مرآه لم يكن أخفَّ وطأة على أعصابِكَ. يضيق بكَ العالم فلا تجَِدُ لك مكاناً فارغاً في كوبنهاجن تلجأَ إليه. السيارات تعبرُكَ تشيِّعُكَ بنظرةٍ مريبة تَفهمُ سببها. تسيرُ منذ الصباح على قدميكَ مُتحاشياً الطرق التي تختنقُ بالبشر. ينتهي المشوار بكَ في " اللانك لينيه". أي مصادفة أن يكون اسمه " الشارع الطويل"! يسري بجسدكَ شعورٌ بالقرف من الأغنية وما تحمله من بكائية رومانسية ثقيلة، لكنك رغم ذلك تقرِّرُ أن تتمهَّلَ لترصدَ الغروب، ذلك تماماً ما يتماشى مع غرابة طورِكَ. صوتُ تلاطم أمواجٍ خافتٍ يعطِّلُ تفكيرك لفترة. يلِّفُكَ البرد، ولا يلبثُ خرير انزلاق الماء بين الصخور إلا أن يُقهقِرَكَ. يعود بكَ إلى البصرة فترغب في الإبتعاد عن المكان لئلا يزداد وضعك سوءاً، لكنكَ وأنتَ تنظرُ إلى هيئتكَ تُنحّي فكرة الإنزواء في إحدى المقاهي القريبة لأخذ فنجان قهوة.

كما لو أنكَ لم تنتبه إلى غروبٍ من قبل في حياتك. تقترب من تمثال حورية البحر وتقرِّرُ أن تعبرَ الحاجزَ لتجلس على الصخرة أمامها. تحميك الصخور المحيطة من الريح الباردة المارة؛ تقابل حورية "هانس كريستيان أندرسن" الضئيلة الحجم، التي تركتْ البحر وبَنيه واختارتْ بني البشر الدنماركيين فصارت رمزاً لهم.

تتلمّس جيوبك بحثا عن كبريت لدخانك. هي تجلس عاريةً أمامك. يدبُّ في أطراف أصابِعك إحساس، فتظنّ بأنكَ ما أن تلامسها حتى يذوب المعدن بين كفيكَ. تجتاحُكَ أنوثتُها فجأة مما يحرك غضبُكَ. تحرّشها، وإن خفضتْ رأسها، يكادُ يشقُّ صدرَكَ فأنتَ لم تلبثْ أن وجدت لك ملجأ بين الصخور لتختلي فيه. تشيحُ بوجهِكَ وترنو بعيداً. تشحط عود الثقاب الأخير الذي عثرتَ عليه.

تتلفتُ يميناً ويساراً، وهْمٌ كلُّ ما حولكَ. وتلك الحورية المتقرفصة الضئيلة الحجم، بنصف استدارة في الوجه ونظرة تنكسر إلى الأرض تخلعُ عليها صفة التضحية، الوفاء والصبر، إنما هي شيطانة الضياع وأم الخطيئة تعلوها الأشنات والطحالب وتفوح بالزَفر؛ تريدُ سلْبَ روحكَ وإنهاء حياتِكَ. بودِّكَ لو ترفع رأسها المطأطىء لتقول لها ذلك بصوتٍ عال.

 أنتَ تخشاها، تتردّدُ، وستضعفُ حال تقرُّبكَ منها. إن رفعتْ رأسَها ستغرقُ في عينيها الناطقتين، ستروح يدُكَ رُغما عنكَ  لتمسِّدَ ساقيها، تفرك باطن فخذيها، ككل مرّة ، تصعد إلى أعلى لتتلمس نهديها، شقّ ابطيها، تتحسس الشفة السفلى، وتجمع ما تهدل من شعرها.

تؤخَذُ بمزجةِ ألوان غريبةٍ تنتشر في الأفق، أشكال هندسية تنبثقُ مجسَّمة من قلب السماء، تتغيَّرُ بين اللحظة والأخرى، تضحك لفكرة - بتغيُّرِ عذاباتِكَ. تنتابُكُ غصّةٌ. تريدُ أن تجهشَ بالبكاء؛ إبكِ. لا أحد بالقرب منك. لن يُتاح لكَ لا وقت ولا مكانٌ أفضل. تغضبُ وأنتَ تجهشُ بالبكاء بصوت عالٍ، يتكسر صوتك، تنشج دون سيطرةٍ منكَ على نفسِكَ. تتمخط، تجفف وجهكَ وتستعين بسيجارةٍ أخرى.

تسْكنُ، أنتَ في الأرض الحرام، متسمّراً في مكانكَ أمامها، لا تقوم وتغادر. ولكنكَ لا تحتمل مهانتكَ ببقائكَ أمامها. في الحالتين انتحار. جلوسها الشامخ على الصخرة انتصارٌ عليكَ. انها غير آبهة بك، بينما تصير البقعة التي تشغلُها أنتَ كتلة من ذلّة.

 يهبطُ الظلام دون تمهيد. تتغيَّرُ خارطة السماء بوحشيةٍ تبعِدُكَ عن مِزاجكَ الغاضب الحزين وتوقِظُ فيك رغبةً غريبة دون واعز. يحرِّضُكَ الليل المشوب ببقايا الضوء يكشفُ عن عنقها وجزء من نهديها.

انتظارك يطول وهي ترفضُ الحوار معكَ، تحاربكَ بخرسِها. سلاحها عنادها وصمتها. ترفض الحديث، ترفض عتابكَ بشأن أخطائك التافهة وتنكِرُ فعلَها: - أنتِ تحاربينني في كل شيء. لا تكتفين في منافستي في قدرتي العضلية، الذهنية، في أبوتي، تودين سحقي مثل صرصار ليسَ إلاّ. كيف تتمكنين هكذا من فعلِكِ، أي مشاعرِ حقدٍ تحملين ضدي؟ يخيل إليكَ سماع صدى يعضدُ صوتك.

تحضن صخرتها. تطول يداك، رقبتها باردة، حنجرتها بارزة. يدُكَ تلتّفُ حول عنقها وتظلُّ تدور، تحزُّ، وتدور وتدور، تنـزلُ إلى بطنها الضامرة، تلتّفُ لتمسحَ غبار الملح عن وركها الضيق وفرق مؤخرتها. ملمسٌ له فعل النار وأذنك مطبقة علها تسمع وشوشة جلدها. ذراعها الأيمن يُعينُكَ فتتسلَّقُها مضطرماً، تداني وجهها، تطبِقُ شفتيكَ على شفتيها، تشكرُ صوتها المستنكر المتوسِّل المستحي الضعيف بينما تنثالُ دموعُكَ لأنك تدرك بذات اللحظة خبلك. يلِّحُ لسانُك على صكة أسنانها، تودُّ اختراق فمها، تمنُّعها يستثيركَ فتشحّذُ أسنانكَ بعنفٍ على سطح شفتها. ملح الدمع والحديد يلذعُ شفتيك ويحرق طرف لسانكَ. مقاومتها تستفزّك. تلك المخلوقة المعجونة من شيء مبهم بالنار تستلبُكَ. لا تريد منها غير أن تستسلم لكَ، تتمنع، تود امتاعها لكنها تبتعد كلما دنوت منها، تود اشباعها لكنها تنفر كلما احتدمت رغبتك بها وتخيلتَ انفراج ساقيها. غضبك ماحق فتتشبَّثُ برأسها وتنطُّ من على الصخرة رافعا جسدَك ليلتصقَ بها حتى يستَقِّر ذراعها الأيسر الصلب المائل الملقى على فخذها الأيمن بين ساقيكَ تماما؛ دموعك مرة لاذعة، وأنت مازلت تود لو تهوي بها إلى الأرض بينما تروح هي، بتوحيد إيقاعِها بإيقاعك، تأكُلُكَ أكلاً لذيذاً سريعا موجعاً لاهثاً مبتوراً.

...

 نهلة لا تكفُّ عن الدخول إليَّ ليلاً في الغرفة، رغم المراقبة في المستشفى، تحل وثاقي وتمضي. يراقبني شبحُها الأسود من بعيد، ألمحهُ خلف نبتةٍ أو عمود، تتحدّثُ مع الطبيب بهمسٍ، دون أدنى حركةٍ من رأسها تشير تجاهي.

بين صحوي ونومي أراها تلقي حقيبتها، تنظرُ بتحدٍّ لي منتظرة سؤالي لها: أين كنتِ؟ كنتُ أُجرِّبُ مثلَكَ. ورغم محاولتي كتم صوتها تكرِّرُ وتزيد من تحريضها لي. يفورُ دمي، يلتهبُ دماغي فأدفن رأسي تحت المخدّة.

تدخل فلا يبين على مُحيّاها أثر؛ لِمَ تأخرتِ، كنتُ مع صديقةٍ لي، شربنا كثيراً. أتوسلُّ بها، أسامحها منتظراً بحرقة أن تقبلَ عليّ لتقبِّلني. لكنها لا تأبه لوجودي، لانتظاري القلق المُمضّ، للطفلين وأسئلتهما. رأسي تحت اللحاف، الممرضة تمرر يدها ناعمة دافئة، تمس جلد صدري رواحاً ومجيئاً، تنزل بطيئاً إلى بطني، أبعدها بعنف عني. وهي تدخل ترمي حقيبتها دون النظر إليّ، دمُ شفتيها الوردي متحركُ بعض الشيء من مكانه، تزيح شعرها خلف أذنيها. الطبيب يسأل إن كنت أشعر بالعجز، إن كان ذلك يضايقني. قميصها فالتٌ في جانبه الأيسر من قبضة البنطلون. في منامي يهاجمني وحشٌ شرسٌ يبدأُ بمصارعتي بضراوة ويلقيني أرضاً فأضيع بين قدميه، يرفسني، يركلني فأشعر برغبة بالنوم إلى الأبد. أصحو على أرضية من الإسمنت وسط بقع الدم والبول في السجن. أطلب مُسكِّناً للمرة الألف. تدخل ترمي كتبها. يبدو عليها التعب، ملابسها مكرمشة، تسأل عن الطفلين، متلفتّة باحثة. لا تنظر لي نظرتها تلك، تبحلق في وجهي، ما بكِ؟ تقول: حماقة مني.

...

غيّرتْ الأثاث، نـزَعت الستائر، ألقت بالزرع، سخرت من الحزب، رمت الكتب والمجلات والنشرات الثقافية العراقية. طلت غرفة الأطفال بألوان فاقعة وأصرت على فكرة شراء كلب لهما. حذفت وجبة الغداء وقدَّمت بدلا عن ذلك أكلات ناشفة لا طعم لها آخر المساء. لا أدري ما الذي يصيبها. لا تحبُّ قمصاني، معجون حلاقتي، الأغاني التي أسمعها وطريقة مزاحي مع الأصدقاء في الهاتف. هيأتها غريبة، حركتها نشِطة حيوية في البيت، نظرتها جامدة، شعرها قصير مهمّلٌ، وجهها مغسولٌ من أثر مكياج. خطواتها غير مكترثة غالباً ما تُظهِر حمّالة صدرها.

يلوح على وجهها أبداً ظل ابتسامة ساخرة. لون عينيها يزداد زرقةً؛ ماذا تقصد؟ فيرتفع حاجباها يحقِّقان معي، تفتِّشُ في وجهي عن ردٍّ، عن تفسير، قبل أن تُلقي جسدها على الأريكة. تنصرف إلى موضوع ثانٍ حاضنة الوسادة بين يديها.

تلعب مع الطفلين، تعلو الموسيقى لتقفز وترقص، شبح امرأةٍ حافية يتثـنّى يتلوى، ظل نهدين يترجرجان، تجرّ الطفلين للرقص وصوت خشب الأرضية تحت قدميها يصير صراخاً في أذني. أنزلُ درجات السلم هربا منها ولا يكون أمامي غير درّاجتها تُذهب الغلّ من صدري فأحطمها.

تظنين بأني غير قادر على الرّد، هه؟ بسبب بضع حبّات وأقداح انسكبتْ في بطني تظّنين بأني لستُ قادراً على تمزيقكِ بين يدي، ها، أجيبي؟

تسكتُ الموسيقى، تجمع  فردتي حذائها، حقيبتها وكتبها وتهّمُ بالإنصراف. ولا أشعرُ إلا وأنا أقلُبُ الطاولة الواطئة أمامي. خطوات حتى تتهاوى رفوف المكتبة على رأسي، يتناثر زجاج اللوحات وصراخ الأطفال وتخرُّ هي واقعةً على الأرض.

...

أشبهُ الجحش الذي تصيبه الكآبة. يتجمّعُ طعم مرارة في حلقي. أجِدُ نفسي هذا الكائن العاجز الذي يتحرّك بلا هدف، بجثّةٍ وروح خاوية. تتقلَّصُ حياتي إلى نقطةٍ صغيرةٍ جداً في هذا العالم الرمادي الكئيب، أودُّ بسبب إحساسي بفضول البشر وفضلهم لو أمسحها مِنْ على الخريطة. بالفعل، حينها فقط سأشعر بالراحة. تخيلت بأنني أخشى الموت الذي سألقاه في رحلة التهجير تلك، التي ما انفكت تتردد على مسامعنا ونحن صغار. اعتقدت بأني أخشى الموت الذي سألقاه ما أن لبست الزي العسكري. الموت الذي ينتظرني بعد سجني وتعذيبي بتهمة الخيانة والمطالبة باعتراف حول نشاطاتي السياسية. كنت أخشى الموت خوفاً في المطار لحظة تهريبنا من صوفيا إلى كوبنهاجن، عندما لم يظهر الشرطي الموعود به ليتبنى أمر صعودنا الطائرة. لكنه ليس سوى خوفي المستديم من الحياة بعينها.

كأنني أستعد لأداء واجب ما فأُبري قلمي وأتناول مسطرتي، أبدأ أخطُّ الهامش على يمين صفحات دفتري، الصفحة تلو الأخرى حتى ينتهي، ولكن من دون أن أتمكن من الشروع بالواجب نفسه، أقدِّمُ الدفتر للأستاذ، خط هامش على بياض! أين هو، دفتر الخرائط، دفتري الذي احتفظتُ به طويلا منذ الإبتدائية، فيه أرى العالم بين يدي، وبأصبعٍ صغير أتنقل من دولة إلى أخرى؛ أنهمكُ بوضع الورق الشفاف بأناة على الخريطة، ويروح قلم الرصاص بحذر يطبعُ خطوط الحدود القاتمة أولاً. أقلام الرسم الخشبية مبرية جاهزة لأملأ بطن الحدود بالهضاب والسهول والجبال والأنهار.

...

بضعفي أخطيء بحقِّ نفسي فأسمح لغيري بأن يتحكّم بي مقابل انتشالي مما أنا فيه. لهم الفضل في بقائي حيّاً، لكنني أكرههم وإن كانت المشرفة، البلدية، الطبيب، طفلاي أو القلّة ممن أعرفهم. رغم هذا فأنا مجبَرٌ على التفكير بأن الأمور تأخذُ طريقا آخر ربما هو أفضل بالنسبة إلي. تمَّ تصفية الحسابات. لا ضرورة للإنفعال أو الإنشغال، الغيرة والغضب. لا ضرورة بعد لخيبتِي المُرّة من هذا المجتمع الذي يحرِّضني على أخذ حقي الكامل ولكن فقط من أجل أن أخسرَ جولتي حينها؛ هذا المجتمع الذي يدعي العدالة فيُنْصِفُ إمرأتي بغير انصاف. إنها الحياة ومناكدتها لي.

كدتُ أقتلُها. ليس هناك من إحساس عادل ليشفي غليلي غير هذا. لا أحد أحقُّ مني بإنزال هذا العقاب. أسيرُ وحيداً حاملاً غضبي، يتطاير مني باصطدامي بعمود أو بشر، يفضحني وأنا أتحدّثُ مع القريب والبعيد.

الحبوب تجعلني أبحثُ عنها حال يقظتي. والكحول التعس لا يدخلُ إلا ليشعِلَ الحرائق في دمي.

ينصحونني بأن أنظر للأمر من زاوية أخرى- فالأمر الآن لا يستحّقُ يا رضا. وفق نهجهم الغربي، أجل، هم على حق، لم يعدْ الأمر يستحِّق أن أصرفَ طاقةً إضافية في محاولة أخرى لفهمها.

لا، ليس رفضي لفهم ما يجري، ما يدور برأسها، لكن كيف أتوصل إلى إلغائها تماما؟ هم لا يفهمون، متى يتوقّفُ هذا الدماغ المريض عن الزنّ؟ كيف يُمْحى ملمَسُها من على جلدي؟

...

أوافقُ على كل ما تضعه لي المرأة التي أصادقها من شروط. لا أودُّ النوم وحيدا، مللتُ نصائح وتدخلات الاخرين، لا أريد التفكير، قراءة البريد، سماع نشرة الأخبار. أحنُّ إلى ضجيج.

النهوض مبكرا، الإصغاء إلى هذر الأصدقاء، المباشرة بعمل، التسوق، كلها أمورٌ صار يصعبُ عليّ القيام بها لوحدي.

حبّةٌ أخرى، كأس آخر وسيجارة أخيرة قبل العودة مجددا إلى النوم.

...

كمْ مِنْ مرةٍ أقفُ مترنحاً لأحدّثَ نفسي في المرآة. أُكلّمُ هذا الولد الذي لا يزالْ تائها بداخِلي. لكنني أحمق، مضحوكٌ علي، فاشلٌ، أملأُ دمي بالسموم. كمْ من مرةٍ يشتدّ قلقي لإرتجافة يدي ووزني المتناقص، وجهي الذابل وخطوط الشيب التي ترعبني بغزوها رأسي.

- " استوِ على قدميكَ، ابتسمْ أمام المرآة، هناك إمرأة جميلة تتنبّه إليكَ، إنها توحي إليكَ برغبتها فيكَ. محضُ وهم كلُّ ذلك. أين غروركَ الخفي بنفسكَ، أين ذاك الرضا؟ تكادُ توهِمُ نفسكَ بأنكَ الأمير الوسيم الذي لا يزال يسلب لُبَّ عقل الحسناوات بحسنه وكماله"

- " ها أنتَ تنهض. حاول أن تتماسك، أن تشدَّ جسمكَ، هيا، أجل، إرفع كتفيكَ أكثر، خُذْ نفساً عميقاً، أحسنت، شد بطنكَ  قليلاً، ابتسمْ، أجل هكذا"

 

نهلة صباح

1

أختار أخيراً ألا أردَّ على رسائل حذرة خائفة تصلني من أهلي. أرفضُ فضّها وأزحلقها إلى سلة المهملات. هي معنونة إلى نهلة أخرى؛ إلى نهلة صباح وليس لي. رسائل لا تُظهر رغبة كاملة حقيقية بالتواصل معي والخوف عليّ. زيف وعواطفٌ مملة ولغو بلغة عامة لو تحذف التواقيع. عليّ العثور على دروب أخرى أقصر، أكثر وضوحاً، أقل ضجيجاً. لن يتغير في رسائلهم شيء. وما زالت السلطة تسطع بين الأسطر، تأخذ صيغة الجمع والحمد والشكر على كل شيء، تذكّر بنفس الوقت، بكلمات محافظة أنانية، بسلطة الأهل عليّ كإمرأة وسمعة العائلة. أشعر بالضجر لهذا الطنين والتكرار والهياج غير المحتملين. يفوق الواحد فيهم الآخر بجهله، لكنهم ما زالوا يتبارون في إثبات سلطتهم على بعضهم. ربما انسحب النصف منهم للحفاظ على نفسه، هم ما زالوا يخشون ملف رضا في مراكز الأمن وهو مصدر تهديدهم. الناس تخشى نقاط ضعفها وما أكثرها الآن، فيرهب الأخ أخاه والجار جاره. يتوسلون في رسائلهم ألا أذكر أسماءً أو عناوين. في اللحظات التي أتذكر فيها ذلك أستحي من نفسي ازدراءها الكبير للضعف والذلة فيهم فلا حق لي في لومهم.

وما أدراهم بما يدور ببالي، ما يجري بيني وبين رضا، ما مرّرتُ به، ما أدراهم بما يدور في دواخلهم هم أنفسهم. لو يهتم كل منا بشأنه. ويظنون بأنهم على يقين في كل شيء في ظل ذاك الصخب الطاغي والمغلقات، يا للحمق.

أنا نفسي حينها لم أفهم نفسي، حينما ابتعدتُ بروحي عن رضا لفترة واقتربتُ بجسدي من الآخر.

سرتُ ذاك اليوم وأنا أشتهي احتواءً خاصا من غريب، قبلة من عابر غريب، اشتهيتُ عُريَ رجل غريب، عطر رجل غريب، ملمس جلد رجل غريب. خطأٌ يبدر مني. خطأ أجهل أسبابه. لا يهم من كان هو، بالنسبة لي فهو نكرة، عرفته أيام مدرسة اللغة. كان الصف الذي جمعنا مع لاجئين آخرين بائساً حد الكآبة، جعلني أخجل من جنسيتي ومن لغتي لضيق عقول البعض وعقم مناقشاتهم واستفزازهم المتعمد لمن حولهم. المشكلة أن إدارة المدرسة وحتى في مجال تعليم اللغة تقسم الصفوف إلى متقدمة، نامية وأخيرة تنتمي إلى العالم الثالث. كان حيوياً، يصغرني سنّا، يكبرني تجربةً. فجأة يعترضُ طريقي ذات يوم عادي فأترك الدرس فارّة مثله مما حولي. وأعجبُ لنفسي حين لا أجد حقيقةً أخرى أواجه بها نفسي غير الإقرار ببراءة بأنها حماقة مني لا أكثر. جنون قد ركب خيالي لفترة، مثل كل الأفكار الطارئة التي تدور في أذهاننا ونخشى الأفصاح عنها، رغم أننا غير مسؤولين عنها، تماما كالأحلام التي تأتينا. ولن يصدقني رضا إن قلتُ له بأني أحسستُ بأني أشتهيتُ أن أضاجعَ نفسي، ليس الآخر الذي كان مجرد وسيلتي. لكن روح جسدي فيه، في رضا الذي لن يفهم، وكأني مغروسة فيه ولن أهنأ بجسدي مع آخر غيره.

أدرك ذلك، رضا لن يفهم، ولا غيره. كما أنني لا أنتظر منه تفهّما ولا من غيره، أصررت فقط على تبرئة نفسي أمامه:

-  إنه خطأٌ، ليس لدي ما أقوله غير ذلك، لا يختلف عن سرقتي المَمْلَحة الأنيقة من مطعم " كريستوف" رغم احتجاجكَ، سمها غواية مثل رغبتي بتدخين سيجارة ماريوانا معك. أنا التي أخبـُركَ بذلكَ، وأنا التي تطلب الإنفصال.

لكن رضا وأثناء مضاجعته المجنونة لي إثرها، ظن بأن مشكلتي معه تكمن في الجنس، في أدائه هو. أصرَّ بشكل مريض على سماع تفاصيل ما فعلناه، أين، كيف، انطقي. دفعته عني بكل ما أوتيت من قوة وأنا أصرخ ألماً: -  كفى، كفى.

...

أحاول أن أدفع إلى الأمام دون أن أشعر بأني أفلح تماماً. أعرضُ عن مخالطة من تشاركتُ مع رضا بصداقتي لهم. أرفض عرض المشرفة الإجتماعية في البلدية بأخذ جلسات محادثة نفسية مع المحلل النفسي. أشعر بميكانيكية تفكير المشرفة في عرضها المساعدة هذه، أو ربما رغبتها في التخلص من القضايا التي تأتي لها بصداع الرأس، رغم كل التسهيلات التي ستتوفر لي ضمن هذه الحالة وفقا للقانون. لا أستطيع أن أتقبل عدادي من الفئة الضعيفة لمجرد طلبي الطلاق. بل إلحاح المشرفة المستمر أخيراً في سبيل تحويلي إلى حالة خاصة تابعة إلى قسم شؤون العائلة نفرني تماما من حضور مواعيد متابعتها لوضعي.

