هنا شهادة عن يوميات معمورة تحاصرها البربرية حتى في تفاصيل المعيش الصغيرة. تسرد الكاتبة مرئياتها في المدينة، وهواجس من التقتهم وأصغت لهم خلال رحلتها إلى دمشق الفيحاء التي تنتظر حريتها وعودة التاريخ لها.

ما الذي تبقى من دمشق؟

سـارة بـيرك

في صباح أحد الأيام، أثناء زيارة قمتُ بها مؤخراً إلى دمشق ـ والتي كانت زيارتي الأولى في عام ـ ذهبتُ إلى الجامع الأمويّ، أحد أقدم المساجد في العالم. كان هذا البناء المذهل في ما مضى من الزمان معبداً رومانياً، ثم صار إحدى الكنائس المسيحية الأولى، قبل أن يصبح، ما يعدّه كثيرٌ من المسلمين، رابعَ أكثر أمكنة العبادة قداسةً في الإسلام. وكالعادة كان مكتظاً بالعائلات، وبالأطفال الذين يلعبون في الساحة الرخامية، والنساء والرجال الذين يصلّون أو يستريحون، ويتحدثون في هواتفهم المحمولة. غير أنّ المشهد اتّخذ شكلاً مختلفاً حين جلستُ مع امرأتين من ضواحي دمشق.

كانت فاتيا من جوبر، وهي ضاحية شمالية شرقية تتوضع استراتيجياً على الطريق المتحلق حول العاصمة، حيث تنشب الاشتباكات يومياً بين النظام وقوات المتمردين. دمّر قصفُ قوات النظام منزلها، وقالت إنها تعيش الآن مع عشرين آخرين في وسط دمشق، وإنها جاءت إلى هنا لأنه المكان الوحيد الآمن الذي يمكن الذهاب إليه. أما المرأة الأخرى، منار، فقد قالت إنّ زوجها كان يعمل في داريا، وهي ضاحية استولى عليها المتمردون في الخريف الماضي، ثم صارتْ هدفاً لهجوم متواصل تقريباً من الجيش السوري في الشتاء الماضي. غير أنه فقد عمله لأنّ المصنع الذي كان يعمل فيه دُمِّرَ. "هناك بعض الناس الذين ينامون الآن في المساجد لأنهم لا يملكون مكاناً يذهبون إليه"، كما أخبروني. (النوم ممنوع في المسجد الأموي، غير أن المساجد الأصغر مليئة بالأشخاص المهجّرين الآن)  قاطعها صوت انفجار قذيفة . "ربما هذه جوبر"، قالت فاتيا.

إنّ الدمار الوحشي الذي سبّبه الصراع السوري، أثّر، فيما يدخل عامه الثالث الآن، في أجزاء كثيرة من البلاد، غير أنّ الحكومة السورية تحاول على نحو مستمر تصوير العاصمة كواحة هدوء. فبخلاف حلب، التي دمّر عام من القتال أجزاءً منها، فإنّ مركز دمشق لا يُظهر إلا بعض الندوب من الحرب، بصرف النظر عن حواجز الطرق ونقاط التفتيش الكثيرة، والبقايا المحترقة لبناء مقصوف في شمال شرق المدينة. وبخلاف الرقة، المدينة التي في شرق سوريا، والتي سقطتْ في يد متمردين متطرفين، فإنّ دمشق تبدو معقلاً لحياة متسامحة ونابضة بالنشاط. في وجهة النظر هذه، تبيّن المدينة العاملة كلاً من القوة المستمرة للنظام ومخاطر المعارضة المنقسمة على نحو متزايد. ولكن كما كشفتْ زيارتي إلى الجامع الأموي، إنّ الأمور ليست كما هي تحت السطح في العاصمة السورية.

في اليوم نفسه، خرجتُ لتناول العشاء مع رجل أعمال صلاته جيّدة، درس مع بشار الأسد وشقيقه الأكبر باسل وازدهرتْ أموره في ظلِّ النظام، وازداد هذا الازدهار منذ أن بدأت الأزمة. كان المطعم يقدّم الطعام الغربيّ وأيّ نوع من الكحول الذي يمكن أن تتخيّله. فتاة شابة بتسريحة شعر حديثة وصورة لبشار الأسد كغطاء للآيفون الخاص بها رددت أغنيات فيما كان رفاقها المبتسمون يشربون بسرعة أنواعاً من الكحول بأسعار يمكن أن تكفي لدفع أجرة منزل أسرة مهجّرة لمدة شهر. نهض رجل الأعمال كي يذهب إلى المرحاض فسقط شيء على الأرض مصدراً قعقعة. كان مسدّساً. قال:"آه هذا. أنا خائف من الخطف. أفضّلُ الانتحار على أن يحدث هذا لي".

