يسعى الباحث المغربي في هذه الدراسة إلى التعرف على الصور المختلفة التي تعبر بها الذات عن نفسها في النص الروائي، دون مطابقتها للكاتب كما في السيرة الذاتية. بصورة يطرح معها البحث مختلف مسارات تحقق الذات بالكتابة، أو بالتعبير عن المجتمع، أو على مرايا العلاقة مع الآخر، أو من خلال الارتحال في الزمن والمكان.

الذات في السرد الروائي

هشام مشبال

تسعى هذه الدراسة إلى إعادة النظر في طبيعة الذات في نمط من النصوص الروائية التي تتسع فيها المسافة بين الكاتب والسارد والشخصية. كما تتوخى أيضا تلمس مختلف الصور أو الأساليب التي بموجبها يستطيع الكاتب أن يجعل من الذات موضوعا للتصوير ومقصدا رئيسا من مقاصد التخييل. فلاشك أن الذات تضطلع في السرد الروائي بوظيفة مغايرة لتلك التي تنهض بها في نصوص "التخييل الذاتي"؛ حيث تتركز غايتها في نقل التجربة الحقيقية واسترجاع تفاصيل الذاكرة.

لقد درج النقد المعاصر في مقاربته لمفهوم الذات على توثيق صلته بخطابات سردية تندرج جميعها ضمن ما يسمى ب"التخييل الذاتي"[1]؛ سواء السيرة الذاتية أو المذكرات أو اليوميات أو رواية السيرة أو السيرة الروائية أو السيرة الذهنية وغيرها من المحكيات التي تركز على الهوية؛ أي على غياب المسافة بين الذات الكاتبة والراوي أو السارد أو الشخصية. ولأجل ذلك نروم في هذه الدراسة تلمس الذات التي انفصلت عن مرجعيتها لتصبح أحد العناصر التي يتوسل بها الكاتب في نسج عالمه التخييلي. إنها بهذا المعنى، ليست ذات الكاتب الحقيقية التي تقوم على وجهة النظر الاسترجاعية كما هو الشأن في المحكي الذاتي، وإنما هي مكون تخييلي يرتكز على رؤية شمولية، تتجاوز نقل التجربة الذاتية الفردية إلى الاهتمام بجوهر الإنسان في شموليته ورحابته.

ولاشك أن إعادة النظر في موضوع الذات داخل حقل تخييلي يردم الهوة بين النص ومؤلفه، أو يوسع المسافة بينهما، يثير عددا من الإشكالات؛ فهل الذات في السرد الروائي واحدة أم متعددة؟ وهل هي انعكاس لكاتبها أم هي وعي متجدد وخفي؟ وكيف بالإمكان تحديدها عمليا مادامت تمثل جوهرا ووعيا وماهية وليس مادة أو حقائق ملموسة؟

1: من "التخييل الذاتي" إلى السرد الروائي
على الرغم من أن الحدود تظل أحيانا ملتبسة فيما يخص حضور الذات في التخييل عموما (الرواية أو محكيات الذات)؛ بحيث تتوارى في بعض النصوص التخييلية، بينما تتطابق تطابقا تاما مع الكاتب في نصوص أخرى وتتخذ من الحياة الشخصية مادة لها. إلا أن تلمس سمات تصويرها وحضورها في السرد الروائي من شأنه أن يوضح طبيعة هذه الذات التي تبدو أحيانا وكأنها قد انفصلت عن منتج النص أو الكاتب الحقيقي. ففي السير والتراجم واليوميات التي ينظر إليها في الغالب بوصفها تجارب ذاتية، تبدو الذات أكثر تجليا ووضوحا، قابلة للتحديد والتعريف؛ فالكاتب يقدم نفسه باعتباره شخصية سردية تضيء الحبكة وتقود الأحداث[2]. هكذا تندرج في إطار "التخييل الذاتي" معظم المحكيات التي "ترتكز على الهوية، أي على غياب المسافة الفاصلة بين شخصية السرد الرئيسة التي هي الذات وبين الراوي الذي يتحدث بضمير الأنا ويكتب بصيغة المتكلم"[3].

بينما يمارس الكاتب في السرد الروائي لعبة الخفاء والتشتيت والترميز في حبكة قائمة على التعقيد والتركيب، وتبدو شخصيات النص في ضوء ذلك أكثر نزوعا إلى الخصوصية والاستقلالية والتخييل؛ وكأن الكاتب يعمق المسافة بينه وبين شخصياته. في سياق هذا التقسيم نصبح إزاء نمطين سرديين مختلفين هما المحكي السيري والمحكي التخييلي، على الرغم من تداخلهما وتقاطعهما في كثير من الأحيان.

1-1: في التخييل الذاتي
لاشك أن إحدى دلالات "التخييل الذاتي" أن الذات الكاتبة تعمد إلى إضفاء سمة التخييل على تجربتها الشخصية، وتوسيع الهوة بين حياتها الحقيقية وفعل السرد الذي تضطلع به؛ باستخدام الاستعارات والمبالغة والاسترجاعات والإيهام والتصوير والتشظي والتبئير وغيرها من مكونات التخييل. فعلى  الرغم من أن السيرة على سبيل المثال، بوصفها أحد أهم أشكال "التخييل الذاتي"، توهم بفرادة التجربة المحكية وغرابتها أحيانا، إلا أنها تظل محافظة على بعدها المرجعي والواقعي[4]. وهي تقوم على استعادة الحياة الشخصية المرجعية، وعلى تسجيل لحظات مميزة في التجربة الإنسانية. ولا يعني التركيز على الحياة الشخصية إعادة التأريخ لماضي الشخص كاملا، بل من خلال لحظة مميزة في الحياة[5]. وبهذا المعنى ليست السيرة سوى حكاية ذات بعد انتقائي كما يرى بول ريكور[6]. ولعل هذا الانتقاء هو ما يمنحها بعدها التخييلي. بيد أن ما نود التركيز عليه هنا هو مدى التزام الكاتب بسرد حقيقته المرجعية وتطابق محكيه مع واقعه وحياته الشخصية. فهذا التطابق هو ما يمنح النص المنجز بعده الذاتي المرجعي على الرغم من تجنيس بعض الكتاب نصوصهم بوصفها روايات؛ ومثال ذلك محمد شكري في "زمن الأخطاء" وصنع الله إبراهيم في "تلك الرائحة" وعبد الحكيم قاسم في "أيام الإنسان السبعة" ولطيفة الزيات في "أوراق شخصية" ومحمد برادة في "الضوء الهارب"، ففي هذه النصوص تتقلص المسافة بين المؤلف والشخصية الروائية مما يجعلها أقرب إلى التخييل الذاتي الذي يتطابق فيه المؤلف والسارد والشخصية. بينما كلما توسعت تلك المسافة وأغرق المؤلف في التخييل ابتعد النص عن "محكيات الذات" وأُدرِجَ ضمن "التخييل السردي الروائي".

1-2: في السرد الروائي
إذا كانت نصوص "التخييل الذاتي" تقوم على مبدإ التطابق، فإن النصوص الروائية تفصل بين ما هو مرجعي وما هو متخيل، دون أن يفضي ذلك إلى انفصال تام بين تجربة المؤلف ونصه؛ فقد يعمد الكاتب إلى إخفاء ذاته في شخصيات مختلفة وأصوات متعددة مما يعني تعدد الذوات داخل النص[7]، بخلاف نصوص "التخييل الذاتي" التي تقوم على وحدة الذوات. إن الشخصية المرجعية هي محور الحدث والحكي في هذه النصوص، وهي تفترض الحقيقة والصدق الواقعي، بينما تمثل الذات في السرد الروائي عنصرا تخيليا يقوم على مبدإ المفارقة والتغريب والتنويع والتشتيت والانطلاق والفانطاستيك؛ إنها بتعبير أدق كائن خيالي[8]. ولاشك أن السؤال الأكثر التباسا هنا هو: كيف بالإمكان تلمس طبيعة هذه الذات في السرد الروائي؛ حيث تتوسع المسافة بين المؤلف والتجربة المسرودة؟

يدفعنا هذا الإشكال الجمالي إلى إعادة النظر في التصور الكلاسيكي لطبيعة العلاقة بين الذات والكتابة، فعلى الرغم من أن الذات اعتبرت على الدوام أصلا وماهية تتميز بالصفاء والوضوح والثبات[9]، فإن ثمة موقفا مناقضا يشكك في طبيعتها المكتملة هذه. يستمد هذا التصور مبدأه من مقولة فاليري الشهيرة "من يعترف يكذب"[10]. بل بالإمكان إثارة بعض التساؤلات كما يرى أحد الباحثين[11]: هل تحكي نصوص التخييل الذاتي كل ما مرت به الذات؟ وهل يمكن الحديث عن الثقب السوداء في الذاكرة وعن الحدود الاجتماعية والأخلاقية؟ وبإمكاننا التساؤل أيضا في السياق ذاته: هل يقول كاتب السيرة على سبيل المثال فعلا كل شيء أم يقول ما يريد فقط؟ يبدو أن للتخييل مقتضيات مختلفة؛ فتصوير الذات يفرض على الكاتب التحرر من القيود الأخلاقية والأعراف والتقاليد التي تفرض سلطتها الاجتماعية، وتصبح الكتابة لديه فعلا حرا غير مقيد. إنه يقول ذاته من خلال شخصياته المتعددة؛ رجلا كان أم امرأة، طفلا أم شيخا، ومن خلال فضاءات النص المختلفة، وكأنه يمارس التضليل على القارئ ويوهمه بموضوعية الأحداث واصطناع الحبكات المفارقة والموغلة في التخييل أحيانا.

