يقدم الكاتب المصري المرموق تأملاته في بلوغه عامه السبعين، ويرى أن الطفل الذي لا يزال داخله ساعده على التعامل مع الشيخوخة، وأن الهِرم لا يحل إلا إذا أعلن الإنسان انتهاء علاقته بالشباب، وقرر التوقف عن اللعب والفكاهة وتطوير الأدوات وتذوق طعم التجارب ورأى أن من العيب معانقة الحياة والتفاعل معها.

الساعة تدق السبعين

فؤاد قنديل

صعبٌ علىّ وربما عليكم تصور أني بلغت عامي السبعين..هكذا تعبث بنا السنين..هل ثمة لعبة أو كمين؟ أم مؤامرة كونية لاختطاف طفولتى التي أعتز بها وأتمسك بأحوالها وبراءتها وجنونها وقوة الأمل المترسبة في قاعها.. لكن المؤامرة لن تجدي لأني لا زلت برغم السبعين طفلا يلعب ويضحك ويركض ويرقص ويحن لأمه التي رحلت منذ ثلاثين عاما ويفرح بالعيد ونزول البحر، ومايزال مولعا بكل الحيوانات حتى وحيد القرن وسيد بك قشدة والفهد والسبع، وإن كان يميل أكثر إلى الفيل والطيور.. أنا طفل لأني أكره الأحزان ولا أمنحها الفرصة لتأكل قلبي كما يأكل الصدأ الحديد،ولم يكن ما أدركته بحكمة العمر ولكن بالفطرة.. أتعس ما يصيب الإنسان تلك الأحزان التي يلذ لها أن تهاجمنا مع أن كثيرا منها هش وضبابي ومجرد سحابات من الدخان لا تستحق حتى النظر إليها فضلا عن أن نسمح للعقل أن يفكر فيها وتصبح همه.

خدمتني طفولتي بأن شجعتني على تجاهل الشيخوخة التي هى في الأساس حالة نفسية وعقلية، وقد عرفتها طبعا عبر الصحة المتراجعة تدريجيا بدهاء ونعومة كنعومة اللصوص والمحتالين. قد لا يؤمن البعض أن الهِرم ( بكسر الهاء ) محتال يتقن عمله ويبرع فيه ويدهسنا وهو يبتسم، ويلقي على أسماعنا النكات التي تسخر من الشباب.. وشجعتنى طفولتى على أن أحسن الظن بالناس وألتمس لهم الأعذار لأن أخطاءهم ليست كلها من صنع أيديهم.. الإنسان لم يخلق نفسه ونادرا ما يجري تعديلا على خلقته. وسوء الظن نافع لكنه يورث الهم وأنا لم أسمح للهموم أن تبنى عُشا لها في قلبي لأنه خلق فقط للحب، ولم أستسلم للأحزان.. لقد تسلل إلىّ اعتقاد بأن الهرم لا يحل إلا إذا أعلن الإنسان انتهاء علاقته بالشباب وقررالتوقف عن اللعب والفكاهة وتطوير الأدوات وتذوق طعم التجارب ورأى أن من العيب معانقة الحياة.. أنا لا أفكر في الموت مطلقا، أولا لأن الموت قادم لا محالة وثانيا لأن الموت بوابة مثل البوابات الإلكترونية المنتشرة الآن عند كل عبور حتى لو كان لدخول الحمامات بغرض الكشف عن المقتنيات المادية المخالفة، وثالثا وهو الأهم لأني حاولت أن ألبى قدر طاقتى وصايا الرب فأسعد لحظات حياتي أن أرضي حبيبى الأول الذي اعتدت أن أكلمه وأرجوه وأعاتبه و أشكوه له.

على أنني إذا كنت قد بلغت درجة من النضج، فقد دفعت مقابلها ثمنا غاليا.. خليط معتق من السنين واللحظات الحرجة والألم واليأس والكمد والفشل والخيانة والغدر والحوادث والفقد، أما اللحظات المبهجة فقليلة والأصدقاء المخلصون أقل والنجاحات نادرة لكن الآمال كبيرة، ووجود الأمل في حد ذاته في رأيي مصدر خرافي للسعادة، وهذا هو السر في قيمة الإيمان بالله، بوصفه السند الأعظم الذي بفضله أحط على الوسادة رأسى التي أرهقها العمل والتفكير، وسرعان ما أغط في نوم عميق.. الإيمان إذن له علاقة وثيقة بالنوم، كما أن له علاقة بالتواضع وتجنب الصخب والضجيج لأن الرزق يعرف عنواني.

أنا لم أفاجأ ببلوغي السبعين لكنى فوجئت ببلوغي الستين، فقد انْقضّت علىّ سن التقاعد وتم إبلاغي بأني أصبحت خارج دائرة العاملين الفاعلين بالمجتمع من وجهة النظر الرسمية، وبعد استسلامي للخبر الجديد واقتناعي بأني أصبحت في زمرة كبار السن غدوت أراقب الأيام والسنون (كلمة مقصودة) دون أن أسمح لآلة المراقبة والتربص والتوجس أن تمر على روحي، وقد أشرقت علىّ مجددا اهتماماتي الفلسفية بالزمن.. أنا ممن يرون أن الزمان وإن كان مُكونًا رئيسا من مكونات الكون، بل أبالغ فأقول إن الكون ذاته ليس إلا تشكيلا ماديا لتسهيل مهمة الزمن، وأري في الوقت ذاته أن الزمن وجهة نظر فهناك زمن نفسي وزمن وجودي وزمن فزيائي وزمن تخييلي، وقد أختلف عن كثيرين يقدرون المكان أكثر من الزمان، مع أنه الأجدر بالاهتمام لأنه السر الكامن وراء حياة كل الكائنات حتى في الصحراء حيث لا مكان إلا الخلاء.