أثناء إقامتي، بيّنتْ لي زياراتي إلى نصف دزينة من الحارات المركزية المختلفة أن النظام بعيد عن كونه على ساقيه الأخيرتين، على الأقل هنا. إن الاقتصاد يتحرك بتثاقل، تسنده بقوة أموال من الحكومة الإيرانية التي حقنتْ 4 بلايين دولار على الأقل في سوريا منذ بداية الصراع. والنساء يتحركن بنشاط في الأسواق التي تظلّ مفتوحة حتى ولو أغلقتْ بعض الحوانيت أبوابها. أما الفنادق التي كانت تفكر منذ عام بإغلاق أبوابها فتقوم بتجارة أفضل الآن، بفضل السوريين الميسورين الذين هربوا إلى العاصمة. وتم تعويض خلّو المطاعم في الأزقة المتعرجة والساحات المنزلية في المدينة القديمة بأعداد متزايدة من الباعة الجوّالين الذين يبيعون كلّ شيء للمهجّرين من أغطية الرأس إلى السجائر. 

غير أنّ الحرب قريبة. فالمعارك الرئيسية بين قوات النظام وجماعات المعارضة خِيْضَتْ في جميع الضواحي الدمشقية التي تحيط بالمدينة تقريباً، في دوما وحرستا، وفي مناطق أكثر قرباً، كبرزة وجوبر. وبعدَ أن أحرزتْ المعارضة بعض التقدم قرب العاصمة في صيف 2012 ـ والتي دُعيت كلّها معارك "حاسمة" غير أنها صُدَّتْ ـ فإنّ كثيراً من الحارات في أطراف المدينة، وبينها جوبر وداريا، قُصفتْ من قبل قوات النظام. (إن جزءاً من الغوطة، وهي منطقة في شرق دمشق، هو تحت سيطرة المتمردين حالياً، رغم أنّ المكاسب الأخيرة للنظام تفرض ضغطاً متزايداً عليه). 

ذهبتُ في أحد الأيام إلى حرستا، وهي ضاحية على بعد رمية حجر إلى شمال شرق مركز المدينة. كان الطريق مليئاً بالمعادن الملتوية والسيارات المحروقة. "قدْ بسرعة في المائتي متر اللذين أمامك لأنّ هناك قنّاصين"، حذّر جنديٌّ سائقي.  تابعنا طريقنا، غير أننا رجعنا لأنّ القصف كان عنيفاً، والدخان الأسود يتصاعد من منطقة قريبة من الطريق.  في مناسبة أخرى، كنتُ أستقلّ تاكسياً في المزة، وهي منطقة تقع إلى الغرب من مركز المدينة، تمّ إغلاق الطريق فجأة. ورأيت سيارة يتصاعد منها الدخان على بعد أمتار قليلة. قال البعض إنها انفجرتْ ـ إحدى عبوات السيارات المتكررة ـ وقال آخرون إن قذيفة هاون سقطت عليها.