بيد أن الغاية الرئيسة من هذه الدراسة ليست البحث عن معينات ذات الكاتب في منجزه الروائي التخييلي؛ فهذا يحتاج بالدرجة الأولى إلى معرفة السياق وخاصة ما يتعلق بحياته الحقيقية. وإنما تتمثل الغاية في إعادة النظر في طبيعة الذات نفسها؛ مادام البحث في خصوصيتها داخل السرد الروائي ليس مرتهنا بقياس مدى مطابقتها للكاتب، بل بالعكوف على تصوير النفس الإنسانية؛ أي "تشييد الذات الفاعلة بعيدا عن الحدود الضيقة، لإدماجها في فضاء إنساني رحب"[12]. تعني الذات في هذا السياق ردم الهوة بين الذات الحقيقية والكتابة، أو بين فعل التخيل والمرجع، واعتبار مقابل ذلك بعض السرود التخييلية بأنها تقوم على تصوير الذات بدرجات متفاوتة، على نحو ما تقوم أخرى على تصوير المجتمع والتاريخ كما في الروايات التاريخية والأخلاقية والنفسية التي تغيب فيها ذات الأديب أو يكون حضوره فيها ضعيفا جدا. إنها بعبارة أدق الذات التي تجعل من نفسها موضوعا تخييليا[13].

ليست الذات في السرد التخييلي حكاية انتقائية للحظات مميزة في حياة شخص ما، وليست محاولة إظهار أسلوب تلك الذات في العيش داخل العالم المعقد بقصد استخلاص الحكمة، وإنما هي توجه الكاتب إلى أن يجعل منها محورا للتأمل وموضوعا للحبكة. هكذا يعكف الروائي على حل اللغز الإنساني حين يتأمل النفس البشرية بعللها وتعقيداتها محاولة في فهم الأعماق الإنسانية المركبة. ليس مفهوم "الذات" في السرد التخييلي الروائي إذن صورة مطابقة للمؤلف تعكس تجربته في الحياة، أو مرآة تعكس تأملات الذاكرة والغوص في ماضي الشخصية الحقيقي. بل هي عنصر تخييلي وموضوع مثير للتأويل؛ بحيث عمد بعض الروائيين إلى جعلها مركزا للسرد ومحورا للتأمل.

1-3 : إشكال الذات
تكتسب الذات في نصوص التخييل السردي الروائي معنى جديدا يكرس جملة من الرؤى المغايرة لتلك التي رسختها السرديات[14] البنيوية والسيميائية بوجه عام؛ حيث ركزت على السارد ووضعياته المختلفة، وعلى أشكال توظيف الشخصية وحصر أنماطها. في حين اقتصرت معالجة الذات في الدرس الفلسفي على جدل الأنا والآخر وعلى موضوع الهوية وكذلك الهوية السردية[15]. بينما تشغل الذات في السرد الروائي أفقا مغايرا؛ فهي ماهية وجوهر ووعي، قد تطابق أحيانا تجربة المؤلف الخاصة، ولكنها لا تقتصر على دور المرآة حيث تغدو مجرد انعكاسات فردية، بل تعمل بإصرار على تحديد جوهر إشكال الوجود وتفسيره بصورة كلية وكونية. إن علاقتها بالمرجع يسودها التأمل والتفسير أكثر من نزوعها نحو التصوير الأمين والمحاكاة وإثارة العواطف. وهي بهذه المعاني جميعها ذات خيالية على الرغم من بعض التماثلات القائمة أحيانا بينها وبين حقيقة المؤلف. هذا الأخير الذي يسعى إلى إعادة إنتاج ذاته وأفكاره الداخلية في حبكة تخييلية وشخصيات مركبة تروم أولا وأخيرا كشف جوهر الوجود.

قد يلتقي مثل هذا المنظور مع ما يسمى برواية الشخصية حيث يكون موضوع السرد هو صياغة نماذج إنسانية متميزة على نحو ما عهدناه في روايات بالزاك وإيميل زولا ونجيب محفوظ. غير أن الشخصية تمثل انعكاسا لمجتمع معين أو لبيئة يطمح الروائي إلى أن يصور فضاءاتها وتفاصيلها. فبلزاك على سبيل المثال، حاول جاهدا أن يجعل من رواياته مرآة تعكس كل طبائع الناس وسلوكاتهم وكل ما يتصفون به من عيوب ومحاسن وأحقاد وآلام. كما سخر نجيب محفوظ كل النماذج الإنسانية في رواياته حتى أصبحت صورة مصغرة للواقع المصري. لقد أراد مثل هؤلاء الروائيين وغيرهم أن يكتبوا تاريخا للشخصيات التي لم يتسع لها المجال في المحكي التاريخي الحقيقي.

حاولت الرواية التقليدية التي عنيت بوصف الشخصيات والنماذج الإنسانية أن تنهض بعبء تجسيد كل النماذج البشرية العادية والعجيبة. ولكن الإشكال الحقيقي الذي واجهها هو: هل يكتب الروائي نصا أدبيا تخييليا أم تاريخا حقيقيا؟ لعل هذا الإشكال هو ما دفع بعض الروائيين إلى إهمال الشخصية والتركيز على صفاتها وأفكارها فأطلقوا عليها مجرد حرف كما فعل كافكا على سبيل المثال[16]. لقد حظيت الشخصية في الرواية التقليدية بمكانة متميزة؛ فهي كائن حي ينبغي وصفه جسديا وروحيا. وهو ما دفع ببعض الكتاب إلى منحها المكانة اللائقة والقوة المفرطة والأحاسيس الرفيعة على اعتبار أنها جزء من تكوينهم النفسي والعقلي. غير أن الشخصية لاقت عند الروائيين المحدثين نقدا شديدا، بل إن كثيرا منهم من تنكر لها وأهملها.

إن التحول الذي حدث في بنية الرواية من مرحلة العناية بالشخصية إلى مرحلة العناية بالأفكار هو ما يمنح الذات في السرد الروائي طبيعتها النوعية. فليست الذات كائنا ملموسا ومرآة لشخوص حقيقيين وواقعيين، وليست انعكاسا لكاتبها فحسب. إنها فكر ينطوي على رؤية أكثر شمولية ورحابة؛ أو هي وعي بالأفكار الداخلية العميقة للإنسان في المطلق. إن الذات كما سنتبين من خلال تحليل بعض النصوص الروائية، تجسيد للأحلام والآلام الإنسانية، وكذلك الأوهام والأفكار العميقة التي تنوء بها الذوات.

بهذا المعنى يمكن النظر إلى الذات بوصفها منظومة من الأفكار والقيم والمبادئ والأحاسيس الإنسانية. لنقل إن الذات في السرد الروائي تتوجه إلى تأمل نفسها ومجادلة أفكارها وهواجسها سعيا إلى الفهم والإدراك. فليس بطل بروست في رواية "البحث عن الزمن الضائع" على سبيل المثال سوى تلك الذات العليلة التي تبحث عن السعادة في ماضيها. كما تبذل إيما بوفاري كل الجهد لتتعرف ذاتها من خلال قراءاتها الرومانسية المختلفة في محيط تافه من حولها. وكذلك الشأن بالنسبة إلى روايات كافكا وجويس وتوماس مان؛ فقد عكف هؤلاء الروائيون جميعا على تصوير الذات الإنسانية والتغلغل إلى أعماقها ومحاولة فهمها. إن معرفة الذات لهواجسها وفهم حيرتها وتأمل أفكارها العميقة تعد إحدى السمات النوعية لطبيعة هذه الذات في السرد الروائي. ولكن، كيف يمكن إدراك هذه الذات وتحديد سماتها؟ يجيبنا ميلان كونديرا قائلا: "عن طريق الفعل أولا، ثم في الحياة الداخلية"[17]. إن تحليل المواقف وأفعال الشخصيات والغوص في أفكارها وتأملاتها يمنحنا القدرة على فهم طبيعة الذات في السرد الروائي. 

ولأجل ذلك، تنظر هذه الدراسة إلى الذات في السرد الروائي بوصفها مكونا تخييليا وليس انعكاسا أمينا للمؤلف أو تجسيدا لصورته الحقيقية ومواقفه الأيديولوجية. إنها تحمل صوته الإنساني الخاص وصوت مجتمعه لتعبر عن قضايا كونية، تمثل الذات فيها عنصرا مشتركا وهدفا نبيلا. إن جميع الذوات في النصوص الخاضعة للتحليل تثبت أنها تشترك في مبادئ وسمات خاصة على الرغم من الاختلاف الإيديولوجي للكتاب وتنوع رؤاهم ومنطلقاتهم الفكرية. إنها ذوات تتأمل أفكارها وتجادلها، وتبحث في ماضيها عن سعادتها، وتجعل من السفر وسيلة لتحقيق هدفها في الحياة، كما تركز على خيبتها وتكشف تناقضاتها الخاصة وأزمة مجتمعها. إنها تتوه في البحث عن أحلامها المفقودة، فلا تجد من سبيل أمثل لتثبيت هدفها سوى الكتابة بوصفها فعلا تواصليا حميما.

