تكشف الكاتبة السورية هنا عن نقاط وعلامات بارزة في سيرة المثقفة السورية التي توفيت في المكسيك بعيداً عن الوطن. وتأتي على ذكر أثر مناخ الفساد والاستبداد الطارد، الذي أدى بكثير من أعلام الفكر والثقافة للرحيل حيث عرفت بلدان المهجر قيمتهم الإبداعية والبحثية والنقدية.

إكرام انطاكي: شعلة عربية انطفأت بعيداً

حميدة نعنع

إكرام انطاكي السورية المولد، الدمشقية بامتياز حياتها وأدبها يكاد يكون إحدى روايات غارثيا ماركيز. بالأمس كنت في زيارة لدار النشر الفرنسية التي يعمل بها الزميل فاروق مردم صديقي وصديق إكرام المشترك، عرفت بوفاتها في المكسيك.

ولمن لا يعرف إكرام فهي شاعرة، وأديبة، وباحثة، كانت إكرام في جامعة دمشق أثناء دراستنا معاً تمثل نموذجاً فريداً للمرأة العربية، شيوعية متمردة، مثقفة تجيد عدة لغات. تنحدر هذه السفيرة للحضارة العربية إلى أمريكا اللاتينية من عائلة انطاكي، حيث كان جدها بطريرك انطاكية وسائر المشرق. بعد تخرجنا من كلية الآداب جئنا فرنسا معاً لدراسة الدكتوراه، وقد حصلت إكرام على شهادة الدكتوراه من السوربون في موضوع نادر هو "الطائفة الدرزية في سورية".

في الثمانينات، حيث كان نظام حافظ الاسد يرزح بثقل على قلوب السوريين وكانت غالبيتنا في المهاجر. قررت إكرام العودة إلى سورية لشدة حماسها الوطني لكنها لم تحتمل الحياة هناك، ولم تجد فرصة تستطيع أن تنقل تجربتها إلى وطنها. عادت إلى باريس وجلسنا معاً في مقهى، كانت تحمل خارطة العالم وفرجار. حدثتني أنها ترغب في الهجرة بعيداً بعيداً، لكنها لم تكن تعرف إلى أين. فتحت الخارطة وأمسكت بالفرجار فوضعت احد ساقيه على دمشق وفتحته إلى آخره فوقعت رجله الثانية على المكسيك، قالت لي هذا البلد آخر العالم، سوف أهرب من الدكتاتورية إلى آخر العالم، كانت قد طبعت ديوان شعر صغير يبشر بمولد شاعرة مهمة من شعراء جيلنا، وكنت قد أصدرت آنذاك ديوان شعري الآول "أناشيد امرأة لا تعرف الفرح" الذي قدم له الشاعر محمد الماغوط. اختفت إكرام ولم أعرف أين ذهبت، وافتقدتها كثيراً في رحلة التيه التي فرضها علينا النظام السوري، بعد سنوات تلقيت رسالة من المكسيك تشرح لي فيها إكرام أنها في مكسيكو تعمل أستاذة للحضارة العربية في إحدى الجامعات، وتكتب في الصحافة، ولها برنامج في التلفزيون عن الاسلام والحضارة العربية وفلسطين، إذا ذهبت إلى آخر العالم. واستمرت المراسلات بيننا حتى ذهابي لكولومبيا في أواسط الثمانينات. من مدينة قرطاجن حيث تعرفت إلى غارثيا ماركيز الروائي الحائز جائزة نوبل، وهو الذي عرفني على الحركة الثقافية في أمريكا الجنوبية اذ انه متزوج من فتاة سورية كولومبية اسمها مارسيدس برشا اتصلت بإكرام في المكسيك فالحت على حضوري اليها.

