يظل الإبحار في تجربة الكاتب والباحث المرموق عبدالكبير الخطيبي، إبحار في ثنايا الأدب وجدوائية الكتابة وأنساق الخطاب، بالتالي مسير في أفق متعرج وملتوي لا يؤدي بنا الى خلاصات وسمات نهائية تمكننا وتسعفنا على التعرف عن أهم مبادئ وأفكار الخطيبي في العديد من المواقف والقضايا الجوهرية التي تهم الثقافة العربية والإنسانية عموما، ومع ذلك تمكننا العودة الدائمة لكتاباته، دعوة لإعادة اكتشاف الأدب من جديد.

عبدالكبير الخطيبي.. فكر مغاير

أيمن رفعت

عبدالكبير الخطيبي (1918- 2009) أحد الموسوعيين العرب القلائل أصحاب الفكر المستقل بعد جيل الرواد فى النهضة العربية وهو روائي، فليسوف، عالم اجتماع، وناقد أدبي، انتقل بين ضروب مختلفة من الفنون والمعارف مثلما ينتقل بين عالمين الشرق (بالمولد والانتماء) والغرب {بالدراسة والمنهج}.

في مقدمة كتابه "نحو فكر مغاير" يقول الخطيبي: الالتزام بالنسبة لي هو تحويل ما أحس به وما أفكر فيه إلى شكل أدبي وإلى كتابة، أحافظ على التزامي باستشكاف قضايا وثقافات أخرى.

ويدعو إلى نقد مزدوج يقوض أسس السيادة ويعيد النظر في أصوله وأسسه. ولا تعني الازدواجية هنا أن النقد ينصب على الميتافيزيقا الغربية ثم على نظيرتها الإسلامية، إنه على العكس من ذلك يتخذ طريقه بين هذه وتلك، وهو كما يقول صاحبه: "مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية".

ويضيف الخطيبي: مهمة النقد المزدوج بالضبط هي مقاومة هذا التطابق الموهوب للكشف عن الهوية المتعددة.

وعلى رغم ذلك فإن صاحبه لا يقدمه على أنه نقد أيديولوجي؛ وربما لأنه أقوى من ذلك، وحتى مفهوم النقد لا يؤخذ هنا بالمعنى المعهود، إنه ليس معارضة موقف بآخر، ليس موقفًا مضادًا بقدر ما هو القيام داخل الموقف لتفجيره وتقويضه.

بهذا المعنى يقول الخطيبي عن الأيديولوجية الاستشراقية: "أنا لم أنسفها، ولكن وضعتها في أزمة". إن النقد عند صاحب النقد المزدوج عملية خلخلة وتقويض، فهو يأخذ لفظ النقد في معناه الاشتقاقي في اللغة العربية الفرنسية حيث يحيل الوضع إلى أزمة، بناء على ذلك فالنقد لا يقول لا، وإنما يستجيب ويقول نعم، ولكن ليس للهوية والتطابق وإنما للفروق والاختلافات.

وتحت عنوان "المغرب أفقًا للفكر" يذكر الكاتب: يرتسم المغرب كأفق للفكر وفق ثلاثة تحولات، ثلاث سمات كبرى: النزعة التراثية: نطلق هذا اللفظ على الميتافيزيقا وقد أصبحت إلهيات، ونعني بالإلهيات: التفكير في الواحد وفي الموجود من حيث هو موجود أول وعلة أولى.

وهناك النزعة السلفية: نطلق هذا اللفظ على الميتافيزيقا وقد أصبحت مذهبًا، ونعني بالمذهب هنا: الأخلاق التي توجه سلوكًا سياسيًا وتنظمه فتسهر على التربية الاجتماعية.

والنزعة العقلانية (السياسية والثقافة والتاريخية والاجتماعية): نطلق هذا اللفظ على الميتافيزيقا وقد أصبحت تقنية، ونعني بالتقنية هنا: تنظيم العالم الذي ينم عن إدارة قوية لم يتقدم لها مثيل.

ويقول الخطيبي: كلما كتب سارتر كتب عنه، وكلما زاد سعينا للإرسال به انفلت، وها هو يحلق مثل طائر ثمل قُضي عليه بأن يطير في السماء مثلما حكم على آخرين بأن يحفروا الأرض، ولا يرجع هذا لأن ينتهي الأمر بسارتر إلى أن يكتب إلا إرضاء لذاته ولجمهوره الذي أنا منه؛ أي كقارئ يصح أن يوصف بالدلال، وإنما لأن كل نص منها كان صاحبه هو نص لا نهائي.

