ترصد هذه الرواية التسجيلية الفلسطينية المكتوبة بحس فدائي شاب نشوء المقاومة المسلحة في أعقاب هزيمة حزيران 1967 راصدا تفاصيل واقع الفلسطينيين المهين في المخيمات اللبنانية ثم ظروف تألق وصعود العمل الفدائي، وصولا إلى ضرب المقاومة في الأردن في أيلول الأسود 1970 عبر تجربة الكاتب نفسه.

رسالة من طبريا (رواية)

محمـود عيـسى

مقدمة
جواد، وليلى، وحليمة، وشاستري، والفسفوري، وابو غيدا، «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». عشت معهم تجربة غنية، كنت شاهدا عليهم، وكانوا شهودا علي في مخيمات لبنان، ومنطقة احراش عجلون في الاردن في اواخر ستينات القرن العشرين. لم يكن كل منا شخصية واحدة، بل كان كل منا عدة شخصيات، كما يقول "لويجي بيرانديلو" الكاتب الإيطالي الشهير (28/6/1867-10/12/1986) صاحب المسرحية العالمية الشهيرة "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، التي عُرضت لأول مرة في روما عام 1931، والحائز على جائزة نوبل للآداب. يقول بيرنديلو "كل واحد منا له شخصيات متعددة بعدد الإمكانيات التي تكمن فينا، فبالنسبة للبعض يكون كل منا شخصا واحدا محددا، وبالنسبة لآخرين يكون شخصا مختلفا تماما. بل أن الشخص الواحد يكون شخصا جديدا عند كل عمل جديد، كما انه شخص آخر في علاقته مع كل شخص آخر. كان الستة هؤلاء، وزملاؤهم، ورفاقهم بالنسبة لي أشخاصا معينين، وربما سيكونون آخرين بالنسبة للقراء، بل قد يبدون مختلفين لكل قارئ على حدة. ولكنني رسمتهم كما كانوا بالنسبة لي في تلك الفترة، وضمن تلك الظروف. حينها لم أكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمري  عندما كتبت هذه الرواية، إذا صح تسميتها بالرواية. كان عندي المعرفة العميقة بشخصياتها العديدة: شاستري، والفوسفوري، وحليمه وسعاد، وأبو غيدا، وأبو كنعان....، والتجربة الغنية التي كنت شاهدا عليها ومعاصرا لها، في أواخر ستينات القرن العشرين دفعتني أن أدون ما شاهدت وسمعت يوما بيوم. تركتُ تلك الأوراق المكتوبة بخط اليد في بيتنا في مخيم بعلبك في لبنان، وغادرت إلى بلاد المهجر: ألمانيا وباريس وأخيرا الدنمرك.  شاءت الصدفة، والصدفة وحدها، أن اعثر على هذه الأوراق بعد كل هذه السنين الطويلة. كم دُهشتُ عندما قرأتُ هذه الأوراق من جديد. بدأ السؤال الملح بملاحقتي بشكل شبه دائم: ماذا علي أن اعمل بهذه الأوراق؟ هل ادققها وادفعها للنشر، أم اتركها ضمن أوراقي غير المنشورة التي تكتظ بها خزانتي؟

 

ثلاثة عوامل أساسية كانت وراء ترددي أولا، وقراري لاحقا بطباعة هذه الأوراق (الرواية):

1-                رسالة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، وموضوعها روايات الكاتب جوزف كونراد التي أنجزتها في الدنمرك، جعلتني أتردد كثيرا بالمجازفة بطباعة أوراقي كرواية. فعندما يقرأ القارئ رواية "قلب الظلام"، أو "اللورد جيم" أو "نوسترومو. سيقول "شتان بين الثرى والثريا"... هذا ما قلته في نفسي.

2-                حصولي على منحة لأربعة سنوات للبحث في تاريخ قرية فلسطينية مهدمه (هي قريتي لوبيه)، والمقابلات التي أنجزتها مع ما يناهز خمسمائة شخص في أكثر من عشرة بلاد، ومقابلات مع الضباط الإسرائيليين الذين احتلوا القرية عام  48، (بعد عدّة محاولات)، ومئات الوثائق من الأرشيف الإسرائيلي عن القرية (لوبية) وتاريخها وعائلاتها وعدد آبارها ...كل هذا دفعني لإعادة النظر بالأوراق التي كتبتها قبل أربعة عقود، إذ أدركت الأهمية القصوى لكل قصاصة ورق. فالصورة الوحيدة لقرية لوبيه قبل تدميرها بالكامل (مثلا) موجودة فقط في الأرشيف الإسرائيلي ... تدفع مئة دولار للحصول على صورة لبلد الآباء والأجداد!!! إن تاريخنا الحديث والمعاصر لم يُكتب بعد بأقلام صانعيه الحقيقيين، فقلت في نفسي أيضا: آن الأوان لهذه الرواية أن ترى النور، رغم عيوبها الفنية.

3-                الصديق العزيز والمعلم الكبير أبو نائل شجعني، وحثني أكثر من مرة على طباعة هذه الأوراق(الرواية) بدون أي تعديل جوهري على المخطوطة الأصلية. فتشجيع الصديق أبو نائل وعدد من الأصدقاء لعب الدور الأساس، والحاسم، كي ترى الرواية النور بعد أربعة عقود. وقد قام الصديق أبو نائل مشكورا بتدقيق هذه الأوراق، مع الحرص أن تبقى معبرة عن سن الكاتب، وثقافته عند كتابتها.

وأخيرا، هذه تجربة مجموعة من الشباب والشابات الذين تجرأوا على اقتحام المستحيل، ودفعوا زهرة شبابهم وشبابهن ثمنا لأفكارهم وأفكارهن، وفرشوا الأرض بذورا أينعت الآن، بما لها من ثمار وشوك، لتُنشر في عصر الحراك العربي بما فيه من ربيع يلهج بألحان الحرية والكرامة والعدالة، وما به من انتكاسات وخيبات.......وما زال موسم الحصاد بعيدا

وها أنا ذا أقدّم لكم هذه الأوراق

محمود عيسى  كوبنهاجن-الدنمرك 15/11/2012

 

الفصل الأول
المخيم
دفعت الهجرة سنة 1948 بحوالي أربعة آلاف فلسطيني إلى أحد المعسكرات القريبة من مدينة بعلبك في لبنان، والذي سمي باسم أحد جنرالات فرنسا (ويفل). وعلى بعد حوالي كيلو مترين كان أقيم تجمع فلسطيني آخر في ثكنة سابقة للجيش الفرنسي سمي أيضاً باسم أحد الجنرالات، فكانت ثكنة (غورو) التي ما لبثت أن نقلت بأمر الدولة فأصبحت اليوم جزءاً من مخيم الرشيدية في منطقة صور في الجنوب اللبناني. في ثكنة ويفل التي اعتبرت مخيماً فلسطينياً، استقرت جموع الناس بادئ ذي بدء، وبعد أن تأكدوا من استحالة العودة إلى بلدهم في المدى المنظور، أصبحوا مكرهين على سكن هذه البركسات حيث كانت مخصصة لخيول الدرك الفرنسي. لا زال الجميع من الكبار يتذكرون أيام البرد القارص شتاء يوم الهجرة والذي أودى بحياة بعض الأطفال الصغار، لعدم تعود أهالي فلسطين على برد بعلبك وثلجه.

بدأ الناس بممارسة حياتهم اليومية بعد أن شعروا بشيء من الاستقرار،  فكانت مهنة الزراعة هي السائدة في تلك الفترة وما زالت حيث يمتد سهل البقاع، وخصوصاً القطاع النسائي. أما الرجال فكانوا في الغالب يعملون في البناء وصب الباطون وتعبيد الطرقات وغيرها من الأعمال الحرة. وبذلك أصبح المخيم مصدراً جيداً لليد العاملة الرخيصة، وخاصة في قطاعي الزراعة والبناء.

حطمت الهجرة إلى حد ما البنية العائلية والعشائرية المتواجدة سابقاً في فلسطين، فلم يبق ثمة مخاتير ووجهاء لهم نفس النفوذ السابق. ومع ذلك في بقعة اقل من كيلومتر مربع توزع مجموع الآلاف القليلة على عدة أحياء من المخيم الشبيه بالسجن. فكان حي الصفافرة ـ نسبة إلى صفورية ـ والمجادلة ـ قرية المجيدل واللوابنة ـ الشفاعمرية ـ والكساير والفرارضة وغيرهم ـ (وغدت هذه التسميات رمزاً للقرى التي أرغموا على الهجرة منها حيث حافظت هذه القرى على سكنهم بالقرب من بعضهم البعض)، حتى علاقات الزواج ما زالت سائدة مع بعض الاستثناءات.

جاءت خدمات الوكالة (وكالة غوث اللاجئين أونروا) لاحقاً لتخفف من بعض العبء المادي على الأهالي ففتحوا مطعماً للصغار وخصوصاً طلاب المدرسة، ومقراً لتوزيع الحليب على الأطفال، ومركز توزيع طحين، وأحياناً يوزعون الثياب البالية حيث يكون لكل عائلة"بقجة ملابس"، ولا مانع إذا كان فردة حذاء واحدة في البقجة. لذلك سماه البعض بمخيم «أبو فردة» للهزء بأوضاع النزوح.

دخل درك الدولة أولاً إلى المخيم في مطلع الخمسينات في مهمة حفظ الأمن. فكان المهم بالنسبة لهم شهرياً أن يعبئوا دفتر الضبط كيفما كان حتى يثبتوا إخلاصهم للدولة، وجاء لاحقاً المكتب الثاني بكل ثقله وكابوسه وقرفه ليفرض الإرهاب على الناس بكافة الطرق المسموح بها وغير المسموح بها. بقي المخيم لفترة طويلة من الزمن بمعزل عن التأثر المباشر بالتيارات السياسية السائدة في أعقاب الهجرة، ويستثنى من ذلك قلة قليلة تأثرت بالمد الناصري، وبعضهم بالحزب السوري القومي الاجتماعي. لقد دفعت الهجرة أهالي هذا المخيم إلى التقوقع على أنفسهم وكان البعض من أهالي بعلبك يحاول الاتصال بالمثقفين والمتعلمين من هؤلاء المهاجرين، بغية تنظيمهم في أحزابهم، فنشطت في البداية الأحزاب الناصرية والقومية وجماعة الحاج أمين الحسيني والحزب الشيوعي، لكن هذه الأحزاب بقيت دون تأثير فعال بين الناس طوال فترة الخمسينات وصولاً إلى بداية العمل المسلح وتأثيره على جماهير المخيم.

بقي الوضع هكذا إلى أن تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، فبدأت الحركة أكثر نشاطاً في المخيم وشرعت مجموعة من الشباب بتوزيع المنشورات السرية للتحريض على التحرك، وأحياناً التظاهر في المناسبات الوطنية، كذكرى وعد بلفور وتسليم فلسطين و15 أيار وغيرها من المناسبات، وجمع التبرعات من القرى اللبنانية المجاورة لصندوق المنظمة. وقد كان الإقبال على التبرعات مدفوعاً بحماس عارم أحيا الأمل في النفوس، وقد سبقها أيضاً حملة أخرى لدعم الثورة الجزائرية، فكانت بعض النساء ترمي ببعض حليهن الذهبية في صندوق التبرعات مع ما كان لها من قيمة في تلك الفترة. فكان هذا المد دافعاً أكثر للمخابرات لتشديد القبضة أكثر فأكثر وخصوصاً على قطاع الشبيبة المتحمس.

في تلك الفترة بدأت طلائع الكفاح المسلح بالتواجد بشكل سري في المخيم، وبدأ الإعداد الطويل للعمل العلني في المخيمات والذي برز للعيان عام 1969.

جزء كبير من الشبيبة ينطلق في فترات العطل الصيفية الطويلة وحتى أيام الجمعة والأحد من كل أسبوع على مدار السنة للعمل في ورش البناء والزراعة في القرى المجاورة.

كان جواد أحد هؤلاء الشبيبة، يحمل زوادته، رغيف خبز وبيضتين وحبة بندورة، ليذهب في الصباح للعمل في (تصريم) البصل وقلعه، يحاول باستمرار التهرب من أيام العمل الطويلة وحر أيام الصيف ويتذرع بحجج مختلفة كي يتغيب ربع ساعة هنا وثلث ساعة هناك حتى ينقضي النهار ليأخذ في نهايته ليرتان وأحياناً يزيدونه ربع ليرة. وكان صاحب العمل تارة يحمل بيده عصاه يضرب بها كل من يتأخر عن اللحاق بالموكب وتارة أخرى يغازل هذه الفتاة أو تلك، حيث لا تستطيع الفتاة إلا أن تسكت عن هذه المعاملة كي يمضي يوم العمل لتعود إلى أهلها بالثلاث ليرات بعد أن تكون دفعت حوالي الليرة والنصف ثمن زوادتها.

«أوه إن ظهري يؤلمني ـ لا أستطيع أن استمر بهذا العمل وبهذه النقود القليلة». تمتم جواد بينه وبين نفسه، لابد أن أجد عملاً آخر أكون فيه أكثر حرية واحصل على ليرات أكثر، والأهم من ذلك أن لا أعود اسمع شتائم هذا النذل رب العمل الذي ينظر إلى ساعته لحساب فترة غياب العامل أو العاملة في المرحاض ـ «عجّل طولت يا ابن القحبة... أنت ليش بتحكي مع زميلتك، ممنوع، هون عمل مش طق حنك... وأنت يا غزالتي، يا دجاجتي لا تتعبي نفسك كثيراً... حرام هالإيدين الناعمين يتبهدلوا...».

وهكذا يمضي بأسلوبه الفج حاملاً على رأسه طاقيته المعروفة لأصحاب الأعمال متأبطاً العصا مكفهرّاً لامع الوجه كالحذاء الجديد.

عاد جواد إلى البيت غاضباً عندما رأى رب العمل في إحدى الأيام ممسكاً بفتاة محاولاً تقبيلها بالقوة وهي تدفع به إلى أن فاجأهم.

«لماذا أتيت إلى هنا يا ابن الشرموطة... ابتعد يا كلب ولا تأتِ غدا إلى العمل».

لم تكن سعاد ذات الوجه البدري والعينين الحالمتين تبلغ عامها الثالث عشر. تركت المدرسة بعد أن أنهت الصف الرابع ابتدائي، وها هي الآن منذ أربع سنوات وهي تركب يومياً الباص في الصباح لينقلها مع الآخرين إلى سهول البقاع الواسعة لتعود في المساء. لا طعم ليوم عطلة أو غيره... إلا عندما ترتفع درجة الحرارة كثيراً في جسم هذه الفتاة أو تلك فتضطر مكرهة على الاستراحة طالبة المعذرة والغفران من الوكيل متمنية أن تصحوا من المرض بعد يوم ـ فيرد الوكيل الفلسطيني بنبرته الحادة ـ «طيب اسمح لك بيومين فقط وأكثر من هيك بشطب اسمك من مجموعتي (مفهوم)»؟؟؟ فترد أم سعاد: «الله يوفقك يا أبو شاكر، الله يسمع منك، ستنهض سعاد اليوم من الفراش، الله يخليك لأولادك، احسبها بنتك يا أبو شاكر ولو...».

«لا أريد أن اذهب اليوم إلى تصريم البصل يا والدتي، سأحاول أن أجد عملاً آخر»... قالها جواد بعد أن ركل الباب بقدمه راميا الزواده على الأرض. أجابت والدة جواد بنبره حزينة وهي تحسب ضمناً أن عليها أن تدفع لصاحب الدكان قيمة الدين الشهري. «خير يا جواد، مريض يمّه؟ أستريح إذا كنت مريضاً اليوم.، شايف وجهك اصفر، ليش ما بتوكل يا ولدي»

أجاب جواد وهو يخرج بسرعة من الباب كما دخل وبنبرة غضب الشباب ـ «لا أنا مريض ولا شي!! هيك بدي اترك عملي من الزراعة، يلعن أبوها من صنعة». لم يكن جواد قد بلغ الثالثة عشر من عمره بعد. فكان عليه أن يعمل باستمرار حتى وقت الدراسة. يعمل أكياس ورق ويبيعها بالسوق ويشتري من مزارع الدجاج الأكياس الكبيرة، ويصنع منها أكياس ورق صغيرة. وكان التجار في سوق الخضار لا يعيرون جواد أي اهتمام وهو يطلب ثمن الكيلو أربعين قرشا فيعطونه خمسة وعشرين قرشا مهددين إياه إذا لم يقبل ـ يمضى جواد بالعاً ريقه متحسرا وفرحا بالوقت نفسه ببعض أرباع الليرات التي في جيبه. الأب لا يعمل إلا بعض الوقت في الباطون، جسمه لم يعد يحتمل وهو يحمل تنكة الباطون إلى الدور الخامس أو السادس. فقد وقع مرة هو وكيس الاسمنت من أعلى السلم فهوى على الأرض، رآه صاحب العمل موبخاً وشاتماً لأَنه دلق الكيس على الأرض.

«شو اجاني منك ـ غداً لا تأتي، أنت بتخسِّر الورشة وهذه العملية ما بتوفي معنا خلِّص وخرجك تعود للبيت بقا». يا أبو جواد ليش ما تطالب بضمان صحي لك!».. سأل جاره أبو رشيد القادم من مخيم اليرموك في سوريا حيث يعيشون بمثل هكذا إجراءات..

«ايش ضمان صحي وضمان زفت... هذه الضمانات غير موجودة عندنا واذا كثّرتها بتوكلها وبتمشي، تمزط بريشك بها البلاد وماحدا قدك ـ أتوكل على الله ياشيخ.. الله بيرزق يا أبو رشيد وما بقى من العمر اكثر ما مضى».

llll

يا عم أريد أن اعمل عندك ـ سأل جواد صاحب المقهى المنتفخ الجالس وراء الطاولة بجبهة عريضة ورأس قليل الشعر يمسّد شواربه تارة ويمج نفساً من النارجيلة نافخاً بها إلى السماء الصافية تارة أخرى، ليصنع ما يشبه المحرقة من أنفاسه المتواصلة. وبدون أن يلتفت إلى جواد هدر سائلاً.. «أنت شو كنت تشتغل قبل يا صبي»؟ ـ كنت طالب وعلامتي ممتازة ومعي شهادة بعلاماتي». كان جواد من الأوائل بين الطلاب، وكان يتصور بان الدراسة هي كل شيء وخصوصاً وهو داخل البيت أو خارجه تقول النسوه لأمه: « الله يخليلك إياه، بصير أستاذ بعد كم سنة... الله يحفظه وبدر عليكوا الخير إن شاء الله».

أجابه المعلم القابع كالكديش خلف الطاولة بحدّه ولكن بدون انفعال: ـ

«طز.. ايش يعني طالب. خذ ارمي هالورقة في النهر لاشوف».. صُدِمَ جواد من طز المعلم ولكن يد المعلم الممدودة بالورقة أيقظته من المفاجأة والبهتة. تناول الورقة ورماها في النهر القريب من طاولة المعلم وعاد ليقف أمامه باستعداد بالرغم من عدم تمرّسه في العمل العسكري. هكذا تُشاهد العسكرية في الافلام السينمائية ـ«برافوا بكره تعال من الصبح فاهم» ـ قال المعلم وهو يضع الجمرة على التنباك. ـ حاضر يا معلم ـ.. أجابه جواد والفرح باد على وجهه ناسياً ما لحق به قبل قليل من إهانة وهو الذي ترك عمله في الزراعة هربا من الإهانات.. واستدرك متسائلاً «لكن كم ستعطيني يومياً»؟ «خلص يا ولد تعال بٌكره.. هل عندك بدلة سوداء تلبسها أثناء العمل»؟ قال المعلم متسائلا.

 ـ سأحاول أن احصل على بدلة.. إذن اتفقنا ـ أجابه المعلم ـ سأعطيك ليرتين يومياً ـ غداً تحضر الساعة الثامنة صباحاً وتنهى العمل السادسة مساءً.

«ـ لكن يا ولدي حياة المقهى صعبة كما أسمع عنها. هناك سكّيرين يضربونك، وتبقى حتى المساء والطريق طويلة»... تساءلت والدة جواد بعد أن عرفت بعمله الجديد.. «يا والدتي ادعٍ لي بالتوفيق ولا تنسى بأنني لا أستطيع العمل إلا شهراً واحداً لان المدرسة ستفتح بعدئذ.»

المسافة تتجاوز الكيلو مترين، كان يقطعها جواد وزملاؤه الآخرون للتعلم في مدرسة الأونروا البعيدة، حتى في فصل الشتاء والثلج والبرد الشديد. إذ عليهم الانطلاق من البيت صباح كل يوم في السادسة والنصف للوصول إلى المدرسة الساعة الثامنة. المواصلات لم تكن بالحسبان لا من قريب ولا من بعيد.

ومضى جواد بعمله، وامتدت ساعات العمل حتى الثامنةَ مساءً، ثم امتدت حتى العاشرة بحجة وجود زبائن كثر في المقهى.

ـ لكن أنا اتفقت معك حتى السادسة، تساءل جواد بغضب مع الوكيل المندوب عن المعلم ـ«هيك أوامر المعلم»أجابه هذا الارمني الناشف الوجه ذو العينين الحادتين والمتحرك كأنه آلة أوتوماتيكية، معطياً الأوامر هنا وهناك لهذا الشغيل أو ذاك، أمرا وناهياً في المقهى...

«حسناً أنت وكيل وأَنا فلسطيني وسنرى» تمتم جواد في نفسه حانقاً. كان يطالع في المجلات عن نقابةٍ لعمال المقاهي والمطاعم. لكنه يعرف جيدا أن لا أحد يستطيع تحصيل حقه إلا بنفسه. لقد تعلم جواد سر المهنة وبدأ يعرف كيف يأخذ البخشيش من هذا الزبون أو ذاك، بل وصلت به الحالة إلى أن حاسب إحدى الطاولات ولم يدفعها للصندوق. «بهذه القيمة حصلت على حقي الطبيعي»، ونظر هنيهة إلى السماء.. يا رب سامحني على عملي، لا يوجد أحد ليضمن لي حقي، أنا لا اسرق، لكن احصل على حقي فقط». ـ كان يؤلمه في البداية أن يرد على تصفيق الأيدي لندائه إلى الطاولة، ثم يحمر وجهه إذا دخل المطعم أو المقهى أحد المعارف، لكنه اعتاد هذه الحالة خلال هذه الفترة القصيرة من عمله. لقد قرأ كتاباً صغيراً في تلك الفترة عن تحديد ساعات العمل وحقوق العمال، فحاول فوراً أن يتحدث مع رفاقه في العمل عن هذا الكتاب. لكن القهقهة والضحك كانا الجواب... «اشتغل وما تتدخل بالسياسة أحسن ما يطردوك بكره ويلعنوا أبونا وأبوك...».

في المدرسة لم يكن مسموحا لأحد أن يتعلم شيئاً عن بلده /فلسطين/ ماعدا تلك المناسبات القليلة كوعد بلفور وذكرى التقسيم حيث يجتمع الطلاب والمدرسين ومندوب عن المخابرات فتلقى الكلمات بحذر وبحرص شديد وأخيراً: «إنشاء الله سنعود إلى بلدنا فلسطين بقيادة الدول العربية الحكيمة والمخلصة». يقرع الجرس ويدخل الطلاب.

 يتقدم جواد وأربعةَ من رفاقه بطلب إلى مدير المدرسة كي يعملوا على تأسيس فرقةَ كشفية ـ «ايش وين عايشين انتوا، بعدكم صغار على هذه الشغلة... انتبهوا لدروسكم، وارجعوا إلى الصف وما بدي قلاقل في المدرسة. بعدكم حليب وبدكم وقت كثير حتى تصيروا لبن» ـ

«ما هذه الإجابة؟» تمتم البعض من الخمسة «دائما الأسطوانة نفسها هى.. هى.. صغار صغار، من هو الكبير في عرفهم؟ حتى يصبغَ الشيبٌ رأسنا ونصبح متزوجين ونبتسم لقهر السلطات نصبح كبار»؟.. «دعونا نجرب غيره» أجاب جواد. «خذ هذه المجموعة من الكتب واقرأوها وأنا أحبذ هذه الفكرة» أجاب الأستاذ سعيد «يا عمي أنا كنت في الكشاف من زمان لكن كما ترون كبرنا ولم نعد نصلح الآن لهذه الشغلة». أٌعجبَ جوادُ بالكتاب الذي قرأه وكانت من تجربة الرئيس عبد الناصر في فترة الاحتلال الإنكليزي لمصر، فأكثر من قراءة هذه الكتب التي تركت تأثيراً جديا في نفسه ونفوس الآخرين من رفاقه وأشعلت فيهم الروح الوطنية وأججتها.

في تلك الفترة نُظمت رحلة إلى الجنوب وذلك لرؤية سكة الحديد وبعض المناطق في الجنوب كقلعة صيدا والحدود.

«شباب سنذهب لرؤية فلسطين. سنكحل أعيننا برؤية بلدنا». تناقلت مجموعة الطلاب الخبر بفرح واضح وبدأ احد الأساتذة بتعليم الطلاب قسم فلسطين كي ينشدوه بالقرب من الحدود.. «خلف تلك الهضبة سعسع، وهنا جلس أهلنا للاستراحة في رميش في أعقاب الهجرة وعلى تلك التلال تقع مدينة (صفد) وهناك في الخلف طبريا». لم يكن يسمع سوى هذا المدرس الذي اجج الحمَاس في نفوس الطلاب وألهبهم بالحماس. اغرورقت عيناه بالدموع وهو يتابع التعريف بهذه المنطقة، «وعندما أنشدنا نشيد القسم كانت الوديان الحبيبة تنشدها معنا أيضا». ذهبنا إلى الشريط فصرخ فينا ضابطُ الأمن ارجعوا للخلف... لكن لم يأبه لصراخه احد. استطاع أكثر من عشرين طالبا أن يكمشوا حفنةً من التراب ـ من تراب بلدهم ورفعوا قبضاتهم المليئةَ بالتراب وانشدوا ذلك القسم الذي صعق ضابط الأمن ومرافقيه وهم يرون تلك المفاجئة على الحدود والتي استدعى على أثرها الأستاذ جهاد إلى بيروت (ليأكل نصيبه). فعاد إلينا الأسبوع الثاني حليقَ الرأس باديةً على وجهه أثار الضرب. فما كان من الطلاب إلا أن استقبلوه بنفس القسم الذي علمهم إياه.

لم ينسَ جواد أن يحضر معه حفنةً من التراب في مساء ذلك اليوم من سنة 65، حيث كانت أمه تطبخ الفول الأخضر، فوضع الحفنةَ مع الأكل لتكون بذلك أجمل أكلة في حياته. ومازال الطلاب يروون للآخرين كيف جرحوا أصابعهم ليصبغوا بعض الحجارة بالدم ويرموها في الداخل.

كان مقررا لهذه الرحلات أن تعم كل مدارس الفلسطينيين، لكن أوقفت فورا بناء على تعليمات السلطة ونظرا لنتائجها الخطيرة على الطلاب...

llll

وقعت حرب سنة 67 لتزيد الأوار أواراً، وسارت لأول مرة مظاهرةُ صاخبةُ من ذلك المخيم الصغير بتعداده إلى بعلبك، ولكن السلطة في الطريق عملت على إطلاق النار والضرب بأعقاب البنادقَ إلى أن تفرقت المظاهرة بالقوةٍ. سيق من سيق إلى مكاتب المخابرات، وهربت مجموعة من العمال والطلاب إلى سوريا خوفاً من الملاحقة.

«هل عرفت يا جواد بان سليم قد أُطلق سراحه بالأمس»؟ تساءل صديقه وهو يهم بدخول بيت جواد متورم الجسم ولا يستطيع أن يتحرك.

دعنا نذهب لنراه... أجابه جواد بغضب باد على محياه. لكن بيته مراقب وأٌفضِّلُ أن نذهب غداً بالمساء ـ»

«لا بأس. لكن لماذا لا نتصل ببعض الشخصيات الوطنية في بعلبك. أنهم سيساعدوننا إذا طلبنا العون وخصوصاً أننا سمعناهم في مناسبات عديدة بأنهم سند لنا... نريد أن نوقف اعتقال المجموعات وضربها لمجرد أن يعبر الواحد منا عن رأيه.

«تنظيم مظاهرة يا كلب» ـ (طق طاق طاق) ويتتالى الضرب على جواد وزميله بعد ما كادوا أن ينجحوا في تحريض طلاب المدرسة بالقرب من المخيم على الإضراب..

«ادخلوا إلي المرحاض، لم يعد ينقصنا الا انتم يا بلاعيط ـ ادخلوا... شوارب الكبار فيكوا دسناها ـ ناقصنا زباين زيّكوا.. خشوا». استقر جوادُ وزميلهُ في المرحاض وأٌقفل عليهم البابٌ لحوالي ساعتين سمعوا بعدها صراخاً وهتافاً ومفتاحاً يدور بالقفل «اخُرجوا يا خنازير ـ حسابنا معكم لاحقاً».

لقد استطاع رفـيــقُ ثالثُ لجواد أن يذهب إلى المدينةَ ويبلِّغ بعضَ المدرسين الذين ما لبثوا أن نظمّوا مظاهرةً من الصفوف، التحق بها بعضُ المؤيدين من الأهالي واتوا إلى المخيم ليقيموا أمام المدرسة مهرجاناً خطابياً طالبوا فيه بالحرية للفلسطيني وبأن يتاح للشباب الانضمام إلى جيش التحرير وممارسة حرية التعبير في المخيم.

لم يكن سليم قد شٌفِيَ بعَدُ من اللكمات والضربات المميتة على كافة أنحاء جسمه. بقي ثمانية عشر سنة يعمل في الباطون حتى أن كتفه اليمنى أصبحت أكثر ارتفاعا من اليسرى التي اعتاد أن يحمل عليها تنكة الباطون. لم ينساه جواد منذ شهرين وهو في الورشة عندما كان يساعده في رفع التنكة حتى يصل بها مكان تلييس الجدران. كيف لا يعمل جواد في الباطون والأجرة ست ليرات، ثلاثة أضعاف العمل في الزراعة وفي المقهى، نام علي وجهه مباشرة عندما عاد جواد في اليوم الأول من العمل، ولم تشأ أمهُ أن توقظه للذهاب إلى العمل. لكن ما أن لاح الصباح حتى نهض جواد بدون زوادة راكضاً إلى ورشة البناء التي سجن بها هو وغيره لاحقا. لقد تقاسم سليم وجبة الغداء مع جواد«تعال يا جواد كل معي. أنا اعرف ظروفك وظروف والدك. مسكين والدك كان رفيقي في العمل طوال عشر سنين. تعال وسأساعدك بقدر استطاعتي في الورشة، غدا سأتكلم مع المعلم حتى «تزق» الماء وبعض الشغلات الخفيفة الأخرى»...

«قل لي يا سليم لماذا اعتقلوك، وهل حقاً وزعت مناشير تدعو فيها إلى الإضراب؟»

تساءل جواد وهو يهمس همساً بالقرب من أذن سليم وخاصة أن الجيران يسمعوا بعضهم البعض في تلك البركسات الطويلة حيث لا يستر بين العائلة والأخرى إلا نصف حائط غير ممتد إلى السقف.

لقد تم استبدال الخيش بعد سنوات طويلة من الهجرة ببناء نصف حائط بين العائلات. فقط كانت تفصل العائلة عن الأخرى قطعة قماش في هذه البركسات الطويلة وأحياناً يدخل الشخص ليلاً ليجد نفسه في الغرفة المجاورة دون دراية أو قصد.

«أراك تكبر بسرعة يا جواد» أجابه سليم محدقاً بعينه الواسعتين محاولاً النهوض قليلاً لكنه عاد إلى وضعيته السابقة وهو يعض على شفتيه من شدة الألم «لقد كسروا لي عامودي الفقري أولاد الكلب آخ... حاول أن تستدعي لي دكتور يا جواد، اتفق معه على السعر، قل له بأني عامل وعندي سبعة أولاد ليس معي نقود كثيرة»... «ولا يهمك يا سليم» أجابه جواد بسرعة فاتحاً الباب مع زميله كي يطلبوا الدكتور من المدينة.

«ما رأيك فرحات» سأل جواد زميله «كيف نستطيع أن نساعد سليم بتكاليف المعاينة الطبية»؟ «جواد عندي فكرة» لمعت عينا فرحات فرحة.. في صندوق الطالب الذي عملناه يوجد حوالي عشر ليرات، ما رأيك»؟ تساءل فرحات والفرح ما زال باد على محياه.

«لكن هذا يحتاج إلى اجتماع لجنة الصندوق، وسليم غير طالب كيف نستطيع أن نقنع البقية؟»

أجابه جواد وهو يستعرض في مخيلته مجموع الطلاب الذين يساهمون بقروشهم المحدودة في هذا الصندوق، وذلك لمساعدة أي طالب يقع في مشكلة.

«ولا يهمك يا شيخ أنا مستعد أن أتحمل المسؤولية، إذا لم نساعد سليم وغيره فما هدف الصندوق، هل نبقى طلاباً مدى الحياة. إن سليماً قام بعملٍ نحن نقوم به الآن. أصبح عملنا مشتركاً وعلينا أن نسرع لإحضار الدكتور».

ركض فرحات ولحقه جواد إلى عيادة الدكتور يستدعيانه إلى غرفة سليم الوحيدة والتي يعيش فيها مع أولاده السبعة وزوجته، المطبخ والصالون، وغرفة النوم وغرفة الطعام والكوريدور وغرفة الجلوس، كلها في غرفة واحدة طولها ستة أمتار بعرض أربعة أمتار ونصف، ينقصها المرحاض فقط لأنه في الخارج وعلى بعد مئة متر من البيت. «العوض بسلامتكم شباب»...

كان للكلمة وَقع القُنبلة على العائلةَ وجواد وفرحات، وما لبثت القنبلةُ أن انفجرت في عويلٍ وبكاءٍ جمع الحيَّ كلهُ خلال لحظات... «عشرون ليرة إذا سمحتم» شد الدكتور جواد من قميصه طالباً المبلغ ــ «معنا عشر ليرات دكتور، إنه عامل وليس معه نقود... أجابه جواد والدموع تملأ عينيه...

«الحق علي ما اتفقت معكم قبل أن احضر معكم، هاتهم»... «تفو عليكم ــ تجار لحم بشري، حتى انتم يا إنسانيين» تمتم فرحاتُ والغضب يلفه ويداه ترتجفُ لعدم قدرته على تفريغ غضبه.

لم يعرف الجميعُ بموت سليم إلا في اليوم التالي. لقد جاءت وفودٌ من مختلف المدن من أقربائه وبلدته وسارت في المقدمة خارطة فلسطين وواكبَ الدرك والمخابرات الجنازةَ... في المقبرةَ اعتلى احد القادمين كتف زميله وبدأ الكلام:ـ

«لن نسكت بعد اليوم على المجرمين قاتلي المناضل العمالي سليم»، وسُمِعَ صوتُ من مؤخرة الجنازة يهددُ ويتوعد لكن الجمهور تحت التأثير الحماسي للخطب ومن فرط حقدهم وكرههم على ما سَببوه لسليم هجموا جموعاً متلاحقة على عناصر المخابرات والدرك بقبضاتهم وبالحجارة إلى أن هربوا جميعاً ودماء بعضهم تسيل، فكان بذلك أول انتصارٍ حققه أبناء المخيم العزل على جلاديهم.

لمعت في ذهن جواد فكرةُ شراء السلاح، لابد من السلاح لن تنقع العصيُ والحجارةُ مع الأوغاد.

ـ «فرحات ما رأيك بان نشتري قطعةَ سلاح.».. فوجئ فرحات بالاقتراح «ها سلاح.. ل... لكن النقود، ثم كيف نستعمله... ومن أين نشتريه».

لقد بدأت تصل بعض الجرائد السرية بالبلاغات العسكرية المتتالية. «قامت قواتنا بنسف نفق عيلبون رداً على مخططات العدو بتحويل مجرى نهر الأردن وعادت المجموعة إلى قواعدها سالمة، دمرت المنشآت ولم يُصَب أحدٌ مقاتلينا الأبطال...»

وتلتها البيانات: تدمير مجنزرة، ضرب كمين من إغارة على مؤخرة العرض العسكري في القدس، نسفُ عبارةٍ، حربُ الشعب طريقنا للنصر...

كانت حليمةُ في نفس الصّف الذي يدرس فيه جواد وفرحات وباقي رفاقه في البكالوريا. تبدو نشيطة مختلفة عن المجموعةِ الباقية من البنات. بل كانت تتجرأ وتجلسُ بالقرب من جواد في الصف... كان خجلاً ومرتبكاً بعض الشيء وهي تجلس بقربهِ بابتسامتها المرحة وشعرها المنثور على الكتفين وذلك الوجه المدور بعينين تخفيان رغبةً ما أو طلب ما أو لا شيء كما تصور جواد في ذهنه.

وامتدت الصداقة إلى أكثر من ذلك «جواد ــ أريد أن أكلمك في موضوع خاص» تكلمت حليمةُ بعد أن انتهى درسُ الفيزياء. لكن أين؟ تساءل جواد مرتبكاً من هذا الطلب. «في البيت عندكم» أجابت حليمة بتودد.« آ.. آ.. أنا.. لكن أفضل هنا».. لقد كان يدرك جواد بأن بيته مراقب من كل قادم إليه، وكل غريب يأتي من خارج المخيم ــ عليه أن يمر أولاً على مكتب المخابرات ويسجل اسمه عند مسئول المفرزة، وعند من ذاهب وما يريد ومتى يغادر المخيم... «إذن لا بأس يا جواد، سنذهب بعد الدراسة إلى بيتي. أنا اسكن في بيت منفرد ونستطيع أن نأخذ حريتنا». أجابت حليمة بنبرتها الواثقة مختتمة كلامها بابتسامة مفعمة بروح الصداقة والأمل وريعان الشباب.

لم يسع جواد ألا أن يقبل الدعوة، وقد لاحظ العيون التي ترقبه وهو يدخل البيت، لكنها كانت واثقة بنفسها وبعملها وتعرف من تصادق وكيف.

ـ« لقد عرفتك عن قرب يا جواد وأستطيع أن أثق بك بشأن بعض المسائل» ـ واقتربت منه أكثر وصوتها يكاد لا يسمع وهي تحمل بعض الدفاتر في يديها... «هذه دفاتر تبرعات للمقاومة أريدك أن تساعدني في مخيمكم وبين أصدقائك. أرجوك أن يبقى هذا سراً بيننا كي لا أتعرض للسجن.. فنحن ملاحقون مثلكم أيضا..».

إنها تتكلم بصيغة نحن «من أنتم؟» تمتم جواد في داخله. لكنه أوقف تفكيره وتحجرت عيناه الواسعتان على الدفاتر وبان السرور على وجهه وأردف قائلاً .. «حليمة أريد أن اتصل بهم».كانت أصابع يديه ترقص من الفرح «بمن»؟؟ أجابت حليمة مندهشة قليلاً. «بهؤلاء، بالذين أعطوك هذه الأوراق». أحست حليمة برعشة تجري في جسدها. وبدا واضحاً بأنها تتنفس بسرعة غير عادية رافعةً خصلةً من الشعر تتدلى على جبينها العالي، وهي لا تعرف لماذا يطلب جواد هذا الطلب بهذه السرعة وتساءلت :«لكن انتظر قليلاً يا جواد وعليك أن تكون في منتهى الحذر والسرية. و..» سمع طرق على الباب فأخذت حليمة الدفاتر ودس جواد في معطفه دفترين وجلس هادئاً. وإذ بأم حليمة تدخل ومعها صينية القهوة وتعود بعد أن ألقت السلام.

«هل تعرف والدتك بنشاطك؟» تساءل جواد بصوت هامس «كلا، لا يمكن أن اعلمها بشيء». وغادر جوادُ يكادُ يرقص من الفرح. فبالرغم من الثلج المتساقط بكثافة وبالرغم من شدة البرد التي تكاد تجمّد الدّم في العروق انطلق جواد يعدو بدفئه المحاط بالثلج، وبوجنتيه المتوردتين من الركض وابتسامته التي ترتسم على الشفاه وكأنه يحاور شخصاً قريباً إلى قلبه.

لم يستطع جواد أن يجد زملاءه بسهولة. فقد كان في المخيم أحدُ الأعراس حيث يخرج المخيم شبابه ونساءه وأطفاله وشيوخه للمشاركة. العريس يركب على فرس مزين بالدناديش والسجاد، والفتيات خلفه يحملنْ صواني الزهور والورود مغنين تلك الأغاني التي يرددونها في كل الأعراس، «احلق يا حلاق ومسِّحلوا بعاباتوا» وأمام العريس يمتد حبل طويل من الرجال يصفقون مرددين خلف أبو عدنان «يا حلالي ويا مالي».. وعندما يشتعل الحماسُ بهم وخصوصاً عند مرورهم أمام مكتب الدرك والمخابرات يردد البعض «سيف الدين الحاج أمين. سيف الدين الحاج أمين..» وكأنهم بذلك يفرّجون عن كربهم وكرههم بهذه العبارات وغيرها، ويغني أبو عدنان العتابا التي تذكر بفلسطين وبآمال العودة القريبة. وتنتهي «السحجة» في إحدى الباحات حيث يُتابَع الغناءُ والرقصُ، ويبدأ أصدقاء العريس واقرباؤه بالتوافد على الطاولة واضعين "بكيتات" الراحةِ والحلوى، حيث يبدو محظوظاً ذلك العريس كلما كان علوُّ الأكياس أكثر..

بدأت المجموعةُ بتنظيم عملها وبوضع لوائح الشباب الموثوق بهم ولوائح مضادة. وبدأت عملية الاتصالات بشأن التبرعات وبشأن العمل الجماعي وغيرها من تلك الأفكار والمشاريع التي تراود مجموعاتِ مختلفةِ من قطاعات المخيم في تلك الظروف التي يمرون بها.

وسار العمل على ما يرام. لكنّ العواقبَ لم تكن سهلةً. فكانت بحجمها أكبر مما توقعته تلك الطليعة من الشباب. وبدأت حملة الاعتقالات. ولا يكاد يخلو أسبوع بدون أن تطلب مجموعة ممن يُشَكُّ بأمرهم إلى بيروت أو ثكنة أبلح كي يلاقوا نصيبهم من التعذيب ويعودون.

عاد جواد مرهقاً بعد إحدى المغامرات الجريئة بالنسبة له، اقفل على نفسه باب غرفته الوحيدة في المخيم بسطحها «الزينكو» وبابها التنك المرقع من عدة أماكن ليمنع الماء من التسرب إلى الغرفة، وقبع خلف طاولته التي تزكزك لأقل حركة، بعد أن أحضر ورقة وقلما يريد أن يكتب شيئاً ما لم يعرفه بشكل واضح في تلك الليلة. كان على وشك اتخاذ قرار مهم في حياته بعد أن طفح كيل الصبر المعجون بالمرارة والألم في نفسه، خصوصاً بعد أن ساقوه وثلاثة آخرين إلى ثكنة «أبلح» قبل يومين بتهمة أنهم شباب واعون، لذا عليهم التعاون مع السلطة كي يتم منع الشغب بين الأهالي.

لقد جاء أبوه ليقول له: «البس وثقّل على رجليك». لقد كانت «الفلقة» (الضرب المبرح على القدمين) مؤكدة لكل من يُطْلَبُ إلى أبلح أو بيروت.

وامتدت لحظة الانتظار طويلاً وهو جالس إلى طاولته مستعرضاً كافة الصور التي رآها مؤخراً وخصوصاً صورة احد عناصر المخابرات وهو يمسك شاكوشاً ليكسر الأسنان الأمامية لفلسطيني تجرأ ونظر بغضب إليه رافضاً أمره بالمجيء إلى المركز. كان ذلك أمام أكثر من ثلاثين شخصاً جيء بهم خصيصاً كي يشاهدوا المنظر تحت حراسة مسلحين وعناصر من الدرك. وما زال جواد في المخاض. إنه لم يألف حالة الكتابة بعد، عن ماذا يكتب؟ لمن وماذا يريد بالضبط في هذه اللحظة التي قادته إلى الغرفة وعقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً؟... لا يعرف.

أمواج أفكاره تتصارع وتتصادم في اتجاهين متضادين إلى أن سمع قرعاً قوياً على باب التنك الخارجي أنقذته من غرقه من دوامة صراعه الفكري الحاد..

«مين نعم؟ تفضل الباب مفتوح». وكان الباب مفتوحاً لاحتمالات شتى في ذلك الحين.

لم يكن احد غيرهم. هم، هم دائماً في مثل تلك الساعة من الليل: «لماذا الضوء ما زال مناراً في هذه اللحظة المتأخرة من الليل؟ قالها أحد حراس الليل بينما بقي الآخر واقفاً بالقرب من الطاولة يتصفح الأوراق البيضاء على الطاولة.

«أنا طالب واستعد لامتحاناتي واكتب بعض.. أفكاري». لم يعرف جواد في تلك اللحظة بما يجيب، هل يقول لهم حقيقة ما يدور في رأسه؟ ولكن لماذا في هذه اللحظة بالذات جاءوا وما الذي يبغونه من هذه الزيارة الشيطانية في منتصف الليل.

«أفكار ماذا تكتب؟» قالها احدهم والاستهزاء باد على محياه وابتسامة سخرية تلف بوزه الدائري والذي ما تمرس إلا بهذا النمط من الابتسامات بعد عشرين سنة قضاها في خدمة حراس الليل «هل عندك أفكار؟.. هي.. هي.. والله زمن، أصبحت تفكر يا خرا... وأنت مازلت في هذا السن المبكرة. قل لنا مع من وزعت هذا البيان التحريضي ضدنا؟» وصمت قليلاً وجواد شارد الذهن يسعى جهده لتمالك أعصابه المتوترة قبل دخولهم. أجاب بعد مهلة قصيرة «انا لم أغادر الغرفة منذ أن عدت من المدرسة، أنني غير مسئول عن... «اعترف بالحسنى أفضل لك».

«والله، إني...»

لم يتح لجواد إنهاء العبارة عندما انهال عليه الرجل الثاني باللكمات المتواصلة على وجهه، حتى أفقدته توازنه. فارتمى على الأرض، بعد أن تابع الحارس ركله بكلتا قدميه حتى شعر جواد بالدوار وهو صاحب الجسم الضعيف أصلاً.