كنت أنا أيضا أعيش في آخر العالم هاربة من دكتاتورية النظام في سورية. وفي احد الايام استقللت الطائرة من كولومبيا الى المكسيك. هناك كانت إكرام دائرة معارف ثقافية متنقلة، كانت قد كتبت عدة كتب باللغة الاسبانية عن الحضارة العربية ، والى جانب عملها في الجامعة كانت مستشارة للشؤون العربية لرئيس الجمهورية، ولعدد من دور النشر، فالمكسيك تمثل العاصمة الثقافية لكتاب امريكا الجنوبية. ومعها في شوارع مكسيكو، وامام اهرامات "تيو تيو كان" وفي نيوكاتن تعرفت الى حضارة المايا والازتيك، وفي متحف الفن الحديث اكتشفت الجريمة التي ارتكبها الاوروبيون في استعمارهم للمكسيك، حيث دخلوها وهي تعيش تحت حكم الازتيك وكانت عاصمتها مكسيكو، كما وصفها احد المبشرين، اكبر من مدريد واهم من باريس، وبالتأكيد اعظم من اي عاصمة اوروبية. كان عدد سكان المكسيك يوم وصلها الغازي كارتيس في القرن السابع عشر خمسة عشر مليونا عرفوا حضارة مزدهرة، خاصة في الزراعة، وبنوا الاهرامات لعبادة الهتهم، (حتى اليوم لم يثبت بعد تاريخيا كيف انتقلت فكرة بناء الاهرامات الى هناك)، وحدثتني العالمة إكرام عن ثورة زاباتا التي نشبت قبل توحيد امريكا الشمالية، وهي ثورة الفلاحين الهنود ضد المحتل الاسباني والاقطاع، ومعا دخلنا بيت السياسي والكاتب واحد قادة ثورة اكتوبر، المنفي تروتسكي حيث ما يزال دمه الجاف على طاولة غرفة الطعام اذ ان ستالين لم يستطع تحمل نقد تروتسكي صاحب نظرية الثورة الدائمة حتى وهو في المكسيك، فكلف احد الشيوعيين المكسيين باغتياله، حدث ذلك في الخمسينات عندما كان الدكتاتور السوفييتي يعتبر شبه اله، فهو ابو الطبقة العاملة والفقراء في العالم وبطل الحرب العالمية الثانية ضد فاشية هتلر، حيث ضحى الاتحاد السوفييتي انذاك بـ22 مليون رجل، وصمت العالم أجمع عن جريمة ستالين فمن كان يستطيع ان يتكلم عن دكتاتور ألهته الاحزاب الشيوعية في العالم اجمع. تعرفت وكتبت في ما بعد في مجلة "كل العرب" التي كانت تصدر في باريس، عن مبدعى المكسيك وعلى رأسهم الشاعر الحائز جائزة نوبل اوكتافيو باز، كانت إكرام قد تزوجت احد المثقفين الشيوعيين المتحدر من الهنود الحمر وانجبت منه طفلا كان مركز اهتمامها وانتماءها لاخر نقطة في العالم، ولكن رغم كل تلك الشهرة التي كانت نتيجة لثقافة إكرام وكتبها ودورها المهم في التعريف بثقافة العرب وحضارتهم لم تكن إكرام سعيدة، كانت غريبة وبعيدة عن دمشق يهاجمها الحنين كل يوم، وكل ساعة الى سورية.

في نهاية الثمانينات جاءت إكرام الى باريس في طريقها الى دمشق وبعد عودتها كانت سعيدة جدا فقد اشترت لها بيتا في ضاحية الاسد لتعود كي تعيش فيه وتعلق على جدرانه الايقونات النادرة التي ورثتها عن جدها، ولوحات الرسامين المكسيكيين وصورة ابنها.

كانت تكتب لي: "حقائبي معدة كي ارجع الى دمشق، ولكنني انتظر سقوط الدكتاتورية"، حاربت احساسها بالغربة، بالثقافة والتعريف بالحضارة العربية الاسلامية ، انتظرت كما كنا ننتظر جميعا تلك العودة، ولكن العمر ضاع في الغربة والانتظار. انقطعت عني رسائلها وكنت انا اعيش ظروفا صعبة في منفاي الباريسي، ولم اكن اعلم ان إكرام ملت الانتظار فقررت الرحيل. وجدها ابنها الوحيد، وقد اسلمت الروح في فيلا واسعة تسكنها في ضواحي مكسيكو وحولها كتبها ومراجعها. ماتت وحيدة وهي تنتظر، وبموتها انطفأت شعلة حضارية عربية حملتها امرأة بمفردها لتعرف بها الناطقين باللغة الاسبانية في انحاء القارة الامريكية اللاتينية. أأقول انه من حسن حظها انها ماتت قبل ان تعرف ان دمشق التي احبت قد تهدمت، وان بيت العودة الى الوطن الذي اشترته اصبح كومة تراب.

