يقدم الكاتب قراءة في سيمياء صورة الزعيم الحيّة، ويسلط الضوء على ابتسامته، ليخلص من خلال فراسته إلى رصد نبض الشارع وحدوثه والتغيرات المفارقة للتاريخ العام في مصر وتقلبات الاستبداد فيها.

ابتسامة عبدالناصر، ابتسامة مبارك، وابتسامة مرسي

عبدالرحيم مؤدن

لم تغادر الإبتسامة عبد الناصر إلا عند إلقائه لخطابه الشهير- بعد هزيمة يونيو1967- معلناً تنحيه عن المسؤولية. وأفلت الإبتسامة مع أفول الحلم الكبير إلى أن رحل. لم نكن نعرف عبدالناصر إلا مبتسماً، في صور نصفية بالأبيض والأسود، والمغرب محتل- وكانت الإبتسامة بلسماً شافياً، بل تشفياً في المستعمر وأذنابه. واستنسخ الناس من تلك الصورة المبتسمة ملايين النسخ التي يتملاها الناس، في السر، ويعاودون إخفاءها في الزوايا والشقوق، وبين متلاشيات السطوح. فقانون المحتل كان يعاقب أشد العقاب مالكي هذه الصور التي لاتكف عن الإبتسام.

ابتسامة عبد الناصر عريضة عرض أحلام الأمة، وهي بذلك تعكس حالة من الإطمئنان من ناحية، والثقة في الذات من ناحية أخرى. لم تكن ابتسامة بمقدار، لم تكن نصف ابتسامة، ولم تكن، أيضاً، ابتسامة جانبية بإحدى زاويتي الفم، كانت ابتسامة عريضة تعكس ما يجول في الداخل، داخل الذات. وبامتدادها العريض تنفرج الأسارير، وينبسط الوجه، وتشتعل العينان، وتتسع الجبهة، وينشرح المتلقي.

لازمت الإبتسامة عبد الناصر ساعة الصفر لثورة 23 يوليو، وفي معركة القنال، وأثناء العدوان الثلاثي، وأثناء محاولات الاغتيال، وخلال الإصلاح الزراعي، وأثناء حرب اليمن، وقبل ذلك في حرب الفلوجة بفلسطين المحتلة، وبسقف حانوت أبي المبرنز بالقيسارية العصرية بجانب صورة لفظ الجلالة التي انعكس عليها ضوء مصباح النيون الثلجي، وعبدالناصر لا يكف عن الإبتسام، حراً أو قراً، ليلاً أو نهاراً..

والإبتسامة لم تقتصر على الصورة النصفية الذائعة الصيت، بل لازمت الإبتسامة عبد الناصر، ووقوفاً وجلوساً، سائراً أو متوقفاً، لسبب أو لآخر، محاوراً أو صامتاً. والغريب أن الابتسامة لا تتوقف عند الوجه الضاحك، بسمرته القمحية الجذلة بالشمس والهواء وحب الحياة، بل تنساب الابتسامة عبر الجسد الفاره وهو يتقدم بخطوات ثابتة نحو الآخر، رجلاً كان أو امرأة، شيخاً، أو طفلاً رضيعاً، فلاحاً أو عاملاً .. بل قد تتقدمه الابتسامة العريضة نحو الحجر والشجر والنهر والزرع.. تتقدمه نحو الأمل، نحو الحياة.

ما ابتسم مبارك - طوال حكمه- إلا في لحظة (تبرئته)

من دم شهداء الميدان! لم تكن ابتسامة، بل كانت تشفياً مشوباً بغير قليل من الامتعاض، وغير قليل من الانتفاخ، وزادتها نظارة (الرايبن) الشمسية السوداء غموضاً وقسوة وهي تقرأ القسمات بحركات مدربة. والرائي يحس بأن هذه الحركة الممتعضة المنتفخة صادرة عن قناع استعمل في اللحظة المناسبة لوجه لا تتغير قسماته. انكشف الوجه وسقط القناع، وطوال ما يزيد على العقود الثلاثة، من حكمه، تأرجح الوجه بين الحدين السابقين: حد الامتعاض وحد التشفي. وبالرغم من انتقاله إلى (شرم الشيخ) لممارسة الحكم، بواسطة الانترنيت، فإن الوجه لم يعرف يوماً الابتسامة التي تعرفها كل الوجوه!!

