هذه أحدث قصص الكاتب الجزائري الشهير، يتأمل فيها الواقع الجزائري بل العربي المعاصر بأسلوب يتكئ على الواقع ليخلق استعاراته الرمزية الشفيفة.

الذين

الطاهر وطار

 


الحرارة شديدة، لساني جاف، أمنيتي ، شجرة أتظلل تحتها، وعين أرتوي منها، وأتبرد بمائها. لا أدري ما إذا كنت في شارع، أم في خلاء، لكن المؤكد، انني أمشي في اتجاه معاكس للناس. كنت وحدي، فقد سبق لي أن التفت جنبي وخلفي فلم يكن هناك أحد، لكن القادمين تجاهي كثيرون، رجالا نساء، أعمارا من كل الأعمار، يتحدثون ويمرحون، وبعضهم يبدو عليه العبوس، وشيء من التعب، آخرون في منتهي الجدية. يسيرون كالسيل، لا تبدو عليهم أية نية للتوقف. الغريب حقا أن لجميعهم رؤوسا فيها حواجب وعيون وأنوف بها مناخر وأفواه.  شفاههم تهمس بكلمات لا يتبدي منها سوي الحرف الذي تنطبق عليه، لا شك أنه ميم. قالت لي اشتر لنا ملحا حقيقيا، فالأولاد ملوا مذاق أكلنا، فخرجت، لكن يبدو أن هدفي، الذي هو ملح حقيقي، فقد أهميته في هذا الحر، ووسط هذا الزحام.. وأمام الحقيقة التي تواجهني، فالمارة أمامي جميعهم يحملون أكياسا ضخمة، عليها كتابة تعلن، ملح مستورد من الطراز العالي.

نفس النوع الذي قالت إنه غير حقيقي، وإن علي أن أشتري غيره. وقد قمت بالتزود بالملح قبل اليوم أكثر من مرة، وأجزم أن عدد الأكياس التي عندنا لا تقل عن المائة، ولربما ألف. ثم هذه المحلات من أولها إلي آخرها، من المتخصصة في الأقمشة إلي المتخصصة في الذهب إلي البقالات، إلي التي تبيع الأحذية، كلها، كلها، تعلن: ملح من الطراز العالي، مستورد. بعضها، أضاف، بخط بارز وبلون مختلف، ليس لنا غيره. بقطع النظر عن كل ذلك، كنت سأواصل السير، متخليا عن هدفي. فليس أجمل من أن يمشي المرء في اتجاه لا يشاطره فيه غيره. كل من هم أمامي آتون، وكل من هم ورائي ذاهبون. لم يلتفت أحد منهم لي.. لم يعنهم أمر هذا الذي يسير في الاتجاه المعاكس لاتجاههم. ربما تعودوا علي ذلك، ربما هم لا يرونني، ربما لم أكن إلا واحدا منهم، أسير في اتجاه سيرهم، ويخيل لي، أنني أعاكسهم.

أسترق النظر لأحدهم من حين لآخر، فلا ألحظ علامات التعب والعرق علي وجهه، بل لا يبدو عليه إطلاقا أي ضجر من السير في هذا الحر. شفاههم فقط، تتحرك بحماس، منطبقة منفتحة، ميم ميم. هييء لي أنهم قطط تموء. ربما هم كانوا في فصل آخر غير الفصل الذي أنا فيه، ربما كانوا في منتصف الربيع بينما أنا في منتصف الصيف. ربما لم يكونوا إطلاقا في هذا المكان الذي أنا فيه, والذي لا أعرف ما يكون ولا ما رماني إليه. فالبقال الذي خرجت أقتني منه الملح الحقيقي، ليس بعيدا عن سكني، وها أنني أبتعد بعدة كلمترات.
ربما حلا لي السير حافيا.

لوحت بعصاي فلم ألحظ علي وجه أي واحد ممن كانوا قربي انزعاجا، أو تفاجؤا، أو محاولة لاتقاء الضربة. كأن لم يكن هناك شخص طويل القامة، أسمر اللون، حليق اللحية، عليه ثياب موحدة اللون، لا هي بالقديمة البالية، ولا هي بالجديدة، الزاهية، حافي القدمين، في عنقه منديل ناصع الخضرة. في يده خيزران ، تلعب في الهواء، كأنما صاحبها، يلهو بتلويحها، حينا، ويتوكأ عليها حينا آخر، ويغيرها من يد لأخري طبقا للازدحام. هششت غاضبا علي أحدهم، فلم يبال، بل لقد مرت الهشة في الهواء. قلت أواجههم كما يستحقون، نزعت ما علي من ثياب، وهي ليست سوي جبة بيضاء، ومريول، وتبان.

