رسالة العراق

إصدارات جديدة والعدد الجديد من مجلة "كلكامش"

سهيل نجم

الكتاب العراقي، مثله مثل الإنسان العراقي، له همومه الكثيرة. فهو في هجرة ونفي واضطهاد منذ فترة طويلة، بل وفي حالة غربة شديدة عن قارئه الأصيل والأصلي الذي تحدثت عنه الكتب والناس وشهدت له بالجدية والمثابرة وتفضيل القراءة على باقي الهوايات. وبسبب هجرة الكثير من الكتاب والشعراء والنقاد وأكثر شغيلة الفكر، صار للكتاب العراقي رواجاً في المحافل الثقافية العربية وحتى العالمية بينما لم تتح له الفرصة للصدور داخل حدود الوطن. ولم يتبن أحد حتى استيراده أو إعادة طبعه داخل العراق، لأسباب عديدة منها أنه أولاً ربما لم يكن يتوائم مع أفكار الحكومات خصوصاً في العهد الشمولي السابق، فيمنع من الدخول إلى العراق إلا مهرباً. وثانياً لتخلف دور النشر وتدهور أحوالها الاقتصادية (لابد من الإشارة هنا إلى أن أغلب دور النشر العريقة قد أغلقت أو هاجرت هي أيضاً مع المهاجرين) بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية للبلاد عامة، وخصوصاً القارئ المثابر الذي بات لا يقدم على شراء الكتب لضآلة مستواه المعيشي، مما تسبب باستشراء الأمية وخصوصاً الثقافية منها.

وبعد انهيار النظام الشمولي جرت محاولات لبث الروح في حياة الكتاب إلا أنها ظلت (محاولات) بسيطة وغير جادة لأن الحالة السياسية الجديدة في العراق اصابها مرض عضال هو مرض المحاصصة الذي انتشر على الأصعدة كافة، ومنها الأصعدة الثقافية. فكان أن تسلم إدارة المؤسسات الثقافية المهمة أناس أقل ما يقال عنهم أنهم غير مؤهلين تماماً لهذه الإدارة مما اشاع التخبط وسوء الإدارة والبيروقراطية، إذ ليست هنالك أية رؤية استرتيجية في إشاعة الوعي النقدي والثقافي. فمثل هذه الاستراتيجية غائبة تمام الغياب فتردت بسبب ذلك حال الأنشطة الثقافية المسرحية والسينمائية والتشكيلية على سبيل المثال وصار مصير الكثير من مخطوطات المؤلفين العراقيين من روائيين وكتاب قصص وشعراء وباحثين أن تركن على الرفوف لسنوات حتى تتم إجازة طباعتها وإن حالفها الحظ وطبعت فهي تعاني الأمرين في المخازن بسبب انعدام المؤسسة التي تتولى مسؤولية التوزيع!

حتى المجلات الدورية المهمة التي كانت تصدر شهرياً كالأقلام والتراث الشعبي ومجلة المورد التراثية الفصلية صار تعثر صدورها مالوفا.ً وصارت تصدر نصف سنوية تقريباً وتعاني من سوء التوزيع أيضاً أو عدمه في أكثر الأحوال، بل وتوقف صدور بعض المجلات الثقافية المهمة مثل مجلة الموقف الثقافي ومجلة الطليعة الأدبية، وهي المجلة المهمة التي كانت تعني بأدب الشباب ولها الفضل في تنشئة أجيال عديدة من الأدباء العراقيين المتميزين الآن.

ومؤخراً لاحظنا أن هناك محاولتين تسعيان لأن تسهما في بث نوع من الأمل في نشر الكتاب الثقافي العراقي. وهما في الحقيقة محاولتان من مؤسستين من خارج وزارة الثقافة، أحدهما من مؤسسة شبه رسمية هي جريدة الصباح التابعة لشبكة الإعلام العراقي، والثانية من اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين. وفكرة كتاب جريدة الصباح تشابه فكرة "كتاب المدى الثقافي" وهو كتاب يصدر بورق الصحف قليل التكلفة تصدره جريدة المدى العراقية شهرياً ويوزع مجاناً مع الجريدة. غير أن الفرق أن بينما اهتمت جريدة المدى بنشر الكتب العربية القديمة عامة، الفكرية منها خاصة والتي نشرت قبل قرن أو نصف قرن، اهتمت جريدة الصباح بنشر الكتب الإبداعية العراقية الجديدة فاصدرت أولاً رواية للكاتب نصيف فلك التي عنوانها "خضر قد والعصر الزيتوني" وهي الرواية الأولى للكاتب التي يخلط فيها الحلم بالواقع بأسلوب واقعي ساخر ومأساوي. حديث يلخص فيها التجربة الحياتية الصعبة لجيل الثمانينيات في العراق من خلال سيرة حياة أحد المثقفين المتمردين في تلك الفترة. وتوفرت الرواية، برأينا، على حس فني طيب مدرك لطبيعة الكتابة السردية الحديثة من خلال التقطيع الجميل لحبكة الرواية والطريقة الذكية في التلاعب بالزمن، فضلاً عن اللغة الموحية والمضمون الإنساني الذي قرب الرواية من الرواية الشعبية وجعل من بطلها "خضر قد" بطلاً شعبياً حياً. وعلى وشك الصدور كتاب عن المواطنة للكاتب حسين درويش العادلي. ميزة الكتاب الذي ينشر ويوزع مع الجريدة هو ضمان توزيعه على نحو أفضل بكثير من كتب وزارة الثقافة، وكذلك ثمنه الزهيد جدا الذي لا يتعدى ثمن الجريدة.

