يتخذ الروائي المصري المخضرم التاريخ إطارا لأحداث روايته الجديدة التي خص بها الكلمة، من خلال رحلة أثار فرنسية نزلت إلى الأقصر كي تنقل إحدى المسلات إلى فرنسا، فيأخذ القارئ في رحلة جغرافية إلى تلك الأمكنة الساحرة وظروف الحياة وطبيعة بشر الصعيد في تلك الفترة زمن محمد علي.

الفاتنة تستحق المخاطرة (رواية العدد)

فؤاد قنديل

                                 في البدء لم تكن الكلمة.. بل كان الوطن

                                                                         ف. ق

من الفاتنة.. و من العُشاق؟

هل مصر التي عشقها الغرب؟

هل الإمبراطورية التي شغلت محمد على؟

هل " جزيرة " التي هام بها جوزيف؟

هل المسلات التي حلم بها الفرنسيون؟

هل الأقصر التي اجتذبت الرحالة وعلماء التاريخ؟

أم تراها الهيروغليفية التي تعبّد في محرابها شامبليون؟

 

الشخصيات الرئيسية والثانوية
أسرة جوزيف.. روبير وعديلة..جوزيف.. رشيد البري. نبيه البقلي والد عديلة..عسكر شقيق عديلة.. فاليري عم جوزيف وبناته ليليان. سوزان. صوفيا

الحجاجية.. حكيم الحجاجي (العمدة).. جزيرة ابنته.. مدثر الابن الأكبر (مات في الحرب المصرية اليونانية).. حفصة وفاطمة.. بركة (مصطفي).. كاملة زوجة حكيم..زهران شقيق حكيم.. نصر ابنه.. زاهر شقيق كاملة (مات في الحرب ضد الوهابيين) رمضان شقيقها الثاني وأسرته

الباشا محمد على.. ابراهيم باشا ولده. عباس حفيده. بوغوص سفيان. الكلونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي)

الطاقم الفرنسي.. ريشار رئيس المهندسين.. هنري القبطان.. روجيه الطبيب.. فيكتور وبول وساسي وأولان..الإيطاليان: ماركو طبيب..روسي عالم آثار

الأهالي:

قرشي طبيب مصري..هنومة ورقية. يعقوب ومرقص ومهران الحداد وعبد الشهيد المراكبي. بيبرس الراعي. شيخ البلد بركات.مجاهد صديق نصر..يونس شيخ المسجد وآخرون.

 

(1)

أجمل ما خلق الله على الأرض الصباح الباكر الذي تزفه شقشقة العصافير والنسائم النقية الطازجة وقطرات الندي الساقطة من عيون السموات الرحيمة.. في شرف استقبال الصباح الوليد أرواح متلهفة اغتسلت بالصفاء والأمل.. تعودت أن ألقاه وأنا فوق سطحنا العالي الذي يشجعنى على التطلع إلى كل أنحاء القرية من صحرائها الغربية ونيلها الذي يتهادي في صمت وتؤدة كجمل تشغله أفكار غامضة حتى جبالها الشرقية التي تمتد إلى سفوحها حقول خضراء تبدأ من تحت أقدامي وتفرح مثلي بالصباح والندي بينما تكشف في سرية كاملة وزهو خجول عن وجه جديد من النضارة والبهاء وقد أطلت كالأطفال براعم وثمار وزهور.

المشهد تكتمل صورته البهية بخروج الرجال وبعض أولادهم تسبقهم الأبقار والحمير والأغنام متجهين إلى الحقول التي كانت محاصيلها من القمح إلى القطن والبرسيم والقصب متألقة بخضرتها تنتظرهم بشغف.. تمتد على مئات الأفدنة وأبعد من مدد الشوف. خضرة من كل شكل ولون.. الطيور تحلق وتحوم معلنة سعادتها باليوم الجديد.. تسرع بالتقاط ما تقع عليه عيونها من الحب ونتف الخضرة وما تجده من السنابل الناضجة.. الحمام ينطلق من الأبراج مهللا ومرحبا بالطبيعة المغسولة بالندي.. أقول في نفسي.. ما قيمة الحياة دون هذه الطبيعة، وأحيانا أقول ليست الحياة إلا الطبيعة..الطبيعة النابضة بالحب والجمال والحركة والإنتاج والفرح.. الحمد لك يا رب العالمين..هكذا يُكتب يوم جديد قد يحمل البهجة والخير لبشر طال اشتياقهم للابتسام.

 الأرض - رغم الأمل الوليد - انشقت فجأة عن عشرات الخيول يمتطيها جنود يحملون البنادق وينتشرون في القرية. يتحركون بسرعة داخل الشوارع والأزقة يمينا ويسارا كأنهم قضوا أياما في التدريب على مهاجمة هذه القرية بالذات. كثير منهم شقر الوجوه..على رؤوسهم طرابيش حمراء قصيرة تتدلي من خلفها خيوط سوداء حريرية لامعة معقودة بزر فوق الطربوش..أسرعت أتراجع إلى الخلف فقد كانت رأسى عارية وشعري الطويل البنى منطلق على ظهري والكتفين بحرية.. دخلت غرفة لم تكتمل تسد نافذتها عدة ألواح من خشب. من بين الفروق الطولية الرفيعة تابعت المشهد.

 ترجل الفرسان وتقدم بعض الجنود من الخيول فسحبوها إلى الميدان.. تركوها لترتاح وتتناول فطورها من الحبوب..أكمل الجنود الطريق مشيا إلى أقرب الحقول يَحُشّون عيدان البرسيم ويحملونها إلى الخيول التي ربما غادرت بهم قنا مقر الحكمدارية قبل الفجر وظلوا يركضون بهمة لعدة ساعات دون راحة.. وقف أكبر الجنود سنا ومقاما أمام بيتنا وراحوا يطلقون الأوامر لمن دونهم من الشباب كي ينتشروا.. حدقت بتمهل في ملابسهم وسحنهم.. تغطي صدورهم سترات زرقاء فوق قمصان بيضاء تميل قليلا للصفرة، وعلى الخصور أحزمة حمراء عريضة وتحتها سراويل بلون القمصان، تم تجميع قماشها وحشره عند منتصف الساق في جتور، والجتر كوز اسطواني محكم يبدأ من فوق الحذاء الأسود.. البنادق التي يحملونها مثبتة في مقدماتها سناكي طول الواحد منها يعادل نصف سيف.. لمحت بقدر من الدهشة أن بحيرات العيون برغم السلاح والسلطة والصوت العالي تلمع فيها فقاقيع من الرعب.

 بدأ الجنود الكبار يضربون الأرض ويرفعون أصواتهم بالنداء على الأهالي عبر البيوت الصامتة والأبواب المغلقة.

-                     يا أهالي البلد.. حان موعد سداد الضرائب المتأخرة.. من لم يدفع سيتعرض للعقاب، تعرفون النظام.. من يفكر في الهرب سوف يُقتل فورا.. الدولة لديها التزامات وأعباء ولابد من الدفع.

 أعرف أن البعض قد دفع حصته منذ شهر مثلنا..هناك من طلب مهلة حتى يجمع ما عليه فلم يزرع هذا العام إما بسبب انخفاض الفيضان أو لهجوم العربان علي أرضه ونهب محصوله قبل حصاده بأيام، والبعض قد يتعلل ولو كذبا بأنه باع أرضه ولم تعد لديه حيازة، وآخرون اختفوا وتركوا الأرض دون زراعة من كثرة الديّانة.

من بعد.. ألمح من فوق الأسطح رجالا يرتدون الجلابيب الداكنة.. يتقافزون قبل أن تلحق بهم رصاصات الجنود الألبان الموكلة إليهم مهمة الجباية تحت إشراف الصيارفة.. تُفتح بعض الأبواب ويخرج رجال يتقدمون في خطوات جنائزية باتجاه الصيارفة ليسلموا القروش المقررة على أراضيهم. يلمح الجنود العشرات ممن لا يجدون قوت يومهم يندفعون بالركض في الاتجاه المعاكس. يكون الجنود قد أعدوا بنادقهم للإطلاق واتخذوا وضع الضرب، وسرعان ما يطلقون الرصاص الذي يتجنبه الفارون قدر الإمكان، لكن بعضهم يقعون بسبب الرصاص الذي أصاب أقدامهم أو ظهورهم، وعندئذ تنطلق النسوة بالصراخ والولولة فقد كن يتابعن رجالهن الذين لم يكن لديهم حل إلا الفرار ببقايا الكرامة ورفضا للتعذيب والمهانة.

 يسرع الجنود للحاق بصيدهم من الرجال العاجزين عن الدفع وعن النهوض. يساعدونهم على القيام أو يجرونهم كالزكائب حتى الميدان وعليهم حراسة ليلحق بهم بعض ذويهم من الفتيان والصبية ليضمدوا الجروح إن استطاعوا.

 أتذكر أن هؤلاء الجنود كما قال أبي مرات لابد جاؤا في باخرة، ولم يأتوا إلينا برا من الحكمدارية.. أتحول إلى النيل فلا تقع عينى على شيء ثم ألمح بطرف عين صاري المركب يظهر من خلف معبد الأقصر.. يقول أبي:

-                     تبدأ الحملة عملها من أسوان حيث ينزل الجنود بالخيول إلى البر ويشرعون في جمع الضرائب ومطاردة خلق الله من الفلاحين المساكين ومن لا يقدر على الدفع يعذب ويؤجل له أو يحمل إلى الباخرة التي تتوجه شمالا إلى القرية التالية وهكذا حتى تصلنا وعليها المئات من المتعثرين.

سئمت المشهد البائس الخالي من الرحمة فهبطت لأسأل عن أبي وأطمئن عليه.. يحب أن يراني في الصباح ونشرب القهوة معا بينما هو في فراشه قبل أن أساعده على النهوض أنا وأمي ليمشي خطوات حتى الكنبة في وسط الدار ومنها يستطيع أن يري عبر الباب الخشبي الكبير نور الله والعابرين في الشارع، ويطمئن على أحوال الدنيا ويعرف أخبار الناس فقد يشعره هذا بأنه ما يزال على قيد الحياة.

كانت أمي كاملة قد أبلغته بما يجري. علت وجهه سحابة من الأسى فتنهد واهتز ذراعه الراقد ذليلا في حجرة.

ينقضي وقت قبل أن تظهر نوعية ثالثة من الرجال الذين باتوا الليلة الماضية والليالي السابقة عليها دون عشاء يذكر ولو لقيمات خشبية وبعض الحشائش الخضراء التي يلتقطونها عادة من الحقول خلسة أو من ضفاف الترع.

يخرج هؤلاء الرجال منكسي الرءوس إلي الجنود وموظفي الجباية. يقفون وأذرعهم متدلية وتعسة إلى جوارهم أو معقودة على بطونهم وهم يعرفون بالضبط ما الذي سوف يحاق بهم وماذا ينتظرهم من عقاب.

يسأل الصراف كل شخص عن اسمه، وتمر عيناه كالسهام على كشف الأسماء إلى أن تعثر على اسم العبد الفقير وأمامه المبلغ المطلوب سداده..يردد الصراف على سمع الرجل الذي يشبه قطنة مبتلة طلب الدفع فلا يجد الفلاح أية إجابة ولا تبلغ الصراف كلمة. يعيد الطلب مع التهديد بالعواقب فلا يسمع ردا إلا تنهدات وتمتمات لعلها تنادي الله كي يتدخل بكرمه.. يتقدم الجنود ويحيطون بغير القادرين المقرين بعجزهم وقلة حيلتهم. يرفع الصراف صوته قائلا لأهل الشارع الواقف على ناصيته:

-                     فلان الفلاني مطلوب منه خمسين قرشا ضرائب حيازته والقانون أقر الجلد لمن يعجز عن السداد في حدود جنيه أو أقل.. بمعدل جلدة عن كل قرشين.. يا بلاش، من لم يدفع المقرر عليه إذا كان خمسين قرشا مثلا يجلد خمس وعشرون جلدة. فهل منكم من يسد عن هذا الرجل؟.. مولانا الباشا الكبير يسهل عليكم،وقد قال:

-                      بعضكم سند لبعض. أما من يستحق عليه أكثر من جنيه فيقطع من يده أصبع بعد الآخر حتى يدفع لنفسه أو يدفع له غيره أو يوافق على الخدمة المجانية بحفر الترع أو بناء الجسور مقابل الطعام فقط حسب الأحوال.

أعاد الجابي ما قاله بطلب السداد والمساندة ثلاث مرات فلما لم يجد من يتطوع بالسداد أشار إلى الجنود للإمساك بالفلاح المدين وربطه بأقرب نخلة بحيث يتوجه نحوها بصدره ويعانقها، ثم يعري الجنود ظهره ويبدأ تنفيذ الحكم.. حدث هذا مع أحد عشر رجلا، وأنقذ البعض خمسة بأن دفعوا بدلا عنهم وفي الأغلب يكونون من أقاربهم. ومن يرفض العقوبة يُربط بالحبال مع أقرانه ويتم جرّه إلى المركب ليعمل دون أن يتلقي أي سحتوت لمدة عام كامل وقد يزيد حسب الظروف.

 مع آذان العصر يكون الجابي قد انتهي من مهمته، ونزلت العقوبات بمستحقيها وتبدأ الرحلة إلى الباخرة والحبال تجر الفلاحين وسط ولولة النسوة من الأمهات والزوجات والشقيقات والبنات اللائي لا يتوقفن عن الصراخ والبكاء واللطم.. يتبعهن العيال الصغار حفاة مكشوفي العورات في الأغلب تتوزع على جلودهم السمراء خرائط الملح المترسب من عرق صبته حرارة الليل ورطوبته.. بعضهم يبكي لأن أمهاتهم تبكي والبعض خرج للفرجة على الموكب الطويل الكئيب الذي يذكرهم بالمولد. جنود في ثياب ملونة وبنادق وخيول ورجال مربوطين ونسوة في جلابيب سود وأصوات تتعالي، لكن عيونهم تتعلق باهتمام وفرح بالطرابيش الحمراء ذوات الزر والخيوط السوداء اللامعة التي تتطوح يمينا ويسارا كذيول الجياد.

 ترفع النسوة رؤوسهن إلى السماء يطلبن الغوث والفرج، كما لا يفوتهن الدعاء لله أن يهدم بيوت الظالمين وأن ييتم أطفالهم ويرمل نساءهم ويرجونه متضرعين أن يشتت شمل الباشا وجنوده وأن ينتقم منهم شر انتقام،حتى يصل الموكب الحزين إلى ضفة النيل حيث يجدون الباخرة مليئة بمئات الرجال الذين عجزوا عن السداد ورفضوا العقوبة وارتضوا مفارقة الأهل اعتمادا على أن الله سيتولاهم فهم خلقه وهو المكفل برزقهم.

 رأيت الباخرة من قبل وهي تغادر المرسى

 بنعومة في الظاهر كبطة كثيفة اللحم وهي في الواقع تعاني من شيخوختها ومن أحمالها الثقيلة ومن انخفاض منسوب المياه في النهر، ولا يكون بمقدور القبطان أن يفعل لها شيئا إلا أن يتقبل على مضض احتكاك قاعها بتلال الطين المتكدس على مدي آلاف السنين حتى أوشكت أن تظهر للعين في بعض المواضع حتى إبان الفيضان، وهو ما اعتاد أن يشكل جزرا كثيرة وسط النيل كتلك التي ولدتُ بها قبل أربعة وعشرين عاما.

 تتجه المركب عموديا صوب منتصف النهر كأنها تعتزم الوصول إلى الضفة الغربية ثم تميل جهة اليمين لتأخذ طريقها نحو الشمال، ولا يؤثر ابتعادها في نقصان جبال الحزن، فالأيدي المنكسرة تواصل التلويح والعيون التي أصبحت مآقيها بلون الدم لا تكف عن نزف الدموع، والقلوب المفارقة يسمع صوت تصدعها بين الضلوع.. تجلس النسوة على الشاطئ ويعيدن عقد الطرح على رؤوسهن في وضعية التعبير عن الحزن العاصف وقد قصمت ظهورهن رحلة الرجال المجهولة ولا يعلمن ما المصير ومتى يحين اللقاء مجددا؟.. هل يسبقهم الموت إلى الأهل فتغيب عن الحياة أمهات وآباء وقد يختطف المرض المتوحش الصبية الصغار..لا أحد يعرف أي شيء عن أي شيء..المجهول يفضي ولابد إلى الخوف..المجهول عوّد الناس على الطعنات. لكن الإيمان راسخ بأن الله سوف يبعث قدره ومعه اللطف والرحمة.

فجأة تقول امرأة أنها أخطأت في حق زوجها إذ لم تتمسك به ولم تدافع عنه ضد الظّلمَة..تؤيدها أخري قائلة:

-                     فعلا.. تركناهم ووقفنا نتفرج عليهم

تمنع ثالثة موجة التأنيب قائلة:

-                     ماذا بأيدينا لننقذهم؟

تندفع رابعة:

-                     كان بأيدينا الكثير.. كيف فاتنا أن ننقض على الجنود ونخمش وجوههم ونأكل جلودهم بأسناننا؟.. كان يكفي أن نرميهم بالطوب ونعمي عيونهم بالتراب.. أمور كثيرة كان يجب أن تحدث

أيدتها خامسة وأشعلت الشابات غير المتزوجات المشهد، إلى أن زعقت فيهن جدة لها أحفاد اختطفوا ولدها الوحيد:

-                     كفاية يا مرة أنت وهي. ما حصل حصل. في المرة القادمة بيّنوا كرامة.. كنتن تريدن ضرب عشرين عسكرى مسلحين بالبنادق والسيوف والجبروت، وبعد ما تضربوهم بالطوب وتأكلوهم بأسنانكم ماذا سيحدث؟..ستصبح المصيبة مصائب. ربنا يتولانا

هتفت بحفيدها:

-                      ولد يا سليم..

أنهضتها النسوة واعتمدت على عكازها ووصل سليم فوضعت كفها المعروقة على كتفه ذي السنوات التسع.

جفت الدموع مع توالي عبارات الملامة وخفتت الأصوات وتركت مساحة للتنهدات والأسف.. تصاعدت طلبات الصغار الذين نام بعضهم على صدور الأمهات.. وبينما الشمس تتأهب تدريجيا كي تغادر الأفق في موكبها الأرجواني بدأت النسوة في القيام المتمهل والعودة إلى بيوتهن يجرجرن الخطوات الثقيلة لا تكاد الكثيرات تشعرن بأقدامهن، ومع ذلك لم يكن بالإمكان تجنب التفكير في الأمسيات الخالية من الرجال،والبيوت الساكنة التي لن تكف عن سؤال الرياح والقدر.. متى يعود الغائبون؟، ثم تجيب على نفسها:

-                     ليتهم يعودون حتى لو لم يكن في البيت لقمة أو شربة ماء.

والآن وقد تبددت الطرق ودنت الخطوات من البيوت لم يبق غير طلب العون من الله الذي لا تضيع معه الودائع، ولأنه المُطلع على كل شيء فسوف يكون السند والحافظ، وسوف ينتقم من كل ظالم.

 فلابد من يوم معلوم تترد فيه المظالم

أبيض على كل مظلوم

أسود على كل ظالم

 في صباح اليوم التالي كنت على السطح كعادتي أستقبل يوما جديدا فانتشت روحي بالمشهد.. الرجال يتجهون إلى الحقول وعلى أكتافهم الفؤوس، تسبقهم البهائم ويتبعهم الأولاد الصغار والنسوة يحملن الجرار إلى النهر لجلب الماء، كأن الأمس لم يكن فيه ما يغضب وكأن أحدا لم يفارق.

 

(2)

كل القرى المصرية تكاد تتشابه في المباني والطرقات، والبشر والحجر والشجر والنبات والعفاريت والغبار والكلاب والأفكار والأحلام والحشرات والجاموس والحمير والجمال والنخيل والهلاوس والأعراف والعبادات والإيمان بالسموات والالتفاف حول ضفاف النيل وشمس الشتاء وطقوس الأفراح والأحزان والرضا بالمقسوم والعجز عن اختراقه أو تغييره.

لكن الأقصر تختلف قليلا بسبب قلة السكان وكثرة المعابد نصف المردومة وإحساس أهلها بأنهم على أطراف الدنيا بحكم المسافة الفاصلة بين مركز الكون في القاهرة ذات الاسم المدوي منذ جاءت الحملة الفرنسية وأعقبتها القفزة الذكية للجندي الألباني على كرسي الحكم، وتركه تجارة أبيه في الدخان.

 رغم ذلك فالأهالي يدهشون لأن جنود الباشا لا يتوقفون عن الظهور بينهم كل عدة أسابيع كأنهم يقيمون في قنا أو إسنا، وهؤلاء الجنود أصبحوا شبه دائمين في أحلام الفلاحين، ومع الكرابيج والرصاص وركض الفرسان على الخيول خلف الأهالي ودهسهم حتى يتوقفوا عن الفرار، تتنوع الرؤى والحكايات، بل اختلطت كلتاهما فلا يعرف أحد على وجه اليقين عندما يحكى حلمه للآخرين ما إذا كان يقص عليهم ما رآه في المنام أو ما عاشه في الواقع.. هل كانت نجاته من زيارة الجنود الأخيرة وهو يجتاز الزرائب ويقفز فوق الأسطح وفوق أكوام السباخ أو مدفونا في تل من التبن أو منطرحا وسط الأغنام التي أحاطته بحنانها وتواطأت معه وقد أدركت أزمته فاحتضنت مصيره المشكوك في إمكانية أن يمتد لساعات..هل كان هذا في الحلم أو في اليقظة؟..لكنه قد يعثر على ما يساعده على التذكر والتمييز متمثلا في بعض الجروح والخدوش والكدمات في ذراعيه وساقيه ووجهه.

 يقول الأهالي أنني لست كأية فتاة في الأقصر..تفكيري وشكلي وكلامي مختلف. لكن السؤال الذي يعربد في عقولهم وأحلامهم ونفوسهم المغرمة بأسرار الآخرين مازال دون إجابة ولا يستطيع أحد ولا يتجاسر على أن يسأل بنت العمدة مباشرة لماذا لم تتزوج حتى الآن رغم أن هناك بنات تزوجن في الرابعة عشرة؟.. ليسألوا كما شاؤوا ويخمنوا ويتصوروا بقدر ما يسمح خيالهم إذا كان هناك خيال وظنونهم وهي بالتأكيد متوفرة وسوء الظن كذلك.. لكننى غير معنية بإزالة همومهم والإجابة على أسئلتهم.

 أنا لم أعد تلك الطفلة الصغيرة ذات السنوات الاثنتى عشرة التي كانت تحلم كثيرا بأشياء غريبة، ولست تلك الفتاة التي رأت القاهرة وهي في الخامسة عشرة.. لابد أن هناك في بر مصر نحو مليون فتاة مثلي لم تتمكن من زيارة المدينة الكبيرة المغرية بالمعالم العجيبة والحكايات التي لا تنتهي حتى لا تملك أن تغمض عينيها لتنام بعد جهد يوم ثقيل، وقد كنت أسب النوم إذا فكر أن يزورني قرب منتصف الليل لأن شوقي مركز في أن أري كثيرا وأسمع وأعرف وأتذوق طعوم كل خيراتها، وكم كان يسعدني أن أخاف من الخيول المسرعة وأرتج رعبا من المباني العالية وأنا فوق أسطحها أتأمل المدينة العامرة التي لا تعرف النوم إلا ساعات قليلة.أنا إذن لست أنا التي تعيش في الأقصر منذ ربع قرن.. أنا الآن أعرف الكثير وأفهم المواقف سواء من ظاهرها أو من باطنها ولكل شيء مهما استخفي وتواري ظاهر وباطن.

 أبي وأمي يشعران بقلق بالغ ودائم من عدم قبولي الزواج.. أنا نفسي لا أدري لماذا أنا غير متقبلة فكرة الزواج وأتقبل جدا فكرة قضاء العمر في المعرفة، وأول المعرفة المكان.وإذا كنت قد أحببت القاهرة فقلبي في الأقصر وروحي تهيم بأجوائها وتعانق نخيلها وقدماي تعشقان الطرقات المفضية إلى معابدها وإن لم يمنع هذا من أن أنظر إليها على أنها قرية ميتة لم تتحرك وتدب فيها الحياة إلا مع قدوم البعثة الفرنسية، وقبل ذلك لا تعرف اليقظة والانتباه إلا مع هجمة جنود الباشا أو في يوم مولد أبي الحجاج..

 لم تؤثر في سلوكي وشخصيتى زيارتي للقاهرة قدر ما أثرت في طبيعتى حالة أبي المرضية التي داهمته فور علمه بوفاة مدثرأحد شقيقيّ بعيدا عنا ولم نتسلم جثمانه، وكان يحارب مع الجيش المصري لإخماد الثورة اليونانية ضد الحكم العثماني..أخي مدثر هو الأكبر.. شخصية نادرة جمعت كل الصفات الحسنة.. كريم وذو مروءة وصادق وشجاع وحليم وحكيم وصبور وبارع في الزراعة والتجارة.. ذهب مدثر وبقي لي شقيق واحد هو مصطفى الذي شاعت تسميته في البلد بركة بسبب اعتقاد الناس أنه طيب جدا وله صلة وثيقة بالله.. في أحيان كثيرة يتنبأ بما يمكن أن يحدث، فهو الذي خطر بباله بشكل مفاجئ أن مجاهد صديق نصر ابن عمي سيلتقي زوجته عند الساقية مع أذان العشاء فمضي إليه وأبلغه أن العربان سيهجمون على البلد فجر الجمعة وما جري بعد ذلك أثبت صحة ظنونه، وهو الذي قال: إن سنية التي لم تحمل يوما لسبع سنوات ستحمل وقد حملت وإن مات ولدها، وهو الذي قال لأبي:

-                     الجراد في الطريق وسوف يحط على البلد في الصباح

يقصد جباة الباشا.

أخي بركة الذي يتكلم بصعوبة هو الذي يجلب لنا السمك من النيل، فعندما ينزل وينادي عليه همسا يخرج السمك إليه.. ليس في كل الأوقات بالطبع..لكنها أمور غريبة.. وهذا هو السر في أن كل الناس تثق أنه مدعوم من الله وأنه بالفعل بركة، وإذا تشكك البعض في هذا أسكته غيره ومنهم الشيخ يونس:

-                      ليس ذلك بمستبعد..الله مطلع على عباده ولا يتركهم أبدا ويكتفي بأن يبعث إلى العباد آياته في صور متعددة..فالله خيرٌ حافظا وهو أرحم الراحمين.

 بركة قد يحمل السمك أيضا لمستورة ابنة الشيخ يونس ويجلس معها بعض الوقت، ويضطر أبوها إذا وجده معها أن يطلب منه بكل حنان مغادرة البيت و قد نصحه مرات ألا يدخل الدار في غيبته لكن بركة ينسي.

وعندما تعثر أبي مرة وهو متجه إلى المرحاض في زكيبة بها بقايا من ذرة صفراء لم يستطع الاعتماد على ذراعه المشلولة فوقع على الأرض وغاب تماما عن الوعي.. تعاونتُ مع أمي في رفعه إلى الفراش وناديت برهام ابن عبد السلام المزارع ليستدعي الدكتور قرشي بسرعة من الوحدة الصحية، فعاد دونه لأنه طبيب لا يعتمد عليه بسبب كثرة غيابه وسفره إلى بلده. طلبت إليه سرعة البحث عن بركة ولما لم يجده أمرته بالذهاب إليه في بيت الشيخ يونس.. لم ينفع أبي الماء الذي نثرته على وجهه ولا البصلة التى أحضرتها أمي وقد كانت رائحتها النفاذة كفيلة بإفاقته..

 مضت أمي تدلك بطن قدمه وأنا أدلك صدره بينما الدموع تسيل وعقلي يدور بشدة باحثا عن المنقذ بعد الله.. قالت أمي: ننادي لشلبي حلاق الصحة.. رفضت.. مجرد أن ترد سيرة هذا الرجل اللزج أوشك أن أتقيأ، لكنى أذعنت مضطرة لإرسال نجية ابنة عبد السلام لدعوته....رجل فضولي لا تكف عيناه عن الدوران في البيوت والسؤال عما لا يخصه والتفتيش في كل ما تقع عينه عليه، وله نظرات تلمس الجسد وتكاد تكشف العورات وتقتحم الملابس. ما الذي أخر بركة؟

.. حضر شلبي وأخذ ينثر على وجه أبي العطر ويشممه البصل ويفعل كل ما فعلنا، ثم قال:

-                      لابد من نقله إلى الوحدة

كدت أقول له:

-                     شكرا يا عم شلبي.. تفضل

أنقذني حضور بركة الذي وقف شاردا لحظات يهرش قفاه ثم بطنه ونحن نحدق فيه.. هو بالطبع ليس طبيبا لكنه بركة..

سحب بسرعة الوسادة من تحت رأس أبي ووضعها على وجهه ونزل بثقله عليها فصرخنا أنا وأمي وهجمنا عليه فأبعدناه.. دفعنا بقوة ثم أعاد الوسادة لحظات وتركها كما هي.. وقف ينظر إلينا ويشير بإصبعه رافضا أية خطوة وفجأة ضحك فرفع أبي رأسه.. نظر إلينا وسأل:

-                     ماذا جري؟.. لماذا أنتم واقفون هكذا؟.

سالت دموعنا وتهاوينا إلى الأرض.. فتح بركة باب الشارع وخرج. أسرعت وراءه أسأله إلى أين أنت ذاهب، فقال:

-                     النار في الطاحونة.

 علمت بعد ذلك أن نارا نشبت في بعض الزكائب الفارغة بطاحونة يعقوب و انتقلت إلى كيس قطن كان ممتلئا وطالت ألواح خشب فعلت النيران.. أسرع الجيران بالمشاركة.. تعاونوا وأطفئوها مع وصول بركة قبل أن تلحق السقف والماكينة.. دون تفكير تقدم يعقوب من بركة وقبله وعانقه وهو في حالة امتنان شديدة.

 حاولت عدة مرات منذ الثامنة أن ألعب مع الصبية الذكور مع أنني

 كنت أشعر بأنهم نماذج عجيبة من الكائنات.. ما يبدو من أجسامهم صدئ وأغلب ملابسهم مهترئة، وقذرة وبعضها بكم واحد أو بدونهما معا والياقات بلا أزرار وبعض الجيوب تمزقت وقد اختلطت ألوان الجلابيب، كما أنهم يلبسونها على اللحم والأسوأ تلك الروائح العطنة أو الكريهة التي لا أستطيع تمييز مصادرها ورائحة البصل هي المهيمنة، كما أنهم يميلون إلى الشجار لأتفه الأسباب، ويظلون وقتا يتقلبون فوق التراب حتى تكاد تتغير ملامحهم.. لا أدري كيف يحتملون كل هذا والأرض تحت أقدامهم جمر وهم حفاة..كثيرا ما أشعر أن العيال تنتمي إلى الحمير أكثر من انتمائها للبشر..رغم ذلك حاولت اللعب معهم فلم أوفق.. بعضهم رفضنى كوني بنتا وبعضهم رفضنى لضعف أدائي وإفساد إيقاع اللعبة.. اضطررت للعب مع البنات،استأذنت أبي فوافق وإن لم تتحمس أمي وأخي مدثر لفكرة لعب البنات واكتفي بالقول:

-                     العبي مع أختيك

كيف ألعب مع طفلتين تصغرني أكبرهما بخمس سنوات..كان بيننا ولد مات بعد سنتين.. حاولت لعب السيجة والحجلة والكرة الخيش فلم أتقبلها ولم تجتذبنى وأعجبتني الاستغماية.. استشعر أخي مدثر حاجتى للتسلية فعلق لي حبلا في شجرة الجوافة أول أشجار الجنينة الخاصة ببيتنا الكبير.. وضع لي وسادة في أسفل الحبل الذي عقده فوق الشجرة وأجلسنى على المرجيحة ودفعنى عدة مرات ففرحت وضحكت وطرت في الفضاء،وعلمنى أن أمرجح نفسي، فأقبلت وتفننت في الطيران بالمرجيحة وارتفعت حتى لمست أطراف الشجر بيد واحدة وشهق عندما رآني أكاد أطير..هددني في حالة تكرار ما رآه ألا يسمح لي بركوبها فقد سقطت من فوقها نجوي ابنة سلام المزارع.. لم يرهبنى سقوط البنت فمضيت أحلق عاليا وألمس أطراف الشجر.. احتجت بعد عدة أيام لدعوة أخي كي يربطها من جديد بعد أن انقطع الحبل بسبب ركوب بركة عليها وهو رغم أنه أصغر منى فقد كان في مثل حجمى مرتين على الأقل.

 لم أشعر بالخوف ولا أذكر أني عرفته.. فمما أخاف؟.. ربما أخاف النهر فقط لأن من يسقط فيه فهى النهاية،.. لا أخاف الكلاب ولا الظلام ولا العفاريت ولا السير وحدي رغم الحكايات الكثيرة المرعبة التي يتناقلها الكبار والصغار. قد يكون إيماني الغامض بأن لكل شخص ملاك حارس يساعدني على التماسك والجرأة اعتمادا عليه.

 شعرت به منذ سنوات ينام إلى جواري وكان يصاحبنى في الكتّاب.. يصعد معي إلى السطح ويتنزه معي في الجنينة.. أحسه بالقرب منى وأنا أقف طويلا وسط أشجار البرتقال لأتشمم العطر الفواح لزهر البرتقال.. أنشغل عنه عندما أطارد الفراشات الرقيقة وأحاول بكل رفق الإمساك بها.

كتمت سري عندما لم أجد أمي تتحدث عن الملاك الحارس ولا أبي ولا أخي وإن لم أنس أن أمي قالت لأخي مرة، وقد أصابت وجهه طوبة في حجم تينة ألقتها بقوة امرأة على ولدها في الوقت الذي كان أخي يدخل الشارع فأصابت وجهه بالضبط فوق أنفه وبين عينيه، وأسرعت المرأة تعتذر وتدعي على ابنها وأصرت أن تغسل وجه مدثر وأن تكبس التراب الناعم على الجرح.. لما عاد إلى البيت صرخت أمي واضطربت رعبا وصبت ماء في كفها وغسلت الجرح..سألته عن السبب فقص القصة وعزمت أمي أن تمسح بكرامة المرأة تراب السكك فأوقفها أبي وأخي.أرسلنا إلى شلبي الحلاق اللزج فوضع سائلا أحمر وبودرة صفراء وقطنا مبتلا وطلب ألا يتحرك قبل يومين.. قالت أمي بعد أن تنهدت:

-                     الحمد لله.. العين عليها حارس يا ضنايا

قال أبي: ابتلاء بسيط يفدي الله به ولدنا من شر كبير

كلمت الملاك الحارس في العديد من المناسبات.. لم أسمع منه كلمة ولا همسة، لكننى كنت على ثقة أن شخصا آخر معي.. لابد أنه كان معي عندما أعتزم السير نحو النهر فأجدني فجأة أرتد وأغير رأيي وأذهب إلى إيزيس التي أميل إليها ابنة عم صبري صاحب الفاخورة..اعتادت أن تكون هناك.. أجلس معها فتعرفنى كيف يصنع أبوها الأزيار والقلل والزلع والإبرمة. وبعد فترة أطلب منها أن تصاحبنى لنتوجه إلى معبد الكرنك فيأذن لها أبوها.. أتعجب من الأعمدة المستديرة الضخمة التي نبدو تحتها كالنمل.. تقول إيزيس:

 لابد أن من بناها كان في حجمها

أقول:

-                     ولماذا لا يستخدم السلم؟

-                     السلم لا يفيد في الأبنية الضخمة ربما يفيد في عمود رفيع يبنيه على مراحل.

نطوف بالمعبد وندهش للتماثيل والمسلات ونصفها على الأقل مردوم تحت التراب..نحدق في الرسوم على الجدران ونتنافس في تحديد النساء لنميزهم عن الرجال..

أقول لإيزيس:

-                     إذا تأملنا بعض الرسوم ربما نكتشف أنها تكاد تحكى قصة

-                     ربما.. لكننا لا نستطيع أن نفهم المقصود من الرموز المحفورة ولا عمل هؤلاء الأشخاص وما الداعي لرسم صورهم على الحجر.

-                     هل يمكن أن يكون هناك ناس غير المصريين أقاموا هذه المعابد؟

-                     ربما وجائز أن يكون قد أقامها أجدادنا منذ سنين طويلة وتغيرت الأحوال ولم يتركوا لنا ما يعيننا على معرفة أسرارهم ومبانيهم.

-                     أبي قال: إن من بنوا هذه المباني مدفونون في البر الغربي

أحسست أن يدا تلمس يدي.. كانت إيزيس قد سبقتني إلى تمثال كبير لشخص علي رأسه عمامة كبيرة. ارتعدت فقد تبادر إلى ذهني أن أحد سكان هذا المعبد هو الذي حاول أن يمسكني، لكنني تذكرت الملاك الحارس.. لم أستطع أن أحدد مصدر اللمسة ولذلك أسرعت ألتصق بإيزيس.. مضت بي إلى عمق المعبد ووصلنا إلى ساحة كبيرة بها تماثيل كثيرة مرصوصة بحذاء الجدران.. عادت اليد الرقيقة تلمسني. لا أحد قريبا منى.هذه إشارة.. قلت للإيزيس:

-                     هيا بنا.. لقد تأخرنا

في يوم بعد أن بلغت الثالثة والعشرين ناداني أبي، وقال:

-                     اجلسي يا ابنتي. تعالي يا كاملة أحضرينا

جلست دون أن أفهم ما الموضوع ربما تكون حفصة أو فاطمة بهما شيء

أو أحد مسّ بركة بكلمة.. قلت:

-                     نعم يا أبي

-                     يا ابنتي.. هل أنت غير كل البنات؟

ابتسمت مندهشة

-                     ماذا حدث منى أغضبك؟

-                     تكلمنا معك عدة مرات بخصوص زواجك وتقدم لك خطاب كثيرون ولم تفتحي الباب بأي صورة ولم تجعليه حتى مواربا

أحنيت رأسي.. لم أحدد بعد ماذا أقول.. كلام معاد وممل

-                     مرة ثانية يا أبي!

-                     وثالثة وعاشرة.. هذه هي الحياة

-                      لا أريد الزواج.. لا أريد الزواج

-                     سُنة الحياة

-                     أنا عقلي يرى أن الزواج كلام فارغ ومشروع فاشل

-                     تفضلي يا ست كاملة اسمعي ماذا تقول ابنتك

أمي الطيبة ضربت كفا بكف ثم قالت بحنان:

-                     لماذا يا ضنايا؟.. نِفسنا نشوف أولادك

-                     عندكم أولاد فاطمة وحفصة

-                     لابد أن يكون لنا أحفاد منك

-                     لست أرنبة يا أمى

تطلع أبي إلى السقف ثم النافذة.. تنهد بتوتر وقال:

-                     هات لي بنتا واحدة في الأقصر كلها ترفض الزواج

-                     أنا

-                     صارحيني يا ابنتي

-                     ليس عندي ما أقوله.. ربما عندك حق والناس جميعها عندهم حق في هذا الموضوع لكنى أراه سخيفا

-                     أوضحي لنا.. لماذا هو سخيف؟

-                     كله على بعضه سخيف ولا ينتج عنه إلا المشاكل والسبب فيها اختلاف الطباع غير مشاكل الأولاد والأهم نظام العبودية

-                     أي عبودية؟

-                     أليس الرجل هو السيد والأنثى عبدة؟

-                     غير صحيح بالمرة.. هل أمك عبدة أم سيدة البيت؟

-                     هي بالفعل سيدة البيت لأنك رجل حكيم وتميز الخطأ من الصواب وتقدرها

ولا تري أن البيت يمكن أن تقوم له قائمة بدونها

-                     هذا هو الصواب

-                     نادر جدا

-                     والحل

-                     إذا جاء من أتوسم فيه أن يكون مثلك فسوف أوافق عليه عدا ذلك مستحيل

-                     نصر لا يعجبك

-                     نصر من المطاريد وسوف يقضي بقية عمره على الطريق ذاته

-                     مبروك الضابط الذي جاء من قنا ليخطبك

-                     مغرور

-                     الدكتور قرشي

-                     كل ما فيه يجعله مرفوضا من وجهة نظر كل الفتيات

-                     دكتور ماهر وله سمعة

-                     لا يعرف في الطب إلا علاج البرد والصداع، ثم أنني لا يعنيني علمه.. المهم طباعه. شخصيته. كرمه. شجاعته. أسلوبه في الحياة. مظهره

-                     كل من تقدموا لك لا يصلحون

-                     نعم

-                     والحل

-                     ثق أنه سيأتي عندما يريد الله ذلك

-                     العمر ينقضي دون أن نحس

-                     أطال الله عمرك

-                     أتحدث عنك.. فاطمة وحفصة أصغر منك تزوجا وأنجبا ستة في خمس سنوات

-                     هل أنت سعيد بهذا؟

-                     كل السعادة

-                      قلت كل ما عندي يا أبي فلا تفتح هذا الموضوع مرة ثانية لو سمحت وتأكد أن الله سيرضيك بطريقته

-                     ربنا يرضيك يا ابنتي..ادعى لها يا أم مدثر

أسرعت أمي تدعو الله:

-                     ربنا يسعدك ويوقف لك أولاد الحلال ويخلف عليك الذرية الصالحة ويجعل أيامك كلها هنا يا جزيرة يا بنت بطني.

ابتسمت وقلت لها:

-                     ألن نأكل يا كاملة؟

هبت واقفة رغم سمنتها النسبية وشكواها من ركبتيها قائلة:

-                     من عيني يا ضنايا

دخلت معها إلى المطبخ لنقل الأطباق إلى الطبلية الكبيرة.. لحق بنا بركة.. أمي الطباخة الماهرة ذات النفس الذي يجعل للطعام رائحة فواحة تجر العابرين من مسافة بعيدة كانت قد أعدت لنا " الشلولو " و"المسبوبة " و " الأرز المكمور " مع الخبز الشمسي.. أكلنا حتى عجزنا عن القيام.

 

(3)

 الصيف موسم للحر والذباب والعربان والموت والسكون والضجر.. العربان الذين يقيمون على تخوم الأقصر الجنوبية في منطقة وسطى بين ضفاف النيل والجبال الشرقية، وقد حرصوا على ألا تطالهم أيدي السلطة القادمة من الماء ولا أيدي المطاريد الخارجين على القانون الذين يتخذون المغارات والكهوف مأوي لهم يعرفون القرية كما يعرفون خطوط أكفهم وملامح خيولهم وخريطة الألوان على ظهورها وبطونها، وكما يعرفون درجات الحرارة التي تميز أيام السنة وطبائع الرياح المتعددة وما تحمله كل منها من رمال أو لقاح أو مطر أو أمراض وجراد ومصائب.

 الصيف موسم الحركة والنشاط للعربان.. وهو مثلهم منفر لكن لكل منهما أسبابه.. الصيف في العادة نهاره طويل وأيامه بطيئة وباعثة على الضجر.. تمر متوانية ولزجة مثل الذباب. الصيف بحرارته الساخطة على الوجود يضرب الهواء والعقول والليل والفضاء. يقسو على تراب الطرق والأسطح والأسرة والقلل والخيول والحمير والكلاب. لم أحلم مرة في موسم الصيف. الصيف موعد للرحيل ولا أدري لماذا يموت فيه الكثيرون ولا يجد أهالي الموتي دموعا في الصيف ليذرفوها على من فقدوا ولا يتوفر لوداعهم إلا الصمت، وسرعان ما يضطرون للنسيان إذا انقضت جحافل العربان يمشطون الأرض و يحملون معهم بالسيوف من كل خيرات البلد دون أن يردعهم رادع.

 العربان ربما أكثر من رجال الباشا يعرفون أن الأقصر يتجاوز سكانها الألف بربع الألف من الفلاحين وأصحاب الورش والمحلات، ويعرفون أن مساحة البر الشرقي العمرانية والزراعية تتجاوز الألف فدان بما فيها المعابد، وأن السكان يقيمون في سبعة شوارع كبيرة ونحو عشرين حارة، تضم مائتى بيت، غير العشش المتناثرة، وفي تلك الشوارع وبعيدا عنها محلات للبقالة والحياكة وجزارة وبائع للحبوب ومقهي وورش للحدادة والنجارة والفاخورة وطاحونة يعقوب ومسجد ووحدة صحية صغيرة أقرب إلى أن تكون مخصصة كلوكاندة للكلاب وبعض عابري السبيل وهم قلة، ولا أدري لمَ يُغرم الكلاب بالنوم فيها منذ أذان الفجر وحتى الظهيرة.ولم نسمع بأحد مرض زارها وتلقي العلاج الشافي.

 يعرف العربان أن كل الشوارع متعامدة على النهر العجوز والحارات موازية له، وكلها تقريبا تقع خلف المعبدين.. الأقصر والكرنك، وتتجنب الاقتراب من النيل، لعله يكون مصدرا للأخطار. سمعت هذا الكلام من مدثر الذي نقله عن جدي وأكده أبي. وقد حرص العربان أن يعرفوا كل ذلك وأكثر منه بوسائل عديدة حتى يستطيعوا كسب قوتهم وتوفير مطالبهم وتحصين أنفسهم.

 يمر العربان على بيوت الأقصر وحقولها وزرائبها مرة كل شهر تقريبا، ويفضلون الهزيع الأخير من الليل، يهاجمون ومعهم أجولة وقفف يملؤونها من مخازن القمح والذرة والفول والشعير ومن الحقول الباذنجان والبامية والطماطم والملوخية والخبيزة والشطة ومن الفاكهة ما يشتهون حسب المواسم، كما يعلقون على أكتافهم الحبال لتحزيم وربط حزم قصب السكر، أما الأغنام فيحملونها على الخيول، وقد تكون لها زيارة خاصة قبل العيدين. وأحيانا يجرون جمالا و جواميس ويحملون العشرات من الدواجن، وإذا وقعت عينا شخص عليهم أو سمع ضرباتهم المكتومة وحركتهم المحمومة فإنه لا يقدر على فتح فمه ولو بصرخة لأن العربان مسلحون بالبنادق والشوم وقد ترسخ في أذهان أهل الأقصر والقرى المجاورة أن العربان في صدورهم قلوب قدت من حجر هجم العربان آخر مرة على القرية قبل ثلاثة أشهر. فوجئوا بالرصاص يستقبلهم قبل الحقول من الجهة الجنوبية.. جفلت الخيول ورُوع الفرسان. أسرعت الخيول ترفع سيقانها الأمامية في فضاء مذعور ووقفت على الخلفية. سقط بعض العربان وتمرغوا في التراب لكنهم هبوا كأحصنة وأسرعوا قبل أن يلتقط بعضهم طواقيه الصوفية فقفزوا فوق صهوات خيولهم وقد شملهم اضطراب شديد ثم سقطوا من جديد. وقعت بعض الإصابات المباشرة، مع أن أوامر نصر كانت واضحة بعدم التصويب على الأجساد.. لم يكن الغرض من إطلاق النار القتل أو التعجيز ولكنه كان للترويع وتبليغ رسالة مؤداها انتهاء عهود الاستسلام ولن تكون الأيام المقبلة كما كانت سابقاتها متيسرة، ينهب من البلاد من يريد بلا مانع أو رادع. وربما كان عدد ممن ردوا الهجوم قد أصاب أهله ضرر كبير على أيديهم فوجّه الغيظ البندقية. أصيب اثنان والتقطهما الآخرون وأطلقوا سيقان خيولهم للريح ولم تكن الركائب أقل دهشة ورعبا منهم فقد تفرقت سبلهم يمينا ويسارا ثم اجتمعت وعادت بالفشل والكمد.

كان نصر ابن عمي الهارب في الجبال مع المطاريد قد تأكد من صدق كلام أخي بركة عندما أخبره أحد رجاله بنية العربان مهاجمة الأقصر فجمعهم عند النخلات الثلاث المتعانقة جنوب غرب القرية قبل حوض الأشراف وانتشر الرجال في حقول الذرة بينما ركب النخلات بعض الشباب كناضورجية.

قال نصر لرفاقه: سنضطر للسهر ثلاث ليال على الأقل فسوف يعودون.

قال له مجاهد مساعده الأول: لا أظنهم

رد نصر بثقة:

-                     بل سيعودون، وإذا لم يعودوا في الأيام القريبة يكونون قد وعوا الدرس وأشك أن يحاولوا مرة أخري.. يكفي ما نهبوه على مدي سنوات.

