ينتصر الباحث تقراءة النص المقدس بالعقل الزماني، لا بعقلٍ سرمدي متعال على التاريخ، ويرى ضرورة إعمال الفكر والاجتهاد والتأويل المنقذ للتمزق المعرفي والثقافي. ولكل ذلك ويرفض نفعية المصالح السياسية وضيق الأفق والتعصّب الذي يقول بالخروج عن "ربقة الدين" و"التكفير".

بين الهرمنيوطيقا والدجلنيوطيقا!

عبد الله بن أحمد الفَيفي

1-

كانت دراسة القرآن الكريم وتأويله مخاضًا عِلْميًّا واسعًا على امتداد التاريخ الإسلامي، لدى مختلف المذاهب والاتجاهات. وما كانت تتعرَّض المقاربات القرآنيّة للمراقبة والمحاسبة والمعاقبة، إلَّا حينما تَمَسّ ثابتًا من الدِّين بالضرورة. على ما في هذا المصطلح «الثابت من الدِّين بالضرورة» من نسبيَّة؛ وُظِّفت في بعض الظروف التاريخيّة لأغراض سياسيّة، للنيل من المخالفين أو المعارضين. ظلّ ذلك كذلك، وظلّ ذلك حراكًا ثقافيًّا ومعرفيًّا قيِّمًا، باستثناء العهود الاستبداديّة المنحطَّة من التاريخ الإسلامي. ذلك أن تلك الاجتهادات القرائيَّة قد نُظِر إليها في إطار «التدبُّر»، المأمور به في القرآن. وهو مفهوم يتناقض مع فرض القراءة الواحدة، التي لا يأتيها الباطل. على حين راج التكفير وانداح طوفانه في العصر الحديث ضدّ من يتجرَّأ فيقرأ النصّ بعقله هو، الذي خلقه له الله، لا بعقلٍ عاش قبل مئات السنين. وتلك معضلة حضاريَّة، ذات أبعاد من الجهالة والسياسة، وفي كلّ الأحول من ضيق الأفق والتعصّب. وبسبب محفِّزات ذلك الضِّيق باختلاف القراءات عمَّا وَرِثَ، فإنه لا يَنشد الحقّ ولا الحقيقة، وما ينبغي له. وهو ما يَحُلّ بعصرنا كما حلّ بأهل العصور السالفة.

لقد تُوكئ على التكفير، وهُش بالتفسيق، وواتّخذ التخوين منبرًا. وكلّ ذلك يجيء غالبًا لمآرب أخرى، ليس من بينها وجه الحقّ، ولا قارعة البحث عن الحقيقة. ومن ثَمَّ ضُيِّق الإسلام تضييقًا، وحُصر فَهْم القرآن وَفق ما قيل، ورُوي، ودُوِّنَ، حتى لم يعودا يتّسعان إلّا لصوتٍ واحدٍ موروثٍ، لا ثاني له، صوتٍ إكراهيٍّ، مَن رأى غيره كَفَرَ بما أُنزل على (محمّد)، حسب تلك الطائفة من حمقَى المتشدِّدين. وهذا لا يتأتَّى إلّا من ضيق العقول والنفوس، من جهة، وللدفاع عن مصالح دنيويّة من جهة أخرى. ولئن أُخذ بمنطق التكفير ذاك نفسه، فإنه ليسوغ، إذن، القول بأن ذلك النهج الرافض لتعدُّد القراءات والفهوم كافر بمنطق القرآن، وبتوجيهه الجليّ إلى التفكُّر والتحرُّر، لا إلى التحجُّر في المعنى الواحد، يُجترّ على مرّ الدهور.

