بضمير المخاطب يسرد القاص المصري علينا حكاية رجل مهووس ومريض يخاف من الغيوم والمطر ويتطير من الأبراج وقراءة الطالع، وقليلا.. قليلا نكتشف أن السارد يقوم بدور التمريض والعناية بالشخصية محور النص في بنية قصصية محكمة يعمقها حدثها الأخير ويعطيها أبعاد نفسية وجنائية.

بجواركَ .. بينما تمطر

محمد عبدالمنعم زهران

قلت لك أن نذهب قبل أن تتجمع السحب ، كان ينبغي مغادرة البيت والذهاب إلى حيث لا توجد أمطار وسحب ، إلى صفاء الجنوب أو الشرق دائماً ، أما الشمال والغرب فكل الأهوال تأتى من هناك ، محملة فى بعض الأحيان بكرات من الثلج في حجم ليمونة صلبة وقاسية .

قلت لك أن نذهب ولكنك رفضت بإصرار لمجرد أن قراءة طالعك قد أنبأتك بخطورة القيام بأية رحلات مفاجئة فى هذا اليوم .

وفى هذا الصباح كنتَ واقفاً فى الشرفة ، واستطعتَ أن ترى السحب قادمة من أقصى الغرب ، تحركاتها بطيئة ومكتومة كبوادر جيش لا يمكن التكهن بمدى ضخامته ، ولكنها شيئاً فشيئاً ستملأ السماء وما تلبث أن تراها مخيمة فوق رأسك كظل مارد . فى هذه اللحظة لن تجد سبيلاً إلى قمع رغبتك في التقيؤ المتواصل كعادتك حين تُمسك السحب السماء وتقبض عليها مثل فكّى تمساح .

لم يكن الأمر ينبئ بأي شيء قبل ذلك ، ففي الليلة قبل الماضية كانت السماء صافية والنجوم تتألق على نحو رائع ، وفى الصباح الذي يليه كانت السماء صفحة زرقاء نقية تتخللها الأشعة الذهبية للشمس ، لذا فقد كنتَ في صفاء روحي لا يقارن ، وكنت تضحك وتبتدع النكات وعاودتك الروح الساخرة الفجة ، فسخرت حتى منى أنا ، أخوك الأصغر الذي كرس حياته لخدمتك والسهر على إخماد قلاقلك ، سخرتَ من جوربي المثقوب حين نزعتُ حذائي لأجلسَ بأريحية معك على أريكتك ، إذ كنت في صفاء نفسي لا يُضاهى ، وأحببتك .. أحببتك جداً فى هذه اللحظة لأن السماء كانت صافية جداً .

أحياناً كثيرة أغضب منك فأعود إلى بيتنا القديم بحارة المودة ، أبقى يومين أو ثلاثة ، ثم ترسل إلىَّ السيارة فأركبها وأعود إليك . مرات كثيرة كنت أقسم أنى لن أعود ، ولكنني كنت أعود فى كل مرة . وفى المرة الأخيرة وبينما أهبط من سيارتك ، أوقفني الجيران .. كانوا يسألون عنك وعن حالك  " أين هو....  ؟ "   " ... لم نعد نراه ؟! "

كانوا يعرفون أنك تقضى الشتاء في أسوان لأنك تكره البرد ولأنك مريض ، فقلتُ : إنك مسافر ، ولم أقل لهم قط : إنك ترهب السحاب والأمطار والطوالع السيئة  ، ولكن بائع الفول في الدكان المقابل أشار إليك وكنتَ قد خرجت إلى الشرفة مرتدياً " روباً " حريرياً أزرق ، وحول عنقك " كوفية " سوداء وعلى عينيك نظارة شمس ، فتطلعوا مشدوهين إليك ، وأنا نظرتُ إليهم وهم يتطلعون إليك ، ثم تطلعتُ إليك وكنتَ قد دخلت دون أن ترد تحيتهم ، ثم عاودتُ النظر إليهم وهم يبتعدون : " لم نلفت انتباهه أكيد "

"أكيد لم يسمعنا " ...  " بالتأكيد لم يلمحنا "  .

في الليلة الماضية ، مرت سحابة صغيرة ، وفى مسارها البطيء كانت النجوم تتوارى ، لذا فقد أمكنني تفسير تلك التقلصات التي انتابتك في قولونك .