قال مجاهد ضئيل الجسم المشهور بدهائه وندرة كلامه:

-                     لا تعرف طبع الأفاعي

 كان أهالي القرية قد ضجوا من الشكوى لحكمدار قنا الذي وعدهم عدة مرات بقطع دابر العربان ولم يفعل شيئا وظل الحال كما هو.. النهب لا يتوقف والخسائر تتزايد والضربات ثقيلة والبلد مكشوفة.. في حين أن الخفراء القليلين كبار السن يتقاضون الفتات..ضعاف البنية وشبه عميان.. منذ سنتين وبرغم مرضه نصح أبي عمي زهران الحجاجي الذي أصبح عمدة أن يجمع الكبار لبحث المشكلة وبعد المداولات والاجتماعات عدة مرات لم يتفقوا فقد تعلل البعض بكثرة عدد العربان وتعلل آخرون بكثافة تسليحهم وذكر البعض تعذر الاستعداد لهم بسبب اختلاف المواعيد، ومن ثم يصعب انتظارهم. وتبين بمرور الأيام أن العربان يدعمهم الباشا ويستخدمهم في مطاردة الهاربين من كل تكليف وخاصة عندما يحتاج إلى شباب للحروب التي لا تتوقف>

 

(4)

 رحلت والدتي السيدة عديلة البقلي منذ ستة أشهر.. رحلت الأم النادرة التي تتأهب في كل لحظة كي تضحي من أجل زوجها وولديها بحياتها.. توجه كل أعصابها ناحيتهم ولا تري في الوجود غيرهم وفي الوقت ذاته لم تقصر في حق والدها نبيه البقلي ولا أخيها عسكر. وربما لهذا السبب لم أفترق طوال عمري عنها إلا عامين. زرت باريس مرة وأنا في الخامسة عشرة ومرة وأنا في السابعة والعشرين تلبية لرغبة عمي فاليري وأسرته لزيارة الوطن والتعرف على أهلي الذين لم أرهم مطلقا، وقضيت أقل من عام في اليونان مع الجيش المصري. في زيارتي الأولي لباريس انشغلت بالتنزه و باللهو مع بنات عمي الثلاث.. أكبرهن أصغر منى بثلاث سنوات. شاهدت البيت الذي عاش فيه أبي قبل أن يأتي إلى مصر كجندي في الحملة الفرنسية وقد كان مقربا من الإمبراطور..أقصد نابليون.البيت كبير وجميل تتقدمه حديقة جيدة التنسيق وعامرة بالخضرة وأجمل ما فيه قربه من كنيسة الساكركير (القلب المقدس) في مونمارتر حيث الجمال والأشجار والنزهات الخلابة والزهور..أعجبتني الأرضية الخشبية النظيفة اللامعة والستائر الدانتيل والتماثيل الصغيرة المتناثرة والمرايا وفازات بها ورود وريش نعام وبيانو كبير يلفت نظر كل من يدخل الصالة الفسيحة بلونه التركواز المزين من أطرافه بخطوط ذهبية.. تتناثر على سطحه تماثيل صغيرة من العاج لبعض كبار العازفين.. أسمعني عمي بعض المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية على اسطوانات فعنده بيك أب..قال:

-                     أبوك كان يجيد العزف عليه مثل أمنا، وقد اضطررت للاستعانة بمعلم كي يدرب البنات على العزف.. صوفيا الصغرى تجيده أفضل من أختيها.

 أما الزيارة الثانية فقد وجدت بنات عمي خاصة الكبيرة ليليان عروس ناضجة ومتألقة بالشباب والعنفوان والمرح، وفوجئت باهتمامها بالثقافة وحضورها الصالونات مع زوجها جورج وقد اتفقا على الانفصال خلال الصيف دون أن يقطعا أواصر الصداقة الحميمة.. علمت أن الثانية سوزان قد سافرت إلى موسكو مع زوجها الملحق بالبعثة الدبلوماسية الفرنسية وبقيت في البيت صوفيا الهادئة الصامتة وغير الاجتماعية دون زواج.. لفتت نظري بسبب اهتمامها الشديد بالقراءة وكتابة الأشعار ذات الأبعاد الفلسفية والموسيقي، على أنني لاحظت أنها كتومة وهناك بعض المشاعر المضادة للناس أو ربما الحذر الزائد وتساءلت عن السر في أن الأشعار والموسيقي لم تؤثر في طبعها نحو المحبة والتسامح وجمال الروح والرضا عن الوجود. لكنها كانت المساعدة الأولي التي اعتمدت عليها في اختيار وشراء اسطوانات الموسيقيين الكبار، وأهداني عمى بيك أب سيمفونيات بيتهوفن الخامسة والسادسة والتاسعة.. شيء حقا بديع وعبقري. ومن الغريب أنه لما بلغ إعجابي بالموسيقار الألماني ذروته وتغلغلت في كياني موسيقاه المجنونة والمجنحة أبلغتني صوفيا نبأ وفاته في فيينا، والأغرب أني كنت ساعتها أستمع إلى سيمفونيته السادسة المسماة بالرعوية.. بقيت الليلة كلها أستمع إلى موسيقاه.. لما انتهت " الرعوية " وضعت الخامسة "البطولة "على الجهاز..كان موفقا للغاية هذا المبدع الكبير في اختيار الإيقاعات المتميزة بالقوة والعنفوان تتسلل خلالها بعض المساحات الناعمة ثم تعلو تدريجيا طرقات أقدام الجنود الواثقة التي تتقدم نحو المعارك.. استطاع الفنان تصوير معنى البطولة التي تتمناها كل المخلوقات لبعث النبض والأمل في الحياة حتى في تشكيل الكيانات الفنية والإنسانية.. سحبتني السيمفونية إلى بحرها الهائج ونبراتها الساحرة وأمواجها العالية وابتلعتني أعماقها فاستمتعت بالغرق الجميل والغياب الوثير ثم ألقتني في دعة على شاطئ من الجمال والحرير وقد تحولتُ بها إلى روح محضة وكيان موسيقي صافٍ ونبيل

 في المرة الأولي لم أتنبه لجمال باريس والحياة الفرنسية، أما في المرة الثانية فقد حرصت على أن أكتشف جمالها وأتغلغل فيه لأتفهم آفاقه وأسراره.. سرت على ضفاف نهر السين تقريبا كل يوم، وزرت أهم المعالم مثل جامعة باريس ومتحف اللوفر وقصر فرساي وكنيسة نوتردام وكنيسة ساكر كير والحي اللاتينى وبوليفار مون مارتر وقصر التويلري والعديد من الحدائق والمعارض بل توقفت أمام مبنى سجن الباستيل الرهيب.. شربت القهوة في عشرة مقاه تطل على نهر السين حيث كان من حولي الشعراء والكتاب والرسامين والمناضلين ومنهم من يقف بالمرصاد للملوك وحكوماتهم على مدى ثلاثين سنة منذ ما قبل ثورة عام 1789.

 لفت نظري نظام تزويد البيوت بالمياه، والطرق النظيفة والمنظمة ولا أنكر إعجابي بالنساء الجميلات، لكنني كنت سعيدا ومندهشا لأن الدين لا يذكر إلا في النادر كموضوع بين المتحدثين وليس كما يحدث في مصر حيث يحضر دائما بلا مبرر في أغلب الأحوال.. أما الفرنسيون فيحتفظون بالدين في القلب بوصفه معتقدا شخصيا، لكن الحوارات في الأغلب تتناول الفنون والآداب وتنتقل إلى الديمقراطية والدستور والمجالس النيابية وأية قضايا تخص الحكم إذا كان هناك ما يقتضي ذلك، وحديث لطيف قد يمتد حول العلاقات الشخصية بكافة ألوانها خاصة الحب والهوايات والرحلات والصيد، وكل الحوارات يحكمها العقل والمنطق..

إن شمس باريس الحقيقية ليست التي تطلع في الصباح وتغرب قبل حلول المساء، وإنما هي شمس لا تغرب أبدا..إنها شمس العقل..

 على أن أهم ما خرجت به من باريس هو عودتي بحمولة رائعة من الكتب التي لا أجد لها مثيلا في مصر.. روايات ومسرحيات لشيكسبير وراسين وكورني وموليير ورابيليه ومدام دى لافييت، ماريفو وبومارشيه وشاتوبريان. وأشعار لماليرب ورونسار ولامرتين وللعبقري جان جاك روسو وفولتير..ما يقرب من ستين كتابا قرأتها مرات وكتبت الخواطر والنظرات حولها ومن وحيها.

 يكفي أن هذه الكتب غيرت فكري وشخصيتي وأعادت خلقي بما يفتح آفاقا عريضة أمامي في مقدمتها وأنا أتأهب للسفر بعد شهر إلى باريس عائدا تماما لوطني كي ألتحق بالجامعة وأنضم لصحيفة وأكتب آرائي وقد أنضم للثوار خاصة بعد ما جري مؤخرا في فرنسا. لكنني حزين لأن عمي الذي يستثمر لي أموالي التي ورثتها عن أبي كوارث وحيد يفرط في الشراب وقد لاحظت تدهور صحته، وحرصه على السهر حتى الصباح مع أصدقائه، وأخشى على صوفيا أصغر البنات من أن تفاجأ برحيله وهي ترفض الزواج وتؤثر الوحدة. طلبت إليه أن يخفف حرصا على صحته فوعدني، وطلبت من صوفيا أن تنصحه وتتابعه حتى يتوقف أو يقلل فقالت بلا مبالاة:

-                     هذه حرية شخصية

 لم يعجبني ردها وإن كنت أومن بالفعل إنها حرية شخصية، لكن الإنسان أراد أم لم يرد مسئول عن نفسه أولا ومسئول عمن ينتسبون إليه ثانيا وقد ينتج ضرر أو منفعة من تصرفه الشخصي حتى للغرباء هو مسئول أيضا عنه.

 أصر أبي روبير كما قالت أمي أن يتزوجها. رآها في وكالة جدي بالغورية وكان ضمن مجموعة من الضباط الفرنساوية، أما هي فقد اصطحبت صديقة لها وأمها لشراء كل ما يلزم لجهازها من الوكالة.. انصرف فكر أبي عن رفاقه وتابع المصرية الجميلة وفهم أنها ابنة صاحب المتجر. حرص على أن يمر كل يوم بالوكالة باحثا عنها متمنيا رؤيتها، وبعد أيام رآها مجددا فازداد إعجابا بها.. ولم يستطع أن ينطق بكلمة، واضطر أن يقص ما جرى على أصدقائه المقربين الذين نصحوه بالتحدث مع زميلهم فرانسوا الذي يجيد العربية فبإمكانه أن يساعده.. اصطحبه فرانسوا إلى الشيخ برهام الشاذلي الذي كان يعرف السيد نبيه البقلي ووكالته وابنته.. طلب برهام من روبير أن يتعلم العربية أولا وعاونه على ذلك فرانسوا فتعلم ما يلزم للحوار خلال شهر كان لا يكف خلاله عن زيارة الوكالة والتوقف لشراء أي شيء في الأغلب لا يريده. قالت أمي إن رؤساءه عاتبوه بسبب عدم تركيزه ولاحظوا أنه يتعلل بحجج واهية كي يتهرب من الحملات المستمرة لمطاردة الثوار والخارجين على التعليمات التي وضعها نابليون. لم تمر ثلاثة أشهر حتى تزوج أبي من أمي السيدة عديلة البقلي بعد أن أعلن إسلامه.

 بدأت أسأل أمي عن أبي فتهربت سنتين تقريبا ثم أخبرتني عندما بلغت الخامسة أن أبي قتله أحد الثوار عندما كان عمري ثمانية أشهر. وما زالت على الجدار لوحة رسمها فرانسوا لوالدي ووالدتي يوم الزفاف معلقة في شقة القاهرة القريبة من كنيسة العذراء بباب زويلة.. قال لي أحد العلماء الفرنسيين إنها ربما تكون أقدم كنيسة في القاهرة وعمرها يتجاوز ألفا وخمسمائة عام.

 رشيد البري أحد كبار قادة المماليك وصديق خالي عسكر وقعت عيناه على أمي فقرر أن يتزوجها خلال أسبوع وكنت في نحو السادسة.. رجل سمين وثري جدا ومتزوج من سيدة لا تنجب رغم مرور خمس سنوات وهي ابنة شقيق الألفي بك زعيم المماليك الذي مات قبل سنوات.. أحببت رشيدا جدا لأنه كان يتمتع بصفات نبيلة من الكرم والصدق والشجاعة والمروءة وسعة الأفق.. أبدي اهتماما غير عادي بتعليمي ورعايتي حتى شعرت بحنانه الأبوي متجليا في كل موقف ونظرة ولمسة.. لم يعترض على تعلمي الفرنسية التي كنت قد بدأتها قبل زواجه مع أمي فقد رأت أنني فرنسي مصري ويجب أن أتعلم لغة أبي مع العربية وحفظ القرآن.. حرص رشيد على تعليمي ركوب الخيل والسباحة والرماية وشتى فنون القتال طبقا للنظام السائد مع أبناء المماليك.

 عندما بلغت العاشرة حملت زوجته الأولي ووضعت ولدا في يناير سنة 1811.. ضج رشيد بالفرح حتى أنه ظل يرقص لنحو ساعة رغم جسمه اللحيم.. سمي ولده أمين على اسم صديقه أمين الخازندار أحد قادة المماليك.. شعر في لحظات كثيرة أن الدنيا لا تتسع لسعادته فأقام احتفالا كبيرا بمناسبة مرور أسبوع على ميلاد أمين، حضره جدي وخالي وأمي وأنا بالطبع وكان من الحضور قادة المماليك وكبار علماء المسلمين وبعض الفرنسيين وعدد من رجال محمد على باشا ووزع الطعام على نحو ألف شخص من الفقراء. لكن ما جري بعد ذلك بشهرين كان داميا بشكل لا يوصف ولا يمكن أن يتكرر في أي مكان أو زمان.

 أراد محمد على أن ينفرد بحكم مصر وهناك عدة آلاف من المماليك يتربصون به ويناوشونه ولديه أفكار ومشروعات لتطوير الحياة في مصر ويعجز عن تنفيذها وإحكام قبضته على البلاد بسبب المؤامرات والحروب الدائرة بينه وبين المماليك، لذلك فكر مع محمد الدفتردار ولاظوغلي والمقربين منه في وسيلة تمكنه من توجيه ضربة واحدة فقط تقضي على المماليك جميعهم ومن ثم ينفتح أمامه الطريق تماما فلا يوجد ما ينغص عليه أحلامه. ولما كان السلطان العثماني يضغط عليه لسرعة إرسال حملة عسكرية ضخمة للقضاء على الوهابيين في الأراضي الحجازية فقد قرر إقامة احتفال بخروج جيشه بقيادة ولده طوسون – كما حكى لي خالي عسكر - دعا إليه كافة المماليك المقيمين بالقاهرة وعددهم يقرب من خمسمائة مملوك وتضمنت دعوته الإشارة إلى أنها فرصة للتصالح والتعبير عن أهمية التعاون بين محمد على والمماليك وفتح صفحة جديدة بينهم ولابد من مشاركتهم فيها.

.. في زهو وتيه شق المماليك الطرقات وهم يعتلون صهوات أكرم الجياد وعلى الأجناب جماهير غفيرة تشاهد وقد انتقل إليهم قليل من الفخر بأهم الأحداث وأكبر الحروب التي يعتزم الجيش المصري للمرة الأولي أن يشنها خارج القطر منذ مئات السنين.. بدا المماليك في أثمن ملابسهم من الفراء والحرير غارقين في أجود العطور متقلدين السيوف المذهبة التي يلمع صلبها مع كل حركة بما يصدم العيون والطبنجات معلقة على الخصور في أغمادها، وعلى الصدور أوسمة وفي الأصابع خواتم ذهبية ثقيلة بفصوص الماس كأنهم يخرجون من المتاحف الكبري ليكتبوا التاريخ الذي لن ينسي.. خالي كان حكاء يهوي هذه العبارات مع مسحة خفيفة من السخرية ولا يمل مستمعيه من حديثه

 ترجل الضيوف المماليك ضخام الجثث عن صهوات خيولهم في الساحة الخارجية للقلعة حيث تلقي السُيّاس الجياد وأوقفوها على الأجناب صفوفا وسار المدعوون بتمهل تسقط على وجوههم الحمراء أشعة شمس الحادية عشرة حتى وصلوا القاعة الداخلية الفسيحة حيث استقبلهم الباشا و ألقي كلمة تختلط فيها الألبانية بالتركية والعربية رحب فيها بأبرز رجالات الدولة وعلى شرفهم وبحضورهم يكلف ولده طوسون بقيادة الحملة العسكرية المتوجهة إلى الأراضي الحجازية لتنفيذ أمر الباب العالي بالقضاء على الوهابيين الذين امتلكوا من القوة ما يهدد السلطنة، ويتصرفون كأنهم استقلوا عنها.. وقام الخدم بتوزيع القهوة التركية فشرب الجميع وكان الباشا يمر بينهم ويحييهم فردا فردا ويداعبهم ويبتسم ويبتسمون وقد أدرك أكثرهم أن الوالي تغير لأنه يتباسط ويضحك ويعلق، ويحدثهم عن خططه بالنسبة للمستقبل ورغبته في مشاركتهم فيها بأفكارهم وأموالهم ورجالهم.. وقد أسعدهم أن يقول:

-                     هذه بلادكم فاقترحوا لها ما تشاءون واسهروا عليها وأنا معكم.

 ابتعد عنهم مسافة وصفق بكفيه وهو يعلن بدء الحملة.. وجه المماليك التهاني لقائد الحملة مع التمنيات الطيبة بالنصر المؤزر وتبادلوا التحية معبرين عن رضاهم بالصفحة الجديدة ثم اتجهوا صوب الساحة الكبيرة ومن ثم صعدوا إلى خيولهم وكان عدد من الفرسان الألبان يقفون متأهبين ليتقدموا الموكب.

 أخذت الخيول تخطو نحو باب العزب المفضي لميدان الرميلة ويبدأ بالهبوط في ممر ضيق منحدر ومتعرج جري نحته منذ سنوات طويلة في صخرة ضخمة ولم يتم تهذيبه وأرضيته لا تسمح إلا بمرور حذر جدا ومتمهل.. ما إن خرج الفرسان الدلاة أو الأدلة حتى أغلق وراءهم باب العزب لكن باب الجحيم انفتح على مصراعيه واندفع الجنود الألبان يطلقون الرصاص كالمطر على المماليك الذين امتطوا صهوات جيادهم وتكدسوا عند بداية المنحدر، حاول المتقدمون منهم الرجوع فلم يفلحوا وحاولوا سحب سيوفهم أو الطبنجات فما استطاعوا وتوالي هطول الرصاص بلا توقف.. كان ينهمر من فوقهم ومن خلفهم وعن يمينهم وشمالهم، تستولي عليهم حالة رهيبة من الاضطراب والرعب والعمي فقد فقدوا كل قدرة على التفكير أو التصرف.. كل المواهب اختفت وغاب الوعي تماما في حضور الصدمة بينما أنهار الدماء تسيل وتغرق أرض المعركة الصخرية للفناء الفسيح وتجري في جداول نحو التربة الرملية المنخفضة.

 جري بعض المماليك نحو القاعات التي وجدوها مغلقة، إلى أن عثروا على باب صغير مفتوح يفضي إلى قاعة الحريم.. وكانت فيها بعض السيدات فوقعوا تحت أقدامهن طلبا للنجدة ولكن النسوة اللائي صرخن من دخول الرجال وهم مكشوفي الرؤوس والصدور توقفن عن الصراخ وإن ظلت الأفواه مفتوحة بينما رقاب الفارين تذبح تحت عيونهن والدماء تتفجر تحت الفساتين والمقاعد وعلى الأزياء الفخمة بديعة النقوش والألوان.

 استمرت آلة القتل الجهنمية تعمل بلا هوادة ودون توقف من الظهيرة حتى الغروب تتخللها عمليات كر وفر يسيطر عليها الألبان بالبنادق والسيوف والغدّارات التي يوالي الجنود المساعدون حشوها بالذخيرة حتى تم القضاء على الجميع وتبليغ الباشا بانتهاء الذبح الكامل لكل الضيوف، فأصدر أوامره بالنزول إلى المدينة وقتل أسرهم ومن ينتمون إليهم، ثم الزحف على الوجهين البحري والقبلي لاصطياد من لا يزالوا أحياء بحيث لا يعود هناك من هذه النوعية من البشر شخص يتنفس يمكن أن يمثل خطرا على دولة محمد على. وكان من بين الضحايا بالطبع عمى رشيد البري، أحد الذين أثروا في حياتي، ويلحق به مباشرة كصاحب تأثير الكلونيل سيف أو سليمان باشا الفرنساوي الذي تعرف على خالي عسكر عندما جاء إلى القاهرة عام 1819 وكان قد حضر حفلا أقامه حكمدار القاهرة الجديد ترحيبا بكبار رجال البلد وضيوفها وكان من بينهم خالي الذي تعرف على الكلونيل والتقاه مرة أخري بعد أيام ثم دعاه لزيارتنا وتعرفت عليه، وما لبث الرجل أن طلب منى التقدم للالتحاق بالمدرسة الحربية لإعداد ضباط المشاة التي أمر الباشا بتأسيسها في أسوان بعيدا عن ضجيج القاهرة وحفاظا عليها من التلصص ومعرفة أخبارها وطلابها ومن ثم التسبب في فشلها.

 كنا خمسمائة طالب أكثرهم من الأرناؤوط وأقلهم من المماليك والمصريين لكن الكل أفادته المدرسة، خاصة أن الكلونيل كان منضبطا جدا وكثير الخبرات والمعلومات ودقيق وبعيد النظر وصاحب خطط عسكرية للهجوم والدفاع فضلا عن مظهره الأنيق وعوده الرشيق وصدره العريض وعضلاته البارزة ووجهه الوسيم وشاربه الكثيف المبروم من الجانبين وبصره الحاد.. أعجبت به جدا وتمنيت أن أظل بقربه مهما طال الوقت لكن أمي كانت كلما غبت شهرا بكت وأرسلت من يدعوني بسرعة للحضور بسبب مرضها أو مرض جدي أو أي سبب مفتعل كي أعود.. كنت أنسي أنها تتعلل وأسرع بالعودة إليها. لكنني لم أستطع أن أتخلف عن الحملة المصرية العثمانية التي اتجهت شمال البحر المتوسط منتصف عام 1826 لإخماد الثورة اليونانية.

 كان سليمان باشا منذ ولد كما حكى لي بنفسه خشن الطباع مغرما بالمخاطرة واللعب العنيف والجري والمصارعة وكلما دعاه أبوه لمساعدته في الورشة هرب وأهمل حتى هدده أبوه أن يلحقه بالبحرية التي أعلنت بعد أن أصبح نابليون قائدا للجيش عن طلب دفعات حتى من الصغار.. زاد إهمال الفتى وانطلاقه على هواه فألحقه أبوه بالبحرية قبل أن يكمل الثالثة عشرة، وبعد تدريب لمدة سنتين قامت الحرب بين فرنسا والنمسا فشارك فيها وبقي هناك نحو سنتين تحت الأسر ثم عاد ليشترك في الحملة التي شنها نابليون على روسيا عام 1812 وهزمها، ثم اشترك في الحرب بين فرنسا وانجلترا التي اندلعت عام 1815 وانتهت بأن أنزل الإنجليز بقيادة ولنجتون بالفرنسيين هزيمة منكرة في موقعة ووترلو، تم القبض بعدها على نابليون ونفي إلى جزيرة سانت هيلانة.

 علم سيف عام 1819 أن شاه إيران أعلن عن رغبته في الاستعانة بمدربين فرنسيين للجيش فقرر أن يوافق فورا، لكنه تلقي في الوقت ذاته خبرا عن رغبة محمد علي في مدرب عسكري فاختار السفر إلى مصر بتشجيع من كثير من الفرنسيين الذين اشتركوا في حملة نابليون على مصر قبل عشرين عاما. وهكذا كان من حظي التعرف على هذه الشخصية المميزة. وقد طلب منى الاستعداد للمشاركة في الحملة التي ستتوجه إلى عكا والشام فوافقت، لكن الوالدة الحبيبة رحلت فجأة ووقعت أسير الرغبة في السفر إلى فرنسا حيث الوطن الذي يجب أن أكون فيه وحيث الاستقرار والثقافة.. صحيح أن مصر وطني أيضا لكنها لا تزال تبحث عن ملامح جديدة لشخصيتها ولا أظنها تستطيع أن تحقق شيئا ذا بال مع حاكم يميل إلى العنف والحروب الكثيرة شرقا وغربا وجنوبا فيما لا يخص بلاده التي ينكل برجالها بكل السبل. آه.. هل كتب علىّ أن أتمزق بين دينين ووطنين وثقافتين وشعبين وزمنين وحكمين؟!!.. ربما تجيبني الأيام المقبلة.

 

(5)

 كنت يوم 17 يوليو 1831ضمن المدعوين لحضور الغداء الذي أقيم على متن باخرة فرنسية اسمها "الأقصر" راسية في نيل بولاق حضرها إبراهيم باشا والكلونيل سيف.. كانت المرة الأولي التي أعرف فيها أن هناك باخرة قادمة من فرنسا لنقل احدي مسلتي معبد الأقصر بناء على توصية من العالم الأثري شامبليون مكتشف اللغة الهيروغليفية، وفي هذا اليوم دعاني الكلونيل سيف لمرافقة البعثة الهندسية التي ستنقل المسلة كمترجم، حاولت التهرب وكنت قد أوضحت له في مناسبة سابقة رغبتى العودة إلى باريس لأن عمي مريض وكان هذا صحيحا بسبب إدمانه الشديد للخمر إلا أنه قال:

-                     لقد فات الأوان فقد أبلغت الباشا الكبير بأني أرشح للبعثة مترجما إلى العربية والعكس، فقال: أعلم أن هناك مترجما فرنسيا قدم من باريس

قلت له: مهما كانت مهارته فلن يكون مثل جوزيف وهو مصري فرنسي

رحّب الباشا بالفكرة، ولا يجب أن نرجع عنها مهما كانت الظروف.

نكست رأسي ولم أجد كلمة أقولها لرجل أحبه ولا يصح أن أرفض له طلبا

.. أضاف جوزيف أنتيلمي سيف:

-                     لا تنس أنك بعد أن تبقى معهم عدة أشهر ستسافر إلى باريس في الباخرة ذاتها.

كنت أود أن أعود إلى باريس حيث ألتقي بجان جاك روسو في كتبه الرائعة.. " العقد الاجتماعي " و" إميل " و " هيلواز الجديدة " و" الاعترافات " وغيرها وحيث يوجد فولتير ومونتسيكيو ولامرتين.

كانت الباخرة قد تم تنظيفها وتزينت ورست في عرض النهر الكبير.. مضت عشرات المراكب الصغيرة تنقل الضيوف وتشق الماء الرقراق بمجاديفها والمويجات من حولنا ترقص بينما الأيدي تعبر عن سعادتها بالجو الجميل بإنزال أصابعها في الماء والاغتراف منه ثم نثره في الفضاء فتحمله النسمات وسرعان ما يسقط منها كحبات اللؤلؤ الصغيرة.

 على سطح الباخرة اصطف أكثر من مائة ضابط وبحار وجندي فرنسي في صفين طويلين أمام صفين من الأسِرّة المعلقة التي طويت بكل عناية وتخفي وراءها عشرة من المدافع الثقيلة.. كان كل شيء يبدو في موضعه مهندما ومتألقا ومتأهبا لاستقبال إبراهيم باشا الذي أطل في مشية عسكرية تزيد من مهابته، وسرعان ما أطلقت المدفعية ثلاث طلقات تحية للقائد المصري الذي طارت شهرته إلى شرق العالم وغربه..لم يكن طويلا بشكل لافت. هو تقريبا في مثل طولي (175 سم)، لكنه عريض الصدر. مدكوك وقوي.. جذب العيون بشاربه الكث المبروم والمدبب من طرفيه كقوسين يحيطان بالفم.. كان إلى جواره الكلونيل سيف.

 رفع بحارة الباخرة العلمين الفرنسي والمصري وعزفت الموسيقى، وقام الضباط والجنود بتقديم التحية العسكرية للقائد بينما أسرع المدعوون بالوقوف والتصفيق، وتقدم منه المسيو دروفيتى القنصل الفرنسي والمسيو هنرى القبطان والمسيو ريشار كبير المهندسين فرحبوا بهما ورافقاهما إلى المقاعد المخصصة في صدر المائدة الكبيرة العامرة بكل ما لذ وطاب وألقي دروفيتى كلمة.. أوضح فيها أن الملك لويس فيليب شخصيا كلفه بأن يعلن باسمه ونيابة عنه سعادته بهذه المناسبة التي توطد العلاقة بين البلدين والتعبير عن رغبته العميقة في توجيه التحية للباشا الوالي وشكره على كريم تعطفه بالموافقة على منح فرنسا قطعة ثمينة من التراث المصري العريق التي ستزين قلب باريس.

 ألقي إبراهيم باشا كلمة قصيرة عن علاقة البلدين وتمنياته بالتوفيق.. ألقي دروفيتى كلمة مختصرة وبها قدر من خفة الظل ثم قطعها بأن أوضح أن الكلمة في الحقيقة هي للمسيو ريشار كبير المهندسين.. تكلم ريشار عن المشروع منذ كان فكرة وهاهي الفكرة توشك على التحقق وتنفيذها يقتضي مراحل عدة.. توشك أن تنتهي مرحلته الأولي بوصولنا إلى الأقصر والثانية وهي الأصعب وتتمثل في نقل المسلة من قاعدتها ومستقرها الذي قضت فيه واقفة في ثبات وثقة أكثر من ثلاثين قرنا من الزمان، والثالثة عودة الباخرة حاملة تلك الكتلة الحجرية التي تزن نحو ثلاثمائة طن، والرابعة والأخيرة رفع المسلة في ميدان الكونكورد.. صفق الحضور لهذه الكلمة الموجزة المثيرة للخيال الباعثة على الأمل في مستقبل يحفل بالتعاون الجميل والمثمر بين البلدين.

وجه السفير الدعوة للجميع وخاصة الباشا لتناول الطعام، ورفع كل طاقم الباخرة الفرنسيين كؤوس النبيذ تحية لمحمد على والملك شارل والعلم الفرنسي وللحضارة المصرية المرموقة.

 لست أدري ما السر في أني لم أرفع رأسي عن وجه إبراهيم باشا طوال الحفل.. كنت معجبا بانضباطه وعسكريته الفطرية وتركيزه الشديد في مهامه وخططه.تشغلنى في أحيان كثيرة طبيعة القواد العسكريين.. تحجر القلوب والانضباط والانشغال بالجغرافيا وعشق التدمير والجثث.. كلما كان القائد ذا بطش صار بطلا عظيما يستحق الخلود على الأرض وفي جهنم أيضا.

 لقيت إبراهيم باشا ثلاث مرات. لاحظت أنه لا يتكلم كثيرا ولا يبتسم ولا يميل إلى الصداقات المتعددة ولا يحفل بالمتع إلا حرصه على تجرع القليل من الخمر، وقد أكثر في هذا اليوم من ارتشافه ولم يهتم كثيرا بالطعام. أعلم أن كل تفكيره وشروده في المعارك والحروب والخطط العسكرية ومحاولة التفكير في أوامر والده التي لا يستطيع رفضها مهما كانت عجيبة.. يكاد يكون نسخة من كولونيل سيف أو سيف نسخة منه.

 خطف بصري زي جندي ألباني ظهر بدون مقدمات.. تقدم من إبراهيم باشا ومال عليه وهمس بكلمات. أشار له القائد بيده ليغادر. لحظات ثم هب واقفا وانصرف دون بروتوكول معقد..أعرف أن الاستعدادات لحملة الشام تجري على قدم وساق.

 غادرت الباخرة بولاق في احتفالية نهرية مدهشة كأنها مناسبة زفاف عروس إلى أمير.. موكب يتكون من عشرات المراكب الصغيرة التي كانت تركض إلى جوارها وقد بسطت أشرعتها لكنها كانت تسبح ضد التيار، بينما كانت الجماهير تحيى الباخرة وطاقمها بالتهليل والتصفيق والتلويح.. أدهشني أني سمعت النسوة يزغردن وهن بالتأكيد لا يعرفن سر الهيصة.. النساء يشتقن للفرح حتى لو لم تكن هناك مناسبة لذلك، فما علاقتهن بالباخرة المتجهة لانتزاع مسلة من عشها القديم؟.

 بدأنا نتباعد تدريجيا عن بيوت القاهرة المتراصة بكثافة جهة اليسار حتى أهملتها عيوننا فطالعتنا من جهة اليمين أهرامات الجيزة وسقارة ودهشور ثم ميدوم لتظل تلك المعالم تحت أعيننا عدة ساعات ثم نمر بأطفيح والواسطة وبني سويف.. الباخرة تشق طريقها بارتياح وانسيابية في نهر النيل الذي اتسع جدا وبلغ عدة مئات من الأمتار.. الأفق أمامنا مفتوح والنسمات تلاحقنا وتحاول جاهدة أن توفر لنا مناخا بديعا تمنينا أن يدوم عطاؤه الذي تنشرح له الصدور وقد تحققت أمانينا فعلا فاستمر فاتنا ثلاثة أيام إلى أن نلاحظ أن الوادي قد ضاق بسبب اتجاه المجري نحو الجبال الشرقية ولم يعد طريقه مستقيما.

 تتوقف الباخرة في المنيا لزيارة مقابر بنى حسن التي أفاض كتاب " وصف مصر" في مدحها ونكتشف أنها ربما أفضل مما كتبه الفرنسيون عنها، وفي اليوم التالي تحاذي الباخرة " جبل أبو فضة " وهو ممر مائي خطير يشتهر بوجود العديد من الدوامات التي كادت أن تقضي على المراكب الصغيرة الموثوقة بالأم الكبيرة.. اندفعت الباخرة بشكل مفاجئ ومرعب تجاه سفح الجبل الذي يبدأ من ضفة النهر الشرقية فينكسر شراعان للباخرة رغم ما بذله القبطان والبحارة للسيطرة عليها، وقد تطلب ذلك استخدام الحبال والخطاطيف لمحاولة كبح اندفاعها المجنون للارتطام بالجبل وقد صرخ الجميع وكتموا أنفاسهم من شدة الفزع وخشية سوء العواقب، لكن الله سلم.

 طلبنا من القبطان بعد هذه المنحة الإلهية أن نأخذ راحة ونضمد الجراح التي سببتها للباخرة تلك الدوامات العنيفة التي انشق البحر عنها ولا أظن ذلك دليل غضب. صعدت نظراتنا تمسح الجبال التي كانت تثقبها المقابر في مواضع عديدة حيث يدفن الموتى وحيث يتخذها المطاريد مقرا لهم وملاذا من بطش السلطة كما قال جندي مصري مرافق لنا كلفه معاونو إبراهيم باشا باصطحابنا مع مصري آخر وأربعة من الجنود الأتراك للحماية والإرشاد وتذليل العقبات.

 إذا كان ما بالنهر من مياه أقل من نصفه فقد كان اعتماد الباخرة الأساسي على الرياح التي تدفعنا نحو الجنوب بعد أن تجمعها الأشرعة، لكن الرياح لم تحضر ومن ثم تأثرت حساباتنا التي أكدت أن يالإمكان بلوغ الأقصر خلال أسبوع، ولذلك اضطررنا للتوقف في دندرة بعد أن سارت الباخرة ببطء شديد لعدة كيلومترات تجاوزت خلالها عددا من المنحنيات، فقد نصحنا أحد المصريين:

-                     لا داعي للتوقف.. يُفضل السير بروية حتى الوصول إلى دندرة ففيها ما يمكن أن تتسلون به.

صدق الرجل.. فقد شاهدنا بالقرب من الشاطئ معبد دندرة الرائع المدفون نصفه في الرمال.. معبد سليم الأعمدة والجدران والسقف لولا السناج الأسود المطلي به السقف في مواضع عديدة.. أما الرسوم فقد بدت فاتنة وطازجة بألوانها النابضة والناصعة كأن فنانوها انتهوا منها فقط منذ أيام.

لم تأت الرياح في اليوم التالي فقمنا برحلة صيد الأرانب وطيور الحجل التي نبهنا إليها المصري الثاني..طوال رحلتنا في الصحراء والحقول جذبت أذني المواويل التي يرددها المصريون حتى لو البطون جائعة والقلوب تكاد تنفطر حزنا على عزيز أو على زرعة راحت.. بدأت المواويل منذ خرجنا من بولاق. كانت تصلنا من الضفتين تشكى الزمن أو النصيب أو الحبيب أو الحظ والمكتوب.. عدنا نستمتع ونتأمل المعبد الذي تتجلي فيه الأبراج وجداول المواقيت وحركة الشمس والقمر.. عمل حضاري بديع أذهلنا جميعا مما دفع أحد البحارة ليقول:

-                     يبدو أن هناك مخلوقات هبطت من السماء وبنت هذه الأعمدة ورسمت هذه الرسوم فلم تكن لدي البشر قبل آلاف السنين القدرة الهندسية والعلمية والفنية التي تمكنهم من أداء مثل هذا العمل وغيره مما كتب عنه علماء الآثار الذين حضروا مع الحملة.

كنت مع القبطان وعدد من الضباط عندما لاحظنا معا بالقرب من الضفة الشرقية تمساحا ضخما نصفه فوق الماء. بهرني لونه البترولي المختلط بالبنى والأخضر الفاتح والأصفر.. أسرع القبطان بإطلاق النار عليه ولما رآه الطبيب روجيه يتخبط بشراسة ويتقلب من تأثير الرصاصات في جسمه كلف المركب الكبيرة بسرعة التوجه إليه وسحبه بصحبة بعض البحارة الأشداء الذين حملوا معهم الحبال. عندما دنوا منه وجدوه قد ازداد عنفا وأخذ يحاول مثل حيوان أعمي توجيه ضرباته وأنيابه ناحية ما يتصور أنه يهاجمه ولذلك احتاج بحاران إلى طعنه عدة طعنات بسناكي البنادق حتى هدأ نسبيا ثم ألقوا عقدة الحبل علي خطمه وسحبوه وهو لا يزال يتخبط مثل سكير عربيد تلقي ضربة في فكه من خصم قديم مشحون بالحقد عليه.

 احتاج رفع التمساح الجميل الضخم إلى رجال آخرين كي يرفعوه إلى الباخرة. قال بعضهم إنه يزن نصف طن على الأقل ما دام رفعه اقتضي مشاركة ثمانية رجال.. تمدد الكائن الذي حرصت على النظر إليه بعيدا عن قوته وشراسته وأدهشتنى النظافة الفائقة التي يتميز بها فمه وحلقه ومنطقة العمليات المعنية بالتقطيع والتمزيق والبلع.. لحم وردي اللون وأنياب بيضاء مسنونة وفك ضخم وذيل نشيط جدا ظل لساعات يتحرك بعد أن تفرغ رئيس الأطباء وأربعة من أكفأ مساعديه لسلخه وتجهيزه للحفظ وقد تطلب هذا العمل الشاق يومين حتى يمكن الحفاظ عليه وتسليمه للهيئة البحرية في أول ميناء فرنسي ربما يكون طولون. ظل التمساح يطفو على سطح خيالي حتى بعد أن اختفى عن العيون. لقد عاش عمره دون أن يتعرض للأذى على أي نحو فنما وكبر وتوحش ولعله ابتلع العديد من البشر وهيمن على النهر الكبير وتحكم في كل ما فيه من كائنات، ولم يخطر بباله قط أن الضربة ستأتيه من غرباء قدموا من بلاد تبعد آلاف الكيلومترات ليلقى على أياديهم حتفه.

 قبل أن نصل إلى الأقصر بنحو عشرين كيلو عند انحناءة النهر هجمت علينا رياح معاكسة قادمة من الجنوب على غير العادة، ولم تكن بالباخرة خطاطيف فقد فقدت في عديد من المناسبات وتهرأت حبال وتمزقت الأشرعة وتهشمت المراكب الصغيرة وأصبحت الباخرة مجرد تل ضخم من الخشب يستقر كجزيرة في عرض النهر.. اضطررنا للانتظار عدة ساعات من الصباح إلى الظهيرة دون أن تتوقف الرياح المعاكسة، إلى أن دنا منى المصري الثاني واسمه آدم.. قمحي اللون مفتول العضلات.. سألني:

-                     هل تقبلون أن أذهب لدعوة عدد من الرجال لجر الباخرة بالحبال؟

قلت له: شكرا. فكرة طيبة ولكن أين الحبال؟

قال: هم يحضرونها

ابتسمت، ولم أقل له ما أفكر فيه فهم لا يجدون اللقيمات التي سيتناولونها في الغداء

سألت القبطان عن فكرة المصري.. فقال:
- لا مانع

قلت لآدم:

- وافق القبطان

أسرع يركض ناحية سور الباخرة ثم قفز في الماء. شملتنا الدهشة.. تابعناه وهو يسبح بنعومة وسرعة غريبتين حتى بلغ الشاطئ ثم اختفي بين الأشجار

.. بعد ساعتين عاد ومعه نحو مائة رجل كلهم حفاة ومهترئو الملابس.. صدورهم مفتوحة وضلوعهم يمكن عدها وشفاههم بيضاء من الحر والظمأ يحمل بعضهم كومة من الحبال.. ربطوها في قاعدة حديدية كبيرة في مقدمة الباخرة واصطفوا على طول الحبال وجروها بعرض النيل نحو الضفة الشرقية وصعدوا إلى الضفة وبدأوا سحب الباخرة التي تشبه جثة حوت ميت.. انحنى الرجال وانغرست ألياف الحبال الخشنة في جلودهم التي لا يفصلها عن هياكلهم العظمية أية كتل من لحم.. كانوا يغنون ذلك الغناء الإيقاعي الهادئ الذي يعينهم على العمل وعلى احتمال الشقاء الدائم.. سأل بعض البحارة آدم عن المجاري الحمراء العريضة التي تقسم ظهور الفلاحين..قال آدم:

-                     إنها سياط السلطة التي تجلدهم باستمرار

سأله البحار: لماذا تجلدهم؟

قال آدم: لأسباب كثيرة ومتنوعة.. كل يوم هناك سبب جديد لا يخطر على البال.. الباشا لديه كل يوم مشروعات جديدة تحتاج إلى أن يجلد بسببها الفلاحين، ومن يفكر في رفض الجلد ليس عليه إلا أن يهرب وعندئذ عليه أيضا أن يثق أن الجنود إذا قبضوا عليه فسوف يذوق العذاب مضاعفا وفي الغالب سيحين أجله، لذلك ففي أغلب الأحوال لا يفكر الكثيرون في الهرب.

 واصل الفلاحون الجر والغناء رغم العرق الذي يسيل في مجاري ظهورهم المحنية ولا يملكون مع هذا الوضع إلا النظر إلى الأرض.. بينما الجنود الأتراك الذين اصطحبوهم من حكمدارية قنا يواصلون جلدهم كي لا يفكرون في الراحة ولكي يستمروا في الجر بهمة زائدة.. كنا فوق السفينة ننظر إليهم وقد تحطمت قلوبنا تماما وتجمدت الدموع في بعض المآقي.. ليس من البشر على أي أرض القدرة على احتمال مثل هذا العذاب.

 بلغنا الأقصر عند منتصف الليل وأسرع الرجال يسقطون في مياه النيل الباردة.. يجففون العرق ويطفئون النيران التي تكوي جلودهم و ويُهدؤون من آلام السياط ويطفئون لهيب الظمأ.. ظلوا في الماء أكثر من ساعة بينما كنا قد نزلنا إلى المرسي نتلفت حولنا.. كان البحارة يقومون بترتيب بعض الأوضاع اللازمة للنوم فالكل مجهد إلى حدود غير مسبوقة والظلام هو سيد الزمان والمكان.

 أخيرا سلم بول المسئول المالي للبعثة الفرنسية مبلغا كبيرا من المال للمسئولين الأتراك الذين حضروا منذ ساعتين من مديرية قنا وسلموا بالتالي للفلاحين أجورهم.. حصل كل فلاح على نصف جنيه في حين كان ما دفعته البعثة جنيها لكل فلاح. عرف الفلاحون الخدعة والاحتيال، فلم يقولوا شيئا ورفعوا القروش إلى أفواههم وقبلوها ثم رفعوها إلى جباههم وعادوا يقبلونها ويحمدون الله على النعمة، ثم تمددوا على الأرض وما لبثوا أن غرقوا في بحر من الغطيط العالي الذي تفوق على نقيق كل الضفادع حتى الصباح.

 

(6)

 أرسل إلىّ الكلونيل سيف من يبلغني بأنه رشحني لمرافقة جان فرانسوا شامبليون كمترجم أثناء زيارته لمصر في أغسطس 1828، أسعدني الخبر فأنا لا أخفي إعجابي بشامبليون كلما ورد ذكره في حديث يجمعني مع مصري أو فرنسي. وقد تلقيت خطابا رسميا من محمد الدفتردار سكرتير محمد على ومثله من القنصل العام بإفادتي بأني المرشح الوحيد كمترجم لمرافقة شامبليون، مع العلم أنه سيصل أولا إلى الإسكندرية ويبقي فيها يومين.

 جاء شامبليون ذو العود الرشيق والوسامة والشعر الناعم على رأس بعثة فرنسية توسكانية ومعه صديقه الإيطالي روسيلينى..في أول لقاء بعد أن تعارفنا واستمع إلى جانب مختصر عن حياتي قال بعد أن تنفس بعمق:

-                     أخيرا تطأ قدمي البلد التي استهوتني منذ صغري وكانت صاحبة الفضل الأول فيما تحقق من مجد لها ولي ولفرنسا

سألته:

-                     هل جئت لتزورها وتكتشف عن قرب ملامح هذه الحبيبة؟

قال وعلى شفتيه تختلج ابتسامة ظهرت آثارها في عينيه:

-                     هذا التعبير دقيق وصادق.. يقترب كثيرا مما عزمت عليه وهو أن أتأكد من صحة ما توصلت إليه على الطبيعة، كما أنني أخطط لزيارة بعض الآثار.

 زار شامبليون المسلتين الموجودتين في مدينة الإسكندرية القديمة التي بدا أنها أهملت تماما.. كان علينا للوصول إلى المسلتين أن نركب الحمير.. تصعد بنا وتهبط فوق كثبان رملية وتلالا مكونة من بقايا الأبنية اليونانية والرومانية وقد طلعت علينا الكثير من الكلاب المشردة التي بدا جليا في نباحها المتشقق مدي ما تعانيه من وحشة وكآبة وجوع في هذه المناطق المهجورة.. يفحص شامبليون المسلتين لكن معالم وجهه تنضح بعدم رضاه عنهما.

 في اليوم التالي نعود إلى القاهرة لنلتقي فور وصولنا بالوالي محمد علي وكنت ألتقيه لأول مرة..حاولت أن أركز نظراتي على عينيه فالعيون مرآة صاحبها لكن الباشا لم تكن له نظرات واحدة، فربما ظهرت نظرات حنان لتعقبها مباشرة نظرات نمر غاضب، وما تلبث أن تظهر فيهما نظرات خامدة تدل على الملل والرغبة في انتهاء اللقاء.. تحدث شامبليون عن أهمية الآثار المصرية وإنها خلال سنوات ستحول مصر إلى أهم دولة في العالم، لكنني لاحظت أن الباشا غير معنى بهذا الحديث إلى درجة أنه كان يسأل العالم الفرنسي عن الملك شارل مثلا أو عن مدي استعداد الحكومة الفرنسية للتعاون، وقال في نهاية الحديث:

-                     حدد ما يعجبك من الأحجار وسوف أنقلها لك إلى باريس. المهم أن تؤكد عليهم سرعة إرسال الأخشاب المطلوبة لبناء السفن

قال شامبليون:

-                     سيدي الوالي أرجوك لا تفرّط في الآثار أبدا مهما كانت حاجتك إلى المال

-                     أتري هذا حقا؟

-                     بل أري أن تصدر مرسوما لمنع حصول أحد على أية قطعة في حجم قطة

-                     لك هذا.. المهم لا تنس أن تؤكد على أهمية الخشب

كان شامبليون قد لفت إليه كل الأنظار بسبب اكتشافه رموز اللغة الهيروغليفية.. هذا يعنى بكل بساطة إماطة اللثام عن كل ما يخص الآثار المصرية التي من المؤكد ستظهر أنهم كانوا شعبا ذا حضارة، ولابد من أن يعرف العالم على وجه الدقة حقيقة هذه الحضارة التي تدل آثارها المعمارية في الأساس وقبل معرفة معنى الكلمات على تقدم علمي وهندسي لافت.

 كنت قد علمت قبل حضوره أنه اكتشف تلك الرموز بعد تحليله للكتابات المحفورة على حجر رشيد بثلاث لغات هي الهيروغليفية أي الكتابة المقدسة وهي مخصصة للمعابد و الملوك، واللغة الديموطيقية وهي الكتابة الشعبية أو العامية.. لغة الناس البسطاء، ثم اللغة اليونانية، وقام شامبليون بعمل مقارنات بين اللغات الثلاث المعبرة عن نص واحد، وقد كان يجيد اللغة اليونانية واللاتينية حتى أنه ألف وهو ما يزال في السابعة عشرة من عمره كتابا بعنوان " الأصول القبطية لأسماء الأماكن المصرية في أعمال المؤلفين اليونان واللاتين " كما أصدر كتابا بعنوان " معجم اللغة القبطية ".

 انتهي اللقاء وسافرنا إلى الأقصر وما أن وقعت عيناه على مسلتي معبد الأقصر حتى صرخ وعانقهما واحدة بعد الأخرى وتنفس بملء رئتيه.. رجع إلى الخلف لتحتوي عيناه المشهد بكامله وقال:

-                     قصر هائل تتقدمه مسلتان ترتفع كل منهما حوالي 80 قدما، وكل منهما قطعة واحدة من حجر الجرانيت الوردي أقيمتا بشكل رائع ويصاحبهما أربعة تماثيل ضخمة من الحجر ذاته طول كل منها ثلاثين قدما تقريبا، حيث إنها مدفونة حتى صدرها وكلها في عهد رمسيس الأكبر.