لم يكن جواد بحاجةٍ إلى تأكيد من احد بينه وبين نفسه لاتهامه بالبيان. لقد ذهب قبل يومين إلى طرابلس واستطاع بحيلةٍ أن يُقنع صاحب المطبعة بان يطبع البيان الذي يدعو بوضوح إلى الإضراب احتجاجاً على أمر أصدره رئيس حراس الليل بتوقيف كل من له علاقة بحادثة خطف ميكروفون مكتبه وإلا سيكون جميع سكان المخيم مسئولين عن الحادث وسيعاقبون وفقاً لقوانين الدولة. بهذا المكريفون كانوا ينادون المطلوبين والمشاغبين لطرفهم كي ينالوا العقاب الشديد.

في اليوم التالي من التهديد لم يسلم احد. تلاها بعد ذلك تنفيذ التهديد.يتم استدعاء كل عشرة من سكان المخيم إلى مقر القيادة في بيروت وهناك يدخلون إلى غرف مختلفة، قسم مخصص للفلقات، وقسم للبكسات، وقسم لضربات الكرابيج وهلم جرّا.. وعند العصر تعود المجموعة إلى المخيم منتفخي الأرجل ومتورمي الأجساد، وقد انتفخت أرجلهم وتورّمت أجسادهم على أن تأتي المجموعة الأخرى في اليوم التالي وهكذا دواليك. كل مجموعة تستفسر سابقتها عن وسيلة التعذيب. هذا الحاج مصطفى يضع رجليه في طشت من الماء الساخن مع الملح كي يخفف ورم رجليه، وذلك الطالب ابن الأربعة عشر ربيعاً ينام على فرشته عاجزاً عن الحركة لضربة قوية على عاموده الفقري، وثالث يضحك بأنه أكل مئة عصا وهو غير مهتم ويفاخر بأنه يستطيع أن يأكل مئة عصى أخرى إذا لزم الأمر، كي يهوِّن على المجموعة التي ستذهب في اليوم التالي...

«غداً الساعة الرابعة مساء تكون في مكتبنا يا كلب... فاهم». قالها احدهم قبل أن يركله الركلة الأخيرة مغادراً غرفة جواد.. لم يعد المكروفون موجوداً حتى ينادوا به المطلوبين إلى المكتب فكان لابد من قدومهم بأنفسهم، إنه تواضع جميل.

ما زال جواد متكئاً على رجل الطاولة وكأنَّ ما حصل كان حلما وسط ضجيج أفكاره المتصارعة، لقد مروا بالأمس على بيت المفتي كي يوقف الضرب، ولكن الإجابة كانت غامضة قبل اللقاء. وذهبوا إلى بيت رئيس الوزراء في طرابلس، على عفويتهم، ولم يكن هناك، وذهبت المجموعة أخيراً لتعتصم في الحسينية في بعلبك بأمر من مفتي المدينة (اليحفوفي) بعد أن هدد بتطوير الاعتصام إذا لم يوقف الضرب.. فأوقف الضرب..

ونهض جواد على قدميه فاتسعت دوائر الصدى التي خلفتها ضربة الباب في رأسه ورأى عبر خيط الدم الرفيع الذي سال على الطاولة من وجهه، تلك النقطة البعيدة التي كان يبحث عنها طوال الليل. رأى ذلك القرار الذي أراح هذا الجدل والصراخ القائم في ذهنه... «غدا يجب أن أغادر».

لم يستطع جواد أن ينام في تلك الليلة، بقي يقظاً حتى الصباح، الساعة السادسة ذهب إلى بيت رفيقه فرحات وسلمه القرار مكتوباً.

«ـ انتظر قليلاً ــ خلينا نحكي في الموضوع».

أجاب فرحات وهو يهم بالنهوض ليقف بالقرب من جواد «أنا أيضا أريد أن اذهب، انتظر حتى غد وسنذهب سوياً».

«لا، أبق أنت هنا رتب بقية الشباب وانا اتخذت قراري ولا يمكن الرجوع عنه ــ إلى اللقاء ــ» ترك جواد بيت رفيقه مخلفا صديقه مذهولاً من المفاجأة.

اخرج ثيابه ولبس قميصين وكنزة وجاكيت بالرغم من أن الطقس حار جداً في ذلك اليوم

 «والدتي ــ أريد أن أذهب إلى بيروت لأسجل بالجامعة ــ لا تحسبي شيئاً».

«ــ الله يسهل عليك يمى ويوفقك ـ احترس من ولاد الحرام، وخبي مصاريك بالجيبة الجوانية احسن ما يسرقو لك اياهن». أجابته والدته وهي تودعه إلى باب البيت.

تلكأ جواد في مشيته قليلاً. لم يقل حتى لابيه وداعاً ولا لأخوته الصغار، لم يلاعب أحدا. «ممكن إلا أعود ثانية أريد أن أودعهم للمرة الأخيرة، لا أعرف أين ستلقي بي الرياح».تسمَّر في مكانه راغباً بعمق أن يودع والده وأخته الصغيرة التي أحبها كثيراً...ــ «هل نسيت شيئاً يا جواد؟ تفقد هويتك لتكون نسيتها» ــ أنقذه تساؤل أمه من حيرته وتردده ـ  «لا لم انس شيئاً».

 طرق الباب وراءه وامتدت أمام عينيه المغرورقتين بالدموع سهول مترامية، سهول متراكضة، تخترق البنايات وخشب حبال الغسيل، والأكواخ الموحلة الموصلة إلى البيت والجرذان التي قامت في الصباح تتنزه في الأزقة لتستحم قليلاً بضوء الشمس. «هي ــ هي ــ العمى وين عيونك ــ مش شايف على سيعة هالصبح ـ يلعن دين هالمخيم، العميان طرشان والمفتحين عميان». أجاب أحد كهلة المخيم بعد أن اصطدم بعامود خشب ممتد من سقف الخشابية لتجنب جواد الذي داهمه فجأة لدى خروجه من بيته.

السهول ما زالت تركض ــ استوت الأرض في عينيه خيوط العرق تسيل من جبهته، وازدادت عيناه احمرارا ــ سهر ودموع وقلق وفرحة الانتصار على الذات والوداع واصطدامه ببنت جاره الصغيرة وجثمان سليم بعينيه المسمرتين في سقف غرفته الذي ينشّ بالماء الدالف منه... الأفكار تتلاحق تتسارع ــ ولم يألف جواد نفسه إلا وهو يركض ويركض، لم يحس بقدميه أبدا...

llll

طق، طق، طق

«مين»؟ أجاب صوت مستيقظاً لتوِّه من نومه العميق.

«أنا جواد افتح». وما زال يلهث من شدة التعب بعد أن سار وركض ثلاثة كيلومترات.. «أهلا جواد ــ خير على ساعة الصبح».. أجابه حسين بشعره المنفوش، وفمه الواسع من التثاؤب، وكرشه المدلوق أمامه.

«الساعة أصبحت تسعة مش بكير ولا شي ـ جيتك بأمر مهم، قررت الذهاب إلى القواعد. إلى مركز انطلاقهم، ولا داعي للاعتراض إطلاقا. اعمل لك مشكلة كبيرة إذا لم تساعدني، عليك إيصالي عبر الحدود الآن، واطلب منك شيئاً واحداً، أن تمر على البيت وتتفقد أوضاعهم في غيابي..».

واخذ نفسا عميقا بعد أن كر كل هذه الكلمات بدون توقف «لكن...؟»

«لا لكن ولا شي ـ البس وستذهب معي الآن». واقترب من حسين وكأنه يهم في ضربه إن هو عارض طلبه.

لقد أدرك حسين أن لا مجال للتراجع بالرغم من مراهنتهم على جواد بأنه سيكون ركيزة أساسية لهم في المخيم. لقد تعرف جواد عليه مؤخراً وكان حلقة الوصل مع الثورة. واستمرت الاجتماعات لأكثر من ثلاثة شهور في كل أسبوع تقريباً. وتم تنظيم أكثر من مجموعة في المخيم وبدأت البلاغات والمناشير تصل تباعاً ـ وملأ جزءٌ من الشباب استمارات العمل للالتحاق بالقواعد.

ـ« لكن عليّ أن أكون القدوة وليس كما يقال «اذهب أنت وربك فقاتلا وأنا ها هنا قاعدون». أجاب جواد حسين وهو يقنعه بالبقاء قليلاً من الوقت.

في المساء كان جواد على نقطة الحدود السورية بعد سير ستة كليومترات مع احد العارفين بطبيعة المنطقة بعثه حسين معه. لم ير جواد ملامح وجه هذا الدليل. المهم بالنسبة له هو الوصول، فكانت المسافة قصيرة جداً، لم يكن الوقت سوى لحظات بالرغم من الخوف الذي سيطر على الدليل من دوريات السلطة اللبنانية التي كانت تجوب المنطقة في ذلك الحين لمطاردة المهربين.

llll

الفصل الثاني
في التدريب
الهامة
«وصلنا يا شباب  انزلوا ـ».

وأخيراً اكتحلت عينا جواد بالكوفيّة المرقّطة والكلاشنكوف وأصبح يرى في الواقع ما كان ممنوعاً من رؤيته على صفحات الجرائد في مخيمات السجون في لبنان.

أحس جواد لأول مرة بأن له قامةً أطول مما كانت له سابقاً. رأسه بدأ يرتفع أكثر وهو ينظر إلى تلك الوجوه السمر التي يمر بجوارها وصولاً إلى مقر القيادة. خيم وبركسات و «مغر» وحركات سريعة هنا وهناك.

ـ قف ـ أطفئ النور ـ من؟

«تنام الليلة في تلك الخيمة وبعد يومين ستذهب إلى اللاذقية الدورة تبدأ الأسبوع المقبل».

قالها قائد المعسكر ذو الوجه الحاد وقامته المنتصبة متمنطقاً بمسدسه، مقدماً الشكر للجنود السوريين الذين أوصلوا جواد إلى المعسكر.

ـ «حاضر»... قالها جواد بنفس اللهجة العسكرية وكأنه ابن الكار منذ سنوات طويلة، بعد أن وقف وقفة عسكرية مقلداً من كانوا يدخلون ويخرجون من غرفة القيادة.

أخذ جواد «كـتّهُ» واستلقى على الأرض، نام الجميع في الخيمة. رغم التعب الشديد والإرهاق من المشي والركض وعدم نومه الليلة الماضية، والضربات التي نالها من المخابرات... لم يستطع أن يغمض عينيه من شدة الفرح، عيناه لاصقة في سقف الخيمة المحدودب ويداه متشابكتان تحت رأسه... وركب جواد خياله ومضى.. الريح تلفح وجهه، شعره يتمايل مع الريح، والهواء يلعب في صدره، والمهماز لا يقف لحظة على جنبي الجواد الطائر.

لم تعد الأرض موجودة، والسماء أيضاً. بقي ساعة في الفضاء على هذه الوضعية إلى أن سمع الصفارة.. للإفطار.

مد يده بسرعة بالقرب من رأسه ليأخذ الزوادة وكأن قطارُ العمل قد فاته.. «ـ ها ـ ماذا ـ أين أنا ـ» همس في نفسه.

ـ «بسرعة يا أخ ـ إلى طابور الرياضة ثم الإفطار».

قدمت ثلة من الحرس لرفع وتحية العلم، ووسط نشيد.. بلادي، بلادي،

بلادي... فتح ثورة عالأعادي. وقف جميع من في المعسكر في استعداد عسكري، رؤوس مرفوعة وبصوت تتجاوب معه المرتفعات المجاورة، مجموعة لحراسة المستودعات وبوابات المعسكر، أخرى لتنظيم الإفطار والمتبقون يتوزعون في مجموعتين كبيرتين تحت قيادة ضابطين لمتابعة دورة التدريب في منطقة جبليه قريبه.

ـ «جواد... أنت جهز نفسك للذهاب إلى اللاذقية».

ـ «أنا جاهز حضرة المدرب».

ـ «لا ليس حضرة ـ بل أخ، ليس عندنا حضرات وأسياد هنا» أجابه المدرب بلهجة ودودة وهو يعرف ذلك النمط من المجتمعات الذي لا يفرز إلا علاقات العبد برئيسه. في الثورة فقط تسقط وتزول هذه الحواجز.

دخلت السيارة باب المعسكر القريب من اللاذقية.

بعد خمس ساعات من القيادة المتواصلة تناوب فيها جواد والسائق مختلف أطراف الحديث عن الثورة وشجونها وبدأ جواد يتحسس أن فلسطينيي الأردن ليسوا في ظروف أفضل من فلسطينيي لبنان.

ـ «يا أخ... كان حراس البادية يأتون لقريتنا، فلا يقبلون إلا بأن يجلسوا على حشيّة الصوف، ونذبح لهم الزغاليل، ويمتطون جيادهم ويذهبون بعد أن يكونوا قد أنجزوا مهمتهم في إهانة هذا، أو تبليغ ذاك بالذهاب إلى المخفر للتحقيق بحجة أنه كان يفتح الراديو على «صوت العرب» تصور. لم ينقطع السائق عن مواصلة حديثه بعد أن استمع أيضاً عن مخابرات لبنان، فكان يقطع كثيراً حديث جواد المسترسل ليقول ـ

ـ «نفس القصة معنا يا جواد ـ جاؤوا إلى والدي في قرية قلقيليه وسحبوه في الليل قبل عشر سنوات لخروجه في المظاهرة التي انطلقت في مختلف مدن الضفة الغربية استنكاراً للعدوان الثلاثي على مصر، واتهموه يومها أنه شيوعي وكافر، ساقوه أمامهم وهم يرددون هذه العبارات وقد سمعنا بعد فترة طويلة بأنه في «الجفر» في قلب الصحراء حيث يسجن كل من يعارض السلطة ولم يخرج إلا في أعقاب حرب سنة 1967.. أكاد يا جواد أن لا أعرف والدي وأنا أنظر إليه بعينيه الضامرتين وجسمه النحيل، وذقنه الطويلة.. لقد هزل كثيراً ولكن بريق عينيه يلمع أكثر فأكثر وهو يشد على يدي. مودعاً «الآن دورك يا إبراهيم، شد حيلك واطلع زي أبوك، عشر سنين ولم أوقع استنكاري للحزب وتأييدي للسلطة» ـ أسلمك الراية يا إبراهيم وأنا سأبقى هنا في قلقيليه ولن أخرج..».

كان إبراهيم يضغط أكثر فأكثر على دعسة البنزين وهو ينطق بكلمات، شد حيلك، خليك زي أبوك، أسلمك الراية.. لقد نسي نفسه ونسى بأن بقربه جواداً ومضى على هذه الحالة يستذكر أيام الماضي القاسية التي قضاها في بلده إلى إن استوقفهم أحد الحراس ـ« قف ـ أوراق السيارة والهويات..».

ها هو المعسكر بمساحته الواسعة وثلاث بنايات كبيرة وجموع غفيرة من الشباب موحدي الأزياء ـ ببدلة الكاكي، والوجوه السمر، كل يمسك بقصعة الطعام منتظراً دوره.

«ـ أخ حلمي ـ جواد من فلسطينيي لبنان وجاءنا أمر بإلحاقه بالدورة الحالية ـ» قال الأخ إبراهيم بعد أن أدى التحية المتعارف عليها في صفوف الفدائية، وخرج تاركاً جواد وقائد المعسكر وحدهم في الغرفة الواسعة المغطاة جدرانها بصور الشهداء.. ربحي، الفسفوري (معركة الكرامة 3/68).

لم يكن قد مضى على تلك المعركة أيام قليلة فتحت للثورة آفاقاً واسعة للعمل في الأردن بعد أن كانت تعطي المكافآت لمن يرشد على عناصر الثورة في منطقة الغور.

«ـ أهلاً وسهلاً أخ جواد، يعطيك العافية، لابد أنك عانيت قليلاً للوصول إلى معسكرنا. لقد أخبرونا عنك إخوانك في المنطقة..»

«ـ ها ـ إن لي أخوانا لا أعرف بهم في المنطقة ـ» تمتم جواد في نفسه، وبنبرة عسكرية ـ بدأ الأخ حلمي بجبهته العالية وحاجبيه المنعقدين على قصبة أنفه ووجهه الحليق، يملأ بعض الأوراق.

«ماذا ترغب أن يكون اسمك الحركي» ـ «تشي.. تشي.. غيفارا..» رد جواد بسرعة ولم يكن قد انقضى على موت تشي في غابات بوليفيا سوى بعض الوقت. مازال يحفظ بعض المقاطع عن ظهر قلب من كلمات تشي في رسالته الأخيرة إلى والدته ـ« يا والدتي سأبقى أحمل السلاح طالما يوجد مضطهدين في هذا العالم. لا يهمني كيف وأين سأموتـ، لكن المهم أن يحمل من بعدي الراية مناضل آخر..».

«ـ لقد سبقك رفيق آخر يحمل هذا الاسم يا جواد. اختر اسماً آخر ـ .»أجابه الأخ حلمي بعد أن استعرض لوحة الأسماء الحركية المتواجدة أمامه.

«إذن أفضل أن يبقى اسمي جواد إذا سمحتم لي».

«ـ لا يا أخ عليك أن تختار اسماً آخر وذلك لدوافع أمنيه وحفاظاً على سلامتك أيضاً ستتعرف في المستقبل على ذلك، انك لم تتعرف بعد على محيطك جيداً...»أجابه حلمي بلهجة المناضل المحنك الذي تمرس في معتقلات هذا النظام أو ذاك.

«ـ اختار أن أحمل اسم ذاك الشهيد الفسفوري» مشيراً بذلك إلى صورته المعلقة فوق رأس الأخ حلمي.

«ـ لكن أخاه عندنا يا أخ جواد وهو يحمل الاسم بالوراثة» أجابه حلمي والابتسامة بادية على محياه.

ـ «أصر أن يبقى لي هذا الاسم أيضاً». قال جواد هذه العبارة ومازالت عيناه عالقتين ببعض العبارات المكتوبة بأسفل الملصق لتعرف بالشهيد.

ـ« لا بأس يا جواد فليكن لك هذا». وبعد أن حدد له الأخ حلمي السرية التي عليه التواجد بها.

ـ« موقعك في السرية الأولى عند الأخ مصطفى». وشد على يده«أتمنى لك التوفيق في الدورة وان تحمل اسم هذا البطل حتى يبقى شهداؤنا أحياء بيننا» «سأعمل كل جهدي يا أخ حلمي». أدى التحية وخرج إلى المستودع ليحصل على بدلته الكاكي وقصعة الأكل و «الكت» المقررة لكل متدرب.

طار الفسفوري فرحاً وهو يلبس بدلة الكاكي حاملاً تحت إبطه «كته» متوجهاً إلى غرفته و الشباب منتشرون هنا وهناك... البعض يضحك، والبعض منهك من تعب التدريب وأغاني الثورة تصدح «أنا يا أخي.. آمنت بالشعب المضيّع والمكبّل [وحملت رشاشي.. لتحمل بعدنا الأجيال منجل... دين علينا دماؤنا.. والدين حقاً لا. لا. لا. لا يؤجل».

وقف الفسفوري يصافح زملاءه في السرية فرداً فرداً في فترة الاستراحة سابحاً في نشوة اللحظة، وألم الماضي وهو يرقب معالم هؤلاء الرفاق الذين تجمعوا من مختلف الأقطار، هذه مجموعة الكويت، وتلك من الأردن وهذان الشابان من فرنسا وذاك لا يعرف العربية أتى من إيران.. جمعت هؤلاء عروس واحدة.. وقضية واحدة مخلفين وراءهم سنين الذل والروتين، والاغتراب عن الذات.

وبدأ التدريب على الكمائن والاغارات بعد أن أعطيت السرية حوالي عشرة محاضرات على استعمال الكلاشنكوف والسيمينوف.

 في الصباح الباكر تُسمع الصفارة ويباشر التدريب بكافة أنواعه.

لقد زالت الفرحة والسرور من وجه الكثيرين «لماذا هذا التدريب القاسي، لا يجوز هذا» يردد الكثيرون هذه العبارة، تأخذهم المفاجأة بهذا الانتقال السريع من الهدوء والاستقرار المعيشي في بيوتهم إلى الصعوبات الشديدةِ في التدريب.

غادر حوالي عشرين عنصراً المعسكر بعد مضي شهر من التدريب القاسي متذرعين بحجج مختلفة، حتى أن بعضهم قفز ليلاً عن السور وهربوا في اتجاهات مختلفة وقسم منهم عاد إلى لبنان..

سهل الشوك يمتد طويلاً.. «ازحف، ازحف ـ لا ترفع جسمك» يرددها المدرب حاملاً البندقية برصاص حقيقي يطلقه هنا وهناك بين أجسام الشباب.

«أسرع العدو وراءك، أسرع» وصليات متتالية من الرصاص.

ـ «يلعن أبو هيك تدريب ما حدا عاد يتحمل هالحاله» ـ يرددها شاب باد عليه آثار التنعم في دول المهجر.

ـ «بدك تتحمل يا أخ، هنا يولد الرجال» ـ أجابه الفسفوري بصوت خافت والعرق الحار يتصبب من جبهته وصدره.

وبين التردد وبعض أصوات الاستنكار وأحياناً الشتم وصل المجموع إلى نهاية حقل الشوك بصدورهم المدماه منهكي القوى بزحف المئتي متر المليئة بالشوك ـ «طابور ، اجمع... استعد». واصطف الجميع وامارات الغضب تكسو وجوههم والبعض يضع يده على الجروح

 «أنا أعرف بأن البعض مستاء،ولكن بدون هذه الصعوبات لا يمكن أن تستطيعوا مواجهة العدو في حرب عصابات، وسترون أشد من ذلك وأقسى في الحياة العملية. لقد زحفنا كيلو مترين في إحدى المعارك مع العدو بالقرب من القدس حتى استطعنا أن نفلت من الطوق المضروب حولنا، ركضنا أكثر من ثلاث ساعات متواصلة بدون استراحة، ستعرفون ذلك غداً في الممارسة العملية».

كان المتوقع أن يصرخ قسم كبير من السرية استنكاراً، ولكنّ معرفتهم الجيّدة بمصداقيّة قائد السرية وتصورهم للآتي من المصاعب ردع الجميع بأن لا ينبسوا ببنت شفه.

ومضى الطابور رملاً  إلى المعسكر ليصحوا من بعد ساعة من النوم على آثار قنابل ورصاص داخل الغرف وصياح ووجوه مقنعة تجوب في طوابق البنايات زارعة الرعب في القلوب الفتية..

ـ «العدو يقتحم المعسكر ـ انتباه، انتباه، العدو داخل المعسكر».

وقف الفسفوري خائفاً في ظلام الغرفة الدامس، كل الأنوار مطفأة ورشقات الرصاص وقنابل الدخان والقنابل الصوتية تزيد خوفه أكثر فأكثر، ماذا يفعل، لم يكن أحد في الغرفة، «أفضل لي أن أبقى في هذه الزاوية المظلمة، لن يكتشفني العدو.. ماذا، عدونا هنا» ردد جواد في نفسه، صراخ، قنابل، كلام غير مفهوم، لغة عبرية.

أنير المعسكر «الجميع إلى ساحة المعسكر» ردد صوت المايكروفون، ركض الفسفوري مهرولاً إلى الساحة، لم يكن قد وصلها بعد ربع العدد من المتدربين.

«اجمع بسرعة ـ الجميع انتظام في الساحة».

ـ هذا أول طابور إزعاج تعيشونه أيها الأخوة ـ انطلق صوت الأخ حلمي. ان وضعكم التدريبي مازال ضعيفاً وحتى هذه اللحظات مازال البعض ينضم إلى الطوابير.

أطل أحد العناصر من فوق الطابق الثالث، «هذا مزح إذاً ها» مما جعل الجميع بمن فيهم قائد المعسكر يشارك في الضحك المدوي في الساحة.

ـ «المهم أن لا يكون أحد قد عملها تحته» ـ قالها أحد قادة السرايا وازداد الضحك أكثر فأكثر، والجميع ينظرون إلى المراحيض وهم يرون عنصرين خارجين لتوهم بعد أن سمعوا صوت الضحك.

ومضى التدريب على هذه الحالة من الصعوبة حتى ألفته السرايا، فكانت فترة الطعام في بعض الأحيان لا تتجاوز الدقائق، على الجميع إنهاء الأكل وهم في حالة «رملا» وأحياناً يضع هذا المدرب و ذاك حصى صغيرة في قصعة بعض المقاتلين حتى يتم تعويد المقاتلين على مختلف أصناف الحياة ومشقاتها. وفي الليل يأمر الأخ مصطفى الجميع النهوض، ومن هناك إلى البركة حيث على الجميع أن ينزلوها بكامل ثيابهم ويعودوا بعدها إلى المعسكر في منتصف الليل بعد ركض حوالي سبع كيلو مترات بالثياب المبللة وبعدها على الجميع النوم بهذه الحالة.

 ـ «فسفوري مطلوب إلى قائد المعسكر» ـ.

نهض بسرعة من الدائرة المجتمعة حول المدرب وهو يشرح لهم خصائص سلاح قاذف الدبابات، ال اربي جي وركض إلى غرفة قائد المعسكر وكاد أن يتوقف على رجل واحدة وهو يرى والده وعمه وقائد المعسكر ينظرون إليه.

ـ «تفضل يا فسفوري» ـ رَمَقَ عمي والدي بسرعة مستهجناً هذا الاسم، بعد أن صافحتهم، بادرني قائد المعسكر ـ «أخ فسفوري والدك طلب أن تعود إلى المخيم لأن والدتك وضعها تعب وخصوصاً أنك المسئول عن العائلة حيث انك وحيد أسرتك. فالأمر يعود لك».

قاطع الفسفوري كلمات الأخ حلمي مستهجناً

«ماذا! أعود للمخيم! للسجن والمطاردة! واللاحقة باستمرار! والاعتقال في المراحيض!!حتى لو لم يبق غيري في الدورة لن أعود إلى ذاك المعسكر السجن إطلاقاً..».

ازداد والد جواد شحوباً من هذه الإجابة حيث بدا عليه الإرهاق والتعب، محدقاً في الأرض بعينيه الثابتتين شابكاً أصابع يديه وكأن لا حول له ولا قوة مستذكراً بالتأكيد أقوال زوجته:

"لا تعود وحدك يا أبا جواد، وإلا سألحق به بمفردي، ولن أتركه هناك حتى لو بقيت معه.. "

لفَّ الأربعة صمتٌ مطبقٌ قطعه صوت القائد ـ «أقولها مرة أخرى، نحن نعذرك لظروفك حيث أنك وحيد عائلتك».

 ـ« قراري هو البقاء والاستمرار في الدورة وبعدها سأذهب لمتابعة عملي في القواعد ـ أرجو المعذرة يا والدي ـ بخاطرك عمي، أخ حلمي أنا عائد لإكمال المحاضرة... بخاطركم».

أقفل الفسفوري الباب دون أن يمد يده لتوديع والده الذي تكبد الكثير للوصول إلى هذا المكان بعد أن تفقد مواقع كثيرة للثورة في دمشق وغيرها، تاركاً إياه في لحظات صمت عميقة.استذكر الوالد نفسه عندما كان يافعاً وهو ينقل الطعام للثوار في الجبال سنة 36 ومستذكراً أيضاً الواقع المعيشي الصعب الذي يحياه بدون أي مورد رزق سوى الأيام القليلة التي كان يعملها في الباطون عندما تتيح له صحته ذلك..

لصقت عينا الفسفوري بوالده وهو خارج من المعسكر واغرورقت عيناه بالدموع مشفقاً على الوالد الذي كابد الأمرين في حياة الغربة، التفت أبو جواد إلى الخلف كي يرى ولده لآخر مرة.. لكن الجميع يلبسون الكاكي حليقي الرؤوس.. يصعب معرفة جواد بينهم.

رفع يده بالهواء مودعاً دون أن يرى ولده وقفل عائداً..

«تهادى إلى أذني جواد صوت المدرب هكذا تضع القذيفة وتهيئ الأمان وتجلسُ اما على ركبةٍ ونصف أو هكذا منبطحاً».

وضغط على الزناد.. ويا لهول الكارثة لقد اشتعل اثنان من الشباب وانطلقت القذيفة لتدمر جزأ من مسرح معسكر التدريب، وما لبث الشباب أن ماتوا في اليوم الثاني متأثرين بالحروق العميقة من اثر القذيفة..

لم تقف الأمور عند هذا الحد من المصاعب بل استمرت أكثر فأكثر.. كان عليهم تعلم اجتياز النهر.. فشبكوا الأيدي وبدأت عملية الاجتياز، ولكن الثلاثة الذين في المقدمة بقوا وحدهم تتقاذفهم أمواج النهر الحادة وتراجع الباقي، وفشلت كل الجهود في إنقاذهم. لقد كاد أحد المدربين أن يغرق وهو يحاول انتشال أحدهم، وقف الجميع مشدوهين لمنظر ثلاثة يموتون غرقاً أمامهم على بعد أمتار قليلة دون أن يستطيعوا فعل شيء.

شيّع الثلاثة في اليوم التالي ولم نر المدرب مرة أخرى فقد نقل للمحاكمةِ كما نقل مِن قبله مدرب قاذف الدبابات.

تمضي أيام عدة دون أن يسمح لأحد بأن يخلع حذاءه وذلك استعدادا مستمراً لطوابير الإزعاج وتفادياً للتأخير عن الطابور،والذي يكلف العنصر المتأخر عقوبات متعددة،.. وكانت المسيرة الطويلة ـ مئة وخمسون كيلو متر ـ آخر عمل في الدورة، لتزيل الترهل والتشحم من أجساد الشباب ولتضعهم بعد أسبوع في الباصات الجاهزة لنقلهم إلى جهة ما في قواعد الثورة، مناضلين تحملوا الكثير خلال الخمسة أشهر التدريبية.

llll

الفصل الثالث
أولا:  في (الأغوار)
اجتازت المجموعات حدود الأردن في الظلام أيضاً، كما اجتاز بعضهم حدود لبنان قبل ذلك. كل عشرة بقيادة دليل. لقد كان الحذر على أشده، وبيد كل عنصر سلاحه الفردي، برصاص حقيقي وليس "فشنك". كانت الأوامر تقضي بعدم الاشتباك مع أي جندي عربي حتى ولو اضطر المناضل أن يسلم سلاحه، لأننا لا نرفع سلاحنا إلا بوجه عدونا المشترك.

لكن المجموعات اجتازت الحدود بأمان.. ومن السلط حيث نقطة التجمع تم توزيع المائتي مقاتل الجدد على مختلف المناطق الأردنية.. إلى القطاع الشمالي، إلى الأوسط، إلى الجنوب. وهكذا أمضى الفسفوري ومجموعته (حيث استحق أن ينال قائد مجموعة من التدريب الجيد في الدورة) ليلتهم الأولى في اربد، ليستقلوا بعدها إحدى السيارات العسكرية إلى منطقة الغور، إلى الحدود مع الحلم الدائم..

ـ« أين ذاهبون الآن يا أخ..؟» تساءل  الفسفوري بمرح وهو ينظر إلى الجبال التي طلت عليه من فوق الهضاب المرتفعة المشرفة على الغور."أليست تلك جبال فلسطين؟»نظر السائق إلى السائل متسائلاً «أهذه المرة الأولى التي تزور فيها الأردن؟» ـ

ـ« نعم يا أخ هذه أول مرة..»

ـ «نحن الآن ذاهبون إلى الشونة الشمالية، وتلك هي جبال فلسطين. نبعد الآن ستة كيلو متر عن الحدود، ستملّ من هذه المنطقة بعد أيام».

أجابه السائق والنرفزة بادية عليه «كل أسبوع نتعرض للمحاصرة من بعض الضباط، فنضطر أن نبقى أياماً عديدة بدون أن يصلنا تمويننا اليومي ـ «ولكن علينا أن نصبر ونصمد يا أخ»، أجابه الفسفوري وهو المشتعل حماساً وقوة ـ

ـ بعدك طازه يا أخ، باين عليك جديد على هالصنعه، على كل حال، أهلاً وسهلاً فيك».أجابه السائق وقد باتت القساوة على تجاعيد وجهه أكثر وأكثر..

ـ «يبدو أنه قديم في الكار»، همس الفسفوري في نفسه «انه خريج سجون ومشاق متعددة». كانت بقية المجموعة تدردش في مختلف القضايا ـ ذاك يحدثهم عن ابنه الصغير واشتياقه الشديد له، والآخر يروي لهم عن عمله في الكويت.. وهكذا إلى أن وصلوا إلى قلب الشونة.

ـ«أهلاً وسهلاً بالشباب، قبل أسبوع فقدنا مهاجر وفارس، وها هو ينبوع الشعب يقدم المزيد. في علم الحساب الناقص لا يعوض، أما عندنا فالعكس». بدا المفوض السياسي متأججاً ومنفعلاً ـ« نعم أيها الأخوة ها أنتم عشرة، وسنزداد أكثر وأكثر لأن قضيتنا عادله، والنصر حليف الشعوب دائماً..».

تعانق الجميع وهم يستقبلون المجموعة الجديدة ويقدمون لهم الشاي في إحدى الغرف التي تعرضت للقصف المباشر، فأصبحت بدون سقف، ممزقة بالشظايا من كل جانب.. وابتدأت حفلة التعارف.

ـ« نعرفكم على الأخ أبو غيدا، قائد القاعدة». أشار المفوض بيده إلى ذلك الشاب الأشقر ابن الثلاثين عاماً الآتي من غزة والابتسامة تكاد لا تفارق شفتيه، وهو يردد (أهلاً أهلاً بالشباب، يا هلا اعملوا أكل للشباب، إخواني خذوا راحتكم، اللي بدوا ينام ينام لأن مشواركم طويل، يا هلا بالشباب. الله يحييكم).

لم يكن الفسفوري قد شاهد من قبل آثار قصف وتدمير. كان يسمع من والده كيف دخل الصهاينة قريتهم «لوبيه» بالقرب من طبريا، وكيف استبسل الأهالي في الدفاع عن قريتهم، ففقدوا أربعين شهيداً على حدود القرية، لكنهم استطاعوا أن يصدوا المهاجمين الصهاينة مدة طويلة قبل أن تساعد المهاجمين الدبابات والطائرات، فكان من نتيجة ذلك الصمود أن دمروا القرية ومحوها من الخارطة.. «لم يبق يا ولدي بيت واحد اليوم من قريتنا، بنوا مستعمرة بالقرب منها سموها لافي».

روايات عام 48... واليوم عام 68، لكن الطائرات تطورت وأصبحت ميراج وفانتوم، والدبابات أصبح لها جنازير، والرشاش لم يعد يسخن بسرعة مما يضطر الرامي ان يسقيه بماء أو بدماء أضعف شباب طاقم الرشاش كما كان النازيون يعلمون شبيبتهم ـ كل شيء تغير.

ما عدا إرادة الحياة، إرادة الحرية، يتوارثها الأبناء عن الآباء من فلسطين، إلى حياة المهجر إلى حياة النضال مرة أخرى.

يأتي المزارعون في الصباح من قرى مختلفة ويذهبون إلى بيارات الفواكه للعمل وتبقى القرية خاليةً من أهلها ما عدا قلة قليلة، أصرت أن تبقى بالرغم من القصف المتواصل على القرية كعقوبة لإيوائها «المخربين». هذه القلة التي أصبحت متلاحمة حياتياً مع هذه المجموعات باللباس المرقط والكوفية وأسلحتهم الخفيفة التي بعثت فيهم روح المقاومة والصمود بعد الانتصار الجميل الذي حققته تلك القلة في معركة الكرامة حيث استطاعوا بأم أعينهم أن يروا خسائر الصهاينة مخلفة على أرض المعركة.

القرية تبدو كجثة هامدة وخصوصاً فترات الظهيرة، حيث تستطع الشمس بحرارتها اللاهبة في فصل الصيف ولا تعود إليها الحياة إلا عصراً عندما يعود المزارعون من عملهم في الطريق إلى قراهم، وفي الليل عندما ينتشر الفدائيون في الطرق المختلفة من القرية تحسباً لعبور العدو واستعداداً للعمليات الليلية التي تنطلق من هناك.

توطدت صداقة متينة بين أبو غيدا والفسفوري فكانا يقضيان معظم وقتهم سويه، سواء أكانا في القاعدة أو في الاستطلاع اليومي لتحركات العدو..

ـ «جهز نفسك يا فسفوري، سنذهب الآن للاستطلاع» قال أبو غيدا للفسفوري الذي كان يغط في نوم عميق من التعب، وهو يتجول في المنطقة مستطلعاً القرى المحيطة.الساعة تشير إلى الثانية صباحاً، عاد الفسفوري للنوم مرة أخرى وكأنه في حلم.

«ها، إلى أين الآن؟؟» أجاب الفسفوري، وهو نصف ناهض من بطانيته التي يفترشها على أرض الغرفة نائماً بدون غطاء من شدة الحر، متوسداً البطانية الأخرى، حيث لم يكن للواحد أكثر من بطانيتين و «دبر نفسك» بعدين.

«أمامنا مسير لمدة ساعة ونصف، وعليك أن تحترس في المسير وابق رشاشك جاهزاً ستشترك معنا في الدورية القادمة ولابد لك أن تتعرف على المنطقة».

ـ «إذن سأدخل معكم إلى الداخل؟» أجابه الفسفوري وهو لا يصدق بأنه سيشارك في المعركة المقبلة.

ـ «لا يا فسفوري، سيكون موقعك في الحماية في البداية أنت ومجموعتك، ثلاثة منهم فقط يكونون برفقة رامي الهاون، ولكن الدورية اللاحقة ستكون فيها حتماً. والآن أسرع في مشيتك ولا تتكلم لأننا نقترب من مواقع العدو».

رائحة شجر البرتقال تنتشر في تلك المنطقة والصباح ينبلج رويدا رويدا وخرير المياه يتهادى ليعزف ذلك النشيد الخالد للمرج المزهر مع الصباح..

اقترب أبو غيدا من الفسفوري وعيناه تنظران في مختلف الاتجاهات مع فوهة بندقيته ـ انظر تلك مستعمرة جيشر، هناك فقدنا قبل أسبوع ـ كما قال لكم أخي المفوض مهاجر وفارس. صمت قليلاً ولم يعد يسمع له أنفاس.

ـ«حدثني قليلاً أخ أبو غيدا عن تلك الدورية»، أجابه الفسفوري بصوت مسموع.

ـ «اخفض صوتك، إننا بمحاذاة كمائن العدو»، وتابع معرفاً: «هذا يسمونه المشروع، هناك مستعمرة بيت يوسف، وتلك مستعمرة دجانيا، وهذه التي تلمع أمامنا برك للسمك أقامها الصهاينة لتكون حاجزاً مائياً ومورداً اقتصادياً لهم..».

سُمع صوت مجنزره في الطريق الآخر، ولاحت بعد قليل بعض الأشكال التي تمر بسرعة متخطية شجر القصيب الذي يقف حائلاً دون الرؤيا الواضحة.

ـ «اسمع يا فسفوري، ألا ترى؟ تلك هي المجنزرات التي سنضربها بعد غد. ها هي تأتي لتسحب الكمائن قبل طلوع الفجر». ونظر أبو غيدا إلى الساعة كي يحدد بدقة موعد قدوم وذهاب المجنزرات، وعد مجموع المجنزرات، فكانت ثلاثة. تسمرت عينا الاثنين على الجهة المقابلة. كل يفكر في اتجاه، أبو غيدا تذكر فارس، رامي الآربي جي، والذي حمله أبو غيدا من تلك المنطقة، هي ذات المنطقة التي ينظر إليها الآن وهو يوصيه آخر لحظة بالاهتمام بخطيبته التي كان على موعد للزواج منها بعد عودته من الدورية... وين فارس يا أبو غيدا؟؟  تساءلت ليلى، والخوف يهز جسمها، والكوفية ملتفة حول عنقها، حاملة المجرفة في يدها استعداداً للذهاب إلى البيارات في الصباح للعمل مع والدها.. أبو غيدا، هل حصل شيء لفارس، هل...؟ وغصت وهي تنظر إلى أبو غيدا الذي كان في تلك اللحظة ينظر إلى قميصه والدم ينتشر بقعا متناثرة عليه.

«ـ لم استطع أن أتمالك أعصابي أمام ليلى، وقد كان للحظات يوصيني بها قبل أن يفارق الحياة من صلية رشاش 500 اخترقت صدره وهو عائد بعد أن استطاع أن يدمر آليتين حضرتا إلى المستعمرة لتطويق مجموعة الاقتحام. لقد كان اقتراحه أن تتم حفلة العيد في الداخل ووافقنا جميعا على الفكرة يا أخ فسفوري».

ـ أبو غيدا هذا الرجل الطيب الهادئ الذي ساقته الحياة من غزة إلى الغور والذي استطاع ان يقيم علاقات ودية مع كل الفلاحين المتواجدين في المنطقة، يبكي وهو يتذكر فارس.

ـ أبو غيدا

لم يجب أبو غيدا، والفسفوري اتسعت عيناه أكثر وبانت الدموع في مقلتيه، تجمد فيه كل شيء ماعدا هزة الكلاشنكوف في يده ـ ليس فقط فارس... ومهاجر أيضا، مهاجر بقيت جثته هناك لم نستطع ان نخرجه معنا. ولماذا نخرجه؟؟ دعه يرتاح في التراب الذي مات من اجله، دعه ينام بدفءٍ بين اتلام البيارات بهدوء وحنان...

لم يكن الفسفوري قد تعود ذلك الحنان الرجولي الذي يقود إلى البكاء أحيانا. لقد درس في الكتب بان البكاء صفة النساء، وهكذا كان يقمع نفسه عندما يهتز قلبه وعاطفته لمشهد يقتضي البكاء أحياناً ...

ـ « لازلت يا فسفوري أتذكر مهاجراً قبل شهرين عندما ذهبنا إلى الناصرة. لقد زحف حتى وصل على بعد خمسين مترا، وأشار لي بإصبعه: ذلك هو بيتنا يا ابو غيدا».

لم يجرؤ أن يدخل بيته، لقد تركه منذ فترة طويلة، والبيت مراقب باستمرار، والدوريات تطرق الباب باستمرار بحثا عن مهاجر... «ممكن أن تكون أمي الآن مستيقظة، دعني يا أبا غيدا أزورها ولو لدقيقتين.وقد منعته خوفا من الدخول في معركة جانبية، وخصوصا بعد أن أنجزنا هدفنا بضرب أحد المطارات القريبة بالصواريخ الموقوتة، ونريد العودة قبل البدء بالتمشيط ...».

تدارك أبو غيدا الموقف قبل بداية الفجر، فقد كانوا في منطقة قريبة ومكشوفة جزئياً للعدو.

ـ«اركض خلفي يا فسفوري، دعنا نبتعد عن المنطقة قبل أن نُكشَف..»

ولم تمض بضع ثوان على استعداده للركض وإذ بصوت قذيفة مدويةٍ تسقط بالقرب منهما.

ـ«خذ الأرض يا فسفوري، لماذا وقفت بكامل طولك ألم أحذرك من أننا مكشوفان هنا».

ارتبك الفسفوري للموقف ولكن أوامر أبو غيدا المتلاحقة لم تجعل له مجالاً للاستسلام للخوف والخطر المفاجئ.

ـ«اركض بأقصى سرعة خلفي وإياك أن ترفع رأسك.. وهكذا استطاع الوصول إلى العبارة قبل أن تصطادهما القذيفة الثانية التي لم تسقط بعيداً عنهما سوى أمتار قليلة.

ـ«علينا تأجيل الدورية لأسبوع يا فسفوري. لقد كُشفنا وسيأخذون احتياطات مشّددة في المنطقة، «قال أبو غيدا.«لقد تدربت بشكل جيد على قاذف الدبابات، وأنا واثق من نفسي»، أجابه الفسفوري وهو يرسم في مخيلته صورة فارس الذي لم يلتق به ولم يعرفه..

«ثم لي طلب آخر منك أخ أبو غيدا.. أن تعطيني هذا القميص الملطخ ببقع من دم فارس».

«حتى نعود للقاعدة سالمين يا فسفوري».

لقد سُمع بالجو صوت طائرتين، عرف أبو غيدا بحكم تجاربه السابقة، أنهم يأتون للاستطلاع باستمرار، وأحياناً يباشرون القصف إذا تعرضت مجنزراتهم للرماية.

ـ« برج المراقبة عندهم يحرك طائرة، وعندنا يحتاج إلى موافقة أعلى القيادات حتى تتحرك المراوح»، أجاب أبو غيدا وهو يتذكر عملية خروجه من غزة وملاحقة القوات المنسحبة بالطائرات المقاتلة دون أن يرى في الجو طائرة عربية. مازال يذكر زوجته وابنه الصغير وهم يمسكون به قبل لحظات من معرفتهم بقرب رحيله.. «لقد أصبح عمره الآن خمس سنوات يا صديقي، سيدخل المدرسة ويكبر ويكبر يا فسفوري.. عمري الآن خمسة وثلاثين سنة، خدمت في الجيش المصري. وبتشكيل جيش التحرير دخلته فوراً في غزة، وها أنا الآن كما تراني.. ما أجمل أن يكون الإنسان حراً سيداً لنفسه يا فسفوري، ستعرف ذلك من تجربتك الخاصة». ومضى أبو غيدا في حديثه المتواصل وكأنه يحمل هموم السنين الطويلة ويرتاح الآن ليلقي هذا العبء مع بزوغ الشمس المرسلة شعاعها فوق بيارات الليمون والبرتقال لتزيد الخضرة اخضراراً، ووجه أبو غيدا اتساعاً، وكأنه شعاع ينضج الخلايا الضامرة في تجاعيد وجهه.

الساعة الثامنة صباحاً، احتسيا كوبين من الشاي بالنعناع، وصحن فول «علماشي» واتجها بعدها إلى القاعدة.

ـ« الحمد لله على السلامة  أبو غيدا ـ مرحباً يا أخ» ـ قالها شاب طويل مزنّر بالرصاص ومسدس برواننغ، وسيارة اللاندروفر تنتظره خارج الغرفة.

ـ«أخ أبو غيدا مطلوب فوراً لغرفة العمليات ـ آمر القطاع يريدك فوراً. أنا في انتظارك منذ ساعتين».

«أنا جاهز أخ جمال، على فكرة الأخ الفسفوري قائد المجموعة الجديدة التي التحقت بنا قبل أيام».

ـ«أهلاً، أهلاً، وسهلاً ـ يا مرحبا بالشباب» أجاب الأخ جمال وهو يصافح الفسفوري بحرارة وطرف ابتسامة بادية على شفتيه.