أسمع بخبر وصول مروى إلى يولاند ولا أفهم سبب عدم رغبتي بالحصول على عنوان لها. ضقت بكل شيء. أودّ الإقتصاد بالكلام والعواطف. لن تعينني في شيء، كما أنني أشكُ في قدرتي على التواصل والوفاء للعلاقة.

أتذكرها، مروى التي تحب لكي تمنع نفسها عن الحب، التي تنصرف إلى عذاب نفسها خشية أن تفقد ما لديها، ولأنها تذوب في أشيائها تحمِّلني مسؤولية مشاعرها وعلاقتنا فأشعر بوحشة وحدتها وتداعيها إن أخفقتُ. ستعتب، شأنها دائماً، بصوتها الرفيع ومفرداتها ولهجتها الجنوبية المبرية، سأقول لها أن العتاب هنا للمكسورين فقط، المستضعفين والخائبين يا مروى. ستلعب بأساورها الفضية ومحبسيها بفصي الشذر، ستنغرز أظافرها الطويلة المطلية بعناية في خصلات شعرها ترده إلى الوراء بحركة عصبية وتعود لتتفحص أظافرها من جديد إعلاناً عن اعتراضها.

مراقبتي لـ نينا تجعلني أقلق بشأنها، رغم ما تظهره لي من اطمئنان وقناعة. صحوت ذات صباح فوجدت الشقة بلون أصفر، أوراق الملاحظات اللاصقة الصغيرة مثبتة في كل مكان في الشقة، أوراق مربعة صغيرة ملصقة على الأثاث، المرايا، زجاج النوافذ، الأرضية، الأبواب، الطباخ، الثلاجة وخزانات المطبخ. كتب عليها جميعاً " المعذرة". راعني منظرها، وكأني أشاهد فلم رعب. تلخبط فكري، وما أن قفزت تجاه غرفتها حتى وجدتها أمامي فصرختُ فزعاً. طمأنتني واعتذرت لإرباكها لي بهذه الفعلة. سكتُّ انتظر منها توضيحا بعد أن أخذ القلق مني مأخذاً. قالت بنبرة صادقة طبيعية بأنها لم تخلد للنوم بعد، وأنها اقترفت خطأ بحق نفسها البارحة ولم تجد طريقة مثلى للإعتذار من نفسها إلا هذه. تستأذن وهي تحاول أن تبتسم، تطمئنني ثانية ثم تستدير بهدوء لتدخل غرفتها.

...

نخرج معاً للمشي في الغابة. أتمنى بسري لو تحدثني عما يضايقها. 

أجدني أقول لها مختصرة:

-  آملُ أن تطلِقَ مخالطة الدنماركيين لساني في اللغة رغم ترشيدكم في الكلام، ولا بأس بالأجانب، يطلقون لساني بالإنكليزية.

تضحك. نتحدث عن أشياء تحيط بنا. هي تغبطني لجهلي بما يدور في هذا المجتمع، ولسذاجتي بالدفاع عنه. تحاول أن تقنعني بأن الغالبية من حولها ترتدي قناعاً. تستدير نحوي كلية وبصوت ضاحك في محاولة منها لتغيير الحديث تكمل:

- " هل تذكرين حفل التدشين الذي حضرته الإسبوع الماضي، الذي أحيته صديقتي بمناسبة شرائهما هي وزوجها بيتا جديداً؟ المهم، كان هناك موسيقى ورقص، شراب وطعام وكل شيء مر على ما يرام. اتصلتُ بها بالأمس أشكرها على الحفل فأخبرتني بأن إحدى المدعوات الممتلئات، كانت من الوزن الثقيل بالفعل، أذكر ذلك جيداً، كانت ترتدي حذاءً بكعب مدبب أضرّ بالأرضية الخشب أثناء رقصها. الأرضية الخشبية كانت من البلوط الباهظ الثمن وشركة التأمين لصديقتي لا تغطي نفقة هذا النوع من الضرر، لذا فقد ارتأى الأصدقاء أن تتصل صديقتي بالمدعوة الممتلئة لتسألها إن كان تأمينها يغطي نفقات التصليح في حالات من هذا النوع، لكن المدعوة الممتلئة تفاجأت واعتبرت في توجيه السؤال إهانة لها.

 أفكر فيما لو كانت نينا تتجاذب حديثا مثل هذا مع صديقة دنماركية. يصيبني خرس محاولة أن أخفي قدر المستطاع دهشتي. لكن جدتي تمرّ ببالي فأضحك بسري.

...

كلانا ننغلق على نفسينا عندما يصل الحديث إلى حد. غالبا ما نصل إلى استنتاج مقنع بأننا لن نفهم بعضنا أكثر من ذلك. تصرفُ وقتا أطول مع كرسيها. تأخذ منها مرحلة حكّ الهيكل والسيقان ومراحل طلائه وتلميعه ساعات كثيرة. تجلس لفترات طويلة دون أن ترغب بعمل أو قول شيء، وكأنها مقبلة على دخول مرحلة تجريبية جديدة. تنظر لي فأدرك عدم رغبتها بالحديث. أختار حينها أن أقصد المحلات العربية لأتسوق من أجلها، وإن توفرت المواد المطلوبة في السوبر ماركت القريب منا. مرأى انشغالي بالمطبخ يبهجها. توقد شمعة، بطقوس أشعر بأنها خاصة بها، تفتح قنينة نبيذ وتحضر كأسين لي ولها إحماءً للسهرة. تضع بخفة الصحنين الأثيرين لديها احتفالا بالمناسبة. صحنا الخزف الصيني من " رويال كوبنهاجن" بنقشهما بلون المينا. تدير الصحن وهي تغمز لي بعينها ليكون اتجاه نقش الوردة أمام الجالس. أقول لها بأني مازلت أجهل الكثير. تنشغل بتنسيق منديلين أزرقين يتوسطان الصحنين. أفتح علبة دولمة جاهزة، أمزج ورق البقدونس والنعناع والخس مع البرغل المنقوع وشيئاً من الليمون وزيت الزيتون، ثم أسخّن أخيراً حبات السمبوسة الجاهزة في الفرن فيكون عندنا عشاء دسم تكلله باختيارها لإسطوانة تلائم الأجواء. ارتخاؤها يجعلها تختار الإنصات أيضا، تأجيل ما تود قوله فأؤجل ما أود قوله من كلام جاد مزدحم في رأسي.

نتناول الحلقوم بالفستق وماء الورد للتحلية بعد العشاء. أخبرها بأنه كان أداتي لإبتزاز جدتي لأبي وهي الموصلية الأصل للحصول على بعض الغايات البسيطة فلم تكن من النوع الذي يسهل غلبته. لكن طرائفها كثيرة وربما ولكثرة تداول القصص والنكات من حولها فقد تلبس جدتي بعضها، فعندما كنت ألازمُ سطح الدار في الإمتحانات تحت حرّ الشمس، تصعد هي الأخرى وتنـزوي في ظلّ أحد الأسرّة لاتقاء الشمس، تعاينني أقرأ في كتابي رواحاً مجيئاً حتى الغروب، تتأفّفُ وأنا أعبرها مرة، مرتين، ثلاثين. أظنها مُشفقةً علي، متحملّة حرارة السطح من أجلي، وإذا بها تنفجرُ فجأة بلهجة موصلية معترضة متحسّرة على تبذيري وهي تتبع بنظرها حذائي أو نِعالي تتأسف عليه لتآكله من كثرة رواحي ومجيئي.

تأخذ كل منا جانبا من الأريكة. تنتظر بفارغ صبر تحضيري للقهوة العربية التي ترى بأني أجيد تحضيرها، بدون هيل أو سكر. أسرّها بأنني لم أتعلمها إلا بعد وصولنا للشام. تقفز لتمرح بصخب مع الطفلين.

وقد نستمر في جلستنا دون حديث، لكنني أشعر بأن للصمت روحا. هناك ما هو حقيقي يحيط بي ويربطنا ببعض.

...

الشهور تمرّ. الفصول تتغير. أكتشف بأن احتياجاتنا النفسية أنا ونينا في أزماتنا تختلف كثيراً، وهي لربما أدركت ذلك قبلي، لكنها منصتة أكثر منها واعظة. لا تبارح الشرفة طالما زارتها الشمس. تقرأ كتاباً أو تسمع موسيقى متقرفصة طوال المساء على الأريكة، أو تترك البيت ولا تعود إلا صباحاً.

وقد تختلق مناسبة ما لتكون قريبة أحياناً. بمناسبة سفرها لقضاء أسبوعين في استوكهولم تدعوني وقد بدأ الليل يخيم لتناول العشاء في المقهى القريب. أوافقها على اختيارها لطاولة على الرصيف. أحاول أن أستمتع بالأجواء من حولي مادام الطفلان عند أبيهما.

أشعر بلسعة الهواء الباردة، أتناول غطاءً صوفياً من على الطاولة الأخرى لأتدثر به. نعاود التحدث في الموضوع إياه لأقول لها:

- لا مفر من القول، تعبت من رفقة الطفلين والطريق الطويل من المدرسة إلى البيت سيراً على قدميهما الصغيرتين ذهاباً وإياباً كل يوم. بي ملل من مسئوليات البيت والتسوق والإرتباط المرهق بالأطفال، يخالطه بعض من خوف لشيء مجهول، قلق وحيرة من شأنها أن تثبِّطَ من عزيمتي.

صوت نينا فيه صدى وكأنه يتصاعد إلى أعلى مع هفهفات أضواء الشموع الموزعة على الطاولات. أبذل جهدي لأتشرب الكلمات التي تنطُقها تارة بثقة وثبات، وتارة إنما لتزرعَ الشك فيّ ليس إلا:

- ليس عيباً أن تتغيري، المحيط من حولكما قد تغيَّر جذرياً ولا سبيل إلا للتكيّف معه، استقرارُكِ سنة بعد سنة يولِّدُ نقاشاً لكل ما تقومين به وما يدور حولكِ أو يصدر منكِ ومنه، هذا أمر برأيي طبيعي. لم يكن إيقاع حياتكما ليسمح أو يتيح لكما من قبل التفكير بشكل خاص بشخصكِ وبشخصه، بنقاط اتفاقكما أو اختلافكما. وحده توقيت اتخاذك للقرار ما يدعو رضا لأن يقرِنَ قرارك بالمجتمع الغربي هذا ويعزوه لذلك. لكنه ربما كان على حق في بعض ما يقوله، الإختلاف كبير بين المجتمعين، أنا شخصيا لا ألومه، هكذا نشأ وتربى، وأنت ايضاً، فكري ما ذنبه، يصعب على الرجل التغير، أنتِ من ذكَرَ لي قصة الباميا والمعكرونة وشجاركما حول ذلك.

نينا تفهم ولا تفهم، قريبة وبعيدة. الأسئلة صارت تتعبني. هل نينا سعيدة؟ ما الهدف من حياتي؟ ماذا أريد؟ ما المقصود بالتطوّر؟ هل تغيَّرت بالفعل؟ هل عرفتُ رضا حقاً، هل أعرفه الآن؟ ما هي حدود الإنسان إن لم يكن له دين؟ لا يعترف بتقاليد وأعراف، ولا تحكمه سلطة اجتماعية، ما هي القيم التي تؤمن بها نينا؟ ما هي ضوابطها؟ ما معنى السعادة؟ هل هي مطلبي؟ ما الذي سأقرره بشأن تربية الطفلين؟ هل توفر الأمان لي هنا؟ هل الإبتعاد عن المشاكل اليومية العملية هو الذي يفتح لي باباً للبحث والسؤال؟

" إهدئي، إهدئي، إهدئي"، أخال الطرق غير آمنة.

...

جو غير متوقعٍ، غير مهيأ له إذ تشتّد الحرارة داخل المبنى الحكومي. نحن في لقاء آخر بشأن إتمام إجراءات الطلاق. وجه رضا وهو يدخل المكتب يوحي بالإستسلام. يبادره الموظف بسؤاله:

- هل فكرتما جيداً؟

 لا يأتي برأي أو تصريح، هادىء جداً. ينهض ليعتذر فهو متعَب ويغادر.

...

الجو خانقٌ في الباص. تعتريني حالات مزاجية متعاقبة. صيف متأخر آسر في كوبنهاكن لكنه يزيد من تأرجحي وتشوشي.

سأبني مملكتي، أمارس هوايات جديدة، أتعلّم لغات أخرى، أخلو لنفسي، أسافر مع الطفلين ونلعب سوية.

سأنطلق حيثما شئت في هذا العالم الرحب.

أقصدُ البحر، أعوم فيه بلا خوف، أشرب ملحه، أنام على رمله الحار لساعات، ألتذّ بنعومته.

لا أكف عن امتناني لهذا المجتمع الذي يمنحني فرصة التنعم بكل هذه الخصوصية والحرية. لكن النهار يترك للمساء لوعتي، عندما أوقد شمعات نينا وأدير اسطواناتها. أبكي اشتهائي للحياة، روعتها وسمائها المفتوحة. أرغب بالصلاة بكل الأديان. موسيقى الجاز الناعسة المنبعثة من أقصى الصالة تحرك فيَّ شجنا وراحة غامضة لا تخلو من سأمي ثانية للتفاصيل اليومية المتكررة وطول ساعات النهار ووجوم الليل. يضايقني شعوري بارتباطي بغير نفسي.

نقرات البيانو الخفيفة، توقظ صورا وأجواءً من شيراتون البصرة في رأسي، كانت نغمات لها أجنحة، أتذكر السجادة الزرقاء الممتدة في الصالة الكبرى، تبدو بلا نهاية، كل شيء يبدو متلألئاً شفافاً، الحديقة المائية الجانبية التي تطل عبر الجدار الزجاجي وبرد أجهزة التكييف المركزي، أحنّ ربما لأول مرة إلى ذلك الإخضرار النهاري المضيء.

...

أجدني عند بابه مساءً لأخذ الطفلين بعد قضاء العطلة الإسبوعية عنده. حذرة وهو يدعوني للدخول. لم يتغيَّر مكان قطع الأثاث، الأريكة الجلدية، الستائر، منفضات السجائر، قميصه الأبيض الذي لا يخفي الكثير من تفاصيل صدره العريض.

الشقة بحالة سيئة. الطفلان ينامان في سريرهما في الغرفة، يقول. تفضلي. رائحة النبيذ في أنفاسه وأنا أعبره والزجاجات الفارغة أمامي تشي بشيء.

نشاهد الكثير من الأفلام، نطالع الكثير من القصص، نسمع من المقربين منا أكثر مما يجب من الأسرار. للنظرة سر، للمسة سر، لأطراف الأصابع أسرار، للبيوت أسرار. هل ما يحصل هو تأثر بما يدور؟ لا بدَّ وبفعل سبب ما محدّد يبدأ المصفوف المتراص الجامد في دواخلنا بالتزحزح، دون أن ندرك ذلك. هل يسبقني وعيي بمروري به، هل يخطر ببالي ألف خاطر وأنا أدلفُ من الباب؟

في طريقي إلى غرفة الأطفال يمسكُ بي ويعود بي بيديه الإثنتين إلى الأريكة. يُقعدني بقبضة يدين قويتين عازمتين على فعلٍ.

أبركُ في مكاني دون أن أتكىء. تتلاحق أنفاسي اضطراباً. وكأن مشاهد فلم تبدأ دورانها في رأسي.

النوافذ مشرّعة، الضوء النهاري المتأخر غريب، الهواء يلعب في الشقة خفيفاً باردا... وأنفاسنا أعرفها.

يزيحُ جانباً بقدمِه، بحركةٍ استعراضية سريعة لبطل فلمٍ، الطاولة الواطئة خلف ظهره. يزحف خطوتين قصيرتين بركبتيه تجاهي، سبق وان شاهدت مقطع الفلم هذا، يداه ما زالتا ممسكتين بذراعيّ وأنا في طريقي إلى الإعتراض على كل شيء؛ تنفتحُ ساقَي في غفلة عني لتحتوي نصفه المقابل بحبٍّ وهو يوغِلُ بإلتصاقه بي، بينما تفكّ يداه قبضتيهما عن ذراعَي وتروحان تنضوان عني قميصي. كنتُ سأعترض، وددتُ على الأقل أن نتحدثَ أولاً. أشمّه، لا يصدرُ شيئاً مني، أتابع حركة  يديه وهما تزيحان عن جسمي ما يعترضه، أشمُّ الجلد تحت شعره، أشتمُّ المكان الصارخ به حولي. أنبسُ - لا أظنُّ الصوت يطلع؛ " لستُ متهيئة، لا، لأعود في الغد إذاً".

لا ينظر إليّ، صوته واع ناشف: - "نهلة".

تتململ يداي في مكانيهما دون أن تحتجا. مفاجيء ما نقوم به. أسكتُ بتقبيله المتعجل، فورانه المبكِّر: - "نهلة". يوقدُني نداؤه، توقدني أسراره، أدوخ عندما يهذي بفعل الحبّ، لكنه مبكّر. لم أسرّه بذلك لأشتاق كل مرة، له فِعل مسكِر، لا بأس بالأسرار الحلوة بيننا، هي ما يربط البشر. صوته يترجرج لكنه يستعيد قوته:- " نهلة". الدنماركيون لا يبقون على سرٍّ، يهذون في صحوهم وفي نومهم، يتفوهون بكل شيء، يقضون على كل الغموض الذي يُبعَثُ مع البشر لحظة الخلق.

- " عودي". الدهشة تكبر في تفجيره الحب فيّ وتنهمر الأسرار بإيقاظه العنيف للشهوة فيّ. أتركُ لخدَري وأنيني أن يُوهمني ويوهمه بضعفي إلى الأبد لأغيب، ممتلئة حتى الرمق الأخير بالرغبة العارمة فيه، "ما نفعلُه غير مقبول، نحتاج إلى دهر لنمحوه".

لكنه متعجلٌ لاهث مثل يديه، يغط جسمه بالعرق: - "ابقي معي، أريدُكِ، عودي إليّ". نعود إلى الأرض كل مرة، يضيق حتى بالفرشة من تحتي. يتوسل. ليس لي حواجز معه، ثانيةً أَدُلُّه دروبي، يملك مفاتيحي فتعود رغبتي لتصير عنيفة متوسلة وكأنها، ككل مرة، الأولى والأخيرة التي يمنحني اللذة فيها، الوحيد الذي يمنحني إياها فأعطي. " عودي إليّ"، متعجل، أودّ أن أتوسّل، أنْ، لكنْ لنا لغتنا؛ - " الآن"، يفهمُها، يستغلّها، يستجيب لها، صوتي يطلع، أنْ هي اللحظة.

مسكونة بخيبته، بحماقتي، محكومةٌ بسكونِه. يحضُرُ ماثلا كل هذا أمامي فيفسد علي ما يفسد. أبقى مبعثرة عارية ممدّدة على الأرض. يلتقط قطعه، يتركني ويتوجه إلى الحمام.

...

لماذا نتمسّكُ بأخطائنا؟ ماذا في هذا، قد تصدر نزقاً منه، نزقاً مني وهو يغفر لي كل شيء؟ يقول لي إنه اختلاقي أنا لأسباب أضيفها إلى كومة الأوهام والخيالات التي رحتُ أجمعها منذ التقينا.

أعود له في صباح الغد لأخذ الأطفال، وقد غيَّرتُ من هيأتي. مشيتُ طويلاً ، تهاديتُ لأتقرّب من قناعة ما؛ نحن نضعفُ أخيراً أمام الحياة، إن لم تكن قناعاتنا راسخة، لا يُقبَلُ دخولُنا ساحة عراكِها، الحياة لا تَقبل إلا بِدَم المحاربين. نتراجع، نختار أن نضعف بالتالي أمام مرتكزات نشأنا وتربّينا عليها، وستلحقنا اللعنة إن تمردنا عليها؛ ثم، لِمَ كل هذا الخراب؟ كما إننا متفقان حول تربية الأطفال، في الفراش وإدارة البيت مادياً.

أطرق بابه طرقات متلاحقة خفيفة وأدخلُ واثقة، لكنه يبلّغني خلف الباب بوصول زوجته القريب من دمشق.

 

مروى البصري

1

ليس عندي غير قطعة قماش هندي ذي نقش لفيلة مطبوعة بألوان شاحبة تنسدل على النافذة. وإلا فالغرفة التي حصلت عليها مؤخراً فارغة إلا من سرير، مرآة صدئة، ألوان، فرش منقوعة، عصّارات مبعثرة على جرائد مصفرة، بغطاء وبغير غطاء، علب لبن خاثر وآيس كريم بلاستيكية فارغة بأشكال مختلفة تملأ منضدة حقيرة بصف السرير، يَبسَ اللون فيها وتفطّر. أشعر براحة الآن. رميت كل شيء، مزقتُ كل شيء. لا أريد معونة من أحد. لن يستدلوا على طريق لي. لا البلدية ولا البنك، لا جاك ولا المحللة النفسانية التي قالت لي؛

- الذاكرة ليست دائما اليقين، بل أيضا ما يخيل لنا قد حدث أو يحدث. قد تكون الذاكرة غادرة وهي تعيدكِ إلى الماضي دوما.

في باص بلدان الأمان الأصفر، في قطار عواصم التيه الأحمر نُخفي وجوهنا عن بعضنا بين طيات كتاب أو جريدة أو نلزمُ الصمت ونيمم وجوهنا شطر النوافذ لئلا نكشف عن انتمائنا الواحد إن تصادف ذلك. أشتاق للغة، للدردشة، للعب في الكلمات. أنصتُ كلي لحديثٍ عراقي في المقعد خلفي، صوت عالٍ تُصعِّده انفعالات غير مضبوطة في غمار مناقشة موضوع لا أهمية له. أشعر بروحي تهطل مطرا مدرارا، ماء يتعكر فيه الحزن والدهشة وشعور بالبغض من حالي. أسأم انكليزيتي الركيكة، دانماركيتي السيئة والإستعانة بالمترجمين والمترجمات. يعرفون كل شيء عني، أينما وجدت وكل ما فعلت وكم كرونا سحبت بالناقص. أشعر بأننا مثل عينات تحت عدسة مجهر دوما. أمزِّق الرسائل الحكومية التي تنـزلق من تحت الباب؛ الرسائل التي تثير الرعبَ فيّ دون أن أعرفَ السبب، مثلما يثيرني استدعاء المشرفة الإجتماعية لي كل مرة وكأني مُلاحقة. يخيفني الضوء الأحمر الذي تضغط الزر لتشعله ابتداءً للمقابلة. تخيفني تلك المسافة القريبة وهي تجلسني أمامها في المكتب وتغلق الباب. يثيرني تحقيقها معي وتلاوتها للقوانين كل مرة. أشعر بأني سأختنق ويغمى علي إن لم تنته الآن وتسمح لي بالإنصراف. وكأن كاميرات تلاحقني أينما تحركت، لا مفرّ إلا في حرق رقمي الشخصي وإتَلافِ اسمي. دمعي يجف، حتى إنني وحين أذكر أمي، نرجس، نهلة، أخي، عدنان لا يبقى لي ماء في عيني.

...

السرير الضيق الخاوي في غرفتي يشغله شاب مقدوني يصغرني سنا، نعمل معا في دار للعجزة. أعود لأجدَ الغرفة مهيأة والطعام معدّاً على الطاولة الصغيرة في الزاوية. يغسل ملابسي في غسالات المبنى في القبو، يصعد بها مصففة ممسدة. يحكي لي كل ليلة عن جده والأرض والحيوانات وموسم الحصاد وتربية النحل والألعاب التي كان الأولاد يلعبونها.