لماذا لا يكون عادياً يا نرجس ، لماذا لا يكون طبيعياً فحسب مثل كل البشر على الأرض ، فيتزوجكِ بعد أن فكرَ فى أن يُحبكِ . كان يفكر في أن يحبك يا نرجس ، هل تصدقين ؟

يجب أن تصدقي لأنني أنا الذي أقرر لكِ هذا ، ولكنه نبذك منذ أن عرف أنكِ برج الأسد وبدأ يعاملك معاملة جارية . لن يكون بإمكانك تفسير هذا أبداً ، ولكن ربما كان عليكِ أن تدركي قوة تأثير الأبراج في أشخاص محددين كأخي ، حاولت إقناعه مراراً بأنه من الممكن ألا يكون تاريخ ميلادك حقيقياً ، كأن تكونين في الواقع قد وُلدت قبله أو بعده بأيام أو أسابيع  ، قلتُ له بأنه لا ينبغي التعويل على مسألة الأبراج هذه ولكنه قال في يقين :

-                   انظر .. إنها جريئة وقوية ، وتملك الدهاء اللازم .. وهذا مكمن خطورة المرأة الأسد ..

كنتُ لا أفهم ولكنه نظر إلى عيني مباشرة :

-                   إذا ما جاء اليوم الذي تضطر فيه إلى الاقتران بامرأة الأسد وإذا لم تكن أسداً أيضاً ، فبإمكانك التمرس على أداء الواجبات المنزلية الصعبة لأنك ستكون منوطاً بأدائها على أكمل وجه ، لا لشيء سوى كسب ودها ورضاها وابتسامها الساحر .. آه .. تلك المرأة الساحرة ..

قال : إنك امرأة ساحرة .. قالها يا نرجس فلا تبتئسي ..

هاهي السحب تتجمع فى غيمة هائلة .. تتجمع لا لشيء إلا لتُسقط الأمطار الكريهة التي ستجبرك على أن تتعرق من كل جسدك ، وأن تدمع عيناك دون إرادة ، والتي من المؤكد أنها ستجبرك أيضاً على الانزواء في فراشك منكمشاً وفارداً على جسدك المرتعش أغطيتك السميكة .. كقنفذ مذعور .

إذا كنتُ أريد أن أقول لكَ بأننا كان ينبغي أن نذهب ، وإذا كنتُ أريد أن أعنفكَ لأنكَ اخترت الإنصات إلى طالعك اليومي القذر والذي يشبه عملاً شيطانياً في نظري ، وإذا كنت أريد أن أصفعكَ وأصرخُ في وجهكَ .. فكل هذا لأنني وأقول ذلك بانكسار غير القادر على فعل شيء .. أقولها بلطف وخوف : كل هذا لأنني لا أريد تكرار تجربة البقاء بجوارك بينما تهطل الأمطار في الخارج .

إذا كنت أكتبُ ، فلا تظن أنني أكتب بطريقة عبقرية ، في الواقع أنا أكتب مسيئاً لنفسي بالأساس ، إذ لم أكن أرغب في الكتابة عن شيء أكرهه . لكنك لم تترك لي الفرصة وكان علىّ قول كل ما اختزنته وخبأته طوال أعوام لكي أشعر براحة .

لم يتسن لنا الوقت لنذهب لأى مكان بعيد لا توجد فيه سحب وأمطار ، وبالتحديد لا يكون مرتفعاً لأنك تخشى الأماكن المرتفعة ، ولا ضيقاً لأن لديك " فوبيا " الأماكن الضيقة ، سأبقى إذاً بجوارك بينما تمطر . ولكن أين يمكن أن أذهب بك ومعك ، وأي مكان في هذا العالم يبدو مناسباً لتقلباتك ، حتى الأيام التي قضيناها في ريف الصعيد الجميل ، حيث لا سحب ولا أمطار .. تظل أنت ، فمجرد عبور قنطرة من جذوع الأشجار على مجرى مائي صغير يصيبك بالرعب ، وترتعش عيناك وتظل في وسواس دائم بأنك ستسقط .

.     .     .