2: علل الذات
لا تتجاوز الذات عند محمد أنقار في روايتيه الاثنتين "المصري"[18] و"باريو مالقة"[19] حدودها النفسية وتكوينها الفردي الخاص؛ فهي لا تصطدم بالتاريخ أو الواقع أو السياسة أو الآخر، بل تخوض صراعا وجوديا مع نفسها وتواجه عللها بمفردها محاولة لفهم ذلك الخوف الساكن بأعماقها على الدوام؛ خوف من الزمن والموت والحب والفراغ والعزلة إلخ. إنها ذات هشة لا تكف عن تأمل هواجسها وتناقضاتها سعيا إلى إثبات وجودها وإعطاء معنى لحياتها سواء بتمسكها بالإرادة أو قيم الحب والصداقة والإيمان بالمعرفة. يسعى محمد أنقار بهذا المعنى إلى أن يصور تلك العلاقة المبهمة بين الإنسان وعلله الداخلية وواقعه المحيط به. إن الخوف الذي يتغلغل في أعماق شخصياته الروائية وما يتولد عنه من علل يُرَدُّ أساسا إلى تكوينها النفسي الخاص والهش. فكل من أحمد الساحلي بطل رواية "المصري"، وسلام بطل "باريو مالقة"، لم يقدرا على التكيف مع واقعهما مما يؤكد ذلك الصراع الخفي في الرواية بين الذات والعالم.

2-1: الذات وحلم الكتابة
يغوص الكاتب في رواية "المصري" في أعماق النفس الإنسانية العليلة التي تواجه الزمن وتخشى الموت؛ ذلك أن البطل العليل الذي يروم كتابة رواية عن مدينته المغربية "تطوان" بإيحاء مصري مثلما كتب نجيب محفوظ عن القاهرة[20]، يخوض صراعا قويا ضد الزمن لينجز حلمه الثقافي. فقد استبد به الخوف من الموت من دون أن يحقق مشروعه؛ وليس أمامه سوى أسبوع واحد فقط لينهي حياته العملية ويتقاعد. هكذا تمثل الكتابة بالنسبة إليه تحديا حقيقيا لتفادي المصير المحتوم. إنها أولا "مغامرة يخوضها كل مبدع لحسابه الخاص بحثا عن ذاته، ثم هي، ثانيا، تطلع إلى الاقتراب من الحقيقة المتلونة، المنفلتة باستمرار"[21]. غير أن هذه الذات العليلة التي تعي صعوبة المهمة آمنت بما توفرت لديها من إمكانات وطاقات بقدرتها على إنجاز مشروعها الإبداعي، على الرغم من السمات العليلة التي تتصف بها؛ فشخصية الساحلي "ذات بنية هشة وضعيفة، سريعة التأثر بالمواقف الحزينة والأجواء الطبيعية، كما أنها تعاني ضروبا من الأدواء وتعاني حساسية مفرطة نحو بعض الأطعمة وتعاني ألوانا من الخوف منذ طفولتها، كما أن تصرفاتها تنم على البخل. ومن سمات هذه الشخصية أيضا الانغلاق وقلة التجربة"[22].

توحي جميع هذه السمات بعلة الذات وتقوقعها وعجزها عن التواصل مع المجتمع. إن عدم امتلاك الساحلي للقدرة الجسدية والنفسية حال دون أن يحقق بالكتابة ما حققه نجيب محفوظ. يروم هذا الصراع الوجودي الذي تخوضه الذات العليلة تأكيد قوة الكتابة في إثبات الذات وتمكنها من مجابهة الموت. فعلى نحو ما استطاع سلام في رواية "باريو مالقة" أن يبعث الحياة في أعماقه من جديد بإيمانه بقوة المعرفة وضرورة العلم وتشبثه بهما في مواصلة الحياة باعتبارهما طاقة إنسانية متجددة، استطاع أحمد الساحلي في رواية "المصري" أن يدرك أن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي سيجنبه الموت القادم. لكنه بعلله سيواجه المصير المحتوم في النهاية. هذا ما عبر عنه بقوله: "حتى الجدران والسحنات خانتك فلم تسلم لك مقاليدها فكان انهزامك إزاء العتاقة وطلب العمق. الأسبوع سينتهي بعد ساعات معدودات لم يبق لك سوى أن تتنازل عن عنادك الموروث عن سلالات غابرة وأن تفكر في الطريقة المثلى للتنازل. [...] تريد أن تضيف إلى ثرواتك ميزة الإبداع التي لم تستطعها؟ يكفيك أنك وقفت عند مشارف الحقيقة فلا تتجاوز حدك واعترف بهزيمتك. تطوان ستظل منتظرة فارسا آخر غيرك ليصوغها قصيدة جميلة أو رواية ساحرة."[23]

تولَّدت رغبة هذه الذات في الكتابة في سياق إعجاب الساحلي بنجيب محفوظ؛ وقد مثلت هذه الرغبة أحد مبررات صراع الذات ضد الزمن، ومجالا تكتشف فيه هذه الذات عللها من أجل التأمل والتدبر. إن هذا الهوى الشرقي أو المصري ممثلا في جعل نجيب محفوظ مثالا يُحتذى ونموذجا يُفتَتنُ به، يشكل أداة لمقاومة عوائق الذات والطبيعة والمجتمع، وسبيلا للتواصل والانفتاح واكتشاف الذات[24]، على نحو ما فعل سلام في رواية "باريو مالقة" حين دفعه حبه لماري كارمن العاجز إلى أن يحدث تغيرا جذريا بداخله؛ حيث صار أكثر اهتماما بعقله وبمظهره فجعل من علله دافعا إلى بناء ذاته. يمكن القول إذن، إن القيم الروحية (العلم والحب والتأمل..) تمثل جميعها أداة للتواصل والانسجام وإثبات الذات.

2-2: الذات والخوف
لعل المصير المجهول الذي واجهه أحمد الساحلي في صراعه ضد الزمن، هو أحد مآزق الذات في رواية "باريو مالقة". فالسؤال الأساس الذي تسعى الرواية إلى الإجابة عنه هو: كيف يمكن أن تواجه ذات عليلة واقعا مخيفا ومجهولا بمفردها؟ هكذا يعكف محمد أنقار على تصوير ذات فتية تواجه خطرا مستمرا لوحدها في عالم بلا قيم. والحق أن ثمة نقيضين يلخصان جوهر هذه الذات هما؛ الحلم من جهة، والاستسلام للعلة من جهة ثانية. ولذلك تمثل الرغبة في امتلاك الإرادة سمة رئيسة في الرواية القائمة على تصوير الذات الإنسانية التي عجزت عن التواصل بحرية مع محيطها. لقد انتقلت هذه الذوات العليلة التي يتهددها شبح الاغتصاب من مرحلة إثارة الأسئلة وفهم واقعها إلى مرحلة مجادلة أفكارها الداخلية العميقة. وقد صاحب هذا التحول قدرتها على تقرير مصيرها بنفسها. هكذا أمكن القول إن إدراك الوجود والذات من القضايا التي تسهم في فهم طبيعة الخوف في الرواية. ذلك أن علة الشخصيات تنكشف في لحظات مفارقة داخل النص؛ أو بالأحرى لحظات تنكفئ فيها الذات عن التواصل مع الواقع إلى تأمل أعماقها.

ولا شك أن إدراك طبيعة الذات في هذه الرواية يتم من خلال فحص سلوكها وسبر حياتها الداخلية. فالخوف الذي يعيشه سلام على سبيل المثال يتدرج عبر ثلاث مراحل؛ خوف من الفتوات وفعلهم اللأخلاقي المباشر، وخوف من شبحهم الملازم للذات والمصير المجهول، ثم أخيرا خوف من الزمن المبهم وظلم الحياة. وعلى هذا الأساس تروم صور الخوف في الرواية الكشف عن مسار الذات التدريجي في مواجهة العالم والحياة من حولها، والانفتاح على داخلها واكتشاف سماتها العليلة.