رأيته يقيس طول وعرض الضلعين الغربي والشمالي للمسلة التي على يمين البوابة أكثر من مرة لأن الضلعين الجنوبي والشرقي محاصرين بالمنازل، وكان الضلع الجنوبي والغربي للمسلة التي على يسار البوابة محاطا أيضا بالمنازل.. مضي يقرأ المكتوب ويمرر أصابعه على الكتلتين عدة مرات

سألته متخابثا:

-                     هل هناك نية لعمل مسلة مثلها في فرنسا؟

كان شاردا لكنه سمعني وأجاب بعد لحظات قليلة:

-                     هناك اتفاق بين الباشا والملك شارل على نقل المسلتين إلى باريس

ارتبكت.. كان ما ذكره غريبا.. لقد قال للباشا أمامي لا تفرط أبدا في أثر ولو كان في حجم قطة.. أي تناقض هذا؟!.. ليس من حقي التدخل لكن من حقي أن أفهم.. النفس البشرية فعلا معقدة.. أحيانا يرفع صاحبها عقيرته بالدعوة لشيء ويفخر بأنه أول من نادى به ويناضل من أجل تنفيذه وفي الوقت ذاته قد يقع فريسة الطمع في لحظة معينة وينسي تماما ما أعلنه مدويا يوما ما.هل يمكن أن تكون المبادئ قشرية أو أقنعة أو أزياء نلبسها يوما ونخلعها في يوم آخر.. لم أشعر بالغضب ولكن بالدهشة فالمسألة بالنسبة لي بالذات واحدة فانتقال المسلتين من وطنى الأول إلى وطني الثاني أو العكس لا تضرني في شيء.. نحيت الفكرة جانبا وفكرت في الوسيلة.. وزن المسلة الواحدة ليس أقل من مائتي طن.. سألته:

-                     وكيف يتم النقل خاصة أن المسلة ثقيلة جدا؟

قال:

-                     لا يقل وزن الواحدة عن ثلاثمائة طن

-                     إذن سيتم تقطيعها إلى أجزاء

-                     ليس شرطا.. يمكن أن تنقل على حالتها.. المهم التأكد من أنها سليمة

قرأ بصوت مسموع المكتوب على احدي المسلات وترجمه فورا إلى الفرنسية:

" إن سيد العالم.. الشمس التي تحمى الحق (العدالة) مؤيدا برع، قد قام بتشييد هذا المبنى على شرف أبيه آمون رع، وأقام له هاتين المسلتين الكبيرتين من الحجر أمام الرامسيوم الخاص بمدينة آمون "

ثم قال شامبليون واصفا الرسم المحفور على المسلة التي إلى اليمين من البوابة:

-                     هاهو آمون رع إله طيبة يجلس على عرشه وتزين تصفيفة شعره ريشتان طويلتان وهو يمسك بيده صولجانه المعتاد، أما يده اليسرى فيمسك بها رمز الحياة الإلهية، ويجلس أمامه رمسيس الثاني راكعا ورأسه تزينها تصفيفة شعر الإله بتاح- سوكاريس، يعلوها القرص المجنح وهو يقدم للإله آمون رع قربانا من آنيتين من النبيذ "

يعود شامبليون ليتأمل المسلتين ويقول:

-                     مسلتان فريدتان من حيث جمال المادة وكبر النسب وثراء النقوش التي تغطيهما بالإضافة إلى جوانبهما المصقولة والأهم حالة حفظهما الرائعة فليس فيهما خدش بسيط بأظفر طفل

يميل شامبليون على صديقه روسيلينى وعلى مرافقه الفرنسي شارل لونورمون ويدس ساعده تحت ساعد الإيطالي وساعد تحت ذراع شارل، ثم يحنى عوده ويعود فيقيمه مرتين ويجرهما معه قائلا

-                     إنه لشرف قومي لفرنسا أن تحصل على احدي المسلتين، وأظن أن أي وزير سيخلد اسمه إذا أقدم على هذه الخطوة وزين باريس بهذه التحفة.

يسحب الإيطالي ذراعه من ساعد شامبليون قائلا:

-                      أسرع قبل أن تخطفها الإنجليز منك كما خطفت حجر رشيد

يلتفت شامبليون إلى لورمون ويقول:

-                      إن وضع مسلات الأقصر تحت أعين الفرنسيين سوف يدفع إلى الارتقاء بأذواقهم

يعلق صديقه الفرنسي:

-                     الشعب الفرنسي ليس معتادا إلا على رؤية زخارف الصالونات

يقول شامبليون وهو يمط شفتيه:

-                      الأجنبي الذي يزور باريس لا يجد فيها أي أثر يدل على أننا قمنا بحملة مدهشة على مصر

بدأت ملامح شامبليون منذ تلك اللحظات تأخذ شكلا آخر وقد كان طوال الأيام الماضية ذا وجه شاحب،إلا أن هذا الوجه ذاته أصبح ورديا، والشرود والصمت الغامض اللذان اكتست بهما ملامحه وحركاته طوال الوقت صارتا وضوحا وابتساما وكلاما بل ورقصا.

 عدنا إلى القاهرة وجلسنا في شرفة الفندق ليلة سفره.. كوكبة من الأصدقاء الفرنسيين بالسفارة وأعضاء البعثة الأثرية التوسكانية.. بعد أن ارتشفنا الكثير من كؤوس الخمر، سأله سكرتير السفارة عن رأيه في محمد على.. كان قد قابله في الصباح مرة ثانية وأكد عليه أهمية إصدار مرسوم يجرم من يمس قطعة أثرية. قال شامبليون بعد أن أكمل اللحن الذي يردده:

-                     الباشا رجل صادق مع نفسه. له هدف واضح لا يحيد عنه وهو أن يستولي على أكبر قدر يستطيع الاستيلاء عليه من أموال المصريين المساكين، ولما اكتشف أن مصر في الحقيقة بقرة دأب على حلبها وإنهاكها من الصباح إلى المساء انتظارا لذبحها وهو يتأهب لذلك. أما لونورمون فقد قال:

-                     لقد قام محمد على بإحراق الأروقة والمعابد والفنون الجميلة على مذابح الصناعة، وإذا أراد أن يبني مصنعا لا يترك المقاول يحضر الحجر من الجبل ويسمح له أن يأخذ الآثار القريبة لأنها أسهل وأرخص.

 تساءلت بيني وبين نفسي: إذا كان محمد على بهذه الصفات الأنانية كيف يستقيم أن يتمتع بالوفاء لأهله إلى درجة أن يُسَمّي ولده الأول على اسم أبيه إبراهيم أغا، الذي مات وهو في الرابعة حتى أنه لم يعرفه وكفله عمه طوسون وقد مات وهو في الرابعة عشرة فسمى ابنه الثاني على اسمه، ولما رحل تكفل برعايته إسماعيل صَدَيق والده وحاكم قوله فسَمّى محمد على ولده الثالث باسمه؟.. هل صفات الإنسان تتغير كثيرا حسب المواقف أم هي ثابتة أو شبه ثابتة؟!!.. المرء يأتي للحياة فقط ليتعلم، ويتعلم دائما حتى رغم أنفه.

 

(7)

 في نحو الثامنة صباحا نهض الجميع من النوم دفعة واحدة كأن هناك موعدا تذكروه فجأة..خرجوا إلى النهار يتطلعون إلى السماء والنهر الذي بدا ممتدا بلا نهاية.. تلفتوا إلى الضفاف الغربية البعيدة وإلى أنفسهم وإلى الباخرة ليتأكدوا أن كل شيء في موضعه وليست هناك خسائر تذكر ولم تتحرك الباخرة ولم تصعد إليها التماسيح ولا دخلها الماء ولا تسللت إليها الماعز. ابتسم البعض كأنه يعرف ما يدور في الرؤوس الأخرى وضحك البعض وتعجب الباقون، لكنهم لسبب ما تحولوا إلى الضفة الشرقية التي يطل عليها معبد الأقصر وتلتصق بمرساها الباخرة فاستولت على الكل دهشة لطيفة دفعتهم للابتسام الطويل والرضا بالمشهد الإنساني الذي ربما لم يقابلوه في حياتهم.

 كانت الضفة الشرقية عامرة بالرجال ذوي الجلابيب الثقيلة الغامقة وعلى رؤوسهم الطواقي الوبر ووجوههم تبدو صلدة ومحددة المعالم وفي الأغلب لا أثر للحم في الوجوه بل جلود تغطي العظام الناتئة..كانت النسوة يلبسن السواد ويغطين الوجوه إلا قليلا.أما الأطفال فكانوا يرتدون جلابيب خفيفة على اللحم والصغار نصف عرايا، والكل لوحته الشمس. عدد كبير من البشر من كل الأعمار يحدقون في البحارة الذين كانت صدورهم لا تزال عارية وستظل. اضطرت النسوة أن يسترن عيونهن ويتوارين خلف الرجال دون أن تغادر منهن واحدة.. كانوا يتأملون الباخرة الكبيرة و ركابها من الغرباء الشقر ذوي الشعور الصفراء وكلهم تقريبا من الشباب.. الكل ينظر إلى الكل في مشهد ثابت دام دقائق إلى أن ضحك الفرنسيون فضحك بدرجة أقل سكان الأقصر المجتمعون لمشاهدة الضيوف منذ شروق الشمس تشغل خواطرهم الحيرة والدهشة والأسئلة.. كانوا لاشك هنا منذ استيقظوا أي قبل ساعتين على الأقل.. لابد أنهم ظلوا طوال الوقت يتساءلون عن سر حضور هذه الباخرة التي تشبه مسجدا كبيرا، ولماذا حضر هذا العدد من الغرباء وهم بالقطع ليسوا من الأتراك، ولا يبدو عليهم جاءوا لجمع الشباب للعمل بالسخرة في حفر الترع أو إقامة الجسور، ولا تدل ملامحهم على أنهم أتوا لحمل الرجال إلى الحرب.. هكذا ظلت الأسئلة بلا إجابة.. على أن ثمة حالة من الاطمئنان كانت مستقرة في القلوب دون أن يهتدوا إلى السبب..

 بعد دقائق شعرت النسوة والبنات بقدر غير قليل من الخجل فشرعن في الدوران والعودة إلى بيوتهن بينما رفض الأطفال دعوة الأمهات للعودة إلى المنازل لاستكمال النوم أو لتناول طعام الإفطار المكون في العادة من الجبن القديم والخبز الجاف وبعض العيدان من الخضرة التي تنمو وحدها على حواف الترع والقنوات الظمأى.

 دنا منى المسيو ريشار كبير المهندسين الذي يتميز بطول فارع وأنف معقوف.. طلب أن أسألهم إذا كانوا يوافقون على العمل.. سألتهم، فلم أتلق إجابة لمدة دقيقة تقريبا.. تبادلوا النظرات ثم انفتحت الأفواه وخرجت الإجابة عالية تقول: نعم

قال ريشار:

-                     قل لهم.. العمل سيبدأ في السابعة صباحا

أخبرتهم بالموعد، فتحرك الرجال تأهبا للمغادرة.. سأل أحد الفتيان:

-                     هل نحن أيضا يمكن أن نعمل؟

سألت المهندس، فقال:

-                     الكل ممن تجاوزوا الثالثة عشرة وحتى الخمسين.. المهم الجسم السليم.

هلل الأولاد واستدار الجميع ليعودوا من حيث جاءوا خلال لحظات.. وقفت أتطلع إليهم..عندما تلفت شاب منهم وألقى نظرة أخيرة علينا أشرت إليه بالرجوع..أسرع نحوي عشرة فسألتهم:

-                     هل يوجد هنا مخبز؟

قالوا في صوت واحد: لا

سألت: هل توجد محلات نشتري منها البقالة؟

قالوا: نعم

سألت: هل يوجد جزار؟

قالوا: نعم

شكرتهم، لكنى أدركت أن على ّ التجول في القرية

لمعرفة ما الذي يمكن أن تمدنا به

 اغتسل الجميع وتناولوا إفطارهم المتاح من الجبن والبيض والزيتون والمربي والزبد والخبز الفرنسي.. تناولنا الشاي ثم انشغلنا في نقل الأسِرّة وأدوات الطهي والعدد والآلات الهندسية والميكانيكية، وكذلك الأخشاب وقد كان معنا ما يعادل مائة متر مكعب على شكل ألواح.. كما كان معنا عشرين مترا من الصاج السميك ومئونة من الطعام تكفينا أسبوعا دون لحم. كان شامبليون قد طلب من كبير المهندسين وبول المشرف الإداري والمالي أن يحملا معهما كل ما يلزم فليس في الأقصر غير الفلاحين.

 قلت لريشار والقبطان:

-                     عليكما مقابلة العمدة وإبلاغه بوصول البعثة فهذا حقه

قال ريشار: قابله أنت وأبلغه.. أنت تمثلنا

أخذت نسخة من موافقة الباشا وخطاب الحكومة الفرنسية.. طلبت من فيكتور المهندس المساعد لريشار والمشرف المالي أن يرافقاني في جولة تبدأ بزيارة العمدة الحاج زهران الحجاجي.. سألت عن بيته وطلبنا لقاءه.. رحّب بنا الرجل..أبلغته بوصول البعثة الفرنسية وأوضحت له مهمتها وعددها ومدة إقامتها التي لن تتجاوز أربعة أشهر.. قدمت له الأوراق.. سألني عن المكتوب فيها..أوضحت له كل شيء وأضفت:

-                     قد نحتاج إليك في تذليل بعض العقبات وتوفير بعض الخدمات

تلفت حواليه ثم قال بتوجس قليل كأنه مدين لا يستطيع سداد دينه:

-                     عقبات؟!!.. خدمات!!

-                     مثلا لابد من إزالة بعض المنازل كي نقيم طريقا من المسلة إلى النيل

فزع وعاد يتلفت حواليه، وقال مندهشا وبحروف ممتدة فاتحا فمه أكثر من اللازم كأننا سنمحو الأقصر من الوجود:

-                     إزالة المنازل؟!!!!

-                     نحن مستعدون للتعويض

فجأة ابتسم وقال:

-                     مادام فيه تعويض فلا مشاكل

-                     أردنا أن يكون لديك علم بكل شيء

-                     عدّاكم العيب.. هذه هي الأصول.. كلنا تحت أمركم

وقفنا وشكرناه فقال:

-                     لا يمكن أن تتحركوا إلا بعد الغداء

-                     شكرا.. علينا أن نتفق على توفير طلبات المعيشة

-                     إذا احتجتم لأي شيء رقبتنا سدادة

-                     شكرا

بعد أن خرجنا قال بول المشرف المالي:

-                     كان علينا أن نطلب مساعدته في تزويدنا بالخبز واللحم وبقية الطلبات

قلت: سوف نسأل بأنفسنا أولا

-                     أقصد أن نترك له العملية بكاملها

-                     هل ستكلف العمدة أن يوفر لك كل شيء وعلى هواه؟

-                     يبدو بلا عمل

-                     لكنه عمدة

 سألت مجددا عن مخبز فتأكد عدم وجوده.. سرنا حتى بلغنا آخر مبنى في القرية ثم لمحنا مبنى يشبه المصنع الصغير وفي أعلاه مدخنة.. تبدو بلا صوت أو حركة ولا يصعد من فوهة المدخنة دخان. اقتربنا من المبنى. كان الباب مغلقا غلقا شكليا بدوائر من السلك. توقفت وتأملت المكان.. تصورت أن هذا المبنى يمكن أن يكون طاحونة.. تنبهت أن عددا من الصبية يتبعنا..سألتهم:

-                     هل هذه طاحونة؟

قالوا معا: نعم

سألت: هل تعمل؟

-                     كانت

-                     ومن صاحبها؟

-                     المقدس يعقوب

-                     وأين هو؟

-                     سافر ليحضر المهندس

فكرت في مشكلة الخبز. كل شيء يمكن الحصول عليه إلا الخبز.. سألت فيكتور:

-                     هل يمكن أن تلقي عليها نظرة؟

مط فيكتور شفتيه.. لويت السلك حتى أخرجته تماما من مقبضيّ الباب.. تقدم منها ودار حولها.. فحص عددا من القطع

والأذرع.. ثم قال:

-                     لابد من مفتاحها كي نطمئن على الدورة الميكانيكية

سألته:

-                     ألا توجد وسيلة لإدارتها؟

-                     العِدد في المركب

-                     ليتنا نستطيع تشغيلها

وقف الصبية حولنا يتفرجون ويحاولون فهم لغتنا، لكنهم أدركوا أني أتكلم العربية.. اقتحم صمت المكان طرقات وصوت نسائي فاستدرنا.. كانت فارسة فوق حصان.. شابة خمرية اللون ذات عينين واسعتين خضراوين ترتدي عباءة نسائية زرقاء مطرزة بخيوط الذهب وعلى شعرها الطويل شال من الحرير الكناري تتوزع عليه رسوم لريش طاووس صفراء وزرقاء.. سألت في شبه حدة:

-                     من أنتم؟

قلت:

-                     البعثة الفرنسية القادمة لفحص المسلات والآثار

سألت:

-                     أليس لكل بيت حرمة ولكل مكان صاحب؟

-                     عرفنا من الأولاد أن الطاحونة عاطلة ونحن بحاجة إلى الخبز لإطعام مائة شخص

قالت بصوت ينضح بالثقة والشخصية المهيبة حتى خلتها سلطانة:

-                     ما كان يجب الدخول قبل الاستئذان

شعرت بقليل من التوتر.. قلت وأنا أحاول ألا أقع في الخطأ:

-                     قال الأولاد أن صاحب الطاحونة سافر لإحضار من يصلحها

-                     كان يجب عليكم الانتظار

-                     وماذا يأكل البحارة والمهندسون والعمال؟

-                     ليس المهم طعامهم. المهم حقوق الناس

استدارت فجأة وخطفت من عيوني الوجه البديع.. مضت الفرسة الشهباء تحتها متجهة صوب البوابة تتراقص باعتزاز ودلال كأنها فهمت ما صدر عن الفارسة المتوهجة وما جري لنا.. الفرسة الشهباء عالية الأرداف

تواصل نقش الصمت بطرقاتها التي تخدش آذاننا وتكاد تمشي فوق ضلوعنا..انكشف ذنبي بجلاء..ما كان يجب أن أفتح الباب. أصابت الفتاة وأخطأت.. لم يخرجني من الموقف الحرج إلا قول الأولاد:

-                     الفرنساوي يتكلم عربي.. الفرنساوي يتكلم عربي..

مضوا يلحنوها ويرددونها، ثم ركضوا وهم يغنون أغنية انتشرت بعد ذلك عن الفرنسي الذي يتكلم العربية وقد أضاف إليها البعض كلمات جديدة، وسرعان ما انضم إليهم عشرات الأولاد الذين خرجوا من الكتاب، وفي أعناقهم تتعلق لوحاتهم السوداء في المخالي الخيش، ووراءهم شيخهم معلم القرآن والحديث والتجويد واللغة العربية وفي يده عصاه التي يضرب بها من يعجز عن الحفظ أو لا يحسن التلاوة، كما أنه فيما يبدو يتوكأ عليها وله فيها مآرب أخري.

وأنا في طريق العودة سألت البقال العجوز عمن يمكنه أن يحضر لنا التموين فقال:

-                     ليس غير مرقص

-                     أين أجده؟

-                     تجده الآن في محله قبل معبد الكرنك ببيتين

تذكرت اللحم، فسألته عن جزار.. قال:

-                     الجزار هو سليمان راعي الغنم ويفتح محله كل جمعة

-                     وأين محله؟

-                     المغلق هناك في نهاية الشارع

-                     وبيته

-                     بجوار الطاحونة

-                     هل أجده الآن؟

-                     اليوم هو الخميس وسوف تجده غدا قبل صلاة الجمعة في بيته

مضيت إلي مرقص وسلمته كشفا بمطالبنا الأسبوعية من الحبوب والسكر والأرز والبطاطس والطماطم والجبن والشاي والبن والخُضر والتبغ والماء.. قال مرقص صاحب الأذنين الكبيرين:

-                     لا حل إلا غلي ماء النيل، فهو صالح للطهي والشرب

في اليوم التالي اتفقت مع سليمان على تزويدنا بعشرين كيلو لحم بقري يوميا لمدة عشرين يوما وخمسة أيام للدواجن بمعدل عشرين دجاجة يوميا.. رحب وحذرته من التأخير.. أخبرته أنه سوف يحصل على الثمن بعد التوريد..تغير لون وجهه..قلت:

-                     لن ندفع ثمن لحم اليوم إلا بعد أن تحضر لحم الغد بحيث يكون لك دائما علينا ثمن لحم يوم واحد لم يسدد.

فهم وقبل شرطنا، لكنه سأل:

-                     وماذا ستأكلون في الأيام الخمسة المتبقية؟

-                     أسماك

-                     لا علاقة لي بها

سألته عن اللبن.. فقال:

-                     عندي.. ما الكمية؟

-                     ثلاثون كيلو يوميا

-                     ستكون عندكم

وفقت في العثور على صياد لديه زورق باستطاعته أن يزودنا بعشرين كيلو سمك كل أسبوع وهي لا تكفي.. بحثت عن صياد ثان يزودنا بالكمية ذاتها وقد عثرت عليه في اليوم التالي، وهكذا أعددت القاعدة الأساسية للتموين بحيث يجد كل أعضاء البعثة الفرنسية كافة متطلباتهم.

أدهشني وجود وزة بيضاء كبيرة وجدها العمال على سطح الباخرة تجري و تنادي على أخواتها الغائبين وربما أولادها.. أحضر لها فلاح البرسيم والخس ووعد بأن يوفر لها متطلباتها، وهو من أخبرني أن بَركة شقيق "جزيرة " هو الذي أحضرها وقال إنها هدية.

تولي وجهي نيابة عنى التعبير عن عدم فهمي.. قال:

-                     الفارسة التي تظهر أحيانا فوق حصانها الأشهب اسمها "جزيرة "

حدثني عبد القادر الفلاح راعي الإوزة عن بركة الذي بعقله لوثة، لكنه طيب وله أحيانا كرامات.. هو ابن الحاج حكيم العمدة السابق

-                     سمعت هذه الكلمة من قبل كثيرا منسوبة للدراويش.

-                     البعض ينسب بركة للدراويش الذين لا يسيطرون تماما على تصرفاتهم، لكنهم في العادة طيبون ولا يتسببون في ضرر لأحد.. بركة دون أن يدري يذكر أشياء مستبعدة فلا نصدقها، لكنها تحدث في معظم الأوقات. ويأتي أحيانا بأفعال لا يأتيها غيره.. فهو إذا نزل النهر صعدت إليه الأسماك ورقصت حوله وقفزت داخل جلبابه وأكد البعض ممن نزلوا معه أن السمك كان يضحك كلما رآه.

نقلت إلى المهندسين أهمية تشغيل الطاحونة ولابد من بذل جهد فني لأننا بحاجة إلى الخبز.. قال فيكتور:

-                     ما دمت مصرا فهيا بنا ومعنا مهندس ميكانيكي وعاملان وبغل

-                     لماذا البغل؟

-                     بغل أو حصان أو جاموسة.. هذه الطاحونة المتخلفة تديرها الماشية القوية

-                      المهم أن تدور

طلبنا بغلا من العمدة فسمح لنا أن نأخذ ما نشاء من اسطبله.. عمل المهندسون والعمال على مدى يومين إلى أن تكللت جهودهم بالنجاح.. اشترينا أردبين من القمح وأمكن طحنهما.. انطلق الطباخ الفرنسي يخبز، وفي اليوم التالي اتفقت مع مرقص على أن يمدنا بجوالين من الدقيق كل أسبوع والأفضل أن تأتي مجتمعة مرة كل شهر.

 

(8)

 كان أول ما شغَل المهندس ريشار هو زيارة المسلتين القائمتين على جانبي بوابة المعبد والاقتراب منهما والابتعاد..لاحظ اختلافا طفيفا بينهما في الارتفاع..كانت الشرقية البعيدة بنحو ستة أمتار عن رفيقتها عكس اتجاه النيل هي الأعلى.. حَدّث نفسه ريشار (دعاني لأقرأ ما كتبه في يومياته بعد أيام وقد تصرفت قليلا في نقلها إلى هذه المذكرات):

-                     ليست العبرة بالطول ولكن بالسلامة والجمال.. من حيث الجمال المسلتان متشابهتان وإن كانت الشرقية في نظري أجمل معماريا وأدق هندسيا فأضلاعها متساوية وليس بها أي انحراف أما الغربية التي ناحية النيل فضلعها الجنوبي أعرض بسنتيمتر واحد بما يحقق الانحراف في الضلعين الشرقي والغربي، ومن ثم فإننا إذا حاولنا رسم محيط عرضي فسوف نجد مساحته ليست على شكل مربع ولكن على شكل شبه منحرف بمقدار نصف سنتيمتر.. أما من حيث الكلمات المسجلة عليهما، ومن حيث السلامة قال شامبليون إن المسلتين سليمتين ويمكن أن نأخذ الأقرب للنيل الآن ثم الأبعد في فرصة تالية.

 مضي ريشار يمر بيده على الجرانيت البراق الأملس باحثا عن أية خدوش أو شروخ أو نتوءات أو أي جروح تقلل من مهابة المسلة.. لم يجد شيئا مما يسيء إليها.. تذكر أنه سمع أحد علماء الآثار الفرنسيين يقول:

-                     إن المسلة الشرقية مشروخة

هاجمه القلق الذي اعتاد أن يهاجمه مع بداية كل عمل ولا يهدأ له بال حتى يتخذ القرار المناسب بعد البحث والتمحيص والتيقن من أن كل الأمور كما يتمنى.. لا يحب أن يبدأ عملا وهناك واحد في الألف من التوجس أو القلق بشأن إمكانية تحقيق نجاح يفوق كل التوقعات.. دون أن يقصد أو يحس تسللت يده إلى العروسة وارتاح كفه على الجرانيت وخبط برقة عليها وتنصت.. لا صوت هناك ولا نفس.. عاد يخبط كأنه سيشتري بطيخة.. لم تبلغ أسماعه ولم تنتقل إلى راحة يده همسة لجسد جرانيتى ينتفض.

 تنبه إلى هذه الحركة فأعجبته مع إنها ليست سلوكا هندسيا أو معماريا مع هذه الكتل وقد تصلح مع جدران بسيطة من الطوب.. كرر التجربة العشوائية التي لقيت لديه تعاطفا فلم يسمع شيئا يشير إلى أدني درجة من المتاعب المتوقعة عاجلا أو آجلا.. تنهد بارتياح.. رجع إلى الخلف وسمع أعماقه تردد:

-                     بوحي بما لديك إن كان لديك شيء.. لا تضعيني في موقف يسبب الخجل أو العار.. أنا ممن يخشون التاريخ ويعمل له ألف حساب.. ربما بعد ألف سنة سيظهر شخص ما حتى لو كان نكرة ليقول:

-                     لقد تصور شخص جاهل يوما أنه كبير المهندسين وعبقري العباقرة وتولي مهمة نقل مسلة المصريين ودرة تاج الآثار العالمية فإذا به مجرد مدعي دخيل على المهنة ارتكب جريمة لا يرتكبها طفل في مدرسة ابتدائية حيث جلب لنا مسلة مشوهة، أو مشروخة أو مزيفة أو مثقوبة

أو يقول:

-                      لقد فات هذا الفسل أن الجرانيت فيها مجرد قشرة خارجية والداخل كله من الطين اللبن أو الحجر الجيري.

 بوحي ولا تخذليني. أخشي إلى درجة احتمال أن أفكر في الانتحار إذا حدث لك مكروه ونحن نساعدك على الرقاد في محفتك التي ستحملك إلى النيل.. ما أبشع المشهد إذا تفككت وأنت تهبطين إلى الباخرة أو وأنت في طريق العودة!!.. سوف أفقد صوابي بالتأكيد لو تأثرت هيبتك أو تصَدّع شموخك وأنت ترتفعين في قلب باريس حيث ميدان الكونكورد قريبا من اللوفر وبين أجمل معالم عاصمة النور والثقافة.

 عاد إليه الوعي بعد أن لاحظ أنه غاب عنه لحظات.. تنهد من جديد وعاد إلى الرفاق راضيا عازما على أن ينجز عملا يفخر به وتتيه به فرنسا ولا يجسر التاريخ أن يمر عليه مرور الكرام دون أن يعبأ به.

 أقام الفرنسيون على عجل مخيما في معبد الأقصر ونقلوا إليه أسِرّة البحارة التي علقوها على حبال غليظة ممدودة بين الأعمدة ورصوا بحذاء الجدران كل مستلزماتهم الشخصية في صناديق أصبحت صالحة في الوقت ذاته كمقاعد، كما نقلوا جميع المعدات بكافة أشكالها وخدماتها وأفرغوا السفينة تقريبا من كل شيء. ولم يعد لها من مهمة إلا أن تصبح ملاذا لمن تزعجهم حرارة الجو فيفزعوا إلى قاعها الأقل حرا خاصة بعد أن فرشوا كل مساحة السطح بالحصر وحرصوا على إغراقها بالماء صباحا وعصرا.

 وافق المهندس على بناء بعض الغرف للإدارة على يسار الداخل إلى المعبد فيما بعد الجدار الجنوبي لمسجد أبي الحجاج الأقصري، وقد قام ببنائها بعض الفلاحين الذين صنعوا قوالبها من الطمي الممزوج بالتبن وتركوه يجف تحت حرارة الشمس التي أسرعت بإنجاز مهمتها حتى يرتب الموظفون الإداريون والماليون مكاتبهم وأوراقهم وملفاتهم. وقد طلب المهندس والقبطان ورئيس الأطباء غرفا مماثلة، فأقامها الفلاحون وسقفوها بجذوع النخيل المشقوقة إلى نصفين بالطول واكتفي الجميع بتعليق ستائر من القماش على أطر من خشب تحيط بفتحات النوافذ، وكان الحل مناسبا للحر لكنه سمح لبعض الثعابين والعقارب بزيارة الضيوف والترحيب بهم دون رحمة إلى درجة التهديد بالموت ولكن الله سلم، وسرعان ما هجرها كبار أفراد البعثة وعادوا للأسرّة المعلقة، وقام العمال ببناء دورات مياه خارج المعبد، لكن كبار رجال البعثة امتنعوا عن استخدامها، وظلوا على سابق عهدهم يلجأون إلى حمامات الباخرة.

 تمكن بعض الفلاحين الشباب من صناعة أسِرة معلقة من سعف النخيل عندما لاحظوا اضطرار بعض البحارة والعمال للنوم على صناديق اللوازم الشخصية، وانتهز عقرب الفرصة للدغ عامل أنقذه قرشي الطبيب المصري الذي كان لحسن الحظ موجودا وهو في العادة غير متوفر وأسهل شيء يتعلل به قوله:

-                     الدواء قبل الطبيب، ومادام الدواء غير موجود فما حاجة المرضي لطبيب.

للأسف كلام محروم من الصواب إلى حد كبير، فليس كل الطب دواء.

طلب هنري القبطان وريشار كبير المهندسين من الفلاحين بناء مخزن كبير من الطوب وله شبابيك وباب كبير محكم لتخزين الأسلحة.. لمّا تم بناء المخزن بصورة مرضية نقل العمال إليه كل البنادق والمسدسات والسيوف والرماح القصيرة وكراتين الذخيرة وقطع الغيار والزيوت، ولم تنقل بالطبع المدافع العشرة الثقيلة التي اندهشت لوجودها ولم أعرف لماذا حملوها معهم من فرنسا حتى سألت القبطان يوما فقال:

-                     فكرة وزير البحرية الذي أكد أنه لا يستبعد تحرش البوارج الإنجليزية التي لا تكف عن التجول في البحر المتوسط لتبحث عن كل ما هو فرنسي لتعتدي أو تستولي عليه.

فوق غرفة المخزن أقيمت غرفة صغيرة أخري وفوقها تم تثبيت لوح خشبى كصاري مرتفع لنحو خمسة عشر مترا عُلق به علم فرنسا الثلاثي الأزرق والأحمر وبينهما الأبيض.

 عندما جاء الفلاحون للعمل أول يوم طلب منى ريشار المساعدة، ولم أكن بحاجة كي يطلب منى ذلك فقد أدركت منذ أول يوم بل منذ كلفني الكلونيل سيف أن علىّ المشاركة في كل شيء تقريبا إن لم يكن بمد يد العون المباشر فبالحضور للترجمة، وأنا بشكل أو آخر محسوب على المصريين وهذا ما يدعونني للبحث عن حل لأية مشكلة تخص الأقصر وظروفها والجانب المصري بشكل عام.

 امتلأت الساحة بالفلاحين طالبي العمل.. جلس روجيه الطبيب القصير ومساعده أولان تحت مظلة و أمام منضدة وجلس المهندس ريشار ومساعده فيكتور تحت مظلة وأمام منضدة وأحضر العمال لي كرسيا فرفضت الجلوس عليه وظللت واقفا لأضبط النظام وأتابع كل حركة.. طلبت من الفلاحين الانتظام في صفين.. واحد للذكور وواحد للنساء.. نفذ الجميع بسرعة ما دعوتهم إليه.. دعا روجيه الذكور في البداية للكشف عليهم.. بدأ العمل مع الشاب الأول:

-                     ارفع جلبابك حتى ذقنك

ما إن نفذ الرجل ما طلبه الطبيب، حتى بلغتنا طرقات الجواد الأشهب و ظهرت الفارسة التي التقيناها في الطاحونة. قالت بثبات ونبرة قوية:

-                     السلام عليكم..أهلا بكم في بلدنا.. إذا كنتم بحاجة إلى عمل النساء فالكشف عليهن لا يكون اليوم ولكن غدا..

ترجمت للطبيب فوافقها على ما طلبت، وقلت ذلك للنسوة اللاتي تلكأت بعضهن ثم غادرن جميعا وسبقتهن الفارسة ببطء..عادت الفرسة الشهباء تتراقص في مشيتها وأنا أتصور أن الفارسة والفرسة كائن واحد يتهادى في دلال يتيه بجماله النادر خاصة في بلدة كالأقصر.

 واصل الطبيب عمله.. حدق في وجه العامل الأول. لاحظ أنه يعانى من الرمد.. سجل هذا في دفتره...حدق في جسده. لم يلاحظ شيئا إلا بعض الجروح القديمة وانتفاخ طفيف في البطن.. سأله مما يشكو. أجابه الرجل بعدم وجود أية شكوى لديه.. طلب منه أن يكشف ظهره.. جس الجلد، ثم طلب منه الوقوف جهة اليمين بعد أن يمر على مساعده أولان.. معنى ذلك الموافقة.. كان مساعده يسجل اسم وسن من يوافق الطبيب على إلحاقه.. أخرج الطبيب من الكشف كل من يعاني من الكبد والقلب والأنيميا الشديدة وصفار العيون وضيق التنفس كما رفض الموافقة على عمل العميان والصم، ووافق على عمل البكم صحيحي الجسم. وأمر بعلاج مرضى العيون.

 ظهرت الفارسة من جديد.. قالت للطبيب: لا تكشف على النساء والبنات

وبحثت عيناها عنى حتى وجدتني، ولم تقل لي كلمة.. ترجمتُ للطبيب كلماتها، فشرد لحظات ثم هز رأسه موافقا أو مستسلما..سألت أحد الفلاحين عنها.. فقال:

-                     ابنة العمدة

أبلغت المعلومة لكل القيادات حتى يتعاملوا مع كلامها وطلباتها باهتمام يليق بمكانتها.

 كل من وافق عليه الطبيب أمره المساعد بالتقدم من اللجنة الهندسية المكونة من ريشار ومساعده ورئيس العمال الفرنسيين، وكان ريشار يسأل العامل ومعه المترجم الفرنسي المرافق للبعثة من باريس:

-                     هل سبق لك أن عملت في نشر الخشب أو الحجارة؟

كانت الإجابة في الغالب: لا

 كنت قد تساءلت عن السر في أن البعثة كبيرة العدد تحتاج إلى عمال محليين من الأقصر , معظمهم إن لم يكن كلهم بلا أية خبرة ترتقي لمستوي أقل العمال الفرنسيين.. لم أتصور إمكانية الحاجة إليهم ثم أدركت الآن فقط أن هناك بالفعل أعمالا يتجنب الفرنسيون القيام بها مثل هدم المباني والشيالة وجر الباخرة بالحبال، وغيرها من الأعمال التي لا تحتاج إلى فن وعلم بقدر ما تحتاج إلى قوة بدنية، والفرنسيون لا يتحملون هذه الأعمال المهدرة للطاقة قليلة الأهمية من وجهة نظرهم.

 أمكن تحديد خمسة والباقون تقرر تدريب الأشداء منهم على النشر.. أما الفتيان فيما فوق الخامسة عشرة وحتى العشرين فقد رأي ريشار أن يتم تدريبهم ليكونوا مساعدين ويتوزعوا على الأعمال المختلفة.

 قبل آذان المغرب كان قد وافق على عمل ما يقرب من مائتي عامل، طلب منهم المجيء للعمل في السابعة صباح اليوم التالي، ورفض تشغيل أربعين رجلا كانت لديهم موانع صحية منهم سبعة تجاوزوا الستين.

 سهر روجيه رئيس الأطباء يكتب بيانا بكافة الأمراض المنتشرة مثل الدوسنتاريا والرمد والكبد والبلهارسيا والحساسية والأمراض الصدرية و الجلدية والقلب والأنيميا.. أعد قائمة بالأدوية المطلوبة لعلاج عدد من هذه الأمراض وأرسل بالقائمة إلى دروفيتى القنصل العام وكذلك مسئولي الصحة في الحكومة.

 كلف المهندس ريشار كبير النجارين ومعاونوه الأربعة بتدريب العمال على نشر جذوع النخل أولا ولو قضوا في ذلك أياما حتى ينضبط أداؤهم وبعدها ينتقلون إلى نشر الأخشاب وتقطيع العوارض حسب المقاسات، كما قام ميكانيكي ونجار فرنسيان بتدريب الفتيان الصغار على معرفة كل الأدوات وأسمائها بالفرنسية وطريقة استعمالها وما تقوم به، وقد حرصت أن أقوم بنفسي بالترجمة، مستشعرا سعادة بالغة لأن الأطفال تجاوز عددهم المائة نصفهم على الأقل من البنات، وبلغ العاملون الأقصريون من كافة الأعمار نحو أربعمائة أي ثلث سكان البلد تقريبا ويتقاضون أجورهم مع غروب كل يوم وليس بالأسبوع أو الشهر.. كان مشهد وقوفهم لاستلام أجورهم أجمل من أن يوصف وملامحهم الراضية بل السعيدة بالقروش أكاد أستحي من الحديث عنها.. كان البعض بعد أن يبتعد يقفز عاليا عدة مرات، والبعض يرقص. وكان الذكور في العادة لا يقبضون نقودهم إلا بعد أن يلقوا بأنفسهم في نهر النيل كأنهم يوقعون لديه بالانصراف.. يغتسلون ويشربون ويتوضأون لصلاة المغرب ثم يخرجون وتكون النسوة والبنات قد قبضن أجورهن وقطعن خطوات في الطريق إلى بيوتهن تتصاعد من أفواههن ضحكات جميلة لها في النفس وقع مستحب.

 تحولت المنطقة المطلة على النيل وحتى بداية طريق الكباش وداخل معبد الأقصر فيما يغطي مساحة عشرة أفدنة والتي كانت مغمورة بالسكون إلى حد الرعب إلى منطقة تضج بالعمل والحركة.. مشهد بديع كان يجمع الفرنسيين والمصريين في تعاون وتكامل وانسجام.. مع هذا العمل الدءوب كأنه مصنع مكشوف تجتهد آلاته في إنتاج سلعة مهمة كانت تتعالي الأغنيات والضحكات، بل سمعت خلالها ولأول مرة أجمل المواويل التي أعجبت الفرنسيين دون أن يفهموا معناها.. من ذلك ما أنشده بيبرس:

 أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم
أشكى لهم ناس لم بعرف أراضيهم
ياما حَفظت الوداد ونسيت مواضيهم
إن غبت عنهم بنار البعد اتكوى
وان مَسّنى قربهم تجرحنى مواضيهم

يهلل العمال فرحا، فقد تلقت أرواحهم الموال بسعادة ومس شغاف قلوبهم الظمأي بل وربما شبعت بطونهم، لكنهم يتمنون المزيد.. ينادي بعضهم على سليمان النجار، فيُسلك صوته ثم ينشد:

قوامك الغصن فى روض البها عادل
ووجهك البدر ماله فى الجمال عادل
من يوم عشقتك أراك عن مُغرمك عادل
قضيت زمانى فى حبك جسم من غير روح
أشكى صدودك لحاكم فى الغرام عادل

 يصيح العمال إعجابا و تعاطفا مع العاشق المتيم والمكوي بعذاب الهجران.

 سرح خيالي فتصورت الحالة الصاخبة والمتناغمة كيكة كبيرة وفوقها حبات الكريز والكريمة والشيكولاتة حتى لقد أثار هذا الجو اهتمام الفرنسيين وحاولوا ترديد الألحان التي التقطوا بعضها في يسر وأقبل بعضهم يسألني عن معناها وقد لاحظ أن من الأغنيات ما يتناول العشق وانتظار الحبيب وليلة الدخلة وغيرها وكانت النسوة يشاركن فيها بدرجة كبيرة. في تلك اللحظة التي كان خيالي يحلق فيها فوق مساحة الجمال التي تعانقت مع أحاسيسي الشخصية بحكم أني مصري فرنسي اكتشفت فجأة أني اشتقت إلى الشيكولاتة والكريمة والحلويات عموما. يجب أن أبحث عن وسيلة لجلب الفواكه والشيكولاتة ولو من إسنا أو قنا بل لا بأس لو طلبناها من القاهرة لولا خشيتى من الوقت الطويل الذي يمكن أن يحتاجه الحصول على ما نتمناه.. من حق هؤلاء الرجال أن يستمتعوا بطعم الشيكولاتة والحلوي.. الجميع يبذل جهدا كبيرا ويعملون في ظروف صعبة أولها الحرارة العالية التي تلهب المصريين بالذات لأنهم حفاة، كما كانوا يعانون من الظمأ ومن العرق الذي يكدس طبقات الملح فوق جلودهم وتكويها مع الحرارة..مما يضطرهم لاختطاف لحظات في النهر للشراب ونثر المياه على الرؤوس والأجسام حتى تطفئ اللهب المشتعل في الأبدان.. لابد من مكافأتهم ببعض الحلوى.. سوف أسأل أولا المعلم مرقص الذي اتفقت معه على جلب التموين من قنا.

 سمعت فجأة زعيقا وأصواتا عالية.. أسرعت للتعرف على ما يجري.. مهران الحداد ذو الفم الواسع الذي حضر بالأمس فقط لمح العلم الفرنسي المرتفع فوق غرفة في المعبد.. فجأة توتر وتوقف عن العمل وطالب بضرورة إنزاله..أسرع إليه المترجم واستمع إليه وهو يشير إلى العلم.. فهم سر غضبه غير المبرر.. اشترك ريشار وروجيه والعمال في المناقشة فلم يتقبل..كلما حاولوا تهدئته أصر على إنزال العلم.. قال له المترجم فيما قال:

-                     هذا بروتوكول دولي

رد عليه الحداد ذو الصوت العالي:

-                     بل إنه صورة من صور الاحتلال، ولن أعمل إلا إذا نزل هذا العلم..هذه أرض مصرية

تدخلت لمحاولة إقناعه.. سألته:

-                     ما الجهة التي تنفذ العمل في هذا المكان؟

لم يرد

-                     أجبنى لو سمحت

قال بصوت منخفض ومكبوح:

-                     فرنسا

-                     أليس طبيعيا أن توضح هذه الدولة أن العمل يتبعها؟

-                     لا

-                     لماذا؟

-                     لأن العبرة بالأرض

طال الحوار والرجل رأسه وألف سيف ألا يقبل أي رأي آخر..المسيطر عليه عبارة واحدة:

-                     لابد من إنزال العلم

سأل القبطان:

-                     ما عمل هذا الرجل؟.. هل هو عالم في الآثار أو خبير في التفجير؟

قيل له إنه حداد

سأل القبطان:

-                     وما أهميته؟.. اطردوه

قال ريشار وروجيه:

-                     لا..

مال عليّ أحد العمال المصريين وقال:

-                     مهران طيب لكنه معروف بعصبيته، وله مواقف مشابهة كثيرة تثير الأزمات

مال ثان وقال:

-                     هو طيب ولكنه عنيد

مازال صوته يأتيني:

-                     العلم لابد ينزل

الأزمة تتسع والعمل توقف والجو تكهرب.. كنت أحلق في السماء وأنا ممتلئ بمشاعر السعادة.. لمعت في رأسي فكرة.. دنوت منه وقلت:

-                     هل يرضيك أن يرتفع العلم المصري مع الفرنسي؟

صمت لحظات وقد فوجئ بالعرض وبدا لي كأنه غاضب لأن المشكلة على وشك أن تجد حلا.. هز رأسه بالموافقة، فهلل الجميع وقال له ريشار:

-                     هات العلم غدا وسوف نرفعه

قال روجيه:

-                     كان عليك أن تقول هذا منذ البداية

في الصباح حضر مبكرا ومعه العلم المصري المكون من هلال كبير وأمامه نجمة خماسية على أرضية حمراء مثل علم الدولة العثمانية..

أمر ريشار بإعداد صاري خاص بالعلم المصري، ولما انتهى العمال من إعداد الصاري احتضن الرجل العلم وقبله ثم سلمه لعامل مصري ليرفعه فأصر القبطان أن يرفعه بنفسه.. ارتفع العلم المصري في الفضاء ببطء مقصود.. هلل الجميع مصريون وفرنسيون وزغردت النسوة والبنات إلى أن استقر في سمائه فابتسم الكل بل و تقدم القبطان فعانق مهران وكذلك فعل الباقون مع أهل البلد، وعاد العمل من جديد وعدت أنا للتحليق وتذكرت ثانية طعم الشيكولاتة الذي اشتقت إليه.. الغريب أن لحظات قليلة مرت ثم رأيت مرقص يتقدم نحونا بحمارتيه المحملتين بالمئونة قادما من قنا بالمركب التي تقوم بخدمات الأهالي بين البلدين،وعند المرسى يكون ولده أو ابنته بانتظاره بالحمارتين.. سألته عن مطلبي فحكي لي معاناته في البحث لدي كل وكالات قنا دون جدوى.. سهرت أكتب رسالة إلى المسيو دروفيتى قنصلنا العام في القاهرة مدونا فيها كل ما نريده ولا نجده في المدن المجاورة.

 

(9)

 وصلت مركب البوستة التي تصل من القاهرة إلى الأقصر كل أسبوع. كانت تحمل مكتوبا من خالي الأستاذ رمضان المدرس في الأزهر يعرفنا فيه بقدومه بعد عشرة أيام لإنهاء موضوع الميراث الذي تركه جدي لأمي ويتعجل أخوالي الآخرين توزيعه.

 خالي رمضان الوجه المضيء في حياتي لكنه بعيد فلا يحضر إلى البلد مع أسرته إلا في شهري الصيف..لا تغادر ذاكرتي مطلقا تفاصيل زيارتي له في القاهرة قبل عشر سنوات.. كان خالي وزوجته وابنتاه خديجة وعائشة وولده على قد جاءوا لزيارتنا وزيارة كل أهالينا وتجديد ارتباطهم ببلدهم.. لهم بيت بعد بيتنا بعدة بيوت ولهم أرض أيضا يتولاها خالي سليم.. كنت معهم دائما.. أنام وأتناول طعامي وأقضي كل وقتي في بيتهم.. خديجة وعائشة وهما توأم ولدا معي في الشهر ذاته الذي ولدت فيه أغسطس سنة 1807، لذلك كنت مشدودة جدا إليهما وهما كذلك.. يصران أن ننام جميعا في سرير واحد ويصران أن أكون في الوسط ولا ننام إلا بعد أن يتوغل الليل.. قال خالي إن مولدنا كان في العام الذي شهد قدوم حملة فريزر الإنجليزية على مصر وتمكن المصريون من صد الهجوم قبل أن ينتشر الأعداء في كل البلاد.

 كنت سعيدة بوجودهم خاصة عندما تحكى لي البنتان عن حياتهم في القاهرة فأشعر أنها تتحدث عن بلاد غير موجودة إلا في الأحلام. وفي ليلة من الليالي القليلة التي نمتها في بيتنا حلمت أني معهم في القاهرة.. وفي الصباح طلبت من أبي أن يسمح لي بمرافقة خالي.. فتح أبي عينيه وفمه وتأهب ليقول كلاما أظنه سيصدمني، ثم هدأ وابتسم وقال:

-                                                     هل يمكن أن تغيبي عنى يوما واحدا؟

قلت له وأنا أجهز نفسي للاستعانة بكل الوسائل كي أقنعه:

-                                                     أرجوك يا أبي.. أشعر أني هنا بلا صديقات وأنا أحب بنات خالي

-                                                     لكن يا جزيرة البيت في حاجة إليك ,,أنت الآن في الخامسة عشرة ووالدتك تعتمد عليك

-                                                     أنا يا أبي لا أقوم بأي شيء.. هناك أمي وهنومة ورقية زوجة سلام المزارع وهناك زوجات الخفراء.

-                                                     نسأل أمك وأخاك الكبير مدثر

-                                                     المهم رأيك

-                                                     المهم رأيهما

-                                                     وافق أولا

-                                                     لا تستعجلي.. خالك أمامه شهر

-                                                     المهم أن توافق

-                                                     أنا يا ستى موافق

هجمت عليه وقبلته في وجنتيه ورأسه وعانقني بشدة وقبلني، فقلت له:

-                                                     أنت من ستقول لأمي وأخي مدثر، لكنك صاحب الكلمة الأولى والأخيرة

ضحك حتى ارتجت بطنه الكبيرة، وقال:

-                                                     آه منك يا عفريتة

أسرعت إلى بيت خالي ولا تزال ضحكاته تركض خلفي.. أنبأت خديجة وعائشة فصرختا حتى جاءت أمهما فزعة فأنبآها بالخبر.. تجلت فرحتها على وجهها وعانقتني، وقالت:

-                                                     أحسن خبر سمعته منذ جئت.. الشهر الذي انقضي ضاع معظمه في أداء واجبات مؤسفة.. تعزية فيمن رحلوا خلال السنة وتعزية في أموات جدد..