ثم لنسأل: ما المقصود بـ«ربقة الدِّين»، التي تَقَرع أسماعنا، كلَّما خرجَ مجتهدٌ عن ربقة المعنى المتوارث؟ هذا ما قُذِف به، مثلًا، المفكِّر (نصر حامد أبو زيد، رحمه الله)، إبَّان خروجه ببعض القراءات المغايرة للسائد؛ فكُفِّر، وهُجِّر، وفُرِّق بينه وبين زوجه، في حملةٍ غوغائيَّةٍ، تُشوِّه الإسلام، وتُقصي مِن جماعة المسلمين كلَّ من قد يفكِّر في التفكير، أو تُسَوِّل له نفسه الاقترابَ من النصّ، على غير القالب الجامد الجاهز في المدارس. مع أنه إذا كانت رِبْقَة الدِّين تعني ما قال به غير أبي زيد -من الأوائل، أو الخصوم- فإنما أولئك رجال ونحن رجال، حسب منهج القدماء أنفسهم، وكُلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُرَدّ، كما قال (الإمام مالك). إنما الحاكميَّة المعياريَّة هي لكلام الله القطعي الدِّلالة والثبوت، لا لآراء العلماء، كائنين مَن كانوا. سيلٌ من التُّهَم سيقت إذ ذاك المعترك البائس، لا أدلَّة عليها من كتب أبي زيد، إلَّا تأوُّلًا مُغرِضًا، وذلك من قبيل زعمهم أن أبا زيد قال -على سبيل المثال- إن القرآن منتَج ثقافيّ، لا يختلف عن أيّ منتَج آخر، من قِصَّة أو قصيدة أو نصٍّ قانونيّ؟ قل: هاتوا برهانكم، إنْ كنتم صادقين!

أمَّا دراسة القرآن بآليّات اللسانيَّات الحديثة، أو بمناهج دراسة الأدب، فمسبوق إليه أبو زيد. لقد فعل ذلك قبله (الباقلاني، أبو بكر محمَّد بن الطيب، 403هـ=1013م)، و(عبدالقاهر الجرجاني، 474هـ=1081م)، وغيرهما. فالقرآن لغة، وهو نصَّ لا سبيل إلى فهمه أو تأويله إلَّا بالآليّات الاستقرائيّة اللغويّة والبلاغيّة والنصوصيّة. والمنهاج اللغوي لدرس القرآن هو المنهاج الأًولى من غيره، ليس لأن معجزة القرآن لغويَّة فحسب، ولكن أيضًا لأنه منهاج يحتكم إلى المشروطيَّة النصِّيَّة. ومن ثم فهو ينطلق من المادّة الموضوعيَّة؛ فيُجنّبنا تلك الشطحات الغنوصيّة، الذاتيّة والخياليَّة، التي أسرفت بعض الفِرَق الإسلاميّة في اقتفائها.

ليس هذا دفاعًا عن الرجل، وقد أفضى إلى ما قدَّم، ولا رضًى بكلّ ما كَتَبَ، أو اتّفاقًا معه، لكنه نموذج على ما كان ينبغي أن ننشد فيه الحقّ، والعدل، والإنصاف، ومقارعة الادِّعاء بطلب البيّنة(1).

أمّا «الهرمنيوطيقا» -حسب المصطلح الحديث الذي تشمئز منه بعض النفوس- فإنما هو مصطلح يعني: «التأويل». وهو في الأصل منهاج إسلاميّ، ومصطلح قرآنيّ، ومطلب دِينيّ. غير أن التهويل بمصطلح «الهرمنيوطيقا» الأجنبي ربما بعث الرعب في تلك النفوس الوادعة، وإنْ لم يَنْطَوِ على جديد غير ما سلكه الأوائل في تفسيراتهم واجتهاداتهم في تأويل القرآن.