يتهجى دروس اللغة لي، يمشط شعري، بينما أحدثه كل ليلة عن نرجس:

- " نرجس المستبدة في حزنها، غيرتها، تملّكها. تدير البيت بدل أخي الكبير المنكسر. تفتح الدار بعد وفاة أبي لتصير أشبه بمزار. يصير بيتنا محطة للقادمين من الحلة، كربلاء والسماوة. نسوة لا يعرف اللون طريقاً إليهن. غير الأسود لا يتواطن مع همّهن لون، غير الأسود لا لون يعبّر عن الحزن المهيب. يدخلن بشكل إسطوري، دون إنذار ويتربعن في الحوش، يشكين قليلا، يضحكن قليلا، بينما تتصاعد خطوط دخان سجائرهن في الحوش، تمتزج لتصير غيمة ساكنة فوق رؤوسهن. لهن أبناء أو أخوة، قيل لهن، أو كان لهن، في سجن البصرة لأسباب سياسية أو دينية، لهذا كانت رحلة الصيف هذه. يتبادلن صور المفقودين أو المسجونين أو المعدومين المدسوسة في حمالات صدورهن. أختبىء في الغرفة، أتقرفص على الفراش أنصت لبكائهن، تفجعهّن، وفجأة لمداعباتهن الوقحة المفضوحة لـ نرجس، بينما تنهمك هي  بإخلاص مع زوجة أخي في طبخ وجبة الغداء كي يأكلن قبل أن يتابعن مسيرتهن. تنبري إحداهن قائلة لها:

- المرة القادمة ستكون غرفتك محجوزة له وفراشك الواسع مثل شعركِ هذا الممسَّد سينخبص وينتفش، لن نراك حينها، كان الله بعونه، ستخنقينه والله، تمزقينه هو وشراشفكِ التي تحرّمين علينا النوم عليها، وتطلعين دستة عيال منه في ظرف سنة.

يغادرن كما جئنَ مثل الحلم، مثل قصص تحكي عن زمن قديم تعيش فيه الرعية تحت ظلم والٍ جبار لا يجرؤ أحد على معارضته ولن ينتهي جوره. رحلة الشتاء والصيف مِن وإلى سجن البصرة، على مبعدة عشرات من الأميال عن مركز المدينة. التهمة الموجهة إلى أبنائهن مجهولة، المحاكمة كلمة تدعو للضحك. وقد يحصلن على معلومة بسيطة من شرطي تعس هرم تخص السجناء أو يعدن أدراجهن خائبات. يغادرن وهن يمطرن البيت بالدعاء الفسيح، الخير والعَمار لهذا البيت الذي يؤويهن، يخصَّنَّ "نرجس" بعشرات الأدعية لتنال مُرادها وتُرزق بعريسٍ، بينما أضرب رأسي بالجدار مرة، مرتين لأعود إلى وعيي.

نرجس وفي حالات صفائها تصير دافئة حنينة رهيفة، لكنها تبعد فجأة، تدخل محرابها كافرة بدينها، بالبلد والأهل، تنظر بعين شك وغيرة إلى الأطفال. كانوا يضطرون إلى حبسها في غرفتها. يركبها الجنون فنخشى الفضيحة عندما يحترق بنار شتائمها الريس والأب والأخ. عندما صحتْ الصبح ووعت من جديد إن الجثة تعود لأخي، خرجت إلى الشارع بدشداشة النوم تنادي " يا عالم، تعالوا شوفوا"، راحت تمسك بالمارة الواحد بعد الآخر لتبلغهم وهي تصرخ: - " يومكم قريب يا ظلام، يومكم قريب يا ظلام". الجيران هم من أنقذنا لئلا يصل الخبر لرجل أمن مدسوس بيننا. كانت تركل وتهدد عندما أدخلوها بيتهم. ابتلعتها موجة كآبة حادة ورفضت أن تستجيب لنداء أحد بعدها.

تركتْ العزاء الذي أقامته والدتي على الطريقة السنية بعد وفاة أبي- بعد منتصف الليل يضرب الباب فيروح أخي الكبير ليفتحه. يصر أحدهم على مثول أبي الذي توقظه الجلبة فينهض من فراشه وهو يستعيذ بالله من الشيطان. كانوا ثلاثة، يقفون في مقدمة الإيوان خلف الباب. قلب أبي توقف بعد شهر. لم يحتمل مرأى الجثة المرمية عند أقدامهم عندما طلبوا منه التوقيع على استلامها وحذروه من إقامة فاتحة على روح الميت. وبعرف نرجس لم يفجع بوفاة أبي غيرها. نادت على أخي الكبير وعنّفته. شدّت شعرها ولطمت. صرختْ بوجه الملاية سلّوم وغادرت البيت. لها الحق فالملاية سلّوم بقراءتها الوئيدة البليدة للقرآن ذات الوتيرة الواحدة جعلت النسوة المتربعات على الأرض يتململن في أمكنتهن. حتى أنا كنت قد سرحتُ ولهوت بعيدا عن الحزن الذي أقعدني في مكاني. مع ذلك فقد كانت سلوم بنظرتها الآمرة، بكل ما تملكه الملاية من سلطة تقرر مثلا بطريقتها السنية متى ترتفع أصوات النسوة ندبا ومتى يتوجب أن تنخفض. وللعصمة المخلوعة عليها تركت لربطة شعرها أن تنسدل كاشفة عن ضفائر رفيعة بيض محناة. يشتد القصف حتى يكاد القلب أن ينخلع من مكانه، تتغير نبرة الملاية سلّوم وترفض بعدها إكمال ما بدأت به رغم توسل النسوة القليلات. أموت كل يوم. متُّ لموت أبي، لإعدام أخي، لفقدان أمي لبصرها. فكرت بالخلاص بعد ابنتي، ولولا نرجس وانقاذها لي كنت التحقت بهم. الطرق بهيئتها لم تكن تمت لي بصلة وما تزال، العمارات، الجسور، البيوت، الأشجار، كل شيء يتشابك ويلتف ليخنقني. لعلنا لم نفلح في تمويه الموت فاهتدى إلينا. أجل، أقسمُ، نعود من المقابر فيتبعنا، يختفي تحت عباءاتنا، يسبقنا، يدلف من شبابيكنا ويقبع في الزوايا المظلمة في الغرف يستنشق زفيرنا. أقول لنرجس ليتنا نحرق ثيابنا المبخرة بعطر المقابر، أو نقوم بغليها بقدور عاشوراء في العراء، علّ هناك من يتبرع ويصبغ جدران بيتنا قبل أن نعود، عل هناك من ينزع رقم الدار ويغير من لون الباب وهيأة الشبابيك ليضلل هذا الموت العنيد.

نرجس سطت على سرير أبي الواسع وفراشه الذي مات فيه. كانت دوما معجبة بالسرير. عصّبت رأسها وراحت منهمكة حالما انتهت الثلاثة أيام، دون إذن أو سؤال، بتفكيكه لوحدها. نشرت الحشية واللحاف في السطح ليتعقما تحت الشمس، ثم قامت بإخراج أعمدته النحاسية من غرفته إلى الحوش تُلمِّعها بالقطن والخل. تُخيط " كِلّة" من الساتان الأبيض لجوانبه الثلاثة ليشبه السرير مسرحاً في غرفتها. لا تعترض أمي على استبدال سرير بآخر، وأخي الكبير صار بعد وفاة أبي يقضي جل وقته في الصلاة، يرضى ما دامت النساء راضيات.

لكنها تدثّرنا مساءً عندما نلتم جميعاً على ذلك السرير العالي الكبير المعطر بماء الورد، تُطفىء الضوء فلا يبقى غير ضوء القمر يطل من نافذتها ساطعاً. تقصُّ لنا قصة المدينة ذات الجزر الأربع التي حكمها شاب بعد وفاة أبيه الملك وقد تزوج من ابنة عمه التي تحبه ويحبها حتى اكتشف في يوم بأنها تخونه مع عبد أسود، تزوره كل ليلة بعد أن تضع الشراب المنوِّم لزوجها، وعندما همّ الزوج الملك بقتل العبد غضبت ابنة عمه غضبا شديدا وسحرته فصار نصفه الأسفل حجراً ومن ثم سحرت المدينة وأهلها بصنوفها الأربعة المسلمين والنصارى واليهود والمجوس، صاروا أسماكاً بأربعة ألوان تحمل النقمة في بركة ماء تحيطها أربعة جبال قاتمة بدل الجزر.

- وهل هناك سحر يا نرجس، أ تؤمنين به؟ ترفض نرجس أن تجيب، تكمل سرد قصتها، بينما تقفل فمي بيدها مخافة أن يحدث لي مكروه.

- هيا نامي

أقول للمقدوني:

- " نرجس تخشى عيون نهلة الزرق. أضحك عليها، أصيح بها:- أيتها الخرفة، العيون الزرق بحر يعوم فيه النظر دون خوف أو شبع، كيف لذلك اللون أن يكونَ مدعاة رعب؟ لكن الأمور ازدادت سوءاً وانقلب الحال إثر الحادث فجأة. عمّ الحي خوف، لفّت النسوة أطفالهن تحت عباءاتهن وهن يعبرن نهلة، ومَنْ يقول عنها يهودية ومن يحتمي بالوَدْعة وسن الفيل. يقاطعها الأهل؛ - "فأل سيء يصيبنا بسببها"، يرددون. - "هذا الفأل السيء"، "هذه اللعنة". لا أحد يفهم، أسفح ألواني غضباً، أُمعن النظر فيها، أمزجها بأصابعي، أتحسس مزجتها بأطراف أصابعي، أفركها، أغمس كفيَّ كلتيهما فيها حتى تلتذ حواسي وتبرد روحي. أرمي بثيابي لألطخ جسدي، ألوِّن وجهي وشعري. أسمع كركراتي، كيف يمكن للون أن يكون مؤشر حسد، موتاً، عقماً أو غيرة؟ ليس اللون مؤشراً كما تراه نرجس بل الغريب. نرجس تراني وتحار في أمرها. تود أن تبطل السحر الذي ابتليت به، تتفحصني، أضحك، تمسك رأسي بكلتا يديها وتتحرك شفتاها حركة سريعة وهي تنبس بالحروف وتقرأ الآيات والسور. منذ الصغر، وهي تركض خلفي، تسرع لتضع في جيبي مِلحا قبل أن تستقبلني صباحات تلك الدروب. كل ما هو غريب مرعب، كل مجهول مخيف والغريب، تهمس نرجس لئلا يسمعها الشيطان، مجهول لا يُعرَفُ سرّه"

- "علّنا نستنجد بـ "إبن فضلان" ليحدِّثنا عن جواري الشمال اللاتي قام الفايكنغ ببيعهن لنا فخشيناهن. قاماتهن فارعة، وعيونهن زرق صافية، متاهة، ربما لأنهن يخطفن ألباب رجالنا، أم لأن رجالهم سيفزعون العالم ذات يوم بقرونهم المعقوفة، قاماتهم الضخمة، سكاكينهم وفؤوسهم القاطعة؟ يطلع لنا صوت الحاكم جهورياً ليقول لنهلة:

- " أنتِ دخيلة علينا يا نهلة. جئتِ من الفايكنغ قبل ألف عام، ابتاعكِ العرب بقرطين من فضة. لا مكان لك بيننا." ضحكتُ وبكيت عندما أكتشفت بأن الأمر متبادل في الشمال المتقدم. سأخبر "نهلة" عندما نلتقي بأن العيون السود أشدّ ما تخشاه الأم على ابنها هنا، وإن كان ذِكْر الأمر حبّا للتندر".

يدنو النوم من عيني المقدوني فأهزّه:

-  أسمع أصواتا لا تخطر على بال. صوت نرجس ينادي علي الآن بوضوح. ألا تسمع؟

أقف أمامه على السرير وأصرخ بأعلى صوتي:

 - نرجس، أسمعكِ، تعالي إلي!

يردُّ علي مقلداً صوت إمرأة نعس بتعليق خبيث:

- سأصغِّر عمري في شهادة الميلاد أولاً.

- لا، لا تفعلي، أقسم بأني سأجد لكِ عريساً كما تشتهين. هل تعلم، ستتنهد من دون شك، لذكر سيرة العرس وليلة الزفاف، حسبها أن يُطرَق هذا الموضوع، تنفتح عيناها المغسولتان من الكحل، المنزوعتان من الهدب، محاولة أن تخفي ابتسامة فيها خفر وجوع، وسأضحكُ ملء فمي لتوقعي لردة فعلها. تتلقى ضربة حنينة مني على كتفها وأنا أقول لها "ليلتي أنا يا نرجس مخيِّبة، صدقيني"، يصعبُ عليها فهمي. تضعفُ تماما أمام مشاهد الغرام في التلفزيون. تنسى كل من حولها وبعفوية وبصوت عال متوسل مليء بالحسرة تتمنى لو إنها البطلة التي قبّلها "يحيى شاهين" أو "محمود ياسين". وعندما تختم قصة ليلة من الألف ليلة  يبدو عليها التعب والحسرة والحلم وهي تقول: "وباتا متعانقين حتى الصباح". لا أستطيع تخيل حجم صورة الرجل في خيالها، أو حجم حاجتها له. أتقيأ ظلم أهلي. وفاة أمها، زوجة أبي الأولى، يحكم عليها بأن تهبّ حياتها للآخرين، تنسى عرسها وتروح بنفسها لتبحث لأبيها عن عروس وتخيط له فرشة سرير عرسه. هي تتفهم فراغه رغم أنها هي من يغسل ملابسه ويكويها، من يطبخ لقمته، من يمسح حذاءه، من يأتي له بإستكانة الشاي، أما فراغ فراشه فلم يكن جديداً عليه؛ أمها، و مذ خلّفتها هي وأخاها وهي مريضة. لكثرة ما يشغلها الرجل يخيَّل إلي بأن من المستحيل تقدير حجم المشكلة. يصادف، ومذ كنت طفلة، أن أبذل جهدي من أجل أن أتمكن من فهم تلك الحقيقة، بأن الرجل حين يفرض نفسه فلرجولته بالنسبة إليها، سواء كان سائق حافلة، أم نائب عريف، أم مدرّساً، سواء له ماض سيء أم أصل مختلف. الرجولة ليست سوى ذَكَر ليس إلا. المفهوم بالنسبة للمرأة حينئذ يكون مختلفا، تتجمعُ فجأة شروط عدة لكي تُعدّ المرأة أنثى يُرغَب بها كإمرأة، حبيبة و زوجة وأم.

...

كان المقدوني مأخوذاً بالسوالف مثلي، اتفقنا على سياسة الحكايات مقابل الغذاء:

- " كانت نرجس تحكي لنا حكاية السلطان للمرة الألف لتخفِّف من شدة وطأة الليل وهو يحلّ، الظلمة في البيت العتيق، سقفه المظلم وما يسكنه من جن مارق وعفاريت رؤوسها في السحاب وأقدامها في الأرض. تقول لننس الغائبين ومَنْ منهم في السجون، المحبين الذين لا يَصِلون، الساهين عنا والهائمين، المنتحرين والمنفيين، والأهل ومن يقسون ونبدأ حكايتنا. صوتها المُتعَب يتغير، أحيانا بإضافة المزيد من الأحداث التي لم نسمعها، وأحيانا باختصار شديد وملل، هكذا نرجس، تارة يتدفق حنانها كبحر ويصير قربها كالروح، وتارة تبتعد، تغدر بنا، تتجنّى، تحنق، تتسلّط، تضنّ، تغار، لكن الأسوأ عندما ترفض أن تغني لنا أغنية الراعي ونايه المسحور الذي يحكي قصة إبنة السلطان التعيسة التي قتلنها بنات عم حبيبها السبع فتحولت قطرة من دمها إلى قصبة صارت ناياً.

- " اسكت اسكت يا راعي"، عندما أستحضرُ صوت نرجس بكل ما فيه من حزن درامي وهي تغني لا أستغرب نشيجي، وتحّرك جبلٍ من الحزن والشهقان في صدري كلما بلغتُ الذروة في الحب".

السلطان العادل يتمنى أن يكون له ولدٌ، يحزنُ حُزنا شديدا بعد أن يؤكد الأطباء له عقم زوجته. يحصل على المولود عندما تمرُّ عجوز بباب القصر مرّة و تسمع عن سبب اكتئابه. تُعطي زوجته ثلاث بيضات، يتناولها السلطان خطأ، يحبَلُ إثرها في ربلة ساقه ويلدُ بنتا. دائما وأبداً وحين تصل هذا المقطع تشرعُ بترديد حلمها المتكرر، إنها ستحبل مثل مريم العذراء وسيهبها الله طفلاً من ربلة ساقها. أنتظر اللحظة التي ترفع بها يدها عاليا لتهوي بها بقوة على صفحة إحدى ساقيها النحيلتين اليابستين الممددتين أمامنا، يشرئب عنقها، تنط عروق رقبتها الزرق وهي تدعو إلى الله، تبين حشوات أسنانها الرصاصية وفراغات الأسنان المخلوعة جميعها وهي تتضرع إلى الحسين، العباس، الكاظم والرياحي كي يتحقق حلمها. أثر الصفعة على صفحة ساقها شديد الإحمرار، صوت الصفعة يتردد حاراً في آذاننا، وجوهنا  تتعكر للتوتر العالي الذي يلمُّ بالجو حينها، ما من شأنه أن يُلقي بنا في سابع نومة. نرجس ورغم أنها تشرع دوما بتوزيع اللوم على الكبار، تُشعرني بذنبي على السواء. وكأن معنى الطفولة هو الإحساس بالذنب. شعورٌ يظلُّ قويا ملازما لي رغما عني. لابد لي أن أستجيب لمدرار دموعها على الخدين. لكن الإحساس وهو يلازم المرء حياته يصير وقعه أكثر وأكثر شدة، ذلك يعني بأن المرء لن يُسعِد أحدا أو يُسْعَد.

...

سيسافر لأعود وحيدة. ذات جمعة وقبل خلوده للنوم يخبرني المقدوني بأنه سيسافر ليأتي بعروس له. نضحك كثيراً تلك الليلة وننام قريبين جدا من بعضنا. الأيام تتوالى. لا آبه كثيرا لمن أختار. ذلك متروكٌ للصدف ودرجة وحدتي. عندما تشغلني الألوان لفترات لا أعي المكان من حولي، لكنني أتجاهلها كرهاً لأسابيع عندما يفزعني وجودي العاري، هنا وسط برد الغرفة والثلج بالخارج، حين تأبى يداي أن تقتربا من ورقة أو لون. النقود فقط تضطرني وتنتزعني من السرير لبيع لوحة أو للبحث عن عمل.

أفكر بالاتصال بـ نهلة. لكن حاجتها لي كي أنصت، ولكي تتناول معي طبق البرياني المفضل تنتهي. هل ستتعرف عليَّ؟ لم أعد هذا الطبق منذ تلك الليلة. أنا أمقتُ إعداده في الأساس بكل تلك الضجة التي تصاحبه والفوضى التي يخلّفها، وكأن الحياة خلت من كل لذائذها. لكن نرجس وهي تختفي في المطبخ لساعات طويلة لتعد لنا الدولمة إنما تعلن عن حبها لنا، احتفالها بلمّتنا لتقدم ما عندها. تجهد لجمع ورق العنب، اليانع الناعم منه. تعد خلطة بهاراتها وتحمصها من قبل ليلة قبل طحنها. تنهض في الفجر، تسرع لتظفر بالخضرة من قطف أول الصباح في السوق، تعود لتفرقها وتنقيها بعناية لتمزجها مع الرز وتشرع بلف الحبات، واحدة بعد أخرى حتى يمتلىء القدر الكبير فتجهّز مرقته. وهي تقْلِب بذراعين متعضلتين يابستين قِدر الدولمة في الصحن تظهر حركة تشير إلى خبرة ودراية، تتعالى صيحات الإعجاب للرائحة النكهة والطعم الأشهى فتلمع عيناها زهوا وحبا وتشبع بتمتعنا.

انبهاري لما ورَثَتْه نهلة وشعرتُ بافتقادي له يختفي. ليس بسببها وإنما بسبب الحالة التي أُصِبتُ بها حال وصولي هنا. تختفي كل أشكال الدهشة عندما يحلُّ عنصر التوثب محلها. أفزُّ ليلا لأجدَ يدَي متقلصتين بقبضتيهما وأظافري الطويلة منغرزة في لحم راحتَيْ يدَي. أفزُّ على صراخي، أوقد المصباح فأجد لحافي ملطخا بالدم. ذلك الوفاء يحلُّ محله شرط الواقعية والمنطق. هل يمكننا التواصل بعدها والدخول في حوارات حقيقية؟ يصعب كل شيء ويتعقد. هذا المجتمع أماط اللثام عن كل شيء ولم يبقِ على شيء؛ ما نحن غير كتلة من المشاعر والأعصاب المتوفّزة والقيود. يدخل هنا كل شيء في حساب الربح والخسارة، التمدّن والفردية، أما الحرية فهي هناك، لدى الناس هناك عندما تسير حياتهم بكل الإتجاهات وفق ما يشاؤون هم وما يطمحون، لا قوانين مكتوبة أو غير مكتوبة تسيِّرهم. هناك فقط يتحقق شعور المرء بكماله، برضاه عن نفسه إن رغب. هذا الشعور لا يكون بمتناول أحد هنا مهما فعل، من الصعب الحصول عليه وسط تعقيدات النفس المتحضرة. هؤلاء المترفون المساكين يظنون حقا أنهم مترفون.

هل يمكنني رفع سماعة الهاتف الآن لأبكي في أذن أخي. هل يمكنني التواصل مع نرجس، هل تدقّ نهلة الباب فجأة لتقول لي بأنها اشتهت تناول الغداء معي، فأستعير لسان نرجس وأجيب بحب نقي خالص مثل نرجس: " كِلّ الهَلا". هل يمكنني الضحك بسبب أمور صغيرة كأن تردد نرجس أسماء خمسة من الأطفال من حولها قبل أن تنطق باسم من تود مناداته وهي تشكو الزمن وما فعله بها.

- " نرجس هيا حدّثينا حديثا نقطع به سهر ليالينا. فتقول: "حبا وكرامة".

أعود إليها بثوبي الأسود، بعد خواء حضني، صغيرة أكاد أتكور في حضنها: " بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد بأن الغزالة  المسلسلة هي ابنة عمه المسحورة، اخرجي إلى صورتكِ الأولى فظهرت صبية غراء بهية وراحوا مسافرين أياما وليالي حتى وصلوا شجرة وسط مرج، وهاج البحر العجاج المتلاطم الأمواج وطلع منه جني طويل القامة ضخم الهامة واسع الصدر، وخرجت الصبية من باب سري للقصر وجاءها عبد فعانقها وواقعها حتى الصباح، سلّ الملك سيفه وضرب الإثنين فقتلهما في الفراش، وتعجب شهريار غاية العجب واهتز من الطرب وقال والله ما أقتلها حتى أعلم بقية حديثها".

يعترض أخي الكبير على حكاياتها التي لا تليق بالأطفال بتلك التفاصيل التي تسردها. لكن " نرجس" توجه إليه نظرتها تلك فيعود ليدخل غرفته.

...

الصدفة تجيء مرة بإحدى الرسامات، صديقة تتعرَّفُ عليّ مؤخراً عن طريق ماريا وتودّ رؤية مرسمي. الشمس تميل إلى الغروب. تتوهج النافذة المطلية من داخلها بأحمر شفقي صارخ يزيد فجأة من إثارة جو ما في غرفتي. قالت بأن اسمي يعجبها. تخلع أثناء ذلك ملابسها وتنطرح على السرير طالبة رسمها عارية. أتذكر " نهلة" وهي تغفو في غرفتي، على سريري، عندما أتسمّر عند طرف السرير متأملة تفاصيل جسدها الذي لا تحرص كثيرا على إخفائها، شعرها الأصفر الثقيل متشابك، ملقى على وسادتي وهو يغطي جانب وجهها وفمها؛ جسد أبيض بارز التفاصيل يشع قوة، وجه، عنق، يدان، ساقان. تتململ يدي توشك أن تمس طرف الثوب لترفعه. أتأمل الصديقة الزائرة مسترجعة إيحاءاتها المرة الأولى، الثانية، الآن في طريقها إلى الغرفة. تنادي: "ماروى" بوجه ضاحك صريح وارتفاعة حاجبين يطرحان سؤالا محرِّضا أفهمه، ولا أفهم بالمقابل ما يعتمل بداخلي.

...

