في نصه يخوض الناقد في "الكتابة" كمسؤولية والتزام أخلاقي. ويتناول فعل الكتابة نفسياً واجتماعياً ونقدياً، ويرى أن سيرورة إنتاج النصوص على اختلافها تخضع لجدلية الاستقبال، كما أنها انعكاس لانفعال وموقف منتجها من العالم في مواجهة "العدم".

الكتابة والشهادة

حمّودان عبدالواحد

هل يمكن اعتبار الكتابة ظاهرة سلوكية تتحقّق بموجب المعادلة الميكانيكية الكائنة في "المحفّز والإجابة" أو "الفعل وردّة الفعل"؟ لو كان الأمر كذلك، لكان من حق كل من سجّل كلمات هنا وهناك، في هذا الفضاء أو ذاك، يسبّ من خلالها الآخرين بانفعال ويقدح فيهم بغضب ويشتمهم بأفضع العبارات الجاهزة ويصفهم بنعوت سافلة .. أن يدّعيَ أنه كاتب! لو كان الأمر كذلك، لكان القسط الأكبر من الانفعالات المتهوّرة والاندفاعات المراهقة وردود الأفعال الأوتوماتيكية التي تمتلأ بها حيطانُ الفيسبوك وحسابات تويتر وصفحات المواقع الإلكترونية والنسخ الورقية لكثير من الجرائد والدوريات والمجلات وعددٌ من الكتب وما يُسمّى إبداعاً.. يستحِقّ صفة الكتابة!

ما الكتابة إذن؟

يعتريني شعورٌ بالتردّد والخشية كلما حاولت الكتابة أو فكّرت فيها. فبمجرد أن أبدأ في التأمل في موضوعٍ ما وأشرع في بناء معالجة خاصة به، تناسب طبيعتَه وأهميتَه، أسبابَه وجذورَه، تطوراتِه وأهدافَه، وبالضبط ما يمكن أن يترتب عنه من تبعات ونتائج حتى يملكني إحساس غريب يكاد يكون قريباً من الخوف. كم من مرة ارتعدت وأنا أعيش هذه الحالة النفسية المتأهبة للكتابة. كم من مرة سيطرت عليّ ارتباكاتٌ ترجمها جسمي بِتَحَوّله في آن واحد إلى شبه ثلاجةٍ وإناءٍ يغلي من الحرارة، وكنت قريباً من الدخول في حالة حمّى غريبة! لماذا أرتعد أمام الورقة البيضاء وأقف شبه مهزوم أحياناً في مواجهة الصفحة العذراء؟

بغض النظر عن طبيعة الحالة النفسية للكاتب ودرجة وضوح رؤيته للموضوع الذي يهُمّ بتناوله، ربما قد يكون الجواب موجوداً في تصوري للكتابة، إذ هي عندي، في العمق، تجربة تعبيرية نوعية مرتبطة بكيفية الأداء ونبل الغاية أكثر من ارتباطها بشيء آخر. إنها تختلف في كلماتها وصياغتها، ومحفزاتها ونواياها عن الكلام العادي الذي يقترب من الثرثرة أو ينتج عن ضغوط الحاجة أو جشع المنفعة (الشهرة أو ربح المال مثلاً) أو تتحكّم فيه قوانينُ السببية الظاهرية عموماً.

إنّها ليست مجرّد كلمات مخطوطة بالمداد على الورق ومرصوصة بطريقة خاصة قصد إنتاج نصوص عاطفية أو فكرية أو خيالية ينتهي تأثيرها على القارىء بالتزامن مع نهاية قراءتها! إنها معاناة لأنها كائن من لحم ودم، وتصدر عن الشعور بالألم والانفعال مع الأشياء والمحيط والتفاعل مع الأحداث والآخرين! إنها وعي حاد بـ"أزمة المعنى" في حياة الإنسان وقلق عميق من أخطارها وسلبياتها على توجهاته ومصيره! إنها موقف صارم ومناضل في وجه "العدم" الزاحف بكل "أقنعته" (أساليبه ولغاته) لانتهاك السلام والسعادة، وتدمير الحب والجمال.

