ضمن مشروعه البحثي والنقدي، تستقصي الباحثة والأكاديمية الليبية أسفار الروائي والناقد المغربي المرموق، والتي يتقاطع فيها الرحلي بالروائي ويكشف من خلالها على نظرة متبصرة تقرأ الراهن وتكشف جزءا من معالم المستقبل الذي يحضر كما اليوم في ليبيا ما بعد "القذافي". وتتحول حينها رحلة الروائي الى أفق للكشف والاستبصار.

قراءة في أسفاره إلى طرابلس الغرب

هل تنبأ شعيب حليفي بما حصل ؟

فريدة المصري

مثل طيف نوراني سابح في ظلمة هوة سحيقة ، جاءت كلمات شعيب حليفي في رُحيلاته إلى طرابلس الغرب . غاص في أزمانها ، و أماكنها .. داعب شجيراتها ، وأعشاشها .. رافق أنينها الناحب و هو يستجدي المطر .. ليملأ من عينيها قربته الجلدية المشعرة التي يحملها باستمرار على كتفيه . (ص.37).

لقد تقمص حليفي شخصية السمراني الذي عشق سمدونة ، و أراد أن يحمل روحها معه عندما قال لها : " امنحيني نفسك كلية يا وليتي .. أمنحك بصري ترين به كل شيء . امنحيني روحك لأحمِّلها سلالتي التي ستعمر الأرض" (ص43).  كما انه اتّحد معها، وحلّ فيها كما حلّ الحلاج في الذات الإلهية، ذلك أنها تضرعت إلى الله أن يبث الحب في قلب كل من يراها ،، و قد بثّه فعلا في كاتب هذه الرحلة ، و كل الرحالة الكتبة الذين سبقوه إلى اكتشاف عوالم الحب التي تختزل تاريخ هذه المدينة .

تلك العشيقة سمدونة شديدة السواد، وشديدة البياض في آن، فالسواد والبياض ليسا لونين بالمعنى الحرفي لألوان قوس قزح، بل أخذا موقفاً منه منذ بداية تاريخ الألوان.. يحضران في العتمة، والنور . في القمر، و الشمس. في الامتصاص، و الانعكاس.

إنهما موقفان لا ثالث لهما، يبتعدان ويقتربان من الحقيقة في آن؛ ينمّان عن قوة الحدّية والانحياز. يقول الكاتب على لسان عبد العزيز : " بأن لون الملائكة أسود ، و بأن السواد أيضاً هو لون الحياة المفضّل ، لذلك فهو يحب الملائكة ، و الحياة "(ص.42).  

ويقول في موضع آخر: " في تلك الخيمة ترابط ولية  من وليات الله العابدة ربة المطر العميم ، قصيرة القامة ، ذات وجه به بياض نوراني .. شامة مشتعلة وسط الصحراء ، مثل الثريا التي أوجدها الله هنا لتروي ظمأ الشعراء والأنبياء وتنسج لهم عباءاتهم الواسعة  .. بها يسافرون في مسيرهم الطويل ، براً و بحراً ، في السلم و الحرب ، تمدُّهم بالشوق والإيمان ، بل بالطمأنينة  والحيرة ، بالحب والصمت ، بالحياة و الموت .و هي التي قالت :

-" فتحتً قلبي بسلام ، و سجدتُ ضارعة : إلهي ؛ بالتجلي الأعظم ؛ بُثّ حبي في قلب كل من يرى وجهي . (ص ص 36-37).

جاءت الرحلة في منسوجة مستوحية صورا ومشاهد من مخيلة الكاتب، وهي كما يقول رُحيلات روائية، أو يمكن أن يُطلق عليها رواية رحلية. وعلى كل، فإن الرحلة رواية يحكيها راويها مما شاهد ودونّ خلال تنقله عبر الأمكنة، إلا أن شعيب حليفي أراد أن يخترع لها شخصيات وحوارات ووجهات نظر؛ فبطلة رحلته  إلى طرابلس هي سمدونة .. الجوهرة السوداء التي ربطتها قصة حب مع سيد العزيز .