زوجة خالي هي أيضا من العائلة فهي ابنة خالته وطبعا ابنة خالة أمي.. هي إذن في مقام أمي. رفضت أمي ومدثر فلزمت غرفتي وامتنعت عن الطعام حتى علم بذلك خالي فتدخل وسافرت معهم. في هذا اليوم بدأت أنفر من عمي زهران فقد أوقف مدثر وقال له:

- كيف توافقون على سفر أختك وهي في سن الزواج إلى القاهرة لتبقى هناك ستة أشهر على الأقل وتخرج هناك على حل شعرها وسوف تعود في المركب طبعا وحدها؟

قال أخي:

-                                                     هذا لا يكون أبدا.. من قال هذا الكلام؟

-                                                     ليس مهما من قال.. المهم أن هذا هو حال بيت العمدة

أنا غبية. ما كان يجب أن أقول لابنته التي لا تحتفظ بسر.. لعلها الغيرة فقد أسرعت إلى أمها وقالت لها: كيف تذهب جزيرة إلى القاهرة ولا أذهب مثلها؟ وحسب علمي بدأت الغيرة منذ ولدت وهي تصغرني بستة أشهر فقد تمنت أمها أن تسميها على اسمي فرفض أبي، وقد حاول في البلد آخرون ومنعهم أبي وتمنى آخرون وامتنعوا من أنفسهم احتراما للعمدة.

 سافرنا بالباخرة التي تنقل الناس والبضائع بين الأقصر والقاهرة ورست بنا في بولاق وحملتنا الحمير إلى سكن خالي في بيت صغير مؤجر بحارة الدرب الأصفر بالجمالية. أغلب الشوارع نظيفة ومرصوفة بالحجر.. المحلات كثيرة والحركة لا تتوقف في أي شارع أو حارة والستات يلبسن البراقع والملاءات السوداء ويمضغن اللبان و سواعد الكثيرات مغطاة بالأساور الذهبية، ولم تقع عيني على سيدة أو بنت حافية.

 بالليل سهرنا فوق السطوح حيث كانت عشش الدجاج والأرانب والبط الذي تربيه زوجة خالي.. القمر يقف طويلا فوق بيت خالي.. ينظر إلىّ ويبتسم أحيانا.. نظرت إليه طويلا.. سمعته يسألني عن اسمي..أجبته فقال:

-                                                     أول مرة أشوفك

قلت:

-                                                      أنا من بعيد.. بلد ربما لا تعرفها..اسمها الأقصر

قال: أعرفها.. أنا أراها الآن

رقص قلبي.. سألت متعجبة:

- صحيح؟

قال بوداعة ورقة:

- صحيح

- هل يمكنك أن تري أي بيت فيها؟

- أري معبد الأقصر والكرنك

- بيتنا جنب معبد الأقصر.. سَلم لي على أبي لو تقدر

- من عيني يا عروسة

تنهدت وشعرت أن الدنيا جميلة لأن فيها هذا القمر الحنون

شعرت أنني أحسنت بقدومي إلى القاهرة لأقابله ونتكلم.. لحظات قليلة وأحسست به يتحرك من حولي ولا أراه.. رفعت رأسي إلى السماء فوجدته يبتعد وبعض الغيوم تجري أمامه.. لكن أنفاسه كانت قريبة منى.. هل يمكن أن يكون ملاكي الحارس؟..لابد أنه هو.. لمحت وجهه وهو يطل من فوق السور وأنا على السطح بينما كنت وحدي بعد أن نزلت خديجة وعائشة مع أمهما.. ملاكي الحارس صاحب الوجه الأبيض و ذو الشعر المائل للحمرة والابتسامة الدائمة.. لا زلت حتى الآن لا أستطيع تحديد طبيعته.. هل هو بشر مثلنا؟.. هل هو ملاك غير منظور؟ هل يحرس غيري أم هو لي وحدي؟.. هل هو وهم أم حقيقة؟..أنا سعيدة أنه موجود وكلما وجدني وحدي عبر أمامي ليؤنس وحشتي ويبعث الطمأنينة في نفسي. طلعت خديجة وعائشة بأطباق الطعام.

 بلغت أسماعنا أصوات المنشدين والمداحين في صالات الوكالات..

هل علينا رمضان فإذا القاهرة خيمة كبيرة من النور الملون بالفوانيس والزينات والمساجد جميعها تتدلي علي قبابها ومآذنها عناقيد من الفوانيس

وساحاتها بالداخل والخارج ممتلئة بالمصلين وقارئي القرآن والتواشيح بينما الصدقات تنهمر على الفقراء والمساكين.. رمضان في القاهرة غني جدا وحنون جدا وعطوف.. أشعر أنه جدي وقد جاء لزيارتنا محملا بالهدايا.. لا يود أحد أن ينام في أيامه أبدا.. كل شيء يستحق المشاهدة والتأمل.. أشياء كثيرة فيه أدهشت عقلي وروحي حتى تعلقت به وكان إعجابي شديدا بحلواه من القطايف والكنافة والزلابية وقمر الدين والبندق والجوز واللوز.

 في ثالث يوم لي في القاهرة المعجبانية عاد عند الظهيرة خالي وعلى وجهه بشر وابتسام وقال لزوجته وأولاده:

-                                                     عندي خبر جميل جاءنا مع مجيء جزيرة

قالت زوجة خالي:

-                                                     هيا قل وفرّحنا

ابتلع ريقه وأخّر نطقه ربما قاصدا..تململت خديجة وعائشة.. أما أنا فقد كتمت فضولي.. قالت البنات باشتياق:

-                                                     هيا يا أبي قل

قال خالي:

-                                                     لقد رشحني بعض المسئولين لأكون معلم الباشا وأولاده اللغة العربية

صرخت ابنتاه وهجمتا على أبيهما يقبلانه ويعانقانه

تقدمت من خالي وعانقته وقبلته ولا أدري لماذا سالت دموعي فعانقني أكثر، وربّت على ظهري..اندهشت زوجة خالي وقالت بفرح رصين:

-                                                     معقول يا رمضان؟!

-                                                     كرم ربك

-                                                     ألف مبروك

-                                                     الله يبارك فيك

-                                                     أول خير يأتي من القلعة

-                                                     قولي الحمد لله

قامت زوجة خالي وعانقتني وقالت:

-                                                     وجهك حلو علينا يا جزيرة

عدت مرة ثانية للبكاء

تقدمت منى خديجة وعائشة فعانقتاني وقبلتاني ومضينا إلى حجرتنا

عندما كبرت تذكرت هذا البكاء الكثير.. أظننى عرفت سببه أو تصورت أنني عرفت.. ربما كان ذلك مرجعه رغبتي الدفينة في أن تكبر عائلتنا من حيث المكانة بحيث تحتل وضعا أهم مما هي عليه. بعد أن اقتربت من العشرين أصبح هذا الأمر يشغل مساحة كبيرة من تفكيري.

 في محاولته لزيادة بهجتي أخذني خالي إلى جبل المقطم لنرى بأعيننا القاهرة ساعة الغروب.. مشهد رائع.. القاهرة تحتشد بالمآذن والقباب والمباني.. رأينا الأهرامات من موقعنا هنا فوق الجبل ورأينا مرسى بولاق والنيل المتجه جنوبا إلى الأقصر وقد بدا عريضا.. المدينة عامرة بالمباني والوكالات والمدارس.. بدأ العمال يشعلون القناديل ومن فوق المآذن العالية رائعة العمارة وقف المؤذنون يؤذنون لصلاة المغرب بأصوات رقيقة خلابة كأنها قادمة من السماء.. هاهنا تبدو الشمس وهي تكاد تسقط وراء الأهرامات وقد اكتست لونا برتقاليا لا ينسى.. وزع خالي علينا التمر وصلينا المغرب في مسجد السيدة عائشة ثم عدنا إلى البيت لنصلي العشاء والتراويح وننام إلى أن نصحو على طبلة المسحراتي.. كان وقعها جميلا في نفسي جدا.. أسرعت إلى النافذة لرؤيته.. رجل قصير أسمر اللون بكرش كبير لا أدري كيف يحمل عليه طبلة بحجم فرن الخبيز. قلت لخديجة وعائشة:

-                                                     المسحراتي له كرشان بطنه والطبلة

ضحكتا، وقالت خديجة:
- تصوري يا جزيرة أنا أستطيع أن أصوم بدون سحور، لكنى أغضب جدا لو لم توقظني أمي أو تكون قد راحت علينا كلنا نومة، لأني أريد أن أشاهد الشيخ رجب وطبلته، وأنصت إليه وهو ينادي على الصائمين بالاسم، وبالنسبة لنا فهو ينادي على علىّ:

-                                                     اصحي يا صايم وحد الدايم.. اصحي يا ابراهيم. يا جار النبي.. اصحي يا على. يا خميس.. اصحي يا جرجس

ضحكت واندهشت وقلت:

-                                                     جرجس!.. ماذا تقولين يا خديجة؟

-                                                     الشيخ رجب صديق المقدس جرجس، وجرجس يحب الشيخ رجب جدا

لذلك يحب أن يذكر اسمه

تقول عائشة وهي قليلة الكلام:

-                                                     مرة لم يسمع جرجس اسمه فسأله في اليوم التالي عن السر في عدم ذكر اسمه، قال له الشيخ رجب وكان أبي يقف مع المقدس:

-                                                     لاحظت أنك بالأمس كنت مرهقا جدا من محاولتك التوفيق بين المتشاجرين في حي الفحامين.. كنت كبندول الساعة تروح لهذا الفريق ثم للفريق الآخر من أجل المصالحة حتى وفقك الله..

-                                                     كنا في هذا الجدال حتى انتهي المصلون من صلاة التراويح في مسجد قايتباي

-                                                     أشفقت عليك

-                                                     المهم ألا تنساني

-                                                     لن أنساك

-                                                     هل تعلم أني أتسحر فعلا؟

-                                                     حقا؟!

-                                                     لقيمات قليلة وشربة ماء تعينني على أن أتحمل حتى يحين المغرب

-                                                     إذن تصوم

-                                                     أجمل ما في الدنيا الصيام

-                                                     يكفي صيامكم الطويل

-                                                     كل الصيام جميل

 كان خالي قد اصطحبنا لزيارة مسجد السلطان حسن وهو مبنى هائل ذو هندسة معمارية بديعة و يضم مع المسجد أربعة مدارس دينية.. كل مدرسة متخصصة في تعليم أصول وقواعد وأعلام مذهب من المذاهب الأربعة الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي.. كانت فرصة أن نصلي فيه حيث شعرت براحة غريبة لم أجدها في جامع البلد.. قال خالي:

- المسجد تم إنشاؤه منذ خمسمائة عام وأمر ببنائه السلطان حسن ابن الناصر ابن قلاوون أيام المماليك

كلما قال لي خالي معلومة أفرح بها وأتحمس للعودة إلى كتب خديجة وعائشة أبحث فيها عن المعلومة نفسها أو غيرها وكنت أقضي معظم الفترة الصباحية في قراءة الموجود من كتبهما.. الكتب شيء مدهش.. كيف لا توجد مدارس بالأقصر.. كل شيء هنا غير موجود هناك..هذا ظلم.. ظلم.

زرنا الجامع الأزهر وقلعة صلاح الدين، وزرنا عشرات الأسبلة والمدارس والمستشفيات في شارع المعز لدين الله الفاطمي ولما عبّرت عن انبهاري، قال خالي: كلها وعشرة أضعافها بنيت في العصر المملوكي أي منذ نحو ستمائة سنة.. العصر المملوكي أزهي عصور التاريخ المصري من الناحية العمرانية حسب المعلومات التي وصلتنا.

 زرنا باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة.. شيء مهيب وضخم ومتين جدا يعيش مئات السنين بعدنا.. كل يوم كان يأخذنا خالي إلى مكان ويتحدث عنه، كما كان حريصا على أن يطعمني مأكولات جديدة علىّ مثل الشيكولاتة والفشار والحمص المتبل والترمس وبلح الشام والهريسة.

 مررنا بأحياء السروجية والخيامية والغورية والنحاسين والصاغة ودخلنا الوكالات التجارية العامرة بكل شيء مثل وكالة نفيسة البيضا ووكالة بازرعة ووكالة البقلي ووكالة محمد أبو الذهب.. أعجبني جدا منظر العمال وهم يكنسون الشوارع ويغسلونها، ورأيت بعضهم يهدم المساكن القديمة الآيلة للسقوط وبدلا من أن تشغل حيزا بلا فائدة يمكن أن يقام مكانها مبني سكنى أو تجاري أو يؤدى أية منفعة للناس. لاحظت عمالا يردمون البرك ويهدمون المصاطب التي تشغل نصف عرض الشارع وتعوق الحركة، وأعجبتني جدا العربات التي تجرها الخيول وتمنيت أن يكون مثلها في الأقصر سوف تكون مفيدة في نقل البضائع وانتقال الناس من مكان إلى مكان لمسافة قد تصل إلى عشرة كيلومترات أو يزيد وتربط القرى المجاورة بعضها ببعض.كما رأينا العمال يزيلون التلال المطلة على النيل ويزرعون مكانها أشجارا لها أسماء عجيبة معظمها وارد من الخارج. قال خالي:

-                                                     محمد على باشا رجل نادر المثال فرغم أنه عنيف ويبطش بالمعارضين إلا أنه دائم الحركة ولا تشرق شمس أي يوم دون بناء مشروعات سواء مدرسة أو مركز تعليمي أو مصنع أو ترعة أو كوبري أو قنطرة أو سوق أو مستشفي أو حديقة أو توسعة للشوارع والميادين أو خدمات للناس لتسهيل حياتهم.. خذي مثلا تنظيف الشوارع وإنارتها بالقناديل.. مؤخرا أمر أصحاب المحلات التجارية والبيوت بطلاء جدرانها باللون الأبيض ووضع سلة للقمامة أمام كل محل.. المحتسب أي المراقب يمر ومن يخالف يدفع غرامة فورية.. من يكرر المخالفة يسحب منه الترخيص.. أما المحتسب الذي يسامح المخالف ولا يطلب منه الغرامة أو يسحب ترخيصه يجلد.

قلت لخالى:

-                                                     رأيت السقائين وتمنيت أن يكون في الأقصر سقائون كهؤلاء الذين يحملون الماء في قرب جلدية سوداء من الأسبلة وحيث المياه عذبة ويوزعونها على البيوت ويصبونها بأنفسهم في الأزيار.

ابتسم خالي وقال:

-                                                      وضع الباشا الوالي نظاما للسقائين ويا ويله من يرتكب مخالفة أو يتأخر في إمداد البيوت الموكولة إليه بالماء..كما كلف عمالا للقيام على خدمة الأسبلة حتى تحافظ على الماء الذي يخرج من الينابيع الأرضية وحماية الصنابير الخارجية من العبث والأحواض من الانسداد.. كما خصص الوالي عربات تجر خزانات مهمتها سحب مياه الصرف المخزنة في غرف تحت البيوت وتفريغها بعيدا على أطراف المدينة حيث يفيد بها الزراع في تحسين التربة، وأقام مصانع للأسلحة والبارود والذخيرة ومصانع للغزل والنسيج ومسبك للمعادن في منطقة اسمها السبتية. هذا الألباني القاسي نقل العاصمة من حال إلى حال بأفضل مما لو كان الحاكم مصريا.. الحكم النافع يقتضي أن يفكر المسئول في مصلحة البلد ثم العمل على تنفيذ الأوامر بمنتهى الدقة وإلا نزل العقاب.

-                                                     لكن بلدنا وربما مثلها كثير من القرى محرومة تماما من كل شيء

تنهد خالي وقال:

-                                                      الحروب الكثيرة هي السبب

 في يوم سفري عائدة إلى الأقصر اصطحبني خالي. استأجر حمارين

حملانا إلى المركب حيث تنتظر موعدها وركابها في مرساها ببولاق.. تحدث خالي إلى رجل طويل بجلباب وعمامة كبيرة بيضاء يحك بدنه بصورة دائمة أرجعت هذا إلى قلة الاستحمام واعترضت على تفسيري. كيف لا يستحم وهو لا يخرج من النيل..إذن فهو المرض.. كان جالسا على جنب يدخن الجوزة.. تبادلا بضع كلمات. سمعت منها:

-                     هذه ابنة أختي. أبوها الحاج حكيم الحجاجي.. تعرفه؟

-                     لا يوجد في بر مصر واحد لا يعرفه.. زينة الصعيد كله

-                     توصلها داخل بيتها

-                     اسمها

-                     جزيرة

-                     جزيرة!!

-                     تمام

-                     جزيرة.. جزيرة!!؟

-                     ما بك يا عبده؟

-                     لماذا لم يسموها اسم من أسامي البنات؟

-                     الاسم له حكاية

-                     أحب أعرفها

-                     طويلة، وليس هذا وقته

 نادي الرجل فتى حمل عنى الحقيبة القماش وأجلسني في ركن بعيد.. مضي خالي يتكلم مع الرجل إلى أن حان موعد المغادرة.. تقدم خالي وعانقني وقبل رأسي فانهمرت دموعي..أسباب كثيرة تدعوني للبكاء تلك اللحظة، أهمها حنان خالي وابتعادي عن أولاده وزوجته وعن القاهرة..غادر خالي بعد أن قال لي:

-                     عمك عبد الشهيد صاحب المركب من البياضية القريبة من الأقصر. بلدياتنا يعنى. كل ما تحتاجينه اطلبيه منه بقلب جامد.. وهو المسئول عن توصيلك إلى الدار بذات نفسه.. لا تنسي السلام على كل أهالينا.

تركني خالي وظلت نظراتي عليه وهو يخرج من المركب ويكاد المتدافعون يوقعونه ليلحقوا بالمركب التي بدأت في التحرك..

عادت الدموع لعيني من جديد لأن خالي ذهب ولأنني ابتعدت عن حياة الناس في هذه المدينة التي نفذت إلى قلبي و حاولت أن أغوص فيها قدر الإمكان.. كان بكائي أيضا من أجل الأقصر.. تنهدت فقد شعرت فجأة أني كبرت.. هل تغيرت قليلا ابنة الخامسة عشرة؟.. أظننى تغيرت كثيرا.

تحركت المركب الكبيرة بحمولتها المكتظة..أوصاني خالي أن أقرأ الفاتحة.

 بعد نصف يوم في البحر أخرجت بعضا من الطعام الذي أعدته لي زوجة خالي.. كان كيسا به كعك بالتمر وكيسا آخر به رقاق باللحم المفروم وربع دجاجة وكيسا ثالثا به محشي باذنجان وكرنب وفلفل وكيسا رابعا به زجاجتان ممتلئتان بعصير الجوافة وعصير المانجو، وكيسا به الكثير من اللب والفول السوداني.

 جاء عبد الشهيد بعد صلاة العشاء وحمل جوال القماش الذي به حاجياتي وأنزله إلى الأرض وجلس مكانه..أدرك ولابد أنني يمكن أن أخاف من الليل والوحدة والغرباء.. حك جسده كثيرا وهو يحدثني عن أبي وجدي.. حكى لي عن العربان وما تسببوا فيه من المشاكل وتعرض على أيديهم للخسارة في عدة مناسبات.. لا أدري ما الذي دعاه لهذا.. لابد كان هناك سبب..قال:

-                      أنا على هذه المركب منذ ثلاثين عاما.. ضاع عمري تقريبا معها، لكنها بنت حلال.. صبرت علىّ..في حين غيرها لم يصبر على.

.. نادي مساعده " جامع ". لما رد عليه طلب الجوزة.. دس فمها بسرعة في فمه وسحب عدة أنفاس من الجوزة وأطلق سحابات كثيفة من الدخان. خفت أن يهاجمني الدخان إلا أن النسيم النيلي الجميل تكفل بالأمر..وعزمت على ترك المكان بسبب كراهيتي لعادته السخيفة بحك جسمه، لكنه قال:

-                     صَبَرت على العشرة معي ثلاث سنين فقط ثم هربت.. لم ننجب.. قال الأطباء أنا السبب..هَربَت ولا أعرف لها حتى الآن مكان أو مثوى.. بحثت عنها في بر مصر كله فلم أجدها..مازلت أحبها.. راقصة جميلة وفي الوقت ذاته رجل.. هي أصلا من مصر ولما الوالي طرد الغوازي والراقصات من مصر نواحي قبلي قابلتها في قنا وتعلقنا ببعض. أخذت كل ما أملك. أنا زوجتي الآن بهية

سألته:

-                     وهل أنجبت من بهية؟

ابتسم بمرارة وقال:

-                     بهية هي المركب

قلت في نفسي: طبيعي تهرب من وساختك

فوجئت به يضع يده على صدغه ويسمعني موالا بصوت شجي وحنون..

سايق عليك النبي إن كنت باقينى

تضحك بسن الرضا ساعة تلاقينى

دا انا الورد وانت المية تروينى

إن غبت دبلت أنا وان جيت بتحيينى

والله لو كان غيرك قمر لم تنظره عينى

 كان صوته في أذني له طعم القهوة.. دهشت كيف استطاع بحنجرته الخشنة أن يصدره.. طالبه الركاب بإعادته فأعاده

طلبوا غيره..قال:

-                     إذا كان صوتي ومواويلي تعجبكم لكم منى موال كل ليلة مجانا

تمدد وتهاوي..أغمض عينيه بسرعة ونام، وبقيت أفكر في ظروفه ثم نمت

في الليلة التالية دنا منى وأبعد حقيبتي القماش و جلس مكانها وطلب من جامع أن يعد الجوزة ويحملها إليه.. دخن وظل صامتا ثم سألني:

-                     لماذا سمّاك أبوك بهذا الاسم الغريب؟

-                     هل تعرفه؟

-                     جزيرة

-                     أكيد تتذكر الجزيرة التي تحركت من أمام البياضية منذ خمس عشرة سنة

-                     طبعا.. كانت في عز الفيضان

-                     ولدتني أمي فيها وبعدها بساعة تحركت الجزيرة وأنت تعرف الباقي

حط يده على رأسه وفتح فمه وعينيه وكل حواسه ثم ضرب جبهته بكفه، وقال:

-                     يا دين النبي.. حضرت الواقعة بنفسي..كان عمري تسع عشرة سنة..كنت راجع من مصر ببهية مثل الآن. تصوري أنا مثلك.

-                     كيف؟

-                     ولدتني أمي بهذه المركب

ابتسمت ومضيت أتخيل الحالة.. تسللت نسمات الرضا إلى روحي. اندهشت.. شردت. قالت لي نفسي:

-                     واعية للدنيا؟..ليست إلا حكاية تلد حكايات.

تنهد عبد الشهيد ومضي يدخن الجوزة ثم أطلق من حلقه موالا جميلا
 جمل النقا عضني في كتفي وانشبك نابه
 والحلو بلاده بعيده اللي انشبكنا به
 ياعمي بيع الجمل واسكر على نابه
 وإن جاك صاحب الجمل قله سكرنا به

 في الليلة الأخيرة أنشد

سلطان جمالك على أهل الغرام حاكم
وحارس الخال فوق ورد الخدود حاكم
شفتك عشقتك يا ريتك تراقب ربنا الحاكم
يا باهر الحسن إسمح لى بوصلك يوم
دا الصبر عنى رحل والشوق..أهو حاكم

 

(10)

 دعاني أبي لحضور جلسة مع بعض الفلاحين الذين طلبوا التحدث إليه وأخذ رأيه في رغبة الفرنسيين في هدم اثنين وثلاثين منزلا تفصل المسلة المراد نقلها عن النيل كى يستطيعوا إسقاطها وجرها حتى الباخرة.. أبي يستمع وهو جالس على كرسيه.. سألتهم:

-                     هل يتعذر أن يتم إنزالها أولا على وجهها؟

تبادل الرجال النظرات ثم قال أحدهم:

-                     أكد المهندس الفرنساوي أنه يتعذر

قلت:

-                      لو أسقطوها على وجهها لا حاجة لهدم البيوت

فهمنا من المهندس أنها ستحتاج إلى عمل كثير والنتيجة غير مضمونة

قال أبي في بطء شديد.. المسكين لسانه مربوط:

-                     المُش..كلة.. ليست في ال..هدم لكن..في التعويض

كان الأهالي وكلهم من أصحاب البيوت المجاورة للمسلة التي من المقرر أن تهدم.. قالوا:

-                     الحق أن الفرنساوية عرضوا استعدادهم لدفع تعويضات مناسبة

ساد صمت..قال أبي:

-                     لابد من تعوي..ضات عن البيوت الق..ديمة وثمن الأر..ض الجديدة

أشفقت على أبي من الحوار ومن المجهود.. كنت ضد الجلسة.. من طلب الحوار مع أبي يبدو أنه حاول أن يتجنبني فكل من يريد التحدث إليه كان عليه أن يمر بي أولا ويشرح لي ما يريد وأنا أسمح له أو لا أسمح.. طوال السنوات الخمس الماضية منذ علم بوفاة مدثر في اليونان وهو صامت.. شارد.. عاجز.. أقصى ما يفعله أن يتمتم بكلمات لا نكاد نسمعها وإذا سمعناها لا نفهمها فهي كالرموز، أو خطرفة نائم يحلم حلما غامضا. ها هو الآن يقول كلاما كبيرا لم أفهم إلا ثلثه وهو حق أصحاب البيوت.. بدا من تعليق الأهالي أنهم لم يفهموا أيضا غير الثلث.. الخلاصة أني فرحت.. الدماغ أهم من الجسم..صحيح الجسم هو الآلة، لكن الرأس هي القيادة.. الفكر و الرأي... بدونها يصبح أقوي البشر حمارا أو بغلا ولا يبلغ مقام الحصان.

طلعت الأفكار السليمة المشرقة احمرارا وبهاء على وجه أبي الذي كان شاحبا دائما.. سألوه مجددا:

-                     ماذا تقصد؟

قال أبي:

-                     تعويض للبيوت التي ستهدم

-                     مفهوم

استطرد وهو ينطق عبارته كلمة كلمة:

-                     تعويض.. للأرض التي..ستنكشف.. بعد رفع البيوت

-                     فهمنا يا حاج

تدخلت قائلة:

-                     الطريق بعد الهدم سينكشف كأرض عارية مهدمة ولا تصلح لسير الناس أو الماشية ويجب أن يتم تسويتها بشكل يجعلها صالحة تماما مثل المسلة

هز أبي رأسه وقال:

-                     وحق الأرض.. الجديدة

سألوه:

-                      أي أرض؟

ابتلع ريقه وهدأ قليلا ثم قال:

-                      عليكم شراء أرض تبنون عليها بيوتكم.. لابد يد..خل في التع..ويضات.

قال الأهالي:
- لقد حسبوا وانتهي الأمر

 سألتهم:

-                     من قال هذا ومع من اتفقوا وعلى أي أساس؟

-                     مع العمدة

-                     ما التعويض لكل منزل؟

-                     سبعة جنيهات

سكتُّ لحظات لأفكر.. قال أبي وهو ينتزع الكلام من كل جسمه تقريبا:

-                     قليل..

فتح كفيه وكف ثالثة أي 15.. قلت:

-                     التعويض يكون خمسة عشر جنيها.. عشرة للبيت وخمسة للأرض

-                     والعمل؟

-                     العمدة

قلت:

-                     انقلوا هذا الكلام لحضرة العمدة واطلبوا منه التحرك لطلب الزيادة كما أوضح أبي لكم

نظر الحاضرون لبعضهم البعض وبدا أنهم لا يستطيعون..

لم تسقط عيني عن وجه أبي وذراعه الأيمن المتهدل الذي بدأ في التوتر والاهتزاز بصورة زائدة، فقلت للأهالي:

-                     أظن الصورة وضحت لكم.. رجاء استكمال الحديث مع عمى زهران، وربنا يهيئ الخير

 استأذن الضيوف وساعدت أبي على الانتقال إلى السرير.. طلب كوبا من الليمون.. أعددت لي وله كوبين.. شربنا.. لا أدري السر في أني استشعرت أن هناك منطقة غامضة أو معلومة غائبة.. انطلقت مباشرة إلى منطقة العمل الفرنسية.. سألت أول من لقيته من الفلاحين.. كان مهران الحداد صاحب قصة العلم يقف قريبا من المسلة الشرقية التي لن ينقلوها:

-                     أين الفرنسي الذي يتحدث العربية؟

أشار لي على المترجم الذي كان ظهره تجاهنا ثم ناداه:

-                     يا ريمون

كان يتحدث مع شخص آخر.. التفت إلينا. عندما رآني أسرع بالحضور

قلت للحداد:

-                     لا.. ليس هذا.. هناك مترجم آخر

-                     آه تقصدين جوزيف

وصل ريمون، فقال له مهران:

-                     باردون.. نريد جوزيف

حياني الرجل ومضي.. سألت مهران:

-                     هل اسمه ريمون أو باردون؟

ضحك وقال:

-                     اسمه ريمون، لكن باردون يعنى آسف بالفرنسية يا ست البنات

شعرت بالخجل الشديد.. هذا العامل البسيط يعرف ولو كلمات قليلة من الفرنسية وأنا لا أعرف.. مصيبة.. أنقذني من تقريع نفسي وصول جوزيف.

قال على الفور وهو يخلع قبعته:

-                     أهلا يا هانم

-                     هل يمكن أن أسألك بعض الأسئلة؟

-                     تحت أمرك يا فندم

قلت في سري:

-                     يخرب بيت أدبك

قال للحداد:

-                     هات كرسيين بسرعة

أسرع مهران يحضر كرسيين، وضعهما بجوار المسلة بعد أن مهد الأرض حتى لا يوقعني الكرسي. أشار لي جوزيف حتى أجلس ولم يجلس إلا بعد أن جلست. بادرني:

-                     هل تحبين أن تشربي شيئا؟

لم أكن أعرف من الفرنسية إلا ثلاث كلمات، قلت له:

-                     مرسيه

فتح عينه وابتسم ثم سأل:

-                     هل تعرفين الفرنسية؟

عاد الخجل يحاصرني.. قلت:

-                     كلمات قليلة فقط

-                     لم أكن أعرف أنك ابنة العمدة السابق الحاج حكيم

-                     أومأت برأسي.. قال:

-                     لم ألتق بشخص إلا وامتدحه.. ربنا يمتعه بالصحة

برق في ذهني سؤال كان يجب أن أسأله قبل شهر:

-                     أنت لست فرنسيا

-                     بل فرنسي

-                     لكنك تنطق اللغة العربية أفضل من المصريين

-                     أنا مصري

ابتسمت.. قلت لنفسي:

-                     واضح أنه خفيف الظل، لكن مهمتي اليوم لا تسمح بهذا ويبدو أنها لن تسمح مستقبلا.. سألته:

-                     مصري أم فرنسي؟

-                     الاثنان

سألت نفسي:

-                     هل جئت لأجل أن يحكى لي تاريخ حياته؟.. ربما في فرصة أخري.. لا يجب أن أفسح المجال لكي يتقول علىّ الناس.. سألته:

-                     هل عوضتم الفلاحين مقابل هدم منازلهم؟

-                     نعم

-                     هل لي أن أسألك عن قيمة تعويض كل فرد؟

-                     بالطبع.. عشرة جنيهات عن كل منزل

-                     هل سلمتم التعويض مباشرة لكل صاحب بيت؟

-                     دفعنا المبلغ كله للعمدة وعاد إلينا بالإيصالات الموقعة منهم.

شعرت بالدوار للحظات.. هل يمكن للعمدة أن يرتكب هذه الجريمة؟.. هل يمكن أن يكذب على الناس ويسرقهم؟.. لا أظن أن الفرنسي يكذب.

قلت للمترجم:

-                     هل في خطتكم إصلاح الأرض بعد الهدم؟

-                     بالطبع إلا إذا طلب أصحابها إعادة بناء بيوتهم في المكان نفسه كما كانت

-                     في الأغلب لن يحدث هذا

-                     إذن تأكدي أننا سنسوي الطريق ونجعله صالحا تماما للسير ليساعد حاملات الجرار أو أوعية الماء حتى لا تسقط من أوعيتهم نقطة واحدة.

-                     هذا يعنى أنهم سيضطرون إلى شراء أرض للبناء عليها

-                     والمطلوب

-                     أن يُعوضوا بما يعادل نصف تعويض البيت لشراء الأرض

-                     أعدك أن أتحدث مع المسئولين وأتمنى أن أنجح

سرتني وعوده وحديثه اللبق الذي يصدر عن شخص ملتزم يمكن أن يحترم كلمته ووعده.. قلت:

-                     لكنك لست موظفا كبيرا ضمن المسئولين

-                     نعم أنا لست إلا موظفا بسيطا ولكنني أحدثك عن خطة البعثة وأنقل إليك بعض مبادئ المشروع والتزاماته.

أحسست في أعماقي أنني أود التحدث إلى هذا الشاب طويلا.. لكن المكان غير مناسب والمسافة الفاصلة بيني وبينه كبيرة جدا ولا تسمح بتجاوز الحدود، لكنه لطيف وجميل.. إنه.. إنه يكاد يشبه ملاكي الحارس الذي لم يظهر منذ مدة وكأنه هجرني.. هل يكون هذا الشاب هو تجسيد حي لملاكي الحارس؟.. أفيقي يا جزيرة

وقفت وقلت:

-                     شكرا لوقتك.. عن إذنك

-                     أنت من تستحقين الشكر

استدرت عائدة وأمسكت بلجام الحصان فبلغني صوته:

-                     لو سمحت.. لا أريد أن أتجاوز حدودي..

-                     تفضل

-                     أود أن تتاح الفرصة للقاء والدك

-                     سوف أستأذنه أولا

-                     طبعا

غادرت المكان وأنا أشعر أن الفضاء أرحب والنسيم عليل وكأن غدا يوم عيد.. هناك رائحة فرح في الجو، وهناك ابتسامات. لماذا لا تسير الحياة بنعومة أكثر؟!.. فكرت فجأة فيما قاله جوزيف المصري الفرنسي.. كيف أخذ عمي عشرة جنيهات وسلم لكل شخص سبعة؟.. صحيح أنا لا أميل كثيرا لعمى، لكن هذه الحادثة تحتاج إلى تحقيق أو إلى سؤاله شخصيا.. ربما كان جوزيف صادقا وربما حدثت تعديلات في التفاوض ومعلوماته قديمة.. لابد في كل الأحوال من السؤال..

هل يمكن أن يقبل عمى مواجهته؟.. وهل يمكن أن يرضي أبي عن إحراج عمي إذا كان الكلام صحيحا؟.. يجب ألا أرتكب حماقة.. يتعين علىّ أخذ رأي أبي.التقيت في طريق عودتي بأحد أصحاب البيوت.. تراجعت في آخر لحظة عن البوح له بما جري.. سألت أبي.. قال:

-                     لا تقدمي على شيء الآن.. سوف أخبرك غدا.

في الغد قال:

-                     أرسلي من يناديني بالشيخ يونس

أرسلت سلام المزارع لينادي الشيخ يونس وهو أحد أصحاب البيوت التي ستهدم

حضر الشيخ وسأله أبي عما نال، فقال: سبعة جنيهات

تنهد أبي وابتلع ريقه ولم يستطع أن يقول له شيئا.. حتى قال الشيخ:

-                      تود أن تقول شيئا

-                     لا

لم أستطع السكوت.. قلت:

-                     يا شيخ يونس

زعق فيّ أبي

- بنت

قلت له:

-                     سوف يعرفون منا أو من غيرنا.. أنت عَوّدتهم على الصدق والوضوح

انحنت رأس أبي قليلا، فشعرت بالخطأ والاندفاع، لكنى قلت للشيخ يونس:

-                     الفرنساوية دفعوا لعمى العمدة عشرة جنيهات عن كل بيت

اصفر وجه الشيخ وتطلع إلى أبي.. سأله في صيغة عتاب:

-                     حقا يا حاج حكيم

أومأ أبي برأسه مؤكدا ما قلته.

قلت:

-                     أبي يا شيخ يونس هو من طلب منى أن أخبرك أنت بالذات بما حدث

ولا أحد غيرك.. أنتم الآن أحرار في التصرف.. إما أن تطلبوا الفرق من العمدة أو تسكتوا.. ليس علينا أن نحارب لكم معركتكم.. هل أخطأنا

-                     لا يا ابنتي لم تخطئوا.. أنتم أكثر من يحرص على الأصول في البلد. لكن هل أنت مستعدة لمرافقتنا إلى العمدة؟

-                     مستعدة

قفزت إلى خاطري صورة جوزيف. لماذا يريد مقابلة أبي؟.. ليس بينهما أية صلة أو موضوعات مشتركة أو مصالح ولا يعرف أي منهما الآخر..

في اليوم التالي نقلت إلى أبي رغبة الفرنسي.. سألني:

-                     ماذا يريد؟

-                     لا أعرف ولم يكشف عن الغرض من الزيارة

-                     قلت أنه يتكلم العربية

-                     نعم ربما أفضل منا

-                     هل يعيش في مصر؟

-                     لا أعرف

-                     قلت أنه فرنسي

-                     جاء معهم ويتكلم مثلهم

-                     غريبة

-                     هل أنت متأكدة أنك لا تعرفين السر في طلبه؟

-                     أقسم أني لا أعرف

-                     تجاهلي طلبه أو ردي عليه بحيث يفهم أنني لست هذه الأيام على ما يرام

طرق الباب الشيخ يونس وقال: هيا بنا إلى العمدة.. خرجت معه.. كان بالخارج عشرة من الرجال.. مضينا إلى عمى زهران. رحب بوفد الفلاحين وإن بدا واضحا اضطرابه وزيغان عينيه.. تبادل الجميع التحية وطلب العمدة الشاي بسرعة.. قال الشيخ:

-                     لا عيب في أن يتعاتب الأقارب

-                     ابتلع ريقه وهز رأسه قائلا بصوت متحشرج:

-                     - طبعا

قال الشيخ:

-                     يقول المثل: إن كنتم أخوات تحاسبوا

قال العمدة:

-                     ليس بين الخيرين حساب

قال الشيخ يونس:

-                     ندخل في الموضوع ولك الكلمة فأنت كبيرنا

-                     حتى الآن لا يبدو أني كبيركم

تبادل الفلاحون النظرات، وساد صمت أنهاه مهران وهو شاب من أصحاب البيوت التي ستهدم، يعيش مع أمه وأخوته وحدهم بعد وفاة أبوهم:

-                     وصلنا منك يا حضرة العمدة سبعة جنيهات وعلمنا أن الفرنساوية سلموك عشرة لكل واحد

اهتز كوب الشاي في يد العمدة، وقال:

-                     تفضل يا شيخ

احتد مهران وقال:

-                     لم ترد يا عمدة..الحكاية كلها قلتها لك في جملة واحدة

قال العمدة:

-                     الكبار يتكلمون أولا يا بن نفيسة

ركبت الشياطين وهدان وفتح فمه ليصب جام غضبه على العمدة، لولا يد الشيخ يونس التي ضغطت على فخذه، وأسرع يقول كي يردم على النار التي توشك مبكرا أن تندلع

-                     يا حضرة العمدة.. غير معقول أن نصدق الأغراب ونكذبك.. فما هي الحقيقة؟

لاحظ الجميع أن العمدة مرتبك وحلقه جاف.. ارتشف من الكوب وابتلع ريقه، ثم قال:

-                     الأغراب كلامهم صدق.. لكن أنا قلت أجمع الجنيهات الثلاثة من الكل وأسدد الضرائب المطلوبة من الفلاحين الذين سجنوا كي نفك أسرهم

ضحك مهران باستهزاء وهز رأسه.. سأل هندي الأحول:

-                     واضح أنك لم تشرك أحدا معك في الفكرة

-                     أنا العمدة يا أحول

سأل الشيخ:

-                     كم فلاح خرج؟

-                      لم أدفع بعد

-                     ممكن نعرف الحسبة.. كم فلاح وكم المطلوب منهم وهل هناك أوراق؟

-                     إذن أنا أكذب يا يونس

اندفع مهران يقول:

-                     لم يقل أحد أنك تكذب، لكن لازم نساعدك.. نذهب معك للمديرية. نستعجل الإجراءات.

 لم يرد العمدة ولم يعلق.. ساد القليل من الصمت الملتهب إلى أن قال العمدة فجأة:

-                     شكرا يا بنت أخي.. أنت مديرة المشروع

-                     لا أفهم قصدك يا عمي

-                     كل هذا الذي يجري تحت سمعك وبصرك ولا تفهمين ما أقصد.. جمعت من يعيب في عمك بهذه الطريقة

-                     مستحيل يا عمي.. أنا موجودة من الأول ولم أسمع شخصا واحدا أخطأ في حقك.. الحقيقة أنك أنت من أهنت ضيوفك

-                      هكذا يا بنت حكيم

-                     ألا ترضى بالحقيقة؟

-                     وهل ما قلتيه هو الحقيقة؟

-                     لم تجب يا عمي على من سألك عن الفلاحين المحبوسين، وبالمناسبة لم نسمع عن أن هناك حبس لمن يعجز عن السداد

-                     أنا من سعى لذلك.. لعل أهل هذه القرية يعرفون قيمتي وفضلي

توترت قليلا وسألته:

-                     إلى ماذا سعيت؟

-                     هذا نظام جديد بدأ تنفيذه هذا العام استجابة من الحكمدارية للاقتراح الذي تقدمت به

قال الشيخ يونس:

-                     ربنا يخليك للبلد وأهلها يا حضرة العمدة

قال مهران موجها حديثه للشيخ:

-                     هل العمدة أخذ رأي أصحاب الشأن فيما فعل أو سيفعل؟

اندفع العمدة:

-                     رأي من يا ولد؟.. هذه والله عجيبة العجائب.. أفكر في مصلحة العباد ويقيمون لي محاكمة..

قال مهران:

-                     ليس من حقك التصرف فيما لا يخصك

وقف العمدة فجأة رغم كرشه وجسمه السمين وقال:

-                     الكلام انتهى.. ولد يا سباعي.. وصّلهم

قال رجب وآخرون:

-                     مسكين

قال الشيخ:

-                     واضح يا حضرة العمدة أن الكل لا يريد أن يتنازل عن حقه، و قالوا لي قبل حضورهم: سوف نسأل الفرنساوية ولن نسمح لهم بالهدم ونرد لهم ما تسلمناه من العمدة. ساعتها كما تعرف ستتصل البعثة بالقنصل والقنصل سيتصل بالباشا وتعرف الباشا لا يؤمن بالحوار والمناقشة ولا بالتحقيق.,. لا يعرف إلا الرصاص...

عاد العمدة يجلس ليس رغبة في الجلوس ولكن عجزا عن الوقوف والمشي.. وحدّق بحقد في وجهى وقال:

-                     كله منك يا جلابة الخير.. ربنا يخلي أبوك الذي أحسن التربية

تحملته كثيرا وكنت أغلي منذ دخلت..قلت له كلمة واحدة:

-                     حاسب يا عمدة

أخذ يضرب كفا بكف ويشير للحضور جميعا كي يخرجوا بسرعة من الدوار قائلا:

-                     ناس خسارة فيها المعروف

غادرنا بيت الرجل الذي لا أشعر بميل إليه وأتجنب لقاءه والسلام عليه حتى في المناسبات العائلية، منذ أشعل غضب أخي ضدي وحاول منع سفري مع خالي قبل عشر سنوات.. لم يمر يومان حتى أعاد الأموال إلى أصحابها ولزم بيته بعدها لمدة أسبوع وأشاع أنه معتكف لأن الرسول زاره في المنام وطلب منه الاعتكاف.. شخص دجال وأناني.. ابنه نصر أفضل منه.. فيه شهامة وكرم ورجولة وصدق لكنى لا أوافق على الزواج منه. أخشي أن يصبح يوما مثل أبيه، كما أنه عصبي ويندفع بسرعة ولا يستطيع التحكم في لسانه، وأنا لا أحتمل شخصا فيه هذا العيب.

اضطررت للذهاب إليه في الجبل الشرقي مع المطاريد حتى يعلمني ضرب النار.. سرقت فرد والدي وحملت بعض الذخيرة.. ناديت عليه. رد على ذراعه اليمين مجاهد.. قلت له:

-                     أرسل لي نصر الآن

جاءني نصر فطلبت منه أن يعلمني.. رفض وقال:

-                     لا يقبل أحد في العائلة ذلك أبدا

-                     إذن سأذهب إلى بيبرس

تغير وجهه فجأة واحمرت عيناه وقال وهو يأكل أسنانه:

-                     سيكون آخر يوم في عمرك

قلت له ما قلته لأستفزه وكنت أعرف أنه سيتوتر.. قلت:

-                     هذا هو الفرد وها هو الرصاص.. مد يده وأخذه وحشي الفرد بالطلقات

وابتعدنا عن الغيطان والناس.. لم أضيع من الوقت الكثير فقد أخطأت ثلاث مرات وفي الرابعة أحسنت وأصبت، وفي الخامسة كذلك والسادسة

قال نصر:

-                     ألم يحن الوقت كي نستقر؟

-                     هل تركت الحشيش إلى الخمر؟

-                     لماذا تقولين هذا؟

-                     كيف تبحث عن الاستقرار وأنت مطلوب للمحاكمة لقتلك جنديين؟

-                     بلغني أن الحكومة مستعدة للتنازل عن قضايا الإعدام والحبس إذا دفعت الدية

قلت:

-                     الباشا لم يعد يفكر إلا في جمع المال بأية وسيلة.

قال:

- ربما يمنح صكوكا للأغنياء تسمح لهم بدخول الجنة إذا دفعوا مبالغ مغرية.. الجيوش تأتي من الحرب لتستعد للحرب التالية.

-                     على فرض أنك ستسوى أمورك مع الحكومة لن يسمح أبوك لك بالزواج منى فهو يكرهني.

-                     ماذا تقولين؟.. أنت ابنته

-                     أخذ من الناس جزءا من تعويضات منازلهم التي ستهدم ولما ذهبوا لمطالبته بما استولي عليه وكنت معهم اعتبرني أنا المهيجة لهم

-                     أبي طيب وقلبه أبيض وينسي بسرعة والأهم أنه لا يرفض لي طلبا أبدا

كان نصر يحاصرني من كل جانب ويحاول أن يزيل كل عقبة..قلت له:

-                     المشكلة ليست عندك

-                     عند من؟

-                     عندي

-                     كيف؟

-                     لا أريد أن أتزوج

-                     سنة الحياة

-                     لا تصدق هذا

-                     يا جزيرة.. أرجوك.. سنكون أسعد زوجين

-                     الظروف ضدنا على طول الخط

-                     فكري

-                     انس مؤقتا وسوف تتغير الأحوال

-                     أفكر فيك بالليل والنهار.. مجاهد والرجال يقولون لي: ركز معنا وانس ابنة عمك..كلما عرضنا عليك فكرة تقول:

-                      ليس الآن

-                     أنا شخصيا أريدك أن تحافظ على نفسك.. الحكومة أصبحت عنيفة جدا وليس لديها عزيز

لويت عنق الحصان وقلت له:

-                     سلام يا نصر..

-                     أريد وعدا ولو بعد سنة

-                     كل الأمور في يد من خلقك فاصبر وثق به

-                     ونعم بالله

بيبرس ترك بيته وقرر العيش في معبد الكرنك بصحبة كلبه. يقضي معظم وقته في صيد الأرانب والعصافير. يجيد التصويب بدرجة مذهلة. رفض الانضمام إلى نصر وجماعته. أحب هنية أخت مهران الحداد ولم تعره اهتماما.. آثر أن يهجر الناس ويعيش وحيدا ينشد المواويل.. يربي عددا من الماعز والخراف ويزرع خمسة قراريط يملكها وراء المعبد بالخضروات والبرسيم وبعض أشجار الفاكهة..

 منذ أن سافرت إلى القاهرة مع خالي وأولاده لم أعد أنا جزيرة التي يعرفها الناس كطفلة.. زادت درجة تغيري بعد وفاة أخي مدثر.. الأخ الجميل الرائع زين الشباب.. لمّا تلقينا الخبر تحطم أبي جسدا وروحا وفكرا. اختفي تماما من الحياة مع أنه لا يزال حيا.. كان سبعا بمعنى الكلمة.. كان الحنان والتسامح والقوة والشخصية والمهابة والحكمة.. في لحظات قليلة ضاع كل شيء ولم يستطع الأطباء فعل أي شيء وقد ذهبنا به إلى كل طبيب سمعنا عنه سواء في القاهرة أو طنطا أو المنصورة والإسكندرية دون جدوى، كما ذهبنا به إلى الدجالين والمشايخ والعرافين وقراء الكف ونفذنا كل ما أمروا به ولا نتيجة، وبعد سنتين أقسم أنه لن يتحرك من بيته لأي سبب إلا إذا منّ الله عليه بالشفاء. لماذا يريد جوزيف أن يزوره. ذهبت إلي الموقع.. تسمرت في مكاني.. هل استطاع الفلاحون أيا كان عددهم أن يزيلوا اثنين وثلاثين بيتا في يومين، وليس معهم غير الفؤوس والمقاطف.. جدران المعبد وأعمدته ظهرت للعيون.. اختفت البيوت.. كيف أزالوها تماما بهذه السرعة؟.. دنا جوزيف ورحب.. سألته عن البيوت.. قال:

-                     نسفها الفلاحون

-                     كم فلاح عملوا عليها؟

-                     أربعون.. عشرون للهدم وعشرون لنقل الأتربة والحجارة والأخشاب

-                     حجارة!

