تأخذنا القاصة المغربية في هذا النص إلى عوالم طفلة تراقب العالم بعينين بريئتين وخيال مستعيدة أحلامها وأمانيها الصغيرة التي تدفعها إلى مغادرة البيت والدوران في الأزقة حتى العثور عليها وأعادتها للبيت وعلاقتها بشجرة الزيتون الكبيرة التي تروى لها قصصها وأحلامها، عالم تحلم به النساء دوما في العودة إلى فردوس الطفولة المفقود.

كانت شجرة الزيتون هادئة

زوليخا موساوي الأخضري

شجرة الزيتون  العجوز هادئة، تربّت بأغصانها الخضراء على كتفي و تستمع إليّ. رغم تلعثمي في الكلام و رغم نطقي للقاف ألفا و للصاء طاء، كانت تفهمني. ليست الحروف وحدها  التي كنت أبعثرها و أنطق بعضها مكان بعض بل حتى بعض الجمل وبعض الحركات لها معنى آخر في رأسي فوضع إبهامي في فمي يعني أني جائعة و تحديقي في شمس الظهيرة يرمز إلى أني أشعر بالنعاس ومعنى أحب خالتي زوبا أني أرغب في الخروج من البيت...

كعادة الكبار في محاولة فهم الواقع من منظور واحد ووحيد، لم يفهمني احد في البداية. المرأة التي تقول أنها أمي أصبح قلبها يفهمني وشعرت أنها كانت تخاف من ساعات صمتي أكثر مما تخاف ألا تفهم ما أقول. فتطرح عليّ الكثير من الأسئلة و هي تتنقل من غرفة إلى أخرى، تقوم بحركات لم أكن افهم منها شيئا ثم بعد ذلك فهمت أنها تعدّ لي الأكل و تنظف لي فراشي و لباسي. فكنت أتبعها من حجرة إلى أخرى و أركز على حركاتها بل و أحاول أحيانا أن افعل مثلها لكني عدلت عن ذلك لأني مرة كدت أغرق في سطل ماء وضعته في باحة الدار استعدادا لغسل الملابس و مرة سقطت تحت المكنسة التي كادت أن تشج لي رأسي و مرة أخرى تدحرج جسدي الصغير على الدرج المؤدي إلى السطح و كاد يغمى عليّ من الخوف ليس من الدم الذي رأيته لأول مرة  بل كنت مرعوبة من عيني القط الذي كان ينظر إليّ من أعلى الدرج و يشمت بي.

شجرة الزيتون إذن هي التي تسمعني و تفهمني و تقدّر كل المصاعب التي أمر منها كي أخرج من هذه الورطة:  لا أريد أن أبقى طفلة. أصبحت لازمتي: لا أريد أن أبقى طفلة. أكرّر الجملة مئات المرات : لا أريد أن أبقى طفلة. لا أريد أن أبقى طفلة حتى أصبح الجميع يرددها بمجرد أن أفتح فمي للكلام.

هل من الضروري أن نعيش هذه المرحلة التي يسمونها الطفولة؟ من الغريب جدا أن لا أحد يكترث لما أقول رغم أني أعرف أني محقة و مع ذلك نظراتهم تتبعني أنّى توجهت. الأسبوع الماضي، تلقيت ضربا مبرحا من أمي لأني قررت أن أذهب عند صديقتي سعاد و لم أخبر أحدا بالأمر و إلا كيف يمكن  ألا أبقى طفلة؟  لكن يبدو أني نسيت بيت صديقتي و قضيت وقتا في الدوران في متاهة الدروب الضيقة المحيطة بالبيت إلى أن وجدتني إحدى صديقات أمي كانت ذاهبة إلى السوق فأرجعتني إلى البيت. كانت أمي وسط الجارات تبكي بصوت مرتفع و قد نفشت شعرها،  النساء متحلقات  حولها يحاولن إسكاتها و تهدئتها و حين رأتني تلقفتني بين ذراعيها و هي تبكي و تقبلني و تطرح علي سلسلة من الأسئلة. لا أدري كيف تفعل أمي كل هذا في وقت واحد لكن كثيرا ما أراها تفعل أكثر من ثلاثة أشياء في وقت واحد كأن تستمع للراديو، تصبن الملابس و تكلّمني.

هل كنت أعرف أنهم قرروا الذهاب إلى المدينة عند عمتي الشريفة و تركي مع جدتي أم فقط حين استيقظت من النوم وجدت نفسي وحيدة.؟

لم أكن خائفة. أتذكر ذلك تماما. لكن شيئا ما كان يكبر في صدري، يكبر ، يكبر و يجثم على أنفاسي . الآن أشعر بدموع ساخنة فوق خدي. هل هذا هو الحزن؟إذن أنا حزينة. و قلت هذا لشجرة الزيتون العجوز فدانت أغصانها أكثر، أحاطت بي كغيمة لذيذة من السكون.