أما اتحاد الأدباء والكتاب فقد عمد إلى نشر الأعمال الإبداعية من دواوين شعرية وقصص وروايات فضلاً عن نشر الدراسات النقدية. وقد تميزت منشورات اتحاد الأدباء والكتاب بمستوى متواضع للطبع وغياب الفرصة الجيدة في التوزيع. الشيء الواضح أن هاتين المحاولتين لا تغنيان من جوع للكتاب العراقي ولا تحل أزمته التي باتت مزمنة فضلاً عن أنها لا تعكس أبداً النشاط الفكري والإبداعي الذي تتوفر عليه قرائح المبدعين العراقيين الذين انتشروا في أرجاء المعمورة.


صدور العدد الجديد من مجلة "كلكامش"
المجلة العراقية التي تعني بترجمة الثقافة العراقية إلى الإنكليزية "كلكامش" صدر عددها الخامس مؤخراً. ترصد المجلة النشاط الثقافي العراقي بكل تنوعاته في كل مكان وتنتخب ما يمكن انتخابه سعيا من المجلة إلى إعطاء صورة مشهدية عن تيارات هذه الثقافة وحركيتها. ولذلك فالمجلة تنفتح على مفاصل الثقافة العراقية في الفكر عامة السياسي منه والاجتماعي والأدبي والفني. تصدر العدد افتتاحية المجلة التي تحدثت عن العلاقة القلقة والمعقدة بين الكلمة والرصاصة في عراق اليوم. والسؤال الذي تطرحه هذه الافتتاحية هو من الذي بنى الحضارات الكلمة أم الرصاصة؟ ثم ماهي الاحالات والارتباطات المتعلقة بكل منهما؟ سنجد أن الرصاصة مرتبطة بكل ما هو تدميري ودوغمائي وكل ما يمحي الحياة إلا رصاصة المطالبة بالحرية بينما الكلمة ترتبط بكل ما هو عقلاني وحواري وبنائي وليس إلا العقل (أو الكلمة ذاتها) هو وحده الذي يقرر متى يكون اللجوء للكلمة أو الرصاصة أي من هم مؤهلون عقليا للحكم بأولوية أي من الإثنين. وتنتهي الافتتاحية إلى فسح المجال أولاً للكلمة الصادقة انطلاقاً من مبادئ رجال ثوريين مثل غاندي، مادام هناك من يستمع من الجانب الآخر، وعلى الأخص إذا كان المتحاوران من داخل البيت العراقي.

تأتي من بعد ذلك المقالات التي ضمت أولاً مقالة للناقد السينمائي فراس الشاروط عن المخرج السينمائي الإيطالي ستيفانو رولا الذي راح ضحية العنف الأعمى في العراق على الرغم من أنه جاء ليعطي صورة نزيهة عن الحياة العراقية اليوم. وفي المقالة الثانية كتب الباحث العراقي المقيم في إنكلترا ماهر عزيز عن الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. وهو هنا يحلل في عوامل ظهور أغلب التيارات الإسلامية المتطرفة وتوجهاتها. أما الدكتور صادق رحمة محمد ففي مقاله "سندباد في فولغاغراد" يسرد لقاءاته مع المثقفين الروس في فولغاغراد محاوراً إياهم بشأن علاقتهم بالثقافة العراقية على الخصوص والنزر اليسير جدا الذي اطلعوا عليه من هذه الثقافة وإبداعاتها. أما المقال الآخر فقد تضمن ترجمة لبحث الدكتور صلاح الجبوري "مقدمة لأدب بلاد ما بين النهرين" الذي يبحث فيه ظهور وعلامات الأدب العراقي القديم ومميزاته.

باب مدن من الأبواب الثابتة في المجلة. وفي هذا العدد اختارت المجلة التعريف بحي مهم من أحياء بغداد هو حي "الأعظمية". وقد تحدث فيه الكاتب صافي الياسري عن المعالم البارزة لهذا الحي كالأسواق والجوامع والأبنية المهمة والجسر الذي يربط بينها وبين الكاظمية الذي يسمى بجسر الأئمة وتاريخ بناءه.
في باب الشعر هنالك قصائد لشعراء من أجيال مختلفة للشعر العراقي بينهم الشعراء صلاح نيازي وحسين عبداللطيف وسهام جبار . ولأول مرة ثمة ترجمة قصائد للشاعر العراقي الكردي لطيف هلمت فضلاً عن قصائد للشاعر النيوزيلندي مارك بيري كتبها عن شعراء عراقيين وقد أهداها للمجلة.

في الأدب السردي هنالك قصص للكاتبة العراقية سميرة المانع والكاتب شاكر الأنباري وناظم مزهر وحميد العقابي. وفي السياق نفسه نشرت المجلة سرداً كتبه الشاعر خالد المعالي عن مأساة الشخصية العراقية الكردية "تيمور" الذي أنقذته من موت محقق بدوية تعيش في بادية السماوة، يكشف خالد المعالي أنها شقيقته.
في باب الفنون نشرت المجلة ترجمة لبحث كتبه الفنان محسن العزاوي عن المسرح التجريبي فضلاً عن احتفاء المجلة بالفنان الراحل مؤيد نعمة رسام الكاركاتير المعروف فهنالك ترجمة لمقالة للكاتب والفنان خالد خضير عن مؤيد نعمة إضافة إلى لقاء مع مؤيد نعمة أجرته المترجمة والأديبة خالدة حامد.
على الرغم من الصعوبات التي تلاقيها المجلة (وربما كل المطبوعات العراقية، ولكن قد تكون صعوبات إصدار مجلة تصدر باللغة الأجنبية هي الأشد وطأة في ظل هذه الظروف) من الملاحظ أن "كلكامش" تسير بخطى ثابتة وواضحة من خلال رصانة موضوعاتها وجديتها وتمثيلها لجوهر الثقافة العراقية.