تقرير

امري كرتيز الحائز على نوبل 2002 يؤكد أن الكتابة لعبة قاتلة

أغلب أعمال الكاتب المجري "أمري كرتيز"، البالغ الآن من العمر 84 عاما تدور في جلّها حول تجربة "الهولوكست" التي عاشها في سنوات مراهقته، وسنوات شبابه الأولى في المعتقلات النازيّة. وقد أتاحت له أعماله الفوز بجائزة نوبل للآداب عام 2002.

في الخطاب الذي ألقاه يوم تسلّمه الجائزة، قال كرتيز: "هناك في مسيرتي شيء يصعب علينا التفكير فيه من دون أن تكون لنا الرّغبة في الاعتقاد في نظام فوق طبيعي، وفي عناية الاهيّة وفي عدالة ميتافيزيقيّة، أعني بذلك، ومن دون أن، نخدع أنفسنا، أن نمضي في طريق مسدود، وأن نتدمّر، وأن نفقد العلاقة العميقة والمؤلمة مع ملايين الكائنات التي هلكت ، وأبدا لن تعرف الرحمة".

يعيش كرتيز، راهنا، في ضواحي بودابست بعد أن أقام لسنوات طويلة في برلين. وفي حوار أجرته معه مجلّة "الفلسفة" الفرنسيّة في عددها الصّادر في صيف 2013، تحدّث كرتيز عن إعجابه بفلاسفة من أمثال ألبير كامو ونيشه وفيتغانشتاين الذين نقل بعض أعمالهما إلى اللغة المجريّة. وهو يقول بأنه اكتشف كامو وهو في سنّ السّابعة والعشرين. حدث ذلك خلال دورة معرض الكتاب في بوداباست عام 1957.

وكان هو يتجوّل بين الأجنحة لمّا عثر على كتاب بحجم صغير يحمل عنوان "الغريب"، ولم يكن يعرف مؤّلفه، وكان ثمنه بخسا بحيث سارع باقتنائه بعد أن فتنته الجملة البسيطة التي يبدأ بها الكتاب: "اليوم توفّيت أمي".

عند عودته إلى البيت غرق في قراءته لينهيه في بضع ساعات. ويعترف كرتيز أن الرواية الصغيرة والمكثّفة بطريقة شعريّة عالية "صعقته" إذ أنها كانت رواية "عبقريّة" بحسب تعبيره. وعلى مدى خمسة أعوام ظلّت أجواء الرواية حاضرة في ذهنه . فلكأنه بطلها، وكاتبها.

يضيف الكاتب المجري كرتيز قائلا: "لقد وضعني كامو على الطريق الصحيح، والسّليم (...). وقد أعجبتني صلافته بالخصوص، فهو مثّل بالنسبة إليّ صورة الكاتب الشاب الذي يكتشف كلّ شيء ويرى كلّ شيء، والذي يجرؤ على قول كلّ شيء بكل خبث.

انظروا كيف أن كامو القادم من الجزائر، والذي كان في سنّ الثلاثين تجاسر على فرض مفاهيم جديدة في الفلسفة مثل العبث والجريمة والحرية... من دون احترام ومن دون حذر ومن دون خوف.

هذه القوة الهائلة، أنا أحسده عليها. عندما نريد أن ينتحل كاتب كاتبا آخر، فإنه يتعيّن عليه أن يلجأ إلى طريقتين. الأولى، وهي طريقة مباشرة كان "يسرق" بعض تراكيبه، وبعض صوره، ويعني ذلك أنه لا يفعل شيئا آخر غير نسخ أسلوبه.

أما الطريقة الثانية فتتمثّل في التعمّق في أعماله بقراءتها، وبإعادة قراءتها إلى أن يفلح في أن يتمكّن من أن يرى عالمه الخاص من خلال عينيّ ذاك الذي اختاره معلّما. وهذا ما حدث لي مع ألبير كامو.

كاتب آخر كانت لي معه نفس التجربة، وهو توماس مان فاكتشاف "الموت في فينيسيا" صعقني مثل "الغريب"، لكن بأقلّ حدّة. كامو مثّل بالنسبة إليّ الشّاب المتّقد حماسا، والمندفع. أمّا توماس مان فكان المعلّم الهادئ، والحكيم الذي لا يركض في اتجاهــات مختلفة والــذي يمتلـك المعرفــة، وبصفاء يبلّغهــا إليك. لذلــك يمكننــي أن اقول إني تعلّمت معرفيا من أعمل تــوماس مان، أما ألبير كامــو فقد أعطاني درسا في الحياة".

يتحدث كرتيز عن بداياته قائلا: "في نهاية الحرب العالمية الثانية، أي عام 1945، خرجت من معتقل "بوخنفالد" لأعود إلى بودابست. كنت قد خسرت سنتين من الدراسة. وكنت في الخامسة عشرة من عمري. ولم أكن أعرف شيئا ولم أكن جاهزا لأيّ شيء.

وهكذا وجدتّ نفسي عاريا أمام الحياة. فقط في عام 1948 بدأت أفهم ما يدور حولي، وأدرك أن العمل الثقافي يجذبني، في حين أن الوضع العام في المجر لم يكن يشجّع على ذلك. فقد استلم الشيوعيّون السّلطة في صيف العام المذكور، وأقاموا نظاما استبداديّا مطلقا في السّنة التّالية.

من جانبي شرعت أعمل في الصّحافة معتقدا أن ذلك سوف يساعدني على التدرّب على استعمال الكلمات. وكنت متحمّسا جدّا لعملي، وبنزاهة كنت متيقّنا أنني سأنجح. وفي الوقت الذي بدأت فيه أوضــاعي تتحسّن، بدأت الرقابة تضــرب بقــوة في المجر". بعد ذلك فصل كرتيز مــن عملــه. وقامــت السّلطات الشيوعيّة باعتقال زوجته بسب محاولتها الهروب إلى الغرب، فازدادت حياه تعقيــدا.

مع ذلك شرع كرتيز في كتابة رواية. وكان يقضي وقته في التجوّل في المدينة مسجّلا ما يدور في ذهنه من خواطر ومن أفكار. ورغم أن القمع كان يزداد استفحالا يوما بعد آخر فإنّ كرتيز ظلّ متفائلا، حادسا أن الأوضاع ستتغيّر لصالحه ذات يوم.

في هذه الفترة الصّعبة كتب روايته الأولى التي حقّقت له شهرة كبيرة. وكانت بعنوان "كائن بلا مصير". وعن الفلسفة والأدب يقول كرتيز: "أنا أرى بأن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة لذلك لا بدّ من الجديّة.

أما في الأدب، فإن الأمر يصبح شيئا آخر. الكتابة في نظري لعبة قاتلة. فعندما نقرّر كتابة رواية، يتوجّب علينا العثور على اللّغة المناسبة لها". ويختم كرتيز حديثه قائلا: "أنا مريض الآن، وأتألم كثيرا.

مع ذلك لا أريد أن أضع حدّا لحياتي مثلما فعل بريمـو ليفي وتاديوز بوروفسكي ويـان أميري الذين عاشوا مثلي تجربـة المعتقـل المريرة. لا رغبة لي في إضافة اسمي في القائمة. ولا أريـد أن يقـال عنّي أنني حكمـت على نفسي بالموت. لذلك سأظلّ أقاوم حتى النهاية.