لقد حوَّل رعبُ الفتوات الصبيان إلى ذوات هشة تنسحب من عالمها لتركز على تأمل عللها الداخلية. كان لا بد أن تقاوم هذه الذوات علتها وتولد من جديد. فسلام على سبيل المثال أدرك علته وبدأ يفكر في حياته بطريقة جديدة. لقد وعى جيدا أن الحب هو الذي ينقذ الروح مثلما أنقذ سالما ولبنى في رواية "نقطة النور" لبهاء طاهر[25]. والحب أيضا هو الذي أنقذ "يوسف الفرسيوي" الذي وصل إلى طريق مسدود بعدما فقد كل أمل في التغيير، ولكنه تصالح مع كل التحولات الاجتماعية حين عاد إلى حبيبته "ليلى"[26]. هكذا يمثل الحب إحدى القيم التي تصنع الإرادة وتسهم في تحقيق الذات. لقد احتمى سلام من الخوف بعشق ماري كارمن وهو مدرك تماما أن قصة حبه لن تكتمل. لقد بدأ مغامرة عاطفية من جانب واحد، أو بمعنى آخر؛ دخل دائرة التيه العاطفي، وهو في حقيقة الأمر كان يتقدم في حيرته الأبدية. ولى زمن الضحك والمغامرة ليحل محلهما زمن التيه والعلل. فهل بإمكاننا القول إن الحب العاجز هو الذي قاده إلى تعرف ذاته وإدراك علله؟

واكب هذا التدرج المنطقي والمحبوك في وصف الخوف، تحولٌ من مواجهة مباشرة ومادية للفتوات ووسطائهم، إلى مواجهة الأفكار العميقة مثل الزمن والمصير والعلة. إن ثمة تجاوزا حصل لدى سلام من الاستسلام للواقع إلى محاولة فهمه وتأويله. يتقدم في عمره فتنكشف علته الداخلية وتتعمق. بيد أنه وجد في نهاية الرواية طريق الخلاص لمشكلته. لقد بدأ الفهم حينما وضع طاقيته أول مرة في حياته موضع السؤال:"ما الداعي إليها؟"، بعدما كان يرفض نزعها في البداية إلا للضرورة القصوى. لقد دفعه الحب العاجز إلى إعادة النظر في مظهره الخارجي وأفكاره الداخلية. هكذا أمكن القول، إن الحب يؤدي وظيفة الحافز الداخلي لمواجهة الخوف. فهو الذي دفع سلام على سبيل المثال لأن يصعد إلى "الكريان"[27] في لحظات الحزن ليغوص في تأملاته العليلة من دون أن يخاف "الفتوات". غير أن ثمة خوفا جديدا بدأ يستولي عليه؛ إنه الخوف من الزمن الآتي المبهم ومن ظلم الحياة نفسها.

هكذا يتدرج الكاتب في تصويره للخوف في نهاية الرواية ليبلغ حد التجريد وتأمل الأفكار المثالية الفردية. وينسجم مثل هذا التصور مع سمات سلام الذاتية؛ فهو يجنح إلى الصمت والتأمل والمقارنات التي تغوص في التفاصيل. وحينما تلتقي هذه السمات مع علته الذاتية العميقة تنتج عنها صورة شخصية مختلفة لا تقبل واقعها بل تتأمله وتجادله. إن حياة الجماعة التي سعد بها سلام طوال مراحل طفولته تلاشت وشق كل صبي طريقه في الحياة. كما هاجرت ماري كارمن إلى إسبانيا، لتجد الذات نفسها وحيدة في العالم بمفردها تواجه مصيرها المجهول. بعد موت الصبي الذي اغتصب في بداية الرواية، بدأ الخوف المباشر يتلاشى ليتشكل خوف جديد مبهم. وإذا كان الصبيان استطاعوا مواجهة الفتوات والدفاع عن نور الدين الكبير الذي تعرض للتحرش متحدين في دفاعهم، فإن هذا الفعل الجماعي مثل لحظة تحول في فكر الصبيان من الجماعة إلى الفرد. لقد شكل هذا الفعل انتصارا حقيقيا للحب والصداقة. ولكن هذا الانتصار يخفي كذلك أفقا جديدا سيدخله الصبيان، يتسم بالفردية ومواجهة الذات. على هذا النحو يجسد فعل الحب نقطة تحول في مسار الرواية التدريجي لصورة الخوف. وتتأكد هذه الفردية لحظة اعتقال سلام في الكوميسارية من دون أن يرتكب أي ذنب مما يوحي بتحول طبيعة الخوف في الرواية.

اعتقل سلام إذن، فلم يجد من يحميه من خوفه الجديد سوى دفتر البلاغة الذي يحمله بين يديه. احتمى به من البرودة، مثلما قدمه دليلا للضابط كي يتأكد من هويته. بيد أن هذا الاحتماء بدفتر البلاغة لم يأت مصادفة في الرواية، ذلك أن تدرج الكاتب في تصوير الخوف هو الذي انتهى به إلى هذه الصورة المقنعة. لقد احتمى سلام في البداية من الخوف بتماسكه مع الجماعة، ثم احتمى بالحب العاجز فحوله إلى قوة داخلية، وفي النهاية بالعلم. لقد حثه الحب على إكمال الدراسة والرغبة في التعلم بجدية وإصرار. مع الحب إذن، بدأ سلام يفهم ويقرر ويدافع عن نفسه منفردا بعيدا عن تفكير الجماعة.

على هذا النحو تحاول رواية "باريو مالقة" أن تعكس تحولات في الذات الإنسانية التي تواجه علتها الداخلية فتنكفئ عن مسايرة الواقع إلى تأمله ومحاولة فهمه. لقد صوَّر محمد أنقار عالما مركبا ومعقدا يمكن أن نقسمه قسمين رئيسين؛ عالم الألفة وعالم الخوف. وهما عالمان شديدا التداخل يرتبطان بالحياة الداخلية والعميقة للذات التي تكتشف علتها على نحو ما تواجه مصيرا مجهولا ومبهما ومخيفا. ولكن علة الذات التي تمثل إحدى الثيمات الكبرى التي يسعى الروائي دوما إلى الإمساك بها ونسجها روائيا، محاولةً لفهم الوجود الإنساني المعقد، ليست هي السمة الفريدة والوحيدة التي عكف الروائيون على تصويرها. هكذا حرص بعض الكتاب على جعل الذات الإنسانية مرآة لواقعها، بل إن عللها العميقة تمثل نتاجا لمجتمعها، ومن ثمة؛ يمثل إدراك الذات وتلمس الهوية الإنسانية التي فقدت يقينها، إدراكا واعيا وحقيقيا للمجتمع. ويمثل سيد البحراوي أحد الكتاب الذين سعوا إلى جعل الذات الإنسانية العربية مرآة لواقعها المأزوم، حيث غدت رحلة البطلة "هناء" إلى الأندلس في جوهرها رحلةً للبحث عن الذات واليقين والتوازن، وفضاء رحبا لأسئلة تتعدى هذه الذات إلى المجتمع بأكمله.

3: الذات والمجتمع - فقدان الهوية
تأخذ الذات عند سيد البحراوي في روايته "ليل مدريد"[28] معنى مزدوجا؛ فهي تحيل إلى الإنسان (الفرد) من جهة، والمجتمع بأسره من جهة ثانية. إنها ذات شديدة الارتباط بهموم مجتمعها وتناقضاته وأزماته. ولذلك يمثل البحث عن الهوية والتوازن النفسي أحد مكونات هذه الذات المأزومة.

 يصور الكاتب ذاتا إنسانية تعاني إحباطا شديدا ويأسا لامتناهيا. بل يمكن القول إن أحد أهم مآزق بطلة الرواية "هناء" هو التمزق في هويتها وعدم قدرتها على فهم ذاتها والتكيف مع واقعها. هذا ما عبرت عنه بقولها: "أعرف أنني أعيش حالة ضياع كامل. لا أعرف من أنا، ولا ماذا أريد، ولا ماذا أفعل بحياتي"[29].

لاشك أنه سؤال الذات التي تعذر عليها التواصل مع واقعها، وعجزت عن تأكيد هويتها ووجودها في واقع مترد من حولها. ولذلك سعى سيد البحراوي في روايته إلى تجسيد أزمة وجودية تغلغلت في أعماق بطلته التي تبحث عن السكينة، وتتوخى تعرف عللها الداخلية وتفسير أسباب مرضها. ويمثل التناقض الداخلي أحد عوائق "هناء" بطلة الرواية في تحقيق توازنها. تناقض بين تربيتها الدينية وبين الحرية التي تتوق إليها، وتناقض أيضا بين مجتمع عادل وواقع محبط. لقد حولت هذه التناقضات جميعها، إضافة إلى رغباتها العاجزة، حياةَ البطلة إلى مزيج صعب ومعقد يوازي في الحقيقة تعقيد المجتمع وتناقضاته الحادة والضاربة في جذوره العميقة. وكأن الكاتب مشغول باستبطان الذات المتشظية في مجتمع اهتزت قيمه وتبدلت. هكذا تعكس الذات الممزقة هموم مجتمعها وانكساراته وتعقيداته اللامتناهية؛ إنها تحمل صوتها الخاص وصوت مجتمعها المأزوم.

يمكن تحديد هذه الرغبة المنكسرة التي تنوء بها الذات فيما يلي:
رغبة في فهم الذات- رغبة في الحب- رغبة في السكينة والأمان- رغبة في العلاج- رغبة في الجسد- رغبة في الأمومة- رغبة في مجتمع عادل- رغبة في السفر وتحقيق الذات.