-                     نعم.. حجارة معابد وعليها نقوش رصّوها كأساس قبل البناء

-                     خطوة مهمة انتهيتم منها ستساعد في تحديد الطريق لنقل المسلة

-                     الطريق مرسوم في باريس

-                     أقصد أنكم الآن تقفون على أرض الواقع وليس على الورق.. الورق مهما كان دقيقا فهو خيال ولكن ما تم سلمكم الحقيقة

-                     حقا.. دعينا من هذا الآن..هل طلبت من السيد الوالد أن يسمح لي بالزيارة؟

-                     أبي ليس بحالة جيدة هذه الأيام

-                     عرفت من بعض الفلاحين أنه مريض منذ أن فقد ولده في حرب اليونان.

نظرت إليه بقدر غير قليل من القلق.. إنه فيما يبدو فضولي وإن لم يتجاوز حدوده.. ما الذي دعاه للسؤال؟.. قلت له:

-                     أبلغت أبي طلبك فقال: لا يعرفني و لا أعرفه وهو كذلك غريب، كما أني لم أعد العمدة.. بالإضافة إلى أني مريض ولا فائدة تنتظر من شخص في وضعي.. فماذا يريد؟

-                     هل تصدقينني لو قلت لك أنني لا أريد منه أي شيء

-                     لا يهم أن أصدقك أو لا أصدقك..

 ليس هناك ما يشجع على مواصلة الحوار.. ربما يسيئه ردي لكنه يكشف الحقيقة.. الطرفان بينهما كل الأسباب التي تفرق وليس بينهما ما يجمع أو يقرب.

-                     كلام الناس الطيب عن والدك يدفعنى للتعرف عليه.

شرد ونظر إلى الأرض.. تنهد، ثم قال بصوت به مسحة من الشجن:

-                      لم أر والدي فقد مات قبل أن أولد، وزوج أمي مات وأنا في الحادية عشرة.. هل تصدقيني لو قلت لك أنني أود أن يكون لي والد ولو بضعة أيام..

لم تعجبني أفكاره ولا كلامه.. أحسست أني أتكلم مع نصاب.. قلت:

-                     لا أصدقك

ضحك كثيرا ومضي يضحك بشكل هستيري، فنهضت.. أسرع يمسك يدي.. نظرت إليه بحدة فتركها.. قال:

-                     لم تأخذي وقتك لتفكري فيما قلته

-                     لا يحتاج

-                     أظنك إذا أعدت فيه النظر وتأملته بصورة موضوعية أي بعيدا عن العواطف سواء الرضا أو النفور ربما تجدينه مقبولا

امتطيت الحصان فاستوقفني قائلا: دقيقة من فضلك

وقفت.. فقال:

-                     تحدثت إلى رئاسة البعثة عن الطريق فقالوا أنهم سيجعلونه صالحا للسير بشكل جيد وآمن، وعرضت عليهم منح أصحاب المنازل خمسة جنيهات لكل فرد كي يشتروا أرضا يبنون عليها إذا تركوا أرضهم للطريق فوافقوا على أن يبعثوا برسالة إلى القنصل الذي سيبعث برسالة إلى الحكومة الفرنسية وقد يحتاج الأمر شهرا، وفي كل الأحوال مادامت البعثة وافقت فقد انتهى الموضوع والباقي مجرد مكاتبات.

 هذا أجمل ما سمعت اليوم.. أيقنت أن هذا الشاب صاحب كلمة وقد أوفي بالوعد.. ربما كانت له مكانة بين رجال البعثة، وإن كنت لا زلت لا أعرف ما علاقته بمصر.. أنا واثقة أن علاقته بها ليست بسيطة أو عابرة.. قلت له من قلبي:

-                     شكرا لك.

-                     الأمر لا يستحق الشكر

-                     لي رجاء

-                     أمر وليس رجاء

-                     أن تنقل إلى إدارة البعثة رغبة الأهالي أن تدفع التعويضات الجديدة لهم يدا بيد وليس عن طريق وسطاء

-                     ما تقترحينه هو الأفضل في اعتقادي

-                     أشكرك من جديد

-                     لا تنسي أني سأظل أنتظر الموافقة على لقاء الوالد

-                     إن شاء الله.. سلام

عندما وصلت البيت كانت هديتهم الجميلة في انتظاري.. خالي كان يحضر إلى الأقصر كل عام وقد اتفقنا على أن يحمل معه كتب المدرسة التي لا تحتاجها خديجة أوعائشة.. لن يحضر هذا الصيف لكنه أرسل مع عبد الشهيد كتب السنة الفائتة. اعتدت قراءة كتبهما في اللغة العربية والرياضيات وتفسير القرآن والفقه والتوحيد وكذلك التاريخ والجغرافيا.لكن كتاب النصوص الذي يتضمن كتابات الجاحظ والتوحيدى وأشعار المتنبي والمعري وامرؤ القيس وغيرهم صعبة.

 

(11)

 زارني طيفها. كان العمل يجري على قدم وساق.. حملت طيفها في أعماقي ومضيت إلى الباخرة..اجتذبني النيل البديع رغم الماء الذي يغلب عليه اللون البني المحمر بسبب الطمى المتعلق به أبدا..إذا الماء غذ سيره تعلق به الطمى وإذا حط الماء وتمهل ارتبط الطمى به وتمهل ثم حط وانتظر الحركة التالية للماء.. أنا الطمى وهي الماء.. سوف يأتي قريبا ذلك اليوم.. حتى الآن أعيشه فكرا، وهي لا تأبه.

 بدأت ألاحظ حالتي بعد أن تعرفت أكثر على " جزيرة ".. تلك الجميلة ابنة العمدة السابق حكيم. الفتاة صاحبة الوجه المضيء رغم سماره النسبي.هي ليست بالتحديد سمراء. لون بشرتها ليس من بين الألوان السائدة. لون بشرتها خلطة عجيبة من لون الكبريت والليل والتفاح والطمي المغمس بالخمر والعسل والقشدة.. المهروس مع البلح الأمهات والتوت الأبيض والتين والزيتون وقليل من القرنفل..الجميع محمص على جمر الوجد والمسك والعنبر ونفحات من أحلام سعيدة لملاك ضل طريقه وكان عائدا في آخر الليل إلى الجنة.

 عيناها الخضراوان ساحرتان. شفتاها القرمزيتان الدسمتان دعوتان حاراتان للعناق والفناء في العشق.. نظراتها ذات الإشعاع والشخصية.. شعرها الطويل الذي يظهر تحت غطاء الرأس الشفاف دائما بغض النظر عن لونه.. تلك الفتاة ذات العود الممشوق والقامة السامقة المطلة بشموخ راق وناعم وأصيل.

 كنت قد حزمت حقائبي للمغادرة عائدا إلى فرنسا بعد أن رحلت أمي الغالية، وها أنا أتحول عن وجهتي بجملة واحدة من الكولونيل وأنتقل للعمل في بلد لم تخطر ببالي وأبقي فيها عدة أشهر لألتقي خلالها بالجميلة التي توشك أن تربطني بمصر في عكس اتجاه ترتيباتي التي عملت عليها شهورا.

 تعددت تلك المناسبات التي أمسك بنفسي متلبسا بالتفكير فيها حتى أثناء العمل وبالليل وإبان ساعة الغداء وكلما كنت وحدي.. تتوارى قليلا صورة أمي.. تبتعد عنى صورة عمى وبناته.. تتراجع صورة الكولونيل سيف الذي كان قريبا منى جدا وحاضرا بقوة..يتعذر أن أنظر إلى شيء آخر غير عينيها.. بحيرتان من العذوبة والجمال.. من الشعر والخيال.. اللؤلؤ الأخضر يغطى سطح البحيرة ويتراقص ويعكس عمق السماء وأسئلتها.. لم أعد أريد شيئا من الدنيا إلا أن أجلس أمامها وأحدق في ملامحها وأرتوي وأنتشي.. الجمال قادر على أن يحول الكون إلى جنة.

 لاحظت أن فكري بدأ يبحث عن طيفها وإذا التقطه لا يفلته.. يستبقيه بكل السبل ويسألها من خلاله عن أحوالها.

-                     هل حلمت أثناء نومك في الليلة الفائتة وبماذا حلمت؟.. هل مررت ولو عابرا بحلم من أحلامك؟.. كيف ترينني؟.. ما لذي تشعرين أنه ينقصك؟.. ما لذي يشغلك ويمكن أن يمنعك من النوم ساعة أو بعض ساعة، وهل هو مهم إلى هذه الدرجة؟.. ماذا تتمنين لنفسك؟ وهل يخطر أحد غير أسرتك الصغيرة ببالك؟ كيف تقضين وقت فراغك؟.. هل تحبين الأعمال المنزلية كهواية؟ وما الأكلات التي تحبين؟ أعرف أنك تحبين ركوب الخيل فهل راودتك الرغبة في التجول بالحصان في أماكن بعيدة في الأقصر للتسلية والمشاهدة وتغيير الجو ومغادرة سجن البيت وثبات الوجوه والمناظر؟.. هل تميلين للقراءة وماذا تقرأين؟.. هل خطر الحب على بالك؟..هل هو مهم جدا أم أنه شيء عادي أم ليس له وجود أصلا والموجود فقط هو الزواج وإنجاب الأبناء؟.. ما رأيك في طباعك؟.. هل تعتبرين نفسك مادية أو عاطفية أم عملية؟ ما رأيك في الرجل عموما وما السمات التي تتمنين أن تتوفر في زوج المستقبل؟ والسؤال الأهم.. لقد أكملت تقريبا الخامسة والعشرين فلماذا لم تتزوجي رغم جمالك وغناك والسمعة الطيبة لأسرتك؟

مما يؤسف له أن عدم حصولي على أية إجابة كشف جهلي التام بشخصيتها وحتمية الحصول على إجابات لا مفر منها إذا كنت أود أن أقيم معها علاقة أو على الأقل إذا كنت أريد التعرف إليها تمهيدا لإقامة علاقة ما..لابد من لقائها كثيرا والحوار معها في شئون شتى وهذا بالطبع متعذر في الأقصر.

 أظن مجرد ظن أنها ربما تميل للقراءة بعض الوقت، أو لها رغبة في ذلك لولا نقص الكتب لأن المطبعة لا تزال ناشئة في مصر ولم تطبع إلا القرآن والمكاتبات الرسمية. ليس أمامي من سبيل إلا أن أعمل على فتح باب تبادل الرسائل إذا أبدت بعض الاستعداد لذلك.. لابد أن أبدأ بكلمات عامة وأقوال مأثورة لا تدفع بي إلى بحر المشكلات فتكون الطامة مع أهل البلد وهم بالقطع على درجة كبيرة من الانغلاق والتزمت، والشيخ أبو الحجاج على بعد خطوات.

أحضرت ورقة وسحبت قلما وكتبت رسالة، لا يضرني أي حرف فيها إذا وقعت في يد أي شخص مهما كان سيء الظن.

 كتبت مقدمة:

"أنا جوزيف الفرنسي المصري.. أرجو أن تسامحيني إذ أكتب إليك فلم أعد أحتمل ألا يدور بيننا حوار.. أتابعك منذ رأيتك في الطاحونة وفي كل مرة كان إعجابي بك يزيد.. جذبتني إليك بجمالك وشخصيتك وأتمنى أن يكون بيننا كلام أحس أنه أصبح لازما..إنني أشعر أن ذلك سيحدث يوما ما لكن طبيعة البلد ربما لا تسمح بلقاء يجمع شابة وشابا خاصة إذا كان مثلي غريبا، لذلك ليس أمامنا إلا أن نكون صديقين نتبادل الأفكار حتى تعطف إرادة الله علينا فتشملنا بمد حبل الود الصادق.. دمت في سعادة "

قرأت المقدمة مرات، ورأيتها مناسبة.. تنبهت فجأة لخطورة ما ورد بها.. أسرعت بتمزيقها.

 بدأت في كتابة رسالة جديدة.. جاء فيها:

 " أنا على ثقة أنك تحبين القراءة حسب ما تتيسر الكتب، ويسعدني أن أبعث إليك ببعض ما تبقي لديّ من أفكار وأقوال، فقد تحوز رضاك، أو تستحق المناقشة. من المفيد للإنسان أن يطالع كثيرا قدر ما يتاح له مثل هذه الحكم وخلاصة التجارب ربما تلقي الضوء على طريقه وتنير فكره إذا واجه موقفا يصعب التصرف فيه.. أكثرنا يقابل هذه المواقف وقد تحاصره الحيرة ويتمنى عندئذ أن يعثر على رأي يساعده كى يخرج من أزمته.. من هذه الأقوال:

·                    إذا أردت أن تصمد للحياة فلا تتعامل معها على أنها مأساة

·                    كن إنسانا أو مُت وأنت تحاول

·                    قال أحد كبار الموسيقيين: من يريد أن يقود الأوركسترا يجب أن يدير ظهره للآخرين

·                    كثيرون على قيد الحياة.. قليلون على قيد الإنسانية

·                    السعيد لا يملك كل شيء، لكنه يسعد بأي شيء يملكه

·                    لا تعتمدي كثيرا على أحد في هذه الحياة فحتى ظلك يتخلى عنك في الأماكن المظلمة

·                    الفشل ليس دائما سيئا، يكفى أنه يدفعك للبدء من جديد بعد أن تكوني قد تعلمت أكثر

·                    الموت ليس هو الخسارة الكبرى. الخسارة الكبرى هي أن يموت فينا الجمال والقدرة على الحب ونحن أحياء

·                    إذا كنت لا تملكين شخصا مميزا في حياتك، فلا تحزني فقد تكونين أنت الشخص المميز في حياة الكثيرين وأنت لا تعلمين

·                    الوضوح والصراحة تجعل العلاقات تستمر رغم الخلافات.

·                    كوني قريبة من الشخص الذي يجعلك سعيدة، وأكثر قربا من الشخص الذي لا يكون سعيدا إلا بك

·                    لا تتم الأعمال العظيمة بالقوة ولكن بالصبر

·                    من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئا فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى الأسعار

·                    ما أظلم الإنسان الذي ينفق مالا كثيرا لتعبئة الجيوش ودفعها للحروب لتقتل الناس في الوقت الذي يضن فيه بالمال لينقذ الناس من الموت

·                    إذا فقدت مالك فقد ضاع منك شيء ذو قيمة، وإذا فقدت شرفك فقد ضاع منك شيء لا يقدر بقيمة، أما إذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء.

 أتمنى لك موفور السعادة.

راحت السكرة وجاءت الفكرة..كيف أضع الرسالة بين يديها؟.. لا أحد يؤتمن عليها. يبدو أن قلبي سيفتح بوابة المشاكل..أنا لم أحبها بعد لكنى سأشعر بالخسارة إذا فقدتها لأي سبب..من يحمل الرسالة إليها دون أن يوقعنا في القيل والقال؟..؟..من؟..من؟.. أخوها بركة..لا. بنت من البنات؟.لا.. البنات فضوليات أكثر من الأولاد.. الحل تكليف صبي ومكافأته..أين هذا الولد؟.. جارها أو يعمل عندها؟.. فكرت كثيرا حتى ضقت بنفسي..نهضت. مضيت إلى الموقع.

 كان كبير المهندسين ومعه العمال قد بدأوا يعدون قواعد حجرية في قاع النهر ملاصقة للشاطئ موزعة على مساحة يبلغ طولها نحو العشرين مترا في عرض عشرة أمتار وهي مكونة من القطع الحجرية الضخمة التي جلبوها من طريق الكباش.. اضطر المهندسون لاستخدامها لأنها تتمتع بمتانة كبيرة بحيث يمكنها أن ترفع ثقلا بوزن المسلة ويزيد.. كانت الخطة حسب ما رأيتها في أوراق ريشار تقتضي أن يثبت على القواعد اثني عشر عمودا غليظا من الحديد يمتد فوقها سقف من ألواح الخشب وتحفر في الألواح فتحة يبيت فيها طرف كل عمود بحيث يصبح هناك مرسي جديد يصل ما بين الضفة والباخرة " الأقصر " وغيرها من البواخر ويكاد يحتضنها حتى لتبدو الباخرة كأنها جزء من المرسى.

 عمل دقيق ومهم يحتاج إلى إتقان شديد وإلى إحكام غير عادي لتوثيق عناصره لأن تخلخل أي جزء فيه سيفضى إلى كارثة أو على الأقل خسارة كبيرة.. لمحت ولدا في نحو الثانية عشرة نحيلا وضئيلا لكنه ذو همة ويعمل في صمت.. رأيته من قبل وهو يتناول غداءه من الخبز والجبن مع زملائه.. كانوا يضحكون ويثرثرون وهو بالكاد يبتسم.. نظراته إليهم نظرات رجل كبير خبر الحياة.. أظن أنه يصلح للمهمة.. في نهاية اليوم سأكلفه بها وسأمنحه قرشا. وأحذره من أن يسلم الرسالة لغيرها، وإذا لم يجدها أو إذا تعذر أن ينفرد بها فعليه أن يعيدها إلىّ.

 قبل نهاية العمل سمعت ضجة فأسرعت إلى مصدرها.. كان الولد الذي اخترته ليحمل الرسالة يتلوى ويتقيأ ثم وقع على الأرض.. صرخت النسوة.. تبين لي أن أمه كانت موجودة.. سمعت زملاءه ينادونه:

- محسب.. مابك؟.. رد يا محسب..

 ارتفع صوت روجيه وهو يدفع الجميع:

-                     ابتعدوا.. دعوه يلتقط أنفاسه.. ماذا أكل؟.. تكلموا..

كان المترجم يعيد كلام روجيه بالعربية.. قالت أمه المصفر وجهها:

-                     مثل كل يوم.. خبزا وجبنا وقشر برتقال مخللا في المش

حزنت على الولد حزنا مضاعفا..أرسل روجيه مساعده لإحضار قياس ضغط الدم ومضاد حيوي ضد البكتيريا

-                     في صندوق العلاج سوف تجد كلوروامفنيكول

 قاس ضغط محسب..مط شفتيه.. أعطاه المضاد الحيوي بالفم

سألته:

                    لماذا بالفم؟

                    أسْرَع

استطرد موجها كلامه للعمال

-                     يُحمل إلى البيت ولا يأتي غدا..سنزوره في الصباح..أين أمه؟

أجابته بلهفة

-                     موجودة يا دكتور

-                     تابعي البراز

نقلت إليها ما قاله الطبيب

-                     لا يأكل شيئا وإذا ارتفعت درجة حرارته استعملي الكمادات.. اسقه ماء مغليا بعد تبريده طبعا

التفت الطبيب إلى جميع العمال وقال:

-                     أي شخص.. رجل أو امرأة أو طفل يشكو من مغص أو إسهال أو جفاف أو ارتفاع في درجة الحرارة يتصل بنا فورا في أي وقت من النهار أو الليل.. لا تنسوا..فورا.. المرض ليس فيه خجل..

بعد ساعتين جاء ثلاثة يشكون من مغص شديد وإسهال مخاطي خفيف

أعطاهم الطبيب مضادا حيويا.. كانت الحرارة مرتفعة ارتفاعا طفيفا..

-                     لا تشربوا إلا الماء المغلي ولا تقتربوا ممن يعيشون معكم.. لابد من العزل

اتجه الطبيب مباشرة إلى غرفته وكتب رسالة إلى دروفيتى ومعها قائمة من الأدوية..خرج الطبيب وقال لمساعده:

-                     عليك الآن أن تنطلق إلى قنا فورا و تطلب من الحكمدار سرعة إرسالها إلى مسئول الصحة المصري والقنصل الفرنسي.

شرد لحظات ثم استطرد:

-                     ابحث لي عن رئيس الحراسة التركية، واطلب منه جوادا ويفضل جوادين واحد لك وواحد لمرافق منهم معك.. هيا أسرع الآن إلى قنا

انطلق مساعده..أشار لي روجيه أن أتبعه وسبقنى إلى المهندس وأرسل في طلب القبطان والبحارة.. قال:

-                     ما كنت أخشاه حدث

سأله ريشار:

-                     ما الذي كنت تخشاه

-                     الكوليرا

-                     وما الذي جعلها تخطر ببالك؟

-                     علمت أنها انتشرت في الإسكندرية والقاهرة بسبب الوافدين من الحجاز أو من بلاد هاجمتها الكوليرا

تلفت الجميع نحو الجميع، بسرعة اصفرت بعض الوجوه

بعد لحظات سأل المهندس:

-                     بماذا تنصح؟

-                     أولا.. أحب أن أوضح أنها ليست مرضا قاتلا إلا في حالة البيئة الملوثة والمطلوب الآن.. تخفيف العمل قليلا..التأكيد على ضرورة غلي الماء والحذر من التلوث.. عدم الاقتراب من النيل مطلقا..متابعة البراز.. الإسهال يعنى الكوليرا..ضرورة الإبلاغ عن الجفاف أو الحرارة المرتفعة..

التفت إلىّ فجأة وقال:

-                     أما أنت يا جوزيف فمطلوب حملة توعية للفلاحين، وإلا مات الجميع

سهرت أجهز الأقلام الغاب و أصنع من بودرة "زهرة الغسيل " حبرا ولم أجد ورقا فكتبت على قماش الأجولة والشكاير الخيش

" أهالي الأقصر الكرام

بدأ في الظهور مرض ينتقل بالعدوى ومن المواد الملوثة

لذلك ندعوكم إلى 1 – عدم الاقتراب من النيل لأي سبب

2 – الاعتماد على المياه المغلية للشرب والطبخ

3 – في حالة ظهور إسهال نرجو سرعة التوجه للوحدة الصحية أو البعثة الفرنسية

4 – مراقبة الأطفال وإبعادهم عن أي تلوث

5 – عدم تناول أي خضروات أو فاكهة من الحقول إلا بعد غسلها بماء مغلي وليس بماء النهر

6 – كل من يشكو من أي شيء يتجه فورا للوحدة الصحية

قمت بتعليق الأقمشة الدعائية عند المسجد وفي أماكن بارزة على حوائط البيوت التي في الميادين وإلى جوار المحلات والورش.. أبلغت العمدة وشيخ البلد..أكدت على الشيخ يونس أن ينبه الأولاد في الكتاب والكبار في خطبة الجمعة في الجامع وقبل كل الأحاديث التي يلقيها.

في اليوم التالي تعالت الولولة والعديد.. علمنا بوفاة محسب وامرأة وطفل آخر.. طلبت من روجيه أن يلقى علينا محاضرة مختصرة حول الوباء.. لابد أن نعرف كل شيء عنه كي نساعد في مقاومته ومساعدة الأهالي.

أعجبت الجميع الفكرة خاصة أن الغد هو الجمعة وهو يوم أجازة.

فوجئنا بحضور الدكتور قرشي الذي لا يحضر في أيام عمله.. سألته عن سر حضوره.. قال:

-                     أتابع الحالة وعلمت أنها في الطريق إلي الأقصر وربما تصل اليوم.. قلت لابد أن أكون في استقبالها ولن أعود إلى بلدي إلا بعد أن تنزاح، وندعو الله أن يعيننا عليها وأن يلطف بالناس.

قال روجيه وكنا نجتمع بعد الغداء في معبد الأقصر تحت الخيمة الكبيرة والجو لطيف والنسمات تهل علينا من بحري

-                     الكوليرا من الأمراض المعوية والمعدية تسببها سلالات من بكتيريا اسمها " ضمة الكوليرا "، ويصاب المريض إذا تناول طعاما أو شرب سوائل ملوثة حاملة للبكتيريا أو تعامل مع شخص مصاب بها..وأكثر ما يهدد المريض المصاب بضمة الكوليرا ارتفاع ضغط الدم خاصة إذا لم يعالج بمضاد حيوي خاص بالكوليرا عن طريق الفم خلال ساعات قليلة من 4 إلى 10 ساعات، وفي الحالات الحادة يمكن أن يتوفي المريض خلال ثلاث ساعات.. ولابد من مراقبة البراز الذي يسمى عادة براز ماء الأرز لأن حدوثه بكثافة يمكن أن يؤدي إلى وفاة المريض.

سأل القبطان:

-                     ما أفضل علاج؟

-                     أولا الوقاية خير من العلاج، وعلى فرض أن المريض قد أصيب بالفعل فنجاح العلاج يتوقف على السرعة والطريقة، وأفضل الأدوية هي المضادات الحيوية مثل التتراسيكلين والكلورومفينيكول عن طريق الفم.

ولا يزال الطب عاجزا عن إنتاج مضادات قوية تقضي على المرض، كما أن وسائل الوقاية محدودة حتى وسائل التعقيم والتنظيف بالمطهرات ليست بالكفاءة المطلوبة، والأخطر لا يزال حتى الآن يكمن في سلوكيات الأفراد خاصة في المناطق الفقيرة حيث التلوث وغياب الوعي الصحي.. مريض واحد يمكن أن يعدي مائة خلال ساعات قليلة.. المرض وحده ليس هو الذي يحصد الأرواح ولكن غياب الثقافة الصحية، ولمس أشياء المرضى والعكس هو ما يجعل من الأوبئة ومنها الكوليرا آلة حصد للأرواح.

سألت روجيه:

-                     هل لديك فكرة عن ضحايا المرض في مصر حتى الآن؟

-                     بلغت الضحايا حتى الأسبوع الماضي نحو خمسين ألف متوفي والمصابون تقريبا ضعفهم وهناك محاولات جادة للمقاومة والعلاج.

ساد صمت ثقيل وأليم، وانحنت رؤوس واهتزت أرواح.

زعق بحار كان على الشاطئ يهتف بنا كي نسرع لمشاهدة قافلة من السفن.. تركنا المحاضرة وقفزنا إلى باخرتنا.. اندهشنا جميعا وتساءلنا عن السر

.. كانت هناك سبع سفن كبيرة وجديدة....تبدو جيدة التجهيز.. ممتلئة بالمئات من غير المصريين هم في الأغلب أوروبيون.. أطلقت السفينة الأولي عندما رأتنا نلوح لها بالتحية سارينتها عالية الصوت، وتبعتها الثانية والثالثة.. تساءل الجميع عن سر سفر هذا العدد.. هل هي رحلة جماعية؟.. أمر مستبعد.. صحيح أن أكثرهم يغنون ويرقصون وأصوات الموسيقى تملأ الجو بالفرح، لكن أحدا لم يسمع عن رحلة بهذا العدد الذي يمكن أن يتجاوز الألف ونصف الألف.. هل هناك مشروع كبير سيجري تنفيذه؟.. مسألة غير منطقية.. لماذا كل هذا العدد وما المشروع الذي يتطلب سبع سفن لخدمة متطلباته من العتاد والبشر؟!!..

بعد مرور السفينة الرابعة قال روجيه فجأة:

-                     ولماذا لا يكونون هاربين من الكوليرا؟

قال المهندس ريشار:

-                     تقصد أنهم يعملون في القاهرة وقد قرروا الابتعاد عن العدوى؟

-                     نعم

-                     وكيف أمكنهم التجمع بهذا الشكل؟

-                     بسيطة.. السفارات اتفقت مع الشركات صاحبة السفن على استئجارها لمدة أسبوع مثلا أو توصيلهم والعودة، ثم جمعت أسماء الراغبين في الابتعاد والسفر إلى منطقة آمنة ولتكن أسوان، وتحدد عدد السفن حسب عدد الأفراد الراغبين في المغادرة.

 بعد العشاء فوجئنا بمن ينادينا من البحارة كي نشهد المنظر الجميل.. أسرعنا لنري الفرح الأسطوري.. ماذا يجري اليوم في نيل مصر؟..

كان المشهد بديعا بالفعل.. سبع سفن تشكل عقدا من النور. بينها مسافات متساوية تماما.. كل منها مضاءة بالكامل.. دنت السفينة الأولي من مرسي الأقصر ورست السفن السبع بالقرب من باخرتنا.. كنا جميعا وقوفا في شبه عتمة قبل وصولهم.. امتلأ المكان بالضوء الذي سطع على معبد الأقصر وأعمدته.

طلب الركاب أن يهبطوا لمشاهدة المعبد..قال هنري القبطان لهم:

-                     أولا لا توجد أية إضاءة ولا حتى بالشموع، ثانيا المرسى ما زال تحت الإنشاء ويتعذر الطلوع والنزول عليه أو بدونه.

قال عدد كبير منهم بصوت حزين:

-                     يا خسارة

سأل القبطان:

-                     لماذا رجعتم بسرعة هكذا؟..

قال القبطان الآخر:

-                     أتحدث الإيطالية والإنجليزية

أعاد هنرى قبطان " الأقصر" سؤاله بالإنجليزية.... قال القبطان الإيطالي:

-                     وصلنا حتى إسنا فطلبت السلطات منا التوقف والعودة ولم يسمحوا لنا باستكمال الرحلة إلى أسوان

سأله روجيه:

-                     هل هي رحلة ترفيهية؟

ضحك القبطان وقال:

-                     نحن هاربون من الكوليرا

نظر روجيه إلى زملائه.. باسطا كفيه على الأجناب وماطا شفتيه

سأل هنرى:

-                     ولماذا أوقفوكم؟

-                     قيل لنا إن إبراهيم باشا أقام كردونا صحيا ليحمى رجال أسطوله الذين يتدربون في النيل من إسنا إلى ما بعد أسوان

قال قبطان إنجليزى:

-                     أعرف أنه يخاف على صحته جدا إلى درجة أنه يحاول دائما خدمة نفسه بنفسه والاطمئنان الدائم على نظافة من يخدمونه

قال الإيطالي:

-                     هذا يعنى أنه يدرك بالفعل أن الوضع في منتهى السوء

قال الإنجليزى:

-                     طبيعي أن يكون نسخة من أبيه، لأن الباشا الكبير ترك القاهرة والإسكندرية واتخذ من سفينة في عرض البحر مكتبا وسكنا، والأعجب أنه ترك السفينة بعد يومين واستقل يختا لأنه تشكك في أحد العاملين في السفينة الأولي.

 كنت أتمنى لو كانت الظروف تسمح باستضافة هذه الآلاف من الأوروبيين.. لم نستطع خاصة مع الظلام أن نقدم لهم الفاكهة أو الخمر أو حتى الشاي أو القهوة.. لم نستطع أن نأخذهم في جولة بسيطة لزيارة معبد الكرنك ومعبد الأقصر.. أنا الآن أشعر بمصريتي المستنفرة والتي كان يجب أن يكون لها دور في الترحيب بالغرباء.الكوليرا مع الظلام والعدد الكبير من الركاب والإمكانيات المحدودة حال دون إقامة سهرة جميلة تجمع أشخاصا من كل جنسيات العالم تقريبا

قال كل قبطان من السفن السبع:

-                     معي مواطنون من استراليا وأمريكا و فرنسا وإيطاليا والهند وألمانيا وجنوب أفريقيا وإيران و روسيا واليونان وتركيا

وقال ثان:

-                     معنا في الباخرة مواطنون من المجر وانجلترا وايرلندا ونيوزيلندا وهولندا وسويسرا والنمسا وفنلندا والسويد والدنمرك وكندا وغيرها من الدول..

 تجمع دولي غير عادي.. ربما لم يحدث طوال التاريخ. أشعر أن مناسبة مثل هذه ما كان يجب أن تمر، لكن الصدفة هي التي شكلت هذا التجمع وصنعته بعبقرية نادرة تحت راية الكوليرا. الحياة حقا تستحق التأمل.. أهم ما يجعل لها قيمة أن نلتقط أحداثها الغريبة التي تبدو كأن الصدفة صنعتها.. لابد أن يتاح الوقت خاصة لمحبي وممارسي اليوجا أن يتركوا لعقولهم الفرصة كي تتأمل لغة الرب، وتحدق في فرشاة الرسام الأعظم..لا شيء في الوجود اسمه الصدفة.

 بقيت الليل بطوله تقريبا لا أستطيع النوم ليس بسبب الحر أو الناموس أو رعبا من صرخات المصابين أو المتوفين من جراء هجوم الكوليرا الضاري ولكن بسبب تفكيري في لعبة الحياة وحركة الناس والعجائب التي تنتج من لقاءاتهم وطموحاتهم وأمانيهم.

 في الصباح هجمت علينا الأخبار التعسة.. الضحايا يتساقطون.. كانوا بالآحاد، ثم ساءت الحالة بشكل مفاجئ ومرعب فوصل عدد المتوفين من الأهالي إلى خمسة وثلاثين خلال أسبوعين.. سقط من الفرنسيين أربعة..الوتيرة تسارعت والمدة الزمنية التي كانت تفصل في البداية بين الميت والميت ضاقت جدا رغم الأدوية الكثيرة التي بعث بها القنصل الفرنسي العام..الأعراض تعددت وتفاقمت.. مع المغص والإسهال ظهرت التشنجات والآلام الشديدة، كما توالت الألوان على الوجوه المصابة.

عند الظهيرة وصل إيطاليان، طبيب اسمه باولو وعالم آثار اسمه روسي تحدث باولو عن الحال السيئة في القاهرة، وقال:

-                     من المتوقع أن تصلكم الكوليرا في الأقصر خلال أيام

قال له روجيه:

-                     سبقتك

ابتسم في ألم ودهشة:

-                     تصورت أني أهرب منها

قال له روجيه:

-                     ما كان يجب أن تهرب منها، فالهارب منها يلقي بنفسه في أحضانها

قال فيما يشبه الاستسلام:

-                     سوف أكون معكم

-                     يسعدنا أن تكون معنا حتى لو مرغما

ضحك باولو كثيرا من نفسه بأكثر مما ضحك من عبارة روجيه

تدخلت في الحديث وقلت:

-                     هناك مثل شعبي في مصر يقول: اللى يخاف من العفريت يطلع له

يبدو أن روسي عالم الآثار قرر أن يختفي بعيدا عن الكوليرا والكلام عنها بحكم أنها هي التي تسيطر على كل شيء وتتحكم فيمن يقيمون بالموقع، فانطلق منذ الصباح الباكر إلى الكرنك أولا للبحث والدراسة واحتمال أن تكون أكثر أمنا، ولم يظهر إلا قبل حلول المساء.

اقترح قرشي على روجيه إقامة حجر صحي في الوحدة الصحية والتعاون لعلاج الفلاحين منذ أول يوم وصل فيه. رحب روجيه ووضع كل الأدوية تحت تصرف الأطباء الذين يمارسون العلاج ومتابعة حالة المرضي، وكان أكثر الأطباء عملا في صمت باولو الإيطالي الذي كان يطيل تأمل المريض ويكشف على كل سنتيمتر في جسمه ويكثر من قياس النبض والضغط وينصت لصوت التنفس، ويتأمل البراز أو القيء، وكتب قائمة بأدوية معينة لم تتوفر في أية مدينة ولم تصل حتى رحيله في حين وصلت بعض الأدوية من حكمدارية قنا، ويبدو أنها كانت مركونة في المخازن لأن تاريخ الصلاحية قد انتهى..ومع ذلك أقدم بعض الأطباء على استخدامها في حالة انتهاء الرصيد وكان لها أثر طيب حتى حازت إعجاب روجيه ودهشته.

 كانت البعثة قد أعلنت عن رغبتها في الاستعانة بشباب وسيدات للعمل كممرضين، فوافق أحد عشر شابا، وقد وافقت من الإناث خمس.. تعلم الجميع بسرعة وكشفت الممرضات الجديدات عن همة وحماسة في العمل مع قدرة غير عادية على الاحتمال.. كانت لهن أدوارا مهمة للغاية خاصة في متابعة الحالات، و القيام بعمليات التنظيف وغسل الملاءات والملابس والأواني التي قد يتأفف منها الذكور، كما شجع وجودهن الأهالي على السماح بعرض المصابات من النساء على الأطباء.. أصبح مشهد الذين يقعون في الشوارع مألوفا بعد أن تهاجمهم أزمة قيء بشعة، ومع ذلك كان هناك ما يكفي من كلور الجير كي يُرش في كل مكان سواء في الموقع أو أي مكان يشتبه أن يكون المرض قد وصل إليه، ولم يتوقف رش العطور في الوحدة الصحية وحول الأسرة وفي أماكن كثيرة، وحرص الأطباء والممرضات على المسح به كلما لمسوا مصابا.

 لفتت أنظار الأطباء كثرة البرودة في عدد كبير من المصابين كما لاحظوا انخفاض النبض بما يعنى سوء الحالة، ولاحظوا أيضا الإسهال المتضمن مواد خضراء لها رائحة كريهة. أما المصابون الذين لا يعانون من الإسهال فقد اضطر الأطباء لاستعمال الحقن الشرجية للمساعدة في تفريغ البطون من المواد الملوثة التي كانت في الأغلب السبب في تمكن المرض.

كان العمل الذي طلب كبير الأطباء في أول يوم للوباء تخفيفه قد توقف تماما بعد أسبوع بسبب التطور السريع لهجوم الكوليرا علي الأرواح، وهكذا انتقل العمل من تجهيز المرسى إلى الوحدة الصحية التي شهدت جهودا مضنية من الجميع في سباق محموم مع المرض الذي لم ينحسر إلا مع نهاية أكتوبر، وكان قد هيمن على المنطقة بكل من يتنفس فيها على مدي يزيد قليلا عن شهر ونصف الشهر، وأخذ من الفرنسيين سبع ضحايا ومن الأقصريين مائة وتسعة عشر فيما بلغ المصابون الفرنسيون عشرين مصابا تم شفاؤهم، أما المصريون فقد تجاوز مصابوهم المائتين بقليل وقد تماثلوا جميعا للشفاء.

الدرس كان مهما جدا ومطلوبا حتى يحصل الفلاحون على بعض المعرفة الصحية اللازمة، ويكونوا أكثر حرصا وإن كان الفقر هو العدو الرئيسي مع الحكومة المهملة في حقوقهم.

 شهر واحد من المعاناة المرعبة والآلام يمكن أن يفيد الأقصريين على مدي عشر سنوات قادمة وكفيل أن ينقذ عدة آلاف من الأهالي، ولابد أن بعضهم أدرك هذا، وقد أوعزت إلى الشيخ يونس أن يكون هذا مضمون خطبته للجمعة القادمة... مضي باولو يحيى الأطباء بعاطفة جياشة وكذلك بعض من تعامل معهم من الفرنسيين، وقال فيما قال:

-                     أتمنى دائما أن نلتقي في فرص قادمة بدون كوليرا -

-                     ظهر روسي عالم الآثار ليسلم على صديقه باولو واعتذر عن عدم قدرته على مرافقته فعنده عمل كثير مع الآثار المصرية المرعبة كما وصفها، ثم اختفي الاثنان. المهم أن " جزيرة " بخير فلم أكن لأحتمل أن تتألم ساعة واحدة. أدرك هذا أ

 

(12)

 غارت من سمائنا نكبة الوباء اللعين الذي حصد من ربوع مصر كلها ما يقرب من مائة وخمسين ألف روح غير مئات الآلاف من المصابين الذين أكرمهم الله بالشفاء.. سمعنا أن بلادا كثيرة تعرض أهلها لفقدان أرواح لا حصر لها.. المهم أن الوباء انزاح وربنا قدر ولطف.. عادت الحياة الطبيعية تجري في مجاريها، وأول ما اهتم الفلاحون بعمله في الغيطان العامرة جنى التمر الذي استوي على النخيل وطلب الأكال.. طلبت من ثلاثة مزارعين أن يحملوا على الحميرعشر صوبات بلح أحمر من أجود ما جمعناه ويتبعوني إلى المعبد.. أرسلت ولدا من العمال لينادي جوزيف أو المترجم الأخر.. حضر جوزيف.. قلت له:

-                     ساعدنا كي نسلم هذا التمر للبعثة

-                     سأدعو لك القبطان وكبير المهندسين وكبير الأطباء

-                     كما تري

غاب لحظات ثم عاد يتبعه الثلاثة.. رحبوا بي فقلت:

-                     هذا موعد جمع البلح وقد رأي والدي الحاج حكيم العمدة السابق أن يكون أول من يأكل من البلح هذا العام رجال البعثة

قال كبير المهندسين:

-                     لا نرى داع لهذا

-                     يكفي ما بذلتموه من جهد أثناء الكوليرا لا أعادها الله

-                     هذا حقكم علينا

-                     ومن حقكم علينا أن تذوقوا البلح

-                     شكرا جزيلا ونتمنى لكم كل خير

أشار للبحارة بالقدوم واستلام السباطات من المزارعين وتعليقها تحت الخيمة داخل المعبد

كرروا الشكر لي واستداروا للعودة إلى أعمالهم.. قلت للمزارعين الثلاثة:

-                     هيا أكملوا الجمع مع بقية المزارعين

ما أن انصرفوا حتى قال جوزيف: بنت حلال

-                     لماذا؟

-                     كنت سأمر عليك لأسلمك أمانة

-                     الحمد لله أنك لم تمر

-                     لماذا؟

-                     لا يصح.. ماذا تريد؟

أخرج من جيبه ورقة ومد يده بها إلىّ

-                     ما هذا؟

-                     ورقة بها بعض الكلمات اقرئيها في البيت وحدك

-                     ماذا بها؟

-                     اقرئيها لو سمحت

مددت أصابعي بلا اهتمام والتقطت الورقة المطوية.. سحبت عقال الجواد ومضيت وأنا أفكر فيما كتبه جوزيف في الورق.. لا أخفي إعجابي بالشاب المهذب فهو قريب جدا من ملاكي الحارس حسب ما تخيلته.. قد أكون فعلا قد لمحته بصورة عابرة وغير دقيقة لكنهما متماثلان جدا.. على أية حال أنا لا أريد مشاكل ولا أريده أو غيره الاقتراب منى أكثر من اللازم.. أنا مشغولة بأمور كثيرة مختلطة.. رأسي ساحة فيها أكوام من سنابل القمح والنورج يمر عليها ويهشمها والمدرات تقلب الهشيم وتلقيه في وجه الريح.

 في البيت خلوت إلى نفسي وقرأت الكلمات.. ِحِكَم لطيفة ونصائح للتعامل مع الناس والأحداث.. كنت أتوقع أن يكتب كلاما مختلفا.. هل كان الذي كنت أتوقعه أن يكون كلاما في الحب؟.. وماذا يحدث إن كانت كلماته في الحب والإعجاب الشخصي فهل كنت أتقبله أم أرفضه أم أسكت في انتظار المزيد؟.. هل كنت أرد عليه؟..هل؟.. هل؟.. هذا الشاب ذكي.. لم يرد أن يتسبب في المشاكل لي وله.. لا يعلم رد الفعل ولا يضمن النتائج.. تحسس طريقه بحذر.. من كل الكلمات توقفت طويلا عند بعض العبارات التي أظنه يقصد من ورائها أكثر مما توحي به.

·                    الموت ليس هو الخسارة الكبرى. الخسارة الكبرى هي أن يموت فينا عشق الجمال والقدرة على الحب ونحن أحياء

لابد أنه يؤكد على معنى الجملة الأخيرة " الخسارة الكبرى أن يموت فينا عشق الجمال والقدرة على الحب ونحن أحياء.. أي أن الأحياء بدون حب أموات

·                    إذا كنت لا تملكين شخصا مميزا في حياتك، فلا تحزني فقد تكونين أنت الشخص المميز في حياة الكثيرين وأنت لا تعلمين.

 يلفت نظري إلى أنني ربما أكون الشخص المميز في حياة الآخرين وأنا لا أعلم

·                    كوني قريبة من الشخص الذي يجعلك سعيدة، وأكثر قربا من الشخص الذي لا يكون سعيدا إلا بك

هذه العبارة من المؤكد أنه يقصدها كاملة ويوجهها إليّ. الشخص الذي لا يكون سعيدا إلا بي. مستعد جدا للتضحية على الأقل من أجل سعادته.. أعدت قراءة الحكم والعبارات الناصحة.. وقرأت العبارات التي أشرت إليها عدة مرات وقلبتها في رأسي.. تكشفت لي بعض الأمور الناقصة في شخصيتي.. ليس في الكتب التي قرأتها شيء من هذه الإرشادات.. كل إنسان بحاجة ماسة أن يقضى وقتا طويلا في تأمل تلك الكلمات التي كتبها مفكرون وفلاسفة وأصحاب تجارب إنسانية عميقة وخصبة.. يتألق الآن في نفسي بهاء يشيع النور في عقلي وروحي..

أعدت قراءة " كثيرون على قيد الحياة.. قليلون على قيد الإنسانية".. من يدقق النظر في الدنيا سيلحظ هذا بكل تأكيد.. يجب أن نواجه أنفسنا.. أعدت قراءة عبارة أخري لفتت نظري.. الفشل ليس دائما سيئا ولكنه قد يكون مفيدا إذا تعلم الإنسان الدرس منه لأنه سيتجنبه ويعرف المزيد عن الحياة... أخيرا وبعد نهار طويل ومجهد تنهدت وابتسمت. كانت هناك طيور صغيرة للسعادة تنقر الحب في صدري.. سلمت نفسي راضية للنوم قبل الفجر بقليل.

 صحوت مع الصباح الجديد على أصوات كثيرة عالية بلهجة غير مفهومة.. هناك ركض لرجال وخبط على باب العمدة وشيخ الخفراء والخفراء وبعض من لهم بهم صلة من العاملين معهم وأصحاب الورش.. صعدت إلى السطح لأفهم ما يجري... بلغتني أصوات كثيرة لشباب يصرون على فتح المسجد والتفتيش فيه.. أغلب من كان يركض ويزعق ويضرب كفا بكف كان الفرنسيون الذين يقيمون بالمعبد وبعضهم كان يقيم في قاع الباخرة الرطب.

 اهتزت البلد والبعثة الفرنسية على حادث كبير أثار الدهشة أكثر مما أصاب أصحابه بالخسارة.. فهم أهالي الأقصر من المترجم الفرنسي ومن جوزيف أن كل السلاح الذي تملكه البعثة قد تمت سرقته.. البنادق وكراتين الذخائر والمسدسات والسناكي.. القبطان وكبير المهندسين وكبير الأطباء وكل المساعدين في دهشة يكشفها مقدار الذعر الذي تبثه العيون.. سمعتهم يصرخون في وجوه الجنود الستة الأتراك الذين يشكلون أورطة الحراسة، والجنود فعلا مذهولون فلم يكونوا يتوقعون أن يسرق اللصوص السلاح وهو بجوارهم في المخزن داخل المعبد وهو المكان الوحيد المغلق..

طلب القبطان من الجنود سرعة السفر بالخيول إلى حكمدارية قنا وإبلاغهم والبحث عن وسيلة لإبلاغ القنصل العام..

 كان أحد العمال المصريين قد أبلغني لا أدري ما المناسبة أن جميع الفرنسيين في بداية التسكين رأوا الإبقاء على السلاح بالباخرة إلا أن القبطان وكبير المهندسين ورئيس الحرس الفرنسي طلبوا نقلها لتكون معهم ومن يفكر في سرقتها لابد أن يمر على جثثهم.

لم أكن أتوقع أن يأتي أحد إلى بيتنا ليدق بابنا.. كان المترجم الفرنسي ومعه بحاران وجنديان من جنود الحراسة الفرنسيين، سألوا عن بركة أخي.. فتح مهدي خادم أبي المباشر ورد عليهم:

-                     بركة نائم ولا يستيقظ إلا عند الظهر

-                     لقد حدثت سرقة كبيرة من المعبد ولابد من سؤاله

-                     هل سألتم كل أهل البلد ولم يبق إلا بركة؟

-                     أحد الأهالي ذكر أنه رأي بركة أمام المعبد يمص عود قصب

-                     يبدو أنكم لا تعرفون بركة

-                     بل نعرفه

أخفض مهدي صوته إلى درجة الهمس وقال:

-                     بركة عبيط

-                     نعرف

لففت رأسي بمنديل كبير أبيض كان قريبا منى و نزلت بسرعة وقد بدا علىّ الغضب الذي حاولت كبحه ففشلت:

-                     نعم

-                     صباح الخير.. آسفين للإزعاج

-                     تفضل

-                     نريد بركة

-                     لماذا؟

-                     حدثت سرقة ونريد سؤاله عن الجاني

-                     وما دخل بركة؟

أعاد علىّ ما قاله لمهدي مضيفا:

-                     سرقة أي شيء مسألة عادية ويمكن التصرف معها بهدوء لكن سرقة السلاح مسئولية كبيرة وخطيرة وحضرتك تعرفين.

طلبت من مهدي أن يوقظ بركة.... بعد عشر دقائق قلت لهم:

-                     سوف أحضره بنفسي بعد نصف ساعة فهو لا يستيقظ بسهولة

غادر الفرنسيون بعد أن تأكدوا من وعدي الجاد لهم بالحضور

احتاج إيقاظه نصف ساعة فعلا.. سألته عن السلاح.. لم يجبني بحرف

كان يهرش جسمه من شعره إلى أصابع قدميه.. ما يزال هذا الولد رغم أن عمره اقترب من العشرين يرفض الاستحمام إلا بالضرب.

