في قراءة استعادية لمنجز هلسا الأدبي يقارب الناقد في رواياته الزمان والمكان، وهوية السارد، وشخصية المرأة المؤثرة في تداعيات الحبكة، إضافة للكيفية التي يتتشابك بها العلاقات الاجتماعية في الواقع بالحلم والحالة النفسية، كما يوضح الرؤية الجماليّة والقول الذي يخلص إليه السرد.

عالم غالب هلسا الروائي

سيكولوجيا الحلم كأداةٍ سردية

مهدي نصـير

في هذه القراءة السريعة لأعمال غالب هلسا الروائية والقصصية سأتحدث بنقاطٍ مكثَّفةٍ حول هذه الأعمال، قد تضيءُ بعضَ عوالمِ هذا الروائي الدائم الدهشة والدائم التوتر والدائم الهوس بالأشياء.

أوَلاً: عالم غالب هلسا عالمٌ روائيٌّ ثريٌّ ومتدفقٌ، حتى في المجموعتين القصصيتين "وديع والقديسة ""ميلادة" و"زنوج وبدو وفلاحون" فالقصص التي تحتويها هاتان المجموعتان كانت أنويةً لروايات وليست قصصاً قصيرةً وبعضها تمَّ تضمينه في روايات غالب هلسا اللاحقة لهاتين المجموعتين.

ثانياً: المكان في روايات غالب هلسا هو القاهرة بأحيائها ومقاهيها وميادينها وشوارعها ومسارحها، كان ذلك في روايات ‘الضحك"، "الخماسين"، "البكاء على الأطلال"، "السؤال"، وجزء من "سلطانة"، و"الروائيون"، وحضرت بغداد في "ثلاثة وجوه لبغداد"، وحضرت مادبا وماعين وعمان بكثافةٍ طاغيةٍ في "سلطانة".

ثالثاً: زمان مدونة غالب هلسا الروائية هو النصف الثاني من القرن العشرين وحتى نهايات السبعينيات من هذا القرن، وهو زمنٌ كثيفٌ بصراعاته وتناقضاته وانتصاراته وهزائمه وأحلامه وانكسارتها، بمثقفيه ونسائه ورموزه وثقافته، ولم تظهر أحداث الثمانينات أو ظلالها في أيٍّ من رواياته المنشورة.

رابعاً: غالب هلسا روائيٌّ واقعيٌّ استخدم تقنياتِ سردٍ متطورةً في إقامة معمار روايته، فلغة السرد والوصف التي يستخدمها الراوي المثقف كانت لغةً عاليةً وشعريةً في كثير من مضامينها وإحالاتها النفسية والثقافية، في حين كانت لغة الحوار لغةَ الشارع والشخصيات وحسب مستواها الثقافي والطبيعي في حركتها ولغتها اليومية السائدة، وأعطى ذلك لمدونة غالب هلسا صدقيةً عاليةً وتوظيفاً فنياً عالياً للمناخات الفعلية التي تحرَّكت في فضائها شخصيات هذه المدونة السردية الثرية.

خامساً: وظَّف غالب هلسا ثقافته ورؤاه الفلسفية والفكرية والتراثية توظيفاً عميقاً وأدرجها في مدونته الروائية من خلال شخصيات مثقفة حقيقية تحمل هذا الفكر وهذه الرؤى، استخدم غالب هلسا أدوات التحليل النفسي الفرويدية بكثافةٍ عاليةٍ في تحليل المواقف والشخصيات، وبرزت هذه التحليلات في حوار بعض الشخصيات كالحوار الذي يدور بين جريس وسمحة في "سلطانة" حول عقدة أوديب التي تصف بها سمحة شخصية جريس في تحليلها لحبه لآمنة وسلطانة معاً، كذلك استخدام الراوي في روايات "الضحك" و"الخماسين" و"البكاء على الأطلال" و"ثلاثة وجوه لبغداد" و"السؤال" عبارات كعقدة أوديب وعقدة الكترا وعقدة الإخصاء، بل أن تحليله لبعض مقولات البدو التي تهاجم أنماط الطعام والشراب للفلاحين في رواية "سلطانة" يردها إلى أثرٍ ميثولوجي قديم تحدَّث عنه فرويد في "موسى والتوحيد".

