تتبدى من مقالة الكاتب الكيفيّة التي اعتمدتها الروائية السورية لكشف أوضاع القبائل البدوية السورية جمالياً، وفق خط سردي يواشج بين التوثيق والتخييل في روايتها الصادرة عن "منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب" في دمشق.

حياة البداوة السورية في «رجال وقبائل» بقلم لينا هويان الحسن

أوس داوود يعقوب

بلغة أدبية راقية تقدم لنا الروائية والشاعرة السورية لينا هويان الحسن، مؤلفها الجديد "رجال وقبائل"، الصادر عن "منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب"، ووزارة الثقافة، دمشق، وفيه تلقي الضوء على حياة القبائل البدوية التي عاشت ولا تزال في البادية السورية، مستعرضة سيرة شخصيات كانت شهيرة في القرون الماضية وفي التاريخ القبلي لكل منطقة الشرق الأوسط.

جاء كتاب "رجال وقبائل" للسورية لينا هويان الحسن في 152 صفحة من القطع المتوسط، وفيه تطرح الروائية الباحثة، تحت عنوان رئيسي "مرض الأرشيف"، تساؤلات عدة هي من كتابها لُبّه ومحاوره ومنها: "هل حقاً هنالك ذاكرات قوية وأخرى ضعيفة؟ وهل حقاً وكما يعلن جاك دريدا في واحدة من عباراته الإشكالية: "يمكننا أن نرى في المبدأ الآمر للأرشيف، موضوع ذاكرة بامتياز، مبدأ توحيد، تحقّق وتصنيف"، وفق ما جاء في مؤلفه الشهير "مرض الأرشيف"؟ و"متى يكون التاريخ قابلاً للجرد"؟ هذا تساؤلي الخاص والمنطلق من قناعاتي الخاصة بهذا الشأن والتي أطرحها فقط من باب السؤال. و"هل يحتاج الماضي إلى التنظيم؟ هل تنظيمه مهمة منجزة فعلاً"؟.

"هل ثمة مرض يسمى "أرشيفات الأنا أو الشغف بالسيرة الذاتية"؟ و"كيف يمكن لمحاولة "متواضعة" كمحاولتي هنا في هذا الكتاب، أن ترسم مجدداً ما هو مبعثر في الواقع؟ وأن أحوّل ماضياً مصنوعاً من القطيعات وضروب عدم الاستمرار إلى خط يصل بين ما هو متناثر"؟

• تواطؤ مع الماضي
أسئلة عديدة تطرحها صاحبة "سلطانات الرمل"، وتعتبرها مشروعة للوصول إلى ما تنشده من خلال بحثها الطويل، وعملها الدؤوب ليكون هذا المنجز/ الكتاب الأول من نوعه في سوريا، من حيث تناوله أعلام وقبائل البادية السورية بصياغة أدبية شيقة، ذا بعد معرفي واسع الأفق، ثاقب النظرة، قل مثيله في مثل هذه النوع من الكتابات التوثيقية.

وبشفافية عالية تعترف الحسن بانحيازها وإعجابها الشخصي بالرجال الذين ذكروا في الكتاب فتقول: "بصراحة، الأفضل تسمية مقدمتي: "تواطؤ" حتى لا يكتشف أمري وأضبط متلبسة بالإعجاب سلفاً بمن يملؤون كتابي هذا بصيحات دشنت حروباً وغزوات… معجبة ومفتونة بكل تجاوزاتهم وجنونهم ولا منطقيتهم و"أناهم" الشاهقة… "الأنا" التي لا تعرف الانصياع قط وتحترف: الإقدام".

وعن منهجها في بحثها هذا تقول الحسن: "بداية، لم أتكبد عناء نزاع طباعي "الروائية"، حين يتيح لنا الأدب أو الأصح يسوّغ لنا كتابة "تاريخ جميل" وبنفس الوقت يؤدي النص وظيفة الدالّ على الهوية.

منطق الأدب، قد يسمح لي بتلخيص الماضي، لكن هنا في عمل قريب من حالة "التوثيق" يكون الأمر مشبوهاً إذا لم أتوخَ الدقة والحذر والموضوعية".