في المعبد تقدم منه القبطان ليسأله ثم ابتعد..سأله رئيس الحرس في حضور جوزيف:

-                     هل كنت هنا يا بركة في الصباح؟

-                     قلت له أريد عود قصب

-                     من؟

-                     الصباح

-                     ركز معنا يا بركة سوف أحضر لك الشيكولاتة

-                     يا خيبتك..لا أحبها

التفت إليّ المحقق وسأل:

-                     هل هو في العادة يستيقظ مبكرا؟

-                     لا يستيقظ قبل الظهر.. أنا لو سمحت أريد أن أعرف أولا ماذا جري وما علاقة أخي بما جري؟

-                     قام البعض بسرقة سلاح البعثة كله، وقال شخص أنه رأي بركة هنا وحده أمام المعبد جالسا يمص القصب

-                     أين الشخص الذي قال أنه رأي بركة؟

-                     محتجز في المعبد ومعه حارس

توترت فجأة

-                     لماذا تحتجز شخصا بدون وجه حق؟

-                     لديه معلومات مهمة ونخشى أن يهرب

زاد توتري وقلت:

-                     أولا من أدراك أنها معلومات مهمة وثانيا إلى أين سيهرب؟. البلد صغيرة واستدعاء شخص لا يحتاج أكثر من نصف ساعة حتى لو كان في الجبل أو في البر الغربي

-                     سأطلق سراحه بعد أن أسأل بركة فساعدينا بدلا من تضييع الوقت وتشتيت الأفكار

لاحظت أني فعلا أمنعه من أداء عمله.. المسألة ليست سهلة

-                     تفضل اسأله

التفت المحقق إلى جندي وطلب منه إحضار الشاهد المحتجز فذهب وأحضره.. سأل المحقق بركة:

-                     هل تحب القصب يا بركة؟

ضحك بركة وقال:

-                     القصب حبيبي

-                     هل تعرف هذا الرجل؟

نظر بركه إلى الرجل وقال:

-                     أعرفه.. حمار

ضحك بعض الواقفين.. وضحكت بداخلي.. سأل المحقق الرجل:

-                     هل رأيت بركة في الصباح؟

-                     قلت لكم رأيته وكان يمص عود قصب

سأل الرجل بركة:

-                     تذكر يا بركة.. كنت تجلس على الحجر جنب التمثال أمام المعبد وطلبت منك عقلة من القصب.. صح؟

-                     صح

-                     هل أعطيتنى؟

-                     لا.. أنت حمار تريد أن تأخذ العود كله

قال المحقق للرجل:

-                     اذهب الآن إلى بيتك أو عملك ولا تغادر الأقصر فربما نطلبك مرة أخري

-                     تحت أمرك

عاد إلى بركة وسأله:

-                     من قدّم لك القصب؟

-                     نصر

-                     من نصر؟

-                     نصر.. الجبل

سألنى المحقق:

-                     من نصر الجبل؟

-                     ربما يقصد ابن عمى نصر

-                     اسمه نصر الجبل؟

-                     لا ولكنه يقيم في الجبل

سأل بركة:

-                     هل نصر كان وحده؟

هز بركة رأسه عدة مرات وهو يقول:

-                     كان فيه درجن.. درجن

سألني جوزيف عن معنى ما قاله بركة

-                     ربما يقصد أن نصر كانت معه أحصنة

أوضح أولان المترجم للمحقق معنى ما قاله بركة.. سألني المحقق:

-                     أين نصر؟

-                     قلت لك يقيم في الجبل

-                     بعض الوقت أم بشكل دائم

-                     تقريبا بشكل دائم

-                     لماذا يقيم هناك؟

-                     يكره الحكومة ويقاومها وبينهما حرب

سأل المحقق الكاتب الفرنسي الجالس إلى يمينه:

-                     هل سجلت كل كلمة؟

-                     سجلت

التفت إلى بركة وقال:

-                     شكرا يا بركة.. يمكنك أن تعود إلى البيت لتكمل نومك وربما نستدعيك مرة أخري

وقف المحقق وتحدث إلى القبطان بما معناه أن المرحلة الأولي من التحقيق انتهت، ومطلوب الآن استدعاء نصر وبعض مساعديه للسؤال. قال القبطان:

-                     أعد خطابا لإرساله إلى الحكمدارية والقنصلية بنتيجة التحقيق بعد ترجمة التحقيق إلى العربية

 جاء مع الصباح التالي ثلاثة من المحققين.. اتجهوا مباشرة إلى المعبد، وكانت قد سبقتهم مع الشروق قوة عسكرية.. هاجمت الجبل وطاردت نصر ورجاله، وسقط اثنان من الجنود واثنان من رجال نصر واستطاعت القوة العسكرية أسر اثنين من المطاريد كان من بينهما رجل يعرج بطبيعته من قبل الحملة وفشل في القفز بسرعة إلى حصانه وتأخر الثاني الذي حاول أن يسحب أحد المصابين إلى مكان آمن لمعالجته وعندما دنا جندى من المصاب وجده قد فارق الحياة.

 اعترف الأسيران بالهجوم الذي شنه نصر ومجاهد وحوالي عشرين من المطاريد على معبد الأقصر في فجر اليوم السابق.. تركوا خيولهم خارج المعبد وتسللوا إلى مخزن السلاح ونقلوا كل ما فيه، وقد أصر نصر على اصطحاب بركة رغم معارضتنا، لكن يبدو أن حضوره كان مهما جدا فقد كان الجميع مستغرقين في نوم عميق بفضل هذا الولد المبروك.

 أكثر من ثلاثين جنديا هاجموا الجبل الشرقي وأمطروا رجاله بالرصاص.. رد المطاريد عليهم بأسلحة الفرنسيين وقتلوا من الجنود خمسة وأصابوا عشرة، وجرح خمسة وقتل واحد من المطاريد، وبعد أسبوع عادوا من جديد وبقوة أكبر وجنود أكثر خبرة وتدريبا.. مات منهم ثلاثة ومثلهم من رجال نصر.. وأصيب أربعة من جنود الباشا وثلاثة من خيوله وخمسة من المطاريد ولم يتمخض الهجوم عن أية نتيجة ملموسة.

 وصل وفد من الحكمدارية إلى عمي زهران وجلسوا معه جلسة طويلة أوضحوا له فيها أهمية أن يأمر ولده بالتوقف عن حرب الدولة وقتل جنود الباشا.. أبدي العمدة تأييده للباشا وكشف لهم بصريح العبارة عن عجزه عن إقناع ولده حتى قال له عدة مرات:

-                     لن تكسب طالما لا تسمع كلامي.. اللي ما يسمع لكبيره تكتر تعاتيره

وقلت له:

-                     ما يفعله سيضره غاية الضرر كما سيضرني ولا يحقق أي مكسب

و قال لهم:

-                     لقد أفهمته أنه سيظل طوال عمره هاربا وطريدا.. ولن يستطيع أبدا أن يُكون أسرة أو يفتح بيتا أو تكون له ذرية.

قال أيضا:

-                     لقد حدثته عدة مرات عن أنه لن يستطيع تولي العمدية من بعدي ولا أن يرعي أخوته ولا أن يعيش حياة طبيعة ككل الناس، وبهذا يكون قد حكم على نفسه بالموت.. قلت الكثير الذي لم يستوعب منه شيئا، حتى فقدت قدرتي على التأثير عليه.. قلت له:
- إذا ظللت في طريق المطاريد الخارجين على القانون والمحاربين للحكومة، وتستمر في العيش على مسروقاتك من هذا وذاك وقطع الطريق فلن تكون ولدي بالمرة.. لأنني لم أخسرك فقط بل لقد خلقت لي أعداء من الأهالي والمسئولين.

سألوه عن الحل..قال:

-                      سألته عن نهاية الطريق الأسود رد عليّ بكلماته المكررة.. " قتلت الحكومة أعز أصدقائي وطاردت أهالي الأقصر وجلدت المئات من الفقراء من أجل ملاليم، كما أنها قتلت خالي وسوف آخذ بثأره ولو طال الزمن ولن يكفيني فيه إلا مسئول حكومي كبير.

 

(13)

 منذ وعيت للدنيا وأنا أحب الأقصر وناسها وحقولها وجبالها وبيوتها ومعالمها القديمة مثل المعابد، وأحب نيلها وعيالها وأمهاتهم ورجالها وشبابها.. أحب جوها حتى لو ارتفعت الحرارة في الصيف.. أحب سيدي "أبو الحجاج " وأحب الاحتفال بمولده.. لذلك بعد أن مرض والدي وأصيب بعجز واضح منعه من ممارسة عمله وهواياته وأصبح ينسي كثيرا، حرصت على أن أذكره بما كان يفعل، ومن ذلك أهمية ذبح عجلين سمينين كل سنة، عجل بمناسبة مولد سيدي أبو الحجاج في شعبان، وعجل في العيد الكبير(عيد الأضحى).. الأقصر بها نحو ثلاثمائة أسرة والعجل السمين يحمل نحو ثلاثمائة كيلوجرام من اللحم. بالهناء والشفاء يا أهلنا في الأقصر.

 لم تمر بي ليلة منذ عدت من القاهرة قبل عشر سنوات إلا وأحلم حلمين وثلاثة.. أحلام معظمها غريب ومرعب وعجيب.. قبل زيارتي للقاهرة لم أكن أحلم إلا نادرا ربما بسبب النوم الثقيل وامتلاء المثانة وحتمية النهوض لتفريغها فأحلم أني أغرق أو أن شخصا يحاول أن يدفعني من فوق السطح. تهاجمني الثعابين في بعض الأحلام، وأحيانا الخفافيش. في حلم ركبت حصانا ودفعته للركض بسرعة شديدة، فاستجاب وبالغ في السرعة حتى طار وأنا أمتطيه وألمس السحاب وألوح للنجوم.. في حلم تزوجت من شخص وسيم جدا وكنت فخورة أن هذا حظي، ثم لاحظت أنه يتغير كل يوم بحيث يفقد لمحة من لمحات وسامته حتى أصبح قردا، وقد وضعت بعد تسعة أشهر قردا يشبه أباه الذي اختفي منذ شهر ولم يعد، ولم أهتم بالبحث عنه وبقي القرد الذي لم أكن أنفر منه.. كنت أراه إنسانا عاديا لولا كثرة الشعر وسعيت لإزالة شعره.. حاولت كثيرا ولجأت إلى العرافين ومدعي الطب حتى مسحت جسمه بمادة دلنى عليها طبيب مجهول أخذني إليه شخص مجهول فاختفي ابنى تماما بعد السائل اللزج الذي أغرقته فيه.

.. في مرة استيقظت من النوم فلم أجد بيتنا ولا أهلي ولا المعابد ولا الأقصر جميعها فانطلقت أبحث في الخلاء فلا أجد إلا الخلاء.... لما كثرت الأحلام طلبت من أختيّ أن يناما معي فتراجعت الأحلام تدريجيا. عندما قلت ذلك لأمي قالت:

-                     أهلك لتهلك

 من نتائج زياتي للقاهرة كثرة تفكيري فيها ومقارنة الأقصر بها وتمنياتي لبلدي أن تكون كالعاصمة.. أصبحت تطاردني وتشغل بالي مشروعات للناس مثل مستشفي كبير يعالج كل الأمراض التي يعاني منها أبناؤهم..أتمنى أن تكون هناك مدرسة ابتدائية.. أتمنى أن تكون هناك ورش ومصانع صغيرة.. أتمنى أن تكون هناك شوارع نظيفة وأن يكون هناك سقاءون. أتمنى أن تكون هناك معديات للبر الغربي..أتمنى أن تجد المعابد ما يليق بها من التنظيم ورفع الردم الكثير المحيط بالأعمدة، وأن تري النور كل الكباش التي تصطف على الطريق الطويل بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك.. أتمنى أن يُعبّد الطريق المطل على النيل ويكون صالحا للحركة والتنقل وأن تكون هناك مقاه على النيل..أتمنى أن تعلق القناديل في كل شوارع الأقصر.. أتمنى أن يكون هناك عدد كاف من الخفراء يسهرون الليل لحراسة الممتلكات والناس والمزارع ضد هجمات العربان وغيرهم من الطامعين.

 عندما كبرت عادت الأماني تلح وتطارد..قررت بناء مدرسة ابتدائية من فصلين ودورة مياه وفناء على قطعة أرض نملكها خلف الكرنك.. ما أن انتهت تماما كل آثار الكوليرا اللعينة حتى كلفت البناءين بالعمل.. يعجنوا الطمى والماء ويخلطونه بالتبن ثم يصبونه في قوالب ويتركونه يجف..عكف النجارون على صناعة النوافذ الخشبية ولما ارتفعت الجدران ورُكبت الشبابيك والأبواب تعاون عدد من العمال على وضع السقف بجذوع النخيل والسعف، ثم قام العمال بدهان الطوب بملاط مصنوع من الجير الأبيض. طلبت من الحكمدارية أن يزودوا مدرسة حكيم أبو الحجاج الابتدائية المشتركة أول مدرسة بالأقصر بالمقاعد.. لكن المدرسة لم تنتظر معونات الحكومة وبدأنا بالعمل مؤقتا بالمتاح.. فرشت الأرضية بالحصر وتلقى التلاميذ العلم جلوسا على الأرض، وكان النجارون قد أعدوا سبورتين واشترينا الطباشير والكراسات والمحابر من قنا.. سلمنا لكل تلميذ قلم بوص، وقامت الأمهات حسب ما طلبنا منهن بعمل حقائب من القماش لأولادهن.. كان الشرط الوحيد أن يكون التلميذ قد حفظ جزء عم ويعرف القراءة والكتابة وهي التي يتعلمها في الكتاب.

 دعوت محسوب أفندي المعلم الأقصري الشاب الذي يقيم في إسنا ويعلم تلاميذها كي يعود للإقامة في بلده ويعلم أبناءها الحساب والهندسة، واتفقت مع شاب من أرمنت كان قد درس في معهد قنا الديني كي يدرس لهم القرآن والتفسير واللغة العربية، وفوجئت بأن جوزيف الفرنسي المصري يريد أن يدرس لهم الجغرافيا والعلوم بما فيها الصحة دون أجر واقترح أن يتلقى التلاميذ حصة نجارة وحصة حدادة وحصة زراعة كل أسبوع، وكلفت محسوب أفندي بأن يتولى الإدارة، وكتبت إلى مصلحة التعليم في قنا كي يسجلوا لديهم المدرسة رسميا بحيث تخضع للتفتيش مع تزويدها بما يلزم..وعدوا بذلك على أن يتم كل المطلوب بدءا من العام الجديد الذي يبدأ منتصف سبتمبر 1832.. أشعر بالسعادة لأننا خلال شهرين فقط نوفمبر وديسمبر جهزنا المدرسة بنسبة 80 في المائة وأوجدنا شيئا مهما للغاية وقام أبي وعمي العمدة وكل أهل البلد وعدد من الفرنسيين الضيوف بحضور حفل افتتاحها ووزعنا الملبس والفوندام على المدعوين والتلاميذ.. المدرسة رغم حجمها الصغير استوعبت كل الأولاد والبنات وعددهم واحد وثلاثون تلميذا واثنان وعشرون تلميذة.سعادتي غامرة فهذه أول مدرسة في الأقصر.

 رفض عمى رفضا قاطعا أن يساهم معنا في تكلفة تركيب طلمبة ماء أمام المدرسة وطلمبة أخري أمام المسجد وحول كل منها حوض من الحجارة جلبه العمال من طريق الكباش وهو في الأغلب من حجارة الأعمدة. لكنني كنت من الخبث بحيث بعثت إلى نصر ابن عمى الملازم للمطاريد فجاء بليل ودفع المساهمة وغضب منه والده فلم يحفل، وتركه يسبه كما شاء له الغضب..طلبنا من كل الأهالي ألا يستخدموا مياه النيل مطلقا في الشرب أو الاستحمام أو الطبخ أو الخبز.. لابد من استعمال مياه الطلمبة وإلا ستعود الكوليرا وأوبئة أخري لا نعلمها.

 نويت أن أتوقف لكنني رأيت أن ألد أعدائي هو الظلام ولابد أن أنقذ الأقصر منه.. اشتريت مائة فانوس ووزعتها على الشوارع والحارات.. كل شارع ثلاثة فوانيس وفي كل حارة واحد.. وضعنا عشرة أمام المعبد من ناحية النيل، وعشرة بدءا من بوابة المعبد وحتى معبد الكرنك.. كل الفوانيس على ارتفاع واحد تقريبا، معلقة في البيوت على ارتفاع أربعة أمتار.. اخترنا شابين من كل شارع ليتولوا بالتبادل إنارة الفوانيس كل ليلة من بعد المغرب.. أصر جوزيف على تحمل ثمن عشرين فانوسا، وأرسل خالي رمضان ثمن ثلاثين.. أدركت ربما للمرة الأولي أن أية مشكلة في الدنيا مهما عظمت تصبح لعبة إذا اشترك في حلها عدد من المُحبين.

 واجهتنا منذ البداية أهم مشكلة في الإنارة وهي الوقود.. كيف سيشتعل المصباح؟.. لم يكن هناك في المدن الكبرى غير الإنارة بالزيت أو الشمع أو الشحم وكنت قد سمعت عن بدْء استعمال الغاز في أوروبا لكنه لم يستعمل بعد في مصر.. مع بدء الإنارة جربنا المواد الثلاثة ولم نستطع تفضيل واحد على آخر ومن ثم اتفقنا على البدء وتجربة كل الوسائل وتقييم التجربة ثم الاستقرار على أحدها.

 لمّا علم الجميع أن الفوانيس ستضاء الليلة حضر الرجال والنساء والأطفال وكبار السن وكل من يسكن في البلد وعدد كبير من الجالية الفرنسية حتى أبي الذي ساعدناه على الخروج والجلوس على مقعد مريح.. طلبت من أحمد النجار أن يعده له وصنع له المنجد شلتة وراء ظهره وشلتة تحته وجلس أمام الدوار و تفجر وجهه بالبهجة لما أضاء الشباب الفوانيس فور انتهائهم من صلاة المغرب.. كان المشهد بديعا..لأول مرة يستطيع أي شخص أن يمشي بالليل في النور..بلغت سمعي تعليقات الأهالي المشجعة.. تغيير كامل حدث في الأقصر.. ما أعظم النور!!.. زغردت النساء والبنات ورقص الأولاد فانتقلت العدوى للفتيان والشباب.. مضي الكل يبارك للكل ويمتدح الحاج حكيم وابنته ويدعون لهما.. لم يحضر الحاج زهران عمدة البلد بحجة المرض. لم يعد الكثيرون إلى بيوتهم وظلوا في الميادين والشوارع سهاري يتحدثون ويرقص الشباب رقصة التحطيب ويلعبون ألعابا كثيرة، وظلت البنات حتى الخامسة عشرة ساهرات ومكتفيات

 بالفرجة.

 أصبحت الأقصر الآن كلها مضاءة بعد أن كانت الأضواء القليلة موجودة فقط في المعبد وأمام الباخرة الفرنسية لزوم العمل. هنأني الجميع وشكروا جهدي الذي نقل الأقصر نقلة كبيرة سيكون لها ما بعدها من النقلات وأشكال التجديد والتطوير.. هنأني جوزيف بعد الجميع..أراد أن يأخذ وقتا. تحدث عن أهمية ما فعلت.. أبقى يدي في يده طويلا.. لم أنزعج.. كنت مشدودة إلى عينيه وكان يحدق بهما في عينيّ.. انتقلت إلى روحي مشاعره الحميمة الدافئة. سحبت يدي بعد وقت.قال:

-                     سأذهب لتهنئة عمى الحاج حكيم

-                     تفضل

-                     كوني معي

أشرت له أن يتقدم.. مضينا معا إلى أبي وهنأه ودعا له بموفور الصحة.

استأذنه أن يجلس معه بعض الوقت.. رحب أبي وقال له:

-                     أهلا بك في أي وقت

-                     حدد لي موعدا يناسبك

-                     المهم أن يناسب عملك

-                     بعد عصر الغد.. هل يناسب؟

-                     يناسب إن شاء الله

 ما أسعدني!!.. خلال ثلاثة أشهر تحقق هذا الإنجاز، وتقدمت الأقصر على القرى المجاورة.. مازالت هناك مشروعات كثيرة.. أبي يشجعني ويستجيب لكل أفكاري ليس فقط لتيسر الحال بحكم أن لدينا مائة فدان لكن لأن روحه منذ البداية كريمة ومتسامحة ومحبة للبشر وللأقصر بالذات.. لكن حدثا سيئا أوقعنى في مشكلة مع نفسي فقد كانت أول مرة أقتل فيها شخصا.. كنت أسهر كثيرا وأتحرك ليلا وأطمئن على بعض الأمور بنفسي إلى أن لاحظت شخصا يسحب جاموستين من حظيرتنا فتبعته وكان معى الفرد حتى تمكنت منه وأطلقت عليه النار.. يبدو أنني أخطأت في التصويب فقد كنت أريد أن أضربه في كتفه فانحرفت إلى رأسه..سقط وأخذ ينزف بسرعة، ولم يبق على قيد الحياة غير عشرين دقيقة.. عرفت أنه من العربان فسحبته بعيدا عن أرضنا وكان من حسن حظي ضئيلا نسبيا.. سويت التراب الذي أغرقه بدمه ونقشته آثاره وأعدت الجاموستين ثم عدت إلى الطريق.. وقفت تحت شجرة الجوافة أتأمل ما جري فاكتشفت أن جسمى ينتفض ويديّ ترتعشان وأنفاسي لها صوت مسموع.. عاتبت نفسي على الحماقة والعنف.. دفع الرجل حياته ثمنا للا شيء.. تنهدت ومضيت إلى سريري لكنى لم أستطع النوم حتى الصباح.. بلغتني أصوات من اكتشف القتيل وتبادله الخبر مع من يقابله قريبا من بيتنا.. قمت فصعدت مع الشروق كعادتي إلى السطح وأطلقت أذني لتلتقط ما يقال وما نوع التكهنات والظنون. وأخيرا سالت دموعي وعلا صوتي بالنشيج وتزلزل بدني أسفا وندما حتى شعرت بالإجهاد.. نزلت فنمت نوما طويلا وصحوت على صوت أمي تقول لي:

-                     لا أظنك علمت بما جري.

فتحت عيني على الفور فقد تذكرت.. ادعيت جهلي.. قالت:

-                     تصوري أنك كنت تغطين في نوم عميق

-                     ماذا جري..هل أرسلت قنا المقاعد؟

-                     النائم يحلم بسوق العيش

-                     أمي.. رحمة بي

-                     قتل واحد من العربان بالقرب من حظيرتنا

نهضت بجذعي وسلكت صوتي:

-                     احفظنا يا رب.. هل تعرفونه؟

-                     لا

-                     هل علم أبي؟

-                     نعم

-                     من أخبره؟

-                     عبد السلام المزارع

-                     أحتاج فنجان قهوة

-                     على لحم بطنك؟

-                     نعم

-                     هل وصل أحد من أهله؟

-                     حضروا لكنهم ينتظرون جنود المركز

-                     وعمى

-                     سب ولعن كعادته

-                     سب ولعن من؟

-                     كل الخلق.. العربان وأهل البلد والمركز ومعدومي الضمير الذين قتلوا المجنى عليه ثم حملوه إلى زمامنا

-                     ماذا قال أيضا؟

-                     الرجل لم يسرق شيئا فلماذا يقتلونه؟ ولا أحد من أهل البلد اشتكى من غياب دجاجة فليس لديهم دافع القتل

-                     عمي إذن يصلح ليكون رئيس مركز

أسمع أصوات بالخارج ربما حضر محققو المركز

-                     القهوة حالا يا أم مدثر

-                     ناموسيتك اليوم كحلي.. هيا انهضي وتعالي صبّحي على أبيك..يسأل عنك كل ساعة.

 

(14)

 كنت أود أن أتركهما وحدهما، لكن أبي طلب منى البقاء..لا أدري لماذا.. ربما أملا أن أخفف عنه أعباء الحديث، والمشاركة في الترحيب، خاصة أنه لم يعد بالقدرة القديمة على الكلام والترحيب وفتح الموضوعات.

 قال لأبي بعد أن شرب الليمون:

-                     أنا أمي مصرية وأبي فرنسي. حضر كجندي ضمن جنود الحملة الفرنسية على مصر قبل أربعة وثلاثين عاما وأعجب بأمي وسعى للزواج منها حتى تحقق له ما أراد. حملت أمي بي وبعد ستة أشهر مات والدي على يد أحد الثوار الشباب.. ربتني أمي عديلة البقلي وأخوها عسكر البقلي.. جدي صاحب وكالة تجارية كبيرة وسط القاهرة.. بعد سنوات قليلة تزوجت أمي من أحد كبار المماليك اسمه رشيد البري وقتل وأنا عمري أحد عشر عاما في مذبحة القلعة..مات جدي بعده ثم ماتت أمي منذ ستة أشهر.. ليس لي في مصر غير خالي عسكر.. لذلك فكرت في العودة إلى بلد أبي.. فرنسا حيث يعيش أهل أبي وأولهم عمي.. أعددت كل شيء للسفر لولا أن قائد الجيش المصري الكولونيل سيف طلب منى مصاحبة البعثة الفرنسية التي تنوي نقل المسلة الغربية إلى فرنسا.. ستقول لي الآن:

-                     لماذا تحكى لي قصة حياتك؟.. إنها لا تعنيني في شيء

ابتلع أبي ريقه ونظر إلىّ وتنهد.. ولاذ بالصمت قليلا كأنه يوافقه على كلامه.. كسرْت الصمت بقولي:

-                     حقا لماذا تحكى لنا شيئا يخصك وحدك؟

مط جوزيف شفتيه وبدا حائرا، ثم قال:

-                     أنا فعلا لا أجد إجابة على سؤالك وسؤال الوالد

ضحك وقال:

-                     إذا كان قد سأل..لكن شيئا في نفسي دفعني أن أفعل هذا.. ربما شعور بالراحة النفسية كلما ورد ذكركم

عاد إلى الصمت وتقليب الكفين، ثم قال:

-                     بصراحة أنا عندي ما أقوله.. لكن ما قلته كان مقدمة لعل لها فائدة ولو في المستقبل فسامحوني عليها

ضحكت وقلت لأبي:

-                     سامحه يا أبي لو سمحت

ابتسم جوزيف وابتسم أبي وقال بصعوبة نسبية:

-                     أنت إنسان لطيف وبسيط

-                     هل تجاملني يا والدي؟

ارتعشت قليلا يد أبي المشلولة التي أسكنها على فخذه وقال كأنه يأسف لعجزه:

-                     لم أعد أستطيع أن أجامل أحدا أو أكشف عيوبه.. أصبحت مرتبطا فقط بكل ما هو حقيقي وأصيل ولا تعنيني النتائج

بعد أن شعر بابتعاد التكلف أحس أن باستطاعته البوح بما يريد وقد أيقن بدرجة ما أنه أقل غربة عنا من ذي قبل.. قال:

-                     الحقيقة أن عندي ما يجب أن تعرفوه لأنه يخصكم أكثر مما يخصني.

تبادلنا النظرات أنا وأبي.. هذا كلام يعتبر من المفاجآت.. هل هذا الغريب قريبنا أو يعرف عنا ما لا نعرف؟.. سألته:

-                     هل تحب أن تشرب قهوة؟

-                     شكرا

-                     شوقتنا

لا أدري لماذا شعرت بقدر من الترحيب أو الرضا بأن أسمع منه ما يخصنا حتى لو كان سيئا.. حالة من الفضول وتوقع أن يفيد ما يقوله في إحداث تغيير ما في حياتنا. التغيير فيما أظن مطلب الإنسان الأول..قال:

-                     الكولونيل سيف قائد الجيش صديق لخالي وقد ألحقني في الكلية الحربية بأسوان وتدربت على استخدام معظم الأسلحة ودرست الخطط العسكرية ومن ثم دعاني للاشتراك في الحرب المصرية اليونانية التي جرت بعنف شديد على مدي ست سنوات شاركت في مرحلتها الأخطر عامي 26،27

 سكت جوزيف طويلا، في حين اعتدل أبي في جلسته وازداد ارتعاش ذراعه واهتزاز رأسه وابتلع ريقه عدة مرات خلال لحظات ولم يرفع عينيه عن جوزيف.. أما أنا فقد شعرت بسخونة في جسدي..، وتحركت أصابعي كأنني أعاني من التوتر..قلت:

-                     قل يا جوزيف

رفع رأسه إلىّ وقال:

-                     هل تسمحين بمناداتي يوسف فهذا اسمي المصري؟

-                      تفضل يا يوسف

ابتسم ابتسامة باهتة ثم قال:

-                     أعتذر.. يبدو أن وقت القهوة قد حان

-                     سكرك

-                     مضبوط

أسرعت إلى باب الدار الداخلي وأبلغت هنومة بسرعة إعداد فنجان من القهوة

ما إن عدت حتى قال:

-                     ألن يشرب عمى القهوة؟

-                     ممنوع

-                     عينني الكولونيل نائبا لقائد آلاي ضمن أربعة نواب،وكان معي في الآلاي ثلاثمائة جندي كان أقربهم إلىّ بحكم صفاته شاب في مثل سني.. طويل له شارب كث وشعر بنى ناعم.. عيناه عسليتان بهما اخضرار خفيف.. هذا الشاب ذكي وقوي البنيان وشجاع.. يعرض نفسه للخطر من أجل تنفيذ المهام الموكلة إليه بمنتهى الدقة.. لا ينام إلا قليلا ودائما حتى أثناء الراحة يقبل على التعلم والتفكير في الخطط والتدريب على الأسلحة.. رغم قلة كلامه فهو يسأل كثيرا عن العسكرية ومفاجأتها وعن الأسلحة والألغام والمعارك الشهيرة.

سكت يوسف فجأة وقد لاحظت أن عينيه ترقرقتا بالدمع ولكنه فيما أظن يكبحه ويمنعه من أن يغادر مآقيه.

سألته:

-                     ماذا بشأنه هذا الشاب؟

جاءت القهوة.. أشار لي أن أتمهل..التفت إلىّ أبي فوجدت كفيه الاثنتين ترتعدان.. جسده كله يرتعد ويتنهد وصدره يعلو ويهبط كأن قلبه يريد أن يخرج من الصدر ويزأر.. تناول يوسف القهوة رشفة بعد أخري

اندفع أبي بصوت واضح وقوي لم يصدر عنه مذ مرض وسأل:

-                     ما اسم الشاب؟

سكت يوسف قليلا ثم قال بصوت متحشرج مبطن بالدموع:

-                     مدثر

كأنها قنبلة انفجرت فينا..ما عدنا نسمع شيئا أو نرى شخصا أو نحس بأية حركة لأي حيوان صغير.. ليس غير مطر الدموع المنهمر والنشيج المحموم والجسم المخضوض والقلب المقبوض.. لم نعد نحس بأنفسنا فقد ابتلعتنا غيبوبة، حتى أننا لم نلاحظ أن يوسف قد خرج.

 

(15)

 مسألة نقل المسلة من موقعها إلى الباخرة مشروع كبير ومعقد تطلب عند الإعداد له وتصميمه ومناقشته حسابات كثيرة وقد سبق أن حدث كل هذا على مدي شهور سابقة في باريس، أما هنا في " الأقصر " فهو بحاجة إلى أقصى درجة من الدقة لأن غياب الدقة في أية لحظة ربما يدمر المسلة وبالتالي الخطة بكاملها وهي التي احتاجت جهدا وفكرا ومالا قبل الوصول إلى تلك المرحلة. بعد انتهاء هدم المنازل التي تعترض سير المسلة تعين إزالة الأتربة المحيطة بقاعدة المسلة والمتراكمة على مدي قرون حتى أن ما كان يظهر من المسلة نحو الثلثين والثلث مطمور مثل كل الآثار تقريبا..كان هناك تل كبير يمنع وصول المسلة إلى الباخرة، وهذا يعني ضرورة إزاحته أو على الأقل فتح طريق عرضه على الأقل ثمانية أمتار لسحب المسلة عبره إلى النيل.

 بدأ التعامل مع المسلة منذ أسبوع بإزالة كل الأتربة المحيطة بقاعدتها تماما وحفر خندق حول القاعدة بعرض ثلاثين سنتيمترا من حولها وتحديد الفواصل بين أحجار القاعدة بعصي حديدية مشطوفة ثم إغراق الخندق بالماء حتى الحافة وتركه يومين ليعمل على خلخلة القاعدة بدرجة ما.. صنع النجارون بعد ذلك سُلمين قويين بطول المسلة لأنهما أساسيان جدا في تعليق الصواري وتغليف المسلة وتركيب الحبال، وقام العمال بدهان المسلة بطبقة سميكة من الجير الأبيض وتركوه عليها يوما حتى يتعلق بها ويحميها من أي احتكاك، وفي اليوم التالي قاموا بتغليفها بألواح من الخشب غطت كل الأضلاع..قام العمال بتثبيت الألواح الخشبية بشرائح من الصاج عرضها 40 سم تمتد على الزوايا الأربع بطول المسلة (عشرون سم على كل ضلع من الضلعين المشتركين في الزاوية) وكل شريحة موثوقة في الخشب بمسامير حلزونية (قلاووظ) لا يسمح لها بلمس الحجر الجرانيتى، فعندما تصل إليه يتوقف البرم.

 قام المهندسون قبل ذلك بتجهيز الهيكل الخشبي الذي سيتولي الإمساك بالمسلة أثناء عملية إسقاطها.. الكل عليه أن يواجه الكتلة الحجرية الضخمة التي تتمتع بطول غير عادي وكذلك وزن لم يتوفر حتى لكتلة حديدية من قبل.. كان الهيكل مكونا من خمسة مجموعات خشبية متماسكة جدا وتم الاطمئنان على قوتها بحيث تستطيع المجموعة حمل ما يعادل ألف حصان على الأقل.

 الهيكل يتكون من مجموعتين سوف يقفان بشكل عمودي كالصواري ملاصقين للمسلة كل مجموعة مكونة من أربعة أعمدة، واحدة من جهة الشمال أي من جهة طريق الكباش ومجموعة من جهة الجنوب قريبة جدا من المعبد وتصل ما بين المجموعتين من أعلى مجموعة عرضية تجمع أربع مجموعات من الروافع.. المجموعتان السابق ذكرهما ومجموعتان مائلتان يبدأ غرسهما فى الأرض تحت أقدام المسلة الشرقية.. ولتسهيل المشهد.. هناك أربعة مجموعات على الأرض على شكل مثلث هرمي لكن زاويته قائمة.. مثلث من ضلعين خشبيين.. الضلع الأول عمودي والثاني مائل وضلع ثالث هو الأرض.. الضلعان الخشبيان منهما ضلع ملاصق للمسلة وهو واقف باستقامة لا ميل فيها ولو ملليمتر والآخر مائل من رأس المسلة متجها إلى أسفل المسلة الشرقية وكل المجموعة مقبوض عليها بالمجموعة العلوية الأفقية الخامسة ملاصقة للمسلة من ناحية الشرق لأن إسقاط المسلة سيكون على جانبها الغربي أي نحو النيل.. تضمنت خطة الإسقاط ألا تنزل المسلة مباشرة على الأرض ولكن أن تهبط أولا على تل ترابي بطولها حتى يمكنها أن ترتاح عليه إلى أن تأخذ وضعها المتوازن والمعتدل، ثم تمهيد هذا التل من جهة النيل ليميل بشكل متدرج يسهل معه جرها نحو الباخرة..

 بدا واضحا أن المسلة تفرض حضورها المهيب على كل شيء حتى على الأطفال الذين تجمعوا مع الأهالي بما يقرب من ثلاثمائة فلاح منذ علموا بطريقة ما أن مرحلة جديدة تماما ومرعبة بقدر جاذبيتها سوف تتم مع شروق الشمس.. بل حضر الكثير من سكان القري المجاورة وبعض الأجانب.

 بعد تغليف وتثبيت الألواح الخشبية قام النجارون بتركيب ثماني بكرات حديدية ضخمة فوق المجموعة العلوية محيطة بهرم المسلة العلوي بحيث تكون هناك بكرة فوق كل عمود.. سكنت عليها مجموعات الحبال التي ستمسك بالمسلة وتسمح لها بالهبوط التدريجي.. كانت الحبال من الجهة الغربية حرة وغير مثبتة فسوف يتحكم فيها بعض المهندسين و العمال ويشرفون مباشرة على عملية التنزيل ومن الجهة الشرقية تم ربط أطراف الحبال بخطاطيف حديدية ودفنها في الأرض على عمق مترين وتقع تحت المجموعة الخشبية الشرقية وتحت المسلة الشرقية.

 فكرة الإسقاط تعتمد على أن المسلة مقبوض عليها جيدا بأحبال من الجهة الشرقية والغربية معا بدرجة واحدة، لكن الجهة الغربية مربوطة بطريقة ميكانيكية تتيح للمهندسين والعمال القدرة على التحكم في حركة المسلة بالسماح لها بالميل البطئ نحو النيل أو التوقف تمهيدا للميل الكامل وتمام الإسقاط على الأرض.... تواجه البعثة الآن أصعب المواقف.. ساد صمت محفوف بقدر من الرهبة والخوف.. الجميع كتموا الأنفاس انتظارا لإشارة البدء من كبير المهندسين ريشار.. طلب ريشار فجأة من مساعديه قبل أن يرفع يده لانطلاق عملية الإسقاط أن يمرا من جديد على البكرات والأحبال.. صعد المساعدان وأعادا فحص كل الأحبال والبكرات.. جذبا كل شيء بشدة واطمئنا على تماسك كل أطراف العملية الخطرة.. رضيا عن كل جزء فيها. وقف ريشار شاردا وإن مرت عيونه الجاحظة على كل قطعة في الصرح الكبير.. كان قصيرا جدا وكانت رأسه الكبيرة بشكل لافت تشبه قرعة ضخمة ولا تكف عن التفكير وربما كانت سببا فيما يتمتع به من غرور يقلل منه أحيانا بقشرة من التواضع من السهل اكتشاف صوريته. جوهرتا عينيه الزرقاوان لا تزالان تحدقان وتدوران مثل كائن غير أرضي.

 أشار ريشار أخيرا ببدء العمل. سمح العمال لحبال الجهة الغربية أن تتحرك باتجاههم على البكر ويعنى هذا السماح للمسلة بالميل نحو النيل.

هبطت المسلة ببطء حذر لنحو نصف متر.. كان من السهل ملاحظة تأرجح المسلة وهى تهبط.. أوقف ريشار العملية لحين التعرف على السبب.. كيف غاب عن باله أن البكرات واسعة التجويف.. تتحرك الحبال في مساحة عريضة تنتقل هذه المساحة إلى حركة المسلة فلديها متسع للعب والتأرجح.. ليست هناك فرصة لتغيير البكر لأن البكرات المركبة لا يوجد لها بديل مختلف.. هناك بكرات مثلها كثيرة.. ومتعذر تقريبا الحصول على أضيق حلقا منها، وإذا وجدنا في المصانع المصرية العسكرية فسوف يحتاج إلى إجراءات ووقت طويل والمشكلة أساسا تكمن في المواصلات.. دنا منى مهران الحداد المصري صاحب مشكلة العلم، وقال:

-                     ممكن أعرض رأيا؟

-                     ممكن بالطبع..

همست في أذن ريشار برغبة مهران الحداد في عرض رأيه.. تنهد ريشار في شبه توتر وأشار لي بالانتظار.. كان غارقا في المشكلة..وقف ريشار وأشعل سيجارة وتلفت حواليه.. أعدت على ريشار رغبة مهران.. نظر إليه ريشار وأشار بيده في لامبالاة كي يتحدث.. قال الحداد:

-                      يمكن إضافة عُقد من الحبال تلتف على البكر وتحيط بالحبل الرئيسي فتضيق المسافة..

ساد صمت.. حاول ريشار تصور الفكرة، ثم هز رأسه.. قال بعد لحظات:

- يمكن أن نستبدل عُقد الحبال الملتف على البكر ببكر من خشب أو حديد لتضييق المساحة الخالية

ترجمت ما قاله ريشار للحداد الذي رد على الفور قائلا:

-                     البكر الخشبي أو الحديدى ربما يؤثر على قوة الحبل الشغال.. سينحره ويُضعفه

هز ريشار رأسه.. عرض ما قاله الحداد على مساعديه، وسألهما:

-                     ما رأيكما؟

تبادلا النظرات.. قال فيكتور:

-                     فكرة جيدة وسهلة ولن نتعطل بسببها

قال الثاني:

-                     أنا مع ما قاله فيكتور وأرى أيضا أنها لن تضر حتى لو فشلت

التفت ريشار إلى الحداد وقال له:

-                     نفذ.. سوف نري

-                     الصمت يقبض على أفواه وأنفاس الجماهير المحتشدة وكأنهم يخشون إذا تنفسوا ربما يؤثر ذلك على عملية الإسقاط وقد تغضب المسلة، وربما تزلزل الهيكل الخشبي الضخم وتفكك البناء العالي.. بدا عليهم واضحا الإحساس بخطورة العملية ولم يستبعدوا أن يتدخل شيء ما مهما كان تافها ليهدم العمارة المهيبة ويحطم ما تم تجهيزه.. الترقب والخوف سيد المشاعر..المصريون عموما من طول تجاربهم مع تحطم الآمال أدمنوا سوء الظن. كل عمل مهدد دائما لديهم بالتوقف.. العيون مفتوحة والأعصاب على آخرها مشدودة، القلوب تلهج بالدعاء أن يتم كل شيء على خير وجه.. صحيح أن صرحا مهما ومعلما أثريا عملاقا يوشك أن يغادر الأقصر ومصر لكنهم يتمنون الفلاح لكل مجتهد ويرجون النجاح لمن أتقن وأخلص، خاصة أن كل أهالي الأقصر تقريبا بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر من وصول الباخرة أدركوا طيبة الفرنسيين ومودتهم وعمق معارفهم وتواضعهم في الآن نفسه وحرصهم على العناية بالفلاحين وحسن معاملتهم.. بدا ذلك بوضوح لا يقبل أدني شك إبان فترة الكوليرا.. أغلب المصريين لا يعتبرون فعل الخير واجب ولكنه جميل لا يجب نسيانه.. تحدثوا طويلا بعد ذلك عن تقدير الفرنسيين للعمال الذين اشتركوا في المشروع،خاصة أن شخصا واحدا لم يتعرض لأية إهانة حتى لو تسبب في بعض الخسائر.. حدث عدة مرات أن قيل لبعض العمال:

-                     - ارتاحوا قليلا يبدو أنكم تعبتم، أوخذوا قسطا من الراحة فهو بالطبع عمل مختلف عما اعتدتم عليه، أو لأن هذه النوعية من الأعمال جديدة عليكم.

-                     في احدي المرات تسبب عامل في وقوع مطرقة كانت فوق شباك خشبي في المنازل المطلوب هدمها فسقط على رأس عامل فرنسي.. أسرع العامل يقبل رأس العامل ويعتذر له لكن العامل الذي كاد أن يغشي عليه قال له: - لا بأس.. أنت لم تقصد

-                     كانت المرة الأولي التي يعرف فيها الفلاحون أنه لا يصح كتم الدم بتراب الأرض. كان عامل قد أسرع يحتفن التراب ليكتم به الدماء التي تسيل من رأس الفرنسي فمنعه مساعد الطبيب.

 أسرع الحداد بمساعدة عدد من الرجال بقص ست عشرة قطعة من الحبال طول كل منها مترا واحدا.. صعد الرجال وربطوا على كل بكرة حبلين على جانبي الحبل الرئيسى ربطا محكما وأضاف الحداد فكرة طلاء الحبال الثلاثة فوق البكرة بالزيت، ولما نزلوا طلب ريشار من مساعديه الصعود والاطمئنان على ما فعله العمال.. نزل المساعدان بعد أن فحصا ما أنجزه الحداد ومرافقوه وأبلغ كبير المهندسين الذي أشار باستئناف العمل.

هلل العمال الذين لاحظوا أن المسلة لم تعد تتأرجح.. القلوب المعلقة بها تتمنى لها الهبوط الآمن دون أية مشاكل.. فجأة انفصلت المسلة عن قاعدتها فهلل الجميع.. أهم محطة في عملية الإسقاط.. كان ريشار يرتعد قلقا من أن تتسبب القاعدة في إلحاق الأذى بالمسلة إذا كانت متشبثة بها بقوة.

 العمل يمضي بشكل حسن..الكل صامت ومترقب لا يشغلهم شيء في الدنيا جميعها غير التحديق في المسلة التي تشق طريقها المهيب معلقة في الأحبال.. البكرات تحملها أعمدة خشبية تثير توجس ريشار ولا يكاد يفكر في شيء إلا فيها فهو مازال غير مقتنع إلى حد الاطمئنان بهذه الأعمدة الخشبية التي يثق أنها لن تكون قادرة على استكمال العملية الصعبة بسلام، لكنه أخيرا وبشكل سري يطلب من الله العون.

فجأة تنشق الأرض ويطير خطافان يمسكان بالحبال والبكرات التى فوق المجموعة الخشبية الأفقية.. ويحمد الله عمال سقطوا على الأرض من شدة الفزع فلم يصابوا بالأذي وتخيل روجيه كبير الأطباء ما الذي كان يمكن أن يحدث إذا ارتطم خطاف واحد بعدد من العمال. يتوقف العمل ويطلب بعضهم استراحة لصلاة الظهر جماعة فيوافق لأول مرة ريشار وهو يقول:

-                     نصف ساعة فقط

 جاءني أحد النجارين العاملين في إسقاط المسلة، وهمس في أذني قائلا؟

-                     الحاج حكيم يريدك أن تمر عليه

-                     سأفعل إن شاء الله.

يقبل الفلاحون على صلاة الجماعة ثم يتناولون على عجل لقيمات قليلة ويشربون الكثير من الماء ويرطبون وجوههم وعندئذ يبلغ أسماعهم تصفيق ريشار بكفيه داعيا الجميع لسرعة العودة إلى العمل فيلبون النداء وخلال دقائق يكونون أمامه كأنهم في وحدة عسكرية.

قال ريشار:

-                     المساعد سيرشدكم كيف تعيدون الخطاطيف إلى مواضعها.. هيا.. ثلاثة أرباع الوقت انقضى ولم ننجز إلا نصف المهمة.. هناك إذن خلل في النظام وتبديد في الوقت

تقدم منى مهران الحداد مجددا وقال:

-                     لا داعي لدفن الخطاطيف يمكن أن يمسك بها عدد من العمال بعد إطالة الحبال

أنقل ما قاله الحداد إلى ريشار.. يفكر لحظات ثم يوافق.. يظهر عامل فرنسي ويقول لريشار:

-                     الغلاف الخشبي يطقطق بصوت مسموع

 يأمر ريشار بسرعة إعادة تثبيت الغلاف بلف خمسة أحزمة من الصاج لفة كاملة حول المسلة بحيث يكون هناك حزام كل أربعة أمتار

نعود إلى العمل مجددا بعد تصحيح الأخطاء وضبط المسار، وتتابع المسلة هبوطها المتزن بلا أية مشاكل.. بعد نصف ساعة تهبط المسلة الهبوط الكامل وتضع جسمها الشامخ على قمة التل.. يتقدم بعض العمال المصريين مستعينين بالفؤوس لسحب التراب من أسفل التل.. يتناقص تدريجيا ويهبط فتهبط معه المسلة حتى تتمدد تماما على سرير الأرض متخذة وضعا معتدلا ومستويا.. يلتقط الجميع أنفاسهم فقد تمت أخطر المراحل بنجاح ولا خسائر تذكر، ويطلب ريشار أن ينصرف الجميع فيكفي اليوم ما بذلوه.. يمضي ريشار إلى ركن ويجلس متناولا منديلا ليمسح العرق عن صلعته وقد شعر بالتعب الآن فقط يدق جسده.. لم يجلس لحظة واحدة طوال اليوم..

 يميل المترجم الفرنسي ساسى على ريشار ويذكره بأن العيد الكبير للمسلمين بعد غد و يحتفلون به لأن النبي إبراهيم أمره الله بأن يذبح ابنه اسماعيل فسأل النبي ولده عن رأيه في أمر الله له، فقال الابن:

-                     نفذ يا أبي أمر الرب وأنا لن أقاوم السكين بل سأرضي وسوف يكون ذلك بالتأكيد في صالحنا

تحول إليّ ريشار وسألنى وهو يغمز بعينه ويبتسم:

-                     هل ما قاله ساسى صحيح؟

ابتسمت وقلت:

-                     صحيح حسبما ورد في الكتب السماوية

ابتسم وتلفت إلى الجميع وسأل:

-                     كيف يقبل اسماعيل أن يُذبح؟

ترجمت للعمال والفلاحين كلامه، فرد الحداد على الفور:

-                     إنها قمة الطاعة.. وأن تطيع الله متعة

قال ريشار: حتى لو كان الأمر ذبحا؟

رد الحداد:

-                     نعم.. أمر الرب يجب قبوله من أجل حياة آمنة وعامرة بالرزق

ترجمت لريشار، وأضاف الحداد:

-                     أنت لابد تعلم قصة النبي إبراهيم نفسه الدالة على منتهى الإيمان والثقة بالله حينما حطم الأصنام فأمر الكفار بحرقه. ولأنه كان واثقا أنه فعل الصواب فلم يقاوم.. أمر الله النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم، فأذعنت ولبت دعوة الرب وخمدت دون أن يشعر إبراهيم بأي ألم بل لم تتمزق ملابسه

قال ريشار:

-                     لقد تلقيت محاضرة مهمة في الإيمان.. لكن سامحوني..

