هذا النص الشعري استلهمه الشاعر والمترجم العراقي من نص خالد أعاد صياغته مسرحيا، هنا جزء من هذا النشيد الميثولوجي الباذخ حيث يستعيد الشاعر بعضا من مفارقات الحياة كما عاشتها شخصية ألهمت الكتاب والمبدعين شعرا ومسرحا وسردا، وكأنه نص يتوالد من خلال حواره الدائم مع نصوص أخرى، اللافت هنا ليس صياغة بورتريه مفترض، أو كتابة وصايا لزمن آتي، بقدر ما يسقط الشاعر هنا الآن الزمن العراقي بوجعه وانكساراته..

وصايـا لكلكامش

جواد وادي

الليلةً...

 تختزن زبد الشهوة الأخيرة

حكايا العذارى الجميلات

 

الليلة...

 تحتفي صباياك النواهل

بشطط ارتعاشاتك

وتحلو الأغنيات

 

الليلة...

 يبتهج النمل

ويصير القندس عريسا

 للوردة اليانعة

 

حتى  العناكب...

تشاركك الليلة

 يا كلكامش

حزن المواويل الجريحة

 

الليلة

 تنادمك الجنادب

 وعفاريت الغابة تمور بغيضها

ضدا على نواياك وفورة رغباتك

 

الليلة

احذر يا كلكامش

من هجمة مباغتة

لا تغمض عينيك

عن غدر البستاني الأهوج

 

الليلة...

اجعل يا كلكامش

من خوذة انكيدو

وسادة لنشوتك وأنت تترصد

ما تؤول إليه النوازل المدججة

بالرمم القديمة

 

الليلة

احذر من الطاعون القادم

يزحف لزوايا قصرك

ومحضياتك

في أوروك المقدسة

 

الليلة

قد يحاصرك الناصبون بمكائدهم

 فأحكم رتاج الأبواب ومزاليجها

إنها أوروك العامرة 

وهي تضيق شيئا... فشيئا

بأسوارها الحصينة

ووهادها الممتدة من الضياء لآخر المتاهات

ثم أنعم بمن تهوى

من عرائسك الماطرة يالشهوات

والشبق الطفولي

 

ها هي الفوهات تترصدك

ولا عاصم لك من هذا الفتك

 

أينا يا كلكامش

سيفاجأ صاحبه بالوداع

ويغري صنوه بالرحيل

حتى الوكنات

لم تعد تتسع

لحشرجات موتنا القادم

 

ما لك وأطفال أوروك اللاهين دون كساء

أو مأوى أو حتى لمسة دفء

تنبّه ما يفعله

صنّاع الرماح المسننة

وأحترس من نواياهم

 

دع عنك الليلة

يا كلكامش

عرق الرهزة الأخيرة

لآخر بكر افتضضتها

إنها الخسارة الكبرى أن يسيح

عرقك على جسد الأفعى الرقطاء

سارقة نبتتك المباركة

وأنت تبعثر وصاياك

على فرسانك المنهزمين

بهذا المروق

توار خلف نخلة باسقة

تظللك

يا كلكامش

من زخة  اللعنات

 

أما كفاك هتكا لروحك

حين ترتعب سيدة الحانة

لهيئتك المخيفة؟

 

كل ليلة

تطمر يا كلكامش

تحت جلدك آخر أسرارك

لتصحو مجساتك

على لعنة قادمة

وأنت لا تبالي

بهمس المتربصين

لأفعالك الطائشة

 

مثلما دائما

تظل  تحتسي فجرك خمرا

وأنا أرمم شظايا جسدي

دع عنك هذه الفأس المضرسة

ودع هذه البذرة  تنفلق

لئلا تضيع ثانية

في البحث عن عشبة أخرى

 

تحاش شروخا تشبه الافاعي

فكم اهتديت لننسون

امك البقرة الوحشية

وهي تفسّر احلامك

وتمسّد على شعرك الكث

 فيغزوك نشيج طفولي

 

تلك محن أخرى يا كلكامش

وأنت تتصيد في يقضتك

جيف الفرائس

 قابضا على صولجانك

المطعّم بالخرافات

وتسعى لاحتلاب حوريات

لم يبلغن الفطام بعد

 

وهبناك كل نسائنا

وتضرعنا إلى الله

أن لا يقرّن سواعدنا بالأصفاد

ويخصي فحولتنا

لكن نهمك كان أمضى من رجائنا

 

يا لكبواتك يا كلكامش

وأنت مثقل بأحمالك

باحثا عمن يضيرك

بنوائب عمر مديد

 

مثقل أنت بالخطايا

تتكئ على خيزرانة هجرتها الديدان

وتتفيء زقورة لا تدور مع الشمس

ولا تقيك سعير الهواء اللافح

وحشرجات تستوطن متوك الورد  

وأنت بمئزرك الفضفاض

سجلّك أسودّ مداده

ولا تعرف من يكون المُهاب

أنت أم أنا...