• تاريخ الأسماء
وفي تبريرها لاستنادها فيما روته من معلومات عن تاريخ أمراء وشيوخ البادية وعقداء الحرب، إلى ما دونه "الاستشراق مدفوعاً بدوافعه الثلاثة: الديني، والاستعماري، والعلمي، وحتى لا يعترض أحد على اعتمادي تقارير المستشرقين الذين كانوا في غالبهم جواسيس لحكوماتهم، لا بد من الإشارة إلى حقيقة أنه، لمدة أربعمئة سنة تقريباً لم يجرؤ ويقتحم الصحاري أحد غير المستشرقين، فثمة فجوات زمنية لم تُعبْأ إلا بأقلامهم موثقة لأوضاع وقدرات القبائل الحربية والاقتصادية والاجتماعية، ويمكن الوثوق إلى حد كبير بما قدموه من معلومات كُتبت بعد معاينات ملموسة ومباشرة".

أما أهم الشخصيات التي جاء ذكرها في الكتاب، والتي مرّ ذكر بعضها في روايتها الأخيرة "سلطانات الرمل"، نذكر: (حسام الدين مهنا (أمير العرب بالشام)، والأمير مدلج بن ظاهر، والأمير أحمد بك الأبو ريشة، وفيصل النواف الكرخ، وطراد الملحم، ونوري الشعلان، ولورنس الشعلان، وشواخ البورسان، ورمضان باشا الشلاش (روبن هود)، ومشرف الدندل، والدريعي بن شعلان، ونواف الصالح الجرخ، وطراد عبد الإبراهيم، ومجحم بن مهيد، وجدعان بن مهيد، دهام الهادي الجربا".

وفي هذا السياق تذكر المؤلفة، أنه "من خلال انتقاء الأسماء الواردة في الكتاب لم أنتق تلك الأسماء بعينها إلا لأنها فرضت حضورها كأسماء "صميمة" في التاريخ القبلي للبادية السورية، والوثائق تثبت ذلك. رغم أن التاريخ نفسه لم يكن على مر الأزمان بريئاً من ضروب التلاعب بالذاكرة لغايات ذات علاقة بالهوية".

• تحريم النسيان
ترى الحسن أنه "من الغبن تجاهل التاريخ القبلي للبادية، خاصة إذا عرفنا أنه خلال فترة الاحتلال العثماني، لم يستطع أي من السلاطين العثمانيين بسط سيطرته على بقعة ما في البادية، وأنَّ سلطتهم لم تتجاوز خلال تلك الفترة الطويلة، مسافة أربعة كم، شرق دمشق أو حماة أو حمص أو حلب".

و"ذلك بسبب وجود رجال وقبائل، لم ترضخ لحكمهم. والسبب أنَّ البدوي لا يقبل أن يُولّى عليه من لا يصون مصالح القبيلة ويقودها بكفاءة عالية، وإذا ما حدث ومات شيخ قوي وخلفه ابن ضعيف، سرعان ما يُنحى جانباً ويأخذ السلطة أحد أبناء عمومته الأقوياء".

مؤكدة أن ذلك عائد إلى "أن عالم البداوة متحالف مع القوي والذكي". وأنه "كلما كانت القبيلة ذات نزعة حربية وحفل تاريخها بالحروب والمعارك والمواجهات الدامية، زاد حجم المرويات التي تشكل إرثها، فثمة قبائل كبيرة العدد. لكن ليس هناك ما يميزها أو يميز بعض سادتها. وذلك لميلهم للمسالمة. وهذا ما جعل بعضها يتلاشى مع الوقت، ويذوب في إهاب القبائل الأكثر شراسة وتعطشاً للمواجهات. وأكثر القبائل شهرة: (قبيلة الموالي)."

وفي خاتمة الكتاب تعتبر "ابنة البادية" أن اكتشاف اسم جديد وإضاءته من جديد هذا يعني إخراجه من النسيان ومنحه ميلاداً جديداً.و"الذاكرة التي يصعب أو يتعذر تدميرها أو إقاصاؤها، هي "ذاكرة الاسم والشهرة"، لا أجمل من أن يتذكر الأحياء "موتاهم الفريدين" ليس سهلاً أن تمنّ "الحياة" على أحدنا باسم "جدّ" مميز وبارز، فيكون لدينا من نتذكره أو نذكره، من خلال علاقة نقيمها مع الزمن. لا غرابة أن الإغريق جعلوا للذاكرة آلهة (وحدها تتيح أن تصل بين ما كنا عليه، وبين ما نحن عليه، وما سنصبح عليه)".

وفي الختام تذكرنا الحسن بمقولة شهيرة للفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 – 2005): "إن المحافظة على الذات عبر الزمن تقتضي، تحريم النسيان"