توقف فجأة وقال موجها كلامه للجميع:

-                      بعد غد العيد الكبير وسوف نأكل اللحم مثلكم ونحتفل لذلك فنحن جميعا في إجازة لمدة أسبوع من الآن.. هيا أسرعوا قبل أن أعود في كلامي.. عيد سعيد

هلل الفلاحون والعمال وعادوا جميعا إلى بيوتهم بعد أن فوجئوا بأن الأجر اليوم كان مضاعفا.. عادوا يهللون ويلوحون للفرنسيين.. ملت على ريشار وقلت له:

-                     كنت على وشك التسبب في مشكلة

-                     هل أدركت هذا؟

-                     نعم

-                     ماذا كنت بظنك سأقول؟

-                     كنت ستقول لأهل البلد: أنا لست معكم في موضوع الإيمان

-                     قلت لي أنك ستعود إلى بلدك فرنسا معنا

-                     نعم

-                     لن أتركك حتى أنتقم منك

في الصباح مد لي يده بورقة وقال:

-                     اقرأ هذه الكلمات وقل لي رأيك

-                     " عزيزي العالم الأثري الشهير شامبليون.. افرح معنا فالكوليرا انزاحت وقمنا اليوم بإسقاط معشوقتك مسلة الأقصر الغربية مستخدمين أبسط الوسائط الميكانيكية.. لقد تمكنا أخيرا من السيطرة عليها وها نحن نمسك قرونها.. ليتك كنت معنا لتشهد العملية التاريخية التي نزعنا بها العروس المصرية الضخمة من جذورها حتى أصبحت بين أيدينا..إننا نلاحظ النظرات الغاضبة التي تشع بها عيون التماثيل الأخرى بل إننا نري الغيظ والحنق متجليا في رؤوس الأعمدة لأنهم يخشون أن يتعرضوا لما أصاب صديقتهم القديمة. ولا نستطيع أن نخفي عنك أن صورة المعبد وفخامته قد تأثرت سلبا بسبب غياب هذا الأثر المهيب، لكن عطفنا على المعبد وتأثرنا لحالته لن يمنعنا من أن نحملها عن قريب لنعود بها إلى فرنسا دون شك، وسوف تتاح لك الفرصة كاملة كي تبقى إلى جانبها أو تزورها متى شئت وتستطيع أن تلقي بعض دروسك الشائقة عن حضارة مصر العظيمة على الطبيعة.. لاريب أن هذا الأثر الذي سيزين باريس سوف يكشف أيضا قدرة فرنسا المعاصرة على أن تكون مجمعا لنماذج لا حصر لها من حضارات العالم، وسوف يكون هذا الأثر في قلب هذه الحضارات كما أنه سيكون وردة هائلة ومشرقة على صدر العاصمة التي تتربع على عرش الثقافة والفنون في العالم"

-                     تري بيان.. من المناسب أن ترسل برسائل مماثلة إلى وزير البحرية ورئيس مجلس العاصمة وسكرتارية الملك شارل وربما وزير المالية الذي يجب أن يرسل دعما مناسبا.

-                     برافو جوزيف

 مضيت لأرتاح في قاع الباخرة وأقرأ قليلا وأفكر في مسألة الإيمان التي ما تزال ملتبسة عند الكثيرين. لابد أن الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين متأثرون بأراء العديد من الكتاب الذين يؤكدون رفضهم لفكرة حضور الله في الحياة.. عدد كبير ليس لديه اعتراض على فكرة أن الله موجود وإن كانوا يرفضون فكرة أن يرصد الرب تفاصيل حياتهم و يمد لهم يد العون عند الحاجة.. بعضهم يقول لست بحاجة إليه.. لكن الاعتراض الأعم يتمثل فى وظيفة الرب ورقابته للناس ومحاولة تصحيح بعض السلوكيات والتدخل في الحيوات بصورة بطرياركية،ولعل معظم أفكار الأوروبيين نتجت جميعها عن استبداد الكنيسة ورجالها في القرون الوسطى وما تسببت فيه من طغيان محاكم التفتيش التي كانت تلاحق العباد، فأسوأ ما في الحياة أن تري النور تلك الجماعات التي تتصرف مع الناس بوصفهم عبيدا وهم أبناء الله المعصومون من كل خطأ وذنب، وقد أدي هذا الفهم وتطبيقاته إلى كراهية البعض للدين الذي يبدو كأنه أداة قمع، والدين ليس كذلك على الإطلاق، لذلك نجحت الحضارة الغربية الحديثة في تخليص نفسها من العبودية لرجال الدين ومدعيه والمتاجرين به وحجّموهم في عالم يخصهم ولا بأس من أن يخلعوا عليهم كل أردية القداسة.. في الوقت ذاته نلحظ أن الشرق عامر بمن يقدرون الله جدا ويتمنون أن يظل يشملهم بعطفه وأن يساعد في إنقاذهم من الشقاء.

 كنت أود أن أتحاور مع أحد في قضية الإيمان.. الفرنسيون لا يميلون عادة لهذا اللون من الموضوعات،والمصريون يتبعون طريقا واحدا ولا يحتملون الاختلاف حوله و بالذات أمور الرب والسماء.. لكنهم بالتأكيد في مشكلة حقيقية فقد استسلموا لفكرة الإيمان التي تعنى أن الله معكم أينما تكونوا وقد أعد لكم الجنة فلا تعبأوا بالدنيا وما فيها من فقر وقسوة وظلم.. الله سوف ينصركم إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.. هذه هي الأفكار التي يروج لها رجال الدين والأئمة والوعاظ ومن على شاكلتهم.. لعل هذا هو السر في أن المصريين الذين يذوقون كل الويلات التى خلقتها الشياطين يثقون أن الله مطلع فلا داعي للثورة لأن الجنة في انتظار العباد.. إن رجال الدين الذين يمنعون المواطنين المسلمين من الثورة ضد الفقر والجوع والظلم والطغيان، إنما يخدعون الشعب ويصنعون له الطغاة والجبابرة.. الصواب أن تكون المساجد في مصر منابر للثورة على ما يتم على أرضها من استبداد وفساد ونهب لثرواتها.. ورغم معاناة المصريين من حكم محمد على فأئمة المساجد يطالبون الناس بالرضا ومداومة شكر الله ويدعون للباشا بالتوفيق وطول العمر من فوق المنابر التي يحترم المصريون كل ما يسقط عليهم من فوقها مع أنهم يعلمون أنه يمتص دماء المصريين.

 أذكر أن جان جاك روسو كاتبي المفضل قال مثل هذا:

 " إن مواساة الله للفقراء تغنيهم عن الثورة ضد الفقر ".. على كل حال هذا الموضوع يحتاج إلى النقاش الطويل والعميق والأهم أنه يحتاج إلى مناخ ملائم وكاف من الحرية.

 ما يشغلنى أيضا مسألة ربما تكون غريبة أو تتطلب مصادر.. فالشائع أن شامبليون هو من فك طلاسم اللغة الهيروغليفية التي كانت حتى عشر سنوات مضت لغزا وأحجية، وكان تعذر فهمها يحول دون معرفة حجم الحضارة المصرية فكيف تمكن جان جاك روسو من أن يكتب قبل سبعين عاما من فض لغز الهيروغليفية ما يدل على معرفة العالم بمنجزات الفراعنة العظام في كافة المجالات.. يقول روسو في رسالته المعنونة " هل أسهم تقدم العلوم والفنون في تهذيب الأخلاق "

" انظروا إلى مصر، هذه المدرسة الأولي في الكون، هذا المناخ الخصب تحت تلك السماء الصافية وذلك البلد المجيد الذي كان ملوكه ينطلقون منه في زمن سابق لغزو العالم وكان المصريون أول من وضع قواعد الحكم ولأن الفضيلة هي أساس كل مجتمع فإنهم أولوها أقصى عناية. وقد صارت في وقت مبكر أم الفلسفة والعلوم والفنون الجميلة، ومع ذلك خضعت لقمبيز ثم للإغريق والرومان والعرب وأخيرا الأتراك"

كيف عرف روسو أن مصر بهذا القدر من التفوق والابتكار؟؟!!

 

(16)

 قبل صلاة المغرب قمت بزيارة الحاج حكيم.. كان في حالة صحية أفضل من أية مرة رأيته فيها.. قلت لنفسي بكثير من الرضا:

-                     أنا إذن أسير على الطريق الصحيح الذي انتويته

رحبت بي " جزيرة ".. أول مرة أراها تبتسم في وجهي.. أشرقت عيناها الخضراوان الجميلتان وتبين لي أن لها نغزة في كل خد وأسنان بيضاء مرصوصة كحبات الذرة.. جذبنى بشدة طابع الحسن في ذقنها المستديرة.. جلست وأنا أحاول أن أتجنب النظر إليها احتراما للرجل

قال لي الحاج حكيم في عبارة متماسكة ونبرة هادئة وراضية:

-                     أهلا يا بنى

-                      أتيت عندكم خصيصا من أجل كلمة.. "أهلا يا بنى "

قال الحاج حكيم:

-                     أهلا يا بنى

ضحكت ثم لزمت الصمت لحظات.. قلت وأنا أحاول ترتيب أفكاري:

-                     عاتبت نفسي لأني ما كان يجب أن أدق باب الماضي فقد يزعجكم وهذا ما حدث للأسف

أسرع الحاج حكيم يقول:

-                     لا. بالعكس.. الدموع التي زرفناها نفعتنا.. أفرغت من قلوبنا الغم المكمكم.. أحسست بالليل أني أريد أن أتكلم ولا أريد أن أنام..

تدخلت " جزيرة " قائلة:

-                     تصور يا يوسف أنه طلب بالليل أن يأكل مع أنه لم يطلب طعاما منذ سنوات، دائما يرفض..

قال الحاج:

-                     كنت دائما أشعر أنني أتنفس بصعوبة.. صدري ثقيل وكأن به شوال قطن

-                     وأمس

-                     أحسست أني أتنفس أفضل من ذي قبل

-                     الحمد لله

-                     هل سبق لك أن حمدت الله؟

-                     دائما أحمده حتى لو كانت هناك مصيبة

قاطعتنا " جزيرة " وسألت:

-                     هل تأكل بشكل جيد مع الفرنساوية؟

-                     الحمد لله

ضحكا معا، فضحكت معهما.. غابت لحظات ثم عادت ومعها هنومة الخادمة تحمل صينية من النحاس وعليها فطير مشلتت وعسل أبيض وجبن غامق البياض وبلح أمهات يطفو فوق السمن

قالت:

-                     سوف تتناول العشاء قريبا معنا لكن هذا هو الموجود الآن

-                     شيء جميل.. أنا أحببت الفطير والعسل في المرة الوحيدة التي أكلته فيها منذ عشر سنوات

قال الحاج:

-                     هيا باسم الله

-                     بسم الله الرحمن الرحيم

بدأت أقطع من الفطير أول قطعة ولاحظت " جزيرة " أنني ربما أضيق بالحالة وأحتاج لغسل يدي مع كل قطعة من الفطير أقطعها، لذلك أمسكت بسكين مشحوذة وقسمت الفطيرة الكبيرة المستديرة طولا وعرضا إلى قطع صغيرة.. كل قطعة آخذها بإصبعي وأغمسها في العسل الأبيض وأسكنها فمي.. أتذوق ذلك الطعم الحلو الدسم.. يتحسس لساني طبقة القشدة النائمة بين طبقات الفطيرة.. وجه الفطيرة البنى المحمر المقرمش جذاب، والعسل يتسلل إلى حلقي كحبيبات سائلة لها ثقل خفيف وجذاب.. قالت " جزيرة ":

لا تنس هذا الطبق فهو جُمّار طالع من قلب النخلة المحمى بالسعف.. نادر من يعرفه من سكان المدن.. لا أريد أن أشبع.. لا أريد.. المذاق لذيذ ذقت التمر بالسمن. أكلته من قبل مع جدي..لاحظت أن الحاج لا يأكل. كانت عيناه تنظران إلىّ مثلما كان جدي ينظر إلى.. نظراتهما مغمورة بالحنان والوداعة.. بريق ملائكي يشع منهما..أسفت لموقفي الأناني. قلت مندهشا:

-                     أنت لم تأكل يا حاج

قالت " جزيرة ":

-                     الأطباء منعوه تماما من رؤية هذه الصينية أو الاقتراب منها مهما جري.

فكرت أن أتوقف عن تناول الفطير احتراما لوضعه الطبي لكن الفطير لا يُترك، كما أن الأطباء منعوه ولم يمنعوني.. أكلت كثيرا بشكل زائد ويتجاوز الأدب.. كما أنني كنت أنتهز الفرصة للتحديق في وجه " جزيرة " الذي بدا كأنها جلست في شمس الصيف لساعات.. شفتاها الدسمتان المتوهجتان وخداها المتوردان وبريق غريب تشعه عيناها.. كانت تسترق النظر إلى وجهي. ثمة بهجة تلون ملامحها.. تمنيت أن يكون ذلك بسبب حضوري لا بسبب الفطير.

أخيرا توقفت بعد أن كدت أختنق وبطنى امتلأت حتى تصورت أنها صعدت إلى رئتىّ.. ألحت في الاستمرار:

-                     كل أكبر كمية ممكنة.. أنا واثقة أن محمد على باشا سيصدر أوامره بإلغاء الفطير ويقصره على عائلته فقط

-                     شكرا جزيلا.. عامر يا حاج

-                     بالهناء والشفاء..هات يا هنومة الإبريق.

 أسرعت بالحضور هنومة كأنها كانت واقفة وراء الباب تنتظر النداء وهي تحمل إبريقا نحاسيا طويل الرقبة كبير البطن رقيق المنقار وصينية نحاسية على شكل قبعة مقلوبة بطنها كبير.. أخذت منها "جزيرة " صابونة ومدتها إلىّ وصبت هنومة القليل من الماء.. توقفت فدلكت يدي طويلا حتى غطى الصابون يدىّ، أشارت " جزيرة " أن أدلك يديّ بالصابون مرة أخري فدلكت وملأت فمي بالصابون ثم سلمت لهنومة الصابونة وصبت الماء من البزبوز الرفيع لكن الماء كان باردا وصافيا فغسلت حتى اختفت تماما آثار الدهن.. مدت لي " جزيرة " يدها بالفوطة فجففت يديّ وفمي، ومضت مع هنومة لتغسل بالداخل.

جاءت السيدة كاملة أم مدثر لتسلم علىّ وترحب.. شكرتها وتمنيت طول العمر وتمام الصحة لها وللحاج والسعادة لكل أولادها.

سألتها:

-                     أين بركة أود أن أتحدث إليه.. أسمع عنه كلاما طيبا

-                     لم يعد بعد من الخارج، إنه يذهب إلى الشيخ يونس إمام الجامع.. هل تحب أن أبعث إليه من يناديه؟

-                     سوف أبقي مع الحاج نصف ساعة ثم أنهض.. أحب النوم مبكرا

-                     شرفتنا يا بنى

-                     شكرا يا حاجة

-                     أظن الشاي الآن مناسب

سكتُّ لحظة واستحيت أن أوافق بسرعة.. ثم قلت:

-                     لا أريد تعبك

-                     تعبك راحة..أنت في غلاوة مدثر

استدارت وهي تقول للحاج:

-                     شاي يابو مدثر

-                     تشربي من زمزم

-                     أجمعين إن شاء الله

رجعت " جزيرة " وسألنى الحاج:

-                     عندك كلام عن مدثر الله يرحمه

كنت شبه مستعد للكلام:

-                     عندي.. مدثر أصبح صديقي وليس مجرد جندي تحت إمرتي.. وكنت أحاول معه كي يفطر أثناء رمضان لأن المعارك كانت أحيا نا لا تترك فرصة لشرب الماء أو مسح العرق.. رفض مدثر وشاركني في كل المعارك التى دخلناها في ريف اليونان وجزر اليونان

قاطعتني " جزيرة " وسألتني:

-                     لكن مصر مالها ومال اليونان

اندفع الحاج حكيم:

-                     صحيح يا يوسف يا بنى.. مالنا ومال خلق الله

-                     سؤال مهم يا حاج.. اليونان دولة أوروبية نصفها جزر وهي ولاية مثل مصر تابعة للدولة العثمانية أي الأتراك.. من عشر سنين هب الشعب اليوناني وثارعلى الحكم العثماني. رفض أن يكون تابعا له.. الشعب خرج وحمل السلاح.. الدولة العثمانية أسرعت بجيوشها تحاول إنهاء الثورة فتصدي لها الشعب اليوناني الثائر لكنه انهزم، لولا أن سيدة يونانية ثرية اسمها بوبولينا. تفيض بالوطنية والشجاعة مثل " جزيرة " فأقسمت أن تقدم للثوار كل ما تملك وأن تمدهم بالسفن والمؤن وأن تحارب معهم.. تحمس الجميع وتمكن اليونانيون من العودة للحرب وهزيمة الأتراك وأعلنوا أن اليونان دولة مستقلة

قالت " جزيرة ":

-                     كثير من الرجال لا يقتنعون بأن المرأة يمكن أن تعمل عمل الرجل، مثل المشاركة في الحروب والخروج مع الثوار أو تحمل مسئولية الحكم

سعدت بالفكرة فقلت على الفور:

-                     - المرأة أحيانا تكون أكثر ثورية من الرجل وهي بالطبع أشجع وأكثر قدرة على التحمل، لكنها لا تجد الفرصة كي تكشف عن مهاراتها

قال الحاج حكيم:

-                     وماذا فعل اليونان؟

-                     هاجمهم الأتراك مجددا فانهزموا.. طلب محمود باشا سلطان تركيا من محمد على الذي يحكم مصر وهي دولة قوية أن تساعده في ضرب اليونان.. قام محمد على بإرسال جيشه واستطاع إنهاء الثورة في جزيرة كريت وقبرص.. تحمس إبراهيم باشا ابن محمد على للاستمرار في الحرب وقرر زيادة عدد الجنود

وكنا نحن ضمن المرحلة الكبرى خلال سنتى 26،1827 وما إن وصلنا حتى هجمنا على عدة مدن فدمرناها بالكامل ومنها مدينة كلاماتا المشهورة بالزيتون فسويناها بالأرض ومررنا بمدن كانت محاطة بالقلاع والخنادق فحاصرناها ومنعنا عنها المؤن شهورا حتى سقطت جميعها إلا مدينة اسمها ماني.. كانت محصنة جدا وقتل رجالها الأشداء قائد الآلاى الذي نحارب تحت قيادته وفوجئت بالكلونيل سيف يأمرني بأن أكون خليفته، حاولنا ثلاث مرات الدخول إلى المدينة فلم نفلح

سألنى الحاج:

-                     ماذا كان عمل مدثر؟

-                     كان عمله في البداية حمل أوامري إلى كل القواد الصغار مع المشاركة في تنظيف مواسير المدافع وحشوها، حتى أمسكته متلبسا باستخدام بندقيته في اصطياد اليونانيين وكان يجيد التصويب، وعرضت عليه الصعود على الحبال إلى سقوف القلاع العالية وفتح الطريق إلى القلاع التي كانت شديدة التحصين.. وفي أحيان أخري نتعرض لهجوم شديد فأضطر للانسحاب مؤقتا لأحافظ على جنودي لكن مدثر كان كثيرا ما يرفض ويطلي وجهه باللون الأخضر المرقط ويختبئ وراء الأغصان ويتحرك بخفة لاصطياد الجنود الذين يحاولون مهاجمتنا بالليل، ثم بعد ذلك خشيت عليه من هذا التجول الحر فطلبت منه التدرب على الضرب بالمدفعية، وأصبح من أفضل الطوبجية.

سألنى الحاج حكيم:

-                     كيف انتهت الحرب؟

-                     في منتصف سنة 1827 قررت روسيا وانجلترا وفرنسا التدخل لمّا رأت الغلبة للجيش المصري التابع طبعا للأتراك وهزيمة اليونانيين سوف تشجع الأتراك على التهام دول أخري وتصبح خطرا على دول أوروبا، فأرسلوا أساطيلهم لتهديد الأسطول التركي والمصري وطلبوا وقف الحرب وإلا تقدمت أساطيلهم وحطمت السفن المعتدية على شعب اليونان.

قالت " جزيرة ":

-                     أسمع أن الدول الثلاث من الدول القوية، وإن كانت مصر هزمت انجلترا في رشيد سنة ميلادى

ضحكت وقلت:

-                     لو لم تولدي ما استطعنا هزيمتهم

-                     هكذا.. لن أمررها هذه السخرية

-                     المرة القادمة لك

-                     البادي أظلم

-                     متأسف يا سيدتى

-                     لا..لا تتأسف حتى يظل حقي قائما

قال الحاج الذي بدأ يتوتر وكأنه يستعد للختام:

-                     ماذا فعل محمد على في مواجهة التهديد؟

-                     القرار قرار السلطان وليس محمد على

-                     نعم السلطان..

-                     رد بكل قوة وأعلن رفضه للتهديد، وأمر بتجميع الأسطول المصري والعثماني في ميناء يوناني اسمه نافارين على البحر المتوسط تأهبا لملاقاة الأساطيل الأوروبية، وسرعان ما دارت المعارك الشرسة وأبلي الجنود المصريون بسالة نادرة فقد كان كل الجنود خاصة مدثر يحبون الكلونيل سيف والقائد العام إبراهيم باشا.. لم يكونوا يحاربون من أجل أحد وهم لا يدافعون عن الأراضي المصرية وكانوا بعيدين عنها بعدة آلاف من الكيلومترات، لكنهم كما قلت يحبون الجيش والقادة

سألتني الجميلة:

-                     لماذا يحبون الجيش؟

تدخل أبوها وقال في شبه حدة:

-                     هل هذا وقته يا ابنتى؟

-                     أرد عليها في كلمتين يا حاج.. يحبون الجيش لأنهم يحبون القادة ولأنهم يحبون المزايا التي يحصلون عليها من الجيش ولا يحصل عليها غيرهم.. هناك الطعام الجيد والملابس الحسنة والمرتبات والعلاج ووظائف بعد ذلك لمن يريد

اندفع الحاج قائلا:

-                     وهناك الموت يا ولدي

تنهدت ولذت بالصمت لحظات ثم قلت:

-                     عندك حق يا حاج وإن كان من يندمج في المعركة ينسي الموت.. ولا ننكر أن مزايا الدنيا تنسي الشخص خطر الموت وخاصة أنه مجهول.. قد تتوجه الرصاصة إلى قلب شخص ولا يموت وقد يقع من يتوضأ في شبر ماء فيختنق ويتوفي.. الإنسان عادة لا يفكر في الموت لأنه قدر وأجل كتبه الله ولا مفر منه.

قال حكيم:

-                     لم تجبني كيف انتهت الحرب؟

-                     تجمعت في خليج نافارين اليوناني مائة وخمسون سفينة وبلغ عدد الجنود خمسة وعشرين ألفا وعدد المدافع أربعة آلاف.. كان لمصر أربعون سفينة والأتراك خمسون ولحقتنا السفن الجزائرية وكانت سبع.. أي سفننا كانت ضعف سفن الأوروبيين

يبدو أن القادة اغتروا بعدد سفننا فأمروا بأن نمطر الأساطيل الأوروبية بالمدفعية ولا نتوقف حتى نقضي عليها..انطلقت على الفور مدافعنا حتى أغرقنا عشر سفن وعطلنا مائتى مدفع وقتلنا ألف جندي خلال نصف اليوم الأول.. لحقت بنا السفن الجزائرية قليلة العدد ورأت الأساطيل الغربية التركيز عليها والانتهاء منها مبكرا.

 تواصلت المعارك وأمكننا تحطيم تسع سفن وحطمت لنا الأساطيل عشرين سفينة ونحن نواصل الضرب دون راحة حتى بدأت تدريجيا ذخيرتنا في النقصان مع حلول المساء.. كان القائد العام قد طلب من القاهرة سرعة وصول الإمدادات سواء لتموين الأفراد أو تموين السلاح وقطع الغيار والطلقات والدانات.. المدافع تنصهر من كثرة اللهب واستمرار الضرب.. لم تعد قوتنا كما كانت.. لقد اضطررنا انتظارا لوصول المؤن أن نتباطأ في الرد.. بدأت الدائرة تدور علينا وتحطم أكثر الأسطول العثماني قبل أن نتوقف، ومات من جنودنا ما يقارب الألفين، وظل مدثر يطلق مدفعه بصورة متوالية دون راحة وبدا كأنه أصبح آلة لا يستطيع أحد إيقافها.. ظل يضرب مركزا على أسطول روسيا فأغرقه بالكامل سفينة بعد سفينة إلى أن تداعى جسده و سقط وحده دون أن يصاب برصاصة.

 كان الجوع والعرق والتوتر مع الجهد الخرافي الذي لم يبذله شخص آخر من أسباب سقوطه.. أشعر الآن وأنا أتحدث بالإرهاق.. كنت أتذكر المشهد كاملا وأنا أمر بين الجنود وأحمسهم ولم أكن أعرف أن مدثر لم يأكل ولم يشرب طوال اليوم.. كان منذ ثلاثة أيام قد نام ساعتين فقط وأكل نصف وجبة مرتين فقط.. كان يشرب الشاي كثيرا والسجائر، وكان يشعر بالغيظ والألم النفسي لأن هناك أشياء كثيرة كانت غير منضبطة وأسئلة لا تجد إجابات..

 حروب كثيرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل وها نحن الآن ندفع جنودنا الشباب الأبرياء ليحاربوا في الشام كي يضمها محمد على لأملاكه، ومن قبل الشام حاربنا في الأراضي الحجازية عشر سنوات وبعدها السودان ثم اليونان على أمل أن يضم كل ذلك لأملاكه، ومن قبل ذلك حارب الشباب مع محمد على ضد المماليك في ربوع مصر ثم ذبح الجميع وأغلق كتابهم وبدأ يولي وجهه للبلاد المجاورة إرضاء للسلطان وطمعا في تكوين إمبراطورية تحمل اسمه واسم أولاده.

 طلبت كوبا من الماء.. أحضرت جزيرة القلة التي كانت تقف كأنثى جميلة ورشيقة في ملاءة لف فوق السور أو كأنها امرأة في حي شعبي تطل من المشربية.. كان الماء باردا.. لقد شربت القلة كلها ببطء وتلذذ.. أكاد ألحس الماء لحسا وأستمتع به قطرة قطرة، ثم استأذنت للانصراف فوقفت جزيرة وقالت:

-                     مازال الوقت مبكرا

-                     لا.. لقد أزعجتكم.. سلام عليكم

قال الحاج "حكيم ":
- شكرا يا ولدي وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

خرجت فجأة الحاجة كاملة ومدت يدها بكيس من القماش، قائلة وفي عينيها مودة عميقة لا تصدر إلا من أم حنون:

-                     قليل من الفايش للفطور.

نظرت إليها بامتنان صادق.. شكرتها ومضيت.

استدرت وغادرت.. بعدما اجتزت البوابة بخطوتين توقفت ورجعتهما وقلت للحاج:

-                     يجب أن نسمى أحد الشوارع في الأقصر باسم الشهيد البطل مدثر حكيم أبو الحجاج.. خذوا رأي الناس العقلاء والكبار إذا كانت هناك مشكلة أو كان اعتراض.. أخي الحبيب من حقه أن يجد من يقدره ويترك قصة بطولته وبسالته للأجيال.

قال الحاج حكيم بنبرة راضية وواثقة وبصوت قوي نسبيا:

-                     ليس مهما أن يكون اسمه على الشارع..المهم أنه لم يمت جبانا.. هذه هي المسألة التي كنت أنتظر أن توضحها.

 

(17)

 ما إن غادرت بوابة الدَوّار بعشرة خطوات حتى بلغ سمعي صوت نقر خفيف لحدوة حصان على الأرض.. الحصان يتهادى في إيقاع راقص.. هل أتجاهله وأمضي أم ألتفت وأواجه من يتبعني؟.. لا يزال متبقيا على الباخرة ما يزيد قليلا على مائة متر.. قبل أن أتمادي في أفكاري.. جاءنى صوت الفارس حادا وخشنا.. لا أذكر أني سمعته من قبل:

-                     توقف أيها الغريب

بسرعة أدركت أنه نصر قبل أن أراه..توقفت وتحولت إليه.. فارس مسلح في عباءة سوداء على حصان أسود له غرة بيضاء.. قدمت جزيرة خدمة جليلة لأهل البلد ولي بالفوانيس المضيئة.. ما أبشع الظلام في القرى المصرية!.. كان ملثما فكشف وجهه..سأل:

-                     أين كنت أيها الغريب؟

أنا في العادة طويل البال ولا أسيء الظن بأحد لكن الصيغة المتغطرسة التي تحدث بها الفارس استفزتنى فرأيت ألا أكون مريحا له قدر الإمكان..

-                     أنت الغريب..وليس أنا

قال بثقة:

-                     أنا ابن البلد

-                     وأنا أعمل في البلد وكل من فيها يعرفني.

-                     ليس لديّ وقت أضيعه معك

-                     أنت من ناديتني

-                     سأقول لك ما أريد في كلمتين

-                     أسمعك

سكت لحظات ثم قال بلهجة آمرة:

-                     حذار أن تقترب من عمي وبيته

-                     من أنت لتأمرني؟

-                     أنا صاحب هذا البلد وكلمتي تمشي على الجميع

-                     عمّك من دعاني

-                     سأطلب منه ألا يدعوك

-                      موضوع لا يخصني، وليس من حقك أن تتكلم معى

شد لجام الحصان فقفز بأماميتيه.. لم أتحرك خطوة ولم أهتز، لكنى شعرت بالاستفزاز بسبب الحركة التي تعلن عن التهديد.. قال:

-                     يبدو أنك لا تعرفنى

-                     اللصوص يُعرفون بسهولة.. سيماهم على وجوههم

-                     أكرر عليك.. حذار الاقتراب من بيت عمى

-                     سأحضر كل يوم لعل الشرطة تقبض على لص الأسلحة التي يهدد بها الآمنين

شد لجام الحصان واستدار وهو يقول:

-                     قد أعذر من أنذر.. لا تلومن إلا نفسك

ضحكت تعبيرا عن سخريتي من سلوك العاجز..اكتشفت بعد أن غاب أني كنت متوترا وثمة تقلصات في معدتي..أحسست برغبتي أن أزيل عن جسدي وروحي القذارة والعرق والكلمات السقيمة.. اغتسلت بالصابون المعطر الخاص بي والذي حملته معى من القاهرة ضمن ما حملت من أشياء.. تذكرت جزيرة الجميلة وشخصيتها الجذابة وحيويتها الفياضة.. تنفست بملء رئتيّ وخرجت إلى الهواء البارد المنعش بعد قيظ يضرب كل شيء طوال النهار.. كان روجيه كبير الأطباء يقف وينظر إلى القمر الذي لم أكن قد تنبهت إليه فقد أشاع نصر في ليلتي قدرا من الكآبة بسواده وسواد حصانه وسواد كلماته.. أنا الآن أفضل.. دنوت منه وقلت:

-                     لا أظن أنك من الباحثين دائما عن القمر

-                     من النادر أن أراه ومن النادر أن أتذكره، وأنت

-                     علاقتي به وثيقة.. في أغلب الأحيان أشعر بالوحدة فأرفع نظراتي إلى السماء بحثا عنه.. اكتشفت أن لديه ملكات لا تملكها الشمس ربما لأنها مشغولة بأمور أهم.. القمر يبدد الوحدة ويسهم في التخفيف عن المهموم وصديق العشاق. اعتادوا أن يتحدثوا إليه ويبوحوا واعتاد أن يستمع إليهم ويرسل بعض الرسائل الوديعة المشجعة على الصبر والأمل. سأل وقد تسللت إلى روحه نسائم رومانسية:

-                     هل هناك علاقة بين القمر والنيل؟

-                     جغرافيا أظن أن هناك علاقة.. الأهم هو ما يجمعهما أو يشتركان فيه خاصة بالنسبة للشعب المصري صاحب التاريخ الطويل مع الألم.

-                     مثل

-                     أحب اثنين في الطبيعة للمصرين.. النيل والقمر.. المصريون يشكون كثيرا إليهما.. لهما دور عاطفي بارز مع العشاق.. هناك محبة عذرية من المصريين للقمر بحكم القرب، وحب جسدي للنيل.. لذلك فالغناء للنيل وشواطئه لا يتوقف منذ آلاف السنين.. وكانت هناك أسطورة لا أتذكر تفاصيلها.. أبدعها الفنان الشعبي تتحدث عن أن النيل رغب في أن يقبل القمر وطلب منه أن يهبط إليه ويسكن في قاعه لعدة ليال وعزم القمر على تلبية الدعوة.. عندما هبط وتجول في القاع.. قال للنيل:

-                     هل تسمح لي أن أضيء ظلام أعماقك؟

قال له النيل:

-                     لا أسمح لك طبعا.. أنا لو رأيت ما بأعماقي فسوف أتوتر وأتوقف عن الحركة.. أعرف أن القاع ممتلئ بالنفايات والجثث وهذا يحزنني كثيرا وسوف أشعر بالكآبة إذا أنت أضأت أعماقي المظلمة

قال له القمر:

-                     لقد غاب عنك أن عروستك الجميلة عندما تلقي بين أحضانك كل عام ترحب بها الملائكة إكراما لك وتنظف القاع تماما قبل أن تصل إليه

انتشى النيل وارتجت أمواجه وأغرق عددا من القرى وهو يضحك وسأل القمر:

-                      أحقا يا قمر؟

-                     أنت لا تعرف قدرك عند الخالق الأعظم

-                     لقد كنت تعيسا لأننى كنت أحس بما يلقيه البعض من النفايات

-                     خلق الله الكون وبث فيه الخطيئة والغفران. الشر والخير. الظلام والنور.. الدنس والطهارة. الملائكة والشياطين.

-                     اقترب موعد وصول الجميلة فهل ستبقي معنا

-                     لم أكن يوما عزولا.. سلام

كان روجيه يستمع إلىّ بشغف وانبهار.. كان كمن رافقنى إلى قاع النيل لنسمع حواره مع القمر.. قال وهو لا يزال في دهشته:

-                     سيه تري ماجنيفيك

-                     إليا بوكو داستوار كوم سا

-                     شرد لحظات ثم قال:

-                     المبدع الشعبي بارع في تآليفه وهو يعبر عن أشجانه وأشجان الطبيعة وأحلامها

-                     اتساقا مع كلام القمر وكلامك سوف تلحظ أن الشجون والأسى والتعاسة تصيب الإنسان لكن الإبداع الفني الجميل يأسو الجراح ويكفكف الدمع لتتواصل الحياة وتعبر أحزانها.

ظل روجيه لحظات محلقا بين الغيوم في أسطورة القمر والنيل التي نسيت بعض تفاصيلها.. ثم سأل:

-                     بالمناسبة جاء الفيضان بعد أن وصلنا، ولم يكن هناك غير احتفال باهت وبلا معنى، ولم أسمع عن العروسة الجميلة التي يلقيها المصريون في النيل حتى لا يهاجم القرى والحقول ويمضي مطمئنا ورحيما.

-                     كان الأجداد القدماء والأسلاف منذ آلاف السنين ينظمون مسابقة بين أجمل الفتيات لاختيار عروس النيل..ومن يتم اختيارها تتزين بالورود والحلي وتلبس أزهي الثياب وتكون في أبهى صورة، ثم تلقي إليه عندما تبلغ المصريين بشائره في احتفال وفرح وأغاني وزينات في كل ربوع مصر، وكانت طيبة أي الأقصر التي نقيم فيها الآن هي بيت أكبر حكام مصروفيها يتم الاحتفال وإلقاء عروس النيل بعد أن تحملها مركب كبيرة مزينة بالورود والرايات الملونة وبرفقة العروس شباب كثيرون يرقصون حولها في أداء معبر يحكى بإيجاز قصة هؤلاء الشباب الذين يتمنون الارتباط بجميلة الجميلات.. ثم تحين اللحظة الفارقة.. لحظة القرار الحاسم.. يتقدم شيخ جليل يمثله أيضا شاب يتم وضع صوف الخراف الأبيض على رأسه وشاربه وذقنه ويمسك بيده غصن شجرة جاف على شكل عكاز حتى يبدو شيخا.. يلقي كلمة مؤداها أن حكماء البلاد اجتمعوا مع الحاكم الأكبر والكهنة ودرسوا كل الطلبات المقدمة للزواج من العروس وقرروا أن الأحق بها، ثم فترة صمت..الأحق بها هو النيل العظيم القادم من السماء.. يصاحب هذا الرقص التعبيري عزف بديع لفرقة موسيقية يتلوها إنشاد يدل على غضب الشباب من النتيجة، لكن الشيخ يقنعهم فيبتسمون ثم يضحكون ويرقصون ويحملون العروس ويدورون بها عدة دورات ثم يتعاون الشباب في إلقاء العروس في النيل وهم يهللون تعبيرا عن سعادتهم وتمنياتهم بسعادة العروس طول العمر ودعوات بالسلام والأمن والخير لكل المصريين.

اكتشفت أن روجيه الذي لم يبرح حالة الانبهار لم يعد وحده بل كان يقف خلفي العشرات.. منهم ريشار والقبطان وفيكتور وبول وأولان وساسي وآخرون.. سأل روجيه:

-                     ولماذا توقفت هذه الطقوس؟

-                     ألست منزعجا من إلقاء العروس وإغراقها؟

-                     لا لستُ منزعجا

ضحك الجميع، فقلت له:

-                     لست أبا العروس ولا أخاها ولا أمها.. أنت تبحث عن الفُرجة

-                     لم تجبني.. لماذا توقفت الطقوس؟

تنهدت وشعرت بالظمأ وحاولت أن أكسب وقتا لأتذكر ما سمعته يوما عن سبب منع إغراق الشابة الجميلة. قلت:

-                     في أحد الأعوام بعد الفتح الإسلامي لمصر أثناء تولي الخليفة عمر بن الخطاب حكم البلاد الإسلامية وكانت مصر تابعة له.. تأخر وصول فيضان النيل وبدأت البلاد تشعر بالظمأ مثلي الآن

لحسن الحظ ظهر عامل من عمالنا الفرنسيين يحمل دورقا به ماء.. شربت وتابعت:

-                     تأثرت الحقول ومعيشة البشر فصرخوا وضجوا خوفا من حدوث مجاعة وقد بدأت معالمها تظهر في الأفق.. اضطر حاكم مصر في تلك الفترة واسمه عمرو بن العاص أن يرسل إلى الخليفة عمر يخبره بتأخر النيل والحالة مزعجة جدا ومن المحتمل أن تحدث مجاعة.. بعد أيام دون أن تصل نقطة ماء حتى اصفرت الحقول وتداعت العيدان واختفي الطير وابيضت شفاه البهائم التي كواها الظمأ.. فوجئ حاكم مصر بأن الخليفة الذي توقع منه قافلة محملة بالمؤن يرسل إليه رسالة يطلب منه إلقاءها في النيل.. قرأها الحاكم وأدهشه جدا ما تضمنته.. حدق فيها وتأملها عدة مرات وظل على حالته من الاندهاش:

كان نص الرسالة " من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر.. إن كنت تجري برغبتك فلا تجري وإن كان الله يجريك فنسأله أن يجريك

ويقول المؤرخون – صدقوا أو كذبوا فليس لديّ دليل – أن النيل في اليوم التالي أطلق فيضانه وعلت المياه في النهر علو ا كبيرا، ومن يومها أوقف الملوك إلقاء العروس في النيل وإن كانت هناك احتفالات تشهد الجماهير خلالها إلقاء دمية على شكل عروس جميلة ومزينة.. دمية جميلة تقوم بالدور حتى لا ينقص من الاحتفالية شيء.

 عدت إلى السكن ترافق خيالي عروس النيل.. تمددت وحاولت النوم بعد يوم ثقيل فلم أستطع.. لا تزال عروس النيل تدور من حولي وترقص.. تبتسم.. تدعوني لمشاركتها الرقص.. سخرت من نفسي لهذه الخواطر. عزمت على طرد كل الأفكار كي تسحبني دوامة النوم.. ظهرت عروس النيل من جديد وقد تخلت عن ثوبها الوردي فتعري بعض جسمها المضيء.. عادت ترقص وهي تتخلى تدريجيا عن الزينات والشرائط الملونة الموزعة على شعرها.. انفرط الشعر كالموج الذهبي خيوطا إثر خيوط وأسرع يشاركها الرقص والتمايل.. آه.. هناك لابد خطة لغوايتي. تحولت إلى الجانب الآخر حيث لا أراها. التفت وظهرت أمامي ودنت. مالت علىّ وابتسمت. بللت شفتيها فزاد احمرارها ودنت ثم دنت أكثر. طلع على ّ عطرها.. نفذت إلىّ الرائحة الرائعة. تخللت كل أعضائي وخلايا جسدي وأنعشت روحي.

سألتني:

-                     لماذا لم تتزوج حتى الآن؟

فاجأتني بالسؤال..فاجأتني بجرأتها. كررت سؤالها مرتين. استدرت إلى الجانب الآخر.أسرعت قبل أن أستقر فكانت في مواجهتي..قالت:

-                     أنت تخاف من التجربة.. أنت تخشي المرأة

-                     ..

-                     اعترف

قلت لنفسي:

هل عروس النيل هي التي تسأل أم أنا؟.. لا أظننى الذي أسأل بدليل أنني لم أسأل نفسي من قبل لماذا لم أتزوج؟.. لماذا أسأل الآن عن طريق عروس النيل؟.. ومع ذلك فالإجابة ببساطة هي:

- لم أجد امرأة تجذبني في مصر ولم تجذبني الشابات الفرنسيات حتى بنات عمى مع أنهن جميلات.. أظن من الضرورى أن يكون هناك ما يجذب في المرأة غير الجمال بدليل أن عددا كبيرا من الشباب يقعون فجأة في حب نساء لسن جميلات وقد يتنازلون عن ثرواتهم إذا قرر الأهل حرمانهم منها إذا أصروا على الزواج ممن لا يرضى الأهل عنهن.. فماذا غير الجمال لدي الشابات قادر على اختراق قلوب الرجال؟.. ماذا جري لي؟.. هل صرت الآن أمضي في الطريق الذي رسمته عروس النيل؟.. استدرجتني للتفكير فيما تتخذه وسيلة لمعاكستي وإبعاد النوم عن عينى.. أمن أجل أن تجد من تعاكسه أو تحاوره تهاجم بالأسئلة شخصا أعزل فتجره إلى التفكير والسير في دروب لا نهاية لها؟..أظننى أذكى من ذلك.. سوف أنام رضيت أم أبت.. اختفت فجأة عروس النيل ولكني انشغلت بعض الوقت بالفكرة ذاتها، ثم نمت.

 في الليلة التالية زارتنى عروس النيل وأنا أتأهب للنوم ومارست الغواية ذاتها وسألت الأسئلة ذاتها وأجبتها حتى تختفي ولا تعود ثانية:

-                     أنا لا أخشي المرأة لأنني في الحقيقة لا أعرفها بشكل دقيق ولم تتح لي الفرصة لذلك،.. لم تكن في حياتي غير أمي.. السيدة المميزة بالحنان والكرم والشجاعة والصدق والجمال والصبر بل أكثر مما قلت.. كان غيابها ضربة قاصمة لي ولا أتخيل أني سأعثر على فتاة مثلها ولو وجدت سأتزوجها فورا.

قالت عروس النيل:

-                     اقتنعت مؤقتا بأنك لا تخشي المرأة لأنك لا تعرفها، فماذا عن جزيرة؟

دخل في النقاش طرف جديد.. حاولت أن أجد الإجابة.. وحاولت أيضا أن أكون ماكرا إذا كان ذلك مقنعا..قلت:

-                     ما يخص جزيرة يخص من سبقنها.. لم أعرفها بعد

قالت العروس:

-                     أنت عرفت جزيرة من ساعة لقيتها في الطاحونة

اختفت العروس فجأة فشعرت بقدر من الارتياح ربما لأنها تعرف كل شيء تقريبا ولأني لا أحتمل المواقف المحرجة والأسئلة الصعبة التي لا أجد لها إجابة.

 اختفت الشقية وتركتنى لقمة سائغة وسهلة في فم الفكر والسهر.. أبقتنى إلى الصباح داخل الشبكة أبحث عن منفذ للخروج فلا أجد.. جزيرة.. جزيرة.. الشابة الجميلة الجسور الكريمة.. جزيرة السمراء ذات العيون الخضر وطابع الحسن في الذقن المستديرة.. تركيبة بديعة من الملامح.. لا يوجد من يستطيع أن يراها ولا يسقط تحت تأثير عينيها ولا يتقيد أمام ملامحها وعودها وأنفها وشفتيها وأسنانها وذقنها.. ذقنها ثمرة من الفاكهة نادرة المثال أود أن أقبلها مرات ومرات.. مرة واحدة أمسكت يدها البضة التي تسيل حنانا فشعرت أنها تعانق يدي ولا تسلم.. تمنيت أن أبقيها في يدي لنهاية عمري لكن أباها كان واقفا.. لماذا يا عروسة النيل تفتحين هذه النافذة؟.. أعرف أن ابن عمها يريد الزواج بها والأستاذ محسب و آخرون بالتأكيد.. لا أنكر أني معجب بها لكنى لم أحسم أمري فربما لا تقبل هي أو أبوها، وإذا قبلا فأين نعيش؟.. هل توافق أن أصحبها معي إلى فرنسا، وهل يوافق أبوها؟ ربما تشعر بالوحدة هناك.. أسئلة كثيرة لماذا تتفجر الآن وليس الآوان آوانها؟

 لا أدري ما السر في ظهور شبح شابة رفيعة شقراء لها نظرات حادة.. ابتسمت.. تقدمت منى.. معقول؟.. كيف وصلت إلى هنا.. صوفيا ابنة عمي.. طفا على سطح ذاكرتي كل ما صدر منها إبان وجودي في باريس قالت يوما بصوت ثعباني مصحوبا بنظراتها الغامضة المرعبة:.

-                      سوف أقتل الطفلة التي تقف دائما في نافذة بيتهم وتحدق بي.. أبوها مجنون يضرب أمها كثيرا.. بعد أن أقتل الطفلة ربما أقتل أمها حتى يتوحد أبوها فينتحر.

استبدت ببدني القشعريرة.. استشعرت عجزي عن التقاط أنفاسي.. ألهث كأني قدمت من ركض طويل.. فتاة شبه معقدة تقرأ كثيرا وتسيء الظن بالناس وكتومة وليست اجتماعية..لها أفكار غريبة.

عزمت أن أخبر أباها بما قالت، لكن كلامي لن يفيد أحدا كما أني لا أتصور أنها سوف تقتل فعلا.

 في الليلة التالية وجدتها فوقي فصرخت وانتفض جسدي من شدة الفزع تذكرت حديثها عن القتل فشقنى الرعب.. كنت غارقا في نوم عميق بعد يوم كامل من الجولات في أنحاء باريس.. باقي أسبوع على عودتي إلى القاهرة.. كانت قد فكت أزرار قميصى وحزام سروالي.. مضت تقبل صدري وتعبث بي.. زعقت فزعا فتراجعت وابتسمت:
- مالك؟.. لا تخف. اترك نفسك لي

خفق قلبي. تخيلت أن لها أسنانا طويلة خارجة من شفتيها وكأن على شفتيها دم.. مرت بأصابعها على شفتي وخدي وأنفي وذقني.. قالت بصوت مثل زمجرة أظافر تكشط طلاء من فوق خشب:

-                     أنت جميل يا ابن عمي.. لم أكن أظن أن لي ابن عم جميل مثلك..

ابتلعت ريقي.. فكرت في المدة التي سأقضيها في هذا الوضع الصعب ومتى وكيف ستنتهي.. كل أملي أن تمر دون مشاكل.. قالت:

-                     قل لابنة عمك الجميلة شيئا

لم أجد ما أقوله.. كنت مشغولا في عُمر الحالة.. قلت دون تفكير:

-                      أود أن أكمل نومي.. تعبت اليوم جدا وسرت كثيرا

انفتحت عيناها إلى أقصاهما وقالت:

-                     قضيت عمرك كله في السير. آن أن ترتاح

-                     فعلا آن أن أرتاح

اتسعت عيناها بصورة مفاجئة وقالت:

-                     معي.. لا راحة لك إلا معي..أتعرف ذلك؟

عادت تقبل صدري.. جسدي لم يتعاطف مع الحركة.. أنا لم أمارس الجنس مطلقا من قبل.. أصابني الاستحلام واكتشفت غرقي في المراعى السائلة للحيوانات المنوية.. تسللت يدها إلى كل أعضائي.. هجمت بشفتيها على شفتىّ.. قبلتني وأكلت شفتىّ.. عادت تمرُّ بشفتيها على صدري..كان لها أياد كثيرة وشفاه عديدة.. تدريجيا بدأت أتجاوب معها وخاصة لأنها لم تعد تتكلم..كلامها مرعب.. قالت:

-                     أنت تحب ابنة عمك.. اعترف.. وتريدها من كل قلبك وجسمك..انطق.. قل كلاما جميلا لابنة عمك.. ليس في الدنيا غير صوفيا واحدة

.. قل يا حبيبتي

-                     يا حبيبتي

-                     قل لن أتركك أبدا

-                     لن أتركك أبدا

مضت تأكلنى وتقفز فوقي وتمرغ وجهها وشعرها في صدري.. قبضت علىّ بشدة لا أعرف مصدرها. بدت برغم ليونة جسمها ونعومته وغريزته المتأججة قوية الأعصاب والعضلات تكاد تعصرني بين ضلوع صدرها وبين فخذيها.. لهثت وانشالت وانحطت حتى انهارت.. بعد قليل حاولت تقبيلي.. منعتها وقلت لها:

-                     نفذت لك ما أردت وإن كنت أري تصرفي خيانة

-                     أنت لم تنفذ لي ما أردت.. أنا من نفذت لك ما أردت.. يجب أن تنفذ لي أنا ما أريد

نهضت، فطارت ورائي وأمسكتنى.. قالت:

-                     ألا تريد أن تنام؟.. هيا إذن نم.. نم

عدت إلى فراشي وتمددت فدنت وتمددت إلى جواري، ثم وضعت ذراعها على صدري.. قالت بنعومة متوترة:

-                     ألم أعجبك؟

-                     بل أعجبتني

-                     إذن لنكمل ما بدأناه

-                     غدا

-                     بل الآن

-                     قلت غدا وإلا سأنادي لعمى

هبت واقفة وقالت:

-                      أنا التى سأناديه

اتجهت إلى الباب وقالت:

-                     سأناديه

بضعف شديد وتوسل قلت:

-                     وعد منى.. غدا.. دعينى أحبك ونقضى وقتا طيبا برغبتى وليس رغم أنفي

وقفت وتنهدت وفكرت، ثم قالت:

-                     أنام هنا معك

-                     بلا أدني حركة.. لو اقتربت منى سأغادر البيت كله

-                     سأنام ساكنة.. خذني فقط بين أحضانك

نامت ساكنة..تمنيت أن تهدأ و تمر الليلة. كفي ما جري.. سأتحمل وزر ما فعلت..تراخت أعصابي وهدأت..فكرت مجددا فيما جري. لقد أخطأت..قلت في نفسي.. في الخطأ أحيانا بعض الصواب وفي الصواب أحيانا بعض الخطأ.. عاتبت نفسي بشدة لأني حاولت تبرير ما فعلت. أرغمتني الكلبة.