سادساً: في كل الأعمال الروائية لغالب هلسا تم استخدام تقنية تداخل الأزمنة وتداخل الأمكنة واستعادة شخصيات من أعمال روائية سابقة، وتداخل الواقع بحلم اليقظة بالحلم في سرديةٍ كان على القارىء تفكيكها للوصول للأحداث الحقيقية وتمييزها عن الحلم وعن حلم اليقظة والتي كانت تتداخل مع الأحداث الفعلية بدون فواصل زمنيةٍ أو مكانية، نجد ذلك بكثافةٍ طاغيةٍ في "ثلاثة وجوه لبغداد" وفي باقي روايات غالب هلسا وإن برزت بنسبٍ أقل.

سابعاً: الراوي في كل مدونة غالب هلسا الروائية كان شخصية المثقف الثوري الماركسي والكاتب والروائي في تقلباته وتجلياته وتجاربه وانكساراته وهزائمه الكبيرة وانتصاراته الصغيرة.

ثامناً: أرَّخت روايات غالب هلسا واقعياً للحركة الشيوعية العربية في مصر والعراق والأردن عبر شخصياتٍ وأحداثٍ مرَّت بها هذه الحركة، أرَّخت لشخصياتٍ إنسانيةٍ عظيمةٍ حملت هذا الفكر وعانت في السجون والمعتقلات وصمدت وبقيت تحمل هذا الفكر وتدافع عنه وعن صحَّته في وجه كلِّ المهاجمين والمشككين، كان من هذه الشخصيات إسماعيل ومصطفى وإيهاب في رواية "الروائيون" وغيرهم الكثيرون في متن روايات غالب هلسا المختلفة، في المقابل انتقدت هذه السردية بتنوعاتها بعض الشخصيات الهشَّة والتافهة والضعيفة والمتسلِّقة كشخصية طعمة وموسى في رواية "سلطانة"، وربما كان في عدم قدرة "طعمة" على افتضاض بكارة أميرة بنت سلطانة وإرسالها لممثل البرجوازية الأردنية النائب في البرلمان في أوائل الخمسينات أحمد المساعد الذي قام بافتضاض بكارتها وتحويلها لعاهرة، ربما كان مقصوداً من غالب هلسا كرمزية عدم قدرة هؤلاء الثوريين الصوريين والتافهين على الدخول الحقيقي والفعلي (الجنسي) في امتلاك القدرة على التأثير وتغيير واقع الناس البائس، ويتضح هذا الفهم العميق لطبيعة علاقة الثوري بالجماهير بأعلى صوره في رواية "السؤال" وفي علاقة الثوري الشيوعي مصطفى مع بنت الأحياء الشعبية تفيدة والتي تمارس الجنس بحريةٍ مطلقة مع القهوجي وتاجر الحشيش والبلطجي وتقوم هي بالبحث عن مصطفى والشيوعيين الذين يعملون على رأيها من أجل الغلابى وتترك عالمها القديم لتنطلق في علاقةٍ إنسانية راقية مع مصطفى، أظن أن غالب هلسا كان يقصد هذه الرمزية للدلالة على العلاقة المرتبكة بين الثوريين والجماهير المسحوقة والبائسة.

تاسعاً: تحتلُّ المرأة –بجسدها وشبقها وأنوثتها وحنانها وقسوتها– المكوِّن الأكبر في مدونة غالب هلسا الروائية، فهو العاشق والباحث دائماً عن المرأة الأسطورة والمرأة الحلم والمرأة الجسد والمرأة الجنس والمرأة الحنان المفقود، كان وصف جسد المرأة الفاتن بتفاصيله الحسية والشبقية لازمةً سرديَّةً وشعريَّةً جعلت من هذا الوصف الحسي والشبقي أقرب إلى أن يكون صوفياً يقدِّس المرأة كجسدِ إله.