تعكس هذه الوجوه المختلفة للرغبة الإنسانية ذاتا ممزقة عجزت عن التكيف مع واقعها، مما دفعها إلى الوهم ورحلة البحث عن اليقين والطمأنينة. بيد أن تركيز الكاتب على ذات هناء اللامتوازنة ينطوي على رؤية توازي بين تلك الذات والمجتمع الذي يعاني شتى ضروب القهر. هكذا تصبح الذات مرآة لحياة قاهرة فرضت على المجتمع؛ أو هي بمثابة منظومة من القيم المتدهورة التي مست عمقه ونسيجه الاجتماعي المتنوع. ولذلك عمد السارد إلى جعل الذوات جميعها تشترك في المأساة أو الفاجعة التي أثرت على الواقع المصري وعلى حياة الناس أيضا. يتجاوز الصراع في هذه الرواية ذات هناء الممزقة إلى صراع المجتمع المصري نفسه، وهو ما عبر عنه حمدي أحد شخصيات الرواية المنكسرة في رسالة إلى هناء: "أنا حزين. ليس فقط بسبب موت مجدي. جيلنا كله بدأ في طريق الموت. أنا حزين أيضا على نفسي، لا أدري لماذا. كل شيء يقودني إلى الحزن"[30]. على هذا النحو تجسد هناء صراعا يعانيه المجتمع بين تقاليد وأعراف وأمراض وتخلف وظلم وتفاهات من جهة، وحرية مأمولة وحلم بتحقيق الازدهار أو مجتمع نظيف تملؤه القيم الخلاقة من جهة ثانية.

لقد سعى سيد البحراوي في روايته إلى التغلغل في خفايا الذات الإنسانية التي أسهم الواقع المتردي والأوضاع المتدهورة في تعميق علتها. لا تتجسد الذات هنا في شخصية هناء فحسب، بل هي مبثوثة عبر كل الشخصيات المأساوية التي تنحدر إلى عمق الأزمة (الأب والخال خالد والأخت صفاء والزوج محمود والصديق حمدي). جميعهم ذوات تشترك في المأساة نفسها؛ مأساة التكيف مع الواقع المحبط. إن مغامرة البحث عن القيم النبيلة التي تعيد إلى المجتمع توازنه تمثل جوهر هذه الرواية؛ ذلك أن تفكير البطلة الدائم في مظاهر الاختلال، وحلمها بإقامة مجتمع عادل ونظيف، وكذلك انتقادها للأوضاع الفاسدة ومواقفها من الأزمات العربية، كل ذلك إنما يجسد تلك النزعة الإنسانية الحالمة بالتغيير. إن حيرتها ليست وجودية أو مجرد تعبير عن اختلال نفسي واجتماعي فحسب، وإنما هي نتاج ذات متمزقة عجزت عن تحقيق أحلامها الكبرى المتمثلة في العدالة والحرية والتغيير.

إن عدم تواصل هناء مع ذاتها وتناقضاتها الدائمة وعجزها الذي استسلمت له في النهاية، دفعها إلى البوح باعتباره الحل النهائي للخروج من المأساة. لقد استثمر الكاتب معاناة البطلة ومأساتها العميقة وتناقضاتها الحادة للتعبير عن جيل لا يملك سوى البوح بهمومه وإشراك الآخرين في حلها. تقول هناء وقد أدركت مأساتها: "اكتشفت أنني ممزقة داخل نفسي وفي علاقاتي مع الآخرين. وأن الآخرين كذلك ضائعون، حتى من الأجيال الأكبر"[31]. وبناء عليه يمكن القول إن البطلة تسعى إلى أن تخوض مغامرة فهم الذات. بل لعل روحها العليلة تحاول اختبار ذلك الفهم، وحين عجزت عن ذلك ناجت نفسها ومن حولها ثم استسلمت في النهاية لعلتها بعدما نفذ السهم: "لا أستطيع أن أفعل شيئا ولن يستطيع أحد مساعدتي. نفذ السهم وما من سبيل"[32].

جملة القول، لقد صور سيد البحراوي ذاتا تعكس مجتمعه، وتمثل هذه الذات في واقع الأمر وعيا بمأساة الواقع، ومحاولة لتفسير الأزمة أو الاعتراف بها على نحو يجعل كل الشخصيات تنحدر نحو مصيرها المأساوي. إن حيرة الذوات الممزقة ناتجة عن أزمة هوية وإدراك لفقدان يقينها وعدم قدرتها على مسايرة واقعها، مما يفسر كثرة التناقضات واحتدامها بداخل هذه الذوات وإسهامها الحقيقي في تشكيل صورة المأساة. وإذا كانت الذات عند سيد البحراوي تمثل نتاجا حقيقيا لمجتمعها؛ تعكس صورته الحقيقية وتعبر عن أزمته الحضارية، فإنها عند بهاء طاهر تخوض تجربة فهم أعماقها الخاصة وتحولات مجتمعها من جهة، كما تتجاوز ذلك إلى التواصل مع الآخر سعيا إلى تصوير تجربة مشتركة في المنفى قوامها الذات المغتربة التي تبحث عن وجودها.

4: الذات والآخر
تحمل الذات عند بهاء طاهر  معنى أكثر رحابة وانفتاحا، فهي تتجاوز الأنا الخاصة المنغلقة على نفسها أو المهمومة بقضايا وطنها إلى الآخر. إنها لا تدرك حقيقتها إلا بالتواصل مع هذا الآخر والاندماج في علاقات متشابكة معه. وبمعنى آخر؛ يتقابل تصوير الذات في رواية "الحب في المنفى"[33] لبهاء طاهر مع صورة الآخر. تتجاوز الذات هنا مآزقها الخاصة وعللها الداخلية ومشكلاتها الاجتماعية لتبلغ آفاقا رحبة ومشتركة تتوحد فيها الهموم الإنسانية الكبرى. فمن خلال علاقة حب في المنفى (مدينة فيينا على وجه الخصوص) بين مراسل صحفي مصري[34] و"بريجيت" الألمانية، يسعى بهاء طاهر إلى رصد جملة من التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدتها مصر وباقي الدول العربية بعد الهزيمة وانهيار الحلم القومي، كما يسعى إلى نقد الذات التي فشلت في تحقيق مشروعاتها الإنسانية الكبرى من عدل وحرية وكرامة وغيرها. هكذا أمكن القول، إن رصد خيبة الشخصيات المختلفة التي جمعها المنفى، والسخرية من الذات، وتعرية واقعها الثقافي والسياسي، وفهم علاقتها بالآخر، والنظر إلى الحب بوصفه خلاصا ومنقذا للذات من الاغتراب والتيه، تمثل جميعها أحد رهانات هذه الرواية.

يصور بهاء طاهر ذاتا تبحث عن حقيقتها وهويتها في سياق علاقتها بالآخر (سواء بحثها عن فضاء جديد "فيينا" أو انخراطها في علاقات إنسانية مختلفة "بريجيت والأمير حامد"). لقد كشف هذا التواصل مع العالم الجديد خيبة الذات وفشلها وتبدد أحلامها. والحق إن هذا الإحباط الملازم للذات لم يكن وليد جغرافيا بعينها تشهد تحولات ذات آثار سلبية، بل هو نتاج واقع سياسي مترد وعدم قدرة هذه الذات على التكيف مع التحولات الكبرى التي يشهدها العالم بأسره.

لقد هرب البطل إلى "فيينا" تحت وطأة الظروف السياسية؛ أي بعد تبدد الأحلام الكبيرة التي آمن بها، والمتمثلة في نجاح الثورة واستمرارها وتحقق الحلم الناصري ببناء وطن قوي وقومي يسود فيه العدل وتتحقق فيه الكرامة. إن وفاء السارد (البطل) لعبد الناصر كان السبب الرئيس لإبعاده عن الجريدة وعمله مراسلا لها بسويسرا. والحق أن هذا المنفى شبه الاختياري قد عمق أزمة الذات المحبطة؛ إذ يوازي هذا الشعور بانهيار الحلم وقساوة الواقع وتردي الأوضاع الداخلية، شعور بانهيار الحياة نفسها وانهيار القيم، وهو ما يفسره تواتر الأحداث في الرواية وانصهارها ضمن رؤية موحدة (اجتياح إسرائيل للبنان، سطوة الرأسمالية، توحد الذات العربية المغتربة في المنفى حول همومها المشتركة). 

تدخل هذه الذات في صراع محتدم بين الحلم الناصري والانبهار به وإدانته في آن؛ إدانة انتهازية المثقفين، وكشف علاقة المثقف بالسلطة وفساد الأخلاق والصحافة وسطوة الانفتاح الاقتصادي. بل بالإمكان القول، إن مأزق هذه الذات وجودي بالدرجة الأولى؛ فالبطل يسعى إلى فهم حيرته الأبدية وأزمته الخاصة؛ والحق أنه يفهمها ولكنه لا يستطيع سوى أن يسخر منها ومن واقعه المحبط. فهاهو يسخر من عمله بالمنفى: "قيدني العمل .. أي كذب ! .. لم أكن أعمل شيئا في الحقيقة. كنت مراسلا لصحيفة في القاهرة لا يهمها أن أراسلها. ربما يهمها بالذات ألا أراسلها"[35].