أختنق بجو الغرفة المشبع بالزيت والدخان. الغرفة لا تسعني واللوحة لا تقوى على حمل كتل الألوان التي تتراكم على سطحها، أضيف وأضيف. أنظر إلى النافذة ثم أبتعد لأرى ما تنتهي إليه اللوحة. الفضاء أوسع ليستوعبني لكنني لا أقتنع. أقلّب اللوحات المسندة إلى الجدران من حولي. مخططات صور جوية للوطن، القديمة منها والحديثة. أهرع إلى الشباك لأفتحه إلى الخارج. أدفع درفته كي أقف على طولي استطلع المشهد من الطابق الخامس. لوحات ضخمة لخرائط هندسية عسكرية متحركة. نقطة النهاية أمامي في الأسفل على الشارع. المشاركون في الماراثون ينتهون عندها، نسوة يرتدين الأسود الكالح المهلهل، بلا أرقام، رجال بزيهم العسكري المغسول الحائل اللون. رياح تذر رملا، يدور ويدور على الإسفلت، تصل دفعة أولى تشبه غيمة عسكرية كاموفلاش، تتقطع، تلحقها سوداء، تتدافع الجموع مرغمة وتتكوم على بعضها، باكية مولولة، غضبى، صور جوية، مربع معين مكبر على الخريطة يشير عند نقطة النهاية إلى جموع بشر متهالكة، دون حراك، لوحة متخيلة من موقع جوي للوطن، لون اسفلت الطريق الرصاصي الملتاث بالأزرق الغامق، بقع الكاكي، الأسود الحائل، تماما كتلك التي اعتاد العالم رؤيتها من الـ " سي أن أن". أظنها الصورة العقلانية الوحيدة المطلوبة عالمياً، غير ذلك لن يُفهم. لوحة تليق بكل ما حولها. يحسم كل ما حولي لصالح العقلاني فلا يبقى لي الكثير الذي أتحسسه، أشمه وأشتهيه. حتى الألوان قد فُرضت علي. عيناي في بؤرة نقطة النهاية على الإسفلت. أغور فيها أكثر وأكثر. الجدار من خلفي في الغرفة يتقدم نحوي ليطبق علي. قوة تدفعني إلى خارج النافذة، لو يُنادى علي من الداخل. لو يعنفني واحد من المارة، لو تخطف نرجس البعيدة لتبطل محاولتي مرة اخرى. لو ينقرني طير. أتشبث بسدة النافذة مقاومة ضد قوة دفع جسدي. سأنهي فصلا سخيفاً وانتهي إن اصطدمت بتلك النقطة على الأرض: - " هيا، احسمي الأمر وارسمي نهاية تليق بفنكِ. نثار رأسك يشبه لطخات حبر أحمر تنسفح على سواد الإسفلت. هيا، لِمَ الخوف؟ لن يسأل عنكِ أحد. لن تتركي خلفكِ ما تأسفين له. ويله، الموت، هذا النداء المستمر الغامض. العقاب الأبدي لي على ذنوبي التي أجهلها. الموت صورة للعقاب، قاتمة مرعبة. تزرعها نرجس بداخلي منذ مائة عام وتقنعني بأنها جزائي. لا أظنها ذكرت يوما صورة أخرى مثل عصافير وورد وموسيقى وسلام لما بعد الموت. غير جهنم لم نكن نرى في معاني وجهها. وحده أخي في داخل شواله عادل بحبه وألوانه وأمله صورة الموت في داخلي. أحلم بأني سأسقط من هذه النافذة لأستجلب الحب من الذين يحيطون بي. أتخيل كيف سيبكونني فأبكي. 

أتراجع وأقعي على الأرض. أتذكر أخي شقيقي. لا يفصلني عنه إلا القليل برحلة في القطار. أشتاق له كثيرا فأبكي بحرقة أكبر.

...

أقصد ماريا لأستدين منها مبلغا للسفر، أتوسل إليها كما لو كنت بحاجة إلى مخدر أسدّ به بأسرع وقت منافذي بوجه الخوف والشعور بالإختناق. سأقضي أياماً طويلة معه وعائلته، سألعب مع الأطفال، سأنقطع عن التدخين، سأنام كما ينامون وأنهض كما ينهضون. الأيام شبه ربيعية ستتيح لي التمتع بجولات حرة يكون الهواء فيها نقياً.

أستقل القطار لأسافر إليه. لم أشأ أن أشعره بمجيئي تمرداً على كل ما اختلف من حولي. سيفرح لرؤيتي. أشعر بعطفه علي يغالبه لئلا ينكشف أمامي. بهذا يؤكد اعتراضه على طريقة حياتي أيضا. الحياة لم تتح له الفرصة لمساعدتي بسبب مسئوليته تجاه عائلته، المصاعب التي تواجهه هنا في هذا المجتمع ليست بالهينة، فلا يعترض أو يفرض أمرا عليّ.

يتفاجأ بزيارتي إليه في محل الخضار فأضحك من أعماقي. اللوحة تسرق بصره، تعجبه، تجذبه، تجر قدميه إليها ليرفعها من على الأرض ويضعها على الطاولة بجانب الحاسبة. رسمتُها للبحر في أول لقاء لي به والبحر. في معسكر اللاجئين؛

- هل تذكر زيارتك الأولى لي هناك، هل تذكر بأنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها البحر؟

يسحبني جانبا ليفسح الطريق لزبائنه ولنختلي نحن في زاوية صغيرة مقتطعة في نهاية المحل. يفرغ كرسيا مشغولا بأكياس فأجلس متطلعة إلى المكان. أستاءُ لإنتهائه في محل خضار يعمل فيه من الفجر وحتى آخر المساء. يأتي باللوحة وعلبتي عصير.

الغيوم البيضاء فيها منعكسة على سطح البحر، استزادة في النقاء، الحلم، الوعد. تجمع السماء والبحر زرقة متفاوتة. ولون حد سطح البحر أغمق بعض الشيء، هو ملتقى الأرض بالماء، لقاء حي نابض. في الزاوية إشارة لإبحار وترك أثر ما. شرر من الشمس مذرور على سطح البحر الساكن تماما، سطح مطلي بالفضة. قوس الغيوم وانعكاسه على سطح الماء كأنه فمٌ يقبل البحر أو يحتويه.

أعرف الكلمات التي ينتقيها، كان دوما أفضل مني بالتعبير عن لوحاتي. اضطر إلى ترك دراسته والفرار. هادىء، يحمل غضبه في داخله. يعيرني عينيه، أتأمل فيهما لوحتي. لم أستخدم ألوانا كهذه منذ دخولي الدنمارك، كما اختلف الموضوع تماماً. أفشل كل مرة أتقصّد فيها ترك فراغات شفافة مضيئة في اللوحة، تختفي البقعة بعد الأخرى وأحتار بعدها كيف أخفف من طغيان اللون الداكن وكيف أوجد فسحة فارغة في اللوحة مرة أخرى. أقول له:

- أحلم بأن أعود كما كنتُ لأمزج لوناً للبحر خاصاً ليطغى.

لم يجب. صمت بعدها. طلب من شريكه الإذن ساعتين وغادرنا إلى بيته. سرنا طيلة الطريق صامتين. حرص على طلاء كل ما في البيت بلون أبيض. مكث معي حتى انتهينا من إعداد الطعام وتناوله، ليغادر بعدها عائدا إلى عمله. كانت زوجته قد عادت مع الأطفال، رحبت بي وانهمكت بالقيام بمتطلبات البيت كي يتسنى لنا الجلوس والدردشة بعد ذلك. رائحة المنظفات والمطهرات تخنقني.

خشيت أن تسوء حالتي أكثر فأُثقل على من في البيت فهربت.

أسباب قراري الإنتقال من الجزيرة الثالثة إلى كوبنهاجن كانت تتغير شهراً بعد شهر، حتى جهلت في النهاية أي الأسباب دفعتني حقيقة لأن أحزم أمري وأنتقل. بدا الطريق أطول في عودتي إلى كوبنهاجن. الجزرُ هنا رغم صغرها تُباعدُ بين البشر. القطار مكتظ بالبشر الذين بدوا منشغلين، بدوا متحمسين بما هم منشغلون به. أنا لا رغبة لي بشيء. رأسي يضرب زجاج النافذة كلما اختل إيقاع القطار مع السكة. أخشى التفكير بشيء، أختنق، أفقد حماسي للحياة. هل علي التوجه غدا إلى الطبيب؟ في هذه الحالة علي الإنصياع ثانية إلى قوانين البلدية والطبيبة ووو...، لكن، أظن لا مناص من ذلك، تلح الفكرة مرة أخرى. بدأت أشعر بالخوف والإختناق ثانية. لا معنى لكل شيء. لا أدري ما الذي أفعله.

...

أقضي الليالي راجفة بعيون مفتوحة أمام لوحات ناقصة. علي أن أطلب المساعدة، لكني أرجىء الإتصال بأحد. كابوس يوقظني وأنا أصرخ يجعلني لا أتأخر عن الإتصال بصديقتي الكوبية لألتحق بركب شلتها.

تبحلق ماريا في وجهي مثل طبيب لا يرى فائدة ترجى من علاج مريضه. توفر كلماتها وتقنعني بتناول حبة ومن ثم شراب حاد أتجرعُه مرة واحدة قبل أن نغادر. يصعب اقتحام التجمع الغفير لتلك الأجناس المختلفة من البشر ما يدفعني إلى الإختباء خلف ماريا. تشق الطريق لي كل مرة ننتقل فيها إلى مجموعة تعرفني عليها. بعد جرعات أحصل عليها من هنا وهناك يبدأ جسدي بالإستجابة. أجهزة الصوت ضخمة جدا والموسيقى التي تعزف تهزّ الجدران في القبو الذي ننـزل إليه. ربما هو الزحام الذي ينقل الأجساد المحتكة ببعضها من مكان إلى آخر، وكأن جسمي يبدأ يفقد ثقله فأسير وأتحرك بخفة متناهية. لم أرقص بمتعة وتحرر مثل هذه المرة. بقع الضوء الصغيرة الملونة وظلالها تداعبني، تبحث عني في دورانها. أجسام شبه عارية تتلاصق بأخرى مغلفة بجلد ناعم يكتسب قوام الجسم. أرمي قفطاني وأستعير من هذا وذاك بضع ريشات، أعواد، أحزمة، وحلقات أتزين بها كي أسترجعَ جناحيّ، أتخيلهما كبيرين جدا، ناصعي البياض جدا، أرفعهما عالياً، أحركهما. أود لو ألعق جسدي، أنبشه، أنكشه، تماما مثلما يفعل طير. وكأن صيحات لقالق وبط بري تتعالى فجأة مرة واحدة. أنضم إلى مستعمرة طيور لها قوانينها. ينشق الفضاء أمامي فتظهر ألوان قوس قزح يحددها أفق أبيض ينحسر فيه الغامق الكئيب شيئا فشيئاً. أصعد على منصة. أضحك فيضحكون، أقبّل جسدي، فيسجدون، يقرصون نهديّ. يرفعون لي شعري ويشدونه إلى الأعلى بقوة، يوثقون ذراعي، يتأملونني، يتمسحون بي. أضحك، لكن رأسي يثقل، يخفق جناح أسود لطائر ضخم يمر، ينعق فتنقبض روحي، تقودني الوجوه والأضواء إلى مكانات أخرى. نرجس الصابرة تتمسك بيدي الإثنتين بقوة عند باب بيتنا، تارة تتوسل بهم وتارة تصرخ، تدفعني خلفها، تحاول أن تصير درعا لي، رفضتُ مرافقة الفحلين اللذين أتيا مع ورقة استدعاء من مديرية الأمن، الإستدعاء الأول بعد إعدام أخي. يمسك أحدهما برسغي ويسحبني من خلف نرجس، يلوي يدي ويجرّني معه، نرجس تتلقى دفعة قاسية من الثاني تلقيها على باب البيت وتسقطها على الأرض، تشيعني أنظار الجيران حتى أصل إلى سيارة رجال الأمن، صرخات نرجس تتعالى طالبة من الناس نجدتي، يصيح جار من مكان بعيد: قحبة!

أصرخ ألماً وخوفاً فتسرع إحدى الشقراوات لتصبِّرني وتأتي أخرى سمراء نحيلة تفكَّ وثاقي بهدوء، تُقبّل مكان السلاسل قبلات طويلة، ترسم شفاهها بالأحمر على جلدي وتنصرف الإثنتان متمايلتين باسمتين.

الغرفة التي تركوني فيها لوحدي في مركز الأمن صغيرة جدا، يخنقني الدخان الذي ينحشر داخلها، مغلقة بقفل، أمكث مرعوبة حتى يحين وقت التحقيق معي. يتحلقون حولي، بين غمز وتهديد وتحرّش بجسدي تخور قواي فأسقط. يتراءى لي نهوضي وسيري، تحيطني ظلمة لا تمكنني من رؤية شيء. فجأة أسقط من سطح عمارة ليرتطم جسدي بأرض صلبة مثل طير يسقط مقتولا من عل. أبحث عن ماريا، أغيب مجددا عن المكان.

أبقى منهكة القوى في بيت ماريا لأيام.

...

أفتح عيني: - "يا  مروى التائهة، ما آخرتها معك؟"

حبة المنوم لا تعينني. أستلقي على السرير مع المنفضة. أنظر إلى زوايا السرير ذي المقاس الفرنسي وأعاود النوم.

...

إنه آب وأنا هنا في كوبنهاكن وموعد المعرض يقترب. يعثر جاك عليَّ مرة ثانية فينتزعني من عزلتي ويدفعني للعمل. نختلف دوما في موضوع العناوين فأستسلم في النهاية لرأيه؛ هو يرتأي عنواناً آخر غير الذي أتمناه للمعرض " عباد الشمس يدور عكس اتجاه الشمس". يرى في تحديد اللوحة بعنوان شيئاً من المباشرة والمصادرة لعين المشاهد.

الشمس حارة في الأتيليه الذي استأجر لي مكاناً فيه. حرارة الصيف هي التي تحرك دمي فأنهض وإن كنت أشك بقدرتي على العمل. اللوحة الأهم أبت أن تأخذ شكلها النهائي. ثلاثة أمتار عرضاً ومتران ونصف طولاً تدوخني. أشعر بغصّة في أعماقي، بلهيب في جوفي، أتصبب عرقاً ليل نهار ما دمتُ أفكر بأجوائها؛ أربعة سيقان مسلسلة لنباتات عباد الشمس متباينة في الطول، مبرومة مدّعمة بأسياخ حديد شبه منصهر في بعض من أجزائه. تُقسر السيقان لتدور رؤوسها ضد الشمس، السيقان عبارة عن شواهد وصلبان لها أسماء بأحرف لاتينية وعربية وعبرية لمقبرة كبيرة واسعة، لون حار ينوب عن الشمس أعلى اللوحة، الزهرات شبه ذابلة بهيئتها، متدليه نافرة في اللوحة. افترضت لأوراقها البرتقالي المزرقّ. أبحث عن مادة أدخلها وتكون مقبرة خلفية للوحة، قد تكون من المعدن، الحرير، أو مسحوق زجاج. أبتعد، أقترب، أضيف وتبقى اللوحة بلا توازن.

...

الزوار يتوافدون على الغاليري يوم افتتاح المعرض. أتصبب عرقاً. أنزع عمامتي. جاك يطمئن إلى وجودي بين اللحظة والأخرى. كنت في الغرفة الخلفية التي تطل على حديقة صغيرة. صوت تجمع الناس القريب يقلقني. أدخن سيكارة أزعم لجاك بأنها الأخيرة لأتبعه حال تدخينها. أرى الشمس المتحرشة بي عبر النافذة وهي تملأ حوشاً صغيراً خلف الغاليري. وكأنها تنوي إعانتي في كسر زجاج النافذة للهرب، تزحف لتغمر المكان، حارة بشكل لم يحدث من قبل، تشبه شمس آب هناك. ينزلق جسدي من الشباك ليتحسسها وهي تزحف كما تزحف تلك الذكريات بتوجس لتغمر حواسي فأشتم نداوة تصعدها الشمس وأستطعم تراباً ينحلّ في فمي؛ الجو "آب بغداد" أو "بغداد آب" مرة أخرى، وأنا أقف عند الباب المطلّ على الحديقة صباحاً، يحمل لي المذياع، الذي يحلو لي أن أديره أول ساعات الصباح، خبر اندلاع حرب جديدة بدخول  العراق إلى الكويت:

البيان رقم واحد: التينات الصُفر يحومُ حولها عصفور أشك بأني سأعترض على فعله، بعض من عيدان الآس الندي اخترقت تشكيلة السياج المقررة له فَراقَ لي تمردها، نارنجة وحيدة لم يكتمل لونها البرتقالي بعد فقررت ألا تقع. وحدها نحلة ذهبية عنيدة دحرتني وأجبرتني على الفرار إلى الداخل.

يفزعني رنين الهاتف وأنا أدخل المطبخ لينقل لي بالتالي فزعه. لم يجد عدنان كلمة يعبـِّر لي فيها عما يفيض به. لم يفكر بترك ولو خبر عن وجهته. اختفت الكلمات. تلعثمت، بكيت. كنتُ أعلم بقراره، ضرورة انفصالنا. وما الحرب إلا لونٌ أضيف إلى تركيبة ألوان غير منسجمة في اللوحة فأبرز قبحها. كان بانتظار الإشارة، فأضحى كل شيء بالنسبة إليه مستحيلاً. اتصل أخيراً ليقولها: - " كل ما حدث خطأ، خطأ كان ارتباطنا يا مروى، وهمٌ ما يطلق عليه حب". يغيب وتمحى آثاره ثم يعود ليبلغني من خلال الهاتف بأن أمسح كل شيء. خطأ تعلقي به، خطأ توقيت خصبي، موت ابنته، خطأ تواجده في المكان، خطأ اختيار عائلتي لطريقها، اختياري له، خطأ اعدام أخي. خطأ الفكر والدين والعائلة والوطن، وحتى اختيار اسمه. يغيب عامين ليتصل ويبلغني بقراره أخيراً. يودُّ الهروب مني، من المكان، الإفلات من ذاك الحبل الذي يلتفُّ ويضيق على رقابنا. يصعد تجاه كردستان من دون وداع.

 

الفصل الثالث

رضا المولاني

1

أمُي وثأراً لي تُرسِل عروساً تشبه اللعبة تعويضاً. أذهبُ مُشتّت الذهن لأصطحبها من مطار كاستغوب. لم يكن الأمر بكليته جدياً. تم سفري إلى دمشق ولقائي بها وبأبيها، وأنا أفكر طيلة الوقت أثناء السفرة بأن آخرَ فيّ هو الذي يغامر، بسبب سأمه ربما، وسيأتي اليوم الذي سأخذله، سأضحك عليه وأرميه بعيدا عني.

خليطٌ من انتعاش وسخرية يرافقني في طريقنا من المطار أنا وإياها إلى الشقة. أغالب أحاسيس شتى محاولاً التعالي على ما في داخلي. وجه غريب وجسم لين ناعم يجلس لصقي ولا أستطيع التمعن فيه.

سائق التاكسي كان كرديا من تركيا ولسبب من الأسباب كان مصيبا جداً في حدسه. ضايقتني صيغة الجمع التي خاطبني بها بدنماركية تركية. مرآته الأمامية العريضة كشفت عن وجه غريب لي. ضمني إليه وإلى الأجانب المقيمين هنا. أعرب عن تفهمه للطريقة التي اخترت بها عروسي وطمأنني وهو يغمز لي بعينيه في المرآة بأن عروسي الخرساء ستنطق وتذيقني الشهد والمر معا. أطلق ضحكة وقحة وصَمَتَ بقية المسافة حتى وصولنا البيت.

ليس غير الفضول ما جعلها تقبلُ بعرضٍ كهذا. وكأنها تعرفني تركض إلى حقيبتها فور وصولنا لتريني ما حملته من هدايا من البصرة ودمشق. أتأملها خلسة وهي تتحرك في الشقة، تستكشفُ عالمي. أنا بِحيرةٍ أمام هذا الشباب والجمال والإندفاع.

تطفىء الضوءَ وتُشعلهُ، تُعالج قفل النافذة المُعَقَّد الفتح، تعبر اصابعها على المدفأة المائية، تفتش محتويات الثلاجة، تخرج إلى البالكون وتتأمل المنظر، تقف طويلاً عند عتبة غرفة النوم وهي تنظر لي بزاوية عينها.

...

لا أذكرُ كم مرَّ من الوقت. لا أذكرُ السبب في انتظام موعدِ خروجي من البيت، تناولي لطعامي، أخذي حمامي اليومي في الصباح من جديد. أ هي إمرأة جديدة تدخل حياتي، أم البلدية و صرامة شروط تلّقي المساعدات الإجتماعية مرة أخرى، أ هي المشرفة الإجتماعية أم مراجعة الطبيب النفسي مع حبوب السعادة والعلاج الفيزياوي، أو لعله كان لقائي المنتظم بأصدقاء عراقيين قدامى التقي بهم بالصدفة في بارٍ صغير مظلم خلف محطة " نورابورت"؟

يبدأ اللقاء اليومي بعد السادسة وينتهي عندما يبدأ صاحب البار في حوالي الحادية عشرة بتعتيم الزاوية بعد الأخرى وهو يطلقُ إنذارَه الخَدِر في النصف ساعة الأخيرة قبل إقفاله؛ الجولة الأخيرة للبيع.

أكون أول الحاضرين. لا حديث بيني وبين صاحب البار عندها، نتبادل أقل ما يمكن من الكلمات لنوفر على نفسينا مشقة هذه اللغة وما يقتضيه التواصل. يعرف ما أطلب حال وصولي فيقدمه وينصرف إلى ترتيب ما حوله. لا أحب الهدوء أول المساء، لا أحب خلو الطاولات من زبائنها، ولا تلك الرطوبة والعتق اللذين يهاجمان حواسي أول دخولي. أتعجل احتساء القنينة الأولى بانتظار وصولهم.

كل شيء يتكرر بهدوء وتسلسل معقول وطريقة تكاد تكون مكشوفة لكنها مطمئنة. ليس بيننا من يسمح لأن يتم التلاعب بالقوانين. هناك ما هو أشبه بإتفاق حولها كي يتم تجنب المفاجآت التي لم يكن مرحباً بها إطلاقا. النقاشات تبدأُ هادئة، متسلسلة، مضحِكة، إباحية فالتة، تنقلِبُ بتعاقب عقارب الساعة وعدد قناني البيرة لتمرَّ على صحف المعارضة، الأكراد، أسماء معارضين أنذال، مغتربين مندسّين جواسيس للنظام، وحتى تأخذ مساراً آخر، فردياً مضطرِباً، بنخاع من اللاجدوى، بضرب من فنتازيا الشطرنج.

الوزير، مهندس في شركة نفط البصرة سابقاً، يستدير بجذعه كلية إلي وكأنه يسرّني دون الآخرين معلناً بالوقت ذاته عن عدم رغبته بالتحاور معهم؛

- الفرق بيننا أيها الجندي وبين الدنماركيين فرق السما عن الأرض، ناس يفهمون الديمقراطية الحقة يا أخي، استطاعوا تطبيق كل مبادىء الإسلام في مجتمعهم أفضل منا بكثير، شايف الفرق شو كبير.

الوزير بقي شيعيا شيوعي الهوى، كما وصموه، لجأ إلى إيران وعمل في المجاري في طهران، قبل وصوله الدنمارك وحصوله على عمل في معمل ألكترونيات. يظهر في حركته لياقة عالية. وهو قد تدبر أمره أيضاً فالكثيرون غادروا رقعة الشطرنج لكنه بقي، رغم إنه لم يتآلف طيلة اللقاءات مع الملك الذي تحول من الشيوعية وطالب فجأة بنظام ملكي.

كانا يتربصان لبعضهما كلما تفوه أحدهما بكلمة.

لا يشبه البار نفسه أبداً عندما يتقدم المساء. تعمّ الفوضى ويلجأ إلى التحايل في رقعة الشطرنج. تختلط علب السجائر وقناني البيرة، تتقاطع الأيدي في طريقها لتناول كأس، في إطفاء سيجارة أو للتصريح بشيء.