لا شك أنّ الكتابة مسؤولية كبرى، ولعلّ ما يدفع إلى رؤيتها على هذا المنوال هي أنها –حسب البعض– موقف أخلاقي والتزام بالقيم الإنسانية العليا كأن تكون صوتاً للمظلوم وتعبيراً عن هموم المنبوذين والمهمّشين ووسيلة للتطلع نحو الغد وبناء مستقبلٍ كفيل بإعادة الكرامة والابتسامة إلى المحرومين من أبسط حقوقهم على وجه الأرض. لكن الكتابة ظاهرة تتجاوز بكثير هذا التصور المعياري وتتعدّاه إلى أبعد ما يحلو لنا أن نتمثّلَه لِـ"سهولته". وعلى الرغم من أننا لا نتبنّى هنا التعريفَ الذاتي للكتابة الذي يجعل منها نوعاً من التعبير الشعوري الغنائي، فإنها تفرز نفسَها وتولد بحق من خلال علاقاتها الوثيقة بالهوية الروحية للإنسان على المستوييْن الفردي والجماعي. وتبقى لصيقة بالجذور الأنطولوجية للحياة، للأشياء والعناصر وكل الوجود.

نفترض –في الإطار الاستدلالي لفكرتنا حول ماهية الكتابة كنوع من العلاقة الروحية- أنّ كلّ ما هو موجود قد تمكّن منه حقُّ "القول" المبدئي المقرر لـ"كينونة" الحياة و"صيرورة" التاريخ و"تطور" الإنسان ولا نمثّل نحن معشر البشر إلا محاولة "النطق" بهذا "القول" الفاعل المريد الأول. ونعترف أن هذه الفرضية تضعنا أمام مشكلة كبيرة يستعصي حلُّها بالفكر العقلاني. وتكمن هذه المشكلة، التي تثير تساؤلات حول طبيعة دوْرنا وحدود أو مدى وظيفتنا في الحياة بالنظر إلى حريتنا، في السؤال التالي: هل تعني هذه الفرضية أننا نحاول بالضرورة فقط إعادة "القول" المبتدأ بـ"التلفظ" به أو بوجهٍ من وجوهه أو صدًى من أصدائه الموغلة في أعماقنا وجذور لاوعينا؟ وإذن، هل يمكن أن نسلّم بأنّه ليس من حظ حريتنا الإنسانية إلا اختيارنا بدافع إرادة خاصة تكرار ما "قيل" والمصادقة عليه لكن بصيغةِ وشكلِ وأسلوبِ"التلفظ"؟

كم كانت مفاجأتي عظيمة إلى حد الصدمة النفسية حين تجرّأ، ذات يوم، بعضُ "العباد" على البوح لي، في لحظة صمتٍ تام وتأملٍ وجداني فريد من نوعه، قريب من الحدس وليس هو، يشبه الإشراق وليس هو، كان قد تغلب على دكتاتورية عقلي وأعصابي، بأن الكتابة في حروفها المشتعِلة وإيقاعاتها الراقصة الصارخة المحترقة، وأبعادها المنتفضة الثائرة هي قبل كلّ شيء "تجرّد" من المادة، من الذات والفردية، من المنفعة والمصلحة والحاجة. الكتابةُ، بهذا المفهوم، تَجَرُّدٌ من أعباء الجسد وقيوده المُذِلّة، وهي معاً تحرّرٌ من غرائز النفس المستبِدة المتزايدة ورغبتها في الظهور واستعراض بريقها ومفاتنها وجمالها.

صافحني، هذا العبد الصالح، ("العبدة الصالحة" إن شئت) بحرارة غير معروفة إذ ضمني إلى صدره حتى لم أعد أحس –مع هذه الضمة– بجسمي، وفي نفس الوقت كرّمني بصفعة خارقة للعادة دوّختني لتفتح عيني لمّا رُفِعَ الحجابُ عن شيء فطري طبيعي يكمن فينا إلى الأبد –كلنا نعرفه لكننا نسيناه- يرجع إلى مرحلة ما قبل تاريخنا البشري: نحن، كنفخة روحية، ككلمة إبداعية من الرب، قبل أن نوضع في قالب آدمي وندخل صراعَنا الزمكاني التراجيدي مع "نسبية" آدميتنا، عبادُ الخالق المطلق. نحن -كموجودين- نشأنا عبادًا، وبدأنا رحلتَنا الداخلية والخارجية العجيبة، المأساوية الواعدة، الشقية والسعيدة بأداء "شهادة" كان لزامًا علينا أن نحترمها.