هذا، وإن مناهج النقد والتحليل الحديثة في دراسة النصوص، ومنها ما انحسر مَدُّه الطاغي اليوم (كالبنيوية، أو التفكيكية)، ليست بسوى آليّات تحليل، كآليّات الطبّ الحديث، لا تحمل في ذاتها ما يدعو إلى الارتياب. وهي كذلك ليست بغربيّة صِرف، أو بغريبة عن ثقافتنا وتراثنا الإسلامي، لولا ما أُلبسته من لَبوسٍ جديدٍ، وارتبطتْ به من أسماء. وإلّا فإن مَن عَرَفَها، عَرَفَ أن أصولها متداولة منذ «إعجاز القرآن» و«دلائل الإعجاز»، لعبدالقاهر الجرجاني، أو «منهاج البلغاء»، لحازم القرطاجني، وإنْ لم تُطَوَّر في تراثنا أو تُمنَح تلك الهالة الحديثة. هي، إذن، لا تعدو آليّات بحثٍ في مكوِّنات النصّ ودِلالاته واستنباط أسراره، على نحوٍ علميٍّ. وهي داخلة وغيرها في منهاج التدبُّر لكتاب الله، الذي لا تنتهي عجائبه، ولا ينضب معينه، ولا ينبغي قفل باب التأمّل فيه على إنسان، حتى لو لم يكن مسلمًا. وأمَّا مَن كانت لديه حجَّة عِلميَّة، فما عليه إلَّا أن يُظهرها، وَفق منهج عِلمي، بعيدًا عن حكاية «الرِّبقة»، المنشغلة بتحديد مَن ما يزال داخلها ومَن يرى بعضنا أنه قد مَرَق عنها. هذا هو البحث العلميّ، لا الحَوْم على محاكمة الآخَرين في ضمائرهم وعقائدهم، وترديد ما يقال وما يكال، بدعوى الذبِّ عن كتاب الله؛ فإذا الواقعة تقع في شرٍّ ممّا فرَّت منه، من التكفير، والتصنيم، والتصنيف، والظلم. وما السبب في هذا كلّه سوى أننا ننطلق من أفكار جاهزة، وربما مبيَّته سلفًا. ونحن إلى ذلك غير مستعدِّين للتنازل عنها، لو تبيَّن لنا خلافها، أو لم نستطع الدفاع عنها بمنطق العقل والعِلم. وساعتئذٍ لا نُنتج بما نطرح بحثًا علميًّا، نزيهًا ومفيدًا، بل خطابًا مؤدلجًا، يبحث لأفكاره الثابتة، والمستقرَّة أصلًا قبل عمليَّة البحث، عمَّا يقويها أكثر ويؤيِّدها، وإنْ طارت هباءً!