عاشراً: ربَما كانت رواية ‘السؤال’ أكثر روايات غالب هلسا قُرباً من فكره الماركسي، حيث وظَّف الواقع بشخصياته الحيَّة لحمل إيحاءٍ رمزيٍّ ماركسيٍّ عميق، فشخصية ‘تفيدة’ القادمة من أحياء مصر الفقيرة والجاهلة والمتهتكة والمنحرفة والتي تبحث هي عن الشيوعيين عبر عشقها الجنسي لمصطفى والذي بدوره يعمل على عشقها أوَّلاً وإروائها وامتلاكها جنسياً، ثُمَّ يعمل عبر حلقةٍ ماركسيةٍ وبطلب من تفيدة على تثقيفها وتعليمها ونقلها لعوالم جديدةٍ أصبحت تشكِّل عالماً حقيقياً لها، وربما أيضاً كان الزواج الطقوسي والذي يتم في اجتماع لحلقةٍ ماركسيةٍ بين مصطفى وتفيدة مؤشِّراً آخراً يدفع باتجاه القصدية الرمزية لهذه العلاقة وتناقضاتها والتي تحمل في طياتها الحلم الماركسي في زواج الفكر مع الواقع ومع الطبقات الفقيرة والمسحوقة لإنتاج مركَّب جديد ربَّما يكون هو قائد المستقبل.

حادي عشر: رواية "سلطانة" وهي الرواية الوحيدة التي يحتلُ فيها المكان والزمان واللهجة الأردنية الحيّز الأكبرَ من متن الرواية هي رواية البحث عن المرأة الأسطورة، والمرأة الحلم، والمرأة الرمز، والمرأة الجسد، والمرأة الحنان، والمرأة الخارجة من مواضعات وتفاهمات الواقع والمتمردة عليها.

رواية "سلطانة" هي رواية تاريخ نشأة الأردن ككيان وتاريخ نشأة الحركة الشيوعية الأردنية ونشأة عمَّان ومثقفيها وسياسييها، وربَّما أيضاً في هذه الرواية يستخدم غالب هلسا الأدوات التي استخدمها في رواية "السؤال"، حيث يمكن أن نقرأ الإسقاط الرمزي للعلاقة بين الراوي (جريس/ غالب) والمرأة (سلطانة/ آمنة) كانعكاسٍ ذهنيٍّ لثقافة غالب هلسا السيكولوجية العالية والتي استخدمها في التحليل النفسي والتركيب الذهني والنفسي لشخصية آمنة/ الأسطورة/ الحلم/ النقاء وشخصية سلطانة/ الجسد/ الشبق/ الانحلال، ولتكتمل حبكة التركيب السيكولوجي يدفع الراوي الأحداث في اتجاهٍ يكتشف فيه المتلقي أن آمنة وسلطانة أختين لأبٍ واحد هو عبد الكريم العماشنة.

هذه الرواية "سلطانة" انتهت إلى غير ما انتهت إليه رواية "السؤال" والتي كُتبت في مرحلةٍ ما زالت فيها حركة النهوض العربي واقفةً على قدميها وتحاول أن تتقدم ولم تنهزم بعد، أما في سلطانة والتي نشرت عام 1987 فالنهاية كانت انجراف سلطانة إلى الخيانة والتهتُّك المطلق، وربما هذا الفارق في المآل بين روايتين هامتين وتحملان الرمز ذاته هو ما دفع غالب هلسا للعودة لرواية "السؤال" ومواصلة أحداثها في روايته الأخيرة "الروائيون" والتي هي امتداد واستكمال لرواية "السؤال" المتفائلة والحالمة.

ثاني عشر: كان واضحاً أن مدوَّنة غالب هلسا السردية في أعماله الروائية والقصصية كانت تمتح من تجارب وحياة ومعاناة وأحلام غالب هلسا المثقف الثوري والماركسي المنفي والبعيد والمنكسر والباحث عن سعادةٍ مفقودةٍ كان يجدها في المرأة بتشكُّلاتها المختلفة، كانت المرأة والجنس كمعادلٍ لحيوية العالم وجدليته المفقودة في التاريخ هي المُتكأ الذي استخدمه غالب هلسا في مدوِّنته السردية كتميمةٍ لتحمُّل كابوسية العالم والوجود وعبثيته وعماه.