المكان زمان يتجمد، والزمان مكان يتحرك.. الزمن يحاصرنا ويدقق في كل حركة وكل همسة وكل نَفَس.. الزمن هو الميلاد والموت. الزمن يكمن لنا في كل نجاح وفشل، وصحة ومرض وحب وكراهية. الزمن كائن خطير أحترمه ولا أخافه لأنه متابع وليس المسئول عن أي جرم أو إخفاق أو ضياع أو نصر ولا لحظة سعادة. لكن تجاهله تماما ليس أمرا مقبولا ولا منطقيا.

الزمن غير الوقت وغير العمر.. الزمان قياس لمسيرة الكون والكائنات وحركة المجرات والمبتدأ والمنتهي. أما العمر فقياس شخصي للإنسان أو الحيوان والجماد. والوقت هو المسافة الزمنية بين حدثين. إن كنت أحترم الزمن فلا أنشغل به كثيرا ولا أخافه لأنى أومن أن الحب أقوي سلاح ضد الزمن.. الحب إكسير الحياة وحاميها من الزمن، ولذلك أشعر بالغبطة لأني من عشاق الحب بكل أنواعه وألوانه..أنام وأصحو وأكتب وأغضب وأثور وأعمل وأنام بالحب.. الحب كالأمل غذاء الروح.. يكمن فيهما سر الحياة السعيدة والممتدة إلى ما بعدها.. الحب أكبر من الأمل لأنه يمنح الإنسان عمرا فوق العمر المقرر له عمقا وطولا.. كمّا وكيفا.

أنا طبعا لا أكف عن الحلم ولا عن الأمل في غد أفضل لي ولوطنى وللعالم، وكم يبهجنى أن أسمع عن تقدم ولو مليمتر في حياة أي شخص في الكون، لكننى لست أسير أحلامي ولا أنتظرتحققها بوله وشغف، وأعترف أني أعمل من أجلها وأحاول مساعدتها على أن تتجسد في الواقع بالجهد والتفكير، لكننى لا أحزن إذا لم تتحقق فأنا أعرف أن المعطيات التي بثها الله في جيناتي هي أوراق اللعب الخاصة بي وليس علىّ أن أسرق ورقة من هنا أو هناك..أرنو للهدف ثم أشتبك من أجله في عمل شاق وإصرار وأرقب النتائج وأرضي بها أيا كانت مؤمنا بأنه الرزق، فأحمد الله على ما آتاني، ولا أحاول ليّ عنق الرزق بزيادته بأساليب تتنافي مع الكرامة، بل كثيرا ما أخجل من طلب حقي ثقة في أن أصحاب الضمير سيردونه، وعادة لا يردونه خاصة الحكومة.. المهم ألا يمس كرامتى طلب شيء مهما كان ثمينا، فالكرامة أغلى من الحياة.. وخلو جيبى مع الكرامة هما الثراء الحقيقي.. أنا أنظر إلى كل شيء ولكل شخص ما عدا أولادي ووالديّ رحمة الله عليهما بعيون الكرامة.. إنها الميزان الذي أزن به سلوكي تجاه الآخرين وسلوكهم تجاهي. ويمكن القول أني مبرمج لأتحرك في الحياة طبقا لمبادئ غرستها أمي في نفسي وأضاف إليها آخرون من أمثال جمال عبد الناصر الذي زادها رسوخا مثل الكرامة وتقديس العمل. الإرادة. كراهية الظلم. الاكتفاء الذاتي. الاعتماد على النفس. الاستقلالية. الأهمية القصوى للعلم والثقافة.احترام الآخرين والتسامح. الوطن قبل أي شخص أو متعة أو امتلاك. وأنا سعيد ببساطتى فأنا لا أطلب من الدنيا    – ماديا- إلا القليل لأن المبالغة في طلب المادة يقتضي القلق ويلهب الصراع ويلقي بالروح في أتون المعارك.

لقد اختارت لي المقادير أن أهوي الأدب والثقافة فوهبتهما نور عيوني وقلبي وكل فكري ووقتي، ونادرا ما أنفقت ساعة في التقاط متعة شخصية بل كان كل ما أملك من أجل الهواية الوحيدة الجميلة التي أعتز بانتسابي إليها حتى أخرجت خمسين كتابا في الرواية والقصة القصيرة والدراسات وأدب الطفل، اتخذت لنفسها طريقا صاعدة قي اتساق طبيعي مع السن والتجربة والنضج، وخدمت المؤسسات الثقافية على مدي خمسين عاما بلا كلل وبقدر كبير من الإخلاص والابتكار، وسافرت إلى خمسة وعشرين دولة من أجل التحصيل الثقافي، وقرأت نحو اثنى عشر ألف كتاب ونلت شرف تقديم أكثر من مائتى كاتب جديد للساحة الثقافية بعضهم تألق، ولذلك فالرضا أحيانا يراودني بعد أن أحسن بي الظن كتابٌ ومسئولون ونقاد فحصلت على عدد من الجوائز المميزة تقديرا لما منحته عمري كاملا دون أن أبقي إلا القليل لعائلتىّ الصغيرة والكبيرة، وإن كنت أطمع في إضافة وقت مستقطع حتى أنتهي من صياغة ما يشغلنى من أفكار، وأملي أن يكون ما قدمته للمكتبة العربية ذا قيمة.

إننى الآن وقد عبرت إلى السبعين وهي سن لا تسمح بطويل الأمل وتسمح فقط بالاعتدال نحو القبلة لدخول النفق الأخير أسأل نفسي وأسأل جميع من عرفوني .. هل يا تُري ضاع العمر هدرا؟؟