«إنه ضابط عمليات القطاع، يبدو أن الأمر على درجة من الأهمية، لم نر ضابط العمليات في مثل هذه الساعة المبكرة».

قالها أحد المقاتلين المتواجدين سابقاً في القاعدة.

غاب أبو غيدا ثلاثة أيام، وكان جميع من في القاعدة موزعين أثناء فترة النهار في المنطقة المجاورة، وقسم يذهب إلى المقهى للعب الورق والشيش بيش، وآخرون يدردشون مع بعض المزارعين، وهذا أبو كنعان بياقته المكويه وشعره المرتب على «الليبره» واللامع تحت الشمس يهمس بأذن الفسفوري. «روح معاي نبحث عن شي لقطه، الفتيات هنا جيدات».

ضحك الفسفوري واعتذر عن مشاركته ناصحاً إياه الابتعاد عن هذه القضايا.

ـ «أوه انتوا دوختوني بالحديث عن العلاقة مع الجماهير، أليس هذا تلاحم عندما نقيم علاقة مع الفتيات؟ لازم يعني فقط مع الرجال، انتو بتقولوا في الكتب أنو المرأة نصف المجتمع».

ـ «أيوه بس العادات يا أبو كنعان في هذه المنطقة تختلف، علينا أن نحترم تقاليد هذه البلاد، الأمور في لبنان تختلف نسبياً».

أجابه الفسفوري بهدوء وأبو كنعان منزعج ويتكلم بصوت عال.

«يا شيخ، يبدو أن الكافور في المعسكر هد حيلك».(الكافور دواء يوضع مع الشاي لتخفيف الرغبه الجنسيه).

ومضى ضاحكاً لينضم إلى مجموعة لعب الورق في القهوة وعيناه تتلصصان وتبرقان يميناً وشمالاً على الشارع الغاص بالعاملات العائدات من البيارات، ثم لا يلبث أن يتمشى على طرف الشارع مختالاً ببدلته المموهة المكوية، تُذكّر الناظرَ إليه بأفلام الكاوبوي، مع فارق بأن أبا كنعان نظيف  دائماً، ومرتب فوق العادة ويلمع من رأسه حتى أخمص قدميه. «رأسمال الواحد فينا طلقة رصاص يتبعه بيان الشهادة، ألف جبان يا شيخ ولا كلمة الله يرحمه». يقهقه الجميع على كلماته وروح المرح التي لا تفارقه حتى وهو يسير في الدورية إلى الأرض المحتلة، ولا يسكت إلا بعد الأمر المشدد.

وأخيراً جاء أبو غيدا وبدا على الفور أن شيئاً ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة. بدأت صواريخ الكاتيوشا تتواجد في أحد الكهوف البعيدة عن القرية، وساعات توقيت، وشرطان وقنابل وأسلحة إضافية، ومسدسات، وعبوات صواعق وغيرها من الأدوات الضرورية للعملية.

 

ثـانـيــــاً  :  طبريــــــــا
كانت الأوامر واضحة.. طبريا..

لؤلؤة الجليل الذهبية أرسلت لشبابها بطلب عاجل لزيارتها. وأهملها الصقيع من كل جانب تجمدت أعضاؤها عن الحركة، هوّدوها، سيجوها ـ وصل السيف رأس القلب فصرخت بأعلى صوتها تعالوا... تعالوا... أنهم يحاولون دفني حيّةً في بحيرتي. زحفت جبال سيرين إليّ، البحرة تضحك، وتتراقص بأمواجها، واحتضنتني في القاع، لكني مشتاقة لكم يا أحبائي، مشتاقة إلى انسانكم المهاجر.. أنا في الانتظار.. «التوقيع طبريا».

ـ «اقتربت أخرتنا يا شباب» ـ قالها أبو كنعان وهو يرى أبو غيدا صاعداً الكهف المعلق في سفح الجبل خلف الشونة... «كل واحد يكتب وصيته»، الشغلة جد كما يبدو..

لم يتوقع أبو كنعان خطأً. فقد أعطيت الأوامر بالاستنفار الكامل والحيطة والحذر الشديدين حتى لا يعرف القرويون بالحركة، للعدو عيون في كل مكان. وبدت حركة غير عادية لتنفيذ المهمة غير العادية،وهي قصف لبعض المنشآت العسكرية في طبريا... نسبة الخطورة كبيرة، والقدرة على الوصول إلى عمق العدو عملية صعبة ومعقدة.

«شباب» انطلق أبو غيدا على غير عادته بلهجته الودودة، «قبل ثلاثة شهور لم يستطع رفيقنا حسين الضاوي ومجموعته من الوصول إلى طبريا. لقد اصطدموا بعدة كمائن، وعادت الدورية بخسارة شهيدين من شبابنا بدون أن توفق في الوصول إلى أهدافها، ولكننا الآن سننفذ هذه المهمة ولكن عبر طريق آخر، آملين بأننا سنوفق في الوصول هذه المرة. لابد من وصول هدية نارية دافئة إلى طبريا حتى تقيها شر الصقيع والموت شبه المؤكد، «وابتسم قليلاً مستعيداً هدوء محياه الودود «هدية صواريخ الكاتيوشا».

تم اختيار مجموعة الاستطلاع من العارفين في المنطقة من الأخوة / عباس وموسى. «آه عباس!!» تذكر الفسفوري مخيمه بعد أن كاد ينساه وينزعه من تفكيره «ان لهذا العباس نفس الملامح لذلك العباس، عامل الباطون الذي اغتالته أيدي الظلام بالتعذيب الشنيع».

عباس ابن الخمسين عاماً التي قضاها في مختلف الأقطار بعد أن ساهم في الثورات المتعددة في فلسطين، أصر أن يبقى مع الثوار عندما طرقوا باب بيته في الغور ليدلهم في الدورية الأولى على ممرات المياه في نهر الأردن لنسف نفق عيلبون. ومنذ ذلك الحين يتابع عمله في النهار في البيارات المجاورة لخط التماس، وفي الليل يساعد الشباب في المرور عبر المخاضات، وينتظرهم في العودة ليؤمن لهم الطريق وهو العارف بالمناطق المزروعة بالألغام في كلا الطرفين الأردني الإسرائيلي.

لقد ترك عباس زوجة له في بيسان مع ولد صغير لم يعد يعرف عنه شيئاً. في أوقات فراغه كان يصعد إلى قمة الجبل المشرف على القرية ويسرح نظره في الأفق البعيد، إلى بيسان محاولاً أن يسترجع شيئاً ما تكاد الذاكرة أن تنساه مع الزمن وقساوة أيام العمل الطويلة.

بقي على العهد الذي قطعه لزوجته بأن تنتظر حتى يعود.. ومازال العهد قائماً.. ازداد وجهه جفافاً، وارتسمت التجاعيد في وجهه وكأنها اتلام الحواكير التي يرعاها يومياً بعرق جبينه. الخمسين كيلو غراماً لم تنقص ولم تزد هو.. هو.. كانت النساء في العمل يحاولن محاكاته وممازحته: «عصفور باليد أحسن من عشرة على الشجرة يا عباس». ولكن يرد عليهن بابتسامة باردة ويمضي في العمل قامعاً نفسه، ونزواته العاطفية التي  تتأجج عندما تغني البنات أغاني العشاق المعروفة باللهجة البدوية، حتى صار معروفاً للجميع باسم «عباس الصامت» وآخرون يقولون «الأخرس».

بقي عباس وموسى في المنطقة الحدودية لأكثر من أسبوع، بعد أن جهزوا أنفسهم بما يكفي لأسبوع الاستطلاع. موسى صديق عباس في العمل، يعمل على الطورية لأكثر من عشر سنين، الوحيد من قرية العدسية (وهي قرية على التماس المباشر مع العدو) الذي رفض الهجرة وبقي ساكناً فيها حتى هذه اللحظات مع زوجته العاملة، وولديه الصغيرين أيضاً، ووالدته العجوز. بالقرب من بيته ملجأ صغير، يحتمي به عندما تقصف الدبابات القرية بعد أن يلمحوا دورية من "المخربين" تمر في القرية أو خارجة منها وهي تصعد من البيارات الكثيفة، حيث يتعذر على أبراج مراقبة العدو اكتشافهم.

باقي المجموعة تعد نفسها في القواعد الخلفية منتظرين نتيجة الاستطلاع. رشيد الذي أتى مجدداً من دورة تدريبية في الخارج على الصواريخ والخرائط، فتح الخارطةَ وبدأ يقيس المسافات، ويضع علامات ونقاطاً على خط سير الدورية، ويحدد نقطة انطلاق الصواريخ.

ـ «أخ أبو غيده، إذا ضربنا الصواريخ بالقرب من مستعمرة هاؤون ومن شاطئ البحيرة بالضبط فإن الصواريخ لن تصل الأماكن العسكرية المقصودة».

قالها رشيد بلهجة الواثق من نفسه، وهو يقلب على الطاولة مجموعة من الأوراق التي تحدد خصائص صاروخ الكاتيوشا، وأقصى مسافة يصل لها..

ـ «ماذا؟؟» أجابه أبو غيده باستهجان «كيف هذا الحكي؟» ـ «أخ أبو غيدا الحد الأقصى للصاروخ (8200) متر بينما المسافة على الخارطة لأهدافنا العسكرية هي 8400م، ومعنى هذا أن الصواريخ لن تصيب الأهداف».

ـ«هذا كلام لا يركب على عقلي يا رشيد، الدورية يجب أن نقوم بها، ولا قوة في الأرض تمنعني من تنفيذ الدورية» أجاب أبو غيدا، وعيناه محمرتان من شدة الغضب ومن المفاجأة التي أتاه بها رشيد اليوم، وأردف قائلاً.

ـ«يا رشيد إذا كنت خائفاً من النزول معنا فلا تخرج لنا حججاً مختلفة. باستطاعتك أن تبقى هنا في القاعدة، أنا لا أفهم في الخرائط. الصواريخ يجب أن تصل إلى أهدافها المحددة نستطيع أن نضع حشوة زيادة للصاروخ كي يصل هدفه».

ـ« لكن أخ أبو غيدا هذا ليس قذيفة هاون حتى تضع له حشوة ولا يمكن أن..».

لم يستطع رشيد أن يكمل كلامه وهو يرى أبو غيدا خارجاً من المغارة بغضبٍ شديد مردداً «لابد من إنجاز الدورية مهما يكن».

بقي رشيد محتفظاً بما دار من حديث مع أبو غيدا سراً لم يطلع عليه أحدا سوى الفسفوري، حيث لاحظ رشيد ممتقع اللون قابعاً وحده في المغارة بعد أن غادرها أبو غيدا، ويداه تلوحان في الهواء على غير عادته..

ـ «مالك يا رشيد» تساءل الفسفوري.

ـ«يا أخي شرحت لأبو غيدا عن وضعية الصواريخ والمسافات وهو غير مستعد أن يسمع ما أقوله. الصواريخ ستسقط في الماء ولن يجدينا نفعاً كل هذا التعب..».

لقد تدرب الفسفوري أيضاً على الخارطة والبوصلة، فمسك الخيط وبدأ يقيس المسافات من هاؤون إلى طبريا، وإلى الكنيرت، وإلى الحمامات، ومن سمخ إلى الكنيرت، إلى أن وجد المخرج أخيراً.

ـ«رشيد» قال الفسفوري وعلى وجهه امارات الجد «عندي اقتراح أن نضرب المواقع في الكنيرت، وهي تبعد عن طبريا أقل من كيلو متر، وهنا أيضاً يوجد موقع عسكري» مشيراً بيده إلى دائرة قريبة من طبريا مشار إليها بمجمع عسكري؛ «وهذه الأهداف ضمن مرمى الصواريخ فما رأيك أخ رشيد..؟»ـ «ليس عندي أي اعتراض على ذلك يا أخ لكن مازالت تؤلمني كلمات أبو غيدا وهو يتهمني بأنني خائف ولا أرغب في المشاركة في الدورية. لقد تألمت كثيراً للذي سمعته منه، لم يعرف الخوف طريقه إلى قلبي حتى الآن وقد شاركت في أكثر من ثلاث دوريات. لم أعرف الخوف إلا في اللحظات الأولى التي أسمع بها صوت القذائف، وبعدها يصبح كل شيء عادياً».

ـ «ماشي الحال يا رشيد» أجابه الفسفوري،»أبو غيدا مازال غاضباً منذ استشهاد زميليه مهاجر وفارس، وقد جاءت له الفرصة لأن يرد عليهم بضربة أقوى، وهو كما ترى متحمس للدورية كثيراً، وخصوصاً أن العدو يشكك فينا، ويتهمنا بأننا عاجزون عن اجتياز الحدود، وكل دورياتنا هي من خلف الخطوط. لقد كنت بالأمس معه على الحدود لاستطلاع بعض المواقع، ولكن استدعاءه إلى مقر غرفة العمليات قطع عليه الدورية».

في هذه اللحظة دخل أبو غيدا المغارة واقترب من رشيد معتذراً ـ «لقد كنت منفعلاً يا رشيد أرجو المعذرة، تعال أفهمني ما يجب عمله ولكن شرط عدم إلغاء العملية، يا شيخ الله يلعن الشيطان أنا كنت منرفز قبل أن أتي إلى هنا..».

كان لاعتذار أبو غيدا وقع شديد في نفس رشيد الذي بادر لمصافحته متناسياً ما لحق به من إهانة قبل قليل، وجلس الثلاثة للمشاركة في تحديد خط السير والأهداف الواجب ضربها.. «خلص، خلينا نتوكل على الله، حاجي تنظروا على الخريطة أحسن ما يطلع شي يقصر مسافة الصواريخ..».

وتفرق الثلاثة وهم يضحكون، إلى أن بادر أبو غيدا الفسفوري ـ «أخوي روح عند عمر في الشونة ودعه يؤمن مسامير أكثر للقواذف لأن المنطقة التي سنرمي منها طينيه بسرعة ياخوي، وأنا ذاهب إلى عباس وموسى حتى نرى شو صار بالاستطلاع».

طرق الفسفوري الباب مفاجئاً عمر مضطجعاً على الحائط مسرحاً نظره في البيارات التي تمتد أمامه لتصل إلى جبال سيرين الشماء عبر الباب المخلوع للغرفة المعدة لنوم مجموعة الصواريخ. لكن عمر لم يفاجأ بظهور زميله في الباب، فرد على السلام ببرود، ومضى محدقاً في البيارات وكأنه يحاور عزيزاً في قلبه..

ـ «عمر وين سارح، هل جهزت المسامير؟ يقول لك أبو غيدا بأن تحضر العدد مضاعفاً كي تثبت القواذف في الأرض الطينية ـ» وقد أدرك الفسفوري على الفور بأن عمر لابد أنه غارق في ماضيه وذكرياته فسأل ـ «هل تفكر في شيء يا عمر» قالها بعد أن اضطجع بالقرب منه ناظراً من الباب إلى ذات البيارات والجبال وكأنها تحوي طلاسم عسيرة الحل. «أخبرني كيف حال أهلك، هل وصلتك رسالة من الكويت؟».

كان عمر قد أخبر الفسفوري بجزء من تفاصيل حياته هناك.. سحب عمر نفساً عميقاً من صدره وكأن كابوساً قد انفرج عنه باقتراب الفسفوري منه ونطق بصوت هادئ من الشفاه الضامرة وعيناه مازالتا تحدقان حتى تخالهما عيني ميت قضى من رعب شديد تاركاً عينيه مفتوحتين ويديه مسبلتين بالقرب منه.

ـ« أتعرف يا صديقي، لقد سبق أن شاركت بدوريتين. وقبل أسبوع بالضبط كنت قد عدت من دورية في الباقورة دورية نهارية لضرب إحدى المجنزرات ـ». اعتدل قليلاً بجلسته ومضى يروي لجواد بعض التفاصيل ـ «تلك هي المرة الأولى التي أرى بها الأعداء أمام عيني في وضح النهار، الساعة التاسعة صباحاً. تصور أنها الدورية الأولى التي تنفذ في هذه المنطقة منذ بداية العمل في وضح النهار. لقد رأيتهم، ستة جنود بطواقيهم الحربية ووجوههم المختلفة..». اعتدل عمر أكثر في جلسته واستعاد حماساً مفقوداً، وبدأت وجنتاه تحمران قليلاً، وحاجباه الكثيفتان ينعقدان على قصبة أنفه وهو يتابع... «تصور يا أخ فسفوري، بالرغم من البرد الشديد في الصباح حيث كنا هناك منذ الساعة الثانية صباحاً أنا واحد الشباب العراقيين وثالث من المجموعة كنت أرتجف من البرد، ولكن عندما سمعت صوت المجنزرة وقفت هكذا بكامل طولي متناسياً الخطر الذي يقترب من كل رامي آربي جي وانتظرت حتى أطلت المجنزرة ببوزها اللعين، ورميتها، وكم كانت مفاجأة لي فسفوري بأنني أخطأتها..لقد كنت مازلت ارتجف من البرد، وأنت تعرف أني قد تدربت على الآربي جي ولابد أن يكون الرامي ثابتاً على الأرض ليتمكن من إصابة الجسم المتحرك».

استعاد عمر مرة أخرى دفقة حماس متجدد، وبدأ يحرك يديه ورأسه وكل ما يساعده للتعبير عن الموقف ـ «لقد كان فيصل بالقرب مني ومفترض أن يناولني القذيفة الثانية ولكن لم أجد أحداً، وعلى الفور قفزت كي أهرب من المنطقة المكشوفة إلى البيارة. آه يا فسفوري ـ يا خوي، التدريب غير عن الحياة العملية. كان الرصاص يتناثر بين قدمي وأنا أقفز قفزات مختلفة غير عارف بما يحصل في تلك اللحظة».

ـ «لقد كان على حق مدربنا عندما كان يقسو علينا كثيراً في التدريب»، تمتم الفسفوري في نفسه فاتحاً أذنيه وعينيه وفمه مستمعاً إلى عمر بكل جوارحه وإحساسه وأردف عمر بصوته الدافئ ونظرته الشاردة.

«لقد انقلبت المنطقة إلى جحيم والمجنزرات الحدودية الثلاثة تضرب بالرشاشات وإحدى الدبابات تضرب القذائف على مكان انطلاق القذيفة. لم أعرف أين ذهب. منصور، وزميلي العراقي الذي نسيت اسمه، كان للمرة الأولى يشاركنا في الليل حيث أصر أن يشارك تلك الدورية بالرغم من أنه من قاعدة أخرى. وكان قد ترك الجيش العراقي المرابط في الأردن، وجاء واضعاً مسدسه في رأسه قائلاً: اما أن تقبلوني معكم أو أطلق النار على رأسي. المهم يا فسفوري لم أعرف عنهم شيئاً وزحفت وقفزت مختلف أنواع القفزات إلى أن وصلت البيارة، وكم كانت مفاجأة لي صعود إحدى طائرات الميراج وقصفها مكان الحماية على قناة الغور. لقد كان الصهاينة يمشطون المنطقة الغربية والجزائري (رامي الدكتريوف في مجموعة الحماية) يمشط البياره المنطقة الشرقية. فبدلاً من أن يرمي على المجنزرات خبأ رأسه ليتقي الرصاص المنهمر عليه من الطائرة وبدأ بالرمي دون أن يعرف بأنه يرمي علينا».

ضحك الفسفوري وابتسم عمر حيث بان في فمه فراغ في الجهة الأمامية ويبدو أن أسنانه الأمامّية قد انكسرت في هذه القفزات البهلوانية بعد أن هوى على حجر في الطريق وتابع كلامه مع أن الشمس قد شارفت على المغيب مرسلة شعاعها الأحمر لتداعب رؤوس شجيرات الموز ومخترقة الخطوط المتوازية لأشجار الليمون والبرتقال الخضراء المنتشرة أمام الغرفة لتضفي على الحديث جواً حالما يريح الأعصاب المتوترة وسط هذا السكون العارم.

ـ «لقد نظرت يا أخ إلى الطائرة وهي تغير علينا وكأنها غرفة كبيرة ساقطة على رأسي، لقد رأيت الطيار مباشرة حيث نزلت الطائرة على ارتفاع منخفض جداً، وقد انتابني القلق من إمكانية رؤيته لي، فمع كل إغارة جديدة على الموقع كنت أدفن رأسي في التراب كي لا أراه ولا يراني، لكن الهدف كان مجموعة الحماية.. لقد تصورت بأن تلك القناني النازلة من جسم الطائرة المغيرة ليست إلا قناديل عادية، ولكن النار اشتعلت بصورة واسعة على أطراف قناة الغور. انه النابالم يا عزيزي كما عرفت لاحقاً..»

«ها ـ» قالها عمر مستطرداً «لقد نسيت أن أخبرك بأنني اصطدمت بمنصور في البياره وكاد يصرخ عندما أمسكته من رجله، لقد كان يرتجف من الخوف، ولا أخفي عليك بأن نظرته قد أخافتني عندما فوجئ خلفه. تصورت أنه ميت، فعندما رأى منصور الطائرة المغيرة، صرخ «لا لا. لا أريد أن أموت» ورفع رأسه وبوزه يأخذ وضع الطفل المستعد للبكاء».

ـ «لقد كان كتلة من الرعب الصامت يا فسفوري أمام الطائرة، وعندما سمعنا خرشفة بالقرب منا، أصارحك القول بأن شعر رأسي قبَّ، لا يمكن أن يكون زميلنا العراقي، فهي أصوات متعددة وكلمات بلهجةٍ عبريةٍ ولم يكن معي حتى سلاح فردي..».

في هذه اللحظة دخل أبو كنعان الغرفة وأخذ يجوبها شرقاً وغرباً ـ «آه ـ هيك الشفايف ولا بلاش ».قدود وخدود زي الورود. يا عمي أنا ما عدت أحتمل، عندما أعود من الدورية سأطلب من أبو غيدا أن يخطب لي ليلى. فارس استشهد الله يرحمه ـ طيب وبعدين.. » قطع أبو كنعان الحوار الدائر بين عمر والفسفوري ـ يا أبا كنعان اسكت خلينا نسمع باقي القصة من عمر تعال اسمع معي، لاحقين على تزويجك بعدين، «قال الفسفوري ملحاً على أبو كنعان بالجلوس» لكن أجابه بنرفزةٍ مرحة.

ـ« يا شيخ كم مرة الواحد بيموت. عمر سيموت كلما تكلم عن دوريته العتيدة، ألم يخبرك كيف حاولوا القبض عليه بالبياره؟.. ها ها ها. مسكين يا عمر، كان شفناك على التلفزيون وصرت بطل. مين داري فيك الآن! مرمي بغرفة بلا سقف ولا باب ـ قوموا انهضوا، قاعدين زي النساك في الغرفة، قوموا شوفوا الصبايا، ودعوهن، غداً صوركم رح تتعلق عالحيطان، على الأقل بتلاقي حدا يزعل عليك غير أمك وأبوك، قوموا ودعوا..».

ومضى أبو كنعان كعادته وبكامل أناقته وبدلته المكوية بحد يذبح العصفور كما يقال..

ـ«بتعرف يا فسفوري، أتمنى أن تكون لي روح المرح التي عنده، انه يأخذ الأمور ببساطة باستمرار، ولا يغشك منظره، وعندما تقع الواقعة ـ لا يهرب إطلاقاً ويبقى بروحه المرحة حتى في أشد اللحظات دقة وخطورة، هكذا اسمع من الشباب في القاعدة..»،أردف عمر عندما خرج أبو كنعان من الباب. ولكن الفسفوري يريد أن يتابع سماع ما حصل لعمر.. ارجوا أن تتابع ماذا حصل لك بعدين يا عمر» فأجابه:

«يا شيخ أبو كنعان معاه حق، قوم حتى نحتسي كوباً من الشاي في المقهى ونتابع الحديث لاحقاً، الوقت طويل وأمامنا أيام وليالي طويلة نقضيها سوية، لا تستعجل يا فسفوري، ولا يهمك.. المهم أنهم سجلونا في عداد المفقودين وكانوا يبحثون عن صورتي وصورة منصور كي يعلقوها في اليوم التالي.. شهداء. لقد خرج زميلنا العراقي بطريقة سحرية، لم نستطع نحن الانسحاب حتى ساعة متأخرة من النهار، كان علينا اجتياز تلة يشرف عليها العدو».

ومضى عمر يضحك ضحكاً خفيفاً وهم في الطريق إلى المقهى متابعاً تصور قصة خروجه من المأزق.

«كانت قدما منصور ترقصان من الخوف وهو يجتاز التلة. مئة متر كانت أطول مسافة في العمر، دهنته بالطين حتى أصبحت ثيابه طينية اللون وعدت ألحق به بعد أن حملت كيساً وعليه ورق موز واضعاً أسلحتنا فيه حتى أوهم العدو بأني مزارع. بعد أن ابتعدت عن المنطقة حوالي كيلومترين تراني سالماً يا فسفوري ما عدا تلك الأسنان الأمامية.. لم أشعر بأنها تحطمت أمام موجات الرصاص والقذائف المتتالية. لقد كنت في التدريب من العشرة الأوائل في الدورة، ولكن هنا الأمور تختلف، الحياة العملية تختلف يا صديقي».

ـ «لم تخبرني عن الأصوات العبرية التي كانت تقترب منكم» تساءل الفسفوري.

ـ «حكالك أبو كنعان. لقد كانت دورية من الأعداء بعد أن عرفوا بأن عددنا قليل واسكتوا الحماية بقصف الطيران بالنابالم للمواقع الخلفية، تقدموا علينا في البياره، لم يكن معي حتى سلاح فردي. من المفترض أن يحميني زميلي العراقي وهكذا كنت مجرداً من السلاح ـ اختبأت تحت شجرة الموز وكسرت أوراقها الواسعة حتى غطت محيطي بشكل كامل وكذلك عمل منصور والخوف باد علينا، عيناه مليئتان بالرعب وخصوصاً بعد قصف الطيران، لولا صوت الطيران المغير علينا لكنا الآن على شاشة التلفزيون الإسرائيلي كما قال أبو كنعان، لقد صرخ من الخوف وهو يرى النار تنفلش لتغطي مساحة واسعة «ابني، ابني، لي أولاد، لا أريد أن أموت».

المهم أنه فعل كما فعلت بعد إن طردته من مكاني حيث لا يتسع المكان لأكثر من واحد. فكان منصور يلهث بطريقة مسموعة، أشرت إليه بإصبعي أن يكمم فمه، وبعد دقائق كانت الأقدام تُرى من مسافة غير بعيدة عبر البياره. ولكنهم مشوا بخط مواز ولم يتقدموا إلى مواقعنا، مع كل خطوة يبتعدون فيها كان شعر رأسي ينزل قليلاً وكنت أرى وجه منصور من خلال الأوراق شبيهاً بوجه ميت منذ أسبوع. تصور يا فسفوري لم يخطر ببالي مطلقاً ما علي أن أتصرف إذا داهموا موقعي. أنا واثق بأن منصور غير مستعد لأن يفك أمان البندقية في تلك اللحظة.. أن.. أن الحرب رهيبة يا عزيزي، رهيبة، لكن لا خيار لنا، إنها طريق الخلاص للحرية.

مازال الفلاحون يغادرون القرية للتوجه إلى اربد وغيرها بالباصات الطويلة التي عفا عليها الزمن، يتكلمون بصوت عال ويتصايحون «اليوم أنت سرقت عشر دقائق زيادة من حصتي في الماء يرد آخر ـ كذاب حولت القناة على الليبرة ـ يا حميد بكره تعال أنت وأخوك حتى «نكيّس» الموزات أوعك تنسى، «يللا يا أخي وين صارت كباية الدفلا شايك ما استوى يا عمي... أبو هالعمر الزفت..».

من الطبيعي جداً في ذلك الجو أن يكون أبو كنعان مستفزا.

ـ «أليست تلك ليلى يا عمر» تساءل الفسفوري مع أنه يراها للمرة الأولى.

ـ نعم هي، هي بعينها خطيبة فارس. لقد أصبح الجميع ينادونها بخطيبة فارس. فكم هو واهم أبو كنعان إذ يتصور بأنها ستقبل به إلا إذا ساعدتها الأيام على النسيان.

ومازال أبو كنعان محدقاً في وجهها الأسمر المدور كالبدر وعيناها الواسعتان برموشهما الطويلة وخصرها الممشوق والكوفية المعقودة بأناقة على عنقها. لقد عرفها الفسفوري من نظرات أبو كنعان المستمرة للزاوية المتواجدة فيها مع زميلاتها في انتظار الباص الثاني وهن يتجاذبن أطراف الحديث، وينظرن خلسة إلى هؤلاء الشباب القادمين من مختلف البلاد، إنهن يعرفن الجميع، وعندما يغيب أحدهم يتساءلن عنه سراً، ويتسقّطن أخباره بممازحة حميد وموسى أثناء العمل وهن يتوجسن شراً من الغياب. لقد ألفوا هذه الحالة منذ فترة طويلة، يجتمع الشباب في المساء في المقهى، وثاني يوم يكون العدد ناقصاً واحداً فيعرفن اسمه: «هذا الذي كان يجلس بالأمس في زاوية المقهى وهو يبتسم لصديقه»، «لا قبل يوم مر بالقرب منا وقال يعطيكم العافية بصوت غير مسموع والخجل باد على وجهه»، ترد ثالثة: «الله يرحمه، خسارة على شبابه، يا حسرتي على أمه، بعمر الورد، فتجاوبها امرأة كبيرة الله يقلعكن انتوا بدل هالشباب، لاي بلا، هن بيموتوا وانتوا عايشات» فلا ترد الصبايا على كلامها وكأنهن يسلمن جدلاً وبدون نقاش بأفضلية وأولوية الشاب على الفتاة.

ـ «يا هلا، يا هلا بالشباب» يرددها أبو الوليد صاحب المقهى وهو يقدم لهذا كاسة الشاي ولذاك السندويشة ـ «يلاّ يا أبو وليد الباص راح يمشي، خلينا نلحق» يقولها أحد المزارعين بحنق وغضب. يرد أبو الوليد:«الشباب أبدى يا أخ، لاحقين الك» ـ فيسكت المزارع وكأنه يخشى الاحتجاج على شيء مقدس متعارف عليه. الكثير من أصحاب المحلات والحوانيت عندما يعرفون هوية الشاب الفدائي ـ يرفضون أن يتقاضوا أجرة السيارة مثلاً أو أجرة الحلاقة أو ثمن صحن البوظه أو كأس الشاي..

(ما بجوز يا عمي هذا حقك). «ولو احنا مقصرين بواجبنا انتوا فخرنا وعزتنا ـ الله يحميكوا يا شباب».. وتسمع انفجارات في المنطقة، فيتراكض الأهالي بسرعة إلى الباصات.

ـ «علي» ما بتردوا على قذائف إسرائيل بتردوا.. ها؟. يرد سائق الباص الذي يكل لسانه وهو يستعجل هذا وينادي ذاك.. فيمضي الجميع ما عدا القلة من الفلاحين الذين ألفوا هذه الحالة، فبقوا مع تلك المجموعات التي تجوب القرية وكأن شيئاً لم يكن مع بعض الحذر تتخذه الدوريات بالابتعاد عن الشوارع المكشوفة للعدو، ويجلسون قريباً من أحد الملاجئ، أو يصعدون إلى سفح الجبل وإلى المغر المصفحة حيث لا يؤثر فيها «اتخن» صاروخ.

دخل أبو غيدا إلى المغاره حيث يجتمع رشيد، الفسفوري، عمر وأبو كنعان، كانوا مجتمعين حول راديو الترانزستر، يستمعون إلى صوت الثورة وعن العمليات في القطاع الأوسط والجنوبي وفي الداخل /عادت قواتنا إلى قواعدها سالمة/ خسرنا شهيدين وعهداً على مواصلة النضال.

ـ «لماذا لا يوجد عمليات في منطقتنا؟ تساءل رشيد وهو يشبك يديه على قدميه ونور المصباح ينشر ضوءه المتراقص على الوجوه السمر وعلى أنحاء مختلفة من المغاره التي لا تستطيع الدخول إليها إلا منحنياً ـ الخارطة ملقاه على صندوق القذائف والأسلحة الفردية متكئة على الحائط الرطب للمغارة حيث تنتشر البطانيات المفروشة بشكل قبر وفي الزاوية صندوقان للمعلبات الناشفة يستعان بها عندما لا يتوفر الطعام الطازج.

أجاب أبو غيدا تساؤلَ رشيد بعد أن ألقى بندقيته جانباً، ورمى الكايش مع الجعبة ليريح خصره والعرق الجاف باد على جبهته العريضة.

ـ«لقد اتفقنا مع كل التنظيمات عبر غرفة العمليات بأن لا تقام أي عملية حتى لا يبقى العدو مستنفراً من الضربات المتتالية التي توجه له. وذلك حتى ننهي دوريتنا. ألم يرجع اليوم عباس وموسى من الاستطلاع؟»

ـ « ينتظرونك في المجموعة الخلفية» أجابه رشيد«لقد حضروا منذ نصف ساعة قبل دخول الشباب الآن».

ـ «اذهب وناديهم أخ رشيد إلى هنا». أمره أبو غيدا.

تصافح الجميع مع عباس وموسى اللذين بدا عليهما آثار التعب والسهر باستطلاعهم الذي دام حوالي الأسبوع ونصف. نظر عباس حوله حذراً من التكلم لكن أبو غيدا طمأنه «خذ راحتك في الكلام».

بدأ عباس الكلام، وأخذ رشيد الخارطة وبدأ يضع إشارات على المناطق التي سيتم السير بها.

ـ «سنكون بعد غد الساعة الرابعة عصراً في بيارة العدسية مستعدين للتحرك». انطلق عباس يتكلم بلحيته الطويلة وشاربيه الكثيفين، ووجهه المثلث، بحنك رفيع، وبعض النمش الظاهر على أنفه، «وفي الساعة الخامسة نجتاز نهر الشريعة، أمامنا قصيّب كثيف يحتاج منا بعض الوقت لاجتيازه حوالي ثلث ساعة، ثم نواجه شريطاً شائكاً ارتفاعه ثلاثة أمتار، وهنا علينا تجهيز مقص إذ لا يجوز نسفه بالبنكلور».

ـ «سجل يا رشيد هذه الحاجات، سجلها في الدفتر عندك حتى يكون كل شيء جاهزاً». أمر أبو غيدا وهو يستمع بفمه وعينيه وأذنيه حديث عباس الذي كان ينظر إلى موسى بين الحين والآخر ليؤكد على صحة كلامه، وأردف عباس قائلاً ـ «بعد الشريط الأول يوجد حقل الغام طوله حوالي مترين ونصف، يتلوه شريط شائك آخر مثل الأول، ثم بعد ذلك شارع ترابي تمر عليه دورية في الصباح والمساء من مجنزرتين، وخمسة عناصر هندسة، تسير في المقدمة مع آلات مغناطيسية لكشف الألغام إن وجدت، لذلك علينا أن ننتظر حتى تقطع الدورية المسائية وبعدها سنعب».

ـ «إذن يلزمنا عنصرا أو عنصري هندسة. أجابه رشيد ماسكاً القلم والورقة، والجميع لم يدركوا أن تكون مثل هذه الصعوبات في اجتياز أول مئة متر داخل الأراضي المحتلة».

ـ «هناك أكثر من هذا انتظروا قليلاً» أجاب عباس مقاطعاً رشيد.«على الجانب الآخر من الشارع يوجد شريط ثالث، يتبعه أيضاً حقل ألغام، ومن ثم شريط رابع..»

«وّلَوْ... الشيطان ما اجتاز كل هذه الحواجز»، أجاب أبو كنعان بعد أن صفر صفرة طويلة مستهجناً.

وتابع عباس ـ «وبعد ذلك علينا أن نجتاز سهلاً طويلاً حتى نصل إلى أول بيارة موز بالقرب من مستعمرة الحدود القريبة حتى نستطيع أن نبتعد عن الكمائن المتواجدة بالقرب من المستعمرة، حيث لهم بالعادة أن يضعوا مثل هذه الكمائن حفاظاً على المستعمرة، وحماية لمزارعيهم أثناء النهار من قصفنا..».

تجمدت عينا أبو غيدا برموشها الذهبية وهو يستمع إلى عباس.

ـ« شو يا موسى شو المخرج؟» تساءل أبو غيدا.

ـ «أنا عارف!! هاي احنا مجتمعين، كل اللى حكاه عباس صحيح. لكن مش مشكلة» أجاب موسى بحنكته المعروفة في اجتياز الحدود حيث ساعد العديد من الدوريات منذ 1965 لاجتياز مناطق الخطر. وجهه يسبح في بحيرة هادئة لا تكاد تنظر إليه حتى تشعر بالارتياح لثقة هذا الرجل بنفسه، وبابتسامته الدائمة، وهو يردد أمام أي عقبة بسيطة يا شباب، ؟؟؟ «بفرجها الله».

«إن قص الشريط ليس مشكلة، نستطيع أن نعبر أنا وعباس في البداية، ونفتح ثغرة في الشرطان الأربعة، وهذا لا يتجاوز العشر دقائق، ولكن المهم أن لا يكون الشريط مفخخاً، وأن يكون معنا عنصر هندسة لانتزاع الألغام من الممرات الترابية وبعدها يتم العبور»

لمعت عينا أبو غيدا والمجموعة كلها وموسى يتحدث بنبرته الودودة وبابتسامته المحببه للجميع وكأنه قد أنقذ المجموع من ورطة أكيدة، أو على الأقل ستتأجل الدورية لبعض الوقت حيث سيتم استطلاع منطقة أخرى للعبور.

تم استدعاء «شاستري» وهو مقاتل من قاعدة أخرى في (الزمالية) عن طريق ضابط العمليات جمال. وقد أتى قبل أسبوعين من دورة له في الصين. تردد بعض الوقت وهم يعرضون عليه الاقتراح للمشاركه في العمليه... «مالك يا شاستري، أترغب في شيء؟».

لقد خجل شاستري من نفسه أن يفصح عن السبب الذي جعله يتردد، لقد غاب في الصين لمدة ستة شهور، ولم يأخذ إجازة عندما عاد، هدى مازالت في انتظاره في عمان خطبها قبل ثلاثة شهور من سفره، لم يرها سوى مرة واحدة عن طريق الصدفة وهو في طريقه إلى المطار، وها قد مرت ستة شهور والوالدة وأخوته مازالوا في الضفة، لم يشعر بالدفء والحنان منذ أن غادر بيتهم سنة 64 للعمل في الدانمرك. لم يستطع أن يتعرف على مخلوقة واحدة هناك حيث حس بالاغتراب الشديد، لحق بأخيه للعمل وقد كان هذا متزوجاً من فتاة دنمركية أنجبت له ولداً. هم شاستري للدخول إلى غرفة نومه كي يحضن ابن أخيه ويلاعبه، لكن الزوجة أوقفته:

« نو نو نو ... لا يجوز أن توقظه من نومه، علينا أن ننتبه للطفل كي لا تتزعزع نفسيته منذ الصغر».

أجابته بلهجة إنكليزية والغضب مرتسم على وجهها الأجنبي وعينيها الزرقاوين..

لقد بلعها شاستري بمضض وفي اليوم التالي كان صاحياً، اقترب منه ليلاعبه، منعته الزوجة مرة أخرى نو نو نو، علينا أن لا نعوده على الحمل.

وبعد فترة قليلة تم احتفال بعيد ميلاد ابنهم الأول، تكلم معه شاستري وهو في قفص الألعاب باللغة العربية، فاعترضت أم الزوجة «كلمه بلهجة بلاده، انه دنمركي وليس عربياً».

لقد مضى على أخيه هناك أكثر من سبع سنين، ولم يستطع شاستري أن يأتي بأي حركة، حفاظاً على مشاعر أخيه. وعند بدء الحفل أحضرت والدة الطفل علماً دانمركياً ووضعته على الباب، فما كان من أخيه إلا أن ركب سيارته بسرعةٍ وعاد بعد ساعةٍ بعصا طويلة، أطول خمس مرات من عصى العلم الدنمركي، وفي طرفها العلم الفلسطيني وثبتها بالباب، ودخل وشارباه تهتزان من الغضب الذي يدل عليه للمرة الأولى قائلاً للزوجة ولأمها:

«تحملت الكثير منكم، هذا أخي أولاً وأخيراً، وهذا ابني أنا، انه فلسطيني، مفهوم..».

بكت الزوجةَ وصمتت أمها وانتهى الاحتفال على هذه الشاكلة، وعاد شاستري من هناك بعد أن ساهم في تشكيل نواة لاتحاد عمال فلسطين قائلاً لهم:

ـ  «أخواني لابد أن يكون لنا دور مباشر في الثورة، على الأقل لابد أن نتدرب على حمل السلاح وهذا أضعف الإيمان». وغادرهم إلى عمان حيث تعرف على هدى في معسكر للتدريب جاءت مع مجموعة أخرى من الفتيات مهنئة بالعيد.

«لقد علقت عيناي بعينيها يا فسفوري، ولا أعرف ذلك الشعور المفاجئ الذي انتابني، أهو حب النظرة الأولى أم الشعور بالقرف من حياتي في الدنمرك وفتياتها اللواتي يحببن بعلميّة. «كانت هدى مسئولة اللجنة النسائية في جبل الأشرفية كما عرفت لاحقاً».

... وهكذا ابتدأت معرفتنا، وتعمقت حيث بدأت أتردد على مقرها متذرعاً بكافة الحجج إلى أن بدأنا نلتقي في بيتها عند أمها في البيت، لقد قضي جميع أفراد العائلة ما عدا الأم وابنتها وهم خارجون من القدس سنة 67.

ـ «هل اتفقتم على الزواج يا شاستري؟» سأله الفسفوري وهو يعتدل في اضطجاعه بعد أن خدرت يده. الساعة تكاد تشير إلى الثانية عشرة، حيث الجميع قد غادروا بعد أن وافق شاستري بأن يدخل معهم الدورية كاملة وليس فقط إلى الحدود، ومن بعدها يأخذ  إجازة طويلة لشهر بشرط «أجاب شاستري ضاحكاً وهو يودع الخارجين من المغارة باقياً مع الفسفوري وحده في المغارة.

ـ« نعم يا أخ اتفقنا بعد ستة شهور أن يتم الزواج على أن نلتقي على الأكثر كل شهر. وها قد مرت تسعة شهور ولم أرها سوى مرة واحدة مع رسالتين تبادلناها وأنا في الصين ـ أرجو أن أعود من الدورية سالماً وسأذهب مباشرة في الإجازة».

ـ« للزواج طبعاً»، أجابه الفسفوري وهو يهم بالنوم.

ـ« نعم، حرام علينا يا أخي؟»

كالعادة كان أبو كنعان أول من دخل المغارة التي ينام بها عدنان والفسفوري بعد أن لحق بهم عمر عند انتهائه من نوبة الحراسة «اصحوا ـ اصحوا العمى شو بتناموا، لاحقين تناموا النومة الأخيرة، فقط ثلاثين ساعة وتكون صورتكم على الحيطان ـ قوموا نشرب خريم (الاسم الحركي للشاي)، ونتقلعط الثلاثي المرح (مشيراً بذلك إلى الوجبة شبه اليومية من الجبنة والزيتون والزعتر)..

ـ «مالك صبحت تزعق مثل البوم يا نذير الشؤم ـ؟»

أجابه الفسفوري وهو يهم من النوم، وأشعة الشمس ترمي بنورها على أرضية المغارة وعلى جزء من بطانيات الشباب.

نهض الجميع وجهز أبو كنعان الفطور بأقل من عشرة دقائق، وبدأ يحدثهم بصوت متقطع من الضحك «قبل فترة استطلعنا المنطقة قرب المشروع.

ـ «لقد استطلعت تلك المنطقة مع أبو غيدا قبل أسبوع» أجابه الفسفوري.

ـ « لا، ليست نفس المنطقة بل تحتها بالقرب من جسر الشيخ حسين». أردف أبو كنعان».«المهم لا تقاطعني يا فسفوري يرحم والديك أحسن ما أنسى كل شيء».

كان عمر وعدنان قد جلسا على طاولة صندوق الذخيرة والنعاس باد على وجوههم وشعورهم منفوشة، واستعدوا للأكل بدون أو يغسلوا وجوههم. "الجركن" فارغ وتعبئته من العين تحتاج لأكثر من نصف ساعة، ناهيك عن صعود سفح الجبل إلى المغارة.

ـ المهم بدأنا بالاستطلاع وفي اليوم التالي أخبرنا أبو غيدا لدعمنا بأربعة عناصر من القاعدة، وهكذا أصبحنا ستة «قال أبو كنعان متابعاً حديثه» هذه الدورية مهمتها تفقد الطريق الترابي في تلك المنطقة مشيراً بيده إلى جهة العدو، كانوا أربعة وفتاتين.

ـ« بلّش الخرط» ـ قالها الفسفوري بعد أن أصبح بينهم مودة ظاهرة رغم خلاف الطباع.

«مش مصدق، اسأل الشباب يا فسفوري» قالها أبو كنعان والابتسامة تكاد تنعدم على شفتيه بعد هذه الملاحظة الجافة من الفسفوري. على كل حال صدق أو لا تصدق هذه مشكلتك، وليست مشكلتي.

ـ«لا تقاطعه يا فسفوري» أجابه عدنان وهو ينظر إلى أبو كنعان مؤيداً وجهة نظره راغباً في استمرار الحديث وهم يأكلون بهدوء مستمتعين برواية «جيمس بوند» كما لقبه عدنان عندما رآه لأول مرة. دعه يكمل حديثه

ابتسم أبو كنعان لعدنان وتابع حديثه

ـ«لقد قررت أن أقف مباشرة مقابل الفتاة كي أطلق النار عليها، وكانت الخطة تقضي بأن نبقى مستلقين على الرابية التي تطل على فتحة الشارع التي سيمروا منها وعندما يظهر الستة جنود لنا نطلق النار نحن في نفس اللحظة. كل واحد على الجندي الذي أمامه، وذلك بعد أن نسمع الإشارة من قائد الدورية».

ـ«أينعم، جود جود يا أبو كنعان» أجابه عمر وهو يفرك يديه من آثار الزعتر ناسياً أن يحمد الله كعادته ليتابع سماع الكلام. وأخذ عدنان وضعية مختلفة في جلسته وهو يضم قدميه بيديه المتشابكتين، وذقنه منحنٍ، وعيناه جاحظتان ناظراً إلى أبو كنعان الجالس على صندوق الخشب قبالته.