يغيظ الملك صمت الجميع لما يصرح به الوزير مراراً فيعلَّق بتهكم يريده أن يكون واضحا ومؤثراً بهزة من رأسه:

- يظهر في هدوء نقاش وزيرنا أمل كبير بتحقق الديمقراطية عندنا. أنتَ بهذا تدافع عن الغرب الذي يسند صدام، تدافع عن الغرب الذي صفعكم أنتم اليساريين بتقوية السلفيين بالمنطقة كلها.

يجيب الوزير وهو يوميء برأسه بحركة اللا اعتراف بما يقال، ورداً على استنكار الرقعة المتكرر لما يصرّح به:

- وما علاقة هذا بذاك، هناك قانون وعدالة ونظام اجتماعي يضمن حياة كريمة، أنا مقتنع ومكتف ولا أطمح بأكثر من ذلك.

يميل الملك إلى من بجانبه، وقد أثاره كلام الوزير حقاً، ليقول بصوت شائخ وبحرقة:

-  كل ذلك يمكن أن يتحقق عندما يجمعنا نظام ملكي، أ لم يكن السياسي محترما وقتها، أ لم تكن هنالك ديمقراطية، لا نريد سياسة وأحزاباً بعد الآن. الملك هو اللي يلم كل الفئات.

الفيل محتار، يكرع كأسه ويحطه بقوة على الرقعة كل مرة. برغم ضخامة حجمه لا يستطيع أن يحمل بريده بين يديه فتتبعثر الأوراق على الرقعة والجانبين. يتعاطف الجنود معه ويتبرعون في مساعدتهم له بجمع ما لا يمكنه جمعه من أوراق تحت الطاولات، لكنهم وكالعادة يعيدون تأففهم من الحال. اعتاد أن يحمل رسائله معه أينما ذهب، فإن صادفه أحدهم من الذين يجيدون فهم اللغة الدنماركية وفك ألغاز الصياغات الرسمية فهو لن يتردد في سؤاله عن فحوى الرسائل، وإن كان قد قابل في طريقه مسبّقاً خمسةً من معارفه وحصل على مساعدة منهم. تجد رسائله التي تصل أغلبها من بلديته مجعدة، جوانبها مهمشة  بالقلم الرصاص أو الحبر باللونين الأزرق والأخضر وغيرهما من الألوان وبمختلف الخطوط؛ كلمات مترجمة إلى العربية، العامية العراقية أو مكتوب إلى جانبها اللفظ الدنماركي بالعربية. تجد في الرسائل خطاً تحت المبلغ المستقطع من الراتب، خطاً تحت موعد المشرفة المقبل، خطاً تحت عنوان الطبيب الأخصائي. كل ذلك يكون نزولا عند رغبته ليتذكر أهم ما تحتويه كل رسالة. لم يستطع رغم تواجده بالدنمارك لسنوات السيطرة التامة على تصنيف البريد والإعلانات التي تملأ صندوقه يوميا. تلك كانت مهمة جادة يتوجب عليه أن يوليها الوقت الكافي يومياً. بل هو لا ينام ليله إن مرّ نهاره دون أن يعثر على من يعينه في قراءة رسالة تحمل شعار البلدية على الأخص. يخشى أن يكون الوقت متأخراً، فلربما يكون قد صدر بخصوصه أمر في غاية الأهمية:- كل شيء محتمل. يقول. وقد صارت هذه العادة أشبه بالإدمان لديه، لا يستطيع التخلص منها. القلق حال استلام البريد وكيفية العثور على مترجم يعينه، أمران يقضان مضجعه فيتقلب في فراشه ليلا وهو ينفخ ويتأفف حتى تأثرت صحته كثيراً بسبب ذلك. لكن يحدث مرارا أن ينهمك المقابل بترجمة الرسالة له بينما هو سارح خلالها، لا ينصت، يكون ساهياً، ينظر بعيداً إلى جهة أخرى، وقد يحدث أن يسحب الرسالة وسط كل ذلك ليدسها في جيبه ويمشي في طريقه من دون قول كلمة. ها هو يمسِّد المظاريف ويعيد صفها في جيوبه، يتمتم أثناء ذلك:

- والله ما أدري، هذا المجتمع لا يصلح لنا، مجتمع يصعب على الفهم، لو أبقى طول عمري هنا ما راح افتهم شي منه، لا حريته تناسبنا ولا اشتراكيته... وديمقراطيته بعيدة لا يمكن أن تتحقق عدنا.

يعود الوزير الأنوف ليجيب بهدوء قاتل:

- ليش الخوف، هنا أكو مثل يكول اللي يخشى الحياة يرتاح إلى قميص المجانين. ثم لا تنسى بأن الديمقراطية يا فيل لم تكن كذلك موضع ثقة هنا في فترة ما بين الحربين وبعدها، نحتاج إلى وقت لنمارسها، يجب أن تخطو أولاً.

الفيل غير مقتنع، يرد بحركة بطيئة يائسة:

- يا أخي ستبقى مجتمعاتنا تحتاج إلى رمز وسلطة وقبضة من حديد، وهذه الحرية المتاحة، كيف سيتعامل الناس معها، خبرني؟

الوزير لا يتوانى عن رميه بمثل آخر:

- بسيطة، تصير بهذا الحال مثل المثل الصيني، إذا هبّت ريح، ناس تبني طواحين هواء وناس تبني سياج.

يحتد الملك ويسرع ليقول:

-  لا، هذا كلام غير مقبول، وهذا النظام الإشتراكي بسيطرته على الناس لن ينجح أيضا.

يستدير الوزير ويبتسم إلى الباقين ابتسامة فيها إقلال من شأن الملك:

-  الظاهر عنده نوستالجي، الملوك يا عيني إذا دخلوا قرية أفسدوها، والتجربة أثبتت فشل الملكية.

أنظر إلى عقارب الساعة على الجدار أمامي فأتذكّرُ النظرة التي ترمياني بها عيناها الزرقاوان، أعود ولدا غرا ملتزما متحمّسا، على أكتافي سيتحقّقُ وطن حرٌ وشعبٌ سعيد. لكن حظي تعيس، أفعلُ كل ما يتوجب عليّ أن أفعله دون نتيجة! أمسك الكأس لأعبّه في جوفي وأصيح بالجنود:

- سكول، صحة.

تنطُّ عينا الفيل المحمرّتان إثر سكْرِه. انضمَّ إلى الأنصار لاحقاً، قبل لجوئه للدنمارك، حانقاً على الأحزاب والتنظيمات والأديان التي وضعته في هذه المحنة؛ يريدني وهو يثبِّت عينيه في عيني أثناء حديثه أن أثني على كل كلمة ينطق بها:

- سكول، صحتكم يابه، الحزب ما دبّرها، والبعثية يا أبو شيرين يعيثون فسادا بالعراق، وأهل العمائم والملالي لن يقصّروا إن استلموها.

ينفض رأسه الكبير وهو يشرب ما تبقى من شراب في كأسه الصغير، يردد فتهتز الرقعة من تحته:

- والله ما أدري، خدعة، خدعة يعيش العراقيون بها والله.

يتعجل الحصان ليدخل السجال صاهلا مؤيداً:

- عاش كلامك، الأحزاب بهدلة وحكي فارغ والأنظمة مصالح وقبض فلوس، الوطن أساساً مجرد كلمة. يمعوّد أوطان تلعب بأهلها مثل الكرة، صفحة تسفير وصفحة تحقيق أربعة وعشرين ساعة. وجبهات تحرير وغسل أدمغة، إيران تجمع المهّجرين في فرق عسكرية، العراق يفتح للإيرانيين معسكرات طول وعرض. الدنمارك بطلعان الروح تنطي لجوء ودول الخليج تنكر عليَّ عروبتي بعد أن عشت فيها عشرين سنة، هسه افتهمت، هسه آني أشعر براحة، غسلتْ دماغي من فكرة وطن، أهل، عرب وغيره، هنا أو هناك ماكو فرق عندي.

يتصدى الملك له، يخرج عن وقاره تماما هذه المرة، يهبّ من مكانه منفعلاً ولكن ببطء مسرحي يقول:

- لا أكو فرق، شلون ماكو، عيني على كيفك ويانه، هنا قصدهم تحقيرك، تبقى فلوتننج، تعرف شنو معناها، يعني تبقى لاجىء طول عمرك، قصدهم إذلالك كعراقي، كلاجىء، كإنسان وأساسا وهو الأبلى كرجل، هه، لا تنس، ده تفهم عليّ؟

يغطي الحصان رأسه كمن يقي نفسه من ضربات متتالية توجه إليه فيضحك الجميع. لكن معاني الملك تتغير، يعاود رفع كأسه ويقول بصوت ثمل غامز مغرق بالسخرية:

- سكول جميعا، صحة الكمونة والبيستاند ونسوانّه، يعني أكولك نسواننا هنا مثل نسوانه هناك، هاي شلون تقبلها يا عيني؟

تكاد رقعة الشطرنج تتهاوى ثانية. تتعالى ككل مرة ضحكات الوزراء والملوك والأحصنة والفيلة، تتوالى غمزات الجنود وترفع أنخاب رواد الحانة ولا أملك إلا أن أساندهم جميعا.

حماسي بشأن العودة إلى البيت ليس مثل حماسي للجلوس والإنصات لساعات لهم. يعود إلي ضيقي وأنا أرتدي معطفي؛ الدخول إلى البيت تكمن خلف جدرانه كومة قوانين.

أضحك في طريقي، أشتاق للقاء الغد.

أقدِّمُ قدماً وأؤخِّر أخرى، أشعرُ بأن توازني لا يزال مختلاً، أحتارُ بإيجاد معادلٍ روحي يسد الفراغ المقيم فيّ.

تتيه خطوتي فأتركُ لها أن تسلكَ دروباً أخرى تدلّها قبلاً.

...

أنظرُ إلى ساعتي قبلَ أن أديرَ المفتاح. أفكِّرُ، يخزني ضميري، ربما تأخرت بعض الشيء، يخيل إلي بأني تركت إمرأةً تنتظر لوحدها طويلاً.

...

أعود كل ليلة محاذرا أن أصدِر صوتا. خطواتي حذرة وأنا أدخل غرفة النوم لأنـزلق تحت الغطاء بجانبها.

أضع رأسي على الوسادة مُنهكاً. وكأني أتممت جريمتي وأخفيت آثاري وعدت إلى بيتي. أحاول أن أنام. أتقلب إلى اليسار وإلى اليمين. رأسي مملوء بنثار أحاديث البار ومسامات جلدي مشربة بالدخان والعرق.

كل ليلة تأتي إلي، لا أسمع شيئا، لكني أقرأ شفاهها المتحركة ولسانها الذي يدور. تتهمني بالخضوع، بالعاطفية، بالولاء المريض للحزب، كل ليلة تأتي لتتهمني بالضعف لمكاني هذا، في هذا السرير مع هذه المرأة الغريبة التي تغط بالنوم إلى جانبي. لكن ما الذي بوسعي فعله، ما الذي بوسعي عمله لأمسح شعوري بالخيبة من كل ما يحيطني. يصرخ الجنود: - "حزب ضيع الحلم ورفاق خانوك يا رضا، ودكتاتور شرّدك". هل أجيبهم: - " لكني بقراري تركه أشبه الولد اليتيم الساخط على أهله والعالم." لا يفهمون، لا تفهمني. انتهيت إلى مقولة عدنان الشهيد:- " لا وطن يزهو بنا ولا وطن نزهو به، العراق صار حلماً ".

...

تُخبِرني بحملِها ذات صباح فأخرج عن طوري. يمكنني أن أرى من خلال بطء حركتها أن فضولها قد نضبَ تماماً بعد انقضاء الأربعة أو الستة أشهر على مجيئها.

 مازالت هيئتها هيئة عروس تعتني كل صباح بنفسها. وجهها مصبوغ بالألوان وشعرها مفلول مسرّح. تقول وهي تلقيه إلى الوراء بحركة عصبية:

- بلد لَمْ أجدْ بين جدران الشقة فيه ما يثير. وأنا قد نفذ صبري أيضا في سبيل تحمل وضعكَ.

 وقاحتها تثيرني، أسألها التوضيح:

- ما له وضعي، ما به، ما بي؟

لا تجيب. لكن وجهها يقول بأنها قد اتخذت قرارها. أتفقُ معها في فورة غضبي على ترتيب إجراءات العودة قبل أنْ تكبرَ بطنها.

...

هكذا إذاً. تصرُّ هي الأخرى على تركي. أبلعُ ريقي وأتقبل الأمر على مضض.

الطريقة التي تنصرفُ بها في حزمِ حقائبها وصفِّ الهدايا تثيرُ عجبي. تقولُ لي أثناء ذلك:

- الغربة تأخذُ مني مأخذاً، كما إنني أخشى أشد ما أخشى أن ينشأ الطفل ويكبر في ظل الضياع والصقيع والانفلات هنا.

أختنق بضحكي:

- ولكنكِ لم تغادري البيت يوما، ما أدراكِ؟

- لا يهم.

وبعد حسبةٍ بسيطة تعرضُ علي فجأة أن أعودَ معها:

- لا يمكنني أن أفهم حقيقةً أسباب بقائكَ في بلد بارد قاسٍ منيع خانق لا طعم له كهذا، كما إنني لا أفهم كذلك أسباب خروج آلاف العراقيين ولجوئهم؟

ينعقد لساني. أصفق يديّ في الهواء بقوة، أفركهما وأنا أقهقه بصوتٍ عالٍ قبل أن أصفق الباب من خلفي.

...

غضبي يسيطر عليّ. الشقة فارغة من جديد. أتهالكُ على الفراش البارد، سكينة الشارع تصّم أذني، قفر يدوّي مثل حشرة تحرِّكُ جناحيها في طبلة أذني. وكأن الليل لا يأتي. أحاول أن أنعس، أشتاق إلى نومة هادئة عميقة، إلى حلم أطفال بسيط. أهجر غرفة النوم وأنتقل إلى الصالة لأنام منذ ذلك الحين على الأريكة الجلدية. أتقلّب، يتردّد الصوت الخافت للشراشف في أذني فيصيرُ زعيقاً يجننني.

 

2

 كيفَ تقرِّرُ يا أنتَ الإرتباط بامرأة من جديد؟ سؤال تكره الإجابة عليه، رغم اقتناعكَ بأنَّ الأمور تجري هكذا للبعض!

تلتقيها مصادفة عند مدخل إحدى المحلات العربية مع صديق لكَ، قريبٍ لها. تدفعُ عربة صغيرها بيدٍ وتمسكُ الآخر بالأخرى. العربة ملأى بأكياس التسوِّق، تطلُّ من فتحاتها رؤوس الباذنجان والشجر، أوراق باقة البقدونس وباقة الجزر. يتحَرّكُ بك شوقٌ جارف للتوقف طويلاً عند المشهد؛ صراخ الطفل واعتذراها الهاديء ومزاح الصديق. رغبة تعتريك لأن تنداحَ بين هذه الفوضى الأليفة التي أمامَك وتكون جزءاً منها. تكتفي هي بتحيتِكَ بحركة رأس خفيفةٍ منها وتتوجه كليّاً إلى الصديق.

في المرة الثانية تلتقي بها لوحدكَ وهي التي تودُّ أن تطيل الحديث. ترغبُ في كوب قهوة حارة تذيبُ به جليد يديها؛ لديها نصف ساعة، تشير إلى ساعتها.

تُلقي عليك بوابل من أنوثة وبيتوتية عراقية أنتَ باشتياق مرير لها؛ يجب عليها الإنتباه إلى الوقت. تودُّ أن تأخذَ الطفلين مبكرا هذا اليوم من الحضانة. تدعوكَ، إن ترغب، لمرافقتها. إن ترغب فهي تجيد إعداد طبق محشي الشجر.

بيتها عراقي النكهة، بهاراته من المناطق الوسطى تحديداً، مرتبٌ نظيف. امرأة تُنسيكَ الدنمارك بأكملها حالما تدخلُكَ وتغلق الباب خلفك. يصيبكَ انتعاش عذب يذكِّركَ بأيام طفولة حلوة. تدغدِغُكَ الثوابت من حولك فتشعر بنعاس لذيذ يتسلّل إلى جفنيكَ، لا تجد غضاضة في أخذ إغفاءة قصيرة لعلها شاردة، تتسرسح على الأريكة على أصوات صلصلة الصحون في المطبخ وحركتها. تجيل النظر بعينين مرتخيتين وجفنين ثقيلين بين الستائر وتيجانها المزركشة، لوحات الآيات القرآنية المطرزة باللون الذهبي، سجاد الأرضية من الجدار إلى الجدار، المعرض من الخشب المضغوط بأبواب الزجاج المذهّبة تملؤه التحف العشوائية الصغيرة، و جهاز التلفزيون الذي يحتلّ مكاناً مركزيا ليتربع الورد الإصطناعي الملوّن فوقه، أنغام المحطة العربية الراقصة تصير موسيقى خلفيةً موحِّدةً لأجواء البيت.

...

هي وحيدةٌ، فكرتْ ومن باب الإحتياط، فتحصلُ بعد اسبوعين على نسخةٍ من مفتاح شقتها، تتبرّع أنت بمرافقتها لجلب الطفلين عصراً من الحضانة. تتبرَّعُ لاحقا، في الأيام التي تبيت عندها، بإيصال الطفلين صباحاً. جلبهما أيضاً. ثم تتبرَّع بالتسوّق يومياً لتخفف عنها العبء قليلاً.

لم تقلْ إنكَ غفلتَ عن موضوع ارتباطكَ وانفصالك الثاني وأطفالكَ. هي لا تبدو مهتمة. الإنتهاء من تفاصيل حياتكما يتطلّبُ المزيد من الوقت؛ هي في عِداد الشرع متزوجة أيضاً، يرفض زوجُها تطليقها ويسافر. إذا أنت في حلٍ من ضرورة الحديث عن عقد زواج، رغم انها تدخلك غرفة نومها وتطرحك على الفراش بديلاً. وبما أنكَ قد شطبتَ من قاموسكَ كلمة مستقبل إلى الأبد، يصير الغد بعيداً جدا، ليس بالإمكان انتظاره، حساب أمره أو تأمّل خيراً منه.

...

حياتُك تأخذُ مجرى آخر، أكثر وضوحاً. تتقبّلُ الدور الذي وضعَتْكَ به؛ أنتَ مسؤولٌ عما هو خارج المنـزل. تؤدي واجباتك بآلية مريحة. تحصل على يوم روتيني هادىء ثانية، تشبِعُهُ بطلبها منكَ الإنتقال والسكن معها.

لم يقلّ الشرب والتدخين لكنه انحصر بالتدريج ضمن وقت ومكان محددين بعد تعرّفك على شلة الأصدقاء وانتظام لقاءاتك بهم ونزولا عند رغبتها هي أيضاً. أطلقتَ لحيتك ولم يضايقها ذلك، بل العكس، فلعله برأيها يبعد العيون والشبهة عنها وعنك، ويعجل من البتّ في معاملة التقاعد.

وهي تأمل أن تنحصر كل عاداتك السيئة خارج هذا البيت.

...

يأتي الحوار إثر السكر مشتتاً متقاطعاً ثانية، والبار صغير لا يضيِّع هدير الأصوات والانفعالات على اختلافها. العدد مكتمل على رقعة الشطرنج احتفاءً بوصول قريبي. مرتادو البار من النوع الصامت المتأزِّم المنعزل. للسبب ذاته، وفي كل مرة ترتفع أصواتنا، نحاصر بالنظرات المستنكرة، وثوان من الصمت حتى ينطلق بعدها تعليق مني ينسف الصمت مرة ثانية؛

- تكادُ شلّتنا هذه أن تُخِلَّ بتوازن المكان وتُبرِزَ الفارق الكبير بطُرق تأزّم الثقافات المختلفة.

 تنطلق الضحكات مكتومة قسراً.

" حسن" بطل الحديث اليوم، قريبي الذي يصِل من الجزيرة الثالثة، ويصر على تقديم نفسه كإيراني. هو الذي يذكر خبراً بالصدفة عن معرض لفنان عراقي وفنانة تدعى " مروى البصري". أشك بالإسم لأول وهلة، مروى التي أعرفها لا تحمل هذا اللقب؛ -  ياه، تذكرت، مروى، اخت الشهيد، زوجة الشهيد الرفيق "عدنان" البطل، عدنان الحبيب. ما الذي أتى بها إلى هنا؟

تنتعش فيّ ذكريات بعيدة جداً أخشى أن تحتلني لأنني ما عدت أحتمل التغيير. يلقي الخبر في أذني فتبدأ الأصوات تخفت قليلا قليلا. تتلاحق صور المكان وتقترب، أول اللقاءات مع الرفاق وعدنان، البصرة القديمة، الجيرة.

حسن ينطلق بالحديث بعنفوان يلفت نظري ويسرقني من خيالاتي. بدا مقدار اهتمامه بعضلات صدره وكتفيه جليا فأشعر بضيقي وهو يتنامى من ترهل جسدي. يشغلني وجهه الحليق وشعره الذي اعتنى بتصفيفه بطريقة حديثة. تشغلني يفاعة جسده في عضلاته التي تتوضح عبر حديثه أكثر وأكثر من خلف البلوزة ناصعة البياض ناعمة الملمس. تتشابك صور مختلفة في رأسي فيزداد بؤسي لحالي، لملابسي، لوجهي المظلم الذي تأملته مليا بالمرآة هذا الصباح. ملابس حسن التي تعكس شبابه تعيدني إلى أيام كنت فيها الأنيق البارز من بين الشباب. هل افتقدتْ نهلة ذلك فيّ. هل هو إهمالي أم إهمالها لي، من أين لي ان أعلم. هل هي موضتي التي صارت قديمة فراحت تبحث عن أحدث ما هو موجود؟

حسن كان يدافع عن رأيه لكن نوعاً من الدهشة والإستنكار يرتسمُ واضحا على وجوه البعض يجعلني أتدخّل في الحديث منفعلاً فـ " حسن" ولدٌ رضيع هُجِّر مع أمّه من البصرة في أوائل السبعينات إلى إيران لعدم امتلاكها الجنسية العراقية. أما والده فيُجبَر على تطليقها لترافِق أهلها رحلتهم، كونه مسؤولاً أيضاً عن أهله في البصرة. من المفارقة أن يتم سوق والده إلى الجبهة في حرب الخليج الأولى ويكون أول من يؤسَّر في إيران.

أشعر بإيقاع الأشياء من حولي، في دخان يتصاعد، في لطم أمي على وجهها، في صوت نهلة أُوصِلُها للذروة في الحب، في يد تواصل تقليبها للقداحة على الطاولة، في فم يصر على الصمت، في رابع يعاود الذهاب إلى التواليت.

الملك وهو يحرر جريدته المسائية ويشطب ما تقادم، يسألني عن معاملة التقاعد:

-  تعرقلت، لكنها ستتم في غضون أسابيع ربما، أنا متفائل بشأن قرار اللجنة.

أقول بصوت عال ولا أنسى أن أعدل من هيئتي كي أبدو جندياً فهلوياً قبل أن أكمل:

-   قد أجدتُ لعب دور المريض وضحكت على الأطباء.

أمسِّد لحيتي بيدي وأكمل غامزا:

- وأقنعتُ المحللة النفسانية أيضا.

أشاركه القهقهة ليستأنف هو من ثم تنقيحه.

أتساءل في سري عن علاقتي بالمكان وتلك الوجوه. وما علاقة خيانة زوجة فلان بطلاق ذاك والدكتاتور لينهض الملك ويرفع نخبي؟ أحتدم لحركة الملك الأخيرة لكنني كنت أيضا منهكاً. ينقلون لي خبر وفاة أحد الأصدقاء من الأنصار، أتذكره بعد مساعدة تصلني من طرف الرقعة. الصوت يتساءل في سري وأنا أعبّ الكأس: - هل ستنسى مرارة كل من له يد في إيذائك، في تلك الخسارة الفادحة في عمرك. مَن يتحمل وزر ما أنتَ فيه؟

يأتي صوت الفيل بالحال:

- هي أخطاء القادة وممارساتهم في الشمال يا أبا شيرين.