ويضيف: ففى الإقبال على كتب سارتر ترى ما يبعث على القلق، فكانما نسعى من وراء هذا إلى أن نحجب الحظ اللعين لهذا الرجل الذي مافتئ إلا يشكل عارًا بالنسبة لمجتمعه، كان بعض المحاربين القدامى قد صاحوا خلال الستينيات، وفي قلب شارع الشان إليزي: "أعدموا سارتر"؛ وذلك لموقفه من القضية الجزائرية.

ويرى المؤلف أن تصريحات سارتر تخضع للغة مزدوجة وأخلاق عكرة، فهو يمزج بين مستويين مختلفين: بين أخلاق سياسية تريد أن تكون ماركسية قائمة على التحليل الطبقي، وأخلاق غنائية تتغنى بالشقاء وترتبط بالوعي الشقي، ذلك في نظري هو التناقض الصارخ الذي يطبع تصريحاته. فهو يقول: أجدني ممزقًا بين صداقتين وإخلاصين متنافرتين، إننا نجد أنفسنا اليوم والعالم العربي يتقاتل مع إسرائيل ممزقين، منقسمين على ذواتنا، وإننا نحيا هذا الانفصال كما لو كان مأساتنا الشخصية.

ويذكر الخطيبي: أن أبيرميمي قد بحث فى نصوص عديدة عن تجربة الاضطهاد بهيمنة الاستعمار أو يهود "الشتات"، بل إنه يحاول أن يستخلص من تلك التجربة نظرية عامة عن الاضطهاد تصدق بدرجات متفاوتة على الزنوج والنساء. وسأكتفي بأن أقتبس بعض الأمثلة التي تعييننا هنا من كتابة وصف يهودي.

والجزء الأول هو بعنوان "الورطة" وهذا صحيح؛ لأن الأمر يتعلق بالفعل بمأزق نظري، وسيتضح لنا كيف أن ميمي عندما يستخدم الجدل الهيجلي حول السيادة والعبودية في صورته المبسطة لا يجرؤ على أن يذهب به إلى أقصى حد ممكن، ولا على أن يكذبه ويهدمه بشكل صريح، وهو يجعلنا نحس بالضجر والسأم الكبير؛ كي يخلص في النهاية بعد لف ودوران إلى تصفية الشعب الفلسطيني إلى حد أن الأسلوب التحصيلي لكتابته يبعث على الملل ويدفع بنا إلى النوم.

ويضيف: يصف ميمي الاضطهاد الذي يتعرض له الشعب اليهودي من غير أن يلتفت إلى التحول الذي يطرأ على معنى الاضطهاد في هذا الحال، فاليهودي الذي تعرض لقمع طويل الأمد يريد هو بدوره بعد أن أصبح معتنقًا للصهيونية أن يضطهد ذلك الذي حاول إبادته، وإنما غيره، فكما هو الشأن عند كل سيادة اعتقدت إسرائيل أنها وجدت في فلسطين اليتيمة ضحيتها.

وبصفة عامة، فإن الصهيونية تعيش على سوء النية، إنها تعرف أتم المعرفة أن فلسطين قد خضعت لغزو استعماري؛ لذا أفادت نظرية غريبة حول الفراغ كي تقضي على الشعب الفلسطيني.

وما من شك في أنه استعمار ينم عن عنف مزدوج لا يمكن تبريره، خصوصًا إذا رجعنا إلى مذاكرات هرترك "عشيق صهيون" لإدراك المرمى البعيد للصهيونية عندما نحتل الأرض سيكون علينا أن نسلب الملكيات داخل البلدان التي ستعين لنا،كما علينا أن نحاول طرد السكان الفقراء خارج الحدود باحثين لهم عن عمل داخل البلدان التي سينتقلون إليها، فنمنعهم من أن يعملوا ببلادنا.. وكل هذا سواء تعلق الأمر ينزع الملكية أو بطرد الفقراء ينبغى أن يتم بكامل السر والحذر.

وفي الفصل الخامس يجيب الكاتب على تساؤل: أعقدة أوديب أم عقدة إبراهيم؟ قائلاً: آن الأوان أن نحدد طبيعة المسألة الإبراهيمية التي تتحكم بقوة في القضية الإسرائيلية العربية وتطبعها، فباسم إبراهيم يسعى كل خصم إلى تحقيق وعده بأن يرى القدس وبعدها يموت، باسم إبراهيم يقوى الإيمان بإله منقسم، وإليه ترد الإقصاءات المتبادلة والتبريرات التي تُعطى لها.

يذكر أن كتاب "نحو فكر مغاير" للكاتب عبدالكبير الخطيبى من ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي وصدر ضمن مطبوعات وزارة الثقافة والفنون والتراث – دولة قطر ويقع في نحو 163 صفحة من القطع المتوسط.

 

{وكالة الصحافة العربية}