«المهم يا شباب، عند الساعة الثامنة صباحاً، رأينا الدورية الإسرائيلية، الكل أخذ وضع الاستعداد، وانبطحنا، ووضعنا مفتاح الأمان على السريع بعد أن عبأنا السلاح وبدأنا بالانتظار. أنا كان دوري الثالث، وكنت أعرف قبل يوم بأن الفتاتين تسيران في الدورية رقم ثلاثة ورقم أربعة .شو بنت يا شباب خوش عيني خوش، طولها طول الحور شعراتها مثل ابصر شو».

وبدأ الثلاثة بالابتسام والقهقهة أحياناً، وأبو كنعان يرفع يده اليمنى، ويحرك اليسرى مترافقة مع حركة عينيه الزرقاوين.

ـ« وبعدين شو صار؟».

ـ«بعدين اقتربوا كثيراً. وصدقوا يا شباب انقطع نفسي. يا أخي قريبين كثير وهذه ثاني مرة أنزل فيها دورية، عندما أصبح الجميع في المرمى ابتدأ الذي على يميني بإطلاق النار، وقد فوجئنا جميعاً وبدأ الجميع بالرماية متجاوزين بذلك أمر قائد الدورية بأن لا نطلق النار إلا بعد سماع ثلاث صفرات متتالية منه. أفرغنا كل مخازن البنادق وبدأ الشباب بالركض إلى عبارة قريبة للحماية من قذائف الدبابات التي بدأت بالرمي مباشرة على مكان إطلاق النار. وهنا تذكر الفسفوري ما حصل لهم قبل أسبوع عندما قذفتهم الدبابة، وكانت تلك أول تجربة له في سماع قذائف العدو». وقد بدأ أبو كنعان يتكلم وكأنه داخل المعركة مشيراً بيده اليمنى لكيفية انطلاق قذيفة الدبابات، وقد نسي نفسه حتى كاد أن يدخل إصبعه في عين عمر الجالس بالقرب منه. فتابع حديثه.

«أنا كانت وضعية جلستي محمية جداً وكأنها خندق، ففضلت أن أبقى به كي أرى كيف ستأتي المجنزرات لتأخذ القتلى من أرض المعركة. توقفت الدبابات عن الرماية فرأيت أول جندي ينهض من الأرض وقد غطى شجر القصيب نصفه الأسفل، فلم أر إلا نصفه الأعلى، فقلت بقي خمسة قتلى. وما هي إلا ثوان حتى كان الثاني ينهض، ثم مرت لحظات وإذا بالأربعة المنبطحين يقفون أيضاً وتتابع الدورية مسيرته». ضحك الفسفوري وعدنان وعمر بعد أن انقطع نفسهم بعض الوقت وهم يستمعون إلى إطلاق النار متشوقين لمعرفة نتائج المعركة. فقاطعهم أبو كنعان قائلاً.

ـ«أولاً ثبت لي بأنه لا يوجد أية فتاة في الدورية، لم أر ذلك الشعر الذي رأيته قبل يوم أثناء دورية الاستطلاع، ثم على الفور زحفت المسافة التي تفصلني عن العبارة ودخلت فبادرني أحدهم ـ تصورنا أنك جرحت يا أبو كنعان وين كاين؟ـ

وكانت الأصوات تصل إلى أذني من طرف العبارة ومن وسطحها ذاك يقول ـ آه لقد أصبته في بطنه مباشرة.. قفز متر ونزل إلى الأرض والآخر يقول ـ لا، أنا أصبته مباشرة في رأسه». ازداد ضحك الشباب أكثر فأكثر الآن بعد أن تبين لهم نتيجة المعركة وتابع أبو كنعان قائلاً.

ـ«الحقيقة فقط كان يعرفها قائد الدورية، لقد أدرك بأننا لم نقتل ولا صوص، لقد أخطأ المقاتل الذي على يميني ولم يتمالك نفسه عندما رأى الجنود أمامه مباشرة، وتصور بأنه سمع ستة وليس ثلاثة صفرات كما قال لاحقاً وهذا ما أدى إلى فشل الدورية حيث انبطح الجميع قبل بدء الرماية، أو حتى لم تتح لنا فرصة التسديد المباشر إلى المرمى».

llll

بدت قرية الشونة ومزارعوها غير عادية لاختفاء أحد عشر شاباً لم يترددوا على المقهى أو يتجولوا في الشوارع، لقد جاءهم الأمر من غرفة العمليات بالتوجه فوراً إلى أقرب نقطة تجمع استعداداً للعبور، كل شيء أصبح جاهزاً الآن. أمر أبو غيدا كل ثلاثة أن يتوجهوا منفردين إلى البيارة القريبة من العدسية في نقطة تجمعٍ لا تبعد مائتين متر عن نهر الشريعة (الأردن).. عن الحدود.

لقد اتخذت إجراءاتٌ واسعةٌ في منطقة القليعات والزمالية. لم يكن غياب أبو غيدا عبثاً طوال فترة الاستطلاع، كان يجري الاتصال مع ثلاث مجموعات ستقوم باقتحام مواقع حدودية بعيدة عن العدسية لتركيز انتباه العدو على تلك المنطقة، حتى تتاح الفرصة لدورية طبريا بالمرور بسلام.

ساروا كل ثلاثة مع بعض بفارق ساعتين من الوقت، التعليمات مشددة، «ابقوا داخل الشجر إياكم ومراقبات العدو، لا تتكلموا مع المزارعين، لا تخبروا جنود الجيش الأردني عن أي شيء». وصلوا جميعاً، وكان في انتظارهم في المكان المحدد عباس وموسى قائدا الاستطلاع.

ـ «كل واحد يتفقد أغراضه يا شباب، هل نسينا شيئاً في الشونة؟»تساءل أبو غيدا وهو ينظر إلى كل واحد من المجموعة،«صواعق الصواريخ جاهزة؟».«نعم جاهزة الخريطة ـ المقص ـ المسامير ـ ساعات التوقيت ـ القنابل»..

ومضى أبو غيدا متفقداً كل هذه الأشياء مشيراً لهذا بأن يضبط وضع الجعبة على خصره وذاك شاداً على يديه «شد حيلك يا عمر» لقد بقي ساعة من الوقت.

ـ الآن عباس وعدنان تحركا لقص الشريط، وموسى يقود الدورية إلى المكان الذي استطلعوه. «أعطوا المقصلعدنان، الساعة الخامسة بالضبط نكون على طرف الماء»أمر أبو غيدا.

كانت الشمس ترسل أشعتها الحمراء مخترقة ورق الأشجار مع غيوم ملونةٍ سبحت فوق رؤوس الجبال العالية، والشباب يضطجعون على الحشيش البارد، كل يسبح في بحر أحلامه، لم يتكلم أحد مع الآخر. الجميع يجلس صامتاً مترقباً تلك الساعة المتبقية ليواجهوا بعدها مصيراً مجهولاً لا أحد يعرف نتائجه مقدماً. أمامهم عشر ساعات متواصلة من السير محملين بالصواريخ الثقيلة، والقواذف، والقنابل، والأسلحة الفردية، وغيرها من المعدات مخترقين حواجز متعددة، مارين بالقرب من المستعمرات المحاطةِ بالكمائن وحقول الألغام.

لقد أدرك الجميع بأن نسبة النجاة قليلة ومع هذا لم يجرؤ أحد على البوح بذلك. حتى أبو كنعان المعروف بمرحه في مواجهة الموت، والمصاعب القاتلةِ لم ينبس ببنت شفه. فقط رائحة البيارات تسرح وتمرح والشعاع الأحمر لشمس المغيب تنير وجه هذا للحظات وتنير وجه ذاك للحظات أخرى وكأنها تأخذ صوراً نهائية للشباب كي تحتفظ بهم في دفئها الأبدي. اقتربت الساعة من نهايتها، ولم يقطعها سوى صوت أبو غيدا.

«انهضوا يا أخوان خلينا نتوكل على الله، المسافة بين الواحد والآخر عشرة أمتار، سيروا بهدوء إخواني، رامي الدكتريوف آخر واحد، موسى توكل على الله، خلينا نصل بكيّر إخواني»..

وسار الجميع كما هو مرسوم لهم إلى أن وصلوا إلى ضجيج المياه الهادرة في نهر الأردن ـ الشريعة ـ كانت المياه قوية في انحدارها من المرتفعات القريبة من الجولان ـ قصفت إحدى الطائرات الإسرائيلية أحد السدود في التلال فازدادت سرعة المياه بشكل مضاعف وأغرقت الكثير من البساتين المجاورة بالماء، حارمة الفلاحين من الاستفادة من الموسم وخصوصاً بيارات قرية العدسية وما جاورها.

كان عباس وعدنان في الانتظار في القصّيب القريب من النهر «الماء صعبة اليوم يا أبو غيدا»، قالها عباس وهو يقترب من أبو غيدا...«علينا الانتباه كثيراً في العبور. كل ثلاثة يعبرون متشابكي الأيدي وبتعاكس من هذه المخاضة»،مشيراً بيده إلى منطقة من الماء تبعد قليلاً عن المنحدر الحاد لتساقط المياه. لقد تم كل شيء بشكل جيد، لم يحتاجوا إلى قص أي شريط، لقد وجدوا عبّارة يبدو أن العدوَّ حفرها في هذين اليومين، وهي تقطع الأربع أشرطة.

ـ«خير إنشاء الله، هذه وفرت علينا أكثر من ساعة من الوقت، أسرع أخوي عباس، على الأقل يجب أن نكون في الجانب الآخر عند غروب الشمس».

دخل عباس وأبو غيدا وعمر، متشابكي الأيدي ومتعاكسي الاتجاهات، تحرسهم باقي المجموعة في العبور؛ عباس غطس ثلاث مرات في الماء، ظن البعض أن نقطة العبور صعبة ولم يفهم هذه الحركة سوى زميله ورفيقة في حياة العمل وحياة الكفاح ـ موسى ـ انه يتطهر ليدخل الجنة طاهراً إذا وافاه الموت لا سمح الله على حين غرة.

تبعتهم مجموعة أخرى ـ الفسفوري، رشيد، وشاستري، متبعين نفس الطريقة في العبور. المياه باردة، باردة جداً لكن الحرارة دافئة في القلوب، المياه تغمر الشباب حتى الخصر وبشدة استطاعا الصمود أمام موجات الماء المتتالية، من المنحدر الجبلي أمامهم والحجارة تتدحرج من تحت أقدامهم في العبور. يختل رشيد في مشيته ويكاد يقع، لكن يد شاستري قوية مشدودة «شدوا الطوق، شدوا الطوق ـ كل ما سلاح الثورة بأيدي راسي لفوق» وتابع الآخرون العبور بتباطؤ شديد، محملين بالصواريخ على ظهورهم ومخازن أسلحتهم الفردية والقنابل اليدوية تتوسط خصرهم، يرفعونها أثناء العبور كي لا يصلها الماء بكثرة. انتشر الجميع على الأرض الحبيبة شجيرات القصيب تقرقع هنا وهناك، وخرير المياه يعزف لحناً روتينياً جميلاً وصاخباً كالضربات القوية في السنفونية التاسعة للسعادة البتهوفنية. حتى المياه كانت مياهاً أخرى اليوم، تتلاطم لتنشد نشيد سعادة. الجميع يتحرك ببطئ، والفسفوري منبطحاً يلثم الثرى، مرة، مرتين، ثلاثة، وينهض مشحوناً بطاقة قصوى من الشجاعة التي اهتزت قليلاً وهو يعبر النهر للمرة الأولى، ويتدحرج مرات عدة في العبور، خائفاً من الغرق وهو لا يجيد السباحة.. «السباحة والحب وحرب الشعب لا يمكن أجادتها إلا في الممارسة» تمتم الفسفوري في نفسه وهو يعبر النهر بسلام..

منطقة القصّيب كثيفة جداً. فلولا صوت وقع الأقدام وأصوات ارتطام الأجسام بالشجيرات لكان من الصعب المحافظة على الخط المنتظم لعناصر الدورية. تارة تكون على مستوى الأرض، وتارة تهبط ليغمرك الماء إلى النصف، ثم تصعد ليضربك نتوء قرب العين، تبعده قليلاً لتهبط مرة أخرى ونتوء الشجيرات يرتطم في قدمك.. عشر دقائق صعبة جعلت العرق يتصبب من الجميع إلى أن وصلوا إلى حائط الأسلاك الشائكة.. ومن العبّارة زحف الجميع متجاوزين الأسلاك الأربعة وحقول الألغام والشارع، صدفة جميلة ساعدتهم على العبور.

ـ «أخ أبو غيدا أرى ضوءاً أحمر هناك، انظر...» قالها الفسفوري هامساً وهو يقترب من أبو غيدا حانياً ظهره كباقي عناصر الدورية.. لقد تدرب الفسفوري على هذه الأضواء في معسكرات التدريب:«ربما يكون كميناً يا أبو غيدا».

ـ «الآن أمامنا هذه الفسحة القليلة، أخبر أبو كنعان بأن يجهز رشاشه وابق معه حتى تجتاز الدورية السهل وبعدها تلحق بنا. لا تطلقوا النار إلاّ إذا بادروا هم ـ مفهوم؟».

«حاضر أخ أبو غيدا».

كتلة سوداء أمامه على بعد خمسين متراً يظهر منها ضوء أحمر خافت، لامست يد الفسفوري أمان الأربي جي وأخذ وضع الاستعداد: القذيفة إذا سمع أول طلقة من الكمين.

ـ «يا الهي، ولكن إذا أصابوني من الطلقة الأولى، كيف سارد؟»

هذه اللحظات تمتد عادة طويلاً رغم قصرها.. لا يعرف لماذا تذكر عمر وهو يقول له يا صديقي ـ لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة مطلقاً.. ودعتني وهي تبكي، شعرت بدفء الأرض وحنانها بضمتها اللطيفة، فأعادتني جنيناً هلامياً مثقلاً بسكر عميق، أقف بين قوتين تتجاذبني إلى أن صعدت سيارةً ووصلت للأغوار وأنا في شبه حمى تجتاحني لابتعادي عن حبي الوحيد الذي قدم لي العزاء في غربتي القسرية في الكويت..

ـ «الحق الشباب يلا.. دينك، رح نضيعهم» ـ همس أبو كنعان وهو يدفع بالفسفوري إلى الأمام بعد أن كاد يختفي شبح آخر عناصر الدورية.

بالرغم من وزن الصواريخ الثقيلة كانت المجموعة كالعصافير الطائرة تجتاز السهل الواسع الممتد حتى بحيرة طبريا عبر بيارات الموز تارة، وبالمرور بالمستعمرات تارة أخرى. الغيوم تتراكض معهم أيضاً لتلفهم بضبابها، لتعيدهم إلى انسانيتهم المهاجرة. الكيبوتسات والمستعمرات لم تغير تجاعيد الأرض وانحناءاتها. عباس يعرف كل «تلم» وحاكورة، وبيارة من هذه وبيارة من تلك؟ كان يسير أمام الدورية متنقلاً بين أغصان الاشجار مبتعداً يميناً ومقترباً يساراً وكأنه يسير في الشونة الشمالية، عارفاً بكل مداخلها ومخارجها..

لقد أرهق عناصر الدورية بسرعته وكأنه على موعد مهم يتوقف عليه مصير حياته كلها..

أبو غيدا يتلفت إلى الوراء «شد حيلك أبو كنعان، وصلنا». فيجيبه وهو يلهث: «خلينا نأخذ استراحة يا أخي، ما عدت أقدر أمشي» «مش وقتو هالقيت، اصبر».

وفجأة شع نور قوي قادماً من سمخ تلك القرية الفلسطينية القريبة من البحيرة والتي لا تبعد سوى بضع كيلو مترات من الحدود، لقد كان النور مفاجئاً للجميع، وبلحظة اختفى كل عناصر الدورية في طريقة مذهلة. قسم أخذ وضع الانبطاح وقسم توارى في البيارات المجاورة، وبقي الشعاع وحده يخترق الظلام. لابد أن حارس البرجكتور قد أبقاه أكثر من دقيقة على نفس خط مسار الدورية متشككاً بنفسه «هل كان هنالك أشباح أم أن عينيه لم تعد تصلحان لليل؟». انه كمين مفاجئ لدورية سيارة تضيء المنطقة كل بضعة دقائق خوفاً من تسرب «المخربين» بالرغم من احتياطياتهم المشددة على الحدود. أنها سنة تصاعد وتنامي العمل العسكري في كل الأرض المحتلة. لا يعرف من أين ستكون الضربة التالية.

ـ أحس الفسفوري بالوحدة المخيفة حوله في منطقة لا يعرف عنها إلا الحكايات. لكن هذا الشعور فارقه عندما سمع بحركة بالقرب منه حيث عاد رفاقه وتجمعوا مرة أخرى بعد خمس دقائق من بدء المفاجأة، وكأنهم على موعد دقيق بالالتقاء على نفس الخط ليتابعوا المسير بعد أن استراحوا بدون أمر هذه الدقائق القليلة.

اجتازت المجموعة الشارع الذي يربط سمخ بمستعمرة قريبة، ولكن المفاجآت تصر ان تأخذ دورها في مثل هذه الأوقات، كان اجتياز الشارع يتم بشكل أفرادي إلى الجهة الأخرى وقد جاء الآن دور الفسفوري لاجتياز الشارع، وإذ بسيارة عسكرية لإحدى دوريات العدو تجتاز الشارع. لكن قيطان «البوت» علق في الشريط وأصبحت قدماه على الشارع وجسمه على الجانب الآخر والنور الكاشف يتحرك بشكل نصف دائري على ظهر المجنزرة.

«الأسر» كلمة لمعت في ذهنه وأسرت تفكيره كله مانعة اياه عن التفكير حتى وسلاحه بين يديه. فقط صوت الأخمص وهو يرتطم بالأرض ذكره بالبندقية والآربي جي على ظهره ـ لحظات وينتهي كل شيء.. لحظات، ثوان قليلة، قليلة، كان الصوت هادراً للمجنزرة وهي تمر بالقرب منه على بعد خطوات قليلة. لم يستطع الفسفوري أن ينظر إليها، لا يريد أن يراها، لا يريد أن يطلق النار، الهدف أصبح قريباً..

أربع ساعات من المسير المتواصل، لم يعد إلا مسافة قصيرة وتـنـجـح المهمة الصعبة. لكن الفسفوري لم يعتقد بأن سائق المجنزرة لم ير.. ماذا؟ مخرب مستلقٍ على الشارع واجتاز كل هذه الكمائن والحواجز؟ لا يمكن .. يريد أن ينهي مهمته في الدورية ويعود سريعاً إلى معسكره ليرقص ويسكر وينام بارتياح مبعداً عن نفسه هاجس «المخربين» ومتاعبهم. لم تصل قدم غريبة إلى تلك المنطقة المشيكة والمحصنة بعد..

لم يعرف أحد كم ازدادت نبضات الفسفوري في تلك اللحظات القاسية «أني خائف، خائف جداً» لقد مروا... وعاد أبو غيدا وقص شريط البوت للفسفوري وتابعت الدورية سيرها بعد أن ربط الفسفوري القيطان بالشكل المناسب ليضمن سرعة الكلمة..

«إني تعبان، تعبان، أريد أن أستريح، يا الهي متى نصل؟ الخوف يزيد من التعب، أريد أن أستريح، ما أجمل أن أجلس الآن»..

وراودت خياله لحظات الراحة الممتعة بعد تعب مضنٍ شديد، لقد أحس بها وهو يسير مع الدورية. تعلم هذا الدرس في التدريب، عندما تعطش ضع بحصة في فمك ومصها وعندما تتعب تخيل نفسك في جلسةٍ ممتعةٍ وخرير المياه حولك، وفتاتك الجميلة تشرق قبالتك والمائدة عامرة، فكر أكثر فأكثر.. بأصناف الأكل، بطعم كل صنف.. وهكذا كان للفسفوري كل هذه الخيالات.. كان يرغب أن يعود ليدردش مع أبو كنعان قليلاً حتى يرى حالته هكذا.. لكن هذا ممنوع، نعم ممنوع دعني استمتع بتلك الأضواء القادمة من هناك.

أصبحت أنوار سمخ تسطع أكثر فأكثر والمجموعة تسير باتجاهها «ها هي سمخ» المدينة الفلسطينية التي سمعت عنها الكثير من جارنا أبو العبد. يحدثني كثيراً عن بيته فيها وعن مهنته، لم يعمل في الزراعة بل كان يذهب إلى البحرة ـ إلى بحيرة طبريا ليصطاد السمك هناك، ويعود في المساء حاملاً مونة البيت بعد أن يبيع الجزء الأكبر منه على الشاطئ..

لم يبق من معالمها العربية إلا البيوت الطينية والباقي تحول إلى بنايات فخمة، وأعمدة بعيدة عن المبنى القريب الذي يضج بالموسيقى الصاخبة والصراخ، لقد عرف الفسفوري بهذه الحفلات وهو يمر بالقرب من أماكنها في أحياء الزيتونة في بيروت. لم يجرؤ أن يدخل تلك الأماكن مطلقاً. بل كان يخاف أن يدخلها، ينزل إلى بيروت وفي جيبه على الأكثر عشر ليرات.. ينظر إلى التسعيرةَ وإلى الأفاش الخارجي فيرضي عاطفته الجياشة بالتحديق بصور الراقصات والأجسام شبه العارية ويعود. مرة واحدة تعهد زميله أن يدفع التكاليف ودخل.. لم يكد يجلس قليلاً حتى اقتربت منه وجلست فوراً في حضنه، «لا تبق خجولاً يا جواد.. هنا مرقص وبار ـ خذ راحتك، لا أحد يعرفك هنا...».

ومن أسئلته الساذجة أدركت الراقصة ناديا بأنه زبون جديد.. لكن يبقى أمثال هؤلاء أناس. لقد بكت ناديا، وارته صورتها مع طفليها الصغيرين. «من أين سأعيش، لا مجال للعمل في أجواء بيروت بدون أن تدفع الفتاة الثمن». وصدق جواد وكادت عيناه أن تدمعا، والرقص يضج في القاعة وإلى الطابق الأعلى يصعد وينزل الزبائن.

اطلع يا جواد، تأخرنا، انهي، الآن، دورك «لا لا أريد، دعنا نذهب..».

خرجوا ومازالت عينا ناديا عالقة بالباب وكأنها تتساءل «أما زال يوجد من أمثال هؤلاء في هذا العالم»؟؟

الآن تذكر الفسفوري عيني ناديا، تذكر وقع أقدام الراقصين، تذكر تلك الضحكات المصطنعة من هذه أو تلك لاغراء الشباب، تذكر صديقه وناديا وحياة الرقيق الأبيض التي يحياها هؤلاء الناس. ومازال سابحاً في هذه الأحلام إلى أن سمع همساً في المقدمة.

ـ «عمر، رشيد، أسرعوا هاتوا القوايش ـ بسرعة بسرعة».

لقد سقط عباس في ممر من القاذورات يبدو أنه يصل إلى البحيرة. لم ير موسى إلا الرأس واليدين مرتفعتين تحاولان عبثاً الإمساك بشيء ليقيه الغرق المحتوم.. وبسرعة ربط موسى الكوايش واستطاع بالتعاون مع عمر ورشيد انتشال عباس من موت مؤكد.

لم يتسع الوقت لتبادل التهاني إذ أن ضرورات تقتضي بالإسراع في اجتياز تلك البقعة المكشوفة والمنارة للوصول إلى المكان المظلم ليتمكن عباس من «عصر» ثيابه المبللة بالقاذورات والماء.

صعدت المجموعة الرابية الصغيرة فأطلت طبريا عليهم ببريقها الجذاب وباستلقائها على سفح الجبل كالجوهرة تبتسم للرياح النقية القادمة من الشرق، تمايل خيالها راقصاً على سطح البحيرة الصافية في تلك الساعة من الليل، فارتسمت طبريا أخرى في أعماق الماء وسفن القراصنة تمخر البحيرة شرقاً وغرباً لحمايتها من زوابع الحب الدافئة..

ـ«أين أنت الآن يا أبو العبد ـ أريد أن أراك بزورقك في الماء، أريد أن أناديك ـ تعال يا أبو العبد لترى بحيرتك الجميلة ـ أريد أن أسبح وانتظر صيدك على الشاطئ..».

وضعت المجموعة الصواريخ والقواذف والأسلحة الفردية على الأرض، واستلقوا جميعاً في استراحةٍ رائعةٍ لخمس دقائق، والكل ينظر إلى تلك الهاله الجميلة من الأضواء المشعة قبالتهم، ومياه البحيرة تترقرق على سطحها، وبعض القوارب تجوب البحيرة.. سكون المقابر وأصوات وقع أقدام بدأت تسمع من قريب تتجه إلى مكان الاستراحة ومكان انطلاق الصواريخ المقرر سابقاً..

ـ «من هؤلاء القادمين إلينا؟؟؟» تمتم الجميع في داخلهم وهم يسرعون في التقاط أسلحتهم الفردية موزعين أنفسهم بشكل نصف دائري مستعدين لإطلاق النار..

«إياكم وإطلاق النار ـ إياكم، موسى والفسفوري وعمر استعدوا لإلقاء القبض عليهم إذا داهمونا، اربطوا أفواههم، إياكم وإطلاق النار..».

لقد كان أبو غيدا متوتراً للغاية ماذا؟ الآن؟ بعد أن أطلت عليهم الحبوبة الغالية تفشل الدورية؟ لماذا تسير الأمور هكذا، فقط أمهلونا ربع ساعة نثبت الصواريخ ونرحل، لن نزعجكم أيها القادمون إلينا، فقط خمس عشرة دقيقة ونرحل..

اقترب الشبان أكثر فأكثر حتى بانت ملامح أجسادهم، لقد كانا شاباً وفتاةً يخرجان الآن من المرقص وهما يحتضنان بعضهما البعض، ويهمسان كلاماً غير مفهوم، كلاماً باللغة العبرية، أنهما يتجهان إلى المستعمرة القريبة مستعمرة هاؤون..

في لحظات التوتر القصوى «يشطح» الخيال ويسرح أحياناً ويعود القهقرى أو يسبح في المستقبل. منظر عاشقين يمران على بعد خطوات قليلةٍ، في مواجهة لحظات الموت، ما أجمل أن يحلم الإنسان وما أروع أن يجمع الذكريات ويقتات منها في مواجهة الموت، كل شيء جميل إلا الموت نفسه، لابد وان شاستري قد تذكر هدى، لابد وأن عمر قد تذكر حبيبته في الكويت، ولابد وأن أبو كنعان قد استذكر الشونة وشوارعها وليلى بكوفيتها ووجها الأسمر الناعم..

تحفزت المجموعة للهجوم عليهم بعد أن أخذوا وضع الاستعداد للانقضاض. عباس يعطي الإشارة «انتبهوا.. أياديكم فوراً على الأفواه».«أخ عباس، معي كوفية وأنا كفيل بالفتاة».

همس أبو كنعان بالقرب من عباس. «اخرس يا أبو زفت» همس أبو غيدا المنبطح قربه لم يتلفتوا إلى يسارهم، ظلا يسيران على الخط الترابي المتعرج «رشيد، فسفوري، إلى الصواريخ فوراً جهزوا الصواريخ، انتبهوا».

مر العاشقان بهدوء وبدأت المجموعة المكلفة بترتيب الصواريخ بالعمل وكانت العادة أن تقبل المجموعة الصواريخ قبل الانطلاق. وفي غمرةِ الانفعال والخوف والحماس تم توقيت القواذف وتفجيرها قبل تفجير الصواريخ، كان الفسفوري مكلفاً بترتيب الساعات وتم تدارك الخطر المدمر في اللحظات الأخيرة، وعكست شبكة التفجير.. وحان الوقت الآن للعودة..

لم تفسح الفرصة للفسفوري بأن يسأل الأخ موسى عن أسماء المستعمرات والقرى المنارة...

تلك هي لوبيه قريته الصغيرة التي دمرها الصهاينة بالكامل ولم يبق منها شيء سوى مستعمرة بنيت على أنقاضها، وتلك هي صفد وهذه الحمامات وتلك دجانيا، وغيرها من الأسماء العبرية. طبريا وحدها بقيت تحمل اسمها وحولها مستعمرات وأسماء غريبة، وحدها طبريا بقيت طبريا..

«كل شيء تمام أبو غيدا» قال رشيد وهو ينهي تفقده للمسامير وساعات التوقيت واتجاه الصواريخ الثمانية التي ستنطلق بعد ساعتين تماماً ليتاح للمجموعة الابتعاد عن منطقة تفجير الصواريخ.

ـ«يعطيك العافية رشيد. أخ عباس شرقاً» قالها أبو غيدا والابتسامة تكاد تضحك على وجهه. لقد نجحت المهمة وها هي الصواريخ مستعدة للانطلاق والمجموعة سالمة لم يجرح أو يستشهد أحد. لم يتوقع أن الدورية ستصل بنجاح إلى هذا الحد.. لكن من يدري، طريق العودة طويل ومليء بالمفاجآت أيضاً كما في الدخول.

ـ «أصبحت الإجازة مسوكرة» همس شاستري في أذن الفسفوري الواقف بقربه. الزواج أصبح أكيداً.

أبو كنعان مصمم أن يبقى على قيافته حتى في مثل هذا الوضع، انه ينفض التراب العالق على ثيابه، ويهندم نفسه وجعبته المليئة بأقراص ذخيرة الدكتريوف، ويمر بكلتا يديه على «شنيوره» المتناثر في اتجاهات عدة، وكأنه يأخذ حريته للمرة الأولى بعد أن أرهقه المشط يومياً عشرات المرات في الشونة..

عمر بقي سارحاً، محدقاً في البحيرة بعد أن جهز نفسه للمسير. «لقد وعدتها يا فسفوري بأن أعود إليها بعد فترة التدريب، وها قد مر على وجودي سنة ولا أعرف عنها شيئاً.. مسكينة».

بدأت مسيرة العودة بسرعة مضاعفة وبدأ لهاث الشباب بالتصاعد أكثر فأكثر.. هاهو الشارع الرئيسي وها هي سمخ، وداعاً يا سمخ، إلى اللقاء.. وهنا جاءت المجنزرة وتلك البيارة اختبئوا فيها عندما أنار البروجكتور المنطقة، بسرعة، بسرعة ـ حتى نصل قبل انفجار الصواريخ. الخطوات تتلاحق بما يشبه الركض والجعب تتمايل على الأوساط، والجميع منتصب القامة بعد أن أفرغ الحمولة الثقيلة وشحنوا أنفسهم بطاقة من الراحة وبعض الماء يكفيهم للعودة بدون أن يتذكروا حالة الإرهاق الشديد. «عو، عو، عو» وهرع الجميع في الاتجاه المعاكس للبيارة التي انطلق منها صوت الكلاب، «أكلت هوا» كلاب خصوصية موضوعة بالكمائن أو على حدود المستعمرات كنقاط إنذار مبكر لمرور «المخربين».

اضطرت المجموعة أن تغيّر اتجاه المسير قليلاً، وبدأ موسى يتكلم بصوت مسموع: ـ «لقد أخطأت الطريق يا عباس، انحرفنا كثيراً إلى اليسار» ـ «أنا أعرف الطريق أكثر منك يا موسى، تابع المسير بدون كلام» أجابه عباس وهو يتابع سيره في الاتجاه ذاته. توقف موسى عن المسير إلى أن تبعه أبو غيدا فبادره موسى:

«أنا لا أمشي في هذا الاتجاه. في تلك المنطقة يوجد كمائن للعدو، لا يمكن أن أسير في الاتجاه الخاطئ.

«ليس وقته الآن يا موسى وين عباس ـ شباب لا تتجمعوا نحن مازلنا في الداخل».

وتتابعت الأصوات من المجموعة ـ «يا أخي أنا القائد هنا وعليكم أن...»

ويا للكارثة غير المتوقعة.

رشاش الـ 500 من مسافة لا تبعد ثلاثين متراً بدأ يحصد بالمجموعة وكأنه على موعد معها منذ العبور، هو الكمين الذي أشار إليه الفسفوري في العبور، الكمين بالضوء الأحمر الخافت، إنها مجنزرة ثابتة مُغطاة بالأشجار المحيطة. البروجكتور من هضبة الجولان بدا يضيء المنطقة عندما سمعوا صوت الرصاص.. رصاص.. رصاص.. رصا..

ـ صرخ أبو غيدا: ـ «عباس، عباس». لكن عباس لم يستطع الإجابة إطلاقاً. قفز قفزتين في الهواء وهوى كما تهوي النسور.

ـ «موسى، موسى، موسى، وين تصاوبت؟ موسى، موسى...». لم يكن موسى يبعد عنه سوى خطوة. مد أبو غيدا يده ليتحسس القلب... لكن البحيرة، بحيرة الدم قد طمرت صدره على الفور.. إصابة مباشرة في القلب.

توقفت صلية الرشاش لحظة بسيطة، استدار على أثرها أبو غيدا في انبطاحه.

ـ« رشيد، رشيد، آ، آ، آ، آه..».

أرخى أبو غيدا برأسه على ظهر رشيد وناما بهدوء بعد أن لفظ الحروف الأولى لاسم الـ بي سفن وحامله:« ف. س. فو..».

كانت الساعة تشير إلى الثانية إلاَّ اثنتين وعشرون دقيقة. في تلك اللحظات انطلقت الصواريخ، وفي تلك اللحظات كانت صليات الرشاش تقترب أكثر فأكثر من رأسه، حتى أنه أحس بلهيبها وحرارتها. لم يعرف الفسفوري في تلك اللحظة لماذا رغب أن تصيبه الصلية التالية في رأسه، في رأسه بالضبط وليس في أي مكان آخر ـ لا يريد أن يسمع أنين نفسه، وفي تلك اللحظات بالضبط استجمع قواه ووقف منتصباً بكبرياء وشموخ بدون أن تهتز له أوصال، بدون أدنى خوف. الآن سيطلق القذيفة ولا يهم، ممكن أن يموت قبل أن يطلق القذيفة ولكن الخوف غادره نهائياً، لقد تساوى عنده الموت والحياة، لم يعد يكترث لشيء، قبل قليل من الوقت كان يخاف لمجرد ضوء آت من بعيد، كان يخاف حتى السكران وعشيقته. كان يرتجف. أما الآن فقد رأى أبو غيدا فوق جثة رشيد، ومازالت تتناهى إلى سمعه أناتٌ من الخلف وهو الذي رأى قفزة عباس في الهواء.. الآن، وقد أدرك ضمنياً بأن الجميع قد انتهوا، عليه أن ينتهي أيضاً. ولكن بعد أن يدمر هذا الجسم البشع الذي انطلقت منه صليات الموت والقتل. الآن وقف ووضع الـ بسفن على كتفه وحل زر الأمان وأطلق النار، ضغط على الزناد والرصاص مازال ينهمر بغزارة، ولكن في الاتجاه الآخر والاتجاه نصف الدائري لباقي عناصر الدورية، بعد أن انتهى النصف الأول.. لم ترتجف يداه، لم يتحرك، بل نسي أن يفتح فمه كي لا تصاب طبلة أذنيه.. وكيف لا يصيبها الآن! وكيف يستطيع أن يخطئ الهدف بعد أن رأى بأم عينيه رفاقه يتهاوون أمامه كالنسور..!

لم تشتعل النار في المجنزرة، بل توقف رشاش الـ 500 وعلت أصوات وصراخ مكان إطلاق القذيفة، وأكمل رشاش الدكتيريوف في المؤخرة على المجموعة في المجنزرة..

«إذن أبو كنعان مازال حي يرزق».. لم يستطيع أن ينظر أمامه ليرى الجثث التي تعانق التراب. انبطح ثانية وانتظر لحظات. سمع حركة في الخلف فحرك رشاشه باتجاهها، اشتم رائحة لحم مشوي، ولكن هذه المرة لحم آدمي وليس لحم خراف. لقد أصابت أبو كنعان صلية رشاش حارقة في فخذه «نام هون أريحلك من هالحياة. نام يا هنيالك»..

زحف شاستري بالقرب من الفسفوري: ـ «ماذا، هل مات أبو غيدا ورشيد أيضاً»

ـ«عباس وموسى أيضاً وأنا تصاوبت ـلقد تركت عمر وباقي المجموعة خلفي وقد حملت رشاشين من سلاحهم، لا أستطيع أكثر من هذا».

ـ «علينا ترك المنطقة بسرعة. أبو كنعان هل تستطيع أن تمشي أم تحتاج للمساعدة في المشي؟؟» ـ «فقط خذوا سلاحي، خلوني اتعكز على واحد منكم».

أمامهم خمسون متراً يليها سد من النيران الملتهبة. لقد أصابت صلية رشاش حارقة الخشب المرمي أمامهم ولابد من اجتيازه. لابد من اختراق النار. لا يستطيعون العودة إلى الوراء وإلى اليسار تلال الجولان وإلى اليمين المجنزرة ومن فيها، «ربما لا يزال بعضهم أحياء فيها.لا مجال إلا اختراق سد النار أمامهم..

قبل الانطلاق ألقى الثلاثة نظرات مليئة بمشاعر وعواطف متشابكة وهم لا يصدقون ما يجري أمامهم: قبل لحظات كانوا جميعاً سالمين، لم تعد مسافة طويلة للخروج. ممنوع. ممنوع التفكير طويلاً، دع هذا الآن..

ـ وزحف الثلاثة محملين بأسلحتهم الفردية وبغيرها من أسلحة المجموعة ولم ينسى الثلاثة أن يقبّلوا، وهم يزحفون: عباس، وموسى، وأبو غيدا.. ليس معهم وقت للعودة للوراء لتقبيل باقي المجموعة.. لم يعرف أحد إذا بكى أحد من الثلاثة وهم يقبلون الشهداء. ربما كل يريد أن يثبت رجولته وقدرته وصلابته. ربما بكوا الثلاثة في سرهم. الظلام يستر الدموع، لكن شاستري لم يستطع إلا أن ينتحب وهو يقبل عباس. تركوه لحظة: «دعونا نسرع يا أخواني، ستأتي الدوريات الآن دعونا نسرع».

وتابع الثلاثة زحفهم وبلحظات كالبرق تم اجتياز حاجز اللهب. حتى أبو كنعان المعطلة قدمه عن الحركة استجمع قواه وقفز على قدم واحدة متكئاً على الأخرى كل ثلاث قفزات، استطاع أن يخترق النار ويهوي على الجانب الآخر.

ـ «قلت لك انتظرني ـ أسرعت».

ـ «لا يهم، لم أعد أحس بالألم في قدمي».

«الدليل الأول والثاني استشهدا، قائد الدورية استشهد. لم يعد أحد بيننا يعرف الطريق ما العمل؟؟ تساءل الفسفوري بدا جرح أبو كنعان يبرد، وبدأ الألم، لم يعد يستطيع الثبات في موقع واحد، بدأ يئن آه، آه، قدمي.. آه.. «أبو كنعان، صوتك، اخفض صوتك، مازلنا في الداخل».

ـ«اذهبوا.. اذهبوا واتركوني، سأبقى هنا، لا أستطيع المسير. آه.. آه.. أعطوني قنابل، قنابلكم.. آه»

ـ« لا يمكن، لا يمكن أن نتركك أبو كنعان، ما رأيك يا شاستري ما العمل؟»

ـ« دعنا نسير في هذا الاتجاه»، وأشار بيده شرقاً «ربما نصل إلى النهر».

لقد أدرك الثلاثة بأن وضعهم ميئوس منه. لا أحد يعرف الطريق والليل كالح السواد. لكن الفجر زاحف.. لم يعد وقت طويل نصف ساعة وينبلج الضوء وربما تأتي الآن باقي المجنزرات، لكن الثلاثة لم يطرحوا ابدأ تصورهم، لم يقل أحد أي كلمة، شاستري فقط نطق بما يفكرون به:

«إذا داهمنا أحد سنطلق النار، إياكم والأسر، سنطلق كل مخازننا» وتابعوا المسير حاملين أبو كنعان بينهم تارة بشكل كامل، وتارة أخرى قافزاً على قدم واحدة..

«إلى أين نسير وفي أي اتجاه، ومن قال بأننا نسير في الاتجاه الصحيح؟؟ لكن...»

ـ« لماذا لم نمت نحن أيضاً، لماذا أخطأتني الرصاصة، كانت قريبة جداً من رأسي ـ لماذا ابتعدت؟؟.».

ـ«سيقطعون قدمي، لم أعد كما كنت ـ آه ـ لن أستطيع الزواج من ليلى، آه لقد انتهيت»

ـ « سأعود لك يا هدى، (ولكن من الضمانة)، أني أرغب، أرغب ولكن..«

ـ«شباب، شباب، الشيك، لقد وصلنا، الشيك». نسي أبو كنعان آلمه وصرخ: «الشيك ـ الشيك ـ المقص ـ المقص ـ هل معك المقص يا شاستري».

ـ «لا بقي مع عم».

العودة مستحيلة. لابد أنهم يجوبون المنطقة التي وقع بها الاشتباك.. أربعة اشياك وحقول ألغام.. لا يمكن من المستحيل المرور.

«إدعس على ظهري يا شاستري وتسلق الشيك واقفز» وإذا سقط على لغم في حقل الألغام؟؟

ـ «العبارة ـ العبارة» صرخ أبو كنعان.

ـ «صوتك يا أبو كنعان، اخفض صوتك». حتى أبو كنعان قفز على قدم واحدة وتراكض الثلاثة متناسين حزنهم وتعبهم، ركض الثلاثة واجتازوا العبّارة وكأنهم في سباق. والآن القصيب، شجر القصيب، توارى الثلاثة في شجر القصيب عندما سمعت صليات الرشاشات. لقد بدأ واضحاً الآن أشكال المجنزرات وخوذات راكبيها من جنود العدو. ربما لا زال في المجموعة أناس أحياء. إنهم يطلقون النار على الجثث الميتة، انهم يقتلونهم مرة أخرى. لا يكفي أن يموت الفدائي مرة واحدة. يخافون منه وهو ميت، يميتونه مرة أخرى...

أصوات الرشاشات مازالت تسمع وقذائف هاون تنفجر.. الثلاثة ينظرون إلى بعضهم البعض وهم يتقوقعون في منحدر مليء بشجر القُصّيب، والماء فيه حوالي نصف متر، لقد فاجأهم قصف المدافع وصوت القذائف.

«اعتقد بأن هذه القذائف من مجموعات الحماية من طرفنا «أنهم يرمون تخليص أرواح. لقد طلع الفجر ولم يعد أحد منا ورأوا العدو في نفس منطقة الاشتباك. يستطيعون أن يروا المنطقة من تلال العدسية. أنها تشرف مباشرة على ميدان المعركة؟»

ـ «ألا يكفيهم الرصاص المستقر في أجسادهم، أيضاً بقذائفنا؟؟» أجاب أبو كنعان مقاطعاً شاستري.

ـ «لقد ماتوا مرة واحدة يا فسفوري» أجابه أبو كنعان وهو يحرك قدمه الجريحة كي يتقي الفروع المتناثرة لشجيرات القصيب  «لا داعي للتألم، أتصور بأن كلابهم ستلاحق الأثر الآن، إننا في وضع خطر ـ دعونا نجتاز النهر، لا نتمكن في هذه المنطقة من المقاومة؟»

ـ «لكن النهر مكشوف لمراقبتهم، والآن عيونهم عشرة على عشرة والساعة الخامسة صباحاً. يستطيعون أن يرونا مباشرة ونحن نجتاز النهر، ثم أمامنا مسافة طويلة حتى نصل إلى البيارات يا أبو كنعان، سنموت بدون ثمن ان نحن غامرنا باجتياز النهر الآن ـ دعنا ننتظر ـ».

 «لو لم أكن جريحاً لاجتزت النهر وحدي. لن أسلمهم نفسي هنا، إنكم مجانين، سيصلون إليكم أنهم الآن يمشطون القّصيب، قلت يلعن اللي يقبل رأيكم شو مجنون»..

«المهم أن لا تصل كلابهم لعندنا» أجابه شاستري وهو يخبئ رأسه، ينزله أكثر فأكثر. لقد اجتمع الثلاثة وكأنهم في حفرة واحدة والتحموا بعضهم ببعض.. إنها غريزة حب البقاء، غريزة الدفاع عن النفس حتى الرمق الأخير. الثلاثة جدد في فن الحرب ومصاعب القتال وأهواله.. في هذه اللحظات اشتموا مرة أخرى رائحة اللحم المشوي، اضطر الفسفوري أن ينظر إلى تحت. يختبئ من الرصاص ليواجه آثار الرصاص، «ثبت قدمك يا أبو كنعان حتى اربط لك الجرح» لقد اصبح أميناً أكثر الآن وهو يضمد الجرح، وشاستري يكم فمه عندما يئن من الوجع.

ابتعدت صليات الرشاش واقتربت صليات أخرى وأصوات بالعبرية تسمع وتختفي..

ازداد الثلاثة التصاقاً ببعضهم، لم يجرؤ أحد أن يبتعد عن الآخرين. ألف باء التدريب الانتشار إذا فاجأكم كمين «ولكن أمام الموت المحتم، أمام الرصاص تبقى غريزة حب البقاء.. وخصوصاً الآن، الآن بعد أن أصبح الخروج سهلاً، الآن بعد أن ودعوا باقي زملائهم على أرض المعركة أي حركة تكلف الإنسان حياته. في هذه اللحظات تتغير أشياء كثيرة في نفس الإنسان ـ «يا رب، نجينا» همس شاستري بصوت خافت بالرغم من تأثره العميق بالاشتراكية العلمية وبعدم إيمانه بالقوى الغيبية. الآن الوضع يختلف أمام الموت.

لقد وصلت دورية الأعداء إلى باب العبارة برفقة كلبهم ورشقوا الصليات الطويلة في الاتجاه الآخر للعبارة لكن الرؤوس كانت دون الرصاص.

« أطلقوا ما شئتم لن أرد عليكم ولن أموت» تمتم أبو كنعان والسخام والطين ينهال على رأسه من رأس المنحدر المختبئين خلفه. توقف إطلاق النار حوالي السابعة، وفتح الشباب في الشونة الراديوهات في انتظار نشرة الأخبار الصباحية من راديو العدو بجمع العمال في الشونة ولم يتحرك أحد للعمل. السيارات العسكرية تنتقل وبعض المجموعات تأتي وتذهب.. «خير إن شاء الله يا شباب، شو في، شو صار؟».«خير إنشاء الله خير لم نعرف شيئاً حتى الآن». وفي السابعة والنصف فتحت الراديوهات وتجمع العمال لسماع نشرة الأنباء.