كيف عرفت الشجرة أني كنت حزينة و جدتي لم تعرف ذلك؟ أنا دائما حزينة. أظن أني كنت حزينة في بطن أمي. حتى في أجمل اللحظات التي أقفز فيها جذلانة مع صويحباتي نقطف الزهور البرية  من الأحراش المحيطة بالبيوت بأصابعنا الصغيرة المضمخة بالحناء في صباحات العيد مزهوات بملابسنا الجديدة، حتى في أعماق تلك  اللحظات و صفائها كنت أشعر أني حزينة أو على الأصح أنه يمكنني أن أكون أسعد لو كنت متيقنة أن هذه اللحظات ستدوم . ما كنت أشعر به إذاك لم يكن سعادة بل كان فرحا سيزول سريعا.

أظن أن هذا هو ما كان ينغصّ علي لحظات السعادة أو الفرح تلك.

الحياة مثل الحلم الذي رأيت هذه الليلة. كنت أشعر بالفرح كلما استطعت أن أختبئ من الرجل الذي كان يلاحقني. لكن ينتهي هذا الشعور بمجرد أن ألمحه قادما و أعرف أنه سيعثر علي بعد لحظات و أنه عليّ أن أتدبر أمر مكان أختبئ فيه و هكذا إلى أن ينتهي العمر.. إلى أن ينتهي الحلم.

أذكر أني لم أبك حين وجدت نفسي وحيدة مع جدتي و مع شجرة الزيتون العجوز. شعرت أنها صديقتي الوحيدة التي لن تتخلى أبدا عني فجلست إليها و حكيت لها كل شيء.

حكيت لها أني كنت أعرف منذ البداية أني لا أنتمي لهذه الأسرة التي أعيش معها. صحيح أني أحبهم :المرأة و الرجل  أسميهما أمي و أبي، المرأة العجوز الطيبة التي أناديها جدتي و زوبا الحمقاء التي أحبها رغم أنها تخيفني أحيانا.

حكيت لها أني أتيت من بلاد بعيدة. بعيدة جدا يسكنها الملوك و الأمراء و يحرس أبوابها الجن بالليل و الملائكة بالنهار. لا أدري ما الذي حلّ بمدينتي و بأسرتي الحقيقية. أعرف بيقين أني لست ابنة أمي و أبي أعني هؤلاء الذين أعيش بينهم الآن. لم أجرؤ على سؤالهما عن أصلي و لماذا أتوا بي إلى هنا. ربما وجدوني مرمية على حافة الطريق و رأفوا بي و ربما وضعتني عندهم إحدى قريباتهم بعد أن لم تجد رجلا يمكن أن أقول له أنت أبي. لكن التفسير الذي أرجحه و الذي يكسبني راحة كبيرة فأسرد القصة مرة تلو مرة و في كل مرة أدخل عليها تحسينات و إضافات هي أن أمي و أبي الحاليين كانا يشتغلان عند والديّ الحقيقيين في القصر و حين أغارت قبيلة أخرى على مدينتنا و دخلت قصرنا قتلت أبي و أمي الحقيقيين و قتلت كل من كان فيه لكن أبي وأمي الحاليين اختنبآ و كانت أمي تحملني في كيس كبير  في قبو كانت تحفظ فيه المؤن إلى  خرجا بي تحت جنح الليل فارين من موت محقق.

حكيت كل هذا للشجرة و وصفت لها القصر و الحياة فيه : غرفه المتعددة و حدائقه الغناء. كم كنت أحب تلك الحدائق و أغني طيلة النهار لأشجارها و سواقيها و نباتاتها و حشراتها. حكيت لها عن جمال أمي و قسوة أبي و دسائس الخدم و المرافقين و كل من كان يحاول التقرب من أبي و أمي لينال قسطه من المال و الجاه و السلطة و كيف أنهم كانوا أول من تنكّر لوالديّ و لم يرفع أحدهم إصبعا للدفاع عن القصر و عن المدينة و أضفت أن البعض  منهم مثل سليمان النجار و خادمته قاموا بالتآمر على أبي و فتحوا للعدو أبواب المدينة بعد أن وضعوا للجنود السم في الطعام.

هزت الزيتونة العجوز رأسها و قالت لي بصوت هامس:

نعم صغيرتي أعرف كل ذلك. صمتت قليلا كأنها تفكّر بعمق ثم أضافت: وقع هذا تماما كما في القصة التي يحكيها لنا أبوك في ليالي الصيف المقمرة.