غير أنّ التغيّر الأكثر لفتاً للانتباه في المدينة منذ أن عشتُ هنا قبل الحرب فقد حدث في سكان المدينة أنفسهم. إن دمشق، التي يبلغ عدد سكانها، وفقاً للتقديرات، من 5 إلى 6 ملايين نسمة قبل بداية الصراع، لم تنافس القاهرة أبداً على الحياة الفكرية، أو بيروت في الثقافة الرفيعة، مع ذلك فإنها تمتلك ما يكفي من مخرجيها السينمائيين الطموحين ومعارضيها الكبار في السن، وشبابها المجربين، ومالكي بقالياتها ذوي التجاعيد، والكثير من المحامين والأطباء والباحثين ذوي التعليم العالي. أما الآن فإنّ كثيراً من المهنيين والشبان وحتى العمال الذين يملكون مدخرات كافية للقيام بهذا غادروا إلى لبنان ومصر والخليح، أو إلى أبعد من ذلك. وبدلاً منهم استقبلت المدينة أعداداً كبيرة من الفقراء والمعدمين من الضواحي، الذين انتقلوا إلى مناطق كالمدينة القديمة، كي يعيشوا مع العائلة أو الأصدقاء، أو إلى أحياء كالميدان، وهي حارة في جنوب المركز، والتي هي منطقة اضطراب. وهم يعيشون الآن إلى جانب أغنياء المدينة واللامبالين الذين بقوا، ويواصلون دعم النظام. (إنّ هذه مجموعة، بخلاف التشخيصات السائدة للحرب، لا تشمل العلويين فحسب، بل أعضاء الطوائف الأخرى من أصحاب الامتيازات أيضاً). بدت المدينة كأنها جوفاء بالنسبة لي بسبب هذا. قمتُ بجولة في الأمكنة التي كنت أُكثر التردد إليها في السنوات الثلاث التي أمضيتها في دمشق. حدّقتُ عبْر النوافذ المتّسخة لإيتانا، وهي مكتبة اعتادت أن تمتلئ بالمفكرين، فلم أر إلا الرفوف والعلب الفارغة. رحل مازن الذي كان يبعيني جميع فساتيني الليلية. ورحل بائع السجاد. ورحل بائع المجوهرات المفضل لدي. وفي مكان الحوانيت التي كانت تبيع التحف للسياح، بزغت بقاليات رخيصة تعرض طلاء الأظافر وبضائع رخيصة مثل حقائب "لويس فوتون". إن المعارضين والمفكرين القليلين الذين صادفتُهم، والذين لم يغادروا المدينة، يمضون الساعات وهم يتحدثون عن الأصدقاء الذين رحلوا والزمن الماضي، وهم يخشون الاعتقال طول الوقت. ففي الثامن عشر من تموز\يوليو، اعتقل رجال الأمن الفنان يوسف عبدلكي. وهو معارض قديم عاد إلى سوريا سنة 2005، وهو الذي أمضى سنوات في السجن أثناء حكم والد بشار،حافظ الأسد، اعتُقل مع عضوين آخرين من مجموعة داخلية كانت منتقدة للنظام ـ الثلاثة هم من أقليات سورية مختلفة:  مسيحية وعلوية ودرزية ـ أثناء موجة أخرى من الاعتقالات السياسية.

إن معارضاً آخر، كان يرسل الملابس والدواء إلى الضواحي المحاصرة بمبادرة خاصة منه، شجبَ الشبان الذين غادروا حالما صارت الأحداث أكثر عنفاً، لأنّ هناك حاجة إليهم لمواجهة النظام. وبّخه صديقه قائلاً:"علينا جميعاً أن نقوم بخياراتنا. صارت البنادق أكثر صخباً مما كانت عليه".

إن كثيراً من الناس الذين بقوا يعيشون معتمدين على شبكات دعم غير رسمية ومساعدات من متطوعين مثله. غير أنهم يصارعون. ففي المنازل تعيش أسرة في كلِّ غرفة الآن. وآذت العقوبات الناس العاديين أكثر من النظام. إن سندويشة فلافل كانت تكلف 25 ليرة سورية صار سعرها الآن 65. (بعد انهيار العملة السورية، وهذا بالفعل انحدار في سعر الموازي بالدولار، ولكن قلة من الناس تكسب بأي شيء سوى العملة السورية). قالت فاتيا:"إن الطعام يكلف السعر نفسه الذي يكلفه إذا كنت تعيش في فندق خمس نجوم". إنّ الاكتئاب واسع الانتشار. وأضافت فاتيا: "إنّ كلّ ما نحتاج إليه نحن السوريين هو منزل، أو أن نكسب ما يكفي لأولادنا كي يتزوجوا، أما الآن فقد ذهب هذا".

تقول الحكومة إنها تقدم المساعدة للمُهجّرين الذين نزحوا إلى المدينة. ولكن في وزارة المصالحة الوطنية، وهي هيئة حكومية بالمعنى الأورويلي (نسبة إلى جورج أورويل في روايتة 1984) أُنشئت سنة 2012، كي تساعد السوريين الذين أثرت بهم الحرب كما هو مفترض، راقبتُ الناس وهم يقفون بالدور كي يطلبوا المساعدة في العثور على أحبائهم، فقط كي يخذلهم البيروقراطيون اللامبالون على ما يبدو. كانت إحدى النساء تعرف أي فرع أمن يحتجز ابنها في الأشهر الخمسة الأخيرة، ربما لأنه شاب ذكر ظنّوا أنهم يمكن أن ينضم إلى المعارضة؛ واختفى زوجها ببساطة دون أن يترك أثراً منذ عدة أشهر. تساءلت ُ: كيف ستبقى على قيد الحياة؟