في لقائه بوزرائه يظل ممطوط الشفتين بشبرين أو أكثر! وأثناء خطبه الرسمية (ذكرى الشرطة، احتفالات الجيش، التدشينات الرسمية..) لا تغادره عقدة الجبين. وأثناء مقابلته للمبعوثين الأجانب يختلف الأمر، فإذا كان المبعوث امرأة تنفرج الشفتان ويغور الخدان إلى الحد الذي يبدو فيه صاحبه فاقداً لأسنانه، ويصبح أقرب إلى صورة المعلم كرشة، في (زقاق المدق)، وهو ينزع بنظراته الخبيرة، الملاءة السوداء عن جسد حميدة الفائر عند مرورها أمام عتبة المقهى. وإذا كان المبعوث رجلاً، لا تتوقف الشفتان عن الانكماش والانبعاج، وكأن صاحبه يعاني من مغص يريد إخفاءه عن المتلقي بكل السبل!

ولاشك أن هذه الصورة الملتبسة مرجعها إلى ما عاناه الوجه من شدّ ومسد ودلك وعجن ومعك ودغدغة .. إلى أن أصبح مثل جلدة طبل تعرض لتسخين مبالغ فيه، فاقترب من قناع المومياء القابل للتفتيت حيناً، ومن بهلوان السيرك القابل للتمطيط حيناً آخر. والرائي إلى هذا القناع يستعصي عليه التمييز بين الضحك والبكاء، بين المومياء والبهلوان! بين انفراج الشفتين، وخزر العينين، بين استطالة الأدنين، وصلابة الوجنتين.. اللهم.. لا شماتة.

الناظر إلى صورة (محمد مرسي) ينتابه نوع من القلق!! هل الرجل ابتسم، في زمن ما، ولن يبتسم مرة أخرى ولو كره الكارهون!! أم أن الرجل متردد في إصدار البسمة، كما كشف عنه الميلان الخفيف للوجنة اليسرى التي توقفت بسببها البسمة عند منتصف الطريق!! قد يكون الأمر لا هذا ولا ذاك، فوجه الرجل توقفت ملامحه عند هذا الوضع الذي ذكرني بالقطعة الشهيرة التي طرحت أزمة الاختيار لجيل بأكمله .. قطعة آخذها أو لا آخذها .. وعلى الإيقاع ذاته تكلم وجه محمد مرسي: أبتسم أو لا أبتسم .. وظل الأمر على ماهو عليه إلا أن وقعت الواقعة.

ومن المؤكد أن (محمد مرسي) -مثل باقي الخلق- يحب الابتسام والمبتسمين، ذكوراً وإناثاً، وربما قد أسأنا النية بالرجل. فحالة (لا سلم ولا حرب) .. عفواً .. ابتسام أو لا ابتسام قد تعود إلى رهافة في الروح، وسمو في ممارسة (الإيتيكيت) اقتضى وجود هذه الحالة حتى لا يختل وضع اللحية المرسومة بالمنقلة والبركار، وحتى لا يهتز وضع النظارات الطبية وتزيغ عن أرنبة الأنف فتسقط هيبة الرجل .. فكان ما كان .. فالهيبة تقتضي الوقوف بين المنزلتين. والمتأمل لصورة محمد مرسي، مقبلاً أو مدبراً، تنتابه الحيرة وهو يرى الوجه وكأنه انشطر شطرين: شطر مبتسم نصف بسمة وشطر يستعد لذلك!!