-2-

ولعلّ ممّا يدخل في هذا الباب، وإنْ من ضفاف تأويليّة نصوصيّة ثقافيّة مغايرة، مقولة (تأويليّة نموذجيّة) راجت منذ سنوات على شبكة «الإنترنت»، تذهب إلى أن (المسيح الدجّال) كان مربوطًا في (بريطانيا)، وأن أوّل أيامه كان بدء ظهور الحكم الامبراطوري البريطاني، 900م (تقريبًا!). تلك بعض اكتشافات أحد الشيوخ العباقرة في (الباكستان). بل إن من حقّه أن ينعت بالمتنبئ المعاصر، لا في الشِّعر بل في شؤون السياسة ومآلات الأحداث.(2) ذاك أن صاحبنا يدَّعي رؤية كلّ شيء، في الحاضر والماضي والمستقبل، في عالم الشهادة والغيب، من خلال مناظيره الخاصَّة، بما في ذلك مربط المسيح الدجّال! هذا، إذن، نموذج إسلاميّ مقابل للنموذج السابق، المتحرِّج من أيّ إعمالٍ للفكر أو للخيال. إنه نموذج يشطح في مجاهل التخيُّلات والأوهام، وبلا حدود. ولأجل ذلك المشروع الاستقرائي المَجيد حول المسيح الدجّال، لعنه الله- وغير الوارد في القرآن أساسًا، مع خطورة شأنه، وعلى الرغم من إيماننا بأن الله ما فَرَّط في الكتاب من شيء- فقد ارتضى ذلك المتنبِّئ العيش في بريطانيا حينًا من الدهر، وفي أمريكا حينًا آخر؛ ربما للتحرِّي الاستخباراتي عن حكومة المسيح الدجّال، التي أوشك قرنها أن يطلع من بريطانيا، بل قد فعل، كما قال. وهو كذلك، أي المتنبِّئ، لا يتحدث إلّا باللغة الإنجليزيّة، لغة الدجَّال الأصليّة! أفلا يستحقّ مثل هذا الهُمام براءة اكتشافٍ إسلاميّةٍ عن تحديده موقع المسيح الدجّال، الذي حارت الأُمَّة الإسلاميّة فيه، منذ كانت؟! لكن هذا ليس بموضوعنا. وإنما نسأل ببراءة: إنْ كان المسيح الدجّال مربوطًا في بريطانيا، فليت شِعري، ما الذي تُراه مربوطًا في (آسيا)، أو تحت عمامة أمثال الشيخ، تحديدًا؟! لكن هذا ليس بموضوعنا كذلك. وإنما نقول: إنه بناء على نظريّات الشيخ الملهم، الذي يهيم كالشعراء في كل وادٍ، ولو أخذنا -إلى جانب ذلك- بمنطق الغرب في إدانة الشرق؛ فما أكثر ما يمكن أن نُدين به الغرب وثقافته، لا على أساس أن الدجّال مربوط في (لندن) أو (واشنطن) أو (باريس)، ولا من خلال ممارسات فرديَّة، أو حركات متطرِّفة، هنا أو هناك، ولكن أيضًا من خلال إرهاب دُوَلٍ بأكملها، أو مساعدتها على الإرهاب، وفي حقّ مختلف الشعوب والدِّيانات، بما في ذلك الدِّيانتين النصرانيّة واليهوديّة. وأنت اليوم إذا سمعت مَن يجأر بالدعاء على الإرهاب، والتثريب عليه، فلا تستغرب إنْ اكتشفتَ أنه هو كبيرهم الذي علَّمهم الإرهاب! لسنا في حاجة من أجل اكتشاف ذلك إلى التنبؤات، ولا إلى مشايخ معمَّمين، ولا إلى عزو ذلك إلى دجّالٍ مسيحٍ يُؤذننا بأشراط الساعة، ولا إلى مسيحٍ متنبِّئٍ يبشِّرنا بأحداث آخِر الزمان. إن التاريخ لم يشهد فظائع قط كما شهدها من هذا الغرب المتباكي اليوم من بربريَّة الشرق في حقّه. وإنْ كان من الحقّ كذلك الاعتراف أنها تدعم دعواته حماقاتُ خطابٍ مشرقيٍّ- عربيٍّ إسلاميٍّ تحديدًا- ذي ممارسات ظلاميَّة، اجتماعيَّة وسياسيَّة وإنسانيَّة، من قِبَل طوائف شتّى، ما زالت تعيث فسادًا فينا، وهي لا تقلّ انحيازًا وتعصّبًا وعنفًا، وسفاهة، من الآخَر الذي لا تملّ شيطنته ولعنه.

بين هذا وذاك، بين تكفير التفكير والاجتهاد، من جهة، وبين ضروب الهلوسات، المفرطة في القفز خياليًّا في عالم الغيب -بلا قيود من عقلٍ ولا منطق واقع- من جهة مقابلة، يتيه بنا العقل العربي والإسلاميّ اليوم، وتتيه ثقافتنا، مبدعةً تمزّقاتنا المعرفيّة والفكريّة والثقافيّة الكُبرى.

 

p.alfaify@gmail.com

 

الهوامش

(1) راجع سلسلة مقالاتي التي نشرتها 2006، تحت عنوان «مفهوم النصّ لدى نصر حامد أبي زيد»، على صفحة المقالات عبر موقعي «الإنترنتي»:

http://khayma.com/faify/index4.html

(2) انظر: حسين، عمران، (2002)، القدس في القرآن، (نيويورك: مسجد دار القرآن). [الكاتب: أ.د. عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «بين الهرمنيوطيقا والدجلنيوطيقا!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12490، الأربعاء 11 سبتمبر 2013، ص32]. على الروابط:

http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=463136&date=11092013

http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/B05A0354-4488-4FC7-9DC9-C7D015EE780A/P32.pdf