يبدو أن المسؤولين في حكومة الأسد لا يكترثون إلا قليلاً بأنّ المدينة التاريخية التي يتزعمونها صارتْ صَدَفة ذاتها القديمة. وبعد تحقيق مكاسب ضد المعارضة في هذا الربيع، تتوّجتْ في سيطرة النظام في حزيران\يونيو على القصير، وهي بلدة على الحدود اللبنانية، وفي الحصول على الدعم المتجدد من حلفاء كحزب الله وإيران وروسيا، امتلك النظام ثقة جديدة تجلّت لدى كثير من الناس الذين يدعمونه، والذين قابلتهم في دمشق.

يرى هؤلاء الموالون أنّ المجرى الأخير للحرب ـ بما فيه التقارير المتنامية عن المزيد من الجماعات المتطرفة التي تسيطر في بعض مناطق المعارضة ـ برهنَ لحجّتهم أنّ الحكومة هي آخر معقل علمانيّ في المنطقة، يهاجمه خطٌّ من المتطرفين الذين تموّلهم دول الخليج. ولم يفعل مقاتلو المعارضة أية أعمال معروف لأنفسهم فيما القتال يصبح أكثر قذارة.  "أردنا ثورة ولكنّ النظام لعبَ لعبة ذكية وفاز"، أخبرني شاب، مشيراً إلى كيف أثارتْ الحكومة المخاوف من العنف الطائفيّ، وفق تقارير متعددة في 2011، عبر إطلاق سراح المجرمين، وخاصة الإسلاميين المتشدّدين، من سجن صيدنايا كي ينضموا إلى المعارضة.

ثمة آخرون في العاصمة يعارضون بشدة، كمثل كثيرين من أبناء بلدهم في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون. يقولون إنّهم يفضلون الموت على أن يعيشوا في ظل النظام، ويرون أنه يجب أن يسقط مهما كانت الكلفة. وانتقل بعض الدمشقيين المعروفين، مثل ياسين الحاج صالح، الكاتب المعروف، ورزان زيتونة، المحامية المختبئة منذ بداية الانتفاضة، إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. (في منتصف تموز\يوليو،  قال حاج صالح، الذي هو الآن في الغوطة الشرقية حيث لا كهرباء أو هاتف، ولا يوجد إلا القليل جداً من الطعام، لصحيفة الغارديان:"واجهنا في دمشق الاحتمال الدائم للاعتقال والتعذيب الذي لا يطاق. هنا نحن آمنون من هذا، ولكن ليس من صاروخ يمكن أن يسقط على رؤوسنا في أية لحظة). وأخبرتني ناديا، وهي صديقة سورية تعمل لدى وكالة غوث دولية، أنها تحب أن تعبر هذه الخطوط، وتذهب إلى أمكنة مثل حمص لأن الناس والثورة يبدون أكثر حيوية مما هم عليه في دمشق. وبالفعل، وفيما كان أسبوعي ينقضي، بدت المدينة على نحو متزايد مثيرة للاكتئاب، وذكرتني بسوريا في السنوات الأقدم؛ وقد قارنها الناس الذين قابلتهم بزمن ما قبل بشار الأسد. وكنتُ حين أسمع القصف في الضواحي أشعر بالمرض. وفي صباح صاخب ما على نحو خاص، وجدتُ أنه من الغريب أنّ الناس لم يجفلوا: رجل يجلس على درجات هيكل اسمنتي رتيب المنظر يحتسي الشاي، وحارس يسترخي أمام مبنى حكوميّ وصفٌّ من البشر في مكتب للويسترن يونيون، ينتظرون جميعاً تحويلات من أقاربهم في الخارج، وكان الصف يزداد طولاً. مرة بعد أخرى كان الناس الذين تحدثت إليهم يقاطعون جملهم بعبارة "ما في حل". إن "أوباما والجميع خانونا. لدينا مشكلة مع معارضتنا. ولدينا مشكلة مع الإسلام"، قال لي تاجر سجاد. وصفَ الحديث عن مؤتمر جنيف للسلام بأنه "لعبة"، و"تكتيك تأخير" للأسرة الدولية، بما أن النظام لن يتخلى عن السلطة. ووصف رجل أعمال مقرب من النظام الأمر بدقة أكبر قائلاً إنه "استمناء".