وهاهو أيضا ينتقد ذاته بصراحة حين اعترف أنه ترك الاهتمام بالسياسة لما اكتشف أنه لم يكن يفهم: "كل ما في الأمر أنني اكتشفت اليوم شيئا مهما جدا. ربما بفضل بيدرو إيبانيز أو ربما كنت أنت السبب، أو لعلها بريجيت أو لعلها منار: اكتشفت أنني أكذب"[36]. هكذا تكتشف الذات حقيقتها بواسطة الآخر الذي تتواصل معه. فمع بريجيت بدأت هذه الذات تراجع نفسها وماضيها وتفهم، بل وتبحث عن خلاصها: "أشرق في ذهني أنني كنت عبر تلك الشهور مع بريجيت أتلمس الطريق إلى حقيقة كانت هناك طوال الوقت، ولكني كنت أعمى عنها، أنني ظللت باستمرار أمثل أدوارا حتى غاب عني أنا نفسي، وسط كل تلك الأقنعة، وجهي الحقيقي .. أنني حتى لم أحلق في التمثيل عاليا .. كان جناحاي أنا أيضا من شمع ذابا في شمس الحقيقة .. ذابا في بطء معذب أوشك أن يقتلني .. فما أسعدني لأني أخيرا سقطت على الأرض. من أكون؟ ها أنذا أعرف أخيرا من أكون .. لست مهما على الإطلاق، لم أكن مهما في أي وقت"[37].

بيد أن هذه الذات المغتربة التي أرهقها واقعها الثقافي والسياسي والأخلاقي المأزوم، تشترك مع باقي الذوات في الرواية في الإحساس نفسه؛ فكل الشخصيات تعاني المصير المغترب وحالة الخيبة نفسها فرحلت لتبحث عن السكينة بمشاركة الآخرين (يوسف الذي هاجر بسب اشتراكه في مظاهرة ضد السادات، وإبراهيم الماركسي المتحمس الذي ينتهي به المطاف في لبنان، وبريجيت التي أحبت في صمت إفريقيا من غينيا الإستوائية وتعاني من ذاكرة أليمة بسب موليير عاشق أمها). إن المنفى هو الذي يكشف عن قصص هذه الذوات ويمكنها من البوح والاعتراف، على نحو ما يكشف صورة نزوح العشرات من المثقفين الذين ضاق بهم الوطن ولم يستجب لأحلامهم الكبيرة. ولكن المنفى على الرغم من وظيفة الاحتواء التي يضطلع بها في النص، إلا أنه لا يصنع السعادة الحقيقية، فهاهو إبراهيم يعترف للسارد في صيغة تساؤل يوحي بمشاركته باقي الذاوت حيرتها الوجودية: "هل يمكن أن تقول لي أنت ما الذي جرى؟ أقصد لماذا لم نعد نعرف أبدا أية فرحة حقيقية ولا حتى أي سكينة حقيقية؟ هل تعرف كيف صدر الأمر بحرماننا من السعادة"[38].

لقد فقد السارد الحلم بالتغيير وشاركته باقي الذاوت الشعور بالفقدان نفسه، ولكنه جعل من الحب خلاصه ومنقذا لروحه. أحب بريجيت المثقفة الرومانسية التي تعكس الوجه المشرق للحضارة الغربية. لقد أراد أن يحول تواصله المستمر معها وحكيه لما يختلج أعماقه علاجا لحيرته وتخفيفا لمحنته الخاصة. مثلما وجدت هي أيضا في الحب ملاذا لها من التيه، وجعلها تولد من جديد: "ألم نتفق على ألا يهزمنا العالم مرة أخرى؟ ألم نتفق حالا على ألا يكون في الدنيا سوى أنت وأنا؟ مدت يدها وهي تقول ذلك ثم رفعت ذراعي ووضعتها حول كتفيها فمددت يدي الأخرى وضمتها إلي بقوة وأنا أقول لنفسي نعم، يجب ألا يكون سوى هي وأنا .. يجب ألا تهزمنا الدنيا مرة أخرى. وكانت هي تكمل بصوت خافت ووجهها في صدري: نعم، هكذا .. هذا يدفئني .. هذا يحميني. لم أعرف أبدا هذا السلام وهذه السكينة. إلمسني. هل تشعر كيف تغيرت بريجيت.. هل تشعر بها الآن امرأة تولد من جديد في سلام الحب"[39].

هكذا جعل بهاء طاهر من المنفى فضاء لتواصل الذوات المغتربة التي عجزت عن تحقيق أحلامها في وطنها، فكان البوح والاعتراف والتواصل بينها حلا لمشكلاتها العميقة. إنها ذوات حائرة وجدت في الحب (أي في الآخر الذي تتواصل معه) خلاصها من كل المحن الداخلية وآلام الذاكرة  وفراغ الروح والخوف الدائم من فقدان الحرية والعدالة، وسطوة الثروة وطغيان الظلم. وإذا كان بهاء طاهر يمنح شخصياته فرصة للتواصل مع الآخر في المنفى من أجل إدراك جوهر وحقيقة الذات التي هزمها واقعها السياسي والثقافي، فإن ميرال الطحاوي جعلت من السفر وسيلة للعودة إلى هذه الذات وفهمها من خلال تأمل الذاكرة واسترجاع تفاصيل الماضي.

5: الذات والذاكرة - الحنين إلى الشرق
لاشك أن إحدى الدلالات الرئيسة التي تكشف عنها رواية "بروكلين هايتس"[40] لميرال الطحاوي، تتمثل في النظر إلى الغربة ليس باعتبارها فضاء تتواصل فيه الذات أو تعترف وتبوح للآخر بكل هواجسها، بل بوصفها منبها للذاكرة على الغوص في محتوياتها وتفاصيلها. إنها الذات التي تجتر ماضيها وطفولتها وتجعل منهما رمزا لهويتها المفقودة وخلاصا لحالتي الحيرة والخوف اللتين استبدتا بتجربتها في الحياة. بل يمكن القول إننا بصدد ذات تبحث عن معنى لوجودها، وتسعى إلى إدراك لايقينها وجوهر إشكاليتها الوجودية من خلال السفر والغوص في الذاكرة وسبر الأفكار الداخلية. وقد توسلت الكاتبة في بحثها عن الذات وسبر أغوارها بتقنية "التماثل" حيث الشخصيات تتلاقى وتتشابه لتعبر عن الإحساس بالتيه وتعثر الأحلام.

تجسد هذه الرواية قصة امرأة مطلقة وأم لطفل وحيد يبلغ من العمر سبع سنوات. رحلت من ريف مصر إلى منطقة "بروكلين" بأمريكا، رغبة في تحقيق أحلامها وإشباع ذاتها. ولكنها اصطدمت بواقع مرير مليء بالتناقضات عمَّق حيرتها وزادها اضطرابا وقلقا[41]. إنه الواقع الذي تتشابك فيه تفاصيل الماضي وخباياه مع واقع مدينة "نيويورك" بكل ما يعتريه من عنصرية وعنف ديني واغتراب.

تتوزع الذات في هذه الرواية عبر عالمين؛ عالم الذاكرة والحاضر. فالبطلة هند تجسد حيرتها الوجودية انطلاقا من ذلك التماثل القائم على امتداد السرد بين الحاضر والماضي؛ أو بين واقع تعيشه وماض بعيد بتفاصيله المعقدة. هكذا يصبح المكان (سواء القرية أو العالم الجديد المتحضر) فضاء للبحث عن الذات. يسهم مثل هذا التماثل القائم في الرواية بين عالمين متوازيين إلى حد كبير في تجسيد خصوصية هذه الذات وفهم حيرتها الوجودية. بل إن هذا التوازي هو إحدى الوسائل الضرورية المعتمدة في بناء الشخصيات والفضاءات المتنوعة في النص؛ فكل شخصية تقابلها البطلة تولِّد في ذاكرتها، بواسطة التماثل، شخصيةً أخرى، أو تستدعي بالضرورة حكاية أو مشهدا مستقلا بذاته، ولكنه يفضي أيضا إلى تأكيد أزمة الذات وحيرتها وترسيخ قلقها الوجودي. كذلك الشأن بالنسبة إلى الفضاءات؛ حيث تتعدد التقابلات بينها في النص فنغدو بذلك إزاء لوحات مكانية متعددة تعكس بدورها جوانب هامة وخفية من الذات التي تبحث عن الخلاص.

وبهذا المعنى يجسد السفر، أو يتحول قرار السفر إلى فعل، بعدما شعرت "هند" بأن تحقيق الذات رهين بالمغامرة. هكذا يمثل "جسر بروكلين"[42] بالنسبة إليها نقطة عبور إلى عالم جديد ستتمثل من خلاله تفاصيل حياتها المعقدة. بيد أن مغامرة السفر توازيها مغامرة أخرى أشد تأثيرا في الذات؛ وهي مغامرة الكتابة التي أمكن من خلالها لهذه الذات أن تحقق التواصل وتنشد الطمأنينة: "كانت تريد أن تكتب، كأنها ستموت لو ظلت الأشياء بداخلها كما هي مريرة ومتراكمة، وأنها تريد أن تنهي نصها الأول والوحيد "لا أشبه أحدا". لكن الكتابة عصية مثل أنثى جريحة، وأنها في الحقيقة لا تستطيع أن تتحرر من تلك الجروح. وأنها تبكي كثيرا، وتبحث حولها كالمجنونة عن تلك البنت الصغيرة التي كانت تسكنها. صارت فقط راغبة في التشرنق داخل هواجسها"[43].