آه .. ها هي السحب تمر فى طريقها إلى الشرق ، ولما لم يكن بإمكاننا الهروب واستباقها إلى الشرق ثم خداعها والالتفاف حولها والعودة من الغرب بسبب طالعك البغيض ، لما لم يكن بإمكاننا ذلك ، فأنا مجبر على البقاء بجوارك بينما تمطر ، محاولاً تفسير كل أعراضك المرضية الوهمية والتفكير في إذا كانت بوادر المغص الكلوى ناتجة عن التهاب الكلى أو من حصوات المسالك البولية ، ثم الدوار والصداع المتخيل والسخونة والتعرق وألم العضلات والأعصاب ، ودقات القلب المتسارعة والمحتاجة إلى ضبط ، ثم بعد ذلك الجنون المتواصل بقياس الضغط كل عشر دقائق ، وحالة التنفس والحلق والحنجرة وتلك الزغللة في العينين ، والطنين في الأذن ، وتقلصات الكبد والمرارة ولدغات الزائدة . ثم بعد ذلك الإسهال بأنواعه المختلفة والمراقبة الدقيقة للون البول ، إلى جانب المتابعة المستمرة لنسبة السكر في الدم ، وصورة الدم الكاملة وآلام الأسنان ، وشعرك الذي توقف عن النمو في صدرك لمجرد أنها تمطر ، ولمجرد أنها تمطر تبدأ إجراءاتك الاحترازية ...

ثلاث حبات من الثوم في الصباح وقبل الإفطار ، كذلك جرعتان من العسل الأسود للرئتين ، وخليط الثوم والزنجبيل والعسل لغسل الكبد ، وكوب الشعير المغلي مختلطاً بأعشاب حلف البر للقضاء على أية تجمعات مستقبلية لأملاح في الكلى ، ثم مطحون حبة البركة ممزوجاً بغذاء ملكات النحل ، ثم كوبان من الشاي الأخضر ..

لقد أصابني الإجهاد .. فلن أحاول ذكر بنود ما قبل الغداء وما بعده وما بعد العشاء ، ووضعيات النوم ، وأنواع الوسائد ، ودرجة سمك الأغطية وأجهزة طرد الناموس وغسل الأرضيات بالمطهرات كل ساعة ..

لقد أصابنى الملل .. وكنتُ أريد أن أقول لكَ هذا .. وكنت أريد أن أقول كل شيء ، ولكنك لم تترك لى الفرصة ، فقد متَّ ، هكذا فقط  .

هكذا تتسبب فى غيظى ، فلم تخبرنى بأنك ستموت ، كنت جالساً بجوار فراشك على مقعدى السريرى ، واندهشت لأنني استطعت النوم المتواصل من الثانية صباحاً حتى الحادية عشرة دون أن تلكزني بعصاتك الممتدة من الفراش إلى الكرسي ، والمصوبة إلى جنبي تماماً . وعندما استيقظت رأيتك مقيداً فى فراشك من قدميك حتى رأسك بحبل محكم الربط ، وفى فمك منديلى القماشى القذر . وتذكرت أخيرا أنني أحكمت ربطك لأتمكن من النوم والراحة لساعة واحدة ، بعد ثلاثة أيام من اليقظة المريرة قضيتها بجوارك بينما تمطر .

بعد أن نزعت الحبال من حول جسدك انتظرت قليلاً ، باحتمال أن تعاود طلباتك اللعينة ، ولكنك لم تعاود طلب شيء . متَّ هكذا فقط .

وماذا بعد أن أفرغت شحنتى في قلمي الذي سطر على جسدك العارى كل ما كنت أرغب فى قوله إليك وأنت حى ، ولكننى ولأجل المحافظة على طريقتك المنتظمة فى الحياة ، فقد سطرت سطوراً مستقيمة على جسدك ، وكتبت بانتظام دون نزول عن السطر ، وللحفاظ على كل ما كتبته على جلدك فقد مررت عليه ببكرة " سلوتيب " شفاف .. هكذا كان جسدك العاري لامعاً بكلماتي وبكل ما كنتُ أرغب في قوله ، ربما يكون مسلياً لك في عالمك الآخر ..

وبعيداً عن التعقيد فقد حملتك في ليلة صافية لا سحب فيها ، تشيعك آلاف النجمات ، ثم رفعت غطاء البالوعة وقذفتك في المجارى .

بعد قليل ستختفي إلى الأبد ، وما الضير .. لقد جهزت كل شيء ، وإذا ما سألني أحد ، أقول – إذا – سألني أحد عنك ، سأقول بكل بساطة : إنك عثرت على مكان لا توجد فيه سحب وأمطار وطوالع سيئة .. وقررتَ البقاء فيه للأبد .