 

لعلك تصل الليل بالبحر

والسهو بالمكان

وتشرّع للمحو

سلطة المرايا

تدون على شجر الحنّاء

 نواميس القتل

ولعنة الحروب

 

حتى نوافذك الحزينة

تراودك عن وحشتها

تاركا  نواياك 

 لنهم الطاعون

وأهواؤك تترامى بين

فسحة الأطلال الخربة

لأوروك المقدسة

ورغبة الانزواء

لحيرتك الضليلة

 

أفرد أيها الطائر الجريح لغربة كلكامش

جناحيك نبيذا للكروم المقدسة

أو خفقة انتشاء

وأترك لفواصلك الجذلى صخبها

سواقي أوروك ما حادت بعد

عن عنفوانها

وخرير مياهها يتوق لمياه أنقى

وأكثر زلالا

وهي تتنصت لوقع خطاك وأنت القادم

من قسوة المصير النازف

فتدّلهم فيك الظنون

وأنت تعاقر الخراب

 

ما زلنا أنا وأنت يا كلكامش

 نتقاسم الدماء والليل

والرغبات والبكاء المؤجل

وحروب النوايا وشيئا من

ظلال المدينة الحزينة

والتكايا التي أثقلتها نياشينك

بهذر الأقاويل

 

اللعنُةُ عليك أيها الطائر الخرافي

لماذا سحبت من تحت وسادة كلكامش

أحلامه ونشوة رغباته

وبسطت على جسده المارد

سلطة عشتار وتأوهاتها الخفيضة

وتركت أحقاد خمبابا للخراب اليقين

 

تبا لك أيها الثور المجنح

كيف انتزعت...

وأنت المجلل بالرهبة

والصلوات الجليلة

فخذك المجلجل

طمعا بمرضاة الآلهة

وغضب عشتار

للفتك بكلكامش الإله

وأنت الأدرى بما حل

بجسد إنكيدو المغوار

ويتم كلكامش وحزنه

على صديقه وصنوه

أعرف يا كلكامش أنك

أدمنت التعكز على رهبة الموت

وتركت أوروك

لمخصييها  من رجالك الآبقين

وأنت تهيم كضبع هرم

فلا مهرب من الفناء

غير اكتراء أرديتك

لتقضم أحلامك

 وما تبقى لك من أمنيات

غير النحيب واجترار الحكايا

 

ذات وقت

نسينا أنا وأنت أسماءنا

حتى أسمالنا كانت عبئا علينا

الغوث... الغوث

تضرعنا لأتونبشتم

لئلا يحل الطوفان من جديد

لكن آثامك يا كلكامش

كانت أكبر من شفاعتنا

أوغلتَ في الغي

فأدرنا ظهورنا عنك

طلبا للنجات

وتركناك تبحث عن فطام

يقيك مذلة السؤال

ولا من مثاب...

 

لا وقت للبكاء

 

النهايات تقترب

النهايات تبتعد

ونحن كما قبراتٍ هائمةً

تجول في البراري

باتت قلوبنا

تهرب من رمال الخيانات

الشوارع تمشي على أجسادنا

ونحن هلعا واجمين

وكلما بعدت المسافات

أينعت فينا الأقاويل

الشامتون كثر

حجراتنا لا تتصالح مع أسرّتنا

والجدران تنز قهرا

لا نسمع صوت الصواعق

فالصمت مريب

الخسارات تزلزل بكبريائنا

ولا من سبيل للنهوض ثانية

لا ندري بأي

ضيم جديد نلوذ

لا ندري لأية أرض

تحملنا هذه الغيوم السوداء

المبتلون بالهذر

يخاصمون كتب الهزائم

والهواء يشتط بلا بوصلات

خائفون من صراخ الدببة الجائعة

هم يعيدون رسم وجوهنا

وشاراتهم للفلاح  ترفرف

فوق أشلائنا

وهم قائمون للذبح

يرتّبون لجثاميننا  مدافن

تليق بنا، بأجسادنا الموحلة

لا وقت لمن يطلب الصفح

تبقى كل الأبواب

مشرعة للضياء البعيد... البعيد

كل الدروب تلبس أردية الأسر

وأثوابهم ما عرفت طريقها  للنقاء

دروبهم مكتظة بالجرحى، والمتسولين

ومعاقري الخمر، وبنات الهوى،

والباحثين عن زاد الكرامة،

وأبناء الذوات المارقين،

وذوي الياقات البيضاء

وسماسرة الكرامة الرخيصة

وذوي الألسن الذربة

وحاملي رايات الذبح الآدمي

وكل ما تشتهيه المطارق الثقيلة

ولا من باحث عن طلب التوبة

..........

أيها الزمن الينز من دمائنا

توقف قليلا

دعنا نفرد للمساءات حكايا

الزمن الغابر، أيها الزمن الغادر

لا بأس إن غادرتك شروخك الدامية

  أيها النرجس الحزين

دعنا أنا وأنت

معا نتوحد بذات المصير

تلاحقنا ذات النهايات

وننسج من جراحنا كبرياء المنهزمين

على أبواب مدننا الحزينة وأصصك الذابلة

دعنا نحصي في بغداد عدد

المنارات والمآذن وأجراس الكنائس

والمؤمنين المعمدين بمياه الطهر

والكرادلة والسائبين بلا بوصلات

وأصحاب الكرامات

والمنحورين من متصوفة بغداد

وسرايا الهائمين على وجوههم

والسابلة من الجائعين

والباحثين عن ملاذ تقيهم لفحة السياط

واللصوص الشرفاء

والشعراء الهائمين بقصائدهم

المنحورة من الوريد إلى الوريد

كل يبحث عن مأوى

وهم هائمون بلا ميلاد ولا تواريخ

ولا يعرفون من أين تأتي الريح الصفراء

وأين تؤول بهم الأمكنة

ولا يحملون غير أيقونات صدئة تقيهم

 مذلة الضياع..