بدا كثير من المقيمين عازمين على تجنب الانقسامات في الطائفة والطبقة والرأي التي حدثتْ في أمكنة أخرى في البلاد، على الرغم من أنّ هذه الانقسامات بدأت زحفها على نحو متزايد إلى العاصمة أيضاً. فقبل الحرب كانت الحارات مقسّمة بحسب الطائفة: كان باب توما هو الحي المسيحي الرئيسي في المدينة القديمة، وكان المزة 86 حيّاً علويّاً. غير أنّ كثيراً من المناطق كانت مختلطة. كان السوريون يفتخرون بعدم معرفة ديانة شخص آخر. غير أن هذا بدأ يتغيّر اليوم. ففي المناطق العلوية، التي استهدفها المتمردون بقذائف الهاون، ثمة شعور لدى العلويين بأنهم مستهدفون، ولكن ليس من قمع النظام. وفي المناطق السنية كالميدان، لم تتردّد أجهزة الأمن في إطلاق النار على الناس. وفي أجزاء أخرى من المدينة صار اختطاف الموالين للنظام الأثرياء وأبنائهم ـ من قبل عصابات إجرامية وبعض جماعات المعارضة التي تنشد مال الفدية ـ شائعاً على نحو متزايد.

إنّ شهلا  ونغم الشمالي، وهما شقيقتان مسيحيتان من حلب، تعيشان الآن في فندق مترف في المدينة القديمة، شرحتا لي كيف أن الإسلام هو جذر مشكلات سوريا وهما تجلسان وتضحكان مع ضيوف سنّة منفيين مثلهما من مدنهم الأصلية. وفي حي الـ 86 الذي تسكنه أكثرية علوية، شجبَ المقيمون الذين تحدّثتُ إليهم السنة في العاصمة فيما هم يواصلون الحياة بينهم؛ متأثرين جزئياً بصور إعلام الدولة، وقال بعضهم إن السنة يريدون استئصال العلويين.

وبدون خيار آخر، إن كثيرين من الذين تحدثتُ إليهم عثروا على طرق للتكيف مع الموقف الجديد. وسمعتُ على نحو متكرر التعبير السوري الجوهري: "شو بدنا نعمل؟" وقال آخرون:"تمْسَحْنا". وقال لي أحد السائقين إنّ الصفوف الطويلة من السيارات أمام نقاط التفتيش هي فرصة للتدخين. (مزحتُ قائلة إن الحرب ستقصّر حياته بهذه الطريقة). ويتمّ التقيّد بقواعد الضيافة التقليدية بصرامة خشية أن ينزلق ويسقط حجر زاوية للهويّة القومية. ذلك أنّ جميع المنازل التي زرتُها قدمت الشاي والحلويات، وفي غالب الأحيان هدية صغيرة. ركبتُ باصاً وكان هناك رجل يجلس في مقعدين مع أبنائه الثلاثة فعدّل جلستهم على الفور وكوّمهم في حضنه، فاسحاً لي المجال كي أجلس، حاثّاً أحدهم: "قل لها مرحبا!"

نادراً ما يختبئ خلف هذه المواقف السورية المألوفة، على أي حال، الاعتراف المثير للحزن بأن المدينة تبدّلت بطريقة لا رجعة عنها. فقد تحدّث تاجر السجاد الذي التقيتُ به عن صديقٍ له، وهو شرطيٌّ سابق، اعتاد أن يلعب معه الورق. بدأت زيارات الشرطيّ تقلّ بالتدريج إلى أن توقفت. انضمَّ الشرطيّ إلى جبهة النصرة، الجماعة المتشددة المرتبطة بالقاعدة، التي تقاتل الآن زملاءه القدامى. وفقدت ناديا، عاملة الإغاثة، صديقين حميمين، أحدهما في الجيش والآخر يقاتل مع المعارضة. أخبرتني صديقة أخرى عن زوجين كانت تعرفهما استقرا في بيروت وأنجبا طفلاً. عادا مؤخراً كي يأخذا رضيعهما إلى المسجد الأموي خشية ألا يكون قائماً حين يعودا في المرة التالية.

 

عن «جدلية» (نشرت هذه المقالة للمرة الأولى بالإنجليزية في New York Review of Books وترجمها إلى العربية أسامة إسبر).