على هذا النحو تصبح الكتابة فعلا يحيي الذاكرة ويبدد الهواجس ويعكس توق الذات إلى إضاءة بعض جوانبها الخفية والمعقدة؛ بل يمكن القول إنه يمنح معنى للحياة التي أصبحت مجرد ريح من الحنين الآتي من الشرق. بيد أن السفر على الرغم من أنه يسهم في تحقيق الذات، فإنه يضطلع كذلك بوظيفة أخرى هي وظيفة الكشف عن التناقضات الداخلية والاضطرابات النفسية التي تحيط بالشخصية. ف"هند" على سبيل المثال "لم تكن تعرف أن حياتها ستصبح هججا دائما، وتغريبة طويلة، مثل قصة أبو زيد. لم يعد ذلك فقط ما تتوق إليه روحها القلقة"[44]. لقد كشف فعل السفر عن غربة ليست مكانية فحسب، بل نفسية بالدرجة الأولى. أيقنت "هند" أنها وحيدة وبائسة[45]، وأنه كلما عمَّقت تجربتها في الحياة (من خلال السفر أو التأمل في الوجود والذاكرة) ازداد لايقينها في الطمأنينة وفي الخلاص.

ولعل ذلك التوازي أو التماثل الحاصل بين الحاضر والماضي في الرواية يكشف عن نزوع الذات إلى الغوص في ذاكرتها وطفولتها بحثا عن السكينة. تدفن "هند" "رأسها في الأغطية أكثر، وتحلم بأشباح طفولتها، تحلم بحياتها التي تنساها، وتضيع من يدها"[46]. ولكنها مع كل هذا الحنين تظل حياة قلقة مليئة بالتناقضات والأوهام والخوف. مما يدفعنا إلى القول، إن الذات كلما تقدمت في التجربة ازداد وعيها وإدراكها بماضيها. ولاشك أن هذه المراوحة بين الذاكرة والحاضر في توازٍ وتدرج مستمر هو ما يمنح هذه الذات نوعا من الإدراك ومن التقييم.

ولاشك أن فعل السفر مزدوج؛ سفر في الذات وفي الأمكنة، وهو يعكس بذلك رحلة بحث عن ذات ممزقة وحيدة لا تعرف الخلاص. وكأننا بصدد عزلة نفسية واجتماعية لذات تائهة تدرجت الكاتبة في تصويرها إلى نهاية الرواية؛ حيث تحتدم بصورة أشد في النص، فتشترك باقي الذوات الأخرى في المصير نفسه وفي تأملاتها الوجودية الخاصة. ولعل موت "ليليت" في نهاية الرواية أن يعكس رؤية الكاتبة حول رحلة الإنسان الحائر في البحث عن ذاته. لقد فقدت "ليليت" أو "ليلى السعيد" ذاكرتها أو جزءا منها ولزمت الفراش وكأنها تخلصت من ماضيها، فكان لابد لها أن تموت في بلد أشد قساوة على الذات. لقد عزمت على السفر لأنها لم تكن تعرف ما تريد، الرغبة في الخلاص هي الحافز نحو معرفة الذات ونشدان السكينة. تركت ابنها عمر وقالت باقتضاب: "أريد أن أمشي.. أنا لا أتحمل هذه الحياة.. سأسافر"[47]. مثلما سافرت "هند" بحثا عن حريتها وأملا في تحقيق أحلامها. رحلت "ليليت" تاركة أوراقها ومذكراتها وشرائطها الموسيقية: "بعد أيام أغمضت ليليت جفنيها إلى الأبد، حين هز الحنين زجاج النوافذ ودخل، ليلمس روحها، فرحلت معه. سافرت وحدها كما جاءت من بلاد بعيدة"[48].

تتماثل هنا صورة "ليليت" مع صورة "هند" وكأننا إزاء ذات واحدة تواجه مصيرا مشتركا. كلاهما قرر السفر استجابة للحافز نفسه: البحث عن الذات. فهاهي "هند" تبوح بهواجسها وهي تقرأ خطابات "ليليت":

"أشعر أنني كتبت كل كلمة فيها.. أنها أوراقي أنا، وأن تلك الخطوط بالفعل خطوط يدي، ولا أعرف كيف أخذت تلك المرأة التي ماتت كل ما أردت أن أقول، وأكتب؟"[49].

في سياق هذا التماثل تعكس تجربة "ليليت" صورة "هند" وهي تبحث عن معنى لحياتها قلما وجدته[50]. كما يؤكد هذا التماثل بين الذوات القلقة كذلك توجه السرد في الرواية إلى تعميق فكرة البحث الدائم عن جوهر الأنا. إن حيرة الوجود وقلق الروح والخوف المستمر الساكن في الأعماق والتناقضات الدائمة والرغبة في الحرية وتحقيق الذات، جميعها قيم سعت ميرال الطحاوي إلى بثها في شخصيات الرواية وليس "هند" فحسب. لقد أرادت أن تجعل من هذه الذوات المختلفة صوتا واحدا ووعيا يعكس موقفا نحو العالم الذي أصبح أشد وطأة على الإنسان وأكثر تعقيدا.

***

لقد تباين النظر إلى الذات في الروايات الخاضعة للتحليل هنا بكيفيات متفاوتة؛ فبينما يغوص محمد أنقار في علل الذات الداخلية ليفهم طبيعتها المعقدة، يعمد سيد البحراوي إلى توثيق صلتها بالمجتمع وجعلها مرآة لأزمته الحقيقية، بينما يسعى بهاء طاهر إلى البحث عنها من خلال الآخر، في حين تجعل ميرال الطحاوي من السفر المزدوج (سواء في الجغرافيا أو في الذاكرة) وسيلة للبحث عن هذه الذات ومنحها معنى إنسانيا.

ولكن هذه الذوات على الرغم من تباين وظائفها، فهي تشترك أيضا في سمات موحدة؛ فقد جعلت هند في رواية "بروكلين هايتس" من الكتابة حلما ومن السفر وسيلة لتحقيق هذا الحلم، شأنها شأن هناء في "ليل مدريد" التي يعكس سفرها إلى إسبانيا لاستكمال دراستها، رغبةً ملحة في إدراك هويتها واكتشاف أزمتها وأزمة المجتمع من حولها. وشأنها أيضا شأن أحمد الساحلي الذي حصر كل هدفه في الحياة في كتابة رواية عن مدينته، أو سلام في "باريو مالقة" الذي استطاع تجاوز علله الداخلية حين آمن بالعلم وصنع لذاته هدفا يضيء طريقه. تفسر هذه التحولات في الذات الإنسانية التي كشفت عنها الرغبة في الكتابة، تلك العلاقة المبهمة بين الإبداع والحياة. على هذا النحو تمثل الكتابة حافزا يسهم في تحقيق الذات، وفعلا خاصا يستطيع المرء من خلاله أن يدرك تناقضاته أو لغز أناه[51]. والواقع أن هذه الذوات التي تشترك في البحث عن الإرادة بواسطة الكتابة وحب المعرفة، تحمل طبيعة خاصة؛ فهي تعي وجودها أو تسعى إلى فهمه والإمساك بتفاصيله، كما أنها لا تكف عن إثارة الأسئلة ومجادلة الذات والبحث عن السكينة. إنها تحمل رؤية عميقة للحياة وقضايا المجتمع وجوهر الروح.

ولأجل ذلك حاولت هذه الدراسة أن تثبت أن الذات في السرد الروائي ليست مرتهنة بمدى مطابقتها للكاتب، بل هي تحمل صوته وصوت المجتمع كذلك؛ إنها تعبر عن أعماق الإنسان الحائر الذي يبحث عن معنى لوجوده في خضم واقع متغير على الدوام.

 

باحث في البلاغة وتحليل الخطاب-  من المغرب

 



هوامش:

[1] - التخييل الذاتي    (Autofiction)تعبير أبدعه الكاتب والروائي سيرج دوبروفسكي سنة 1977، عند صدور روايته (fils) .

[2] - تقوم السيرة الذاتية على عنصرين رئيسين هما: حضور ضمير المتكلم (أنا) وسرد معطى غير تخييلي كما يرى بول زومبتور. أنظر: ميشيل زينك (الذاتية الأدبية). المنشورات الجامعية الفرنسية. باريس. 1985، نقلا عن محمد معتصم، خطاب الذات في الأدب العربي، دار الأمان، الطبعة الأولى 2007، ص: 15.

[3] _  بول ريكور، بعد طول تأمل، ترجمة: فؤاد مليت، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2006،  ص: 23.

[4] - لعل تعريف فيليب لوجون للسيرة الذاتية أن يمثل أحد التصورات الرئيسة التي وضعت حدودا دقيقة لمحكي السيرة. فهو يعرفها بقوله: "حكي استيعادي نثري يضطلع به شخص واقعي عن وجوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته".

Fhilippe Le Jeune : L autobiographie en France , ED : Armand Colin- Collection U2, 1972 

[5] - عبد الرحيم جيران، في النظرية السردية، أفريقيا الشرق 2006، ص: 21

[6] - يقول: "ثم إن الحديث عن ترجمة ذاتية لا يجعلني أغفل عن مطبات وعيوب هذا الجنس من الكتابة، ذلك لأن ترجمة ذاتية هي أولا، حكاية لوقائع حياة ما، ومن حيث هي كذلك، فهي انتقائية ككل عمل سردي"، بعد طول تأمل، ص:23

[7] - لاشك أن التحولات التي عرفتها الرواية في المجتمعات الحديثة التي يوصف واقعها بأنه متناقض ومتعدد، قد أفرزت نمطا جديدا من السرد، لا يقوم على المعرفة الكلية للسارد وحضور صوته بصورة قطعية، بل ينهض أساسا على تعدد الساردين وتعدد الأصوات ليعبر بذلك عن موقف الإنسان من ذاته ومن الآخر ومن العالم من حوله. وقد كان باختين أحد الذين أثبتوا كيف أنه لا توجد ذات فردية في الرواية، وأن هذه الذات تحتوي الآخر بداخلها مهما سعت إلى إثبات فرديتها؛ فكل كلمة هي نسيج بين فكر الذات وفكر الآخر الذي يعكس المجتمع. أنظر ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار رؤى، الطبعة الأولى 2009.