الشهادة؟ أية شهادة؟ وما علاقتها بموضوع الكتابة؟ لنشرح شيئا ما ونوضح ما يبدو لنا رئيسياً دون الدخول في التفاصيل لأن الأمر يحتاج في الواقع لفضاءات أوسع بكثير من ورقتنا هاته حتى يتسنى لمن يهمّه الموضوعُ أن ينظُر فيه بالآليات الإبستمولوجية والأدوات المعرفية العامة الضرورية، والنصوص الثقافية أو الدينية أو التاريخية المؤسِّسة لنواته وأصوله. فكما أن كلّ الكائنات الغير إنسانية من حيوان وطير وجماد ونبات، وكل المخلوقات الأخرى المرئية واللامرئية، الأصغر حجما والأكبر، الأقرب منا والأبعد تؤدي –كل حسب طبيعتها وحالتها– شهادة على "حقيقة" وجودها و "حقيقة مُبْدعها"، فكذلك العباد. بماذا أجبنا، نحن بني آدم، الربَّ حين أخذ من ظهورنا ذُرّياتِنا وأشهدنا وإيّاهم على "أنفسنا" بخصوص ربوبيته؟ أي بماذا أجبناه لمّا أخذ علينا العهد بأنه ربُّنا وأن لا إله غيره؟ ألم نُقِرّ على حد تعبير اللغة القرآنية التي تحيطنا بجانب من علم الغيب، بحقيقة هذا العهد بيننا وبين ربّنا فقُلنا: "بلى شَهِدْنَا" ثمّ التزمنا أن نقول: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"؟

إنّ الأمانة الكبرى التي حملناها تكمن بالأساس في "الشهادة" على أننا عباد أي عابرون وخلفاء فقط. نحن عباد عابرون لأننا لسنا باقين أو خالدين إذ أن الخلود والبقاء والدوام هو من خصائص وجه الربّ ذي الجلال والإكرام. ونحن عباد خلفاء لأننا لا نملك في العمق على وجه الأرض شيئا حتى ولو سخّر الربُّ لنا كثيرا ممّا خلق وجاد به علينا رحمة من عنده. وليس من صالحنا أن نسعى لامتلاك شيء ما لأنّ هلاكَنا الروحي موجود بالضبط في هذا النوع من السعي الذي قد يوقعنا في الفخ الإنطولوجي الدنيوي الذي يمكن له أن يدفع بنا إلى تقديس ما يُخيّل لنا أننا نملكه فنتحوّل عبادًا لِسراب المِلكية. هذه الملكية التي كثيرا ما تكلم عنها جان جاك روسو واعتبرها منذ أن بدأ الإنسان يفكر في استعمار الأرض بحيازة أجزاء منها لنفسه ولِوَحْدِه دون الآخرين. بدأت فطرة الإنسان وحريته الطبيعية الأولى تتغير فتسرّبت إليها عناصرُ الفساد مع ظهور ثقافة الملكية التي فرضت الحدود والحواجز، وباعدت بين الإنسان وأخيه، وقادته إلى نزاعات وحروب فبدأ بنقض العهد بينه وبين ربّه! أخطر ما في ثقافة الملكية يتمظهر في منطق "أريد دائماً أكثر مما عندي" مما يؤدي إلى لهفة التحصيل والتكديس ونزعة التوسع والجري وراء كل إضافة وزيادة! أخطر ما في ثقافة الملكية هو تمكين جشع الرأسمالية من احتلال حيز كبير من أرواحنا والسماح لفيروس نزعة الحرية دون حدود من السيطرة على حياتنا! ببساطة، يعتقد الإنسان في سعيه للامتلاك والتملك أنه سيملك المال والأرض والثروات والسلطة .. إلخ. لكنه يقع ضحية ما يريد امتلاكه حيث يجد نفسَه عبداً "مملوكاً" في قبضة ما ظنّ أنها ممتلكاته، فيعيش قلقا محاصَراً مقهوراً ومضطهَداً من طرفها. بمعنى آخر، إننا إن أعطينا الفرصة والسلطة للأشياء أن تملكنا فسنكون قد أعطيناها الحق لكي تكون "شاهدة" علينا وضدنا!

وفي حالة السلطة، يمكن للشعور بامتلاكها أن يقود إلى إغفال فخ سقوط صاحبها في نفي هويته الروحية الأولى كعبدٍ تمتدّ جذورُه بعيدا في علاقته بالرب. ينسى صاحب السلطة هذه الحقيقة ويغفل عنها، فلا يكتفي بإرادة استحواذه على الأرض بل قد يبغي امتلاك العباد فلا يتردّد في نقض العهد بينه وبين ربّه فيتجرأ على منافسته في ربوبيته ويشق عصى الطاعة مدّعياً (متخيلاً): "أنا ربكم الأعلى".