ترى لو عاشت إكرام المبدعة والانسانة لترى ما يحدث اليوم في سورية، لو ترى الخراب ونوازع الطائفية والعرقية التي تجتاح الوطن الذي لم يكن مسلمه يعرف أن جاره مسيحي أو كردي أو علوي أو درزي. كانت تفخر مثلنا بتلك الثقافات المتعددة التي تركتها الحضارات التي مرت على سورية، لكنها رغم تعددها لم تجعل منها إلا قلباً للعروبة، أرضاً لأول امبراطورية اسلامية.

ترى لو عاشت هل سيكون وجعها اعمق وأكثر جرحاً من أوجاعنا نحن جيل الحلم بتحرير فلسطين ووحدة الامة. إكرام : لم نعد قادرين على توحيد الرقة ودير الــــزور، ادلب وسراقب ، دمشق واحياء غوطتها. لقد جاء الجراد على كل شيء، وباسماء مختلفة.

أهي الدكتاتورية التي ادت الى كل ذلك، اسألك وانت اكثر خبرة مني لما لا؟ اسبانيا موحدة بعد موت فرانكو، ولماذا بقيت البرتغال موحدة بعد سقوط سان لازار؟ اما زلنا نعيش العصور الوسطى وحرب الاديان، لم نكن كذلك؟ هذه موجة جديدة من الخراب تجتاح عالمنا العربي والاسلامي ، السياسة الاسلامية ضد عامة المسلمين الاحزاب والتنظيمات التي اخذت الدين على عاتقها لتحكم به اصبحت ضد عامة المسلمين او وصية عليهم تكفر هذا وتكفر ذاك، لا ادري هل نقول مثلا ان الغرب ذا العنصرية والجهل بالاخر هو يريدنا كذلك، كما اراد لنا ان نكون بلدانا وشيعا وقبائل بعد الحرب العالمية الاولى، وزرع باسم الدين في قلب بلادنا كيانا غريبا ينتمي الى الاساطير. وفرض علينا بالقوة ان نقر بتلك الاساطير في حين كان هو يضع قدمه على القمر عابرا للديانات والقوميات والاقليات والاكثريات.

ان سورية تئن اليوم وهي اشلاء وكومة تراب ومخيمات ولاجئون في اركان الارض. تعرفين وكنت اقولها لك ونحن نتأمل جمال "يوكتن" ليس في سورية كل ذلك الجمال، ولكن الاوطان لا تبادل كراقصات في مقهى.

نحن الذين عرفنا المنافي مبكرين هربا من دكتاتورية وحماقة الاسد الاب، رسم المنفى حياتنا وقدرنا، وها هو خراب سورية يفتح لنا القبور على مصراعيها.

لكن يا صديقة الوطن والمنفى هنيئا لك بموتك قبل ان تعرفي ما حل في دمشق، ولم تعرفي كما عرفت ان بيت ابي في ادلب جرفته الجرارات ولم يعد لي مكان اعود اليه. كما انني نسيت ان افعل ما فعلته تلك العجوز الفلسطينية التي قابلناها معا يوم جئت لاجراء حديث مع المرحوم الرئيس ياسر عرفات ، في مخيم عين الحلوة قابلنا امرأة فلسطينية وبعد حديث معها عن حلمها بالعودة، فتحت لنا صندوقا خشبيا واخرجت مفتاح بيتها في قرية الطيرة، وقالت بعز، هذا مفتاح بيتي وسأعود. لم يعد مفتاح بيت ابي معي. نسيت ان احمله كان فيه من اعود اليهم. وكان فيه الحجر والشجر والارض، كل هذا اصبح اليوم مجرد ذكرى.

لم يعد امامي الا قبر في فرنسا، يماثل قبرك في المكسيك سوف اطلب لمن بقي من الاصدقاء وهـــم قلة، فقد فرقتنا المذاهب والطوائف والاديان وحتى المدن، سوف اطلب الى من بقي منهم يحلم باننا امة، وان لنا تاريخا مشرفا، ومن حقنا ككل الشعوب ان نعيش المستقبل ، ان يجمعوا كل كتبي التي سطرت كلماتها تحت وطأة هذا الحلم ويضعوها في قبري، لكي استرق النظر اليها وحيدة في الظلمة.

 

(كاتبة سورية)