«تمكن المخربون من قصف طبريا ومنطقة الحمامات بالصواريخ الثقيلة، كاتيوشا، الخسائر المادية طفيفة. لكن دورياتنا تمكنت من القضاء على المجموعة وهي في طريق العودة. لم تقع بين قواتنا أية خسائر بالأرواح».

ترك الجميع المذياع وهم في حال ذهول ودهشة شديدين. لقد بكت بعض النسوة. «يا حسرتي عالشباب» بدأت النسوة والرجال بالاتجاه إلى مقر القاعدة. لقد تجمعوا هكذا، بعد أن تركوا عدتهم أمام المقهى وهم يستفسرون من الحارس في القاعدة عن المجموعة.

الساعة العاشرة والنصف: من راديو العدو «تمكنت دورياتنا من التعرف على شخصية أحد المخربين ويدعى عباس. لقد هرب من عدالة الدولة سنوات طويلة والآن لقي جزاءه الطبيعي.

ـ «عباس ـ عباس يا أخواني معهم عباس مات، عباس مات يا جماعة». بكى البعض، والبعض مازال شارداً «أكيد موسى معه، أكيد، الاثنان تغيبا عن العمل لأكثر من أسبوعين، الله يرحمك يا عباس ويا موسى».

لم يحدد العدو العدد. لقد أبقى ضابط العمليات مجموعة بالقرب من مخاضة العبور: «ربما مازال بينهم أحياء. ابقوا هنا وستبحث مجموعة أخرى في البيارات المجاورة والباقي إلى القاعدة، سنعد لهم ضربة أخرى وأخرى هؤلاء الأوغاد».

لم تكن النتيجة مفاجئة كثيراً لضابط العمليات. كان يتوقع أن لا تصل المجموعة، ولكنها وصلت وها هو راديو العدو يعترف. لا أحد رجع؟ خبرة عناصر الاستطلاع؟ كيف؟ لماذا؟

كانت الدموع تترقرق في عيني ضابط العمليات. وهو يهم بدخول سيارته استعداداً للذهاب إلى اربد... عملية ناجحة لكن خسارة باهظة.

أصبحت الساعة الثانية عشر والفسفوري وشاستري وأبو كنعان على نفس الحالة التي كانوا فيها، لم يعد ثمة أية رصاصة تطلق، لكنهم مازالوا في الحفرة نفسها والمياه تغمرهم حتى الركب. أينما تحركوا المياه نفسها، وربما يغرقون نهائياً إذا ابتعدوا عن هذا المكان. الأفضل لنا أن نبقى على حالنا.. بانتظار المساء «لكن كيف سنعبر النهر فأنا لا أعرف السباحة» ـ ولا أنا «أجاب شاستري» وأبو كنعان يريد من يحمله ولقد تفاقم اثر الجرح وأصبح لا يستطيع الحركة الآن نهائياً قدم واحدة فقط يحمل عليها.

بقيت هذه الأسئلة معلقة بانتظار المساء.«أليس النوم رائعاً الآن ـ النوم على الواقف والحلم جميل؟؟ دعني أمارسه...». لكن رغم التعب الشديد والإرهاق المضني والطين والسخام والماء وبرد الثياب المبللة بقي الثلاثة مُتَيَقظين

الفسفوري يحدق بصفحة الماء من خلال شجيرات القصيب، حدّق طويلاً، طويلاً قادته الذكرى، إلى اليوم قبل الأخير في مخيمه «لو كان معي سلاح هل يتجرَّأ هذا القذر ـ حارس الليل ـ أن يضربني، هل يتجرؤون باستدعائنا لأي شيء وكيفما كان؟.. ربما مات والدي، من سيطعم الصغار في البيت؟ الثورة ستساعدني. ماذا سأعمل إن بقيت أعمل طول العمر بالثلاث ليرات أو الخمسة ماذا بعد ذلك؟ سأبقى أسير هذه الحياة الضيقة المفرغة من الحياة مدى الحياة. وإذا لم تساعدك الثورة، إذا توفي أبوك ماذا ستفعل؟؟».

يكبر رأسه مرتين أو ثلاثة وهو يتساءل، وتتصادم في نفسه تيارات مختلفة. تارة تدفعه باتجاه الثورة، وتارة بالاتجاه المعاكس.«ما هذا العالم الذي أنا فيه الآن؟ انظر إلى ما حدث مات أشخاص في لحظات. زرت بلدي بعد انقطاع مدى العمر ـ ها أنا الآن أحمل سلاحي ومعي جريح ومن الممكن أن أقع في الأسر الآن. في الأسر لا لا. سأطلق كل الرصاصات وسأحتفظ بالطلقة الأخيرة في جيبي» نظر للحظات إلى رشاشه. المخازن كثيرة، الطلقات كثيرة، لا يهم. لن أقع في الأسر أبداً.وإن وقعت؟».

عندما تشتد الأسئلة تصعد إلى رأسه حمى شديدة يحس بحرارتها تسري في عروقه وفي دمه وفي شرايين جبهته ورأسه: «لماذا أسأل دائماً، هل لزاماً علي أن أجيب عن كل الأسئلة؟ سأصلي الآن، سأصلي ركعتين على الواقف وسأردد آيات من القرآن».

انتهى الفسفوري من صلاته ليعقبها هدوء عميق مسكر بوعود رائعة «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون» ولم يعرف لماذا تذكر حديث الرسول «صلعم» حول الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر ـ عاد الرسول من المعركة وقال «انتهينا من الجهاد الأصغر والآن جهاد البيت، جهاد العائلة».

«يا الهي هل أفضل لو بقيت في بيتي ويكون ذلك الجهاد الأكبر؟ هل تراني قد هربت من عبء الحياة اليومية للكدح اليومي والشقاء إلى عمل مجهول لا أعرف عنه شيئاً؟؟ لأمارس الثورة كما أنا الآن؟ ماذا لو أصابتني تلك الرصاصات المتتالية وأنا خلف أبو غيدا ـ هل كنت انتهيت؟؟».

وكالعادة، عندما يواجه السؤال الصعب يبحث ليطرح تساؤلاً آخر: ـ «سليم».. لمعت عينا سليم، صديقه عامل الباطون الذي مات وهو يأتيه بالدكتور،«سليم، من سيطعم أولاده؟ من سيساعده ثم لقد كان يعمل بمحض إرادته ـ أب لأكثر من نصف دزينة من الأولاد، كيف سيعيشون؟ ستعمل الأم حتماً في الزراعة والبنت أيضاً، ستترك المدرسة».

ـ «لماذا، لماذا، أخطأتني الرصاصات؟ كان أملي أن أدخل الأرض وأقتل ولو جندياً واحداً وأموت بعدها..» أعادته هذه الأفكار إلى أبو كنعان وشاستري، الساعة لا تتحرك، عقرب الساعات يمشي ببطء السلحفاة المطاردة بالموت.« شاستري ـ وين سارح، ها...؟»

ـ«أفكر بمن أدعو إلى حفلة الزواج، كيف سأتزوج؟ والدي ووالدتي في الداخل، مخصصي عشرة دنانير، أين سأسكن، هذا ما يشغلني يا فسفوري. سأذهب فوراً غداً صباحاً إلى عمان أخاف أن تكون هدى قد تغيرت...».

« يا الهي» تمتم فسفوري... بماذا يفكر في هذه اللحظة، لقد نسي رفاقه الذين استشهدوا قبل ساعات. نسي أنه محاصر الآن ومعرض للأسر بل للموت إذا داهمتهم أية دورية، أهذه هي الحياة «ادفنوا أمواتكم وتابعوا؟؟؟».

قطع صوت طائرة الهيلكوبتر حوارهما الهادئ والهامس، جفل أبو كنعان من غفوته وهم بالتقاط سلاحه للانتشار، للاختباء في مكان ما يحميه من الطيران، لكن وجود رفيقة بقربه هدأه قليلاً.

ـ «ما هذا، أين نحن الآن، أما زلنا هنا؟»

فرك عينيه ونظر إلى قدمه ولكن أزاح النظر عنها فوراً، لا يريد أن يتذكر الجرح بعد أن نسيه للحظات غفا فيها وحلم أحلاماً جميلة، حلم بسعاد بشفتيها المكتنزتين المتعطشتين، حلم بها وهو يحتضنها ويضمها إلى صدره بقوة ويغفو وهو يداعب وجنتيها مسرحاً النظر في عينيها الحالمتين.. لعن الله الطيران، ألم يكفنا ما حل بنا؟

حامت طائرة الهيلوكبتر بمحاذاة النهر مرة، مرتين، ثلاثة، أربعة، كانوا يرونها من خلال أغصان القصيب. لقد احنوا أكثر من عشر شجيرات حتى يحفظوا أنفسهم جيداً.

«وماذا لو أنزلوا مظليين الآن؟؟»

ـ «وما حاجتهم إلى مظليين؟ يستطيعون أن يصلوا إلينا بسهولة، عشرين متر يبعدون عنا ما حاجتهم إلى الطيران أولاد الكيت كيت..»

غادرت الطائرة المكان وعاد الثلاثة إلى يقظتهم بعد أن حلموا كثيراً في هذا الوقت القصير. وهناك في الشونة وفي اربد وفي الصحف كتبوا بخطوط عريضة وبرأس الصفحة الأولى أخبار الهجوم الكبير. كبير لأنه الأول من نوعه في الوصول إلى عمق أرضنا المحتلة. بماذا؟ «بصواريخ الكاتيوشا». لقد وقعت خسارة في صفوف قواتنا وسنوافيكم بالأخبار لاحقاً.

كانت القاعدة مقراً للاستفسار والتساؤلات المختلفة من المدنيين والعسكريين.

والدة موسى تنتحب فيأتي شاب من القاعدة ويساعدها للدخول إلى القاعدة مطمئناً «يا والدتي، لم نعرف بعد من استشهد ومن بقي حيا، أنت تعرفين أن العدو يكذب ولكن، لكن قالوا عن عباس». «عباس حبيبي عباس ابني عباس، كانوا مع بعض، لم يتركوا بعض موسى وعباس ـ عاشوا مع بعض وماتوا مع بعض، الله يجازيهم»، «توكلي على الله يا أمي» ـ الساعة تقترب من الخامسة مساء. بدأت الحياة تدب في المجموعة الثلاثية، دعونا نتحرك يا شباب، حتى نصل باكراً إلى القاعدة.

«هذا إذا استطعنا عبور النهر»أجاب أبو كنعان وهو يعض على شفتيه من الألم عندما حرك قدمه بعد أن بقي على حاله ساعات طويلة..».

تحرك شجر القصيب، وفي أعقاب كل فرقعة كان الثلاثة ينصتون ليسمعوا ردود الفعل.

«ربما كانوا قريبين منا». مشوا خمسة أمتار بصعوبة وبوقت طويل، نصف ساعة لاجتياز الخمسة أمتار حتى استطاعوا أن يضبطوا وضع أبو كنعان، وكيفية حمله وبعد أن حملوا هم ما تبقى من الأسلحة، ثلاثة رشاشات وسلاح أبو كنعان وجعبته، وعندما يكاد أبو كنعان يصرخ يضع شاستري يده فوراً على فمه حتى تزول موجة الألم الناتجة عن الحركة.

«أفضل شيء أن نحمله على أكتافنا، دع رجلك كما هي أبو كنعان، ولا تدوس على القدم الأخرى». لقد بدا وجهه كالليمونة الصفراء، كالنفاس برغم الأوساخ والسخام الذي يلطخ رأسه وثيابه. لكن اقتراب موعد الخروج أحياه، بث فيه الحياة بالرغم من حالته الصعبة.

ها هو النهر يمتد أمامهم بموجاته المتقلبة وبالرطوبة التي تفوح من حوله لترسم على الشفاه ابتسامة الخلاص. لكن الآن كيف يدخلونه من أين؟ أين هي المخاضة؟ إذا ابتعدوا قليلاً ماتوا الثلاثة دفعة واحدة، كيف؟ غرقاً. نعم غرقا.ً بعد كل ما حصل لهم. النهر لن تقهره البنادق. شبك الثلاثة أيديهم ومد الفسفوري قدمه أولاً وتبعه أبو كنعان محمولاً ولحقه شاستري. خطوة، خطوتان ثلاثة.. الماء غزير والموج يشتد، تلك هي الضفة الأخرى، «عشرة أمتار فقط ونصل إلى الشاطئ من الناحية الأخرى، نعيش مرة أخرى، نعم، عشرة أمتار فقط تعقبها حياة أخرى».

طوال النهار بقوا بدون طعام حتى الماء الذي داسوا فيه شربوه بعد أن أغمضوا أعينهم، لابد من شرب الماء الوسخ، الماء لذيذ جداً انه الطعام اللذيذ في غياب الطعام.

ولكن الآن عندما كانوا على طرف النهر شربوا ماء نقياً، شربوه بشراهة، وسقوا أبا كنعان بكفة اليد، عندما أصبح الماء يغمرهم حتى الركب..«الماء سيتسرب إلى الجرح، اضبط أعصابك يا أبو كنعان..» الخطوة الخامسة والسادسة، تحركت الحجارة تحت أقدام الفسفوري فدفعته الموجة بشدة وراح يتماوج في الماء تاركاً شاستري وأبو كنعان يتأرجحان إلى الأمام وإلى الوراء إلى أن رجعوا إلى الشط ثانية وهم ينظرون بخوف وهلع إلى الموجات المتتابعة والفسفوري يصارع الموج..

لقد غاب عندما انحرفت الماء على الزاوية، بقيت عيونهم شاخصة محدقة في اتجاه الموج، في النهر، وقد أدرك كلاهما أنهما لابد هالكان. لقد تبخرت أحلامهما بالنجاة وها هما يواجهان الموت مرة أخرى.

«من هناك؟؟» وسحب شاستري الأقسام تاركاً أبو كنعان منبطحاً على الشاطئ واختفى هو خلف بعض الحجارة بالقرب منه... «أنا، أنا الفسفوري يا شاستري» أجابه وهو يخفض صوته وينظر إلى يساره متوقعاً رصاصات العدو تنطلق.

«يا الهي هل أنت حي» همس شاستري بعد أن خفض بندقيته وأسرع لمعانقة الفسفوري الخارج كالفأر المبلل من الماء..

«لقد قذفتني الموجه إلى الشاطئ مرة أخرى بعد أن رميت الـ ب 7 والبنادق، كدت أغرق من ثقل القطع وقد بلعت كمية من الماء«  ونظر إلى أبو كنعان: «كيف حالك أبو كنعان، اعذرني يا أبو كنعان..»

ـ «الحمد لله على السلامة يا شيخ، مليح اللي رجعت، كنا متنا جميعاً».

هدأ الثلاثة وأصبحت الساعة السادسة والربع ـ لابد من أن تجتاز النهر اليوم، لم يعد باستطاعتي الوقوف من الجوع.

دعنا نجرب مرة أخرى ولكن هذه المرة لن يفلت أحد منا مطلقاً..

«حظات وينتهي الإنسان تلك هي تجارب القتال الصعب لو كان عباس أو موسى معنا»، قالها شاستري هو يحمل أبو كنعان مرة أخرى ويسير الثلاثة مرة أخرى في الماء.

الخطوات تتلاحق، الرابعة، الخامسة، السادسة، الآن هم في المنتصف، في منتصف النهر والمياه تغمرهم فوق الوسط، وأبو كنعان يدمي شفته وهو يعض عليها من آلام ملامسة الماء لجرحه البليغ. لقد قالوا بأنه جبار وقت الشدائد، نعم انه جبار، عيناه تغرورقان بالدموع وهو في منتصف النهر ولا يسمع منه سوى آ.. آ.. آه، بعد أن يكبت نفسه طويلاً.

الماء هادئ في المنتصف، ليس كما على الشاطئ ـ «لكن ماذا لو أطلقوا النار علينا الآن ونحن في المنتصف بهكذا وضع.. إلى الأمام.. الماء يصل إلى الصدر إلى الأمام، إلى الأمام، لن نعود هذه المرة طالما نحن واقفون، لم يعد الموج قريباً».

وبدا الماء بالانحسار مرة أخرى، بدأت الحياة بالعودة مرة أخرى، إلى البطن، إلى الوسط، إلى الركبة، إلى الأمام، إلى الأمام.. ها... ها.. ها كادوا أن ينزلوا أبو كنعان في الماء لشدة فرحتهم وهم يطئون شاطئ النهر من الناحية الأخرى.

لقد أصبحت النجاة في اليد.

«شباب انهضوا، مازلنا أمامهم، دعونا نختبئ، إلى البيارة، إلى البيارة فقط، ثلاثون متراً، شباب».

ونهض الثلاثة مترنحين لكنهم فرحون حاملين أبو كنعان وسطهم وعيناه غائرتان والاصفرار يزداد، فأصبح يلوح، ويميل كيفما كان، «انه جريح ويحتمل أما نحن».

كان يمدهم بعزيمة لا تقاوم، الطعام عنصر مهم، لكن يبدو أن للإرادة قوةً خارقةً. للإرادة طعم آخر غير مذاق الطعام، للإرادة قوة مادية كالطعام «إلى الأمام، إلى الأمام قف من هناك؟؟؟»

وسقط أبو كنعان على الأرض ـ هكذا لاوياً قدمه ضارباً برأسه على الأرض بعد أن تركه الفسفوري وشاستري ليأخذا وضع الانبطاح..

«آ ، آ ، آ ، آخ، صرخ أبو كنعان ـ رجلي، رأسي، آ آ آ خ»

ـ «جماعتنا يا أخوان، جماعتنا» هدر صوت الفسفوري، سمع شاستري والفسفوري وقع أقدام تركض باتجاههم لم يكن مع الفسفوري سوى يديه للمقاومة ومع شاستري السلاح وأبو كنعان بالقرب منهم فاقد الوعي على اثر ارتطامه بالأرض.. رغبوا أن يبقوا هكذا بوضع الانبطاح إلى صباح اليوم التالي، رغبوا أن يناموا نوماً عميقاً، رغبوا أن يتركهم الشباب بنومتهم ورقادهم العميق.

«لكن، هل صحيح، جماعتنا، يا فسفوري؟؟» تساءل شاستري..

السيارة حوالي الكيلو متر عن موقع الكمين، حملوا أبو كنعان وهموا بحمل الفسفوري وشاستري «لا.. لا.. سنسير معكم، اهتمّوا بقدم أبو كنعان، إلى المستشفى فوراً يا إخوان».. وانطلقت السيارة وانطلق الغناء من راديو صوت العاصفة لينشد معه الجميع.

حين يصيح لبروقي ما في عوقي.

كلاشنكوف يسابقني يطير من شوقي

والشوق يايا يما بسلاح داوي

بإيدي شد من ليلي خيط جروحي.

llll

الفصل الرابع
في المستشفى العسكري
الساعة
تشير إلى الخامسة صباحاً، في المستشفى في إربد. ما زال أبو كنعان فاقد الوعي، اتخذ الأطباء القرار الصعب ببتر الساق. و إلا ستنتقل العدوى إلى الأخرى. قرار لا بد من استشارته، أو استشارة أقاربه، ولكن ليس عنده أي قريب. أهله كلهم بعيدون عنه متوزعون في داخل الأرض وفي الغربة. ضابط العمليات جمال زاره مساءاً، وأعلم بقرار الأطباء في غرفة العمليات.

ـ لا توجد أي وسيلة أخرى لمنعها؟

ـ لا، لا يمكن، لقد تأخر بعض الوقت، لو وصل فوراً لكان من الممكن إنقاذه.. أما الآن؟؟

ـ هذا صعب، لكن المهم حياته، ذلك هو اختصاصكم، ولا يمكننا أن نعترض... هذا ما قاله جمال...

بُترت الساق، وبقي أبو كنعان مخدراً إلى صباح اليوم التالي، لم يصح على شيء، كان عالمه هادئاً لا يعكر صفوه أي شيء. لا صوت قذائف ولا صليات الرشاشات ولا دماء، ولا ذكرى، حتى ليلى ابتعدت عن مخيلته. لقد أحبها بشكل جنوني، لن يمر وقته بسلام إلا برؤيتها وهي عائدة من الحقل. لقد خالف كثيراً قرارات الدوام في القاعدة حتى تسنح له الفرصة بملاقاتها وتكحيل عينيه بنظرة سريعة بعينيها الواسعتين المكحلتين بشكل طبيعي و الحالمتين دائماً بشيء لم يتأكد منه هو أبدا. مضى وقت على استشهاد حبيبها السابق فارس ولا أحد يعرف من يسكن قلبها الصغير. أما زال فارس أم أنها بدأت تنسى؟ هل قانون الحياة سينتصر في قلبها وتحيا الحياة؟

أبو كنعان نفسه لم يعرف هذا. فقط كانت تبتسم له. ومرة التقيا صدفة وبشكل مفاجئ، وظلّت تبطئ الخطوات، احمرّت وجنتاها السمراوات، وارتبك أبو كنعان لحظاتٍ وظلتّ آثار الخجل والاحمرار، لأكثر من ساعة على الوجنات. حتى كلمة صباح الخير لم يقلها أي منهما للآخر.

اتخذت القاعدة قرارها مرة أن يعمل البعض في الزراعة وتتابع باقي المجموعة مهمتها في الحراسة كي يستطيعوا شراء الطعام بعد أن حاصرتهم قوات من الجيشلأكثر من أسبوع. ومنعت عنهم الطعام من اربد. كان أبو كنعان أول المتحمسين للعمل رغم تقصيره الشديد بأداء ابسط المهمات في القاعدة، يحمل (الطورية) ويغني

بحبك يا اسمر من السهر لافي...

حيد عن دربي وقلي عوافي...

يللا نتلاقى تحت الصفصافي...

ونعيش العمر وياك محبوبي...

كان متأكداً أن صوته يصلها، لم تكن بعيدةً، كانت في الحواكير القريبة من البيارة التي يعمل فيها.

كانت تسمع الصوت فتنظر إليها زميلاتها في العمل، وتعرف هي السبب. ولكن أليس عيبا أن تحب وتنسى حب فارس؟؟؟

وقررت المجازفةَ مرةً. أشار لها من إحدى الغرف الفارغة في القريةَ وأتت بعد تردد شديد. ضمها إلى صدره برقةٍ في البداية ، وما لبثت الأيدي أن شَدت الطوق وكأنه يرد جزءا من نفسه يحاول الهرب منه، ربما غير أغنية شدو الطوق قائلاً ـ شدو الطوق شدو الطوقشدو الطوق.... كل ماحبيبي بايدي راسي لفوق.... قبلها بعنف وتركت ليلى شفتيها بين شفتيه بارتياح وبهدوء، عيناها تتسع وتضيق لتشارف على الإغفاء، وبعدها رمت رأسها على صدره وبكت، بكت وبصمت وهدوء ـ مالك ليلى؟

تركته بسرعة وعادت.

ربما يحلم الآن بتلك القبلة، قبل أن يصحو ...

«لا، لا رجلي أين رجلي؟»

جاءت الممرضات على صوت الصرخة القوية، فتحن الباب بسرعةٍ خائفاتٍ في البداية، لكن عماد الطوباسي، زميله في نفس الغرفة هدأ من خوفهن ـ

ـ «لقد استيقظ الآن، اتركوه»

وأشار بيده إلى الممرضات بالخروج من الغرفة.

غفا أبو كنعان مرة أخرى. كان يرغب من الأعماق أن يكون ما رآه حلماً وليس حقيقة، لقد أغمض عينيه مرةً أخرى وأراد أن يقنع نفسه بأنه يحلم. يحلم حلماً مزعجاً بان قدمه مقطوعة، لكن استيقظ مرة أخرى، أنها الحقيقة، برادي الشبابيك، ميزان حرارة، سرير ابيض بقربه ينام عليه شخص له راس حقيقي ويدان مضمدتان، ثم انه ينظر إليه مبتسماً.

ـ «أين أنا، فسفوري، أبو غيدا، شاستري، قدمي؟». أجابه الطوباسي. لكن أبو كنعان لم يسمع صوتاً، نظر مرة أخرى من فوق الشرشف، قدم تمتد إلى نهاية السرير وقدم أخرى قصيرة، قصيرة جداً.

بقيت عيناه جاحظتان لدقائق معدودة، أيصرخ مرة أخرى؟ أيبكي؟

مد يده إلى الساق المقطوعة وأدرك أن الانتفاخ هي فراغ، نعم فراغ

ـ «الحمد لله على السلامة يا أخ، مليح اللي هيك ولا غير هيك، كان متوقعاً أن يقطعوا لك قدمك الثانية لو تأخرت قليلاً».

سمع الكلمات بشكل واضح هذه المرة، سمع الحقيقة بشكل كامل.

ـ «انظر إلى يداي، لقد قطعوهما الاثنتين، احمد ربك يا أخ، أنت تستطيع أن تقضي كل حاجاتك لكن أنا؟»

نظر أبو كنعان إلى كل زوايا الغرفة، إلى المصل، المعلق له، إلى الشباك، إلى الباب وهو يفتح لتدخل إحدى الممرضات بابتسامة مهذبة مرتبكة وخائفة.

ـ« كيف حالك يا أخ؟ الحمد لله على السلامة» .

قالتها الممرضة وهي تقترب من السرير بحذر، وهي ترمق وجهه الأصفر وعيناه الواسعتان المحدقتان في الأشياء، وكأنه يراها للمرة الأولى. أصابع يديه ترتجف، ترتعش.

لم يجب عن السؤال، بقي صامتاً.

دخل الشباب الساعة العاشرة إلى غرفته: الفسفوري، شاستري يتقدمان المجموعة، باقة ورد حمراء تقدمت المجموعة وهي تستحث الخطى لمعانقة المحبوب أبو كنعان.

بكى لاول مرة وهم يعانقونه، حتى الفسفوري وشاستري اغرورقت عيناهما بالدموع.

وأخفوها بالنظر إلى الأخ عماد على السرير المجاور مستفسرين عن حالته.

ـ «زي ما انتوا شايفين يا أخوان».

عندما مد يده للمصافحة، لم تكن هنالك كف، كتلة من اللحم واليد الأخرى كذلك،

ـ «كيف حالك أبو كنعان؟؟»

ـ «آه هيك صار، لو استشهدت مع المجموعة لكان أفضل.»

ـ «لا تقل هذا يا أبو كنعان»، أجابه شاستري «نحن بحاجة لك، الحمد لله على السلامة».

لقد خجل شاستري من نفسه، يريد أن يدعوه للعرس لكن الآن ؟ ؟ لقد عاهده ابو كنعان بان يغني له ويرقص «حتى تنقلب الأرض فوقاني تحتاني» لكن ...

ـ باقة الورد هذه من ليلى (همس الفسفوري بإذن أبو كنعان) وفي قلبها رسالة «ممكن أن تزورك غداً أو بعده».

ابتسم أبو كنعان قليلاً، من عادته أن يقهقه ويصهل كالجواد في الضحك، وأحيانا تمتد ضحكته طويلاً مثل «كر السناسل»، لكن الآن اكتفى بالابتسامة وبدأ يتقبل وضعه الجديد.

ـ الله يساعده على وضعه ـ.

مرت على المستشفى حالات متعددة بإصابات مختلفة جعلت أبو كنعان يكبر أكثر من عمره - ثلاثة وعشرين سنة- لكنه الآن اكبر بكثير. ترددت ليلى على المستشفى، قبلته في البداية وخرجت من الغرفة، بكت كثيراً وهي خارج الغرفة، لكنها عادت بعد أن أقنعت نفسها بضرورة ضبط أعصابها.

ـ« كيف حالك، بسيطة وفي نفسها تردد: ـ يا إلهي، لماذا حظي هكذا، الأول مات وها هو الثاني بقدم مقطوعة ـ لكني أحبه كنت أتمناه أن يكون بقدمين».

راودتها الأحلام الطويلة والمعلقة، هل ستعرض عليه الزواج في هذه الحالة؟ ماذا ستفعل؟

«هل يتقبل الأهل هذه الوضعية لرجل أعرج؟»

ـ «ليلى، أرجو أن لا أسبب لك الإحراج، خذي راحتك، أنت حرة، والأفضل.....»

ـ «لا يا ابو كنعان.. لا....»

قطعت كلماته، ولكنها لم تكمل كلماتها هي أيضا، كانا قد تواعدا في الفترة الأخيرة على الخطوبة لكن بعد مرور السنة على استشهاد فارس خوفاً من القيل والقال».

وفي الليل يتسامر الطوباسي وابو كنعان، كل يروي للآخر حكايته. لكن نوع العمليات التي شارك بها الطوباسي كانت من نمط مختلف، مليئة بالمفاجآت، بلهجته اللبنانية يروي الطوباسي لأبي كنعان حادثة قطع يديه: ـ

«جاءنا الأمر بنقل صواريخ «فتح» إلى الداخل، إلى طوباس» ـ «من اجل هذا سموك الطوباسي؟؟»

ـ «نعم يا أبو كنعان». أحس أبو كنعان بإكبار لهذا الأخ اللبناني الذي يشاركه حياته وقضيته وثورته. وتابع الطوباسي كلامه: ـ عبرنا النهر وكنا مجموعتين، مجموعة تحمل الصواريخ ومجموعة تحمل القذائف. لم نمش لنصف ساعة حتى تساقطت من حولنا القذائف»

ـ« كشفوكم؟.»

ـ «لا، لقد كان القصف من الضفة الشرقية من تنظيم آخر لم يعرف بعبورها من نفس المنطقة عندما كنا ندخل بدوريةٍ إلى العمق كانت الأوامر مشددة بان نبقي الخبر سراً ولا نطلع عليه أحداً. المهم أن أحدا لم يجرح، لكن الكمائن المتواجدة في المنطقة قد استنفرت نتيجة القصف وهكذا وقعت المفاجأة كما وقعت معكم».

ـ«يبدو أننا على اتفاق مسبق ها؟؟ وضحك أبو كنعان ـ يبدوا هكذا، الله يلعن الحظ الوسخ المهم أننا وجدنا أنفسنا بين أكثر من كمين وهم يطلقون النار، لم يصب في البداية احد، أطلق العدو إشارات التنوير وسقطت أحداها على مقدمة الصاروخ الذي احمله على ظهري».

كانت عيناه تلمع وهو يروي تفاصيل الحادثة ويحرك يديه وكأنها مازالت متكاملة، يمج السيجارة وينفخ الدخان مراقباً إياه في تصاعده الحلزوني بعينيه الواسعتين اللتين تشكلان علامة مميزة في وجهه الضامر والضعيف وفمه الرقيق وشعر شواربه البازغ لتوه. صار له شاربان نحيفان، لكن في نظراته رجولة وعلى لسانه كلمات جديدة، نارية مليئة بالدفء والصدق. ـ« وهل انفجر الصاروخ ؟»

ـ «لم ينفجر وأنا أمامك حي؟ لا لقد اشتعل الشحم الذي على راس الصاروخ، أحسست بالحرارة هنا «أشار بيده على مؤخرة رأسه المحروقة والتي أصبحت امتداداً لرقبته حيث بقيت تلك البقعة بدون شعر بعد أن احترقت جلدة الرأس».

ـ «المهم شو بدك بطول السيرة، حركت يديّ بسرعة بعد أن اعتدلت في جلستي برغم الرصاص الكثيف وهنا اعتدل هو في جلسته على السرير آخذاً نفس الوضعية التي اتخذها هناك في الداخل ـ«ورميت الصاروخ بعيداً» لحظات وانفجر الصاروخ، صدق يا أبو كنعان بأنني صعقت عندما انفجر لم أكن أتصور بان صوته سيكون هكذا. لست أنا وحدي الذي تفاجأ، لقد ساد صمت شديد وكأنه صمت المقابر بعد التراشق بالنيران من مختلف الأسلحة. لقد حسب شبابنا بان العدو قد استعمل أسلحة جديدة لتدميرنا، كما ظن العدو بأننا استعملنا هذا السلاح الجديد ضده، وهكذا صمت الجميع ورددت الوديان المجاورة صدى الانفجار، وبعد خمس دقائق رأى مجاهد ـ صديقي في الدورية رجلاً يقترب، فمسكه من قدمه قائلاً: ـ خذ الأرض انبطح، سيكتشفونك الآن ويا لهول المفاجئة يا أبو كنعان».

ـ فتح أبو كنعان عينيه وأذنيه لسماع المفاجأة.

«لقد كان جندياً إسرائيليا، ظنه مجاهد بأنه من جماعتنا لأنه يلبس بوت اخضر مثلنا. يبدو أننا كلنا متشابكين ومتداخلين بشكل صعب تحديد أين شبابنا وأين شبابهم».

ـ« وماذا حصل بعد ذلك؟»

«جاييك بالحكي، عندما مسكه مجاهد من قدمه كان الجندي يحمل رشاشاً مثل الشمايزر بمخزنه المدور يبدو أن الجندي ارتبك بشدة، مع انه يحمل سلاحه في وضعية استعداد كامل لإطلاق النار، إلا انه لم يطلق النار بل فك المخزن المدور من البندقية ورماه بوجه مجاهد الذي كان ينظر إليه في تلك اللحظة. لقد أصابه في انفه، عندما أدرك مجاهد الموقف بادره بمخزن كامل وعاد الرصاص يلعلع من جديد...»

ـ ها. ها. ها أطلق أبو كنعان ضحكةً مدويةً أعادته إلى أجوائه القديمة، إلى ضحكته الرنانة «وبعدين شو صار»

ـ قلب الأخ على ظهره ـ

ـ« الأخ ها..»

وضحك الاثنان وتابع الطوباسي ـ «المهم أن مجاهد بدا يفك قطان البوت للجندي الإسرائيلي. همست: ماذا تعمل يا مجاهد؟؟ فأجاب: ـ أريد أن اتركه حافياً وأبدل بوته، بوتي سيء ابن الـ..... كسر لي عظمة منخاري».

ـ «مش وقته الآن أجبته، يجب أن نتابع السير الآن. لم نعد نعرف باقي المجموعة، تفرقنا جميعا، قسم تابع المسير إلى الأمام وقسم عاد إلى الخلف. مجاهد كان مع العائدين وكنت أنا من المجموعة التي تابعت التقدم....

«قائد الدورية كان معنا، تجمعنا بسرعة كنا سبعة ولكن القواذف كانت مع المجموعة التي رجعت، لم يكن معنا سوى قاذف واحد. مازالت تسمع أصوات طلقات متفرقة ونحن نتابع التقدم بعد أن توقفنا للحظات لا ندري ماذا نفعل. قال قائد الدورية أن العودة مستحيلة الآن ممكن أن تكلفنا حياتنا جميعاً لذا علينا أن نتابع المسير ولكن بسرعة قصوى وسنخبئ الصواريخ في المكان المتفق عليه مع مجموعة الداخل وعندها سنرى ما سنفعل».

اكفهر وجه الطوباسي وهو يتابع قصته عن الدورية. «لقد سرنا طوال الليل يا أبو كنعان وفي الصباح الباكر ونحن مختبئون في احد الوديان القريبة من طوباس التقينا بأحد الرعاة، عندما رآنا هرب نادينا عليه فلم يلتفت، لم نستطع أن نطلق النار في تلك اللحظة من الصباح، نريد أن نختبئ، أصبحنا قريبين من القرية وننتظر بعض الوقت حتى يستطيع قائد الدورية أن يتصل بقائد مجموعة الداخل. لقد اتفقنا على الوقت والمكان، وبقيت هذه المعلومات سراً حتى الساعة السابعة من ذلك الصباح عندما جمعنا قائلاً: ـ «بعد ساعة سيكون موعدنا مع قائد مجموعة الداخل، سنحصل على المساعدة اللازمة ونختبئ بضعة أيام وبعدها سنعود، لننتبه الآن وعليكم جميعاً أن تخفوا أنفسكم في هذه الكهوف الصغيرة. لا أريد أن ننكشف لأحد سأخرج أنا وحدي في البداية عندما ألاحظ قائد مجموعة الداخل.... لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن كما يقولون يا صديقي، لم يمض من الوقت نصف ساعة حتى سمعنا أصوات طائرات أنها طائرات الهيلوكبتر».

وعلى الفور تذكر أبو كنعان طائرات الهليوكبتر التي حلقت فوق رؤوسهم في صباح اليوم التالي من عمليتهم.

لقد كانت فرصةً كي يتذكر الآن أبو غيدا وعباس وموسى ورشيد، كانت فرصة أن يسترجع لحظات الألم عندما اخترقت قدمه صلية الرشاش وعندما واجههم الكمين ليحصد المجموعة بلحظات قليلة، وتذكر نفسه وهو يقف رغم الألم والدم النازف ليرمي المخزن كاملاً من الدكتريوف على المجنزرة التي أطلقت النار. لقد سمع صوت قذيفة البسفن، ورآها وهي تتجه إلى المجنزرة، لكنه يريد أن ينتقم بنفسه من الأعداء.

ـ «وين سارح يا أبو كنعان، هل أنت معي؟» قالها الطوباسي بعد أن لاحظ بان عيني أبو كنعان محدقتان في طرف السرير دون أن يحركهما وكأنهما مثبتتان على شيء مرعب جمدت العينان في المحاجر،  وغار صدغاه (وكأنهما من اثر خسف)، ونتأت وجنتاه حتى أمستا كركبتي بعير،  والتصق جلده بعظمه حتى يصعب نشره .

ـ «هل أصابك شيء يا أبو كنعان، أأنادي الممرضة؟»

ـ «لا، لا لاشيء، تابع حديثك، أنا معك فقط سرحت قليلاً، أين صرنا. عند الطائرات ها؟

ـ «رأيي بان نحتسي كاس شاي ساخن، ما رأيك؟»

ـ «حسناً يا طوباسي، ليش لأ....»دخلت الممرضة بابتسامتها المشرقة، وعلى الفور دق جرس التلفون الداخلي في نفس أبي كنعان على الطرف الآخر محبوبته، سعاد، سعاد، وردتها مازالت حمراء مازالت وردة مثلها، رسالتها على الطاولةِ رائحة جسمها شذا الأريج الحائم حولها، ما أجمل هذه الغيمة. الحلم جميل. وأجمل ما فيه انه يحس ويرى. ما أروع أن يفكر الحبيب بإحساسه.

كان في الغرفة ثلاث ممرضات يتناوبن الحديث والضحكات. الطوباسي من طبيعته ذلك لكن الآخر كان خبيراً ومعلماً إنما في غياب الطرف الآخر (بحضوره يلتك اللسان)، تندفع موجة الدم بقوة إلى الرأس وتتركه حالماً مع ابتسامة صفراء مصطنعة على الشفاه....

ـ« ايوه يا طوباسي، شو صار بعد طائرات الهليوكبتر؟»

ـ« تريد أن تعيدني يا أبو كنعان إلى هناك؟»

لم يذكر اسم طائرة الهيلوكبتر حتى فارقت الابتسامة وجه الطوباسي وكأنه أفاق من حلم جميل بوجود الممرضات والضحكات في الغرفة. لماذا يبقى مبتسماً وهو يعود إلى لحظات الموت، لحظات الانفجار وتطاير أصابعه العشرة، طارت في السماء لم تستطع الأصابع أن تضحك، لم يعد له أصابع كي يضحك، لقد ضحك الآن وشارك الآخرين الضحكات والقهقهات، ولكن الطائرة أعادته إلى هناك إلى الوادي ذي السفوح المشجرة حيث تقبع مغارتان، باب الواحدة يصعب اجتيازه ِإلا منحنياً وفي الداخل لا يتسع لأكثر من أربعة على الرغم من الجحور في الزوايا، لكن الخوف منع حب الاستطلاع للدخول في الجحور، أصوات بعض الطيور تسمع وهي تتطاير على صوت طائرات الهليوكبتر.

ـ «ماذا أحدثك يا صديقي، أنها لحظات صعبة، نزل المظليون وسمعنا أصوات الكلاب وبعد لحظات صليات رشاش غزيرة وأصوات بالعبرية والعربية، لم يستطع قائد الدورية أن يبقى مختبئاً لقد أدرك بان العدو قد اشتبك مع مجموعة الداخل القادمة على الموعد المحدد لاستلام الصواريخ، فما كان منه إلا أن أعطانا الأوامر بالخروج من المغارة والاشتباك خصوصاً بعد أن أدرك بان مواقعنا لا محالة مكشوفة. كلاب الأثر تسير خلفنا من الحدود وها هي تصل الآن إلى مواقعنا وقد أكد لهم الراعي كما يبدو صحة تكهناتهم. وكانت المعركة يا عزيزي، وجهاً لوجه بالسلاح الأبيض والقنابل اليدوية، لقد فاجأهم خروجنا من الكهوف بشكل سريع وأيدينا على الزناد مطلقين الرصاص تجاه المجموعة التي لم تكن تبعد ثلاثين متراً عن باب المغارة».

غرفة المستشفى هادئة الساعة التاسعة ليلاً لا يسمع في الخارج سوى صوت الريح المتناوحة. لم يكن الطوباسي ينظر إلى زميله وهو يروي تفاصيل الدورية. بقي محدقاً في شباك عبر الريح إلى هناك تخيل الموقع بالتفصيل في الفضاء وتابع روايته بصوت خافت هذه المرة لأن الدم سيسيل سيسقط شهداء وأمام ذكراهم تمر موجة الحزن المتبوعة بدفق بكاء تعتمد على صلابة الراوي وصلابة المستمع. هكذا تم التعلم منذ الصغر البنت تبكي أما الولد؟ يريد الطوباسي أن يريح أعصابه ويسمح لدفق الدموع بالانطلاق، فليبكِ، أمه وأبوه وأخوته ليسوا معه لا يعرفون شيئاً عنه لابد أن والده يستفسر عنه باستمرار رغم قساوته الظاهرة، لابد وأن الوالدة تسهر الآن على المذياع وأخوته الصغار ينتظرون عودته يحبونه يرغبون أن يأكلوا الهريسة والمشبك الذي كان يحضره لهم أخوهم في طريق عودته من عمله في بيارات الجنوب كل أسبوع مرة. لكنهم الآن لن يحصلوا عليه إلا في المناسبات. الأم تقول لن آكل الحلو إلا إذا عرفت أين هو، لماذا لا يبعث خبراً مع السلامة أينما يذهب، لكن يخبرنا أين هو، أين؟؟

صلابة المعول ردعت قافلة الدموع، احتجزتها سمحت لها بوفد على بوابة العين بأن ينقل المشاعر ويرحل، اغرورقت العينان بالدموع اتسعت وتابع فمه أهزوجة الموت:

«عماد قائد الدورية كان بجانبي. قفز بالبداية ولحقنا به. كان ابن القرية، تربى فيها يعرف كل حجراتها وممراتها ووديانها وجبالها. «لا يهمكم شيء» أنا ابن البلد واعرف كل شبر افرغ مخزنه في تلك الكتلة الواقفة أمامه وهي ترمي على المجموعة القادمة، مجموعة الداخل. لكن عددنا قليل لقد كانوا مجموعة كبيرة، كيفما نظرت ترى حولك البدلات المموهة وطاسات الحرب وبنادق وقنابل، أحيانا تراهم بين الشجر وخلف بعض الصخور، تلك أقدام وهناك رؤوس وصوت طائرات تهدر في السماء.

«خمسة أو ستة لا أعرف تجندلوا، لكن بعد أن افرغ احدهم مخزنة الكامل في بطن عماد، لم يصرخ يا أبو كنعان. توقفت لحظة عن الرماية لأراقبه، الدماء تنفر من صدره رفع سلاحه بيده اليمنى وخطا خطوتين ويده اليسرى على الجرح وقلب على ظهره ومن رأسه سالت الدماء غزيرة على الصخرة البيضاء.

ـ «ركضت أسرعت في الركض وبجانبي يسير الشبل ركس، رفض إلا أن يشارك في دورية العمق لم نقبله لكنه هرب من مقر القاعدة وأتى إلى مكان انطلاق الدورية بصحبة أحد جنود الجيش الأردني قائلاً: انه يهددني بالانتحار إذا لم أدله عليكم».

«ركضت كالمجنون مطلقاً النار في اتجاهات مختلفة، لقد دست على الجثث وأنا اركض في اتجاه الوادي الآخر، لم أعد أرى أمامي. كنت أركض وشبح عماد يلاحقني بكامل طوله بسلاحه، بانحنائه، بدمه، باستلقائه على الأرض وعيناه تنظران إلى السماء.

ـ «مين هنا، مين هنا؟»

صرخ احد الشباب الذي يلبس لباساً مدنياً مع رشاشه البور سعيد، «كدت أطلق النار، بل أطلقت، لم اعد اضبط أعصابي كنت قد التفت إلى الخلف فلم يكن احد غيري وغير ركس أكيد لم يبق احد منا».

ـ «أنا منكم، أنا من جماعتكم، اتبعوني».

صعدنا هضبة بعد أن انحرفنا عن الوادي مغامرين بذلك بحياتنا، لكن ابن المنطقة يعرف أكثر قلت في نفسي. في لحظات الموت تنتاب الإنسان نزعة حب البقاء، بالرغم من عدم الخوف نزلت إلى الوادي في البداية وكأن الشجر والصخور تحميني.

في هذه اللحظات كاد العرق يسيل من جبين الطوباسي، لقد ركض الآن وهو جالس، سقط على الأرض، هوى، فكزت قدمه، لهث اكثر فأكثر، صرخ ـ مين هنا من هنا، انا منكم..

ـ « اطلب لك فنجان قهوة طوباسي؟»

ـ « لا شكراً، أنا تعبان يا أبو كنعان بعديها بكمل حديثنا خليني أنام، تصبح على خير». نام الطوباسي نوماً عميقاً، بقي أبو كنعان يقظاً لأكثر من ساعتين، تارةً يتأمل الطوباسي، وتارة أخرى ينظر إلى قدمه، وطوراً آخر يركب فرسه ويرحل. يبقى مرتحلاً والريح تداعب شعره وعيناه شاخصتان إلى الأمام والفرس طائر، على تلك الصورة كان ينام عندما لا يواتيه النوم بشكل طبيعي.

«لكن لم يحدثني كيف قطعت يداه، وكيف خرج مع الشبل ركس». «وعاد يركب حصانه الطائر كالريح بدموعه المنهمرة من العينين من شدة الريح. انفتحت أبواب السماء، انتهت الأولى والثانية والسابعة وما زال الفضاء فسيحاً.

حضرت باقي المجموعة من قاعدته لزيارته في اليوم التالي.

ـ« أين الفسفوري وشاستري».

ـ «انهم يستطلعون لضرب أحد الأهداف في منطقة الكركار.

ـ «وشاستري هل تزوج؟»

ـ «لا، أصر بعد أن رآك بان يشارك المجموعة 17 العملية الجديدة انتقاماً لك ولرفاقك الذين استشهدوا».