إذا كنا نقدّم السياسة بصفة عامة على أنها فنّ الممكن، فإن الساسة لما يسكنهم شيطانُ الاستبداد ويتنكروا لميثاقهم والتزامهم بعهد الخلافة في الأرض كعباد يتحوّلون إلى مجانين فيطلبون "المستحيل". وهذا ما حاول ألبير كامو التعبير عنه جزئياً في مسرحيته "كاليكولا" بتقديم صورة تمثيلية توضح العلاقة القائمة بين الطغيان والتجبّر في ممارسة السلطة وبين طلب المستحيل. ألم يعلن "كاليكولا"، هذا الامبراطور المستبد، عن رغبته في امتلاك "القمر"؟ ألم يكن شقياً لأنه راهن على سعادته بإرادة امتلاك شيء مستحيل استحوذ عليه فسلبه راحتَه وتحول إلى كابوس مرعب يطارده باستمرار؟

تصب كل أنواع الشهادة في هدف واحد ألا وهو الإقرار بحقيقة الشيء ووجوده، بواقع "الحقيقة" أو حقيقة الواقع . لكن، كيف تحصل الشهادة؟ كباقي ما يقوم به الانسان في حياته، تتحقق الشهادة بطرق مختلفة، إذ يمكنها أن تتجلى عن طريق "لسان" حال الشاهد أي من خلال سلوكه وتصرفه، بإرادة ووعي أو دون ذلك. كما يمكن لها أن تتخذ شكلاً آخر يتمثل في "النطق" بها فتُنجَز بواسطة الكلام اللفظي الصوتي المسموع أو الكلام اللفظي المكتوب.

والشهادة، سواء كانت حالية أو لغوية –شفهية أو مخطوطة- تسعى لتحقيق الانسجام الطبيعي المفقود بين "الوجود" و"الحق والحقيقة". بمعنى آخر، كل شهادة هي "نطق" واعتراف بصدق الإرادة الكامنة وراء "القول" الأول الفاعل الخالق. وكل شهادة بهذا المعنى هي محاربة للعبث والكذب والتلاعب بالحقيقة . وكل شهادة هنا تدخل في تعارض مطلق مع "النزعة السلطوية الاستبدادية" التي تطبع بني آدم لما يتنافسون على الحلول مكان "الحقيقة" لتحقيق ذواتهم الإنسانية. والشاهد هنا كالشاعر أو الصوفي أو الباحث في حقل الفلسفة الخالدة هو ابن زمانه وهمه الأكبر أن يكون "حاضراً" فيه، أمام "الحدث" وفاعلاً فيه ومتفاعلاً معه. وعليه تكون الشهادة "حضوراً" فعليا لمواجهة كل محاولات نفي الحدث و"تغييبه" أو إفراغه من "حقيقته" أي ليس فقط من مضمونه وجوهره، بل خاصة من وقوعه وأسبابه الموضوعية والوسائل التي أنتجته وأدت إليه.

بين فعل "الشهادة" -كإنجاز أولي مؤسس لخاصية "عبوديتنا"- المفقود لأننا ضيعناه ونسيناه بابتعادنا عن وعينا بأنفسنا ككائنات موجودة تلقت أمرَ الخلق وصادقت عليه وشهدت به، وبين رغبة "التنكر لها في سبيل الجلوس على كرسي الحكم" والبقاء فيه إلى الأبد، تاهت تقريبا كلّ الإنسانية في صراعات نفي الآخر في سبيل إثبات الذات و"تقديسها". ولما أصبح الانسان فارغا من خاصية العبودية الأولى التي تعني بالأساس نوعا من المعرفة الروحية التي وضعها الرب –لا نعرف كيف لكن نشعر أنها موجودة فينا- بدأ من جراء جهله بجوهره ينظر إلى الكون والحياة والآخرين بغطرسة وكبرياء وكأنه الإله! وها هو دمه –بعد فساد طبيعته الأصلية- يُراق عناداً وتجبراً وربّما عبثاً أيضاً، ويشهد بالخطأ الجسيم الذي ما زال يتابعه منذ أن قتل قابيلُ هابيل.

وحال العرب والمسلمين اليوم، بينهم وفي بلدانهم، أكبر "شاهد" على ذلك.

 

(كاتب عربي يقطن بفرنسا)