لقد وصل عشق السمراني لجوهرته السوداء مواصيل جعلت منه زاهدا متصوفا في محراب جنتها العابقة بنسائم بخورية تفقده الإحساس ببشريته فيقع في ما تصوره العابد الذي صار غير قادر على تمييز ذاته من الذات النورانية الخالصة ، لا تجسدها مادة ما : " هل أنا بترتيب بشري أم ربّاني ؟ "(ص.35 ) يتساءل كاتب هذه الرحلة عن حقيقة إحساسه بالأمكنة : " علاقتي بالأمكنة، قبل الأشخاص، تثوي حكايات "عجيبة " فأنا لا أزور إلا الأمكنة ذات الأثر النافذ والأزلي في نفسي ، وبإمكاني السير في دروبها مغمض العينين ، منقادا بإذن غيبي واضح .. في معالم حي الأندلس المشبع بأسراره ، إلى المدرج الروماني في صبراتا الأثرية ، إلى السرايا الحمراء في الجزء الغربي القديم بروائح بخوره العابقة والباقية مذ كان معبدا رومانيا يقبع فيه الكهنة أمام الفقراء الباحثين عن شفاعات ممكنة ، وهناك أسمع بوضوح لا خيال فيه، صوت العابدة، ربة المطر، زهرة السماء والأرض، مازال يتردد بنفس الخشوع الذي تهتز له الفرائص:"كيف لا أحب مخلصي و مرشدي. و كيف لا يحبني هو ويحبني الجميع.. وأنا التي انتفضت في الهزيع الأخير لإحدى الليالي ، حين دنا ربُّ العرش فتدلى ، فأصبح قاب قوسين أو أدنى من سمائه السابعة ، لا إله إلا هو ، ليقول : هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فأجيبه؟"(ص ص :  35 -36).

و يتنقل الكاتب من فضاء المخيلة إلى سبيل الواقع بتكثيف الصور المتخيلة والتي تضمحل شيئا فشيئا كلما انتقل إلى تصوير مشهد واقعي مما عاشه في هذه الرحلة  ، وأحيانا تختلط الصور الواقعية بالصور التي أنتجتها مخيلته لتنصهر وتذوب في بوتقة الإبداع التدويني ، فيحاول كاتبنا أسطرة الحدث بإضفاء نوع من الأساليب التي تضع القاريء في وضع المتلقي المشارك الفعلي لهذا التدوين ، بل والتكهن مع ذات الكاتب في عملية التحول الجذري المنتظر .

الكاتب يضعنا في رحلته الرابعة إلى طرابلس و التي كانت في 23 أبريل 2010 ( أي قبيل أحداث ثورة 17 فبراير) أمام صورة هذا التحول، بل يحاول أن يقرأ المستقبل من خلال مشاهداته للوضع السياسي الراهن آنذاك ، ففي إحدى الرسائل التي كتبها عبد العزيز إلى سمدونة يقول فيها : "المغربي شعيب حليفي لا تثقي فيه أو تصدقيه في كل ما يقول و يكتب . سيجري قتله قريبا ، إنه يكتب من أرشيف الألف سنة القادمة، و يريد إقناعنا بأنه يتحدث عن الحاضر وعن الألف سنة المنصرمة "(ص. 41).

تًرى ما الذي جعل الكاتب يتحدث عن الألف سنة القادمة، إن لم يكن قد تنبأ بما سيحدث بًعيد تاريخ رحلته ، فالحياة كما ورد في الرسالة الأولى لسيد العزيز: " مازالت ضائعة. أنا و أنت هنا.. لماذا ؟ تعالي نرحل إلى الروم بإيطاليا .. لدي أصدقاء ،هناك ، لا يحبون موسوليني الذي استعمرنا قديما ، و يقدرون عمنا عمر المختار ، و لنستخلف من بعدنا يوسف بُلكين بن زيري الصنهاجي "(ص 40) ، حيث يستحضر الكاتب شخصية الصنهاجي من التاريخ و هو الذي أوصاه المعز لدين الله الفاطمي بتولي شئون طرابلس و تدبير أمورها .. فاجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعته. و كأن الكاتب يقوم بإسقاط أعمال هذه الشخصية على من يستخلف الحكم و يُبدل الواقع بواقع آخر .

 

جامعة طرابلس – ليبيا

شعيب حليفي: أسفار لا تخشى الخيال: كتاب الأيام. الدار البيضاء، منشورات القلم المغربي. المغرب .2012.