بدلات كاكي، رجال تجمعوا من كل حدب وصوب، صهرتهم التجربة، الحديد طري جداً في النار، اللهب يذيب التناقضات الثانوية. يقرب الناس الذين تجمعهم أهداف واضحة وأرضية نضالية واحدة. جنسيات مختلفة، سوري، عراقي، لبناني، فلسطيني، مصري، ايراني، تركي، فرنسي، استذكر أبو كنعان حياته في الطفولة وتميزه عن باقي أخوته فقط لأنه ولد».

«كانت امي عندما تحضر التفاح إلى البيت تعطيني الحبّة الكبيرة عادةً فتقسم الحبات لباقي أخواتي وتحذرني: لا تذهب قبل أن تأكلها سيراك أولاد الجيران سيأخذونها منك. وعندما تشتري اللحم تحوسه لي وحدي وتضع الباقي في الطبخة لكل أفراد العائلة....

«هكذا ترعرعت. والآن اجد شاستري يضحي بفرحته التي يرددها كل من ارتاد بيته «بفرحتك» إنشاء الله» وعندما يخاطبون والدته ترد عليهم «الله يسمع منك، من فمكم إلى باب السماء. لم اعرفه إلا أسبوع وها هو يجازف بحياته مرةً أخرى لنا جميعاً وللقضية التي جمعتنا بشكل عام. إنني اكبر  كثيراً، أحس عمري خمسين ستين، إنني أشيب اكبر كثيراً في مصنع الرجال، مصنع الإنسان.

ـ «عايز أي خدمة يا أبو كنعان؟»

ـ «لا سلامتكم، سلمولي على الشباب جميعاً وخصوصاً على الفسفوري وشاستري».

ـ «تسلم، وزميلك اسأله إن كان يريد شيئاً؟»

ـ «سلامتكم شباب، سلامتكم، الله معكم، خلينا نراكم دائماً».

«هات يا طوباسي، سولفنا، لقد قطعت الحديث أمس ونمت. كان بادياً عليك التعب».

ـ «نعم يا عزيزي، عندما أتذكر أصدقائي، تصور لا أستطيع أن أنسى عماد مطلقاً لقد كان بمثابة أخ لي، لقد أتى إلى لبنان من فترات سابقة. لقد عمل مهندساً في إحدى الشركات في بيروت كما قال لي وهو يحب لبنان، أحسست انه يعطيني اهتماماً يعوضني عن غربتي. «أنا وياك غرباء، نحن غرباء في هذه البلاد التي تطاردنا لكن المستقبل لنا. إننا نملك الحرية، يعاملوننا كبضاعة في العمل يا صديقي، أنت جيد طالما تزيد من أرباحهم وعندما تخسر مصلحتهم يلقون بك في الشارع غير مبالين وغير مكترثين لما يحصل بك. هذه البندقية تعيد لنا إنسانيتنا المفقودة.

«باستمرار وكلما جلس معي عماد «يفتح هذه الأحاديث، أحسه خزاناً من الثورة يا أبو كنعان. صدقني أحيانا كثيرة كنت خلالها اضعف وأفكر بالعودة إلى لبنان. كانت بعض المشاكل بيننا في القاعدة تشتد فأبدأ أفكر بالعودة. تصور أنهم أحيانا يتقاتلون على من الدور في الطبخ مثلاً. وأحيانا يشتمون بعضهم بأقذع الشتائم وقد وصلت مرةً إلى سحب السلاح على بعض... تصور يا أبو كنعان هل هذا حدث معك؟»

«وفي كل مرةٍ كان عماد يعيدني إلى ثباتي، عندما يحدثني عن الحياة في مجتمعنا، عن الظلم أفكر فوراً برب العمل عندما، نعمل عشر ساعات ونتقاضى اربع ليرات فقط في حقول الزيتون وفي الشتاء يتوقف العمل، وعند المرض لا نحصل على شيء، ناهيك يا صديقي عن الشتائم وأحيانا الضرب عندما ترفع صوتك في وجه المعلم. الله يرحمك يا عماد، من الصعب أن أنساك، لهذا يا أبو كنعان تعبت البارحة. فعلاً كدت انفجر في البكاء».

ـ «بدك تطول بالك يا طوباسي، هاي أول الطريق».

ـ« فعلاً يا أبو كنعان الحكي غير الفعل، فعلاً الطريق ليست سهلة ابدأ».

ـ« أنسيتنا الموضوع، وين رحتوا بعدين؟؟»

ـ«مصـرّ أن تسمع باقي الموضوع؟»

وعاد ينظر من النافذة ليستعيد المنظر الذي رسمه هناك في الأفق. عاد يتخيل الوادي والطائرات، عماد وباقي المجموعة، ورفيقه من الداخل الذي لا يزال يركض أمامهم مستحثاً إياهم بسرعة، بسرعة شباب، وصلنا، سيكشفوننا إن تأخرنا قليلاً.

ـ «ركضنا يا أبو كنعان لساعتين متواصلتين، لم يعد لي قدرة على الركض أكثر، ولكن عندما كنت انظر إلى ركس وهو يركض ويلهث كنت اخجل من القول باني تعبان. قدمي بدأت تؤلمني كثيراً من اثر الفكرة لكن اللهجة الحازمة للرجل أمامنا لم تدع لي أية فرصة في طلب الراحة ولو قليلاً. «ابقوا هنا قليلاً» قال لنا رجل الداخل الذي لا اعرف اسمه بعد، تركنا في سفح احد الجبال المغطى بشجر الزيتون، ما أروع أن أكون بين شجر الزيتون أحس بالراحة وبالتعب بنفس الوقت، أتذكر ماضي عملي وأهلي وبنفس الوقت أحب شجر الزيتون، لقد قضيت طفولتي فيه.

«المهم يا عزيزي، بعد ربع ساعة كان بيننا. صدقاً لم أحس بأنني في خطر أبداً، كنت اجلس تحت الزيتون وكأنني في قاعدة «الوهادنة».

ـ ألحقوني شباب ـ

ـ «وتبعناه. لم يكن بيننا وبين القرية سوى أمتار تفصلها عنا هضبة جرداء قطعناها بسرعة ودخلنا احد البيوت حيث كان صاحب البيت يحفر في الحديقة، وقد أدركت على الفور بأن الهدف أخفاء السلاح، وهكذا كان لبسنا الثياب المدنية أنا وركس وانتقلنا مرة أخرى بمحاذاة الأطراف لنبقى في احد البيوت أسبوعا كاملاً ننتظر مجيء الرجل، رجل الداخل.

ـ «ما اسمك يا أخ؟»

ـ« فهمي».

ـ «هل تعرف عماد يا أخ فهمي؟»

وأجاب بعد أن تغيرت ملامح وجهه الأسمر الذي حفرت فيه السنون أخاديد وتعاريج.

ـ «انه أخي، نعم يا أخ، أخي».

«فذهلت يا أبو كنعان ولم أتمالك أعصابي، نهضت وقبلته وبدأت بمواساته بدل أن يواسيني كان عماد قد حدثني عن أخيه ولكن وليس فهمي، انه اسم حركي. حدثني عن أخيه الفلاح الذي يشبهني، يعمل في الحقل في الزيتون، ولكن في ملكه وليس في ملك آخر. روى لي تفاصيل مذهلة عن حياته عن صموده، عن رفضه الخروج من الأرض بعد احتلال الـ 67 بقي مزروعاً هناك حيث كان حلقة الوصل مع الشباب في الداخل، قضي سنة في السجن وخرج بعدها. عجز العدو إثبات التهمة. عاد يعمل في الحقل وفي الليل يتحرك يسمع الرموز من الراديو ويمضي في فك الرموز وحلها. كنا لا نفهم هذه الرموز في البداية. ولكن الآن اقتنعت بصحتها، حدد مكان لقاءنا في الوادي الذي وقع فيه الاشتباك عن طريق الرموز من صوت الثورة».

ـ «أنا أعرفك يا أخ فهمي، أنا صديق عماد، أخيك أيضا».

«كلنا أخوان ـ انه نصيبه، كان لازم أشوفه ولو دقيقة، تركنا قبل الحرب ولم أره منذ خمس سنين، الله يرحمه مات ميتة أبطال، حتى الضابط الإسرائيلي أدى التحية له «قبل أن يدفنوه وإخوانه الآخرين، كنتم سبعة يا أخ؟.»

ـ« نعم سبعة لم يبق غيري وركس إذن؟ لقد استشهدوا جميعاً».

ـ «ليس خمسة فقط بل استشهد منا سبعة أيضا من مجموعاتنا. لقد فاجئونا الملاعين، لكن خسائرهم كبيرة لقد رأى أهل القرية طائرة الهيلوكبتر وهي تنقل قتلاهم وجرحاهم على دفعات. لم يموتوا بدون ثمن».

ـ «رغم الأسى يا صديقي، رغم فقدان أخيه إلا أنه صلب وشجاع، كان عماد صلباً وهو يروي لي عن الثورة ومجتمعها وظلم وفساد مجتمعنا الحالي. ولكن أخاه كان يجسد الصلابة بكفتي يديه الخشنتين وشاربه الأسود وعيناه التي يتطاير الشرر منهما. طويلاً كما عماد الآن أدركت بأن عماداً كان يتذكر أخاه عندما يتحدث عن الرجال الشجعان.

ليس هذا فقط بل جاءتنا الأخبار بعد يومين بأنهم نسفوا بيوت السبعة جميعاً الذين استشهدوا، لم يخبرنا هو بل سمعناه من المذياع».

ـ« وكيف قضيتم الوقت في البيت؟»

ـ«كان صعباً جداً يا أبو كنعان، لم يكن يسمح لنا بأن نخرج من البيت إطلاقا حتى عندما نبول لم يكن يسمح لنا بالخروج، كنا في قرية مجاورةٍ لطوباس لكنها بعيدة، لم يبحثوا عنا ظناً منهم بأن كل عناصر الدورية قد قتلوا، لكنهم فتشوا القرية، طوباس تفتيشاً دقيقاً. وفي نهاية الأسبوع جاءنا أخ عماد ـ جهزوا أنفسكم، سنوصلكم إلى اقرب نقطة من الحدود لتعبروا بعدها، هذه الرسالة تعطوها لغرفة العمليات».

هكذا، بنبرة قاسية، وملامح تكاد تتحجر على وجهه المتعب من اثر تنقله الدائم وسهره علينا خلال الأسبوع وأزماته البيتية واستشهاد أخيه ورفاقه، سار أمامنا وتبعته مع ركس إلى النقطة التي حددها مسبقاً.

ضمني إلى صدره العريض وعانقنا و«بخاطركم، انتبهوا..»

كاد أبو كنعان يسأل إذن أين قطعت يداك؟

لكن الطوباسي قطع تساؤله عندما قال: «وصلنا إلى طرق النهر واجتزنا منطقة الكمائن الخطرة، وهناك الله يلعن تلك الساعة، هناك وقعت من حزامي قنبلة الملز، وكم كانت مفاجئة لي بأن حلقة الأمان لم تكن فيها، مسكتها فوراً لا قذفها بعيداً لكن... كان اللي كان... وانفجرت في يدي وأنا أهم بقذفها...».

بقي صامتاً لحظات وهو يحدق وعيناه تتسع مستعيداً في ذهنه تلك اللحظات الصعبة، لم ير أصابع يديه لم تودعه أصابع يديه وهي تغادره، ستبقى الأيدي هناك في الأرض، ستزرع هناك لتولد، لتنبت عشرات الأيدي، عشرات الأصابع...

«بقيت متمالكاً نفسي كان الجرح حامياً ساعدني ركس في عبور المخاضة والدماء تسيل بغزارة، لم أتذكر نفسي إلا وأنا اقطع النهر واستلقي في البيارة المجاورة ولم اصح إلا هنا في المستشفى. نعم يا صديقي كان حلماً وصرخت مثلك عندما صحوت، لم أكن أتصور بأن لا يبقى لي حتى إصبع واحد، إصبعان على الأقل يساعداني في قضاء حاجاتي الأساسية، لكن ها أنا كما تراني أمامك الآن».

ـ «الحمد لله على السلامة، ستركب أطرافا تستطيع بها القيام بمعظم حاجاتك».

كان أبو كنعان يتحدث بلهجة ملؤها الدفء والتقدير متناسياً قدمه، حامداً الله على أن يديه ما زالت سالمتين «القدم» مسألة بسيطة. عندما ترى مشاكل غيرك تهون مشكلتك. ضحكة زميله أرجعته من حلم اليقظة.

ـ «مالك تضحك، في شيء؟»

ـ «لا، لا شيء لكن تذكرت في اليوم الثاني حادثةً طريفةً حصلت معنا، مع ركس تحديداً ولم يخبروني عنها إلا عندما تعافيت قليلاً. رغم الألم ضحكت.»

انفرجت أسارير أبو كنعان وهو يرى صديقه ضاحكاً بعد أن انسلَّ نفسه من دوامة الحزن التي ما إن يقترب في الحديث عنها حتى يغرق فيها لساعات فتساءل:

ـ «في طريقنا إلى الداخل كان مجاهد قد وقف قليلاً وابتعد عنا بعد أن قتل الجنديَّ الذي ضربه بمخزن الرشاش، وجد ركس منبطحاً، فحرك قدمه من الخلف، ولكن ركس لم يتحرك رفع مجاهد قدمه فحرك ركس قدمه مع اتجاه الرفع وضربها مجاهد بالأرض فضربها معه ركس، لقد اعتقد مجاهد بأن ركس قد استشهد ولكن ركس كان صاحياً عندما ضرب الجندي مجاهد بالمخزن وسمع إطلاق النار، تكلم الجندي بالعبرية قبل أن يهوي واعتقد ركس بأن هذا الجندي هو الذي حرك له قدمه، لقد كان خائفاً ولم يرو لي تفصيل هذه الحادثة عندما كنا في الداخل. ضحك أبو كنعان حتى «تمزعت» خواصره وشاركه الطوباسي بالضحك وأردف قائلاً ـ ليس هذا فقط، عندما عاد مجاهد اخبر بأن ركس قد استشهد، وطبعوا له صورة ولصقوها على الحيطان واعتمد شهيداً بأربعة وعشرين قيراطاً، وكم كانت المفاجأة سارة في القاعدة عندما شاهدوا ركس، لقد ارتبكوا جميعاً بل أن مجاهداً بقي أكثر من ساعة مشدوهاً لا ينطق بكلمة عندما اعلموه بأن ركس جاء إليهم الآن».

اغرورقت عيناهما بدموع الفرح من الضحك المتواصل حتى حضرت الممرضة على صوتهما وهي لا تصدق بأن من يصاب بهكذا إصابات يمكنه أن يضحك ولم يمض على أصابته أسبوعان فشاركتهم الضحك بدون أن تعرف السبب، وضحكت أكثر عندما رووا لها مرة ثانية أسباب ضحكهم.

llll

الفصل الخامس
تواردت للفسفوري أخبار الانتفاضة في مخيمات لبنان، وصلته وهو في الطريق إلى الجنوب مع القوة المحمولة التي أُمرت بالتوجه للمشاركة بالدورية القادمة.

«لن أعود إلى المخيم إلا بعد نيل حريته» تذكر الفسفوري هذه الكلمات التي قالها عندما رحل إلى معسكرات التدريب ومن ثم إلى القتال. إلى الأغوار، لقد عرف بان زملاءه وغيرهم ممن كانوا مجهولين هم قادة المخيم الآن، هجم الأطفال قبل الكبار على مراكز التعذيب، مراكز حراس الليل، ورشقوها بالحجارة، صحوا باكراً قبل أن تشرق الشمس وحملوا بضاعتهم ورحلوا «لو كنت بينكم يا أصدقائي، الرصاص، الرصاص وحده هو العقاب لتلك المجموعة التي أذاقت شعبنا ويلات التعذيب والحرمان من أدنى الحقوق. عباس قتلوه هم، أهانوا الكبار والصغار، ممنوع لأحد أن يفتح المذياع خاصة على صوت العرب. الجرائد ممنوع دخولها المخيم، حتى جريدة الأنوار.. كبرت العائلات يريدون أن يبنوا داخل بيوتهم الضيقة حواجز بينهم وبين عائلة ابنهم الجديدة، فقط حائط من اللبن داخل البيت. ممنوع منعاً باتاً. تلتقي مجموعة بالصدفة ليلاً في الساحة، ممنوع التجمع، ممنوع، ممنوع، ناهيك عن الضرب بأنواعه المختلفة، الفلقات، البكس، الجيدو، ضرب الأسنان بالإزميل... آه، ما أجمل الحرية. تحركت مجموعات من مختلف القطاعات للمشاركة في الانتفاضة لتثبيت انتصارات جماهيرنا في المخيمات.

ـ«أخ جمال هل تسمح لي بالذهاب معهم إلى جنوب لبنان؟»

ـ «لا يا فسفوري، أنت ستكون رامي الـ آر بي جي في هذه الدورية ستتحركون غداً».

ـ «صحيح أخ جمال، لكن ارغب في المشاركة المباشرة في انتفاضة شعبنا في لبنان».

ـ «عليك المشاركة في هذه الدورية. كل في موقعه يا فسفوري، هنا نضال وهناك نضال. علينا فتح كل الجبهات ببلدنا. شد حيلك وسنذهب لاحقاً لزيارة المخيمات علناً، هذا اليوم لن يطول».

لم يكن يحق لشاستري والفسفوري بالمشاركة في العملية اللاحقة حتى يفسح المجال أمام غيرهم من الأخوة لشرف المشاركة بالرد على شهداء دورية طبريا. لكن إصرارهم حال دون تنفيذ القرار.

ذهبت دورية الاستطلاع إلى منطقة الكركار في الغور الشمالي وتم نقل المجموعة إلى كرم الزيتون القريب من قرية دير أبو سعيد. تابعت دورية الاستطلاع مهمتها على الحدود وباشرت باقي عناصر الدورية بتجهيز المغارة وحفرها من الداخل لتتسع للجميع، وقد تم العمل على فترات متلاحقة حتى أصحبت المغارة صالحة للسكن بعد حرقها وطرشها من الداخل للوقاية من الرطوبة الشديدة.

llll

 (في الكركار)
الساعة الآن الرابعة مساءً، الشمسُ تميلُ إلى الغروب وسيارة اللاندروفر تفتح قلبها للعناصر التي ستشارك في الدورية.

ـ«بخاطركم شباب، احترسوا، نريد أن نراكم جميعاً بيننا». انطلقت السيارةُ مجتازةً كرم الزيتون. في الطريق، وبالقرب من المدرسة، راقبت السيارة عيونُ الأطفال الصغار، يلوحون بأيديهم راسمين إشارة النصر للمجموعة. كان الكبار يعرفون بأن حركة السيارة تتجه إلى هناك، تمر بهم السيارة فيلتفتون إليها وهي تبتعد عنهم، كانوا يسمعون عنهم، لكن الآن يرونهم مباشرة، ويسكنون بقربهم، بين كرومهم وأراضيهم.

حاتم سائق السيارة يغني بعد أن خرجوا من محيط القرية:

ناقش اسمك يا يم

 

على كعب البارودي

وإن خلص مني   أرصاصي

 

بقاتل بكفة إيدي

لجعل درع من صدري

 

وأحمي رفيقي

قرقعة السلاح في الخلف، الكوفيات على الأعناق ملفوفة، الكرينوف ملثم بينهم وكأنه ينام قبل أن يكون مستعداً للاشتعال في الليلة القادمة، والسيارة تزداد سرعة حتى أوشكت أن تنقلب على إحدى الأكواع الحادة.

ـ« حاتم، لماذا تقود بمثل هذه السرعة الجنونية، الأكواع خطرة يا حاتم، على ايش مستعجل، تريد أن تخلص علينا هون؟»

لكن حاتم لم يجب تساؤل الفسفوري، بل تابع ضغط البنزين حتى النهاية بعد أن أوقف غنائه وشحب وجهه الأسمر ونفرت شرايين يديه وهو ممسك بالمقود.

«علامك يا حاتم، شو نجنيت، يا عمي عارفينك شاطر في السواقة»، صرخ أبو هويده بلهجته الخاصة وبعينيه الجاحظتين ويده نصف المحروقة مشرعة وكأنه يهم بضرب حاتم.

ـ «ولد الحرام ما يرد» ـ ونظر للفسفوري وكأنه يستشيره لإيقاف حاتم عن القيادة وتسليم السيارة لغيره.

لكن السرعة بقيت كما هي وازدادت بعد أن تم الخلاص من مختلف الأكواع الخطرة وأصبح الطريق الآن مستقيمة إلى قرية «القليعات» التي هجّر أهلها القصفُ الإسرائيلي المتواصل، ما عدا بعض العائلات التي تساوي لديها الحياة والموت في ظل ظروف معيشية سيئة وتوتر دائم وحذر متيقظ للغارات والقصف المدفعي الإسرائيلي.

وفجأة أوقف حاتم اللاندروفر وشرع ينتحب كالأطفال. استغرب الجميع بكاءه بدهشة وبصمت، حتى أبو هويده الذي كان متحمساً لضربه وهو يقود السيارة بسرعة جنونية نظر إليه بدهشة وتجاعيد جبهته منتصبة وكأنها تقف أمام منظر أرعبها فجأة.

ـ «أخ حاتم، هل أصابك شيء، أستطيع أن أقود السيارة إذا تعبت؟» تساءل الفسفوري بنبرة هادئة خوفاً من تلقيه إجابة قاسية من حاتم، لكن لا إجابة.

كان الشعاع الأحمر للشمس الغافية خلف الجبال ينتشر على الوجوه التي وجمت للحظات وهي قابعة في اللاندروفر على الشارع المواجه تماماً لسهل بيسان والمرتفعات الجبلية التي تطل عليه من الخلف.

ـ« شباب، إذا سمحتوا اتركوني وحاتم قليلاً واسبقوني إلى مقهى القرية، وسألحق بكم على الفور».

قال الفسفوري وكأنه وضع يده على الجرح الحقيقي لحاتم، غادر الجميع السيارة، وكان حاتم فعلاً ينتظر هذا المخرج، فبدأ حاتم على الفور يتكلم مع الفسفوري بدون أن ينظر إليه، عيناه متجهتان إلى الغرب، إلى ذلك الجبل العالي البعيد المواجه له وقد خف نحيبه: اخ فسفوري «وأشار بإصبعه إلى الغرب.«هناك ينتظر والدي في تلك القرية القابعة خلف الهضبة اسمها طوباس هل تعرفها.؟»

ـ «لا، لكن سمعت قبل فترة أن معركة قوية وقعت بالقرب منها».

ـ «ونسفوا بيت والدي، لم أرهم منذ سبع سنين متواصلة، كنت اعمل فلاحاً في البستاتين، وازرع أرضنا مرتين سنوياً، ونعيش بما تنتجه الأرض. قبل سنة كنت مع الشباب مشاركاً في إحدى الدوريات في تلك المنطقة ـ مشيراً بإصبعه إلى السهل الممتد أمامهم ـ يومها أصبت بصلية رشاش وأنا في مجموعة الحماية ـ وأشار إلى كتفه ـ« وبعد خروجي من المستشفى قالوا لي بأنك لا تستطيع أن تمارس عملك في الجناح العسكري، عليك أن تبقى في إحدى المكاتب هنا في عمان. ولكن كنت متحمساً أكثر منك يا أخي ورفضت رفضاً مطلقاً إلا أن أكون مع الشباب».

ـ «ماذا تعمل معهم» تساءل:«لا تستطيع أن تمشي كيلومتر بدون خمس محطات راحة»

ـ «لكن أستطيع أن أسوق سيارة، لقد علمني عمي ذلك في قريتي وأنا في سن العشرين، وكان لي ما أردت. قبل يومين سمعت الأخبار، استشهد رفاق الطفولة هناك في معركة خسر فيها العدو أكثر من خمسين قتيلاً وجريحاً، ونسفوا بيتنا بتهمة تواجدي مع المخربين».

»أين يسكن والدي العجوز الآن ووالدتي الطيبة؟»

«لا أعرف يا صديقي، أصدقائي الأعزاء الذين كلفتهم بالاهتمام بأوضاع الوالدين استشهدوا جميعاً». وذرفت عيناه جدولاً آخر من الدموع الحارة وأحس قليلاً بالخجل وهو يبكي هكذا، فحنى برأسه على المقود قائلاً: ـ »اخ فسفوري، اذهب الآن الشباب في انتظارك وسأنتظركم بعد إنجاز مهمتكم بنجاح، أنشاء الله تعودوا جميعكم سالمين».

»بدك تطول بالك يا حاتم. هذه ظروف شعبنا، بدنا نتحمل، أهلنا مازالوا في الداخل ولا يمكن إلا أن يقدموا لهم كل العون، بخاطرك الآن إلى اللقاء».

بقي حاتم حانياً رأسه على المقود وخرج الفسفوري سائرا باتجاه المقهى حابساً في صدره غصة بكاء مسترجعاً في ذاكرته أحوال الأب والأم العاجزين :«لماذا ينسفون البيوت، أين يسكنان الآن، من سيطعمهم بعد أن استشهدت المجموعة كلها، أصدقاؤه الذين أوصاهم؟؟؟».

أسرع خطاه وشد بيده على ماسورة البندقية المعلقة بكتفه ودخل باب المقهى دون أن يؤدي التحية على صاحبه الذي بادره قائلاً: ـ آهلين أهلا وسهلا.ـ

ـ  «عفواً يا خال لا تؤاخذني كاسة شاي من فضلك مع النعناع.

ـ  «إنشاء الله خير يا أخ ـ تساءل الشباب المجتمعون حول الطاولة وأسلحتهم ملقاةُ على الطاولة أو متكئة على الجدارـ بعض القضايا الخاصة به ـ أرجوكم أن لا تقسوا عليه في علاقتكم معه» ـ

وراح الفسفوري يقص عليهم ما حدث لحاتم وسبب نحيبه. «يعطيك العافية .. الله يعافيكم»

ينهض ابو هويده ويسلم على أصدقائه المزارعين القادمين من «تحت»

ـ  «كيف ألمي اليوم كانت قوية ولاّ شحيحة؟»

ـ  «إنشاء الله ما اختلفتوا على التوزيع؟»

ـ  «كما تعرف يا أبا هويده هاي الشغلات لابد منها»

ـ « كالعادة جاءت في الصباح المجنزرة وأمامها دورية الاستطلاع ومعهم يا أبو هويده قضبان حديد دخلك هاي؟»

ـ  «أية ساعة مروا؟»

ـ  «حوالي السابعة»

ـ  «كم جندي أمام المجنزرة؟»

ـ  «أربعة خمسة والله ما بنعرف بالضبط، كم جندي يا حميد كانوا؟»

ـ « والله أنا مثل ما أنت عارف عندما يأتون أعمل نفسي اشتغل وأكاد لا أنظر إليهم إلا عندما تذهب المجنزرة بعيداً عني لأني اعمل بالقرب منهم. لقد سألوني مرة «فين مخربين» ونظرت إليهم من خلف النهر وهزيت أكتافي وتابعت العمل وكأن الموضوع لا يعنيني. يا شيخ الله يلعن هالحالة دائماً عايشين على اعصابنا وموسمنا رايح يخرب السنة. فنظر إليه أبو هويده لائماً إياه على كلامه وكأنه يتهمهم بأنهم السبب في ذلك.

ـ «اي الحرب يا حميد، غيرك بيموت، بيضحي بدموا إذا إنت بتضحي بشوية موز وغيروا، لازم تحمل سلاح معانا وتقاتل. فرضاً أطلقوا عليك النار ماذا تعمل؟ ها»؟

وارتبك حميد قليلاً وهو لا يدري بماذا يجيب. فتابع أبو هويده كلامه بلهجته المحلية وهو يحرك رأسه ويتكئ على الطاولة بكل ثقة مقترباً بوجهه من حميد الذي يجلس قبالته والجميع يستمعون إلى الحوار، وصاحب المقهى يبتسم تاره ويكشر تاره أخرى عندما يحمى النقاش:

ـ« ها جاوب؟ افرض اطلقوا النار عليك؟ شو بتعمل بترفع العشرة بتموت مثل الفطيس لا احد يدري بك، أنت مش أحسن من الراعي عليان اللي سلمناه سيمانوف واسر الطيار قبل شهرين، سيمانوف أسره، السلاح يا حميدو زينة الرجل وحارسه».

ساد صمت مطبق في أعقاب إنهاء أبو هويدا كلمته الحامية وهو المعروف بين المزارعين بشراسته وخصوصاً عندما كان يدخل إلى المستعمرات. كان يذهب إلى الداخل ليثبت للمزارعين «اليهود» «ما بيخوفوا»، لكن الآن شددت الحراسة بعد تصاعد العمل العسكري وأصبح من المتعذر الدخول بدون احتياطات الأمان وأصبح الهدف مختلفاً الآن من العبور، والسلاح اصبح غير شكل.

ـ «على كل حال عندما ترجع يا أبو هويده اشوفك هون في المقهى لي عندك حديث».

ـ «على خير إنشاء الله يا حميد».

برقت في عيني حميد شرارة غضب واكتست ملامحه الجدية والحزم وهو يستمع لأبو هويده وكأنه قد أيقظه من سكرة عميقة. لقد أدرك حميد بينه وبين نفسه بأن السلاح ضروري «سأعرض على أبو هويدا أن يسلحني، وسأبقى في البستان وأراقب تحركاتهم وأقوم بعملي وأعلمهم عندما أعود. فعلاً لو أطلقوا عليّ النار شو كان عملت، أو لو قطعوا النهر وأخذوني معهم إلى السجن، لابد من سلاح على الأقل كي لا أموت رخيصاً. وتذكر حميد في نفسه تلك الحادثة الشنيعة التي قام بها العدو عندما دخلوا بيارة الباقورة بعد إحدى العمليات للشباب من هناك، وخطفوا عاملين اخذوا واحداً منهم إلى الداخل وقتلوا الثاني بعد أن قطعوا أصابعه، وحطموا وجهه، وقطعوا قدمه، وبقروا بطنه، وتركوه مرمياً في البيارة التي يعمل فيها ليرعب كل العمال كي يمنعوا مرور «المخربين» من بياراتهم.

وفعلاً لم يذهب المزارعون في اليوم الثاني عندما اكتشفوا الجثة وبقوا ثلاثة أيام معطلين معرضين موسمهم للهلاك حتى بعثوا لهم مجموعة من الفدائيين ترابط على سفح التلة المجاورة للتدخل مباشرة عند أول إشارة اتفق عليها مع المزارعين.

لكن الخوف سيطر على الكثيرين مما دفعهم خطوة إلى الأمام في تمتين العلاقة مع الفدائيين. بل إن مجموعة كبيرة من هؤلاء المزارعين بدأت بالالتحاق في القواعد بينما تسلح القسم الباقي، وأخذوا يخبئون السلاح في مكان قريب ليبقى حارساً لهم. مزارعوهم، مزارعو الصهاينة كانوا يعملون بهدوء والدبابة تحرسهم. طلقة تطلق عليهم فيرد على الطلقة بقذيفة ويهبط المزارعون الصهاينة إلى الملاجئ، لم يكن يكفي المزارعين تحرش إسرائيل الدائم بهم فكان الأسياد الإقطاعيون يذيقونهم الأمرين ولكن بطريقة مختلفة. وعندما يشكون من إطلاق النار من العدو يرد الاسيادعليهم: «إيش بدي اعمل. اللي بدوا يستقبل الفدائيين بدوا يتحمل، ولاّ كيف!! بدكوا تتحملوا يا وطنجية آخر زمن، مش أحسن لكم لو طردتوهم من البداية!! أتحملوهم الآن».

لقد كانوا مكرهين على القبول بالأمر الواقع كان هؤلاء يتحينون الفرص لإعلان سخطهم على الذين دمروا مزروعاتنا وموسمنا، امراء البيارات يعطون الجزء البسيط جداً للعمال مرابعة أو مثالثة والباقي لهم، يحصدون بدون أن يروا بياراتهم في الشهر مرة واحدة.

«كفاكم خنوعاً وذلاً عند العرصات اللي يستغـلوكم» بهذا الأسلوب يحرضهم أبو هويده، لقد كان مكروهاً من الحكومة وأزلامها في المنطقة بتحريض من الأمراء الاقطاعيين عندما كان العمل صعباً وسرياً قبل معركة الكرامة. بحثوا عنه طويلاً، وضعوا جائزة لمن يقبض عليه حياً أو ميتاً، لكنه كان يغيب عن القليعات وتل الأربعين والزمالية، يغيب شهراً أو شهرين ليعود في الظلام.

ـ لقد رأينا ابو هويده اليوم..

ـ مش معقول، أبو هويده مطلوب من الدولة ولا يمكن أن يأتي أبداً، انتم تهذون.

ـ بالشرف انو شفناه.

ـ ليش ما حكيتوا، كان بعثنا له مفرزة من حرس البادية واعتقلناه وارتحنا منه، يجب أن نمنع هؤلاء «اللصوص» من دخول قريتنا. إن إسرائيل قدمت شكوى شديدة اللهجة إلى منطقتنا بوجوب الكف عن النشاط والإ سيخرب بيتنا... وأبو القناني وأبو هويدا ومنيزل وفؤاد ياسين وكل هالمزفتين لازم نمنعهم من العيش بيننا».

بهذه اللهجة كان المختار يجيب الأهالي الذين رأوا أبو هويده ليلاً.

«افتح يا مختار افتح الباب، أنا أبو هويده»...

لقد سمعه المختار من الداخل، معه سلاح ولكن سمع عن سلاح الكلاشنكوف الرشاش، خافه خاف وجهه نصف المحروق وكأنه من أثار النابالم، خاف صوته الخشن كان يريد أن يصل معه إلى اتفاق بان يتركه وشأنه مقابل عدم التعرض له ولعماله في البيارة، أن يكف عن تحريضهم، لم يعودوا يطيعونا كانوا يهددونا بأننا سنصير مثل أبو هويده.

لكن المختار يقرر أن ينام، حتى الضوء كان يطفئه بالقرب منه ليبدو أن المختار غير موجود. لقد أطلقوا عليه الرصاص مرة بعد أن رصدوه وهو يدخل ليزرع لغماً ارضياً ويضع بعض المتفجرات في الماتور القريب من الكركار، زرع لغمه ووضع العبوة وساعة التوقيت التي كان ينظر إليها كشيء مبهم وغامض في البداية وعاد ليألفها، بل ليعمل مثلها، أصبح يستطيع أن يعمل كل الساعات. ساعات توقيت، ساعات تفجير... ها.. ها.. ها.. ويضحك وينظر حوله وهو يسمع دوي الانفجار ولم يعرف بأنهم يكمنون له على الضفة الشرقية ـ قف. سلم نفسك أبو هويدا، احسنلك، سيتم العفو عنك، سلم نفسك، أنت مطوق.

«فشرتوا يا كلاب»

ويلعلع الرصاص ويعود إلى الداخل، إلى داخل الأرض المحتلة ويركض هناك ليغير مكان الخروج.

كان يمر على بيته، زوجته الهادئة وولده الصغير ووالدته يسكنان في القليعات يفتشون البيت دائماً وباستمرار، في المرحاض، فوق السدة، في زاروبة الغنم، في الحاكورة في قن الدجاج.

يخافونه يريدون قتله بأي وسيلة، أوامر مشددة. أوامر القيادة العربية العليا في أعقاب مؤتمر القمة الأول «هؤلاء يخربون علينا تجهيزنا للمعركة. يجب إيقافهم» التوقيع علي عامر وجاءت الأوامر: مطلوب حياً أو ميتاً.

لكن الآن في أعقاب معركة الكرامة دخل أبو هويده القليعات بكبرياء.

ـ علامكم يا عيال؟ كوكو!

ـ أهلا بالحبيب أبو هويده.

يعانقونه، ويأتي المختار ومعه كيس بطاطا وكيس بصل ـ هاي مونة يا أبو هويده والله يا أبو هويده.. أخ الله يلعنه من زمن، بشرفي يا أبو هويده أنا زعلان عليك هيك يا رجل قبل شهرين تدق على بيتي وتذهب يا أبو هويده؟ الله يلعن الحكومة، كل يوم يهددوني «لازم تسلم أبو هويده» يا أخي روحوا امسكوه إذا كنتوا  قادرين.

كانت زوجة ابز هويده تنظر إليه وهي تدخل من الغرفة الطينية الثانية، وتشير له بحواجبها، انه يكذب. لقد كان على رأس حملات التفتيش، ليس هذا فقط. لقد جاءها احدهم مرةً وهددها (سنعمل ونفعل فيك إذا لم يسلم الخنزير نفسه).

ارتعدت من الخوف وخافت أن تخبره لو أخبرته لفكر في الأمر كثيراً، ربما كان سيسلم نفسه إذا رهنوا زوجته، وها هم الآن يأتونه للتهنئة.

يهمهم ابو هويده بعد أن يسمع المختار ويردد ذات العبارات «يا هلا بالمختار» إنه في بيته الآن حتى لو كان قاتلاً لأحد أقربائه ودخل بيته فلن يحرك ساكناً. «يا هلا بالمختار».

ليس مختاراً فقط إنه أمير، أمير البيارات في الغور، الفلاحون يحنون الجباه عندما يقفون امامه لكن أبو هويده صافحه وقامته مرفوعة كالطود وهو يرد كوفيته المرقطة على رأسه:

«هو أبن تسعة ونحن ولاد تسعة، لا تحنوا رأسكم لمخلوق لا نحني جباهنا إلا لله خالقنا جميعاً». بهذه النبرة كان يخاطب العمال.

«الله يخرب بيتك يا أبو هويده، الله يلعن السيعة اللي إجيت فيها على هالبلد» يردد المختار «الله يلعنك يا زمان، تفو، ولاد مبارح يحملوا سلاح قال، سلاح إيش اوتوماتيك، ويمروا بدون مرحباً وسيدنا وبدون شيء. تفو عليك يا زمن، الله يعيدك يا سيدنا قوي مثل ما كنت لتسحق الطراطير هاي. تجمعوا زي النور من كل البلاد ما حدا بعرف قرعة رأس أبو الواحد منين». وعندما يمر أبو هويده أمامه: «تفضل، تفضل أبو هويده اشرب فنجان قهوة يا راجل.

ـ« مشغول يا مختار، مشغول نشوفك بعدين». كان الأمير يشرف على العمال في إحدى زياراته يريدون تحويل الماء إلى قناة مجاورة، لا يوجد حجر كبير.

ـ« تعال يا ولد واجلس هنا».

ـ« في الماء؟»

ـ«اجلس شوف الكلب بيتفلسف كمان، أنشاء الله بتجلس بالزفت المغلي».

كل العمال ينظرون إليه، هل يجرؤ أن يتساءل؟ هل يجرؤ أن يرفض؟

ـ «ما رح اجلس».

وانهالت الشتائم وضربات الكرباج وأمر عاملين بحمله وجعله يجلس بالقوة في القناة كي يحول بجسمه الماء إلى القناة المجاورة.

ـ أبو هويده يا فارس الصبايا، يا زينة الشباب، يا حبيبنا ـ بكى وهو جالس في القناة مثبتاً بأيدي العاملين والدم يسيل من ضربة في جبينه ـ لم يقرأ كتاباً في الثورة، لم يسمع بثورات فيتنام والصين وغيرها، «الثورة فيه تجري كالدم في العروق، وعندما اتصلوا به ليعمل مع مجموعات الاستطلاع الأولى سنة 66 أجاب:

«حياكم الله، حلمت بكم من زمان حي الله الرجال هاتوا السلاح».

كان سلاحه حتى تلك اللحظة سكينة كباس وخنجر، وعندما يدخل الأرض المحتلة فسلاحه الثقيل بلطة. بلطة تفلق الصخر، وسكين قوية يمضي بعض الوقت بتمضيتها عندما ترك الزراعة ورعى الغنم والماعز.

«مكافأة ثمينة لمن ياسر أول جندي» وقع بين صفوفنا أسرى ولابد من أسير لنبادله.

لم يتكلم صمت، أسير حي يرزق، لمعت الفكرة في ذهنه وراح يسن السكين الشبيه حده بحد السيف، أسير، أسير، لابد أن آتي بأول أسير إلى الثورة ومضى ليلاً إلى المستعمرة التي اعتاد ارتيادها. راقبها طويلاً مراكز الحراسة لم تزل تحرس بأفراد من حرس الحدود، ليسوا جيشاً قوياً، حراس حدود فرادى بين الواحد والآخر أمتار عدة.

دخل مقر المجموعة والدم على ثيابه، «أين كنت يا أبو هويده؟» لم يجب كان مكفهراً غاضباً، غاضباً على السكين، رماها أرضا، ليش ماضيه كثير ليش، كان هسّ عندنا...

 ـ «مالك يا ابو هويده شو صار معك؟» وروى لهم ما حصل، روى لهم كيف دخل الحدود وترقب لأكثر من ساعتين كل حركة من حركاته، واقترب كثيراً وهجم عليه، ربط فمه بعد أن ثبتها براحة كفه ساعتين كل حركة من حركاته، واقترب كثيراً وهجم عليه، ربط فمه بعد أن ثبتها براحة كفه ومسك يده من الخلف ولبطه «مشي، امشي يا خنزير، يا كافر، امشي». تمنع وأحيانا يهبط ليجلس على الأرض «لكن السكين كانت على العنق، ماضية كثيراً يا خوي، كان يلعبط كثيراً، ظننت انه يرفض المشي، لكن الدماء كانت سالت على يدي وأدركت بأنه أصبح ميتاً عندما هوى للمرة الأخيرة ولم ينهض. لعنت حظي ودين هالسكين الماضية وأجيت.

llll

ودع جميع من في المقهى فرداً فرداً وخرج تتبعه باقي المجموعة بعد أن لبسوا عدتهم وجهزوا أنفسهم «هيك، على عينك يا تاجر».

ـ «خلينا نشوفك يا حميد».

ـ «إنشاء الله بعد عودتكم بالسلامة».

ـ الله يسهل عليك يا أبو هويدا، الله يخليك النا»..

ـ «توكلي بالله يا أم علي».

مشي أبو هويده أمامهم واثق الخطوة تتبعه باقي المجموعة، يسيرون في الظلام الذي زحف باكراً، أضواء متناثرة خافتة تنبعث من القرية، لا تكاد ترى وهم بعد لم يغادروا حدودها، ونباح كلب يطيل النباح، وفي المقابل تشعشع المستعمرات بالأضواء الواضحة تستطيع ليلاً أن تتعرف عليها جميعها.

بيت يوسف، جيشر، الجفتلك، بيسان:
الله يرحمك يا انو غيدا «عرفني عليهم ومضى»... مشى الفسفوري بخطى ثابتة وبنفسية مرتاحة متفاخرة بعد حديث أبو هويده في المقهى، يسير غير آبه للموت.

مقاتلون من المجموعات الأخرى يطالبون بالانضمام لمجموعة أبو هويده، معه الموت مستحيل إلا إذا وقع القدر.

وتمضي المجموعة في المسير... غابت الأضواء، أصوات زقزقة، وصفير، ووقع أقدام، وتحرك أشكال سوداء، وريح خفيفة تجفف العرق على الوجوه.

ـ «شاستري، علي، فؤاد، همس صوت أبو هويداه" نحن نقترب من قناة الغور"... هنا تضعون الرشاش الآن، وبعد أن تستريحوا ثبتوه هناك. ألحقني يا شاستري، ابتعدا قليلاً وعادا... هاي العبّارة، إياكم أن ترموا إلا بعد سماع قذيفة الـ B7. في حال ما بتسمعوا صوت القذيفة فوراً أطلقوا النار، العدو أمامكم ولا يبعد من هنا أربعمائة متر، أخواني!! الشرشور كامل، وبعدين فوراً للعبارة. ممنوع حد ينجرح، ممنوع حد ينخشط، مفهوم، تبقوا هنا بالعبّارة حتى المساء، حتى احضر لعندكم.

ـ أخ أبوهويده!! يوجد عبّارة تحت مرمى الغرينوف هناك.

ـ يا شاستري الدبابات، وممكن الطيران يقصف فوراً.

الموقع هناك... بعد الرماية مباشرة تركضوا بأقصى سرعة، إلى هذيك العبّارة، لأن الرماية ستتركز هنا، أخوي شاستري شد همتك، علي، كيف معنوياتك؟؟.

ـ حديد.

ـ هيك بدي إياك.. وفؤاد؟؟.

ـ تنك، وأتبعها بضحكة خافتة.

ـ اخص عليك، رصاص بدي اياك رصاص اخوي.

وتابع الثلاثة الآخرون ابو هويده والفسفوري ومحمد المسير بعد أن ودعوا رفاقهم على الكرينوف، الثلاثة كانوا يرتجفون من البرد بعد أن استقروا في بيارة أبو العبد المحاذية للشريعة (نهر الأردن) في انتظار الصباح كي يأخذوا مواقعهم أمام الهدف مباشرة، نصف مجنزرة محملة بثمانية جنود مع الرشاشات.

الانتظار يطول، ومثل هذه المواجهات تجعل الإنسان يطيل التفكير في مختلف القضايا التي تزدحم في مخيتله، كانت تلك العملية بداية منهج جديد في التعامل مع الأعداء: في الصباح، «عينك عينك».

لقد سبق للفسفوري أن شارك بدورية ليلية، وواجه أشباحاً ليلية. لم ير فيها شيئاً بوضوح، صحيح أنه أصاب مجنزرة الكمين في دورية طبريا بعد أن فتحت نيرانها بغزارة عليهم، لكن الذي أرشده إلى مكان المجنزرة هو مصدر الطلقات. لم ير المجنزرة بشكل واضح، ربما كان مصدر رشاش الإطلاق كمين. ربما كانت دبابة، المهم أن القذيفة أخرست الرشاش. لقد رأى الشباب والفتاة الخارجين من المرقص بالقرب من سمخ، ولكن لم يرَ ملامحهم عن قرب، مرت المجنزرة ثلاث خطوات عنه لكنه لم يرَ السائق أو رامي الرشاش، أما اليوم، أما هذا الصباح فهو على موعد معهم مباشرة بدون حاجز، لو كان على الرشاش لكان فيها وما فيها، لرمى كل الطلقات في الاتجاه حيث تشتعل النيران، لكن دوره يختلف الآن، سيقف ويسدد مباشرة، سيقف أمام المجنزرة وينظر من المسدد إلى الشعيرة إلى الهدف، سيحرك القاذف والمجنزرة تسير حتى تتطابق هذه الأشكال الثلاثة وبعدها سيضغط الزناد.