ثالث عشر: من التقنيات العالية التي استخدمها غالب هلسا في كلِّ رواياته كانت تقنية تداخل الواقع بالحلم وتداخل الحلم بحلم اليقظة وتداخل الواقع بحلم اليقظة عبر شبكةٍ محكمةٍ لسبر الشخوص وتحليلها وقراءة مواقعها وسلوكاتها ومواقفها، كان ذلكَ مربكاً ودافعاً للمتلقي للتنبه للحدود الفاصلة بين ما هو واقعي من الأحداث وما هو حُلُمي.

رابع عشر: بقيت قضية هامة –وربما تحتاج لقراءةٍ مستقلَّةٍ لاحقاً هي ثنائية (سلطانة تفيدة) وكلتاهما كما تشير الروايتان الأساسيتان "السؤال" و"سلطانة" لم يتشكَّل لهما أنا عليا وكلتاهما جاءت من بيئةٍ فقيرةٍ وكلتاهما مارست البغاء والجنس المنفلت والمتهتك، ولكن كان لكلٍّ منهما مسارٌ تطوريٌّ مختلف كيف نقرا ذلك ؟ وكيف سيطر غالب هلسا على هذا التناقض؟

"الروائيون" كانت الجواب والاستدراك الذي قاد عبره غالب هلسا تصحيح الرؤية المتعجَّلة التي أنهى فيها روايته المحورية "السؤال".

ولكن كيف استدرك غالب هلسا في هذه الرواية الختامية على الرمز الذي بناه في "السؤال" والمتمثِل في زواج مصطفى الفكر الماركسي الثوري بتفيدة الطبقات الشعبية البائسة والفقيرة والجاهلة والمسحوقة؟

في هذه الرواية "الروائيون" والتي تمَّ رسم خطوطها الرئيسية كمخطَّطٍ مسبقٍ بذكاءٍ ومهارةٍ عاليتين، لم يستطع غالب هلسا تدمير العلاقة التي ولَدها بين مصطفى وتفيدة ولكنه بحرفيَةٍ روائيةٍ عاليةٍ وواعيةٍ أحال هذه العلاقة في "الروائيون" إلى حدثٍ عاديٍّ وهمَّشها وسحب منها بناءَها الرمزي وخلقَ بالمقابل شخصيتين جديدتين احتلَتا ما تريد أن تقوله الرواية في تطوُّرها، هاتان الشخصيتان هما (إيهاب كبديل روائي لمصطفى) و(زينب كبديل لتفيدة)، ومما يؤيد هذه القراءة أن هاتين الشخصيتين الجديدتين لم تظهرا في رواية "السؤال" وتم دخولهما إلى أجواء الحلقات الماركسية التي ينتمي إليها مصطفى وتفيدة بذكاء روائيٍ مخطَّط ومدروس.

بهذه التقنية البارعة والمتعاطفة مع الفكرة (مصطفى تفيدة) استطاع غالب هلسا أن يتابع تطور شخصياته في التاريخ الفعلي وليس في التصور الذهني الحالم الذي سيطر على رواية "السؤال".

وبهذه الحيلة الروائية: خلق بدائل للشخصيات الرمزية ودفع هذه الشخصيات الجديدة إلى مسرح الرواية لتواصل تطورها دون التضحية بالفكرة-الحلم في تزاوج الفكر والواقع في براكسيس ماركسي حقيقي.

وبهذا يصبح التناقض والمفارقة بين شخصيتي سلطانة وزينب وليس سلطانة وتفيدة هو المحرِك الذي أرادت "الروائيون" أن تعيده وتؤكده.

زينب آلت روائياً إلى نفس الدرك الذي آلت إليه سلطانة: الخيانة والهزيمة والجحيم، وبقيت تفيدة ومصطفى تجربةً وحلماً لم يستطع غالب هلسا التخلِّي عنه مع أن الواقع والتاريخ دمَر هذا الاحتمال النظري والحالم والساذج.

في سردية غالب هلسا الروائية الكثير من الرموز والكثير من الحياة والكثير من الغضب والكثير من الحلم والكثير من الحب والجنس والمرأة والكثير الكثير من الفكر الذي يحلم بتغيير هذا العالم البائس للإنسان العربي المهزوم والمأزوم والعاجز.