يجيبه الوزير ثانية بصوت المعلم الحكيم:

- الأمور تتغير، تتصلح والناس تراجع نفسها وتفيد من أخطائها.

أغيب لكنني أميِّز الأصوات تلك، أميز إيقاع الحديث رغم تقاطعاته، أسمع صدى ضحكاتها، أحترق ثانية، ألعن. أعبّ بقايا كأس صغير حارق آخر مشاركة مع الآخرين. يشرع جوفي يذكرني بتجاوزي الحد الذي أحتمله.

يتردد في سري: هو غباء شعب بأكمله. صوت يطلع غاضباً مني، ينهض مع نهوضي اللا إرادي المترنح في طريقي إلى التواليت، أنهض مثل جندي يصله في خضم معركةٍ خبرَ انتهاء حرب اشتعلت بالخطأ، أنظر إلى الأرض المزروعة بأشلاء رفاقي فأبكي، أقف في أرض أجهل فيها جهة العدو فلا أعرف طريق عودتي. أود أن أشبع جملتي مرارتها فلا تنتهي:

- لكن مَن المسؤول، ما الذي فعله الحزب لأبنائه المرميين مثل الكلاب في أصقاع العالم، لعوائلهم اليتيمة هناك، المهانة المستباحة؟

يحاول الحصان التخفيف من فورة النقاش:

- وأنا لا أستبعد أن يأتيني صاحب البار الآن هنا بمرسوم دنماركي ينصُّ على مغادرتي الدنمارك في ظرف 24 ساعة.

يضيق الفيل بالحوار الذي صعب عليه والأزمة التي ألمّت بالرقعة، يضربها بيده فتتساقط البيادق وهو يصرخ:

- كش ملك، خلص يا جماعة، الحال الآن لا يعتمد على حزب أو دين أو قومية، السياسة مساومات، فن وتكتيك، حبيبنا الرسول (ص) فهمها تماما، التحالفات هي واقع الحال، وهي ترجمة لمصالح الدول على اختلافها، سنية، مسيحية، شيوعية، شيعية، بطيخ، ليش الشيوعيين مو تحالفوا مع أمريكا ضد هتلر؟

الملك الساخط ينكس رأسه كمن خسر الجولة وفقد الأمل دون رجعة:

-  اللعنة على الساسة وقيادات السفلة التي أركعتنا، التي أمعَنتْ في إذلالنا لكي نكون تحت رحمة مشرفة اجتماعية مغرورة بشبابها، تحت رحمة زوجة تهدِّد بالإتصال بالشرطة كلما ارتفع صوتي. اللعنة على ما يُفرَضُ عليَّ من عمل لقاء المعونة الإجتماعية المذلّة التي أتلقاها آخر الشهر.

تتناطح زجاجات البيرة بالكؤوس الصغيرة، تندلق السوائل ويتطاير الرماد، تتزبد زوايا الأفواه وتتبارز الأصوات.

تعاد اللعبة كل مرة، ذات الخطوات، النقلات والنتائج. وقد حفظ الكل في الرقعة دوره وأدوار الآخرين، لذا لم يكن هناك إشكال في حالة تخلف بيدق ما في الرقعة، سواء كان وزيراً أم جندياً.

لكنه حسن الذي ساءه الوضع فدخل على الخط بنغمة تكشف من جديد عن عنفوانه:

- أنتم تتحدثون عن سياساتكم، أفكاركم، زوجاتكم، أعراضكم، أحزابكم، كلها عواطف تثير الإشمئزاز، القرف، إنكم مقرفون، خائبون، تتآكلون باحتكاكم هذا ببعضكم، تتآكل مؤخراتكم على مقاعد كراسيكم، تشبهون أهل الكهف بعزلتكم. أما أن تعودوا إلى وطنكم المزعوم وتعملوا شيئاً أو أن تعيشوا وتنصتوا إلى معاناة العالم وترون ما يدور حولكم. فشلة، خزي، واحد طرطور يلعب بالبلد كله، نسوانكم هناك أفضل منكم وحق هذا الكأس.

يطبق صمت تام حزين في الرقعة ليعمّ البار بأكمله، بينما تتملّكني نوبة خبيثة من الضحك يصعب علي بلعها فأنخرط بضحك شيطاني عالٍ. أنهضُ لأقبِّل القريب الخطيب حسن على فمه وأنصرف.

الصوت متربص بي يملأ أذني حال مغادرتي المكان:

- حصادُكَ تبن.

-  لا أمل َلي إذاً في تغيِّر الحال أو العودة مِن حيث أتيت.

يرافقني وأنا أخب في سيري، في الظلام، أشعل سيجارة، رامياً العقب بعد الآخر. أضرب جبهتي بعمود النور. أنظر في المدينة، أشكُّ بأن أسماء التقاطعات وإشارات الشوارع هي نفسها. أستدير نحوه، أعاتبه:

- أسماء الشوارع تتغيَّرُ كلما أدرتُ وجهي عنها. إنها خدعة، ألا ترى، كما في أفلام الرسوم المتحركة، اللعبة ذاتها مرة أخرى، انظر.

أتأكّدُ ثانية من ذلك. خطواتي عند التقاطع محتارة في وجهتها. أفكِّر بها. أصيحُ بها. ألعنها. أعاتب:

- يتواطأ العالم ضدي.

رغم ذلك أخجل من نفسي، تودُّ خطاي الذليلة الكسيرة لو استدارتْ مرة أخرى وقصدتْ دربها الملعون.

...

أحدِّق في فتحة البريد كل صباح بانتظار رد على معاملة طلب التقاعد التي تقدمت بها إلى البلدية. أنتظر ردا من المحكمة بشأن حقي في حضانة الأطفال.

تنتهي إجازتي المرضية ولكن الكلام والشرح يصعبان عليّ فأخشى أن أمسك يوما بتلابيب المشرف وأخنقه، الغبي الذي يظنني مضطربا عقليا.

البيت وزعيق الأطفال ومتطلباته؛ لا طاقة لي على شيء.

أتنقل بين المحطات الفضائية العربية متسقطاً خبر سقوط النظام. ألعن، أسبّ، أرتدي ملابسي استعدادا للخروج.

ينفرش منتصف رقعة الشطرنج  في البار مساءً خبرٌ التقطه الوزير كشأنه عندما يشعر بحاجته إلى استعراض قدراته في الترفيه. يقول أن الشرطة في كوبنهاجن مازالت تبحث عن الجاني في قضية رأس حورية البحر. الأخبار تنقلُ بأنَّ الرأس قد تمَّ قطعه بمنشار من حديد، وربما استغرقت عملية القطع بضع ساعات أثناء الليل، فعنق الحورية من البرونز، سمك 6،6 ملم. هذه هي المرة الثالثة التي تتعرّضُ فيها حورية البحر إلى عمل تخريـبي كهذا. الأخبار تشير إلى أنَّ الجاني كان مُصمِّماً على قطع الرأس، رغم ما قد يتعرَّض له من عقوبة في حال القبض عليه. وفق بعض التحليلات التي ذكرها بعض المختصين يُشار إلى إنّ الدوافع قد تكون انتقامية، تخريبية.

تبلغ حمى النقاش ذروتها عندما أنهض أنوي مغادرتهم وأنا أرى رقعة الشطرنج وهي آخذة بالتصدع وكأن زلزالا سيصيبها بين لحظة وأخرى.

...

تجوس حيها ليلاً. تتوجه خفية إلى شقتها، تراقب حركاتها من خلال النافذة، تنتظر نوم الأطفال، تنتظر موعد ذهابها للنوم، تتخيل نفسك مندساً في فراشها، تغمر وجهكَ بقطع من ثياب نومها الشفافة الملونة، تقترب كثيرا من نافذتها لتقفز تتلمس أجزاء جسدها العاري.

تكون مرهقا جدا عندما تصل البيت. تتأكد من إن المفتاح هو ذاته، تديره ثانية وثالثة دون جدوى. تتفحصه ثانية. تدق الجرس، تكرر ضغطك على الزر. تضرب الباب بيدك مرة، مرتين. تنادي على امرأتك. يخبرك جار بأنها غيَّرت القفل في غيابك. لا تفهم السبب. تنتظر فتركله بقدمك، مرة، مرتين ثلاث حتى يندفع منفتحا بعصفٍ إلى الداخل بالركلة الرابعة.

 

مروى البصري

1

- اللعنة، تلك الدول يا مروى تحسسك بفضلها عليك، حتى في شروق شمسها التي هي شمس العالم كله.

 اتصال رضا كان مفاجئاً. لم أصدِّق. أعيد مكالمته وأنا في طريقي للقائه، كلمة كلمة، مرة بعد مرة. لم أنم حتى الصباح. تتابعت الأحداث في الفترة الأخيرة بين انشغالي بالرسم والإعداد للمعرض الأمر الذي هزّني فلم يكن باستطاعتي النوم.

تعبت في وقوفي أمام المرآة ولم أقتنع بكل ما جربت ارتداءه. أشعر وكأن جسمي يختض بأكمله. تملكتني الرهبة باقتراب موعد خروجي للقائه حتى ترددت وكدت أن أتخلف عن موعدي.

يستقبلني عند مدخل المقهى معانقاً. غمر ضوء الشمس ووجوده القريب المكان، الأمر الذي أربكني لأول وهلة. رضا المولاني لم يتغيَّر.  يبدو كما عرفته دوماً رجلاً ناضجا مسؤولا. إنه هو، هو بعينه، يجمع في شخصه كلَّ ما يمكن أن أنجذب إليه في رجل. تهاجمني صورته جامعياً متحمّساً، بذقنه شبه الحليق، بقميصه الأبيض الذي يكشف عن صدره وبنطلونه الرصاصي. ينهض من مكانه وسيماً منتصب القامة ليهّم بمصافحتي.

كنت منشغلة بالتفكير به بصمت. أنسحبُ حال وضوح بوادر تجاذب بين اثنين. أعلو، أسمو عندما أُشفى من إعجابٍ أو حبٍّ. أتلقّفُ ذاك الشعور بين إثنين قبل توضّح أمره بينهما. لم يخطىء إحساسي يوما، لكنني أُدرك كل مرة بأنني لن أعود التي كنت؛ ثم من البديهي أن تكون نهلة لـ رضا ورضا لـ نهلة؛ الجميلون للجميلات.

ندعى أنا وهي إلى حفل سياسي خاص سري يضّم الجنسين من الشباب في صالة شقة عالية صغيرة، يعد برنامجه إتحاد الطلبة الشيوعيين. وبرغم عقوبة الإعدام فليس هناك من فتاة تقوى على مقاومة إغراء شاب لا تخلو يده يوماً من كتاب أو جريدة، ينظر إلى الحياة والمرأة بشكل خاص. رضا يتحرك بحماس مغر ودراية لا نعرفها في إدارة الحفلات تلك.  يطلب مني إعداد بعض اللوحات والشعارات، أترجى أخي الكبير ليخطّها. كنت في أوج فرحتي لشعوري بتميزي وأنا أنتمي إلى تلك الفئة الخاصة من الشباب. ما عمّق من أثر الحفل في روحي أيضا هو إنه كان آخر نشاط غير عائلي قبل أن يُنسَف الحزب بأكمله. لم أحضر بعد ذلك التاريخ حفلا يلتقي فيه الشباب من الجنسين دون رقابة من الأهل. حتى نهلة يتملكها وهي تتعرف على هذا العالم السري إنبهار وحماس كبيران له؛ هي التي أبدعت في تحايلنا على الأهل من أجل حضور اللقاءات تلك التي كانت محفوفة بالخطر. 

 أرتبك كل مرة أصادفه مذ صغري، وهو يطرق الباب ليطلب مقابلة أخي أو وهو يحييني من بعيد بإنحناءة مهذبة من رأسه، وهو يطل على المسرح مرحبا بالحضور. أتوسل " نرجس" لتعيد علينا قص حكاية هيام إمرأة الفرعون العزيز بالنبي يوسف. الطريقة التي كانت تصور فيها نرجس المرأة كانت حية مزعزعة. صور مطبوعة في بالي عن وجه يوسف، قميص يوسف، ظهر يوسف، عن الباب الذي كان مقفلا على اللهفة والرغبة، داعيا النفس للغواية والسوء. ويأتي من ثم دور النسوة التي دعتهن زليخة ليرين بأنفسهن من هو الذي راودته عن نفسه. صورهن وهن يقطعن أيديهن بالسكين وهي تدخل يوسف إليهن، ثم تقول لهن نرجس وقد تقمصت دور زليخة وأفاضت بتشفيها خارجة عن النص القرآني في شماتتها بهن:- ها كم، هذا الذي لمتنني فيه.

أوه، أشعر حينها بأني متيمة بعشق رضا، لا أحيا إلا بفضل قبلته التي طبعها خطفا على خدي.

لا عجب في اختياري لهم جميعا. يذكرونني ببعضهم. أنا التي تختلف. أجلسُ منتظرة ليلة عرسي على حافة السرير الأبيض أرقبُ عدنان يتعلّل، يدّخن، يذهب، يجيء، يقعد، يقوم. أشكُّ بأنوثتي لأخلص من الموقف، أشكُّ بنضجي وحضوري عندما يخرجني من عالمنا المفترض ليعيدني إلى الأرض إسوةً بالبشر. هل أدعوه، أنام، أغسل وجهي من مساحيقه، أفتح باب الغرفة لأصرخ، أم أتوسل أن يتركَ ما يعذّبه جانباً ويأتي إليّ؟

- ونهلة...ما أخبارها ؟

 يحضنني رضا مرة أخرى قبل أن نجلس ويضحك بأنفاس مكتومة قبل أن أُكمل سؤالي.

- تقصدين هيلينا، هيلينا سابا.

نطلب شاياً. الحديث طويل عن رحلته مع نهلة، قبل الوصول إلى دول اللجوء، من كوردستان إلى سوريا فبلغاريا قبل الإنقذاف إلى هذا القسم من العالم؛ - " الخطوة الأخيرة التي لا ينفع الندم من أجلها الآن"، يقول بصوت منخفض.

يقدم لي السيجارة تلو الأخرى. يذكر تفاصيل تثير حفيظتي، أؤثر صمتي؛ نهلة غيّرتْ اسمها إلى هيلينا، جَرْجرَتْه من محكمة إلى أخرى: - " هنا الأم أولاً إن لم تعلمي، والأب متهم حتى تثبت براءته في الجنة أكيد". يقول بأنها منعَتْه من رؤية الأطفال، حصته منهما هي بضع ساعات تحت إشراف البلدية، يكبران بعيدا عنه، يمرضان، يفرحان، لديها كل ليلة صديق تسهر معه، الرسول كان له الحق في إلزام المرأة بتلك القيود وإلا لا أمانَ لهن، عقولهُن، توازنهن، هرموناتهن التي يدوخننا بها كلها تختّل، كل شيء يختّل بهن...

أبحثُ عن سيجارة، عن بقايا سائل في الكوب الفارغ أمامي، عن شيء ما في حقيبتي، لا أعثر على شيء. أزحزح الكرسي، أتلمّس شالي، أرفع ذيل ثوبي الطويل وأُمسِكُ بحقيبتي أُشعرُه بضرورة مغادرتي.

انفعال سريع يظهر على وجهه يرسم أبعاد صورة مختلفة له. أشعر بأني ربما في المكان الخطأ مرة أخرى، أمام الشخص الخطأ.

لكننا نقضي على علبة سجائره فيهّب فجأة من مكانه ليأتي بأخرى دون أن يمنحني الفرصة لأريه استنكاري. يخفُّ مسرعاً ليترك الطاولة، مخلِّفاً نظرةً محتجة على انفعالي، من شأنها أن قطعت الطريق عليَّ لأنصرف.

أفكر وأنا أحرك الملعقة في كوبي بأن عينيه زائغتان، امتلكته نهلة منذ الليلة الأولى، ابتلعته بعينيها روحا وجسداً فانتابتها نشوة غامرة. لروحها قوة سحرية تخضع بها من تشاء. عندما زارتني نهلة في بغداد، تعمّقتُ في زرقة عينيها فرأيته سابحاً مثلي في بحر متلاطم لا تريد لنا إلا التوغل فيه والتوغل. أُبعِد خرافات نرجس وأنا أنظر في زرقتها. في زيارتها لي في بغداد إثر انتقالنا استرجعتُ جزءاً كبيراً ضاع مني في الإستدعاءات والتحقيقات، في إعدام أخي والتهديدات. لا أعلم حينها من أين برزت وكيف عثرت علي. لم تجبني أو لدهشتي لم أسألها. لم أظهره لها، زعلي حينها يبدأ يتنامى، يترامى على كل مَن هو حولي. لكنها تعيد بعنادها أُنسنا فأنسى. تعود العلاقة غير متكافئة بيني وبينها، تكبر وتكبر، فأكتفي بأن أتظلل بسحر وجودها وسلطتها. تعيد لي أرضيتها التي أعتاش عليها وتفاصيل لا يجيد أحد سردها عن أيام المدرسة، عن جدتها الموصلية والشخصيات الأثيرة في المحلة.

كانت زيارتها لي في بغداد حدثاً مخلخلاً يدرج في حياتي. كم حاولت عبثاً ان أرسمَ ثيل الحديقة المرشوش عند العصر وهو يلامس أقدامنا، أغصان المطاط الضخمة التي يدفعها الهواء البليل برقة نحو بعضها اتجاه رؤوسنا. تأخذُ كلٌ منا ركناً من الارجوحة الحديدية العريضة وفراشها البليل. هل جاءت زيارتها بعد هروب أول، إثر انتهاء حرب، بعد غزو أم تحرير؟  عموما ليس ذلك بذي أهمية، ليس هو الفاصل. الفاصل هو الشعور الذي يتقاسمه البشر، الطبيعة المشتركة التي يظهرها حدثٌ ما فنتساوى جميعا. خيبة وأمل يمتزجان، الميل للأمل يجعلنا أناسا عاديين متشابهين، وما اختلافنا ثانياً إلا بدعة نختلقها، إذ كل ما نرتجيه هو دوام الحال. يسحب الليل الضوء قليلا قليلا، يُذهب بصفاء لون السماء ليحلّ محله ضوء النيون المخضّر الذي تخبئه أوراق متسلّق الياسمين المتشابكة على سياج الحديقة. رغبة شديدة في إستنشاق الوقت ببطء. مشاعر محاصرة وضغوط في كل الإتجاهات. خشيتي أن تُعاد الكرّة ثانية. نرجس في عيني نهلة الملونتين اللتين تختار لهما لونَ ظلٍ مطابقاً لزرقتهما ليزيد من توحشهما، وكأنها تؤكد لي من خلاله وجودها في هذه الزيارة. لعلها صفة تنفرد بها الإناث عندما تضيق سبل الترفيه وتقل المناسبات محاولة منا لإيجاد سبب للتفريغ. البنات وأنا أرقبهن يطلعن بكامل حلّتهن وبهائهن بعد كل منع تجوال أو هجوم جوي. عطر الحدائق المسقية فاغم صارخ ممتزج، لا يمكنني تحليل مكوناته، يذكّر بفعل الحب وغيابه؛ رائحتي تفوح بينما تطغي أنفاس أشجاره الربيعية في النهاية. رائحة بشر تنتشر بانتشار حسّهم، بانتعاش آمالهم. هل يعني بأن آمالنا انتعشت حينها؟ بالطبع لا. كانا يخططان لهروب ثانٍ. نقف أنا وهي عند باب الحديقة طويلا، تنسى أن تسألني عما أفعله، عن أهلي ومصيري. أو إنها تسأل دون أن تسمع جواباً، أحاديث قصيرة لا تنتهي، سأعرف إنه الوداع، الليل يحرس تلك الحديقة البغدادية العتيقة الملأى بالقصص والأسرار، أسرابُ بقٍ تحتفل حول النيون، خفافيش تتخاطف، خلايا نحل نائمة، زن حشرات وحسحسة عصافير في أعشاش مخفية. يتراقص أخضر ورق المطاط الكحلي اللامع فوق رؤوسنا، يخشى هروبنا جميعاً فيمسّ شعري وشعرها يقول الأمان آتٍ،  لِمَ العجلة، لم النأي، لا تستعجلوا، لِمَ أنتم مستعجلون؟  كنت وأنا أجلسُ قبالتها أستعيد طفولتي، أعود طفلة تُصغي لتُسعَد بإسعاد غيرها. وكأني أصغي لـ نرجس مستلقية على الحجر الكاشي البارد عند القدميين الحديديتين لماكنة الخياطة اليدوية. تغني شاكية وهي تعمل، وأنا كالمقبلة على تنويم مغناطيسي أُتابع حركة قدميها على دواسة الماكنة صاعدة نازلة.

لا أتحرك من مكاني رغم شعور بالقلق يجتاحني. عندما عاد رضا بعلبة سجائر بدا أكثر طولا، إعتدالاً، بخطوات رشيقة بطيئة راسخة أعرفها وهو يلقي قدميه على الأرض. جسمه لم يتغير، لكن وجهه وجه مَنْ خبرَ الحياة، يكتنِفُه بعض من الذهول واللوعة. خطوط الشيب الواضحة  مدّته ببعد جميل آخر. انظر له وأقول بسري:- انت ولا شك تائه منذ ذلك اليوم! 

لم أكن راغبة برؤيتها أو رؤيته بعد وصولي الدنمارك. قوة ما كانت تشدُّ ضد ذاكرتي، ضد شوقي واحتياجي لهما. أشعر بأني تخلّفت دهرا عنهما، مذ غادرا في ذاك الصيف. أذكرُ حتى اسمراري وشعري الفاحم ينـزلانني مرتبة دون نهلة. تصورتُ لفترة بأني هنا من أجلهما، بسببهما. أحمّلهما أيضا كل هموم البشر من حولي في البصرة وفي بغداد. حدادي طال وظنّ من تبقى لي من أهل هناك بأني هالكة لا محالة. لِمَ أطعتهم و تركتُ الأمان؟ لِمَ بعثوا بي إلى هنا. ما الذي فعلته بنفسي، لو لَمْ أتركْ تلك البقعة هناك؟

تلك الحفلات الصاخبة خلف أبواب موصدة مراقَبة، وشبابيك مُسدَلة الستائر تقتصر على فئة منعزلة في المجتمع تعلمنا منذ نعومة أظفارنا الفصل في التحدث، اللبس والتصرف بين الشارع والبيت، عند الجيران وفي المدرسة دون أن نعي ذلك، ما يخلف غربة في دواخلنا إزاء الباقين في المجتمع، ربما وبدون وعي منا قاتلنا من أجلها، زادت وضوحا هنا وصَعُبَ عليَّ أن أتعرف على ما هو عراقي أو غير عراقي، ما هو سائد وما هو خاص. حتى يكاد العراقيون كالدنماركيين أن يشكّوا في عراقيتي هنا. آه منها، تلك الأجواء المختلفة التي عشناها والتي تحتمل أن تفلتَ الرغبات من لجامِها بعض الشيء فتشهد انطلاق رضا ونهلة وتؤكد لي عصريته، رضا البهي، المحتفظ ببهائه، الذي يخرج من السرب الذاعن ليكتسب إشعاعا أكبر. الكتب التي كنا نتداولها بحرص ذاتي وحب في المعرفة، التي تجعلنا نتخيل بأن البعض مثقف أكثر من الآخر، تجعلني مبهورة به، مأخوذة بما حوله، بل ستترك في داخلي حباً وإدماناً خفياً على التفكير به. لكن نهلة تخبرني عصر يوم في الحديقة في بغداد بأنهما سيغادران إلى حيث لا تعلم. الجميع يخون، من سيصلح العالم إذاً؟ الناس اعتادت عزلتها إلى درجة فقدان الإحساس بما يدور في العالم. حس الفضول يتعطل عند البشر، لم يعد يعني الجميع ما يمكن أن تكون عليه الحياة في أماكن أخرى غير ذاك المكان من الأرض الذي يبتلي به البشر. غير القلة الذين كان لديهم وفرةٌ أو وعيٌ، لم يكن أحد ليملك طموحا أكبر مما يمتلكه جاره. تمتليء الناس بفراغها. لذا سيخلِّفُ سفرهما خيبة وفراغا كبيرين من حولي.