رغم البرد الشديد الآن في البيارة إلا أن الدم يجري حاراً في عروق الفسفوري وهو يفكر في لحظات المواجهة، لقد اقترب الصباح.

«جاهز يا فسفوري، ها، وين سارح يلاّ، توكل على الله، اخوي محمد انهض»

كان محمد يحتضن سلاحه بين قدميه وتكورت ركبتاه ورأسه وسلاحه حتى لتحسبه برميلاً مدوراً. لقد ناداه أبو هويده مرتين ولم يصحُ إلا عندما «لكشه» انهض «هسْ»!! لا وقت للنوم!! بس ترجع نام لثاني يوم ـ يلا خوي شد حيلك، إتعوّذ من الشيطان وانهض».

بدأت ملامح الصباح تشرق من بعيد، والندى يغطي العشب، ويكسو أوراق الموز الخضراء، فتتبلل... بدلات الكاكي والسلاح... ويزداد ارتجاف الأجسام أكثر في هذه اللحظات القصيرة الطويلة من فترات الصباح المشحونة بأقصى التوترات الحادة، مغلفة بهدوء طبيعي لا يعتاده إلا من يألف هذه الحالة مرات ومرات حتى تصبح كعادة، فيرى زميله مستشهداً قربه فيقول «الله يرحمك»، يتبعها بنظرة قصيرة يضغط فيها على زر الذكريات، ويمضي ليرى زميله الحي واقفاً أمامه فيقول «الحمد لله على السلامة» وتكر مسبحة الحديث عن الحياة وقضاياها»: دير بالك من الطريق... «الدمعة في العين عندما ينظرون إلى الخلف، إلى جثث الأصدقاء والأمل والإشعاع، والحياة في العين الأخرى. بعد أن تجمد الرياح... دموع الحزن وهم في الطريق، في المسير إلى الأمام، إلى الحياة».

«بعد قديش حتى نصل أبو هويده»؟ تساءل الفسفوري وأسنانه تصطك والكلمات ترتجف في شفتيه، وجسمه تختلجه قشعريرة من البرد، تجعله يقف كرجل هرم اضنته الحياة فأحنى كتفيه، ووضع يديه في جيبه، ومشى محدودباً تعباً من أعباء السنين الثقيلة.

ـ« وصلنا وصلنا يا خوي، مالك تعبت! هس... قمنا من الاستراحة، اسمع صوت النهر يا خوي». وارتسمت على شفتيه ابتسامة سريعة لسماع خرير المياه التي أصبحت جزءاً من شخصيته. كم من مرة أنقذته تلك المياه من الموت، كم أنت رائع أيها النهر وأنت تحتضن أجساد الرجال لتحميها من الرصاص، لتنقلها من الأمان الزائف الملاحق بالموت إلى الأمان الهادئ في قلبك، تارة تكون قاسياً جداً فلا ترحم من لا يجيد السباحة فيغرق فيك، يحبونك بموتهم وتارة تكون غاضباً عنيفاً فيستعينون بالحبال، يشدونها على أجسادهم وتجتاز المجموعة غضبك بهدوء، وتارة أخرى تكون منهم، تكون فدائياً لطيفاً فترفع باطنك فتحملهم مشياً على الأقدام إلى الجانب الآخر، وتبقى في الانتظار، قسم يفي بوعده لك فيعود، وقسم آخر يفي بوعده للأرض فيبقى فيها دون أن يعود.

كان لهاثه متصاعداً، اقترب قليلاً من الفسفوري وعيناه تنظر إلى هناك، تلمع، تبرق كالغضب الزمهريري:

«أخوي هذا هو الماتور، قدامك شايف وإلا علامك»؟

ـ آ ـ آ ـ شايف

ـ «الشارع بمحاذاته تماماً. من هناك ستمر المجنزرة، انتبه اخوي، بيّض وجهنا ها، مش تخطيها زي ما عملت بالباقورة، كون زي عمر بدورية طبري».

ارتجف الفسفوري قليلاً عندما ذكّره أبو هويدا بطبريا. تذكر تلك اللحظات بسرعة. لكن صورة عباس كانت عالقة في ذهنه، صورته والرصاصة مستقرة في جبينه مباشرة، لم يأخذ الاحتياطات التامة، رفع رأسه قليلاً فكانت الرصاصة في الانتظار ارتمى على ظهره ووضع يده على مؤخرة رأسه ونام..

ـ عباس، عباس؟

لم يجب، اختراق الرصاصة في الجبين لم يكن له سوى اثر بسيط لكن الدم في الخلف،

ـ «النابلسي عباس يا أخوان ـ يا أخوان عباس ميت، ميت، مات عباس».

ـ «كان أول إنسان يموت هكذا بين يديه، رأس زميله مدمى، لكن عينيه مفتوحتان، ووجه صامت ضاحك قياساً مع صلابته في الأيام العادية، أيام حياته في القاعدة.

مسح الفسفوري وجهه براحة يده ليطرد هذا الكابوس الذي ألمَّ به الآن. لقد انقبضت نفسه إلى نقطة مكعبة، تكبر وتصغر بطريقة أفقدته شعوره بالبرد. فقط اطرافُ الأصابع ورأس انفه وجبهته خارج جسمه، ما تبقى من الجسم تسري فيه الدماء وبشدة هذه المرة، يكاد يحس دفقات الدم تصعد بقوة إلى وجهه، تلمّس مؤخرة رأسه لا شعورياً.. الدم يتدفق من راس النابلسي عباس، يده حمراء ويدي حمراء، حفرة عميقة لزجة، طرية وألوان مختلفة، بياض المخ، سواد الشعر احمرار الدم.

عاد ينفض رأسه مرة أخرى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» قالها في داخله وأغمض عينيه قليلاً بعد أن ألقى قاذف ال ب7 جانباً، وسقط في محيط من الهدوء الرائع «هي موتة واحدة مش موتين«... اللي بدو يصير يصير!! «اطلب الموت توهب لك الحياة». إذا كان الموت قادماً فلابد من المواجهة «إنها متعة جيدة أن تقارع الموت وجهاً لوجه، أن تقهره أو يقهرك.

تحركت شجيرات القصّيب قليلاً، فانتشله ذلك الصوت من عالمه العنيف فالتفت إلى يمينه، وإذا بأبو هويدا بجسمه المبرقع عارياً كما خلقتني يا ربي، يسير باتجاه حافة النهر فجاءت عينه مباشرة بعين الفسفوري.

ـ اخوي انتبه أنا رايح وجاي.

بقي الفسفوري على حالته مشدوهاً مردداً في نفسه «من يجد مثل هؤلاء الأصدقاء معه تبقى لعبة الموت سخيفة، يموت الموت بين الشجعان.

دبت الحياة في جسد الفسفوري بعد أن وصل حافة الجمود فراقب بعينيه حركة ابو هويده في الماء، أربعون متراً اجتازها بهدوء، أصبح والنهر واحدا... من الخلف قرقعة أغصان.

ـ «وين راح ابو هويده؟«تساءل محمد وهو ينزل طرف الشماغ عن فمه.

ـ لا اعرف، لم يقل لي، شلح ثيابه ودخل وحده.

ـ شو مجنون الزلمه، ليش تخليه ينزل، مش عارف إنو"بزتّ حالو" على الموت بدون حساب.

ـ لا اعرف يا أخ محمد، صدقني لم اره إلاّ على حافة الماء.

ـ ش ش ش وطي صوتك، هذا هو إجا.

غاب عشرة دقائق وعاد بماذا؟ جالون ماء كان موجود بالقرب من الماتور.

ـ كيف بتنزل بالمي بدون ما تخبرنا؟

«ودي اصلي صلاة الصبح، ما في شي يا شيخ».

وابتعد قليلاً، فاتمّ سنن الوضوء، ولبس ثيابه وتوجّه نحو القبلة «الله أكبر».

ابتعد محمد وهو يحرك برأسه يميناً وشمالاً علامة عدم الرضى وأخذ الفسفوري وضعية اخرى لجلسته بعد أن تخدرت رجلاه وهو ثابت يحرك عينيه فقط باتجاه النهر، وباتجاه هذا الواقف امامه بين «يدي ربه».

ـ علامك يا فسفوري ـ ليش ما تصلي زيي؟

ـ مش وقتوا يا أبو هويده نحكي بَهلْموضوع هس؟ بعدين نحكي، غلط يا أبو هويده غلط هالشغل.

ـ «مش عاجبتك الصلاة؟ ها؟ زباين اليوم غير شكل يا عمي. هذا الذي ناقصنا آخر العمر اصغر منك قلك بع».

سُمِعَتْ بَعضُ الحركات في الجانب الآخر أوقف الحوار فأخذ كل منهما وضع الاستعداد، اختفى ابو هويده في ثنايا الأرض، سبطانة الكلاشن وحدها ترى بعيني الفسفوري، ومحمد يجلس خلف إحدى الكترات مطلاً على الفتحة الصغيرة بين الشجر والتي يفترض أن يطهر بها من سيبقى حياً من مجنزرة الأعداء، وبقي الفسفوري وحده عارياً إلاّ بعض شجيرات القصيب تقف أمامه متناثرة متباعدة لا تحجب عنه إلاّ القليل من المساحة المقابلة. هو سيتصدى أولاً... سيقف، سيطلق النار، سيكسر حاجز الصمت، وبعدها تشتعل وبعدها... ممكن الموت... وبعدها يرمي الغرينوف والهاون والدبابات والطائرات. هو سيقف أولاً وبعدها الزلزال.

بزغت الشمس، ولكن البرودة ما زالت في العروق، الانتظار يطول لأكثر من ساعة، ساعة ونصف، ساعتان، أتعرف ما طول الساعتين إنها حبل العمر قبل الانتهاء.

ـ الآن سيطلّون... وتزداد حركة الحياة... تُسمع بعض الأصوات، ربما هي ليست إلا أصوات، لكن في مثل هذه اللحظات يشكل الإنسان بوحدته وبمواجهته الموت إشكالا من الخيال، أحلاما رائعة، عالماً إنسياً، يريد أن يسمع الناس، يريد أن يسمع صوتاً، لا فرق صوت كلب، صوت حمار، صوت إنسان، يريد الانتماء إلى الحياة إنه على الحافة، لم يعد بمقدوره أن ينظر إلى الخلف، وعيناه جاحظتان في المستقبل المخيف.

يرفع الفسفوري القاذف يضعه على كتفه، يسدد، لكن القاذف يرقص، دقات القلب تتزايد، البرد «أني ارجف ارجف، ماذا اعمل» يستعين بكل ما يهدئ الأعصاب. يحلم بالماء البارد في الصيف، بكوب الشاي الحامي في الشتاء، بكزدورة مع حبوبة، يعصر ذاكرته يشدها إلى الوراء كي يرتاح، فيطمئن قليلاً، ولكن عندما يستعيد وعيه، عندما ينسى، عندما يعيش لحظته تعاوده قشعريرة البرد، أم هي قشعريرة الخوف؟

عقارب الساعة تتجه للوقت المحدد لمرور الدورية.

ـ فسفوري، انتبه انا سامع صوت المجنزرة جاي.

تكلم ابو هويده ملؤه الحذر «خذ وضع الاستعداد يا خوي، دير بالك، سأنام انا بقربك وسأطلق النار بعد أن ترمي قذيفتك فاهم؟

ـ ما يهمك يا أبو هويده، أعط القذيفة الثانية لمحمد حتى يكون جاهزاً.

ـ محمد سيكون على يسارك وأنا على يمينك، استعد حقاً إنهم قادمون ها هو أول جندي يراه الفسفوري بلحمه ودمه وعينيه منذ أن ولد خارج وطنه، ها هم القتلة الذين هجّروه ودفعوا أهله للرحيل «وجهاً لوجه، بيده السلاح وبيدي السلاح».

دقات قلب جواد تزداد، تضرب بعنف رؤيته لهم، لم تُضبط أعصابه بل ازداد التوتر أكثر فأكثر مما دفعه للضغط بيده اليسرى على قلبه كي يسكته خوفاً من انكشاف الدورية، أما يده اليمنى فكانت تمسك بالقاذف آخذاً كامل الاستعدادات للإطلاق.

«ما هذا يا فسفوري؟ اضبط نفسك، بيّض وجهك مع الجماعة، مالك هيك، ولو شو صار، معه سلاحه ومعك سلاحك، الحق حقك، مالك يا زلمة» مضى يحاور نفسه إلى أن أصبح اثنين من عناصر هندسة العدو أمامه ويا للمفاجأة:

لقد نادى الجندي الأول لزميله ووقفا قريباً من الماتور وقرفصا، وبدأ واحد منهما يتكلم بجهاز اللاسلكي... «أنهم ينظرون باتجاهي، صحيح؟» تساءل الفسفوري بحيرة ودهشة جعلت أعصابه ترتاح قليلاً لاستكشاف الثواني القليلة المتبقية قبل الانفجار.

وبدأ الفسفوري يعد نفسه ليطلق القذيفة إن بادروا هم بصلية رشاشات العوزي التي يحملونها بوضع المتأهب لأي طارئ.

«لكن ليس معي أوامر إلا بأن اطلق القذيفة على المجنزرة، إني لا أرى سوى الجنود الآن» تساءل في نفسه وهو يدرك بان مواقف الخطر تستوجب التصرف حسب الموقف «عسكري دبر رأسك».

إنه يرغب من الأعماق أن يقترب منه أبو هويده ومحمد الآن، ولكن لم يجرؤ حتى على الالتفاف حوله.

عيدان صغيرة من القصب تقف أمامه، وعندما كان عناصر هندسة العدو ينظرون باتجاه الضفة الشرقية كان الفسفوري يخفي جسده خلف هذه العيدان الصغيرة. لم يعرف هو نفسه لماذا تذكر على الفور تشي غيفارا حين يروي عن احد عناصره عندما داهمهم الطيران في حقل قصب السكر في كوبا. وقف هذا العنصر بجثته الثخينة خلف عود قصب السكر محاولاً بذلك أن لا يرى الطائرة المغيرة على الحقل. بهذا أقنع نفسه بأن الطائرة لن تراه.

استمر الجنديان بوضعيتهما السابقة يقرفصان بالقرب من الماتور وينظران باتجاه المجموعة. عشر دقائق بالتوقيت العادي لكنها اللحظة الأخيرة لآخر مشهد من المسرحية التي تتجمع فيها كل ذكريات الماضي، وأحلام المستقبل في خطر لحظة الحاضر. عيناه كانتا تحدقان باتجاههما وهما أيضا يحدقان في نفس الاتجاه، لقد أدرك بأنه سيقذف القذيفة عندما يرى أياً منهماً يهم برفع رشاشه باتجاهه.

«ممكن أن يكونوا قد كشفونا ويريدون أن يلقوا بمظليين خلفنا ليأخذونا أسرى». وقف شعر رأسه عندما طرأت على خاطره تلك الفكرة، ماذا سيعمل لقد سمع مرة بأنهم انزلوا مجموعة من المظليين خلف مواقع إحدى المجموعات بدون أن ينتبهوا لذلك، لقد كشفتهم دورية العدو قبل أن يبدأوا بالإطلاق.

قلّب الفسفوري المشكلة بكافة جوانبها، لقد أخذته الدهشة حتى كادت قدماه أن «تخدرا» لعدم قدرته على الحركة ولو قليلاً، فقط قلبه كان مسموحاً له بالحركة القليلة، عيناه جاحظتان لتتلقفا ادنى حركة للرد عليها فوراً. ممكن أن.. ممكن لو.. وإذا بهما يقفان ويتابعان المسير هكذا، وبهذا ابتعد كابوس ثقيل عن صدر الفسفوري وها هو الآن قد تناهى إلى سمعه صوت هدير المجنزرة. بدأت بالتحرك والاقتراب الصوت يكبر ويتصاعد أكثر فأكثر، وعيناه تودع ملامح الجنديين اللذين أربكاه لمفاجأتهما بجلوسهم أمامه مباشرة، تبعهم ثلاثة آخرون من زملائهم وهم يفحصون الطريق الترابي خوفاً من الألغام بالآلة الكاشفة... بدأ الخوف يغادر تدريجياً والجنود يبتعدون، وها هو الآن ينتصب بكامل طوله بالرغم من أنه الأفضل له أن لا ينتصب هكذا. لكنه استراح الآن كثيراً، شعر بالرضى والقناعة التامة والهدوء الشامل يجتاحه بعد أن زال الخطر غير المتوقع، احس نفسه عملاقاً الآن، واثقاً بنفسه ثقة مطلقة، منتظراً قدوم «السيدة المحترمة».

ها هو بوزها اللعين يطل بين الأشجار، وها هو الفسفوري يتابعها من خلال الشعيرة، لحظات وتكون أمامه مباشرة. الرجفة غادرته إلى غير عودة لحظات وتظهر بكامل جسمها بضع ثوان وتضيع المجنزرة بين الأشجار إن لم يطلق في الوقت الضروري والمناسب...

ـ ماذا، تضيع بعد كل هذا الجهد؟

ـ واحد من اثنين.. الشكل واضح، الجنود واضحون الأسلحة واضحة الحركة واضحة... وضغط على الزناد...

llll

صراخ، لهيب، صوت رشاشات، دخان، كلام غير مفهوم في الجانب الآخر.

تك تك تك تك... تك تك تك.

و و و و وبم... وبم... بم... بم...

«ماذا طيران»؟

لم يكن الفسفوري قد رأى طيراناً حربياً في حياته ما عدا الطائرات الحربية الجاثمة على الأرض في المطارات العسكرية.

ها هي الميراج التي سمع عنها كثيراً.

الطيار يهبط كثيراً «إني أراه، إني رأيته» صاح الفسفوري بصمت «إنه رآني، لابد أن عيني رأت عينه».

وسقطت قذيفة ألف باوند وتلتها ثانية وثالثة، ورابعة، أعقبها صمت كامل قطعته بعد دقائق أصوات قذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة... شجر الموز تطاير الأوراق الخضراء غاضبة، ترتفع قليلاً في الهواء، ربما احتجاجاً على القصف، لتسقط بعدها على الأرض كسمكة أخرجت من الماء ولفظت أنفاسها الأخيرة قبل السقوط.

لقد اعتقد الأعداء أن الدورية انسحبت إلى بيارة الموز» فلعنوا أباها بالقذائف من مختلف العيارات.

«فسفوري هل أصابك شيء، الحمد لله على السلامة» جفل الفسفوري عندما حركه أبو هويده من قدمه، لقد نسي أبا هويده ومحمداً في هذه الضوضاء، بل ما زالت فكرة إنزال المظليين تراوده وخصوصاً عندما لكزه أبو هويده بقدمه. لقد حرك سلاحه لكن هدأ بعد أن سمع صوت صديقه الحبيب.

ـ الله يسلمك وأنت كيفك؟

ـ تمام، وين محمد؟

لا أعرف، لم أره أبدا

ـ لا تخف، أجاب أبو هويده وعيناه تبرق يميناً ويساراً ليرى ما يجري في الضفّة الأخرى. لا تخف عليه، إنه ابن المنطقة» سيعود وحده.

الساعة الآن حوالي التاسعة والنصف، القصف مستمر بين مجموعة الحماية وبطارية المدفعية للجيش الأردني والمدفعية الإسرائيلية.

المجموعة الآن في أمان، الفسفوري وأبو هويده يزحفان بسرعة إلى البيّارة، بعد أن هدأ القصف على منطقة المواجهة «اسرع اسرع لا تنظر حولك، خذ الأرض اقفز خلف تلك الكترة.

أبو هويده خبير بتعرجات الأرض وانحناءاتها بدقة، هناك قضى ايام طفولته وشبابه. بدونه يصعب التصديق بان الشخص ممكن أن يسلم من المراقبات في الجانب الآخر بمروره بنفس المنطقة.

«الموز طيب كثيراً يا فسفوري خذ كل خذ» ناوله أبو هويده قرن الموز وهو يهم بإلقاء سلاحه على الأرض للاستراحة بعد المسافة التي اجتازاها زحفاً من منطقة الاشتباك إلى البيارة. يعطيك العافية، آ، هيك بدي إياك، بيّضتها يا خوي بيّضتها.

وعانقه وقبّله وعيناه تغرورقان بالدموع، دموع الفرح لنجاحه في العملية وسلامة مجموعة الهجوم.

«ولا يهمك يا أبو هويده، أحنا لها» أجابه الفسفوري بلهجة فرح بادية على وجهه وخصوصاً إنها المرة الأولى التي ينخرط فيها بمثل هذه المواجهة، هذه المواجهات التي تغيّر ما تعجز السنون عن تغييره، أوقات الهدوء هذه اللحظات التي تنصهر فيها الأمراض الاجتماعية يذوب فيها الفرد ليصنع من جديد في ضوء اللهب والنار.

فسفوري أخوي، شو رايك أن ننسحب الآن في الوادي، نستطيع أن نمشي ثلاثة كيلو مترات بدون أن تكشفنا المراقبة».

لكن يا ابو هويده ـ القصف ما زال يُسمع بشكل متقطع وهذا يعرضنا للخطر.

ـ ألحقني يا رجل ـ وحمل سلاحه، واستعد للمسير «اللي كاتبوا الله إلنا ما في مفر «شو رح يصير يا شيخ، امشي...

ـ يا أبو هويده هذا غلط» احتج الفسفوري.

ـ اتبعني يا خوي، أنت صحيح شابٌ متعلم، بس يا عمي أحنا بالكار هذا من زمان، يا فسفوري! هاي المستعمرات كنت ادخلها قبل الـ 65 حيث لم يكن معنا لا كلاشنكوف ولا بطيخ امْمَسْمِرْ.

لم يكن من خيار آخر إلا السير مع أبو هويده خصوصاً بعد أن تأكد الفسفوري في مسيرته بأنه غير مكشوف من قبل المراقبات اطلاقا.

ـ ما أروع كاسة الشاي أبو هويده، أنا تعبان كثيراً وعيوني لم تر طعم النوم طول ليلة امس، كنت ارتجف يا أبو هويده حتى لحظة وقوفي أمام المجنزرة».

«بتعرف يا فسفوري بلا قطعان لحديثك، كنت خايف انو ما تجرؤ على الوقوف قدام المجنزرة، صارت هاي القصة معنا قبل فترة، مع ابراهيم، بقي منبطحاً الأخ آخذاً راحته ومرت المجنزرة ولا كأنه في حدا حواليها... ها.. ها... ها.. يا خوي.. ما بدّك إلا تضحك في اليوم الثاني نزلوا الشباب وصابوه العرصات قبل ما يطلق القذيفة من الـ ب7 لكن ربك كبير كان مع المجموعة قاذف ثاني فصمطوها ورجعوا بإبراهيم متصاوب في ايدو».

ـ بدك الحقيقة يا أبو هويده انا لم اعرف ماذا حصل لي ارتبكت بشكل غير معقول، على فكره كيف اوضاع مجموعة الحماية الآن».

«لا تخف يا خوي، الشباب بأمان الآن في قناة الغور لكن يخرجوا بعدين مش هسّا» وإذا بصوت مدوي لإحدى قذائف الدبابات... تراكض كل من كان في المنطقة إلى اقرب عبّارة كي تقيهم شر القصف.

تلاصق جسدان بطريقة عفوية...

الأنفاس كانت حارة...

ظلام ليس بدامس، تستطيع أن ترى بعض الشيء، أن تميّز فتاة صبية من امرأة عجوز، إن تميز رجلاً من امرأة، لم يغير الفسفوري جلسته، بل بقي على حاله رغم أن قدمه اليمنى لم تكن مناسبة في وضعها، نصف جسده ملاصق لنصف جسدها تقريباً. ارتعشت أعصابه وكاد ينسى بان هناك قصفاً في الخارج، أخذ يرى أكثر فأكثر ذلك الوجه الدائري الأسمر بشفتيه المكتنزتين وبخصلة الشعر المائلة على الوجه...

استدار وجهه بالكامل وبقيت على هذه الحالة لأكثر من عشر دقائق، هي أيضاً لم تغير جلستها بالتأكيد يدها اليسرى في وضع مريح، لكن استمرت في جلستها كالعادة، وابتدأت بعدئذ بالالتصاق أكثر بالجسد الآخر، لم يعرف الفسفوري إن كان من جهته هو يمارس هذا الضغط أم هي.

القصف يشتد أكثر والقذائف تتساقط بالقرب من العبّارة والهمس يعلو..

ـ فوت فوت يا جواد، ابتعد عن الباب، فوت لجوّ!

ـ فش محل أحط فيه رجلي يا راجل.

ـ دبر حالك فوت لأحسن ما تموت، فوت.. ويأتي صوت من الطرف الآخر: ـ

انخنقنا يا عمي، خلينا نموت برا أحسن من هالحالة مش قادر القط نفسي يا أخوان، ساعدوني.. ساعدوني.

ويرد أبو هويده بصوته المعهود: ـ

علامك يا راجل، أفسحوا له مجال يا أخوان خلي يتنفس، طولوا بالكم شوي، يمكن شافوا سيارة عسكرية مرت من هون.

ـ ويرد عليه أكثر من صوت: ـ

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يغير هالحالة لأحسن.

ـ يا شيخ وين كاين، الدنيا مولعة من الصبح، دخلنا العبارة أكثر من ثلاث مرات اليوم، الدنيا قايمة قاعدة، يمكن مش كاين في المنطقة الخال؟؟.

ويرد أبو هويده بلهجته الساخرة.

ـ والله هسّا اجينا يا خوي..

ـ ايه، الحمد لله على سلامتك، بدناش نخلص من هالحالة الزفت، ساق الله، متى نرتاح كل يوم قصف، كل يوم طيران، يا عمي يدنا نخلص.

ـ بدك تطول بالك يا عم ـ إيه دنيا، غيرك بيموت وأنت خزات العين عنك بكامل صحتك، شو صاير عليك؟

لكن الفسفوري كان غائباً عن العتمة والحوار الدائر انه يحيا في غيبوبة رائعة تسري في خلايا جسمه كاملة لقد امتدت الأيدي بطريقة عفوية وتلامست أطراف الأصابع وتشابكت أصابع اليد الواحدة، حاول رفعها لكن اليد قاومت، رفعها مرة ثانية وقبلها.

ـ فسفوري، القصف هدأ، استعد حتى نخرج.

ـ ارتخت أعصابه ولكن يديها ما زالت تمسك بيده بقوة وعندما تحرك قليلاً، أدركت أنه المقصود بالنداء.

شدت على اليد مرة أخرى ورفعتها بهدوء إلى شفتيها وقبلتها بسرعة، وبقيت هكذا وخصوصاً أن اليد أتت في زاوية مظلمة من الصعب أن ترى من خلالها.

لم يشعر بأنفاسها على يده، لم يشعر بها وهي تقترب منه لتقبله. كانت دافئة وكان دافئاً ترك أبو هويده مدخل العبارة ولحقه الفسفوري، ورحلا إلى الجبال.

دخلوا بيت أبو الهيجا لاحتساء كوب من الشاي.

ـ عالعافيه.

ـ الله يعافيكم يا رجال «كوكو».

أكواب الشاي ملطخة من الخارج، لكن الرغبة عارمة بشرب الشاي وخصوصاً في هذه الأقداح. ارتفعت الأكواب إلى الشفاه ولكن دوي إحدى قذائف الطائرات القريبة من الموقع أسقطتها من أيديهم:

«يلعن أبوك لاحقيتنا على كاسة الشاي كمان».

امتشق أبو هويده سلاحه: ـ

الحقني يا فسفوري لكن بسرعة، يبدو أنهم كشفونا من نقطة المراقبة.

ـ قلت لك يا أبو هويده بلاش تطلع من العبارة ما رديت.

ـ مش وقتوا هس، ألحقني بسرعة.

عادت الطائرات مرة أخرى بعد أن حامت مرتين ركضا بعد الضربة الأولى.

ـ انتبه يا فسفوري، ستهجم علينا الطائرة بعد لحظة، حاول أن تركض بخط متعرج قليلاً.

لقد أصبح الاثنان فقط في منطقة مكشوفة تبعد حوالي المئتين متر عن سفح الجبل، والطائرات تحلق في السماء. لم تكن الطائرات سوى اثنتين لكن الصوت قوي والآن عليهم أن ينظروا إلى الطائرة على عـلــوٍ منخفض ورمت بصليه رشاش 800 وسقطت بالقرب من الفسفوري القاذف الفارغ التقطها بسرعة كذكرى رغم أن يده اكتوت قليلاً من حر القاذف الفارغ.

وضعها في الجعبة وتابع «رملاً» والآن دور الثانية، الهدف لم يُصَبْ بشكل مباشر، مازال الهدف يتحرك على الأرض مازال شخصان يركضان إذن لابد من إغارة أخرى..

لكن في تلك الفترة التي عاد بها للانقضاض كانت الصخور تحتضن أبو هويده والفسفوري ليختفيا وسط الممرات المتعرجة والصخور الشاهقة.

كان العرق يتصبب كالجداول من أبو هويده والفسفوري حين ركضا مسافة كيلومتر بأقصى سرعة، مشحونة بالخوف، وقد حالفهم الحظ إذ لم يرموهم بصواريخ ثقيلة.

ـ مليح اللي ما رمت الطائرة صواريخ كان صار فينا مثل الأخ الصيني في الشهر الماضي، يومها رمت الطائرة إحدى الصواريخ فحفرت بالأرض حوالي المترين. ويومها أصيب الصيني بطرش في أذنيه، كان يركض باتجاه الجبل كالأبله وأنا أنادي عليه ولكن لا حياة لمن تنادي يا خال.. ها .. ها .. ها..

ـ مالك تضحك يا أبو هويده؟

ـ «تذكرت علي في تلك الغارة حين فقد إحدى خصيتيه» بتعرف يا فسفوري أول سؤال سأله ايش؟ قال يا أخ أبو هويدى، رأيك إذا تزوجت أستطيع بواحدة..

وضحك الاثنان وواصلا المسير حتى وصلا إلى المستوصف المتأخر وقد شارفت الشمس على المغيب، وكم كانت الفرحة كبيرة حين كان حاتم بسيارته ينتظر مع باقي مجموعة الحماية التي تراجعت من مكان آخر دون أن يصاب أحد منهم بأذى.

تقدم الأخ أبو فتحي أبو الهيجا من الفسفوري وقدم له مسدسه هدية رمزية.

ـ أخ أبو فتحي أشكرك لهذه الثقة، وإذا سمحت سأقدمها بدوري للأخ أبو هويده.

ـ إنه لك ـ وأنت حر التصرف به، لو كان معي مسدس آخر يا فسفوري كنت قدمته لأبي هويده.. يله بينا الأكل سخن في القاعدة، شباب الميليشيا في القرية جهزوا لكم أروع أكلة مقلوبة.. يله سوق يا حاتم...

وانطلقـت السيارة والشمس ترسل أشعتها الحمراء لترسم على رؤوس الأشجار في الجبال علامات متقطعة دائرية حمراء ذكرّت الفسفوري برفاقه في طبريا. اغرورقت عيناه بالدموع لكن النشيد الذي علا في السيارة صلّب حنجرته وراح يردد مع الآخرين: ـ

لجعل درع من صدري واحمي رفيقي
بايديا شد من ليلي خيط رجوعي
حين يصيح لبروقي مافي عوقي
كلاشنكوف يسابقني طير من شوقي

أما موسيقار المجموعة حاتم فقد استطاع أن يواكب الأنشودة بزامور السيارة حتى دخل كرم الزيتون، الفرح، القبلات، العناق، دموع الفرح، دموع ذكري..

لكن الشمس قررت في تلك اللحظة أن تخلع ثيابها وتغطس عارية في البحر تاركة المرح في الضفة الشرقية والحزن والألم في الضفة الأخرى في فلسطين بانتظار أن تنام قليلاً لتنير الكون مرة أخرى بلونها المخضب بالدم عند الغروب..

llll

الفصل السادس
الأحراش  - عجلون -
أولاً : ذكـرى
الضباب يلف جبال عجلون ووديانها، النار مشتعلة تأكل ما تيسر لها من الحطب، والشباب مجتمعون برابط من صمت متقطع.

الفسفوري وحده محدقاً في النار ليرى بعض الآثار التي خلفتها ذكريات في أجازته الأولى بعد سنة ونصف من غيابه.

كان الثلج يزداد تراكماً ويتراقص في السماء ويتساقط كما تشاء الرياح الهادئة البرد يتسرب إلى كل أطرافه وهو يقود رجليه باتجاه دفء لم يعهده بعد...

الكلاشن ممتد وسط المجموعة والجميع يداعبون هذه اللعبة القاسية بشغف وحذر، الحديث ينتقل من هنا إلى هناك والفسفوري يقول رأيه في الحياة والثورة والموت والجمال والمجتمع لكن موضوعاً واحداً عجز عن التكلم فيه «الحب»، يزداد تدفق الدم في عروقه كلما اقترب الحديث من هذا الموضوع.

الضباب ذاته في عجلون يخيم على آرائه في هذه المسألة.

في تلك الفترة اعترضت الفسفوري سنابل قمح ذهبية ارتسمت على ذلك الوجه الجميل، القبلة لها معنى آخر والنظرة لها معنى آخر والحزن يرتسم بأعلى درجاته حاملاً في طياته فرحاً عظيماً قلما لفحت الفسفوري رياحه.

أنا معجبة بآرائك...

أتبعتها بنظرة ساحرة وابتسامة تكاد تكون مفقودة على شفاه أحرقها الظمأ الشديد إلى القبل في موسم الثلج الحار.

تلعثم الفسفوري قليلاً وتناسى الإجابة وتابع إجاباته حول اللعبة القاسية. كم طلقةً يتسع المخزن، وكم درجة في لوحة المسافات و و و و و ...

غداً سيكون آخر لقاء حول الكلاشن وبعدها نقول لكم وداعاً. الفسفوري عاد مسرعاً بعد أن استرق بضع ثوان من هذا الوجه الهادئ الخجول والمطرق بعينيه باتجاه الباب لملاقاته هناك. لم تعرف هي آثار كلماتها الهادئة في قلب هذا الفسفوري القاسي الذي يقبع الآن في سفح جبل مثلج من جبال عجلون يداعب ذكراه الممزوجة برائحة شجر البلوط المنتشر حوله، وشرارات النار المتطايرة كفراخ السنونو من حوله.

مازال الثلج يتساقط أكثر فأكثر، ونتف الثلج تغزو باب «المغارة» والنار تزداد اشتعالاً بعد أن ألهبت إحدى جذوع البلوط حماسها...

ـ حسناً، فلنضع يا شباب أبريق الشاي على النار... للشاي طعم آخر في هذه النار ـ ها ـ كان صوته دافئاً حنوناً تتسرب في ثنايا موجاته حرارة عنيفة يستشعرها الآن أكثر من أي وقت مضى. النعاس بدا يداهم عيون الشباب بعد أن حضروا قبل قليل من عملية «سد نهرايم».

صوت الحياة يزداد عنفاً وغضباً بعد نسف السد، تناقل الصدى والأثير صوتَ الانفجار الكبير وانقطعت الكهرباء عن ثلاثة مستعمراتٍ تستمد كهربائها من السد، وفاضت المياه لتغمر بساتين الغور القريبة.

خمس ساعات وعلاء يرتب شبكة التفجير أين؟ في قلب الماء لنسف السدود، الحرس يتمشى ذهاباً فتبدأ المجموعة في العمل، وإيابا ليسود صمت المقابر.

«علاء، فهد، خالد، حسين، شاستري... كلكم نائمون؟؟

وحدها نتف الثلج كانت تتراكضُ نحو الموقدةِ لتقتربَ من دفء الفسفوري أكثر من حبها للنار.. الثلج رباط جميل للذكريات.

«لماذا كنت جباناً ولم أفهم إشارتها؟

تابع الفسفوري قراءة ذكرياته وحده محاوراً ذاته بعد أن تعب من إيجاد رفيق آخر يحاوره.

وحدها الطبيعة... بثلجها وليلها ونارها وأشجارها سهرت معه في ذكراه والشباب جميعاً نائمون «ولكن ربما أنا فهمتها خطأ».

وازدادت حيرته عمقاً واتساعاً.

لكن في اليوم التالي كانت أكثر جمالاً وأكثر حيويةً ولبست أجملَ ملابسها وكانت قريبةً جداً من جسدي وقلبي.. أنفاسُها دافئة على وجهي، ألم أسمع كل ذلك؟؟

أجابه صوت خافت في نفسهِ، مستهزئا تارة وماطاً بوزه بدهشة تارة أخرى.

ربما هذه طبيعتها، ولماذا تحملُ الأمورَ أكثر من طاقتها، أنت لك عواطفك المصقولة، والمرتبة بطريقة تختلف عن عواطفها، ولكن الثلج واحد... الإنسان واحد... والعواطف متقاربة، والجرأة...

ليست واحدة، أجابه صوته الخافت.

ولكن...

لا أعرف!!

الشاي، افترس سواد الظلمة بزغت الشمس، وانتهت نوبة الحراسةِ ونام الفسفوري... نوماً هادئاً وعميقاً حالما بلا شيء يحمل كيساً من الهموم ويسير في وديان عجلون ليدفنه في مكان ما تحت القلعة، بدون أي شاهد، وبدون أية علامة، وسط الثلج الحار..

llll

وقائع المعارك والأحداث في أحراش عجلون
تلك هي الأحراش ذاتها التي استشهد فيها قسمٌ كبيرٌ من الثوار عام 1934 في يعبد على يد أحد ضباط التاج البريطاني، تعيد تاريخها القديم عام 1970 في عجلون تحت إمرة الضابط نفسه.

لم تسنح الفرصة للفسفوري ورفاقه بمتابعة حلمهم في بلدهم فكانوا في «دير أبو سعيد» يستمعون إلى قرارات ونداءات السلطة العسكرية وهي تنادي بتسليم الميليشيا للسلاح، فكان هذا إيذانا ببدء المعركة بين الثورة والسلطة.

لقد جربوا عضلاتهم في 10/2/ وفي 7/2 لاستطلاع القوى الموجودة لمعرفتها تمهيداً لضربها.

اجتمع قادةُ المحاور مع الأخ أبو فتحي أبو الهيجا (قائد الوحدة الجنوبية سابقاً وقائد قطاع عجلون لاحقاً) (استشهد في معركة إربد عندما دخلتها قوات السلطة) وقرروا نقل القاعدتين المتواجدتين في كل من دير أبو سعيد وكفر الما إلى أحراش عجلون حتى لا يسمح لقوات السلطة بالاستفراد بالقواعد المتفرقة والتي لا تلائم خوض حرب العصابات.

كانت العقبة المهمة بالنسبة للمنطقة هي الميليشيا المتواجدة في القرى التي تبعد عن بعضها البعض. فهي كالجزر الصغيرة في كل قرية وبعيدة عن مركز الثقل الأساسي في أحراش عجلون.

لقد تم إقامة علاقات جيدةً مع الأهالي في دير أبو سعيد. وبعض القرى المحيطة، فقد أخذت بعض المجموعات دورات زراعية لمدة شهر. ففي فترة بعد الظهر تنطلق دوريات زراعيّة إلى الكروم والبساتين ويأخذ بمشاركة الأهالي في الفترات المحددة لمساعدتهم على الوسائل الحديثة لتطعيم شجر الزيتون ولقص الكروم، كما بدا الشباب بمساعدتهم في قطف المواسم بالنسبة للخضار وفي حصد الشعير والقمح في المناطق المحيطة بالقواعد.

إن هذه الدوريات قد أدت نتائج رائعة من حيث العلاقة مع جماهير المنطقة، ان البعض منهم قد دخل في الشعبة الخاصة التي شكلتها أجهزةُ السلطة لافتعال الأحداث والمشاكل مع قوات الثورة في أماكن تواجدها ـ لكن جزءاً من هؤلاء بدا يعطي قوات الثورة كل ما يعرفه وكل ما هو مطلوب منه كمهمات في الشعبة الخاصة. فبعد التجربةِ معهم كانوا يقولون «أنتم لستم مثلما يقولون لنا».

أما من حيث العلاقات الاجتماعية فقد تبادلت المجموعاتُ المتواجدةُ في دير أبو سعيد مختلفَ أنواع العلاقات من المشاركة في الحياةِ اليومية، إلى الأفراح والأتراح، وتبادل الزيارات الفردية. وقد كان لمشاركة قسم من المقاتلين الصلاة في جامع القرية مردوده الحسن لدى الجماهير في تلك المنطقة مما أدى إلى التحاقهم بدورات تدريبية في القاعدة، وقد شارك قسم من الأهالي بشكل فعلي في الصراع مع العدو الصهيوني وذلك بتواجده مع مجموعات الحماية.

لكن هذه التجربةِ لم تكن مطبقةً في باقي المناطق، فقد كانت هذه التجارب تعتمد على نوعية المقاتلين في المنطقة ونهج مسئولهم.

عندما أصدرت الأوامر إلى قوات الميليشيا بالالتحاق الفوري بالقواعد العسكرية في الأحراش، لبى قسم منهم النداء، أما القسم الآخر فقد كان يخشى هذه الخطوة ويخاف الابتعاد عن عائلته خوفاً من الانتقام، فكان هؤلاء الضحية الأولى عندما دخل الجيش تلك المواقع وسيقوا إلى صحراء الجفر، إلى السجون.

اتخذت كافة الاحتياطات المتوفرة من تموين وسلاح ولباس، وحددت المنطقة التي تتيح المجال للقوات للتواجد فيها والمحافظةِ عليها لتكون قاعدةً أساسية للانطلاق منها.

هذه المنطقةُ كانت تمتد بين مثلث عجلون ـ السلسلة الممتدة بين المثلث والقلعة ـ الوهادنة ـ فارة ـ وادي الرمان.

كان لابد من المحافظةِ على هذه المنطقة بأي ثمن كقاعدة ارتكاز للعمليات العسكرية المختلفة. لكن الذي أتاح المجال للمحافظة على هذه المنطقة لمدة طويلة هو أن الثقل الأساسي في حرب ايلول الـ 70 كان في عمان العاصمة مما أتاح المجال للقوات في الأحراش أن تتمركز بشكل فعال أكثر في كل من عجلون وجرش والأحراش.

لقد كانت العلاقة مع أهالي القرى في هذه المنطقة تختلف باختلاف المجموعات المتواجدة ـ فهي تارة جيدة وتارة أخرى سيئة في موقع آخر.

بدأت المعارك في أحراش عجلون انطلاقاً من حادثة قرية «راسون» حيث ان دورية استطلاع من سرية الفرسان التابعة للقوات كانت تمر في القرية فما كان من عناصر «الشعبة الخاصة» الموالين للسلطة والمتسترة بألبسة مدنية إلا أن أطلقت النار على الدوريّة سقط نتيجتها كل من الأخوة شريتح وأبو ماضي.

لقد أنكر سكان القرية في البداية أن يعترفوا بالحادث، ولكن أحد عناصر التنظيم كان يعمل مدرساً في القرية اختبأ أثناء تبادل إطلاق النار بالقرب من جدار المدرسة، واستطاع أن يسمع صوت النساء في القرية يحفرن للشهيدين خلف جدار المدرسة. وفعلاً استطاع الأخوةُ إخراجهم عن طريق اللجنة العربية بعد وقف القتال المؤقت.

كان هدف القوات الثورية عدم الرد على أي استفزاز حفاظاً على العلاقات شبه المتينة التي كانت تربط هذه القوات بالقرى المتواجدة هناك، وقد استجابت القرى المتواجدة في المحور وهي ـ باعون، اشتفينا، فاره، الوهادنة، الصمدية لهذه العلاقة مع القوات. مع أن هذه العلاقة لم تكن بالشكل المطلوب.

البعض كان يردد «اللي بتجوز أمي هو عمي»

بقيت هذه العلاقة دون المستوى المطلوب رغم الدوريات السياسية والاجتماعية التي عُمِّمت على أكثر من موقع لاحقاً، فكان العمل أقربَ إلى التبشير منه إلى العمل الثوري الهادف.

الـهجوم على مثلث عجلون :
هاجمت فئةٌ من الدبابات المثلث وكان الهدف أن يدخلوا عجلون للاتصال بلواء الحسين المتواجد هناك، لكن الهجوم فشل، فقُتل وجرح البعض وأعطبت دبابة سنتوريون. ونظراً للموقع الهام للمثلث كانت ترابط هناك قوة مشتركة من جميع الفصائل، وقد ذهب وفد يمثل المقاومة واجتمع مع قيادة اللواء التابع للسلطة الاردنية في كفرنجا وتم أخبارهم بأن أي قوة تمر عبر هذا الموقع ستضرب.

كانت حتى تلك الفترة بعض العلاقات تقام هنا وهناك بين قوات الثورة والجيش، فقد كان القتال على أشده في عمان بينما تتبع هذه المنطقة أو تلك سياسية الحياد في الصراع الدائر. لكن على صعيد عجلون فقد قطعت شعرةُ هذه العلاقة عندما تولى القيادة في عجلون ضابط آخر ألقى محاضرةً في الجنود قائلاً «سنفطر اليوم في عجلون وغداً سنتناول طعام الغداء في جرش...

وباشروا في ساعة مبكره الهجوم على محور عجلون، إلا أن الكمين المتواجد بالقرب من عنجره استطاع أن يعطل الهجوم ويدمر بعض الآليات وفر الباقي مذهولين.

في تلك الفترة كانت المدفعية المتواجدة في كفرنجا تمهدُ للهجوم بقصف كثيف على قوات الثورة المتواجدة في قلعة عجلون. كانت القلعة تشرف على جميع مواقعنا بدون استثناء نظراً لموقعها العالي والهام بالنسبة لمدينة عجلون والأحراش المحيطة في المنطقة.

كانت المقاطعة، وهي مركز عسكري في عجلون، قد أُحتلَّت من قبل القوات الثورية المتواجدة في عجلون، وقد سلحت القواتُ نفسها بأسلحةٍ كثيرةٍ كانت في المقاطعة، وبقي قسمٌ كبيرٌ لا يستفاد منه لعدم توفر الأسلحة التي تستعمل تلك القذائف المتواجدة.

لقد اقترح البعض تفجير بقايا المستودعات، وهي بآلاف الأطنان. لكن رُفض هذا الاقتراح نتيجة التأثير الذي سينتج عن الانفجار بالنسبة للبيوت المحيطة وغير البعيدة كثيرا ًعن المقر.

llll

بدأ مقاتلو الثورة بشن هجمات مفاجئةٍ وسريعةٍ على مصادر إطلاق النار من قبل الجيش، كما ذهبت مجموعاتٌ لقطع الطريق في الغور وخصوصاً عند انسحابِ اللواء الأربعين للدبابات المتراجعة أمام تقدم القوات السورية وقت ذاك. لكن الفرصة لم تسنح لضرب التجمع الكبير للآليات في منطقة «القرن» في الغور.