[8] - ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة: بدر الدين عرودكي، أفريقيا الشرق 2001، ص:37.

[9] - لقد تعرض هذا التصور الرومانسي للذات لنقد شديد  في النظرية المعاصرة، حيث اعتبر البعض أن جعل الذات في مرتبة منفصلة عن التاريخ ووضعية الكاتب الفعلية قد يحولها هي أيضا إلى سلعة مثالية كأي سلعة أخرى، ويصبح الكاتب نفسه منتجا لهذه السلعة. أنظر تيري إيغلتون، نظرية الأدب، ترجمة: ثائر ديب، دار المدى، الطبعة الأولى 2006. ص: 38.

[10] - عبد الرحيم جيران، في النظرية السردية، ص: 23

[11] - محمد معتصم، خطاب الذات في الأدب العربي، ص:16

[12] - محمد برادة: فضاءات روائية، منشورات دار الثقافة، الطبعة الأولى 2003، ص:13.

[13] - أحمد السماوي، كتابة الأنا سبيل إلى خلق الذات، مجلة فصول، العدد 79، شتاء-ربيع 2011، ص: 20.

[14] - فبروب على سبيل المثال اخنزل الشخصيات في نماذج بسيطة على أساس وحدة الأفعال التي يمنحها السرد للشخصيات، الشيء الذي يوحي، كما يرى رولان بارت، بأنه لا يوجد أي سرد في العالم من دون شخصيات أو على الأقل من دون عوامل[14]. كذلك يحرص التحليل البنيوي ألا يحدد الشخصية بوصفها جوهرا سيكولوجيا، بل باعتبارها "مشاركا"؛ هكذا تمثل الشخصية بالنسبة إلى كلود بريمون متوالية من الأفعال الخاصة بها. كما ينطلق تودوروف في تحليله للعمل الروائي من العلاقات الكبرى التي تنخرط فيها الشخصيات وليس من الشخصيات في حد ذاتها. بينما يقترح غريماس وصف وتصنيف شخصيات السرد ليس بوضعياتها وإنما بأفعالها، وتصنيفها باعتبارها تسهم في ثلاثة محاور دلالية كبرى نصادفها داخل الجملة وهي محاور التواصل، والرغبة ثم الاختبار. هكذا سعت السرديات على سبيل المثال إلى تحليل مكونات السرد وفق قواعد ثابتة؛ فحاولت من خلال مقاربتها للشخصية أن تحدد خصائصها، كما نظرت إلى السارد في وضعياته المختلفة (مشارك أو متعال أو متوار). لقد أنكرت مفهوم الذات لأنه في نظرها مجرد وغير محدد.

[15] - ينظر بخصوص هذا الموضوع مؤلفات بول ريكو الذي خصص معظم فلسفته لدراسة الذات. على سبيل المثال: "الذات عينها كآخر" ترجمة: جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2005. والواقع أن ثمة قضيتين رئيستين تشكلان أساس النقد المعاصر فيما يخص موضوع الهوية ودور الفاعل أو الذات؛ الأولى: هل تعد الذات شيئا يمنح أم يصنع؟ والثانية: هل ينبغي أن نفهمها وفق المعنى الفردي أم الاجتماعي؟ ينتج عن هاتين القضيتين المتقابلتين أربعة اتجاهات؛ يتعامل الاتجاه الأول مع الذات على أنها شيء فريد وداخلي يمكن التعبير عنه من خلال الكلمة والفعل، ويؤكد الاتجاه الثاني أن تحديد الذات يتم بالرجوع إلى أصولها وصفاتها الاجتماعية وهو تصور يجمع بين الذات التي تمنح والمفهوم الاجتماعي. ويجمع الاتجاه الثالث بين المفهوم الفردي والذات التي تصنع ويؤكد طبيعتها المتغيرة. في حين يؤكد الاتجاه الأخير الجمعَ بين المفهوم الاجتماعي والذات التي تصنع. أنظر: ج.كوللر، ما النظرية الأدبية، ترجمة: هدى الكيلاني، سلسلة الترجمة (3) 2009، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص:126

[16] - فقد أطلق على الشخصية في  روايته "المحاكمة" مجرد رقم، بعد أن منحها حرفا في روايته "القصر".

[17] - ميلان كونديرا، ص: 36

[18] - محمد أنقار، المصري ، دار الهلال، الطبعة الأولى 2003.

[19] - محمد أنقار، باريو مالقة، الطبعة الأولى 2007.

[20] - يسمي رونيه جيرار هذه الوساطة في الرغبة أو الدافع إلى الكتابة بمثلث الرغبة؛ وهي الرغبة التي يمليها على الذات طرف آخر يتوسط العلاقة بين الذات الراغبة وموضوع الرغبة. على هذا النحو تصبح رغبة الساحلي في وصف تطوان نتاجا لافتنانه بنجيب محفوظ. مثلما افتتن ضون كيخوطي بالأدب الفروسي فأراد أن يكون فارسا في زمن انتهت فيه الفروسية. ومثلما افتتنت مدام بوفاري بالقصص الرومانسية التي أثرت فيها. والحق أن هذا التصور ينفي تماما ما دافعت عنه الرومانسية بخصوص أصالة الذات واستقلالها.

[21] - محمد برادة، فضاءات روائية ص:75.

[22] - محمد مشبال، الهوى المصري، منشورات بلاغات، القصر الكبير، المغرب 2007، ص: 100

[23] - المصري، ص:181

[24] - نفسه، ص:106

[25] ­- فقد حولت لبنى ضعفها إلى قوة حين تمسكت بالحب ورأت أنه انتصار يحققه إنسان لا يملك أي أمل في الحياة. أما سالم فأنهى الرواية بخطاب مفعم بالأمل وجهه إلى لبنى:

"سألها في حيرة: ماذا أقول؟

فابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تقول: حدثني ماذا يقول جدك عن الأرواح؟

- يقول كل الأرواح جميلة وكلها طيبة.

- وهل قال لك يا سالم ما الذي ينقذ هذه الأرواح؟ نعم، قال الحب"[25]. بهاء طاهر، نقطة النور، دار الآداب، الطبعة الأولى 2001، ص: 302.

[26] - ".. قبل أن أنتهي إلى الحديث عن المفاجآت التي تتضمنها كل علاقة جديدة. المفاجآت التي تحس بها عندما ترى بعين خارجية كيف أصبحت في ضوء هذا الكائن المدهش، كيف تنتج مشاعرك. وكيف تولد كلمات أخرى في فمك، وكيف تمشي في المدينة بخطى كأنها ليست لك.." أنظر محمد الأشعري، القوس والفراشة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2011.

[27] - وهي منطقة حجرية بنواحي المدينة يقصدها الناس للتنزه.

[28] - سيد البحراوي، ليل مدريد، دار المدى للروايات والنشر 2002.

[29] - نفسه، ص:9

[30] - نفسه، ص:100.

[31] - نفسه، ص:65.

[32] - ليل مدريد، ص: 122.

[33] - بهاء طاهر، الحب في المنفى، دار الهلال 2001.

[34] - فليس للبطل إسم في الرواية.

[35] - بهاء طاهر، الحب في المنفى،  ص: 5.

[36] - نفسه، ص: 56

[37] - نفسه، ص: 150

[38] - نفسه، ص:100

[39] - نفسه، ص: 166

[40] - ميرال الطحاوي، بروكلين هايتس، دار ميريت، الطبعة الثانية 2010.

[41] - تقوم الحبكة في هذا النص على بناء عالمين متوازيين، عالم تعيشه البطلة وتخوض فيه صراعا مريرا ضد العنصرية والتعصب الديني والاغتراب وسطوة الآخر، وعالم الذاكرة تبحث فيه عن ماضيها، وهو العالم الذي يمنحها الرغبة في الحياة على الرغم من كل تعقيداته وإخفاقاته.

[42] - وهو الجسر الذي يعبره الحالمون بغد أفضل، يعكس تطلعات المغتربين إلى إثبات ذواتهم، ولكنه يكشف في الرواية زيف هذا الوهم، وكيف تتعثر الأحلام والرغبة في الحياة.

[43] - بروكلين هايتس، ص: 140.

[44] - نفسه، ص:48.

[45] - نفسه، ص: 19.

[46] - نفسه،: 15.

[47] - نفسه، ص: 199.

[48] - نفسه، ص: 229.

[49] - نفسه، ص:232.

[50] - نفسه، ص:173.

[51] - يرى ميلان كونديرا أن الروايات جميعها في كل زمان ومكان تعكف على لغز النفس أو لغز الأنا. فن الرواية، ص: 29.