كنت أراقب حركة يدي رضا المتسقتين مع نبرة صوته الساخرة ونحن جالسان حول الطاولة الصغيرة في المقهى. تراءى لي في البدء وللحظة بأني لن أقوى على مقاومة رغبتي بمسكهما بين يديّ المرتجفتين ولثمهما. كنت أفكر:- ها أنا أمامه ثانية، أقرب مما حلمت بذلك يوما. يعتدل في جلسته، يرجل شعره إلى الخلف ويفرك جبهته. أتأمله، حمداً لله أنه لم يمتْ ميتة "مدحت"، أتساءل لِمَ يختار الكتّاب هروبا سهلا فيدبجون نهاية بائسة لبطل نريده مَثَلا حيّا يحذو الآخرون حذوه، بماذا فكّر التكرلي وهو يختار نهاية مدحت، هل ليتجاوز نهاية سعيدة أم تُراه يخشى على مدحت مصيره. وكأنه يندحر أمام المفروض الذي لا يُقهَر حتى في الخيال فيبتدع مهربا مخيِّبا. لِمَ يُهرِّب "جبرا" "سراب " إلى الخارج عندما تقترب من اتخاذ  قرارها الخاص بمنح نفسها لحبيبها، الأمر محيِّر بالفعل، أما كان أولى به أن يجعلها تدافع من مكانها بين ناسها؟ لِمَ جعلها تنفذ بجلدها من الواقع الذي فُرِض عليها بدلا من مواجهته؟ قلة هم الذين يتسلمون هذا الدور التاريخي فيَرتقون إلى الهدف. نهلة ورضا يكتبان قصة أكثر واقعية وأكثر جرأة في الجنة على الأرض. يلتقيان عند شجرة آدم، قريبا من ملتقى النهرين الحنونين، ينفصلان عن الجمع وينحدران باتجاه الشط، يتأملان طويلا في ذلك الاتحاد الجريء المكشوف الذي يمتزج فيه اللونان الأخضر الشطي بالرمادي وأسْوَدُ النخل فوقهما. تسرني نهلة بفرح بأنهما امتلكا بعضهما هناك عند الجرف الرخو اللين الباذخ في غوايته.

 تختار نهلة اسما لها؛ "هيلينا" يلائم زرقة عينيها وطول قامتها. لستُ الوحيدة إذاً التي تظن بقرارة نفسها بأنها هي فقط من تمتلك أسباب منفاها وليس غيرها. لفترة أقتنع بأسباب لجوئي وأنكر على الآخرين حقهم فيه. باسم هذا الحق الذي مُهِرَ في أوراقي أتلمسُ ضياعي، يصحو الأموات من قبورهم ويمتلىء رأسي بصراخهم ولا مفرّ. أصواتهم تلاحقني. اللجوء، سأفهم معناه لاحقاً، يجرّدني من قبعة رأسي، أقراطي، أساوري، سلاسل عنقي، قلاداتي، حِجلَي، قفطاني وثوبي وحمالة صدري ولباسي الداخلي، يفتح لي الباب الموصد على جروحي، صور أحبتي، كوابيسي. أُدمي يديّ في ليلي ليكفّ الصراخ، كي تكف أمي عن ترديد تلاواتها وتضرعاتها. كي تكف جثة أخي في الشوال عن التحرك بعد منتصف الليل في دهليز البيت حيث رموه.

نهلة تختار إذاً أن تغيِّرَ حياتها، تأكيداً لإعلانها المقاطعة لنا جميعا. تعرف دوما ما تريد. أقولها لـ رضا فيتهمني بتقاطيع وجه ساخط بالإنحياز وبالنسوية التي أبت إلا أن تبرِّر كل أخطاء النساء على وجه هذه الأرض.

يخيفني تعصبه بالحديث. حالة لا تشبهه. يتنازعه حنين وتصعد غصة كبيرة يخيَّلُ إليَّ إثرها بأنه سيضعف أمامي. لا، لستُ أقوى منه الآن. بودي لو أغادر المكان لكن الوقت يمر وكله عتبٌ وزعل، نتبادله لكننا نحجم عنه بغتة.

 

2

زيارة أخي كانت مفاجئة. أخي حبيبي يزورني في غرفتي. علَّ قلبه شعَرَ بضيقي يومها. لا يحتمل رائحة الأصباغ والتدخين في الغرفة. نصل شارع المشي سيراً بطيئا على الأقدام. كان آب ولم يكن الجو ليدعني أقول أقلّ من إن كوبنهاجن كانت حديقة من حدائق الجنة. نتوغل في شارع المشي فيطلب مني أن أتمهل قليلا عند ساحة  " آمار تورف"، وأن أرفع رأسي لأنظر إلى ما حولي ونحن نسير، عاليا إلى طراز وسمات المعمار.

 - " انظري مروى إلى البيتين باللون الأحمر هناك، طراز هولندي يختلف عن باقي البنايات، كان الملك كريستيان الرابع مغرما بالطراز الهولندي، الشبابيك من حولنا جاءت بعد حريق المدينة الثاني، تأملي منارات الكنائس، وتلك المزاريب من النحاس، إقرأي أسماء الساحات، الشوارع... الله، مروى، شمّي رائحة العتق، تخيلي مواكب الملوك، الدسائس التي تحاك لهم، مخادع عشيقاتهم، الحرس على خيولهم، الفوانيس التي تضيء الشوارع والأطفال الفقراء. منذ مدة طويلة وأنا أحلم بإجازة. آخر زيارة لي كانت مع مدرسة اللغة. إنه يوم مبارك، الهواء شفاف أكثر من كل يوم في كوبنهاجن. خال من حبة رمل أو تراب. انظري، الشمس واطئة جدا وشكل الغيم ناصع البياض مجسم حاد النهايات كرسمة أطفال. يا إلهي الصور غائمة هناك أبداً، الجو مغبر هناك."

بدا أخي انيقاً وانا أتامله. له شبه بالمرحوم ولي شبه بنرجس وأخي الأكبر غير الشقيق. نحن الأخوة الثلاثة وبرغم ارتباطنا المتين ببعضنا لا يجمعنا شيء. أسير معه وأنا أفكر بأن تأنيب ضمير كبيراً قد تخلّف عنده تجاهي منذ زيارتي الأخيرة له في أورهوس حمله على السفر إلي. كنت هادئة، فرحة به وأنا أراه منفتحا معي، مهتما بي، وهو يوصيني بأن أنسى، أن أرفع رأسي عاليا وأن أنتبه إلى ما حولي، أن أعيش وأغتنم الفرص المتاحة لي هنا. صوته لائم:

- صحيح إن الإنسان صار أكثر أنانية وتفكيرا بالنفس، لكنه أيضا أكثر تحررا، أكثر ثقة وإيمانا بنفسه وجرأة، والتطور ليس بالضرورة سلبيا في هذه الحالة، التطور بهذا المعنى يدعمكِ لإتخاذ قراراتكِ في الحياة.

- صرتَ دنماركيا.

- العالم يا مروى لا شأن له بكِ، بل ربما يفرح لإستقرارك وهنائكِ.

- وهل أنتَ مرتاح حقا؟

- أجل، ومتفائل أيضاً.

- لا أستطيع ان أنسى منظر المرحوم في الإيوان.

- خسارة كبيرة، لكن الحزن لن يعيده لنا، لن يعيد أحبتنا، يجب أن نخجل من حزننا، اهتمي بنفسك، واصلي حياتك.

نجلس في مطعم صغير لنأكل. يتحدث عن طفليه ويسألني بصوت خفيض عن ابنتي.

- ابنتي تختار أن تطيل ألمها وألمي بمخاض قاس. تولد زرقاء هامدة الروح بين يدي. يتحول لونها الأصفر إلى البرتقالي فالأزرق. أرفع نظري عن جسدها الهزيل الملفوف بالقطن بحثا عن أبيها، خوفاً من موتي... أحياناً أجد جدران الغرفة تصطبغ ببقع برتقالية مزرقة. أحياناً تستيقظ رائحتها في يدي...

يقاطعني ليسلمّني حينها رسالة ابنة أخي "مروى الصغيرة". بسبب تغير عنواني الدائم وكرهي للرسائل أفضِّل أن يستلم أخي الرسائل أولا، تمهيداً لسماع الأخبار السيئة. أفضّها بالحال بيد مرتجفة ولكن بإحساس من الإطمئنان لوجوده معي. أقرأها على عجل لأعود إليه. نتبادل نظرة سريعة فنجهش إثرها بالبكاء طويلاً متعانقَيْن.

لا أحتمل غياب الأحبة، وداعهم، تغير العناوين، الناس والسفر المتواصل. نعود إلى شقتي. أسلِّمُه لوحة كانت باسمه فيغلِّف وجهه ظل سرور عند وداعه لي.

تلك الليلة هدّني الحزن فأستسلمت لنوم مبكر عميق لذيذ وكأنني طفلة تعيشُ يوما مليئاً بالأحداث والإنفعالات تصرخ ليلاً لاكتظاظ يومها الصاخب ولكنها تعود لتغفو بعمق. في الحلم كنت نائمة وأمرٌ ما أيقظني مبكرا، ربما انسَحَبتْ يده من تحت رقبتي، أو حشرةٌ شعرتُ بها تدِّب على ساعدي. فززتُ مذعورة. النهار ناصع والنوافذ التي تطل على الحديقة واسعة، تفتح ذراعيها لدفقات عبير الأخضر بتنوعه. المرآة تعكس لي سعف النخلة عبر النافذة، متداخل بحنو مع أغصان السدرة الهرمة، بينهما تتسلل أشعة شمس لتلقي ظلا راقصا مرقشا على فراشنا الواسع. جسده زاحفٌ متكور لصقي، بالتفاتتي إليه يسرقني الماء. الحديقة تفيض بالماء، دهشتي كبيرة، الماء شحيح، ضنين على الأرض العطشى في البصرة. يغمر المساحة المفتوحة أمامي، يعبرُ الأحواض المفصولة عن بعضها بسدود ترابية صغيرة. يصعد حيث مستوى بلاط أرض الممشى الذي يحيط بالحديقة. أكذِّب عينيّ، أُنزلُ قدمي من السرير أنوي تبين الأمر. عيناي مثبتتان بماء الحديقة وقدماي تبحثان عن خفيّ فتلامسان الماء. أمرٌ ما يخطر بذهني. أسكنُ لأتأكد من أنني أحسُ بشيء، أقفُ فيفاجئني تدفق الماء حارا بين ساقي. أرتعبُ وأنا أضم فخذي، لكنه يزداد تدفقا، وتسري برودة كالثلج في جسدي.

...

أعيد قراءتي القصاصات التي بعثتْها مروى الصغيرة إليّ والمجموعة في مظروف. أعيد قراءتها لأُبقي على جرعة الحزن فيّ كما هي قدر المستطاع.

" في الليالي التي تشتدّ نوبتها تأمرني أمي المبيت معها في الغرفة. أنتِ تعرفين كيف هي عمّتي. أنا اخاف من النوم ليلا في غرفتها. كما تعلمين فهي تتحدث وتصرخ وتصرّ أسنانها في نومها."

"وفاءً لكِ ولها، وعذرا لرداءة الورق فما زال الحصار مفروضا علينا."

" عندما تقتنصني في النهار وتطلب مني غلق باب الغرفة لكي نُكمِل كتابتَنا، تتحدث وكأنها إنسانة أخرى، كلُّها صحو ونباهة وحنان أيضا، تكرِّر وهي تُملي عليّ ما أكتب... اكتبي يا ابنتي، اكتبي"

"ملاحظة: أملتْ عليّ رسالتها الأخيرة قبل يوم من وفاتها يرحمها الله. خالص تحيتي، إبنة أخيك، مروى  الصغيرة"

" الغالية بنت الغالي حِس الحبايب مروى، اليوم خميس، اللّمة راحت، حِسّ الحبايب راح، راحوا، خَلَت الدار، نسوني وحيدة هنا، بَرْد بغداد مأوى الجنّ ينخر العظم، أدعي تفك أزمتها يارب بجاه هالليلة. ناوليني يا بنتي دفتر الأدعية. إكتبي يا بنتي."

" لم يصلنا خبر منكِ أو من أخيكِ، ميتة أم حية لا أدري، قلبي مثل النار عليك، حضنتُ صورتكِ، عيونكِ تشكي يا مروى، يا زينب يا الغريبة، تشكي لي غربتك، هل أنتِ بخير، بكيت حتى غفوت. أنت تعلمين أنا لستُ سوى كوابيس مذ خلقتُ."

" سبحانك، هكذا تخلو الدار ولا من يسأل ولا من يعتب. ختمت القرآن ودعوت اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته قبل الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يارب العالمين. إقرأي القرآن يا "مروى" وسيجعلك تنامين."

" مشكلتنا كبيرة، بكبر الجبال، لن يحلها حلاّل، المدينة خراب ينعق فيها البوم والغراب، وهمومنا بحور والقلب تآكل انبرى وذاب يا مروى. العقل يصغر تالي العمر يا مروى. لن ينفع لا صلاة ولا صوم، خلص العمر، كلامكِ لن ينفع، العمر أتعبني وأتعبته، ولكن يا مروى، يا قطعة من هذا القلب، قلبي الذي أظنه أحيانا مركونا على رف، أو مخزونا في جارور، يصعب علي أن أصدق، إن العمر يقاس بشيب الراس، بسمك زجاج النظارة، بوصول التواليت المتأخر و الجلد اليابس المزرق."

"  نرجس الغريبة، أنتِ تحبين اسمي من يوم كبرتِ وتعودتِ على هذا الحضن الخاوي، تسمينني" نرجسة"، يا مروى ياعيوني النرجسة تركتها أنا أيضا هناك في البصرة منتظرة ما زالت، شعرها الأسود برائحة "صابون الرقي"، بقلبها الفتي الملهوف الناطر وألوان ثيابها الصيفية التي سهرتُ على خياطتها ألف ليلة ناطرة الليلة تجي. الأيام مرت من شغل إلى شاغل، ومن همّ إلى همّ وعيني على قلبي المركون، أقول في سري سأنشغل به بالغد، سيأتي من يشغله. قلتِ لي، سينشغل ولو صار عمري ثمانين. أعرف أنكِ تكذبين. وكذبٌ وعدكِ لي بالعودة والسؤال عليّ."

" زاروني كلهم الليلة الفائتة بالحلم، جلس أبوك على حافة سريري، أتى مع نسوانه، كان قويا محتفظا بهيبته وطوله، يرتدي سترة عرسه الكحلية، أخوكِ "سودة عليّ" بقي واقفا واللون لم ينشف على يده وفي أظافره، لم يشأ الجلوس قربي، عساهم بنار جهنم، يا رب أنت العليم أنت السميع. عندما سألوني عنكِ خرَسَ اللسان، اسم الله يحرسك يا نور عينها اللي راح وعيني أنتِ، أمُكِ المسكينة خطفتْ صورتها مثل الضوء، مثل البرق واختفت، تخشى سؤالي عنكِ."

" تمزحين معي كل مرة. بائرة والوقت فات وأنت تكذبين علي، وهو كل ما كنت أتمناه. الخاطبة تقول ماكو قسمة، وطار العريس من يدي. وفات العمر وأنتِ تقولين لن يفوت يا نرجس، دعيني أقطِّع شعري أعضّ أصابعي وألبس ثياب الحزن، كذبكِ مكشوف، وكذب إن كنتِ قد نسيتِ أهلك وناسكِ."

" حب الله ورسوله وعلي لا يكفي يا ناس. الناس لا تدري بضيمي. لا رحمة ولا فهم."

" مروى الحنينة يا رقة وردة جورية، يا ريحة العزيز الغالي، الضفاير الذهب والعيون المكحلة الناعسة والقدّ مثل الغصن. شبعت من القطيعة والغربة والوحدة، يتراءى لي أنني في الحوش، نايمة على مكينة الخياطة والدنيا نهار، الدنيا صبح وأنتِ تقبلين عليّ فرحانة لا تحملكِ الأرض مع زوجكِ، عروس بثوبكِ الوردي، ما أحلى وجهكِ وهو يضحك."

" مروى، اسمعي وانسي، زارني العبد ليلا، ضخما جثلا أسود لامعا، عاريا تماما، اشتهيته وتمنيته، طويل القامة عريض الهامة، لم أستغفر ربي، رغبت بيه، أنس أم جن الذي وقف طويلا أمامي، وضوء القمر من النافذة يضرب على وسطه، النار مشبوبة به، عاينته وبنظرة منه صرت جاريته: يا سيدي حبيب قلبي ثمرة فؤادي أقبّلُ الأرض بين قدميك. وغفوت. عندما صحوت الصبح، لم ألمسه، لا والله، لم يمسني ولم أمسسه، ولكني شعرتُ بأني لست وحيدة. فقدت شهيتي ولازمت سريري. وبمرور الأيام أخذت بطني تنتفخ. أجل منذ تلك الليلة. وبمرور الأيام كبَرَتْ، و سرّي كان لي وحدي، فرحتي لي وحدي، وخشيتُ الفضيحة والعين الحاسدة، أ بهذا العمر يا نرجس، ولكن ما هم،ّ وهب الله سارة اسحاق على كبر. وأخفيته تحت ثيابي. يتحرك في بطني ويكلمني ويونسني، قلبي يقول إنه ولد يا مروى، بقيت في غرفتي، أخاف أن أخطو الخطوة، لا أزور أحدا ولا أحد يزورني أخشى العين والحسد والفضيحة، يكبر ببطني لكنني فكرتُ بزيارة الحسين عليه السلام لأطلب له مراداً، أنذر له نذراً هناك. زوجة أخيك يمدّ بعمرها أخذتني إلى هناك. أظنها عيناً حاسدةً أصابتني في الطريق، ولن يصدِّق أحد قصتي فحالما دخلتُ الحضرة ارتجفت ساقي واهتز جسمي بأكمله وانتفضت مثل دجاجة مذبوحة، وكأن أحدا نقر بطني بسكين، شعرتُ بوخزة أليمة لا توصف، كأنه مخرز، لساني التوى وسقطتُ في بركةٍ من الدم."

 

3

اختفى رضا. لا يترك اثرا ولا أسمع عنه شيئا. لم يكن ذلك غير متوقع، فما الذي يجعله بحاجة إلي؟ انتقالي إلى كوبنهاكن يمهّد لضياع أكبر، أجابهه مستسلمة فيهزّني. أميل إلى أن الفنانين، المسحوقين منهم خاصة، أكثر تضامنا. تتصل ماريا لتطمئن ويحضر جاك، يصر على أن يعطيني مِساجاً لرقبتي وظهري. كان يضرب على الباب ويضرب حتى يصيبني الغضب فأنهض لأفتح. أرغبُ بالعزلة. أبحث عن لون جديد للبحر أسميه باسم حبيب ما زال يلتهمني، عن لون لوردة يحمل اسم إبنتي التي سحبوا يدها عنوة من بين يدي. أروح أمزج بيأس ولليال ألوانا دون أن أنتج شيئاً. أسير باكيةً ثوباً لا أتذكر عند مَنْ أودعتُه من ضمن ما أودعتُ، أشياء تعود لي، لأمي، لـ نرجس، حقائب توزعت عند الأهل هنا وهناك قبل مغادرتي. أحاول أن أسترجع صورة أخي المرحوم وهو طفل. أتشمم رائحة عدنان بملابسي ممزوجة برائحة دم طفلته في لحافي. أفتقدُ رائحة جسدي الخاصة في فترة ما، مذاق لساني، مذاق جلده تحت فعل الحب. أبكي بحرقة رائحة الذكر القوية القاسية التي فيه. أبحث عنها ولا أجدها.

...

نرجس تردِّدُ " غريبة الروح " حتى تفيض روحها على فراشها الخالي، دون أن تجد من يعينها أو يشاركها حلاوتها، من يمسِّد شعرها، يلم شفتيها بشفتيه، ويضغط بصدره على صدرها. هي الأنثى التي تأتي بكل الدنيا، تخلق الطفل وتصنع حليبه، هي البقاء يُحدَّدُ لخصوبتها عمر افتراضي، ينكَرُ عليها احتياجها وشوقها مبكراً. تعنس، أية كلمة قاسية تقترف بحق الإنسان! تفرض عليها قوانين تخالف الطبيعة. تموتُ، بلا ولدٍ أو تلد، وحيدة في فراشها الزاهي العريض.

- " لن أرتدي السواد من أجلكِ يا نرجس، أمثالكِ لا يموتون، لن أبكي، لن ألطم. أُقسِمُ أرسمك إلهة جبارة، لأُكثِر من عشاقك، أزواجك، لتزدادي زهواً، لتشبعي جنساً وتبقي نقية، لتنتقمي، لتخوني وتظلي أطهر من الطهر، لتفعلي ما يحلو لكِ ". نرجس، تلك التي ترفع رأسها للسماء متضرعة، تنظر إلى ربلة ساقها، تبتهل كي تنتفخ. سأرسمها إلهة عارية، رمزاً لقهر الزمن، للخراب والظلم، شعرها جدائل مرصعة بورد جوري أبيض وأحمر، تاجها غصن أخضر، ومن عنقها تتدلى قلادة بفص أزرق ضخم يستقر بين ملتقى النهدين العامرين الممتلئين، يحرسها ويدرّ الحليب في صدرها، بطنها المنتفخ يكاد أن ينفجر، ليزيد الخصب، يحوطنا الحب، تكثر الهدايا، ليمتْ الكهنة الكهلة غيظا مكفّنين بعنتهم، لتنتصر الطبيعة، لتهطل السماء بالمطر، ليحل ربيع أخضر، ليأكل الحيوان، يلعب الأطفال من حولها، وليخرس كل الرجال".

...

لا أعتاد فقدي، فعندما غادرتُ بغداد ماتوا جميعا مرتين. أمي الفاقدة البصر تطلب زيارة الإمام المعظم لتسلِم الروح بهدوء بعد عودتنا بها، أخي وأنا، من بغداد. في الطريق الكالح إلى "مقبرة الزبير" أفكر بوحدتي المفزعة والتاكسي يتقدمنا بالتابوت الذي يحملها فوق سقف السيارة. ربطوا التابوت بحبلٍ، رغم ذلك كنت أخشى أن يقع في كل حفرة تنزل عجلات السيارة فيها. مسكينة، نتبعها في سيارة أخي. يلوح لي جسدها العليل الضئيل الخنوع القابع فوق تلك السيارة. ألتفتُ جانباً وأحاولُ أن أُشغل فكري. صار كل منهما الآن في مقبرة. لا تسرّني نرجس بشيء قبل أن تستسلمَ وتسافر إلى "وادي السلام" في النجف. كم هي غريبة طريقة معايشة هاتين المرأتين لبعضهما، تماما مثل استقرارهما الأخير هذا، وكأنهما تقبّلتا قَدَر تواجدهما معا في مكان واحد، هذا كل ما في الأمر. لم تكن  نرجس تحبُّ أمي بقدر حبها لإخلاص أمي لأبي الذي يُشبه إخلاصها. الرجل جمَعَهما، وهما في طريقهما إليه كل من صوب. بل إن نرجس هي التي جمعتهما، ففُرِضَ عليها وأمي ودٌّ خاص لم يكن من السهل على كل منهما الكشف عنه. لم تكن أمي تميل إلى التحدث كثيراً، كما لم تشعر نرجس بقدرة أمي على تفهّمها، ومهما يكن يبقى لأمي حصة الأسد في أبي، كما ترى نرجس.

 في رسالته يذكر أخي الأكبر بأن نرجس وبعد الإنتقال إلى بغداد افتقدت البيت وجيرانها في البصرة، كثرت أمراضها وزادت كآبتها، حتى انهم كانوا يضطرون في أحيان كثيرة إلى حجزها في الغرفة خوفا عليها من نوبات عصبية غريبة. عندما أشار عليه الجيران بأخذها لتزور الحسين عليه السلام، لم يتردد للحظة في ذلك، كما كتب، والحمد لله فقد سلمت الروح الأمانة بعد يومين بهدوء، ألف رحمة تنزل على روحها.