هذا راجع بالأساس لعدم وجود منهجيةٍ واضحةٍ وخطةِ عملٍ موحدةٍ على صعيد المنطقة في التعامل مع الجيش، ناهيك عن عدم وجودها على الصعيد العام ككل في الأردن. لقد وصلت الأمور إلى الحد الذي يتطلب فيه حسم الصراع باتجاه الحفاظ على الأردن كقاعدة ارتكاز للثورة، والتي بدونها سيكون الصراع مع العدو ناقصاً وصعباً. هناك أطول جبهة مع العدو، وتوجد غالبية الشعب الفلسطيني في الضفة الشرقية وبتماسٍ مباشر مع الجزء الآخر في الضفة الغربية ومناطق الداخل.

ان مجموع العمليات والدوريات التي كان يقوم بها المقاتلون لم تؤثر تأثيراً استراتيجيا على الجيش في المنطقة. لقد لعبت الأسلحة الثقيلة في قوات الثورة دوراً دفاعياً سلبياً حيث جمّدت قسماً كبيراً من المقاتلين وشلت فعاليتهم في تحركهم لضرب الأهداف العسكرية.

منطقة الرادار :
لقد كانت هذه المنطقةُ تفصل بين قوات الثورة المتواجدة في كل من جرش وعجلون. فقد كانت قوات الجيش في موقف المتفكك والضعيف في تلك الفترة. لكن عدّم فعالية العمليات العسكرية التي تمّت، وقلة وجودِ المقاتلين المتمرنينَ على الأسلحة الثقيلة في عجلون، واتساع الاشتباكات في عدة محاور، كان له الأثر الواضح في عدم قدرة تلك القوات على القيام بمهمة الاتصال الكامل مع جرش.

التحاق قوات الجيش الوطنية بقواعد الثورة :
بدأ قسمٌ كبير من لواء الحسين ولواء خالد بن الوليد بالالتحاق بالقوات المتواجدةَ في المنطقة، وقد تم الالتحاق بطرق فردية وغير منظمة بعثت لهم الاشارة بالالتحاق قبل المعركة الفاصلة، وهذا ما أتاح لقيادة الجيش بأن تعطل فعالية الكثير من الوطنيين قبل بدء المعركة بلحظات. وعندما بدأ صوت الثورة يعلن التحاق قوات الجيش بالثورة بدأت مجموعات عدة تلتحق بالقواعد المجاورة، فكان أغلب الذين التحقوا بعجلون من لواء الحسين. لقد كان بالامكان أن يبقى اللواء بكامله في مكان تواجده وخصوصاً بأن غالبيته كانت موالية للثورة، لكن افتقاد العمل المنظم أدى إلى الالتحاق الفردي لهذه المجموعة أو تلك إلى القواعد المجاورة.

انتهت المعارك في عمان على ما انتهت إليه من وقف للقتال، والاتفاق على تنفيذ اتفاق القاهرة. وصلت اللجنة العربية، ووصلت معها بذور التراجعات. فتحوا لقوات الثورة طريق اربد عجلون بعد جهد جهيد مع ما كان يرافق ذلك من حواجز فردية وأحياناً رسمية «كلما دق الكوز بالجرة».

لكن كان لهذه الهدنة حسنة جيدة وهي تمكين قوات الثورة من إدخال الكثير من المستلزمات العسكرية والتموينية خصوصاً بعد زيارة أبو فتحي قائد القطاع إلى دمشق.

وفي تلك الأثناء أيضاً استطاعت السلطة أن تجمع شتاتها وأعدت العدة لاستعادة مواقعها المفقودة نتيجة حرب أيلول.

سقطت نتيجة لتلك المعارك جرش المدينة، فكان لهذا السقوط تأثير سلبي على القوات المتواجدة في عجلون خصوصاً وأن الجيش تعمد أن يفتح معركتين في وادي الرمان وفي مثلث عجلون.

في وادي الرمان استطاعوا بمساعدة الشعبة الخاصة في محور الكورة أن يحتلوا وادي الرمان وذلك بعد معركة استمرت ليومين انتهت بخروج قوات الثورة المتواجدة هناك من المنطقة، وقد استشهد اثنان من المقاتلين في ذلك الموقع. لقد وقفت «جديتا» موقفاً وطنياً طوال تواجد قوات الثورة في الأردن. لكن التصرفات غير المسئولة لأحد قادة المحور هناك قادتهم في اتجاه مضاد وخصوصاً بعد سلسلة من الحوادث التي مست أبناءهم بشكل مباشر.

ذهب وفد من المقاومة واجتمع بقيادة الجيش في مقاطعة عجلون بعد أن استعادها الجيش، وكان واضحاً من حديثهم أنهم يريدون أن يحتلوا المثلث بشكل أو بآخر، وقد أنذروا القوات أربعة وعشرين ساعة بوجوب إخلاء منطقة المثلث ومنطقة عنجره.

عقد اجتماعٌ لضباط القطاع مع أخوين من القيادة المركزية المتواجدين في اربد «أبو ماهرـ بهجت أبو غريبة ـ صالح رأفت» وتم إبلاغهم بخطورة الموقف، وكان هناك وجهتا نظر:

رفض الانسحاب، وبالتالي خوضُ حربٍ موقعية تنتهي بخسارة الموقع وخصوصاً بعد أن تم ابلاغ وفد المقاومة بعدد العناصر المتواجدين في المثلث ومواقع الخيم والأسلحة وغيرها من التفاصيل، وقد تبين بعدئذٍ بأنه كان يوجد بين المقاتلين أحد العملاء والذي تم إعدامه بقرار من قادة المحاور.

الحل الثاني هو الانسحابُ الظاهري عن المثلث حتى لا تُفرض حربٌ موقعيةٌ ولكن يبقى المثلث تحت سيطرة المقاتلين، على أن لا يدخله أي عنصر من عناصر الجيش.

وقد تم اعتماد الحل الثاني.

أما في عجلون فقد انسحبت من هناك قوات الصاعقة وجبهة التحرير العربية إلى الأحراش بعد فترة قصيرة. وبعد تدخل الجيش لدى الوساطة العربية مرات عدة، احضر الجيش سرية من قواته ووضعها بالقرب من قوات الثورة في مثلث عجلون. وكان واضحاً أن الجيش يهدف إلى احتلال مواقع الثوره الواحد تلو الآخر عن طريق اللجنة العربية وخصوصاً بأن حبات المسبحة بدأت تكر على صعيد المواقع في كل البلد.

تبعها بعد ذلك وضع حاجز لقوات السلطة على الطريق المؤدي إلى عجلون وأخذوا باستفزاز القوات بشكل مستمر.

كما أن إخلاء قوات الثورة من عجلون كان له أثره السيئ حيث أن البساط أخذ يُسحبُ من تحت أقدامنا، وتُوج هذا التراجع بانسحاب قوات الثورة من قلعة عجلون ذات الموقع الاستراتيجي والهام والذي يشرف على كل المواقع للقوات في المنطقة،

وذلك بحجة أن القلعة سياحية ويجب أن تبقى حيادية، لكن سرعان ما احتلها الجيش ليلاً عندما انسحبت قوات الثورة منها في الصباح.

كان واضحاً بأن السلطة تعرف ما الذي تريده في تلك المرحلة وهو إحكام الطوق على القوات المتواجدة في الأحراش حتى تحين الفرصة المناسبة للانقضاض النهائي عليها، بينما لم يكن لدى القوات أي مخطط وأي هدف محدد اللهم إلا الصمود والانتظار مع المعرفة المسبقة بأهداف المرحلة المقبلة للنظام. وقد طلبت السلطة في فترة لاحقة من قيادة القوات الانسحاب من القرى بحجة أن التواجد في القرى يعرضها لخطر قصف الصيران الإسرائيلي، وكان الرد بالرفض القاطع لهذا الطلب.

احـتـلال إربـد :
منذ انسحاب المقاتلين من اربد بحجة أن الغور هو مكانهم الطبيعي والجيش يملأ جنبات المدينة ويكدس قواته هناك، فنشروا القناصّةَ في مختلف أنحاء المدينة واحتلوا المقاطعة بعد انسحاب المقاتلين منها وبدأوا بالاستفزازات التي انتهت باحتلالها عسكرياً.

في تلك المعارك استُشْهد آمر قطاع عجلون ـ الأخ ابو فتحي أبو الهيجا، وكان لاستشهاده وقع شديدٌ في نفوس المقاتلين، تحركت على الأثر عدة دوريات لتضرب مواقع السلطة في المناطق المجاورة كرد فعل على عملية الاحتلال واستشهاد أبو الهيجا.

وهكذا انقطعت خطوط الإمداد من سوريا عبر اربد.

في هذه الفترة نشطت مجموعة القوات المتواجدة على الحدود السورية الأردنية،وحضر الأخ أبو علي اياد إلى قطاع عجلون حيث كان لوجوده اثر كبيرٌ في رفع معنويات المقاتلين وتعزيز صمودهم.

بدأ الأخ أبو علي أياد بتجهيز دوريات أدناها ثلاثة وأقصاها خمسة لتتحرك في المناطق المجاورة للاستطلاع وكانت مع بعض الدوريات مهمات لإعدام من تثبت خيانته أو انتقم من المقاتلين. لقد كان لتشكيل هذه الدوريات أثره الجيد في المنطقة، كما امتدت قوات الثورة لتصل إلى مناطق أبعد من التي كان المقاتلون فيها سابقاً. وخاصة بعد انسحاب المقاتلين من عمان.

وبعد انتهاء مهام الدوريات، تمركزت قوات الثورة في المناطق الجديدة التالية:

في منطقة المثلث خلف مفرق عبين. وفي التلال المجاورة لأم الينابيع، وتلال سبيره وفي الغرب من كفر ابيل... وباقي القوات كانت متواجدة داخل هذه المنطقة شبه الدائرية شغلت هذه المناطق خمسة سرايا عسكرية ما عدا قوات الصاعقة.

بعد انسحاب المقاتلين من عمان تبيّن أن المخابرات الأردنية استطاعت أن تصل إلى القوات عبر عدد قليل من العناصر التي تبرز عادةً خلال مرحلة التراجعات وفي الأوقات الخطيرة، وخاصة عندما بدأت تظهر بوادرُ انتصار قوات السلطة وتضييق المنطقة على قوات الثورة.

لأول مرة تم إعدام أحد هؤلاء بعد أن قام بمهام خطيرة حيث دفن ثمانية فدائيين تحت الأرض نصفهم كان مجروحاً والآخرون سالمون.

لقد أساء البعض في العلاقة مع القرى المجاورة، وتضررت بعض المزروعات للفلاحين، حتى أن أحد المقاتلين كان يأخذ آخر عنزة من القطيع الذي يمر بالقرب من القاعدة وكان الراعي يفقد كل يوم عنزة على مدى أسبوع حيث اكتشف وهو يسير بالقرب من القاعدة قدماً لعنزة تخرج من الأرض، فاكتشف بعد أن أزاح بعض التراب بوجود حفرة كانوا يضعون فيها بقايا العنزة... ولكن الجهة المسئولة عوضت عليه وعلى كل من تضرر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

قررت القيادة في تلك المرحلة بناء مدرسة في الصمادية وجامع في واشتفينا وعندما علمت السلطة بذلك اعتقلت في عجلون متعهد البناء وكان لذلك اثر سيء وسط الأهالي والفلاحين وهددت بقصف الجامع إذا عمر...

كانت تلك أصعب مرحلة تمر بها القوات بعد الانسحاب من عمان وإربد وعجلون والبقاء محاصرين في الأحراش فكان لابد من التحرك.

لقد بدا الكثير من المدنيين يعاملون القوات الثورية هناك وكأنها قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء. لقد جفت الكثير من الآبار في المنطقة وكانت بعض المجموعات تسير مسافة طويلة للحصول على «جركن» ماء. كانت بعض المجموعات تجلس في الليل ويبدأ كل واحد «بتعداد مجنزرات» القمل التي تختبئ بين ثنايا القميص أو البروتيل بروح السخرية والمرح، وروح النكتة يتصاعد عندما يكون عدد القمل في قميص القائد أكثر مما عند العناصر فيرد أحدهم «قائد حتى بأكثرية القمل»...

ولم يبق من التموين إلا المعلبات القديمة من السردين والطون حيث كان الكثيرون يفطرون منها ويتغذون ويتعشون.

كان كوب الماء من بعض الآبار تسبح فيه الديدان في القاع مما يضطر شاربه أن يغمض عينيه ويشرب إلى ما فوق القاع قليلاً.

ما زال الفسفوري يعيش في القطاع مع ازدياد مسؤولياته في القطاع، لقد أصبح مفوضاً سياسياً للقطاع ومسئولا عن العلاقة المباشرة بالقرى المتواجدة في محور القطاع. لقد أنهكه التعب لعملة المتواصل ليل نهار. وبدأ يعد أيضاً لمدرسة كوادر سياسية في إحدى الكهوف للعمل على خلق تيار سياسي وتنظيمي متماسك وللحفاظ بشكل أساسي على علاقة متينة وقوية مع جماهير المنطقة. لقد دخل هو نفسه أول دورة للكوادر السياسية أقيمت في وادي السير في تلك الفترة نرغب في تعميمها في المناطق القتالية مباشرة، لكن المعارك التالية حالت دون تنفيذ هذه الرغبة. بالرغم من الضيق الشديد والعمل المتواصل بقيت هذه الآمال تواكبه حتى اللحظات الأخيرة، لقد كان يصعد احدى التلال لزيارة مجموعة الـ م طـ هناك ولم يستطع أن يكمل صعوده الجبل.

ـ «كنت أسير إلى قمة إحدى التلال ولتأثير الجوع الشديد علي أخذت أرى الأرض تسير والجبال تدور حولي، فوقعت على الأرض ولم أصح إلا وأنا ممدد على سرير الطوارئ في إحدى مواقعنا العسكرية، بقيت هناك ليومين وتابعت بعدها سيري... لكن الوجه لم يعد وجهي حيث يبدو وكأنه قطعة صغيرة وسط لحيتي الكثيفة وشعري الطويل»..

تلك هي قصة الكثيرين...

ومع هذا اتخذوا جميعاً قرارهم بوجود قائدهم أبو علي أياد:

«علينا أن نبدأ عملنا العسكري فوراً في الأرض المحتلة لنُسمع الجميعَ بأننا مازلنا موجودين، علينا أن نصل إلى هناك مهما كلفنا الأمر، لكن إذا اصطدمنا بالجيش فلابد من الصدام» تلك كانت كلمات القائد للمقاتلين.

«أنها نفس الظروف التي انطلقنا منها سنة 1965 وعلينا متابعة المسيرة».

كانت الدموع تختنق في عين أبي أياد وهو يودع أبا صلاح قائد مجموعة الصواريخ المتجه لضرب بيسان. «شد حيلك أبو صلاح... أنا في انتظارك.

وبدأت الدوريات في كل ليلة تتجه إلى الأرض المحتلة، وقصفت بيسان مرتين، فجن جنون السلطة وفوجئوا كما العدو الإسرائيلي، وانطلقوا في اعتقال شباب القرى التي مر منها»

بدأوا يجهزون كل قواهم من اجل إجتثاث هؤلاء «المخربين» من المنطقة.

وقد شحنوا أهل القرى بكافة وسائل الاحتيال والكذب حيث لم يتورع بعض المأجورين منهم من قتل بعض المقاتلين بدق رؤوسهم بمسامير كبيرة، وأعادوا مرة احد المقاتلين مقتولا ومحملا على البغل، حيث ذهب لشراء دخان من قرية «ساكب»، فقطعوا لسانه ووضعوه في علبة الدخان وكتبوا عليها «مشروب الهنا»...

لكن ردة الفعل كانت أيضا خاطئةً حيث قُصفت القرية بالصواريخ وهذا هو المخطط الذي كانت تسير عليه السلطة. فقد عوقَب بعضَ الأشخاص بشكل مباشر حيث تمكنت دوريات المقاتلين من سحبهم من بيوتهم رغم تَواجد الجيش بينهم وجرهم إلى الأحراش لمعاقبتهم بشكل مباشر وهذا الأسلوب كان أجدى بكثير من ردة الفعل التي تنال بريئين في كثير من الحالات. لقد ساد جو في القرى لا يخدم القوات إطلاقا حيث بدا الصراع وكأنه بين أردني وفلسطيني.

استكملت السلطة قوتها المحاصرة وجزأً كبيراً من قواتنا ينتظر نتيجة عدم تبلور هدف سياسي محدد، ونتيجة انتظارَ لجان الوساطات التي عملت منذ سنة 36 على ضرب قوات الثورة, وصولا الجيش الانقاذ، ومروراً بحكومة حلمي باشا، والشكل الأولي لمنظمة التحرير، قبل سيطرة الثورة عليها، وانتهاءً بالوساطة في عمان.

لقد سأل احد المقاتلين احد القيادات... ما هو الموقف الحالي وماذا سنفعل... فأجابه «وان جنحوا للسلم فاجنح لها»... وكانت هذه الإجابة قبل أيام قليلة من الهجوم على الأحراش.

كانت القوات في عجلون تضرب مواقع السلطة في منطقة الغور على أساس نقل المعركة خارج حدود القطاع، وقد مرت الكثير من الآليات متجهة إلى جرش من مثلث عجلون ولم يتعاطى معها المقاتلون لأنهم اعتقدوا أنها مجرد تبديل للقوات.

انفجر في اليوم التالي الموقف في جرش في ساعة مبكرة من الصباح وعلى الفور أصدر الأخ أبو علي أياد أوامره للقوات في مثلث عجلون باحتلاله، وفعلا تم احتلاله في مدة وجيزة.

فتحت السلطة نيران مدافعها وبقصف متواصل على منطقة المثلث وعلى مقر القيادة في مثلث الوهادنة ـ فارا ـ وعلى مقر التسليح ومثلث الإدارة والمواقع القريبة من القلعة.

كان الهجوم الأساسي مركزاً على جرش حيث التنقل للقوات هناك. وحوالي الساعة الثالثة عصراً تلقى أبو علي اشارةً بسقوط جبل الاقرع، وبداية تراجع القوات في جرش.

هذه الفرصة اتاحت لقوات الثورة في عجلون أن تضرب مواقع الجيش المحيطة بالقواعد في عجلون من جهات عدة، لكن بعد ان وجه جيش السلطة هجومه على عجلون في اليوم الثاني بدأت القوات تواجه ضغطاً شديداً وقد تمت المراهنة وقتها على دخول القوات من سوريا.

كان الواضح من خلال سير المعركة بان السلطة ستحسم الموقف خلال أسبوع كأقصى حد لصالحها.

في عجلون :
كانت قلعة عجلون تشكل نقطة استطلاع ممتازة لمدفعية السلطة حيث ان ضرباتهم كانت محكمة. اشتد القصف أكثر فأكثر على المثلث وعلى باقي المناطق بشكل عام. وكان واضحاً أن الجيش يريد احتلال المثلث، كما باشرت قوات الجيش تقدمها على محور حلاوة، بعد صمود رائع للقوات هناك وتمكنهم من طرد سرية الجيش المتواجدة بمنطقة المثلث، وتصديهم مرات عدة للهجوم المدعم بالاليات من جهة اربد وعجلون على المنطقة، استشهد القسم الأكبر من القوات هناك وتراجع البعض إلى داخل القطاع.

استطاعت قوات السلطة أن تحتل المثلث في اليوم التالي وتصل حتى منطقة الإدارة في شتفينا.

في الليل دعم المحور بفصيل آخر واستمرت قوات الثورة بقصف مدفعية الجيش في كفرنجا..

وصلت القوات في عجلون برقية من القائد في جرش تفيد بان الجيش يطارد الفدائيين في جميع المناطق والقوات الآن تتجه إلى وادي خشيبه. المسالة بالنسبة للقوات في عجلون أصبحت مسالة وقت حتى يتم للسلطة احتلال المنطقة بكاملها.

في اليوم الثاني تقدم الجيش ووصل إلى منطقة المستشفى، لقد أبيدت القوة المتواجدة فوق باعون حيث استشهدت المجموعة بكاملها، وكان احد المقاتلين يجهز نفسه للزواج من فتاة من تلك القرية. وقد التقوا وسط الشارع وأطلق النار على الاثنين معاً فسقطا مضرجين بالدماء.

كان الأخ أبو علي يتصل بدمشق ويأتي الرد بان لجنة الوساطة العربية في سورية، وهي الآن في الطريق إليكم، وجاءت آخر برقية للأخ أبو علي «حافظوا على حياتكم نحن في الطريق إليكم»، لكن السلطة أخذت لجنة الوساطة إلى عمان كي تتاح لها الفرصة لإنجاز المهمة كاملة في عجلون، وبعد ذلك يأتون بلجنة الوساطة إلى الأحراش في نهاية المعارك. كانت القوات تريد الاحتفاظ بآخر محور «الوهادنة ـ فارة» كآخر معقل، لكن الجيش تابع هجومه في اليوم الثالث، ولم يعد بإمكان القوات تحقيق أي نصر حاسم على الجيش.

سقط آخر محور حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً وقد اتصل قائد الموقع بالأخوة القيادة في دمشق لإبلاغهم بذلك وكان الرد على الجهاز من الأخ أبو عمار «أنكم تغيرون وجه الحضارة... قلوبنا معكم... جماهير الأمة العربية معكم...

لم تتمكن القوة الأخيرة المتبقية في المغارة قرب الوهادنة من متابعة الاستماع.. فقد سمع هدير الدبابات وهي تدخل القرية، ما أقسى لحظات التراجع وخصوصاً عندما وقفت إحدى النساء تبكي وولدها خلفها وتصرخ: «إلى أين ذاهبون.. انتظروني».

كان الفسفوري ويونس يسيران باتجاه وادي صوفر والرصاص يلعلع حولهم وكأنه ليس رصاص.. بدا التراجع باتجاه هذا الوادي الذي انطلقت منه أولى دوريات الثورة بقيادة الشهيد أبو فتحي أبو الهيجا، بدأت روح اليأس تسيطر على القسم الأكبر من القوات المنسحبة وكان الجيش يتابع سيطرته الكاملة على معظم جهات الوادي.

انتشر قسم من القوات على السفوح المجاورة ومضى الفسفوري يحدث يونس وكأنه الحديث الأخير

«يا أخ يونس، أتذكر في هذه اللحظات تشي غيفارا وهو محاصر يردد في نفسه «أريد أن أموت الآن وأنا أتكئ إلى جذع شجرة ميتة هادئة..

وضع الفسفوري مخازنه الأربعة المملوءة بالرصاص وانتظر بداية الهجوم الأخير على الوادي عندما ينتهي القصف المدفعي..

كل شيء كان وارداً ما عدا الاستسلام...

«يا عدو الشمس لكن لن أساوم»...

ولأخر نبض في عروقي سأقاوم... سأقاوم..

رددها يونس مرتين وعيناه محدقتان في الممرات التي كان ينتظر تقدم قوات الجيش منها... صرخات المرأة الفلسطينية ما زالت ترن في أذني الفسفوري وصراخ طفلها يتعالى أكثر فأكثر... رؤوس سمراء تطل من خلف الصخور، تعانقها، والريح تلعب بخصلات الشعر الطويلة، تداعب أجفاناً أضناها السهر في الفترة الأخيرة، في مغارة الوادي تجلس جموع الجرحى وكأنهم ينتظرون حتفهم موزعين بين يأس الهزيمة وعمق الجرح والرغبة في البقاء... لم تتقدم قوات الجيش  في تلك الليلة، وكان لا بد من اتخاذ قرار بشأن الموقف.

ذهب وفد من الأخوة المتبقين في الوادي لمقابلة الأخ أبو علي أياد حيث يتواجد في مكان ما بالقرب من قوات السلطة، لكن الثلاثة الذين ذهبوا لرؤيته عادوا بعد أن اصطدموا بكمين للسلطة في الطريق. وكان الرأي الأخير الذي استقر عليه الكثيرون هو : ـ

أن تتوزع القوة المتبقية إلى مجموعات يقود كل منها أحد المقاتلين الذين يعرفون المنطقة. من يستطيع أن يصل سوريا بمجموعته فليكن، ومن يستطيع أن يبقى في الأردن حتى وقت لاحق فليكن. أما الجرحى فليس لهم خيار إلا أن يسلموا أنفسهم، وهذا ينطبق على الجزء الذي لا يستطيع المسير مطلقاً.

وانطلقت المجموعات في المسير ليلاً، فمنهم من استطاع الوصول إلى دمشق ومنهم من استشهد في الطريق وهنالك مجموعة صغيرة جداً فقدت الأمل مطلقاً فسلمت نفسها إلى إسرائيل...

كان الفسفوري يقود إحدى الدوريات المنسحبة إلى سوريا، ويتابع قصته قائلاً :«مشينا سوية حوالي سبعة عشر مقاتلاً، وفي الطريق اقتربنا كثيراً من مواقع قوات السلطة، وفي الطريق القريب من فارة رأينا أربعة أشخاص فأخذنا الأرض خوفاً من أن يكونوا دورية للسلطة، لأننا لم نكن نرغب في الاشتباك معهم، لكن تبين لاحقاً بأن هذه المجموعة كانت الأخ أبو علي إياد وأبو نوفل ـ الذي استشهد معه واثنان من المقاتلين.

تابعوا مسيرهم في تلك الليلة حيث استشهد أبو أياد وأبو نوفل في صباح اليوم الثاني في وادي سبيرة «وهذا ما علمته مؤخراً في السجن. وتابعنا نحن طريقنا» يتذكر الفسفوري, ويتابع روايته:

«كنت عطشاً لدرجة كبيرة حتى أن لساني لم يعد بوضعه الطبيعي. رميت سلاحي وجعبتي على الأرض وارتميت فاقداً القدرة حتى على الوقوف. لقد قلت للأخ يونس اتركوني هنا وتابعوا سيركم، لا أستطيع المشي ولو قليلاً، لكنه رفض سماع كلامي وساعدني على المشي بالاتكاء على كتفه وحمل مقاتل آخر سلاحي ومشينا بعض الوقت وإذ بنا نرى الماء... سطل من الماء بالقرب من البئر، لقد نصحني الشباب بعدم الشرب كثيراً.. لكن لا أستطيع، أنزلت رأسي كله في السطل، وشربت عيوني وأنفي وأذناي مع فمي... شربت حتى ارتميت على الأرض. بالقرب منا كانت خيمة أتضح لاحقاً بأن الأخ أبو علي أياد أكل فيها آخر وجبة طعام.. لقد وجد الشباب بعض الخبز وأثناء سير الدورية شممت رائحة لحم وإذ بيونس يمسك بكلتا يديه رأس الخروف ويأكل. لو عرفت به باقي المجموعة لرفضت المجموعة المسير دون أن تجهز عليه أولاً...

«كانت الساعات ثقيلة ولم يكن الدليل يعرف تلك الأرض معرفة جيدة. كان معنا أحد الأطباء لم يألف بعد مثل هذه الظروف في حياته. الخوف بادياً على كل تصرف من تصرفاته ويريد أن يصل بأمان بأي طريقة من الطرق، لقد تعاون اثنان منا حتى استطعنا أن ننتزع مطرة الماء من فمه حيث لم يكن معنا إلا مطرتين لسبعة عشر رجلاً، وكان المفترض أن يرتشف رشقةً فقط. وصلنا وادي اليابس وهناك تركناه لأن معه جواز سفر سوري ولباسه مدني, وحمدنا الله جميعاً على مفارقته. افتقدنا الأخ يونس حيث قطع العبارة قبلنا ولم نستطع إيجاده. أمضينا طوال النهار نائمين في الغور. وفي الليل بدأنا المسير، استطعنا أن نقطع مسافة ربع الطريق إلى سوريا، وعندما داهمنا الصباح نامت المجموعة كل ثلاثة تحت شجرة في إحدى البساتين».

كان الفسفوري قد تعرف أثناء قيامه بمهامه العسكرية بأحد المقاتلين «محمد» وقد شاركه في كثير من الدوريات أولها دورية الكركار. ترك هذا المقاتل العمل في صفوف الثورة وعاد ليعمل في الزراعة ويبدو أن السلطة قد نظمته في صفوفها. أعطاه الفسفوري عشرة دنانير لكي يشتري بها طعاماً للمجموعة ولكن المجموعة فوجئت بعد مرور حوالي ساعتين بمكبرات الصوت وصوت الآليات المجنزرة : ـ

«سلموا أنفسكم، لن يحدث لكم شيء»

وترددت هذه العبارة وغيرها مرات عدة.

لم يكن هناك إمكانية للمقاومة بعد هذا الجهد الطويل في الفترة الأخيرة، ولم يكن هنالك استعداد نفسي الآن والمجموعة تكاد تخور من الجوع والعطش.

بدأت المجموعة تسلم نفسها الواحد تلو الآخر وكان خطأ أول مقاتل أن أعترف بالعدد الكامل للمجموعة. بقي الفسفوري واثنان من رفاقه مختبئين بين أتلام الأرض وبصاطيل الجنود تجوب الأرض ذهاباً وإياباً إلى أن رآهم أحد الجنود على بعد مترين، فقفز في الهواء شاهراً سلاحه صارخاً للجنود الآخرين للتقدم باتجاهه.

«مشيت ورفاقي الاثنين أمام الجندي وإذ بي أعرف ضابط الهجوم، تعانقنا وذهل الجنود لهذا المنظر، وتكلم معي الضابط بصوت خافت: لا أستطيع أن أساعدكم. أفضل لكم وأأمن أن تذهبوا للسجن». ركبنا بالسيارة وأخذونا إلى المواقع الخلفية ومن هناك إلى المفرق حيث جموع الفدائيين محتجزة في البركسات.. كان هذا المنظر يهزني هزاً عميقاً حيث لم أكن أتصور نهايتنا في الأردن بهذه الطريقة رغم إدراكنا لصعوبة الموقف الذي كنا فيه ومعرفتنا المسبقة بنتيجته».

مرت عدة أيام في المفرق حيث تأكد للفسفوري بأن أبو علي أياد قد استشهد وذلك بسماعه لحوار بين اثنين من ضباط الجيش حول مصيره.

استطاعوا أن يفرزوا العناصر القيادية من جرش وعجلون ويعزلوهم على جهة، ومن جهة أخرى وصلت الوساطة العربية، وأخرجوا مجموعة كبيرة من الفدائيين إلى سوريا.

llll

القسم الثاني:
في مواجهة الاعدام
المجموعات تنتقل من معتقل إلى معتقل، والفرز يتم على ضوء امتلاء السجون وفراغها من ناحية، ومسؤوليات هذا وذاك في الثورة من ناحية أخرى.

قسم إلى الجفر، قسم إلى سجن المحطة، وقسم إلى المخابرات، وقسم في مغاور غير محددة من قبل كسجون، وكان نصيب الفسفوري في سجن المحطة مع مجموعة من خمسة عشر مناضلاً من مختلف الفصائل في غرفة واحدة.

في الساعة الرابعة صباحاً في الأسبوع الأول من السجن أبواب الزنازين تفتح وينادي بصوت عال «عدنان»..

كان عدنان قد كلف بمهام ثورية عندما تم انسحاب المقاتلين من عمان لمعاقبة الخونة الذين كانوا يرشدون المخابرات وسلطات الجيش على من تبقى في التنظيم السري ومواقع السلاح المخبأة..

الجو مشحون إلى الحد الأقصى بغلاف من الرهبة، رهبة مواجهة الموت شنقاً..

ـ « أين ستذهبون بي»

كانوا لطيفين في الربع ساعة الأخيرة من حياته. هكذا تنص الشرائع الإسلامية عند هؤلاء القوم. ينفذون الشريعة بحذافيرها فقط في الربع الساعة الأخيرة من الحياة..

«ـ لقد قررت المحكمة الإعدام للمتهم عدنان.. وذلك لارتكابه جرائم قتل بحق مواطنين أبرياء»...

ـ كانت عقارب الساعة تتحرك ببطء شديد لالتقاط أنفاسها من وقع القرار على شخص عدنان...

العيون ترقب من ثقوب الأبواب وهم يعلقون الحبل في رقبته وعيناه زائغتان محدقتان في اللاشيء...

الشمس لن يراها، كان يرغب بشدة أن يرى إشعاعاتها لآخر مرة.. أمه، أباه، زوجته، رفاقه لا أحد حوله الآن. أرواح الشهداء تنتظره فقط بابتسامة استقبال لحياة جديدة بينهم وبدمعة حزن لمفارقة رفاق وأخوه قضوا معه الخمس سنين الأخيرة من عمره في الثورة..

ـ ماذا ترغب يا عدنان..

ـ لا أرغب شيء أيها السفاحون...

ـ ومشى بثقة رافعاً رأسه وبين حين وآخر يلقي بنظرة سريعة وداعية إلى تلك العيون التي ترقبه من خلف أبواب الحديد ـ وأغلق الباب...

مع بزوغ أول الفجر تراكضت تلك الحزمة من الضوء سريعاً لتلاقي عيني عدنان قبل إفلات الحبل ليشد على عنقه المنتصب كشموخ جبال الجليل..

لم ترمش عيناه أمام حزمة الضوء الآتية من الشرق، بقيت مفتوحة باتساع بحار يافا وعكا وحيفا. خصلة شعر صغيرة مالت على جبينه واغرورقت عيناه بالدموع وهو يستمع إلى النشيد المدوي من كافة أنحاء الغرف :

أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيـَّع والمكـبَّـل

وحملت رشاسي، لتحمل بعدنا الأجيال منجـل

ديـن علينـا دماؤنا، والديـن حقـاً لا يـؤجـل

موسيقى النشيد قبضات فولاذية تقرع بشدة على أبواب الحديد. والعيون تجحظ من الشقوق لترى شيئاً.

انتهت تلك اللحظات بموت عدنان وباقتحام الغرف لإسكات الأصوات المدوية، لكن الغضب كان عارماً، سالت دماء الكثيرين وانتهت هذه المعركة بتوزيع ـ المشاغبين ـ إلى زنازين فردية في مواقع مختلفة من البلاد..

ـ ما اسمك ؟

ـ فلسطيني من مدينة الأشباح الطوافة.

ـ عشرات اللكمات والكرابيج تأتيه من المجموعة التي أحاطته.

ـ ما اسمك ؟

ـ فلسطيني من عرض البحار المنتصبة في الأفق.

ـ نظروا إلى بعضهم البعض وقرروا التحقيق معه افرادياً..

دخل الفسفوري الغرفة وتبعه فنجان القهوة : ـ

ـ تفضل اجلس، أتدخن ؟

ـ أيو

ـ ماذا تعرف عن أبو علي أياد، قل لنا كل شيء عنه، أين كنت في المعارك الأخيرة، كم جندي قتلت، ووو... و..و.. من أنت ؟

ـ أسعف الخيال الفسفوري كي يشطح شرقاً وغرباً بالمعلومات غير الصحيحة، وعندما أعادوه، إلى الزنزانة بقي أكثر من ساعة يجهد نفسه كي يتذكر بجهد الأسماء والمواقع التي قالها في التحقيق حتى لا يكون التحقيق متناقضاً إذا أعادوه.

ـ كيف يا أخ ؟

ـ عال، ماشي الحال

ـ الجميع ينظر إلى زاوية الغرفة، إلى البطانية التي كان ينام عليها عدنان، لكن جميع العيون كانت تصمت عندما تمر النظرات في تلك الزاوية، بالأمس كان هناك، واليوم موعد زيارة زوجته له، الساعة العاشرة موعد الزيارة، الساعة العاشرة والدموع تغرورق في عيون البعض، بينما بقي البعض الآخر محدقاً في الحائط.

ـ على مين الدور الآن يا شباب؟ قالها أبو العز(أخ يونس عواد الذي اغتيل لاحقا في بيروت) بلهجة ساخرة كي يقطع جبل الصمت الذي ساد الغرفة بعد أن انقطع بكاء الزوجة وعويلها : ـ

ـ الله يكفينا شرك يا بوم ـ رد عليه أحدهم والخوف باد على محياه وخصوصاً بأن جميع البدلات التي وزعت على المساجين زرقاء اللون ما عدا بدلته، وبدلة عدنان فقط كانت حمراء أي أن صاحبها مرشح للموت ـ محكوم بالإعدام..

جميع من بالغرفة ينظر له خفيه على أنه المرشح الثاني للإعدام وعلى مدى أسبوع مات عدة مرات وعاش كوابيس عدة، وفي بعض الليالي كان يصرخ: ـ لا، لا، لا أنا مظلوم، لا.

يصحو أبو العز في اليوم التالي، يربط خيط وينزل منه خيط آخر في مؤخرته حلقه ويدخل رأسه فيها : ـ

ـ ماذا تعمل يا أبو العز ؟

ـ اعمل بروفا للإعدام.

يضحك الجميع ما عدا المرشح للموت.

يقرع الباب ويدخل «لجن مرقة العدس» ويهجم الجميع ليتركوه بعد لحظات نظيفاً لا يحتاج للمرور على المغسلة، وتدب الحياة مرة أخرى في المجموعة ويبدأ النقاش ويحتدم: أنتم على خطأ، لا أنتم على خطأ، خطنا السياسي أفضل، لا نحن نفهم الواقع أفضل.(الغرفة تضم عدد  من مسئولي التنظيمات).

ـ في كل يوم تخرج المجموعة لمدة ثلث ساعة للتمشي في الكوردور ولشرب الشاي للذي يستطيع أن يدفع طبعاً..

ـ متشوقون لرؤية الآخرين، لسماع الأخبار، لم يكن سوى مصدر واحد: صاحب المقهى الصغير في السجن.

ـ شو الأخبار اليوم يا خال ؟

ـ انقلاب في السودان، يقولون عنهم شيوعيون، لكن فشل وعدموا الجماعة.

ـ أوضاع جماعتنا شو ؟..

«خليها على الله، ماكله زفت... الشغلة.

ـ ويلتفت يمنة ويسرة كي لا يراه أحد من الحراس :...

ـ مداهمات يومية للبيوت، ما في حدا قادر يرفع رأسو ؟

مر أكثر من شهر وهم في سجن المحطة وبعدها بدا التوزيع على السجون المختلفة، فذهب قسم إلى الجفر وبقي قسم في المحطة وذهب الآخرون إلى سجن المخابرات بينما انتقل آخرون إلى العالم الآخر.

في الطريق إلى سجن المخابرات تم حشر خمسة عشر مناضلاً في شاحنة وطول الطريق كان جنود البادية يرقصون على رؤوسهم وظهورهم مع الصيحات الهستيريه التي نسمعها في الأفلام الامريكيه، جندي منهم يقترب من ظهر الفسفوري ويعضه عضة شديدة، يريد أن يقتطع شيئاً، لكن الفسفوري تجرأ وضربه بكوعه. «الغريق لم يعد يخاف البلل» ردد الفسفوري في نفسه هذه العبارة وهو يضرب وجه الجندي بقوة جعلت صراخه يعلو، وجاء باقي الجنود للنجدة...

واستمر الخبيط واللبيط، إلى أن وصلوا سجن المخابرات، فتحوا الباب للنزول لكن «الأرجل خدرانة».

فوجئ الضابط لعدم نزول الشباب، بدؤوا بالنزول وكل على طريقة خاصة، لكن معظم الشباب نزلوا بوضع غير عادي.

ـ وتحت القبو كان أحد جنود البادية يشهر حربة البندقية، ويهجم بها على المجموعة..

ـ «يمزح هذا الجندي يا عمي واللا مالوا ؟»

يتساءل أحد الشباب فيكرر الهجوم مرة أخرى. ومع مرور الضابط اشتكى أحد الشباب له. فأمر الضابط بتغيير الجندي.. وبدا يعطينا موعظة عن الوضعية في سجنه، وبأنه لا يضرب هنا أحداً...

في تلك اللحظات سمعت أصوات الصراخ في الطابق العلوي، فتجرأ أحد الشباب وسأل ؟

ـ ما هذا الصراخ الذي نسمعه، ما هذا ؟

ـ ارتبك الضابط قليلاً وغمز أحد الجنود ليأمر بوقف الضرب. تم بعدها توزيع المجموعة كل في زنزانة فردية.

رقم زنزانة الفسفوري (أ)... شاب صغير كان قد سبقه إلى الزنزانة، التهمة إخفاء معلومات عن مستودع للسلاح في عمان. كل أسبوع يجر بالحبال على البحص بعد أن يعرى من ثيابه وأحياناً يربطوه بسياره ويجرونه. الجسم مدمى، عمره لا يتجاوز الستة عشر ربيعاً، لكنه كبر كثيراً كثيراً خلال شهرين، أصبح في الثلاثينات، عيناه متورمتان، جسمه مدمى، رأسه منتفخ في مواقع متعددة، أسنانه محطمة في فمه، يتألم كلما أخذ وضعية جديدة في جلسته، نادراً ما ينام وأن نام يبقى جالساً.

طرق الفسفوري الباب، فأطل الجندي من الطاقة.

ـ ويش بدك

ـ بدي أتوضأ حتى أصلي

ـ ها ـ ويش تقول ـ أنتم تصلون

ـ نعم أنا مسلم أباً عن جد يا أخ وأريد أن أصلي

ـ كانت هذه بداية للمعاملة الجيدة مع الحراسات، الكل يوصون بعضهم، في الزنزانة رقم (أ) شاب يصلي. هذا ما أتاح المجال للفسفوري أن يخرج مرات عدة من الزنزانة إلى الحمامات والعودة، أرض الزنزانة لا تتسع للمشي، في المحطة كان يقضي الفترة في الاستراحة في الكوردور ركضاً حتى يحافظ على لياقته الجسدية، لكن هنا ممنوع، لا مجال للركض ولا للمشي، فقط بعض التمارين الجسدية.

ـ الضوء يأتي بعيداً من الفتحة الصغيرة في أعلى الزنزانة، عن طريقها فقط يستطيع معرفة الليل والنهار.

كان الشاب المدمى يجلس متأوهاً طوال الفترة لا يتكلم إلا بعض كلمات، عرف فيها الفسفوري منه ما تهمته، وفي الأسبوع الثاني طرق الفسفوري الباب بشدة فأتى العسكر مهرولين «ويش فيه»؟ علامك ؟

ـ «مات فؤاد»

ـ صفرت الصافرة وأتى ‎أربعة آخرون من الجنود مع حمالة، أتت بسرعة.الحمالة لها مهمات سريعة في مراكز التعذيب. أطلت الوجوه من الفتحات الصغيرة في الزنازين المجاورة لتودع رفيق نضال لهم. لقد أصبحت هذه الحالة مألوفة، وقف الفسفوري والدموع تطفح من عينيه، يريد أن يوصله حتى الباب. حتى الجندي لانت ملامحه وأرخى بندقيته ولم يزعق كالعادة في الوجوه المطلة من الفتحات الصغيرة في الباب. لقد خجل أن يأمر الفسفوري بالدخول إلى الزنزانة. ممنوع معاملة المساجين إلاَّ معاملة الكلاب، نظر الجندي إلى الزنزانة بعينين منخفضتين وكأنه يسأل الفسفوري أن يدخل حتى لا يعاقب.

جر الفسفوري قدميه ودخل، وأغلق الجندي الباب بصمت وهدوء. وتسمرت عينا الفسفوري على الزاوية المدماة للشهيد فؤاد. ارتفعت حرارته ولم يصح بسهولة من غيبوبته، لقد نحل جسمه أيضاً وقد مضى عليه الشهر الخامس في الزنزانة.

حبات النوفلجين والأسبرو وغيرها مما يحضره له الجنود تساهم في تهدئة الأوجاع، أسنانه تؤلمه, والشظية في رأسه تؤلمه, وطبلة أذنه المثقوبة تتضخم من الألم حتى يستشعرها رأساً آخر بمحاذاة رأسه.

«ـ الفسفوري ؟؟»

ـ حاضر ـ جر نفسه وعلى الدرج وقع رفعوه مرة أخرى وأوصلوه إلى المحقق : ـ

ـ «جهز نفسك»

ـ ماذا أجهز في نفسي ؟

ـ خذوه إلى.. مقر قيادة الشرطة ؟

لم يعد الموت مسألة مهمة في نظر الفسفوري، لقد انقبض قلبه قليلاً بعد كلمة «إلى» لكن أصبح الأمر عنده سيان.

 كان يرغب في أعماقه أن يحكم عليه بالسجن لمدة طويلة، لعشر أو عشرين سنة كما عرف لاحقاً عن زملائه. لكن إذا واجهوه بالموت فلن يصعد إلى المشنقة إلا بنفسه، لقد جهز الهتافات التي سيقولها عند صعوده درب المشنقة.

عاد مرة أخرى يغمى عليه بعد مسير حوالي الخمسمائة متر، لكن صحا وحده هذه المرة بدون مساعدة الشرطي.

وضع في سيارة الجيب من الخلف واحكموا عليه الباب جيداً وسارت السيارة.. إلى أين ؟ لا يعرف، بعد ساعتين تقريباً فتح الباب مرة أخرى»...

«امشي إلى هناك، أنت منفي من المملكة لأنك لست مواطناً صالحاً ولست من هذه المملكة».

كان الفسفوري قد عرف الرمثا منطقة الحدود. لم يصدق نفسه وهو يسير باتجاه الأراضي السورية، باتجاه قواعد الثورة. ظنوه مجرماً. سجنوه هناك أيضاً حوالي الأسبوع حتى تأكدوا من هويته وبعدها أخرجوه...

أعادوه مرة أخرى ظناً منهم بأنه هارب من السجن. كان رأسه محلوقاً بطريقة مضحكة، خصلة من الشعر هنا، وخصلة هناك. وقميصه يلبس جسده مرتين، والصندل الذي يلبسه مقطع الأوصال وعادوا ليخرجوه بعد أن تأكدوا منه مرة أخرى.

عاد الفسفوري إلى ذات المخيم الذي انطلق منه بعد غياب أربع سنوات متواصلة لكن هذه المرة وعلم بلده مرفوع عالياً والشعب مسلح، ومكتب التعذيب أصبح مكتباً للكفاح المسلح.

عاد يستفسر عن زملائه، الكل في مواقع النضال، وخصوصاً بعد هذا القهر الذي امتد عشرين عاماً متواصلة، لقد تغير الكثير وبقي أيضاً الكثير على حاله.

والطريق ما زالت طويلة.