سرت عدة أمتار، أحمل ثيابي علي ذراعي ، فلم يبالوا بي. غريب أمر هؤلاء الناس، هم، هنا، وهم ليسوا هنا. الأكيد أنهم ليسوا هنا، وأنني وحدي سيد الشارع. فجأة هتفوا فٌي كلهم

ــ اقتله. اقتله. اهو عليه بهذه العصا. ما فائدة عصاك هذه إن لم تخلصنا من هذا الفأر رفعت يدي، مصمما علي الامتثال، رفع بصره نحوي. التقت أعيننا لحظات، لم يتحرك، ولم تتحرك ذراعي .ـ  اقتله. خلصنا منه، إنه يأكل الملح. يثقب أكياس الملح، فيدخلها الهواء، ويفقد الملح مذاقه. اقتله يرحم والديك.أنزلت ذراعي، توكأت علي عصاي، ويبدو أن بسمة قصيرة ارتسمت علي شفتي، ساخرا منهم، فالفئران، وهذا الفأر بالذات، لا تحب الملح المستورد. ولعل هذا بالذات، ما جعل هذا الفأر يخرج في هذا الحر، غير مبال بهذا الحشد.  مروا. تواصل سيلهم، يموؤون: ميم ميم...

واصلت سيري، لكن ليس وحدي هذه المرة، إذ لست أدري من أين ظهر شخص يمشي جنبي بنفس الخطو، وبنفس الإيقاع. لم أكلف نفسي، الالتفات إليه، لكن سألته، من تكون، لا يهم قال، ثم أضاف:ـ­ لماذا لم تنتحر، كما ألحوا عليك.ـ­ نكاية بهم وبملحهم، وبالميم التي يموؤون بها ـ­ حسنا فعلت، فهم أنذال، يعوضون ما هرب منهم بالملح، مع أن الأطباء يقولون، إنه مضر بالصحة، يعمل علي رفع ضغط الدم.ـ­ ولكن الملح الذي في منزلي، لا طعم له. وقد ألحت علي صاحبة الأمر أن أستبدله... لم تقل لي من أنت؟ـ­ التفت إليٌ، فلربما تتعرف عليٌ.ـ­ إنك، أنا بالذات والصفات.ـ­ وهو أيضا... إنك أوشكت أن تقتل الفأر.

دعوته أن ندخل بقالة، فامتثل دون تردد، سألنا صاحب المحل أن يعطينا ملحا غير مستورد، فابتسم، وسكت لحظات طويلة، ثم طلب مني أن أقترب منه، ليهمس في أذني:
­ تبدو إنسانا طيبا، وعصاك، وسيرك حافيا، يدلان علي ذلك. لهذا أقول لك، إن الملح المستورد، لا يصلح لصنع البارود. أمر آخر لقد رست بالميناء اليوم، بوارج أمريكية محملة بالملح. اقترب، أكثر، نصيحة لله. لا تطرح مثل هذا السؤال مرة أخري. عد إلي منزلك، وانس طعم الملح. تذكر أن الذين تراهم، يبحثون عنك، ويسعون للتخلص منك. شكرته، وخرجت، وصاحبي يلازمني. وواصلنا الطريق، غير مباليين بنصيحة البقال.

بدرت مني التفاتة إلي حيث يسير القوم، كانوا يدخلون فرادي وجماعات في حاوية لا نهاية لطولها، ينزعون أحذيتهم، ويدخلون مستعجلين، كأنما هم يدخلون مسجدا ويخشون أن تفوتهم صلاة الجماعة. حوتهم الحاوية كلهم، وما أن تساءلت ماذا سيفعلون، حتي برز من الحاوية وجه واحد في عرض الباب. تشكلوا كلهم في هيكل واحد، أو بالأصح في جثة واحدة، وهتفوا وهم يشيرون إلي:ـ ­ الفأر.الفأر اقتلوه. كانت نظرتهم، مصوبة نحوي، وكان الذعر في عيونهم. عينيه، أعني.ـ­ اقتلوه. أما من رجل فيكم. صبوا عليه الملح. اغمروه بالملح.
رحت أتأملهم. كانوا لا يزالون برأس واحدة، ، بكل ما تحويه رأس الإنسان عادة، رأس في حجم باب الحاوية، وكل عين في حجم إطار حافلة، أما الأنف ففي حجم حمار. الفم لسوء الحظ يخفيه الأنف، فلم أتمكن من التعرف عليه ـ ­ اقتلوه يا ناس، اقتلوه. تخلصوا منه، قبل أن يتخلص من ملحنا. غير أن شيئا ما بدأ يطرأ عليهم كلما أمعنت النظر فيهم. شيئا فشيئا، تحولوا إلي قطط، نفذت من الحاوية وتحلقت حولي ميم ميم ، وراحت تتقدم مني بخطي حذرة، وبأنياب متأهبة. وأعين جزعة ـ ­ عد إلي الجحر. اسرع. قال، فامتثلت، وأسرعت إلي الجحر وتركتهم يموؤون ميمي.. ميمي.

الجزائر