ماذا أقول لها عن وحدتي، أنا الغريبة. ونحن ملّة لا تأخذ فرحها إلا من الآخرين؛ نحن نستقي الفرح، لا ينبع منا؛ الفرح عندنا هو ما نتقاسمه مع الآخرين.

...

تنتزع نفسي نفسها من عزلتها فلا يأتي ببالي غيرها بعد حدادي ووعكتي. نهلة القريبة مني، ربما بضع محطات إن ركبت باصا، تصير بعيدة. أروح أجيء أفكر بها. تقف مثل حاجز في حياتي لا أستطيع التعامل معه. لم أفهم حالتي. كنت سأحدثها عن نرجس فتروِّح عني. لكنني كنت أخشاها. أجد في عدم محاولتها الإتصال بي تبريرا لشعوري.

أبقى مرابطة قرب الهاتف ليلة كاملة قبل أن أتجرأ وأتصل بها على الرقم الذي حصلت عليه من رضا. أتصبب عرقا وترتجف  يدي بشدة وأنا أمسك بالهاتف.

أبكي وأنا أغلق الخط. ليس صوتها فقط و تسلسل الحديث، بل لأنها تقول وهي ترفع السماعة معرِّفة نفسها " هيلينا ".

تقولها بصدق، دفعة واحدة، لسان دنماركي طليق، صوت من أَلِفَ هذا التقليد منذ ولادته، نغمةٌ لا تترك فيها للمتصِّل أن يمازحها، ولا الشك فيها لأنها تعنيها. ليس في الأمر شك، لكن الإسم غريب والطريقة غريبة. لكي أنحو منحاها: "هذه مروى البصري"، لا لا، أكون لا محالة قد انتهيت. كان رضا على حق إذاً بما قاله بشأن اسمها.

لكنها تسترسل بالحديث عن أخبارها فأسرح بعيدا عنها بما تخبرني إياه حتى أعدها أخيرا ًبالإتصال. وهل تظن بأننا سنلتقي، أنا وهي، وإن التقينا. هل سيحمل اللقاء معناه. أي حياة يختارها العراقيون هنا ويزهون بها. إنها محض أوهام. هل كنت مزهوة حقا بنفسي لمشاركتي مع مجموعة لاجئين ولاجئات بائسات ببضع لوحات في معرض ينتهي تأثيره في حينه؟ أي حياة تحدث أخي عنها؟ هل التقيت بالفعل بـ رضا، هل يقودنا أو كان يقودنا طريق واحد؟ هل هناك من هو مقتنع منا بالفعل بما يفعله ويقدمه في حياته هنا؟ هل يعوضنا هذا المجتمع السقيم الحياة الدافئة الغنية هناك؟

نحن نتصادم، نتقاطع مع بعضنا، يمرِّر أحدنا الآخر، بوعي كامل بالخسارة، للحياة العجيبة هذه.

...

الثلج يهمي ثانية. يمرر شقٌ في النافذة خيطاً من ريح شديدة البرودة بصفير حاد. يمتد أمامي تدرج رمادي يزداد قتامة في مداه. أضع جبهتي على زجاج النافذة المثلج. أهمل يوما بعد يوم التواريخ والفصول. يبرد جسدي وإن حاولت إيقاظه عنوة أمام مرآتي. يحلو لي ان أسترجع فعل الحب كل مرة أدفن جسدي فيها داخل الرجل. اتخيل وجه عدنان وهو يسخر مني. يزعجني السكر الذي يحرمني دفء المتعة أول الصباح. لا يضايقني غثياني بقدر ما يضايقني نسياني لتفاصيل الليلة. أحيانا أتوهم وجودي مع رجل.

...

 أعدتُ لـ نرجس اعتبارها. لكنني أيضا أعدتُ الاعتبار للكثير من الموروث فينا. لرغبتي بذلك ووعيي الشديد لحاجتي له. حديثي مع نهلة في الهاتف جعلني أسرح طويلا. ربما هو هاجس التغيير الذي يسكن هذه الفئة من البشر هنا. الهاجس يدفعني لأن أتمعن مليا بما عليَّ أن أُبقي وما علي أن أنبذ. لكن لماذا يجب أن نغيِّر كل شئ؟ ولِمَ يوصم كل ما هو قديم باللاجدوى؟ أي مقياس ترجع البشرية إليه؟ لِمَ هذا السباق ولِمَ الإستسلام للجديد الأجوف. إنني مع التمرد ضد هذا الخضوع، التراجع والتقهقر أمام الحديث المعاصر المستجد، لِمَ هذا الصمت على هذا التطور المتخلِّف الفارغ من كل معنى، وهوية وإحساس؟ تفهمت ما قالته نهلة عن رضا، بل فهمت من خلاله ما يلّم بي أنا؛ أبداً لن أشعر بثيابي تلامسني، وكأنها خيوط نايلون لا تُلقي بثقلها عليَّ لتلامس جلدي وتعزله. سأبقى أشعر بالبرد يخترق أكوام الثياب الملقاة عليّ، الخفيفة كالريشة.

الغريب أنني ما زلت تلك الطفلة التي تعيش عوالم منفصلة عن بعضها لا تملك القدر الكافي من الوعي لتجعلها متماسكة ولتمسك لها تعريفا.

 

4

يتصلُ رضا بي بعد غيبة طويلة. فيه من أخي، من عدنان، من مراهقتي، أهلي، من البقعة التي تدميه هناك ويخالها إلى الآن وطناً.

 ينهضُ من مكانه. يحضنني بقوة تربكني قليلا. لحيته التي أطلقها ملفتة. الخفّة في نبرته تفضَحُ مزاجَه. منفضة السجائر وزجاجة النبيذ على الطاولة تبيّن بأنه قد أتى قبل الموعد بكثير.

 يلحظ عيني المنغلقتين لشدة انتفاخهما، بقايا الانفلونزا التي أطاحت بي. 

- أنتِ بحاجة قطعا إلى مشروب حارق.

يقفز خفيفا من مكانه.

أخبرته عن نهلة؛ كشأنها دائما تقود الحديث. صوتها مفعم بالحيوية والقناعة والنكتة، تنفي عنه الغربة والثلج والرطوبة، الكلمات تتدفق، اللهجة بغدادية بصرية موصلية، دون انقطاع. صوتها فرِحٌ بي أيضاً، ينساب عبر الأسلاك بطبيعية وألفة واهتمام. منشغلة بالطبع بعملها، تعود يوميا منهكة تماماً، ليس من السهل الحصول على عمل مريح، وضعها المادي ماشي، لكنها تفكر بعمل مشروع يمنحها شقة وحرية أكبر، تضحك وهي تقول ذلك، لا شيء جديد غير متطلبات الطفلين، التسوق، البيت، الحال مستقر، لديها الكثير من المشاريع، تعرض علي الشراكة، لا بأس بكل شيء، ستفاجئني يوما ما وتطرق بابي وأعدها ثانية بالإتصال.

يستمعُ بفضول، يصطبغ وجهه بلون ساخر. تتغير معاني وجهه ليتخلف بداخلي إحساس بالتخلي تجاهها. بل ثمة قرار ما سأكتشف بأني اتخذته حينها وبدأت بتنفيذه ضدها. أتجرّع، دون رغبة مني المشروب الحارق مرةً بعد مرة.

سكتُّ لفترة ثم تابعت وأنا أتامله:

- ليتك لم تسبقها في حديثك معي عنها. كان الأمر سيكون أقل تعقيدا، إذ وهي مسترسلة بالحديث امتزجت صورها برأسي فتخيلتها هيلينا، بباروكة شقراء من خيوط نايلون، بلون فضي يغطي جفنيها، أظافر اصطناعية طويلة وجزمة تصل أعلى ركبتيها بكعب فليني عال. فكرت، كيف سأناديها؟

انتابه ضحك شيطاني هستيري لما قلته. آتي على بقايا الكأس فيسرع ليحضر المزيد.

يصير الصمت والدخان في المقهى كثيفين لدقائق، قبل أن تمتد يده لتحضن يدي، دافئة، تعبر إلى ذراعي، تمسِّده، تضغط عليه ضغطا رقيقاً، أسمع حفيف يده الممررة على ثوبي رواحاً مجيئاً، زمن كثيف لا يمكن قطعه بسيف أو شهيق، يمتد ويمتد كدورة دم، تصعد إلى كتفي وتعبر ببطء إلى خدي وتمرِّغ رأسي.

- لكنها تقول بأنكَ مريض، تعهدتَ للشرطة بعدم التعرض لها وللأطفال.

أنتظر ردة فعله وأنا أُلقي جملتي بانفعال وعتب.

- لكنك لا تكفَّ عن مهاتفتِها، في البيت، في عملها، التهديد بقتلها وأخذ الأطفال، مراقبتها نهاراً ليلاً، طرق بابها، ترك رسائل في جهاز التسجيل لهاتفها، استراق النظر خلل شبابيك شقتها، التحقيق مع الأطفال بشأنها؟

لا يصدر منه رد فعل، وددت سماع تكذيبه لما أقول. أصرخ به:

- هي تقول بأنك مريض...؟

صور تختلط في الذاكرة، يفلت مني الخيط الذي يربطها فيتعثر تاريخي وأنا أتخيله يقبّل نهلة بحضوري في رحلة الشباب إلى "القرنة". يدنو رضا بكرسيه مني، يقبّل شعري طويلا، جانب خدّي، أذني. بينما أسترجع صوت نهلة في مكالمتي لها تخبرني بنغمة فيها انفعال، سخرية وتحذير لي بأن رضا متزوج الآن من ثالثة، مطلّقة لديها طفلان، ترتدي الحجاب والجبّة ولا يظهر منها غير وجهها ونصفي كفيها، ستلد له طفله الرابع بعد شهر.

وكأن نهلة تتهمني بالجنون بصوت هامس، لكنه يهذي بأذني الأخرى بكلمات لا أفهمها، يغلق عيني ويقفل فمي فيصعد الهواء الندي من سراديب شناشيل جسر الغربان ليصدُّ الشمس اللاهبة. تأتي القسوة لتغيِّب قطاراً من البيوت العتيقة المسالمة القادمة من تاريخ مجهول ويأتي الجهل، يذلّها الواحد بعد الآخر. شمس الشتاء التي تنعكس أشعتها على خدي نرجس الناشفتين تزيدها لمعانا؛ الدفء الذي يدعو النسوة لأن يرتدين العباءة  قاصدات تسيورة العصر. النساء اللواتي ينهضن عند الفجر لعراك يوم جديد يغلبنه مجددا وهن يضحكن رغما عنه. اليوم الذي يلقي عليهن بالمهام المستحيلة ورغم ذلك يسحبن منه شعورهن عنوة بالإكتمال والغنى والقناعة. تنتهي جولتهن الأولى معه بغسل آخر صحن وزوج جوارب بعد الظهر، كي ينصرفن لأنفسهن. يغتسلن، يدهنّ وجوهَهن، أذرعهُن وسيقانهن السمر بكريم النيفيا الثخين، علبة صغيرة من الصفيح مدورة زرقاء تحرص النسوة على الإحتفاظ بها قريبة منهن. يطلعن بوجوه لامعة من بيوتهن مرة واحدة لأخذ استراحة. يختفي أثرهُن ليتخلفَ دربٌ طويل من رائحة النيفيا.

كم تعاظمتْ غربتي في البصرة، وما انفكت تتعاظم، تشتدّ وتشتّد بفيض هذا الحنان الذي يغدقه عليَّ. لكنه مرة أخرى إحساس اليوم، حظ اليوم وهناء اليوم، أرتعب، أتملّص من بين ذراعيه لأسأله:

- " ماذا عن الغد يا رضا؟".

يضيق بسؤالي. يضيق بحزني. لا يجيب. أشعر بسكاكين تقطع في بلعومي. أبحلقُ فيه. يرفعُ حنكي بيده برقة ويُدني فمه ليقبِّل شفتي. يتبلل خده بدموعي، تحسسني أنفاسه بروعة قرب الرجل. أقول بصوت باك:

- أشياء تركتها ناقصة أو هكذا تأتي لي ناقصة. أقذف بطفلتي قبل أن يكتمل حجمها. أنقطع مرارا عن عشق قبل أن أُروى منه. أُحرَم من الأم والأب والأخ. أضم أدوات الرسم والفرش التي تعود لأخي إلى أدوات وفرش عدنان وألوانه إلى عدتي بينما تنكر لوحاتي علي انتهاءها لأتخلف عن المشاركة في معارض أدعى لها. نصب " نرجس" الذي رسمتُ مخطّطه ولا أجرؤ على الشروع به؛ يدي التي ستفعل فعلها بالطين إنما ستمعن بتشويه نرجس مرة أخرى، تعمل على صبِّها في قالب نريد لها أن تكون عليه، غير قالب خالقها الذي أراده وأرادته هي لنفسها. النظرة المستنكرة لوجودي هنا، اللغة وشروط اللجوء التي فُرِضَت ولا أستطيع تجرعها، الإنزلاق من عنوان إلى آخر. من سرير إلى آخر. نهلة وقراري بمقاطعتها. أخبار العراق على واجهات الصحف يقشعِّرُ لها بدني؛ التاريخ المضني بِتكرار مُمّلٍ. كَمْ أُحاول أن أترفَّع لئلا يشبه الوطن مكاناً خرِباً لا يصلح إلا للإقتتال والخوف والجهل. أنتَ تركتَ البلد منذ سنين يا رضا، المحيط كله هناك ، جزء كبير منه قد تغير، تغير حد الاستماتة، تغير كي يكون اللحم، الأطفال، الكهرباء، الماء، الغاز، البنـزين، متوفرا. وربما كنا نحن نغالب الإحساس بالإرباك، اللامدنية، التأخر والزيف فنغالي بزهونا، نغالي بالتماهي، لم نعرف ما يجري حولنا، نختار أفقع الألوان لفساتيننا، فنرقص في الحفلات، نكابر على إيقاع أغاني الحروب التعبوية، فنتزوج بأقرب فرصة، فنُحِبُّ بوهم قدر الإمكان، فنطبخ طوال الوقت، فننام نوما خاليا من الحلم. وفي الصحو نتداول بإدمان ما يدور بعيدا عنا، لكننا أيضا نهمس بسِّرنا بأن ذلك لا يحدث، أو إن حدث فهو لَمْ، لا، و لن يخصنا. يا إلهي كم نحن قاصرون، وقاصرون عن أن نكون نحن. مَنْ نحن، مَنْ كنا. هي الأسئلة، لا أملك غير الأسئلة، ليس قبلا. الآن، في هذا المكان، من أنت، لا أملك غير الأسئلة. متى كان هذا تماما! منذ متى! أين أنا، أين، أُسأَل دوما. أ يحدث كل هذا، أ في العشرينات، الأربيعينات، الخمسينات أم الثمانينات، أم التسعينات؟"

- إششش.

يمسد شعري. فمي يشرب من جلده. دفؤه يخرسني. يسألني عن عدنان، أهلي، أخي، يتذكرهم جميعا.

أبكي، أريد أن أخبره أشياء كثيرة قبل أن ينقضي الوقت. بي جوع للحديث، بي حاجة إليه، بي بردٌ:

- بي رهبة من صرعة اللهاث هنا. حتى التسوق في السوبر ماركت أقلعتُ عنه، الناس تركض وتتدافع، ولا تمهلني ولو دقيقة لأفرغ ما في العربة على الحزام، والعاملة خلف الحاسبة تنجز مهمتها في تمرير الحاجيات على جهاز التسجيل في ظرف ثوان، بسرعة البرق مثل المخبولة، وعليّ ألا أتأخر حينها في فتح محفظتي ودفع المبلغ المطلوب بالسرعة ذاتها، وبالسرعة ذاتها عليّ جمع الحاجيات في الكيس فالذي يقف من خلفي في الدور يكاد يفقد صبره ليحين دوره. ما خطبهم؟ إنه إرهاب من نوع خاص.   

يده تمسح دمعي وتعود لتحضن يدي بدفء، يلثمها. أسكب ما يصبّه في كأسي مرة واحدة في جوفي:

- " أنا متأرجحة بشعوري بين الإحتراف والهواية، ولولا جاك الصحفي الفرنسي الناعم الذي تعرّفت عليه ضمن الشلة، لولاه لما وجدتُ لي ملاذا، أو دعاني أحد لإقامة معرض.

يبتسم. يده قوية تحيط بكتفي ضاغطة شادة. ندنو كثيرا من بعضنا ونتلقف لهاث بعضنا، شفتاه تعودان لتقبلا شعري وتنـزلق إلى صفحة خدي مرة أخرى. أنفاسه حارة كثيفة، تبللني، تنـزل إلى رقبتي وتتوغل جريئة بحرارتها إلى صدري.

-  خبر موت عدنان يصلني خطأ، استلمه خطيا بيدي وأفرّقه على أحبائه. خطأ ظنوا بأني قد عرفتُ ساعتها للتو معنى الموت.

 يده تمسح ظهري وتتحسس فقراته واحدة بعد أخرى، فمه في أذني، يهمس لي:

-  يكتب جاك " أنكِ بأجوائِكِ الكئيبة التي تنقلينها على الورق إنما تبحثين عن وطن ضاع وحبيب" ... لن تنصلح امورنا إلا بعودتنا... صعب على بناتنا العيش في هذه المجتمعات...

يطلع صوتي بالحال من حنجرتي ساخراً وكأني أشرق بالماء.

- ما تقصد؟

- حلمنا بالعودة!

لا أقتنع. يدفعني بعيدا عنه متضايقا، ما يحدو بي إلى الانفجار بوجهه:

- وهل لكَ أن تخبرني عن عدد الذين يفكرون بالعودة، وما الذي سيجدونه عند عودتهم. وهمٌ هذا الإنتظار، تظن بأنك ستعود، أنت نفسك، إخبرني، وهل تظن بأن لك مكانا هناك، هل فكرتَ بذلك؟ هم لا ينظرون لك كما تنظر أنت لنفسك وتضحيتك، ثم لِمَ أنتَ باقٍ هنا، وقل لي ما الذي تبقّى هناك ويمكنكَ أن تطلق عليه وطناً؟

أشعر بألم حاد في معدتي ودوار. يدفع كرسيه بعيدا عني، يجيب بانفعال:

- الكثير، الكثير الذي سنعود إليه ومن أجله، ماذا لدينا هنا، ما الذي أصابكِ؟ ما الذي أصابكن؟ هيأتكِ، وهذا الإستهجان الذي تتقصدين إظهاره لي في تعبيرات وجهك يثير حفيظتي.

يتنبه رواد المقهى إلينا. يسحق سيجارته بقوة في المنفضة.

- ما هذا الذي تقوله؟

- أقصد هذا التشبه بالنمط الغربي الفارغ، هذا العناد الغبي في أمر استقلالكن وتحرركن. إصراركن على إشهاره في كل مرة ترين فيها رجلاً. كفاك مغازلة لهذا المجتمع، إنه هو الذي يقتضي منكِ إظهار هذا التعقل المفتعل والتقنين الزائف بالمشاعر. هذه النظرة التي توجهينها لي ومثيلاتك بقصد تجريدي من رجولتي. لا تختلفن، سعاد، شاهناز، أوله، ربيكا. هلكت في سبيل إيجاد مبرر مقنع لأفعالكن، أنا المتفهم المساند، تدهسن اختيالي وتنسفن زهوي.

لم أعرف لِمَ قلت الذي قلته، لكنني لا أفهمه، تثيرني النغمة التي يردُّ بها على جوابي، تثيرني نون النسوة التي يحترف الرجل استخدامها للتجريح. هل أنهض وأتركه؟ تنتابني الحالة إياها. حرارتي ترتفع إعياءً. أتردد في سحب يدي من يده.

ما الذي ستفعلينه أيتها الغبية وهو يكمل:

- أنا لا أحب الإنتقاص من شأن أحد، ولكنكن ترغمننا على الخروج عن طورنا. لا تختلفن عن بعض، لا المسلمة ولا اليهودية ولا البوذية ولا المسيحية.

...

لا أستطيع تلمس شيء. كابوس يوقظني؛ وكأني في بغداد آب. صباح إعلان انتهاء حرب وبداية يوم سلم. تغطّ المدينة في سبات بعد عصف الإحتفال المجنون الذي امتد حتى ساعات الفجر الأولى في ساحة الإحتفالات. الرشاشات والمدافع والبنادق أشعلتْ السماء منتصف الليل بهستيريتها فرحاً بانتهاء حرب الخليج الأولى. لم يفقد الصبح برودته المنسحبة معه من الفجر، مشبّعة بالندى. جنون البشر أدى إلى انقطاع تيار الكهرباء ليلاً فهاجت كل الحشرات في المنـزل وزيزانه. على يميني تعلو أشجار النارنج البغدادي، وعلى يساري تشرئب أعناق السرو بزهو، أتسلقها بنظري حتى أعلاها فأشعر كما لو إن شيئاً لم يحدث على الأرض، كما لو إننا لم نخسر شيئاً ولم يُقتَرفْ خطأ بحق أحد. لا أثر لبرق أو صاعقة والسماء لعجبي زرقاء صافية. أغلفة الطلقات من الليلة الفائتة تملأ أرض الحديقة. أقف عند الباب المطل على الحديقة وكوب الشاي بيدي. أحاول أن أنفض نعاسي الثقيل وأقتل صداعي فأمشي حافية القدمين بحذر بين أغلفة الطلقات نحو الثيل الندي. أغمس قدمي لأطفىء الحريق بداخلي.

شايي مثل صداعي، مثل ضيقي ثقيل. تنغمس قدماي بماء السقي، بالعشب المرتوي الكثيف. إحساس هجين. أحدِّق في الأرض المترفة الغرقى فيأتيني الحلم، الحدث المقرون بالحلم؛ الماء يغمر الحوض المقابل للنافذة في غرفة نومي في البصرة، حفيفُ السعف في أذني، الماءُ يسيل، أضمُّ ساقي، تفيض أرض الغرفة. أبقى أكذِّب نذيراً وأُغلقُ مجرى الماء بيدي. أرفع رأسي متلفتة حولي. هل كانت بداية غزو أم إعلان تحرير، هل ستفتح أبواب سجون أم تُردَم؟ بِماذا، بِمَن؟

 الألم يمزِّق شفتي، أكبو في مكاني. أتوسل بالوجوه التي تعبرني في الردهة. البرق الخاطف للمدفعية يلوحُ في الشق أعلى نافذة صالة الولادة المغطاة بأكياس الرمل. فمي يابس مجرح. أصرخ، تجتثُّ فسائل نخيل من جذورها.

أفزّ بفم ناشف يغلف طعم الرصاص والكبريت باطنه. غرفتي مظلمة. أنهض متلمسة طريقي إلى النافذة لأزيح قطعة القماش. أقف عندها مرتعبة وقلبي يخفق بعنف. أصوات قصف وانفلاقات قنابل. نافورات ضوئية برقية تنتهك هدوء الليل، تمزق سواده وتبدد قليلا من عتمة الغرفة. أستدير بخوف تجاه السرير. يتحرك، يسحب اللحاف ليغطي صدره العاري، بالكاد يرفع رأسه بحثا عني. أرى وجهه فأطمئن وتهدأ أنفاسي المتسارعة قليلا قليلا.

- تعالي.

- تعالي، عودي إلى النوم.

صوته الحنون النعسان... آه، ما أدفأ صوته.

ترتخي يدي المتقلصة القابضة على قماشة الستارة.

يختفي منذ أسابيع في غرفتي.

تهدأ رجفتي.

يرفع يده بكسل من على الفراش، يدعوني بصوته، إنه يوسف زائري العزيز الأليف، لأن أترك النافذة وأعود إلى الفراش:

- لا تخافي. إنها الألعاب النارية احتفالا بالعام الجديد.

- ولكنه آب

 

انتهت

 

كوبنهاجن 2001-2004