في الليلة التالية حاولت أن أتأخر إلى الثالثة صباحا فتكون قد نامت.. لما عدت وجدتها ساهرة، وكان ما كان في الليلة الماضية.. فكرت في أن عمي سوف يعتبرني خائنا للقرابة والثقة.. غبت ليلتين في فندق ولم تبق غير ليلة واحدة على سفري، لما عدت وجدتها تبكي وأبوها معها يطيب خاطرها.. قال:

-                     لا أعرف ماذا جري لصوفيا.. يبدو أنها أحبتك وإن لم تعلن هذا فمنذ غبت وهي تبكي.

 قال عمى أنه يحب أن يشرب مع صديقه في بار " النجوم السبعة ".. أسرعت صوفيا إلى الحمام وهي تمسح دموعها ثم عادت إلىّ فأمسكت بي كأنثى العنكبوت وجرتنى إلى الفراش ولم أمانع لأني في الصباح الباكر سأستقل الباخرة.. لم تسمح لي باختطاف دقيقة نوم واحدة.

 أحسست بالتعب لمجرد رؤية طيف صوفيا المجنونة.. كان قد طلب إليّ أبوها قبل أن تغتصبني أن أفكر في الزواج منها فهي تناسبني تماما على حد قوله.. لكنها لا تناسبني على الإطلاق ولم أسمع منه في خطاباته أنها تزوجت.. ليتها تكون قد قتلت جارتها الطفلة وأمها حتى إذا عدت لا أجدها.. كانت قد أرسلت لي رسالة تقول فيها إنها تشتاق إلىّ جدا ويجب أن أعود بسرعة وإلا فكرت في الانتحار. الحمد لله أنني بعيد وإن كان طيفها فيما يبدو قد عرف الطريق إلىّ ولن يتركني أبدا.

لقد أنهكتني سيرتها.. ليتني أنام.. سوف أنام إذا أبعدت عن رأسي كل هذه الذكريات التعسة والأفكار المختلطة.. أغمضت عيني وتنهدت وأسلمت نفسي للفراغ.. كلما نبتت نبتة صغيرة من ذكرى أو فكرة طردتها.. بقيت قويا لعدة دقائق لكن " جزيرة " ظهرت.

 جزيرتي الآن أمامي بكامل هيئتها التي تفوق عروس النيل جمالا.. جزيرة تتبدل على عودها الأزياء.. تمشى وتصعد على سلم وتطل من نافذة وتجلس أمام خيمة وتركب حصانا وتقدم لي الطعام.. جزيرة تركب عربة يجرها حصان أشهب كحصانها. جزيرة تساند والدها وتقبل أمها وتقطف وردة.. جزيرة تتابع الزراع في أرضها وهم يجنون القطن ويقطعون القصب وتتابعهم وهم يجمعون البرتقال ويقطفون العنب.. جزيرة تحتضن عنزة وليدة وتدعو للبقرة التي تعاني المخاض.. تطلب من الله التساهيل.. جزيرة تتأمل العجل الصغير وتحمد الله.. جزيرة.. جزيرة يتراجع تدريجيا طيفها حتى يتلاشى من المشهد.. تهدأ أعصابي المستنفرة وأتنفس من أعماقي وأغمض عيني وبعد لحظات أكتشف أن نور الصباح ولعله نور جزيرة قد تسلل إلى كل مكان.. تذكرت أن اليوم لا عمل فيه فعزمت على النوم.. نمت بعمق حتى أيقظوني لتناول الغداء.

 

(18)

 كان علي المهندسين والعمال أن يقوموا بعدة عمليات مهمة جدا لنقل المسلة وتسكينها في مكانها المحدد بالباخرة.. العملية الأولي تقتضي ضبط المسلة في مكانها بحيث يمكن جرها، وهي الآن ملفوفة بالأخشاب وبالأحزمة الصاج ومثبتة فيها من جميع الأضلاع مسامير قلاووظ أو حلزونية ولن يتمكن ألف عامل من جرها وهي مدججة بهذه المتعلقات كما أنها عندما هبطت لم تستقر على أرض ملساء، وتبين أنها لم تكن في وضع معتدل تماما بحيث تتجه مقدمتها الهرمية صوب النيل وإنما كان بها ميل نحو المعبد وكأنها لا تريد أن تفارقه.

 العملية الثانية هي عملية الجر التي تقتضي مواصلة جرها لمسافة 400متر ويجب أن يتوفر في الأرض التي ستنجر عليها المسلة الاستواء والصلابة والنعومة.. العملية الثالثة وهي الأصعب تتمثل في طريقة إدخالها الباخرة وتوجيهها حتى تحتل مكانها المرسوم والملائم لراحتها وسلامتها طوال مقامها في الأقصر وإبحارها بعد ذلك خلال النيل ثم خروجها من رشيد إلى الإسكندرية..بعدها يتعين أن تقلع في البحر المتوسط الذي نادرا ما يستكين، وسمعة أمواجه العاتية مرعبة.. يعرف البحارة المتمرسون جيدا أن مياهه كثيرا ما تنقلب فجأة.. تحرضها الرياح المجنونة على الغضب ومحاولة تحطيم ما على صدرها من سفن كجواد متمرد يصعب على كل الفرسان تطويعه أو امتطاؤه ولا يرتاح بال الجواد وينحو نحو الهدوء إلا بعد أن يطيح عدة مرات بالفارس الواثق بنفسه وبقدراته بحيث يتمكن الحصان نفسه من إخضاع الفارس.

 استهلكت العملية الأولي الوقت من التاسعة صباحا حتى الثالثة عصرا.. في اليوم التالي بدأ عدد من المهندسين والعمال يجهزون الطريق من بوابة المعبد حتى المرسى.. مر الفلاحون بالفؤوس على الطريق لإزاحة كل نتوء في الأرض ثم استخدموا ما يشبه سكينة حديدية عرضها ثلاثة أمتار وبأعلاها ثقوب دخلت منها حبال أمسك بها عدد من العمال ووقفوا على بعد ستة أمتار وبدأوا في شد الحبال بينما تشبث عدد من العمال بالسكينة التي حاولت تسوية الطريق، ولما انتهت هذه المهمة تم رش الطريق بمائة جردل من مياه النيل.. لما كانت المياه منخفضة كثيرا عن المرسي لجأ العمال إلى الشادوف الذي اعتاد الفلاحون استعماله بخفة وسرعة كي يسحبوا المياه المنخفضة بالدلاء.

 أحد النجارين المصريين اقترح منذ الصباح الباكر أن يتعاون معه ثلاثة من النجارين لتجهيز خمس عشرة جذعا من جذوع النخل بحيث تنام بعرض الطريق كقواعد متحركة تصعد فوقها المسلة وتدور الجذوع المستديرة بالمسلة مثل العجلات وتنزلق بها نحو الباخرة بحيث يفصل بين كل جذع والذي يليه أربعة أمتار وكل جذع تتجاوزه المسلة من الخلف ينقل إلى المقدمة لتركبه المسلة، وكان العمال قد نزعوا عن المسلة المسامير الغليظة والأحزمة الصاج وأبقوا على الغلاف الخشبي الأملس ثم بدأت عملية الدفع من الخلف.

 كانت خطة الفرنسيين تتجه إلى ربط المسلة بأكثر من عشرين حبلا ليجر كل حبل عشرون عاملا، يقتضي هذا أن يقوم بالجر أربعمائة رجلا.. وكانت هناك فكرة أخري يتبناها ريشار تعتمد على الاستعانة بقضبان حديدية وتحميل المسلة على عشر بكرات حديدية لكى تنزلق على القضبان، لكن الفكرة ظلت ناجحة في مجالها النظري وتعذر تنفيذها لأن رفع المسلة فوق البكرات ووضع البكرات على القضبان أقرب إلى المستحيل بسبب الثقل الرهيب للمسلة. لذلك رأى ريشار تجربة الأرض المستوية وسحبها فوقها بالحبال مع الصبر عليها، لكن فكرة النجار المصري اكتسبت تأييدا وتم تنفيذها بنجاح، وما أن حل المساء حتى كانت المسلة تدخل بيتها البحري بلا خسائر تذكر اللهم إلا بعض الجروح في أيدي وأذرع العمال وأقدامهم. أصر ريشار على إزالة الغلاف الخشبي كي يطمئن على المسلة مع الإبقاء عليها نائمة فوق جذوع النخيل.. نفذ له العمال ما طلب.. مر عليها وحدق فيها وتحسسها ليتأكد أنها لم تصب بخدش.

كان وصول المسلة سالمة إلى داخل الباخرة يعنى الشيء الكثير.. يعنى الفرح والسعادة بإتمام المهمة.. يعنى أن أصعب المراحل قد تمت، والمسلة كأنها الآن قد وصلت باريس.

 طلب ريشار من الفلاحين إغراق المسلة بالماء وغسلها من الجوانب الثلاثة.. بعد أن انتهوا.. جلس إلى جانبها ثم تمدد وأخذ ينظر إليها ويتحدث معها بما في قلبه ويتنهد بانشراح...ثم قال:

-                     حمدا لله على سلامتك يا حبيبتي.

سألته لماذا تقول لها هذا؟

-                     أشعر كأنها زوجتي ومنذ شهر تعاني من آلام المخاض وأنا مرتبك ومشغول وخائف حتى حانت لحظة هبوط المولود، وقد تمكن الطبيب من إنهاء حالة الألم والصراخ والمعاناة التي شقيت بها زوجتي ومعها شقيت وها أنا أراها تنام بين أحضاني وولدنا المفترض موجود وبصحة جيدة

وقف وقال بصوت عال وذراعاه إلى أعلى:

-                     فيف لا فرانس

رفع كل أعضاء البعثة صوتهم أعلى منه قائلين ثلاث مرات وهو معهم:

-                     فيف لا فرانس

انطلق صوت مهران الحداد أعلى من الجميع:

-                     تحيا مصر

رفع المصريون صوتهم عاليا مثله:

-                     تحيا مصر

رفع ريشار صوته عاليا:

-                     فيف لوجبت

رفع الفرنسيون أصواتهم عاليا:

-                     فيف لوجبت

قال ريشار:

-                     انتهي العمل وشكرا جزيلا لكم جميعا.. يبقى كل من مهران وجبريل وإدريس الحدادين، ويبقى الثلاثة النجارون محمد وأحمد وسليمان

وعشرة عمال، سيختارهم فيكتورالآن

 قام على الفور فيكتور مساعد ريشار بالنداء على الأسماء العشرة ليبدأوا العمل معنا في تجهيز المركب. ثم قال:

-                     العودة للعمل ستكون يوم السبت القادم أي بعد ثلاثة أيام. شكرا لكم مرة ثانية وثالثة.

ترجم المترجم ما قاله فيكتور.. مضي المصريون إلى بول لصرف أجورهم، وفوجئوا بصرف مكافأة للجميع بما فيهم الستة عشر عاملا الذين استبقاهم ريشار للمشاركة في أعمال الصيانة للباخرة. هللوا واندفعوا عائدين إلى منازلهم وعلى وجوههم البشر وفي خطواتهم المرح.. يتعالي في الفضاء صخبهم الفكاهي وتمتد أيديهم أحيانا بالضرب على الأقفية وعلى الأكتاف والظهور، ويركض البعض وراء البعض.

التفت إلىّ ريشار وكان إلى جانبي القبطان وروجيه وسأل:

-                     ما رأيكم أن نسافر إلي إسنا يوم غد الخميس ونعود مساء الجمعة لنشاهد معبد إسنا

وافقنا جميعا.. قبل أن نتحرك التقطت نظراتنا ما يستحق المشاهدة..

كان مرقص يقف بعيدا في انتظار الفلاحين الذين غادروا لتوهم بعد أن قبضوا أجورهم.. كان يعرض عليهم بضاعة يبدو أنها لفتت أنظارهم.. أفرغ أمامهم جوالا من الشباشب الفلاحية التي تسمى الواحدة منها " بُلغة " ولم يكن ثمنها يزيد عن خمسة قروش.. أقبل الفلاحون على تقليب البضاعة.. لم يتوقف مرقص عن الترويج لها وبيان مزاياها وعمرها الطويل ولو بالكذب.. قال:

-                      تحمى البلغة من الحفاء والمسامير والقاذورات وتمنع الكوليرا والورم والتسلخات، وتحمى من الأرض الملتهبة في الصيف والأهم أنها ترفع من مستوي من يلبسها وتعمل له قيمة ومكانة وسط الناس وأمام كبرات البلد والأعيان وتغل يد الشرطي عن أن يمس لابسها بسوء.. كل هذه المزايا بخمسة قروش يا بلاش.. وبصريح العبارة أنا مكسبى قرش صاغ واحد.

 مائة " بلغة " تم بيعها في لحظات ودخل الأب والزوج والابن والأخ على أسرته وهو ينتعل " بُلغة "مثله مثل العمدة وشيخ البلد وشيخ الخفراء.

بينما كنا واقفين نشاهد منظر بيع " البُلغ " كانت أكثر من عشرين امرأة وأكثر من عشرين بنتا وولدا يزغردن ويضحكن ويهللن وقد حملت واحدة منهن لفة سوداء بها رضيع بدا ذلك من إقبالها كل خطوة على تقبيله. سارت النسوة والأطفال حتى النهر فنزلن إلى آخر الضفة الطينية ورفعن ملابسهن قليلا وهبطن إلى الماء تتقدمهن أم الرضيع.. أسرع يلحق بهن رجل وقام على الفور بانتزاع جلبابه..نزل وتقدمها ولحقت بهن جزيرة على حصانها وبقيت على الشط وهم تحت عينيها ترقبهن وتبارك.. أخذ الرجل الرضيع من حضن أمه ولابد أنه أبوه.. أنزله إلى الماء وغمره فيه ثانيتين ثم أخرجه فزغردت النسوة وألقين على الرضيع الملح.. أنزله أبوه مرة أخري وغمره ثم أخرجه لتزغرد النسوة ويلقين الملح وتهلل البنات وأنزله أبوه مرة ثالثة.. تكرر هذا لسبع مرات، ثم طلع الرجل بالرضيع وقبله عدة مرات ووقفت النسوة لتقبلنه وتمنح كل واحدة منهن لأمه قرشا وأما الفارسة فمنحتها نصف جنيه.. كان الفرنسيون يتأملون المشهد بدهشة غريبة وفضول عميق.. سألوني عن دلالة ما شاهدوا فاعتذرت عن عدم المعرفة وسألت الأب الخارج من الماء وقد تورد وجهه وزاد النصف، فقال:

-                     غمر الوليد في ماء النهر بعد أن يولد عادة قديمة ورثناها من أجداد الأجداد حتى يتربى على حب النيل ويتعرف عليه النيل فيباركه ويدعو الله له.. دعاء النيل غير دعائنا، فدعاؤه يجلب البركة ويعم الخير كالفيضان..

دنوت بسرعة من الفارسة وقلت لها بعد أن ابتعدت النسوة:

-                     بنت حلال

-                     خير

-                     ممكن أقابلك في معبد إسنا عند أذان الظهر

ارتبكت وتلفتت حواليها واصفر وجهها تقريبا وأطلقت لفرسها العنان..

وقفت مبتلا بعرقي وخجلي وانهزامي وإحساسي بالضآلة.

تنهدت من كم الأسى الذي تكدس فى صدري فجأة وأحنيت رأسي.. كنت كمن فقد والده الآن وفي هذه اللحظة وفقد كل ما يملك.. لم يدهسنى ثور رفضها، لكن الطريقة خلخلت اتزاني وهددت سعادتي في الصميم.. هل أنا أحمق؟..هل اندفعت بعشم أو بغشم؟ لم أستطع التحرك ولم أتنبه لمن يناديني.. كان ريشار الذي قال:

-                      اتفق بول مع مركب صغير أكثر سرعة من البواخر يحمل في حدود خمسين رجلا سنستقله في الصباح.. يوصلنا هناك ثم يذهب في طريقه حيث يشاء ونتجول نحن ونأكل ونبيت في فندق من فنادق إسنا التى سمعت عنها كلاما طيبا والوقت معنا حتى ظهر الجمعة لنجد المراكبي في انتظارنا.. بالمناسبة هو الذي حدد موعد عودتنا بحيث نكون هنا في نحو الثامنة مساء.. عليك الآن ومعك بول وجاك وجوستاف وفيليب وشارل تحديد من الذي سيشارك في الرحلة.

 

(19)

 كان من المفروض أن تزورنا كالعادة أختاى حفصة وفاطمة في العيد الكبير وزوجاهما والأولاد، لكنهما لم يفعلا.. قالت أمي:

-                     أنا غير مرتاحة لعدم حضورهم

قال أبي:

-                     الغائب حجته معه

-                     لا..زيارة العيد لابد منها.. اشتقت للأولاد

قلت لأمي:

-                     لا تقلقي وتتسببى في قلقنا..أنت تعرفين ظروف إبراهيم وموسي

-                     أعرف ولكنها مرة في السنة.. الكل يعرف هذا ويستعد لها سواء هنا أو هناك.. مسألة ثابتة ودائمة

قال أبي:

-                     أحيانا تكون هناك بضاعة قادمة للوكالة وقد تأخرت فلابد أن ينتظرها ابراهيم وموسى ويتمما عليها ويسددا ثمنها

-                     لا شأن لي بكل ما تقول

قلت لها:

-                     ماذا تريدين لتكوني مرتاحة البال والخاطر؟

-                     أحدنا يذهب ليطمئن بنفسه عليهم

قلت:

-                     لن يذهب أبي طبعا ولا بركة

قال أبي:

-                     اذهبي أنت وهنومة

-                     ليس لدي مانع

قال أبي:

-                      على خيرة الله.. حَضّري لهم زيارة ياأم مدثر

-                     من عينى ّ

 ذهبت قبل صلاة الجمعة لسليمان النجار في بيته وسألته:

-                     أريد عربة خشب تحملها عجلتان ويجرها حصان.هل بإمكانك أن تصنعها؟

فكر سليمان لحظات ثم قال:

-                     تريدين كارتة؟

-                     نعم

-                     عندك لها رسم؟

-                     لا

-                     إذن دعينى يومين أفكر فيها وأرسمها وأعرض عليك الرسم

-                     لا أريد أن أعطلك عن عملك مع الفرنساوية

-                     سأعرض عليك الرسم غدا قبل صلاة المغرب..اليوم الخميس وغدا الجمعة سيكون لديّ وقت

-                     وتقول لي إذا كانت لوازمها متوفرة في قنا أو إسنا أم لا

-                     احتمال كبير أن يكون كل ما يخصها متوفرا في إسنا

-                     لا أوصيك

-                     أنت كوم والناس جميعها كوم

-                     شكرا

-                     حصان واحد يجرها أو حصانان؟

-                     واحد

-                     على بركة الله

-                     سلام

طرق سليمان الباب في موعده وشاهدت رسم الكارتّة.. صحيح كان معوجا لكنه كما أريد تقريبا.. طلبت منه البدء في التنفيذ

قال:

-                     نريد كمية من الأخشاب.. الألواح العريضة والمراين

-                     من أين نشتري هذا الخشب؟

-                     ممكن من إسنا وممكن من قنا

-                     كم تحتاج من المال؟

شرد قليلا ثم قال:

-                     هناك خشب كثير لدي الفرنساوية لا يحتاجونه، هل أطلب منهم منحنا بعضه؟

لم أكن قد فكرت في هذا الأمر.. هل هذا يصح؟.. أظن أن فكرة الرجل لا بأس بها بدلا من السفر إلى قنا والشراء من هناك والنقل إلى هنا.. مجهود ووقت ومال.. قلت له:

-                     اطلب من المهندس الخشب حسب الحاجة وقل إننا سندفع ثمن كل قطعة

-                     هل تحبين أن أطلب من الأستاذ يوسف؟

أحسست بالذعر..اندفعت:

-                     يوسف من؟

-                     يوسف المترجم

-                     ولماذا يوسف بالذات؟

-                     لا أقصد شيئا

-                     مادمت قلت هذا.. لا أريد خشبا ولا عربة

تركته وسرت لا أعلم إلى أين أنا متوجهة..المهم أن أمضي في غير اتجاه الفرنساوية.. سرت أنفث الهواء من منخري كأني ثور.. هل يمارس هذا المخبول ذكاءه عليّ؟.. طريقة ساذجة للتجسس.. الملعون فوّر دمي..اكتشفت أنى أمام المدرسة. حسن.. فلأدخل لأطمئن على الدراسة والتلاميذ والأحوال.. لمحت يوسف فتجنبت لقاءه.. أرسلت النظرات المسروقة إليه فوجدته يحاول هو الآخر أن يتجنبني.. جلست في مكتب الإدارة كان هناك الأستاذ محسب.. سألته عن حالة التلاميذ ونسبة الغياب وأداء المدرسين، قال إنه التقي مدرسا للعلوم ودعاه لينضم للمدرسين

-                     أين يقيم؟

-                     في قوص

-                     حسن

-                     ما اسمه؟

-                     غبريال

التقطت عيناي يوسف خارجا من المدرسة. سألت نفسي:

-                     هل كان يجب أن أبلغه أنني مستعدة للقائه يوم الجمعة بمعبد إسنا؟

لم أستطع أن أرد بسرعة.. لا يجب أن أبدو سهلة.. الأهم أن أكون صادقة مع نفسي ومع أهلي فلا أقدم على ما ألام عليه؟.. قلت:

-                     لن يراني أحد

قالت نفسي:

-                     لا يعنيني من يراك ومن سيتولى نقل المعلومة.. المهم ألا تقترفين ما يضعف حجتك ويهين كرامتك

-                      لكنني لا أريده أن يغضب ومن الواضح أنه غضب

-                     دعي هذا الآن.. الفرصة ما تزال متاحة وسيتم تصحيحها بشكل طبيعي

-                     لكنني رتبت الحجة الصالحة للسفر إلى إسنا

-                     نحن ما زلنا في أول الأسبوع

-                     نصعد درجة

-                     ليس على حساب كرامتك..هل نسيت أنك منذ دقائق توترت في حوارك مع سليمان لمجرد ذكره اسمه؟

-                     فلنغلق الباب الآن

عند العصر جاءني سليمان وقال إنه طلب الخشب من المهندس بمساعدة المترجم طبعا دون أن يسأل غيره فقال له:

-                     الست جزيرة لها عندنا مقام عال، تطلب ما تشاء وننقله إلى بيتها وإهانة لنا الحديث عن لارجان.. يعنى النقود

تنهدت بانشراح وقلت:

-                     الفرنساوية شعب يفهم جدا في الذوق

-                     أنا عرفت كل شيء عنهم وأنا أعمل معهم

-                     ماذا تريد الآن لتبدأ العمل؟

-                     سوف أحتاج لشراء أكس ودائرتين رولمان بلي للعجلتين، وسوف يشترك معى حداد في الأكس والوصلة الحديد الأمامية

-                     أين ستعمل؟

-                     في الورشة

-                     هيا ابدأ.. هذه خمسة جنيهات تحت الحساب، كلما احتجت شيئا اطلب فورا

-                     لن تنتهى الكارتة قبل شهر

دهشت للمدة الطويلة:

-                     شهر!!.. يا خبر أبيض أنا فاهمة أسبوع يكفي

-                     أولا أنا لازلت أعمل مع الفرنساوية وثانيا يحتاج ثنى الخشب وتشكيله في دائرتين إلى مدة طويلة

-                     على بركة الله.. المهم أن تبدأ

 عندما وصلت البيت استقبلنى والدي بحضن دافئ وعاطفي يفيض بالحنان.. كنت بحاجة ماسة إلى هذا الحضن ليعيد إلىّ توازني فقد تسارعت بعض المواقف الخشنة وضغطت على أعصابي.. ظل ممسكا بي حتى رأتنا أمي فقالت:

-                     ما كل هذا الحب؟؟ أليس لي نصيب؟

مد أبي يده وجرها إلينا وبقينا نحن الثلاثة لحظات في عناق طويل ثم دخل من البوابة بركة الغائب الحاضر فانضم إلى حلقة الأحباب، فقال مباشرة:

-                     زوجني مستورة يا حاج

ضحكنا جميعا وكان أبي أكثرنا ضحكا وأعلى صوتا وقهقهة لم أسمع منه مثلها من قبل..

قال:

-                     تصوري هذا هو الموضوع الذي كنت أود أن أحدثك فيه

-                     موضوع زواج بركة

-                     لا.. زواجك أنت

-                     قلت لك من قبل انس هذا الأمر واتركه لله

-                     قال الرسول: اعقلها وتوكل..وقالت أهالينا: اسعى يا عبد وأنا أسعى معك وقال رب العزة: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم

قلت له:

-                     لا تنس أنه قال: ولا تشاؤون إلا أن يشاء الله.. تفرغ الآن يا أبي لزواج بركة

-                     انتظر حتى نبيع المحصول يا بركة

 ابتهج بركة وقال:

-                     ستقيم معي في الحديقة الخلفية تحت شجرة الجوافة

ضحكنا.. قال:

-                      خلاص وافقتم؟.. سأذهب الآن وأحضر مستورة

-                     قلت لك أنتظر حتى نبيع المحصول

-                     من المحصول الشوم هذا؟

تركتهم ودخلت. كنت بحاجة إلى حمام بارد.. رفضت المشاركة في الغداء وفضلت النوم.. كانت أعصابي بحاجة إلى أن تهدأ ويزول عنها التوتر وقد قام الحمام بجزء كبير من المهمة.. بقي النوم الذي لم يأت رغم المحاولات لأن المسيو يوسف زارني وألح في الزيارة وطردته عدة مرات وفي كل مرة كان يقتحم خلوتي.. دخل مرة من الشباك ومرة من الباب ومرة من تحت السرير ولما سألته:

-                     ماذا تريد منى؟

قبل رأسي واعتذر..سألته:

-                     عما تعتذر؟

-                     لا أستطيع أن أتخيل الدنيا بدونك

تركت له الغرفة والسرير وكل ما فيها وقمت ونزلت الجنينة..أشم زهر البرتقال وأنحني على الريحانة صديقتي التي اعتادت سؤالي واهتمامي بها.. منذ مدة لم أمر بها.. وجدت أوراقها أرفع من كل مرة كأن لديها أنيميا. حدقت فيها.. رأيت معلقا بها دقيق أبيض.. إنه البق الأبيض الدقيقي

-                     أنت السبب أيها المخرب

أسرعت إلى المطبخ فأحضرت كوبا به ماء وذوبت فيه قطعة صغيرة جدا من الصابون وعدت إلى الريحانة.. ملأت فمي بالسائل ونفخته على الريحانة عدة مرات وعلى كل ورقة حط عليها البق الأبيض اللعين.. ناديت عبد السلام ونبهته لما جري للريحانة وعليه أن يمر على الجنينة شجرة شجرة ويعالج ما يصيبها. مررت على بعض الأشجار مثل الليمون والنعناع والفل والياسمين.. لمحت طيف يوسف يمر معي ويقبل كل شجرة تقع عليها عينى..نظرت إليه محذرة من اللعب معي.. ابتسم وأشار إلى عينيه. ابتسمت.. شعرت بالرضا ورجعت إلى الكاملة وطلبت طعامي.. أكلت بشهية

في الصباح توجهت إلى المدرسة وجاء يوسف فدخل إلى التلاميذ بعد أن ترك لي ورقة على المكتب ومضي.. فتحتها.. قرأت ما فيها:

" الأستاذة الفاضلة مديرة مدرسة حكيم الابتدائية المشتركة

تحياتي

 أفيدكم بأني سأغادر البلاد بعد أسبوع وأرجو اعتبار يوم الخميس القادم آخر موعد لتعاوني معكم بسبب السفر.. أردت إعلامكم حتى تتاح الفرصة لتوفير البديل كي لا يضار تلاميذ الأقصر الحبيبة

مع تمنياتي لكم بالتوفيق

 يوسف روبير

قرأت الورقة وشردت طويلا.. لأول مرة يخطر ببالي معنى أن تتحرك الأرض تحت الأقدام فلا يكون هناك ما يقف الإنسان عليه..تخيلت مشهد جزيرة البياضية التي سمعت بها و لم ترها عيني وإن ولدت فيها قبل حكايتها المثيرة بساعات قليلة حسب ما تناقلته العائلة..قلت لنفسي:

-                      الأرض تتحرك من تحت أقدامي.. يوسف في الحقيقة سند كبير وجدار قوي أركن إليه بكل اطمئنان.. سحبت ورقة وكتبت فيها

" الأستاذ يوسف روبير

تحياتي

ردا على خطابكم الذي يتضمن الإشارة لسفركم

أرجو تأجيل السفر حتى نزور معبد إسنا ظهر الجمعة القادم

 شكرا لتعاونكم معنا

 جزيرة حكيم أبو الحجاج

 

(20)

 إسنا مدينة تقع جنوب الأقصر على بعد حوالي خمسين كيلومتر.. بها معبد لم أفهم المكتوب عليه، كما لم أفهمه في زيارتي له الخميس قبل الماضي وأنا بصحبة زملاء البعثة.. لابد ستزداد قيمته إذا عرف الإنسان المكتوب على الجدران، لكنه معبد جميل وسليم تماما.. الرسوم علي حوائطه مثل رسوم معبد دندرة من حيث نصاعتها ونقاء ألوانها البهية. أما المدينة فهي عامرة بالمحلات والورش والوكالات وقد تعرفت على أغلب ما فيها في زيارتي السابقة.. الظهر أذن وأنا في المعبد أدور وأنشغل بالفرجة في انتظار من وعدتني بالقدوم.. هل كانت جادة؟.. لا أعلم.. هل أعاقها شيء؟..لم نتحدث معا بشكل مباشر.. كلانا كان غاضبا.. لديّ مبررات الغضب وليس لديها. لماذا تأخرت؟.. كان يجب أن أتأكد. المسافة حسب المواصلات كبيرة.. يجب أن يكون لديّ حصان لو فرضت الظروف بقائي في الأقصر.. المراكب بطيئة وخاصة أنها تسير من الأقصر إلى إسنا عكس التيار.. ها هي..خفق قلبي.. أسرعت إليها.... شيء غريب حقا.. شعوري تجاهها الآن أجمل.. روحي تكاد ترفرف داخل جسدي.. في الأقصر كنا محاصرين بالناس. يحاسبوننا على النظرات واللفتات.. عالم ضد الحرية وضد الحب ومقاوم للسعادة.. نحن هنا وحدنا بعيدا عن أسوار السجون.. سلمت عليها. كنت أتمنى أن آخذها بين أحضاني.. نظرات عينيها المشرقة ووهج الرضا يكسو ملامحها بلقائي أسعداني..نلتقي في الأقصر كأن بيننا عداء أو تربص.. قلت وأنا أمضي معها خلف المعبد:

-                     اشتقت إليك جدا

ابتسمت وأحنت رأسها.. سألتها:

-                     حدثيني كيف جئت ومتى؟.. أين نزلت ومتى ستعودين؟ وما المتاح لي الآن من وقت ومشاعر وأمل؟.. تكلمي حتى أرتوي من الجنة وأنت إلى جواري..لا تتوقفي يا جزيرتي التي سأستقر معها طالما حييت وبعد أن أموت.. هيا تحدثي

ضحكت.. ثم قالت:

-                     لا أعرف عما أتحدث..أسئلة كثيرة..أنت لا تترك لي فرصة

-                     كيف جئت ومتى؟

-                     جئت أمس بالمركب ومعى هنومة الخادمة ونزلت عند أختىّ حفصة وفاطمة.. متزوجتان ويعيشان هنا في إسنا، ولم أحدد بعد متى سأعود.. هل حددت أنت؟

-                     اليوم مساء

-                     لاحظت أنكم أنهيتم أعمالكم

-                     باقي العمل على المركب للصيانة والطلاء واستبدال التالف وضبط الأشرعة

-                     وأين نزلت أنت؟

-                     هنا وكالة اسمها وكالة الجداوي بها غرف للإيجار ومحلات لكل السلع تقريبا

-                     صاحبا الوكالة هما زوجا أختيّ

ابتسمت وبدا الانشراح على وجهي والدهشة أيضا:

-                     رائع. لم أكن أعلم. سنبحث عن مكان هنا لنجلس فيه ولو عشر ساعات فقط ثم..

ضحكت من قلبها واهتز بدنها حتى احتاجت أن تضع يدها على بطنها.. فرحت لفرحها وضحكت لضحكها.. لحظات حتى هدأت كريزة الضحك.. سألت:

-                     عشر ساعات فقط؟

-                     ليلة كاملة إذن

سكتت فجأة فقلت:

-                     ثم نذهب للوكالة

-                     لماذا؟

-                     أنوي شراء بعض الملابس لي وأحتاج أن تشاركينني في الاختيار.. على شرط

-                     ما الشرط؟

-                     ألا تشركي زوج أختك في عملية الشراء، ولست مستعدا الآن للتعارف

-                     لك هذا

-                     الآن جاء وقت الأسئلة

ضحكت وقالت:

-                     ألم يكن ما فات هو وقت الأسئلة؟

-                     لا.. الأسئلة لم تبدأ بعد

-                     اسأل يا سيدي

-                     قبل الأسئلة أحب أن أطلب منك شيئا

-                     تفضل

-                     أحب المصارحة والوضوح. هل هذا الأسلوب يناسبك؟

-                     جدا

-                     والآن إلى الأسئلة؟.. هل عرفتنى جيدا بحيث تستطيعين الحكم علىّ؟

-                     عرفتك بنسبة عشرة بالمائة

-                     إذن لم تعرفيني. سؤال ثان..هل هناك منطقة غامضة عليك في شخصيتي؟

-                     لا أعرف.. نحن لم نتعامل بما يكفي

-                     كيف؟..

-                     أكدت على المصارحة

ارتبكت.. كان معي باكو من الشيكولاتة. تذكرته فأخرجته ومددت يدي به إليها.. أسعدني أنها أقبلت عليه.قلت:

-                     إذن أنت تحتاجين إلى وقت أطول لتعرفيننى

-                     نعم

-                     فلماذا عرفتك أنا واقتنعت بك؟

ضحكت وقهقهت ثم قالت:

-                     تخدع نفسك

ضحكت..وتلفتُّ حولي.. هل أحد يرانا؟.. لا أحد..مشينا حتى وصلنا ضفة النهر.. المياه منخفضة تميل للاخضرار، لكنها صافية. المنطقة تكاد تكون مهجورة.. يجب إقامة كورنيش هنا ووضع مقاعد خشبية.. الجو جميل ويصلح للجلوس.. نقلت حجرين من مكانيهما فوق كوم من التراب.. الحجران مستويان ويمكن الجلوس عليهما.. نفخت فوق الحجرين لإبعاد ما عليهما من غبار..أخرجت من جيبي منديلا من القماش وفرشته على الحجر سألتها:

-                     هل تقبلين البقاء هنا قليلا؟

هزت رأسها وجلست.. تنهدت.. فرصة رائعة لم تتح من قبل.. مكان مهجور لكنه آمن.. أخذت يدها. حاولت ألا تتخلى عنها.. سحبتها بإلحاح رقيق.. رفعت رأسها إلى السماء الصافية كأنها تهرب من عيوني..انحنيت وقبلت يدها البضة رفيعة الأصابع.. سحبتها بسرعة وبدا علي ملامحها قدر من التوتر..قلت:

-                     لو فرضنا.. لو فرضنا أنك ترشحينني للزواج من صديقتك ما عيوبي التي تحذرينها منها؟

انتظرت لحظات.. مطت شفتيها دلالة الحيرة، ولم تنبس.. قلت:

-                     أنا لا أسألك عن المزايا بل عن العيوب

-                     أعرف

-                     فلماذا الحيرة؟.. قولي لها.. كذاب. ثرثار. أناني. متردد. ليس له قرار

لا يهتم بشيء إلا الأكل

ضحكت وولدت الضحكة ضحكات.. استطردت:

-                     قولي لها.. لقد قدمنا له الفطير فمسح كل ما قدمناه له وكاد يأكلني أنا وأبي

عادت تضحك وكادت تسقط على الأرض.. تركتها تضحك وكان طبيعيا أن أضحك مجاراة لها ولكن بدرجة أقل.. بعد أن جفت ينابيع الضحك.. قالت:

-                     سأقول لها هذا الكلام.. كي تنتبه

-                     أرجوك أن تخبريني بجد.. مالذي تأخذينه على ّ؟.. ساعدتك في بعض الصفات فاختاري منها ما تشائين

تنهدت وعادت تنظر إلى السماء والمنطقة الجرداء من حولنا ثم أرسلت نظراتها إلى قارب صيد صغير يجدف باتجاهنا.. لمحنا الصياد الشاب فاستدار بقاربه وعاد متجها إلى الضفة الأخرى.. قالت:

-                     هل نسيت أنك فرنسي؟

-                     مصري

-                     مصري فرنسي

-                     لا.. لم أنس.. لي أسرة في مصر وأسرة في فرنسا.. لم أتحمس لابنة عمي..أنت أفضل وأنسب وروحك مختلفة

-                     ما معنى روحك مختلفة؟

-                     أنت بسيطة وخالية من العقد.. أنت تحبين الناس وإيجابية ومعطاءة وبارة بأهلك وتحترمين التقاليد دون جمود

-                     وهي

-                      العكس تماما

-                     ألم تعرف غيرها؟

-                     لا

-                     هل تميل إلى مصر أكثر أم إلى فرنسا؟

-                     الحب هو الذي يحدد

-                     بمعنى

-                     أنا شخص خُلق ليحب ويبحث عن الحب ويتصرف في كل شيء بالحب

ولو انتهى الحب من الأرض سأموت

وقفت فجأة وقالت:

-                     نكتفي بهذا القدر فيجب أن أعود..

 وقفت.. قلت:

-                     أبعد سنوات من الفراق.. نقضي معا عشر دقائق؟!!

-                     ستتاح في المستقبل فرص كثيرة

-                     من أدراك؟

مددت يدي وأخذت يدها

-                     حذار

قررت المجازفة. اختطفت قبلة من خدها الأسيل.. لم تتوتر كما سبق.. دنوت منها أكثر وقلت لها هامسا برقة وصدق:

-                     جزيرة.. أقسم بالله العظيم أن قلبي لم تدخله امرأة قبلك بل لم يفتح ولم يخفق من قبل على الإطلاق إلا لك

-                     هيا بنا

حاولت أن ترفض دعوتي للمرور بالوكالة لكنى ألححت حتى تشاركني في شراء بعض الأشياء.. في الوكالة غطت وجهها بوشاح شفاف أسود يمكنها من الرؤية ولا يراها أحد.. اشتريت عدة زجاجات من العطر النسائي.. قلت لها إن ابنة خالتى في قوص وسوف أمر عليها.. لم أرها منذ سنوات ساعدينى لشراء أجمل ما يسعد أنثى.. بالمناسبة ابنة خالتى جميلة جدا ولو لم تكن متزوجة لما أضعت يوما واحدا بعيدا عنها.. اشتريت خاتما ذهبيا وسوارا وأوشحة متنوعة.. قالت بعد أن انتهينا:

-                     توقف هنا فالبيت قريب

-                     لك ما تريدين.. لا تنسي أنك طلبت بعض الوقت فلا تطيلي لأننا فعلا أنهينا العمل ومن المحتمل المغادرة خلال شهر..ساعدينى على تحديد مصيري

-                     مع السلامة

مددت يدي لها بما اشترينا..قفزت للوراء معبرة عن رفضها وقد اكتست ملامحها رعبا كأن عقربا لدغها.. أقسمت أننى بلا خالة وأننى تحرجت منها فلم أقدم لها إلا القليل.. قضينا بعض الوقت نتصارع، لكننى حسمت المسألة وقلت:

-                     إذا لم تعجبك تبرعي بها لمن تشائين.. سلام

ابتعدت خطوات فقالت:

-                     عثرت على أول عيب.. أنت تكذب

عدت إليها خطوتين وقلت:

-                     إلا في حبك

تذكرت شيئا فعدت.. قدمت لها مجموعة من الأوراق..تراجعت كمن رأت ثعبانا.سألت عنها.. قلت:

-                     أشعار فرنسية ترجمتها إلى العربية

ما إن تركتها حتى شعرت بالجوع.... توجهت إلى المطعم ذاته الذي تناولنا فيه غداءنا الأسبوع الماضي مع الفريق الفرنسي.. طلبت موزة وأرزا..ثم تجرعت شراب الدوم واشتريت أقة من التمر الجاف فلا أميل للبلح إلا جافا.. أخذت طريقي إلى المرسي لأستقل المركب التى حان موعدها.. تسللت إلى روحي تلك اللحظات الفائتة التي شهدت تفاهمنا وتذويب الجلطات الصغيرة حتى تجري دماؤنا معا في نهر واحد.. لحظات قليلة لكنها بديعة..أعادت التوازن إلى قلبي المتيم.. سوف تشهد الأيام القادمة تغيرا مصيريا في حياتنا.. آن أن أستقر اجتماعيا مع من أحب وأستطيع أن أفكر في بناء مستقبل أتمنى أن يكون مشرقا يسجل اسمى بشكل إيجابي على لوحة الحياة وقد تقول الأجيال القادمة في فرنسا أو مصر:

-                      لقد مر من هنا يوسف أو جوزيف روبير البقلي..

فوجئت بالاسم الذي اخترعته دون وعي..ضحكت في أعماقي.. الله.. اسم جميل..جوزيف روبير البقلي.. ماذا عن المستقبل؟.. لم أستقر بعد على مجال أثبت فيه ذاتي.. لم أشعر بانسجام كامل مع العسكرية التى يعتمد مجدها على القتل، كما أننى أضيق كثيرا بالأوامر. أنا أود أن أكون حرا تماما... أظن أننى أميل لقراءة الفكر والأدب، ولكن القراءة هواية وليست إنجازا.. ولكي أحقق فيها مكانة لابد من الدراسة، وهنا يتفرع الدرب إلى دربين. الفكر له مجاله والأدب له مجاله وحتى الأدب تتفرع عنه مجالات.. أعتقد أن التاريخ يمكن أن يكون مجالا رائعا ومميزا ورجاله قليلون، ومع القلة يظهر العطاء ويحظي بالتقدير.. ولماذا لا أعمل بالترجمة من الفرنسية إلى العربية؟..أعكف على ترجمة الإبداعات الفكرية والأدبية الفرنسية إلى العربية فتتحقق الغاية على الصعيدين.. شردت قليلا.. كانت المركب تخرج من المرسي برشاقة ونسمات عليلة تصافح الوجوه وتحنو عليها.. انفتح أمامي الشمال كله.. النيل عريض ومياهه قليلة..عندما يمتلئ يبدو أعرض.. الضفاف الطينية العالية مع نقص الماء تجعله في العيون أضيق.. أشعر بارتياح ورضا.. الأيام الجميلة تأتي عادة من الشمال.. من قال هذا؟.. يبدو أنني من قلت ذلك.. ليس دائما.. عبرت نظراتي على وجوه الرجال التى لوحتها أشعة الشمس وحرارتها.. إذا كان الصعيد يأكل الخبز الشمسي فالصعيدي أيضا رجل شمسي.. الصعيدى الذكر بالطبع يشبه التمرة.. تمرة كبيرة على شكل رجل. فيم كنت أفكر؟.. في "الكرير".. في عملي الخاص الذي سيُعرف بي وأعرف به.. الترجمة.. نعم.. الأعمال التي نشرت في فرنسا وتنشر الآن وسوف تنشر كثيرة ولن يتوقف فيضها وسوف يرحب بها قراء جدد في العربية ويكتشفون آفاقها الرحبة ورؤاها العميقة التي تعمل بجد وابتكار على تطوير الحياة العقلية والروحية للإنسان في كل مكان.. لكن مشكلة كبيرة تقف بعرض الطريق.. أين هم القراء؟.. بل أين هي المدارس والكليات التى تخرج القراء؟.. لا توجد في مصر كتب أو مكتبات أو دور نشر أو صحافة أو مطابع.. المطبعة التي تركها نابليون لا تطبع إلا الوقائع المصرية..أخبار الباشا.. مصر معظمها فلاحون مع قليل من التجار وعلماء الدين وعدة آلاف من الجنود وأضيف إليهم فئة أخري هي العمال دون نقابات والجميع لا علاقة لهم بالقراءة. محاولتي الجمع في نشاطي بين مصر وفرنسا مسألة صعبة ولا يجب أن نتعامل معها بتعسف، ومع ذلك أظن أن الدراسات التي تخص الآثار والحضارة المصرية وهي التي تحظى باهتمام علماء فرنسيين على رأسهم طبعا شامبليون يمكن أن تكون مجالا جديدا وخلال مدة وجيزة سيشغل العالم، لكنه بالطبع يحتاج منى إلى تأسيس، فليست لي فيه أية مساهمة والعامل الأساسي لخدمته هو إجادة اللغة الهيروغليفية.. الخطوة الأولي على أية حال تبدأ من فرنسا ويجب أن ألتقي شامبليون أولا قبل التفكير في أي شيء وسوف أفيد من رأيه جدا.

تقدم الحاضر وأزاح تفكيري في المستقبل.. تطلعت إلى النهر.. سألت المعالم عن يمينى فتعرفت إلى بعضها.. أدركت أن المركب قطعت نصف المسافة باتجاه الأقصر.. تأملت المياه المنخفضة ولمحت الشراع العريض ممتلئا بالرياح.. الرياح في الأغلب تهب من الشمال إلى الجنوب..الآن تهب من الجنوب.. ربما تفعل هذا أحيانا عندما تلحظ أن المياه لا تكفي للملاحة إنها رياح الأرزاق، وربما جاءت خصيصا كي تعيدني بسرعة إلى الأقصر.. تعيدني إلى جزيرة.. جزيرة التى لا تزال في إسنا

 ماذا لو زرت أباها الآن وطلبتها منه؟.. فكرة رائعة.. يجب أن أقطع المزيد من الخطوات نحوها.. بددنا وقتا طويلا بسبب الحساسية الاجتماعية.. لا يستطيع رجل أن يقف مع امرأة ولا يستطيع الطبيب أن يعالج مريضة..الموت بالنسبة لهم أرحم.. وعار على شاب أن ينظر إلى فتاة.. هنا يموت الحب وهنا مقبرة المشاعر.. من يريد أن يحمى الأخلاق فعليه بالحب.. التعلل بالدين ليحمى الشباب من الغواية يمارس في الحقيقة عملا ضد الدين.. من يريد أن يسمو بالشباب عليه أن يروي الأرواح بالفنون والآداب والهوايات الجميلة.. أظن أن الجنود الذين يطاردون الفلاحين لجرهم إلى الحروب أو لحفر الترع بالسخرة وسجنهم أو جلدهم من أجل سداد الضرائب هم أنفسم من يضعون لوائح لقتل الحب وخنق المشاعر وتعذيب الأرواح..القمع يأتي من كل القوي الحاكمة.

 قفزت من المركب ولم أنتظر رسوها الطبيعي.. مضيت إلى الحاج حكيم وطلبت جزيرة رسميا فاكتست ملامحه بالبشر والمفاجأة، ونادي السيدة كاملة وأنبأها برغبتى.. سمعت زغرودة من الداخل تأتينا مرفرفة.. سمعت زغاريد كثيرة في مناسبات سابقة لكن تلك الزغرودة كانت الأجمل لأنها من أجل جزيرة ومن أجلي.. زعق الحاج:

-                     عيب يا رقية

وافق الحاج حكيم وقال:

-                     لابد من سؤالها كما يأمر الشرع

قلت وأنا أمارس قدرا من الخبث:

-                     طبعا.. طبعا.. ما تراه حضرتك ويراه الشرع

أصر أن نأكل لقمة معا، فرحبت قائلا:

-                     أكلت منذ قليل ولكن يمكن أن تكون خفيفة

تحدثنا لوقت طويل.. كان معظم الحديث عن مدثر وليس عن جزيرة، ثم وصلت أطباق الأكلة الخفيفة التي طلبتها فإذا هي أثقل أكلة.. إنها الفتة.. أكلة المشايخ كما يسمونها،ومعها الباذنجان المخلل بالليمون والثوم وطبقا كبيرا من السلاطة، ثم شربنا شايا بالنعناع الأخضر الطازج.. ما كان أجمله ولعله يجتهد في إزاحة الدهون والنشويات التي اغترفت منها بلا رحمة.

استأذنت أخيرا وعدت إلى الباخرة رقصًا. حاولت أن أتذكر موالا مما سمعت فلم أفلح. التقيت بأولان وفيكتور وساسي وجوستاف.. كانوا يضحكون ويتحدثون ويدخنون ويرقصون..قال أولان:

-                     أهلا بالعاشق الوحيد في البعثة.. نسبة ضئيلة جدا أن يكون هناك عاشق واحد من بين مائة شاب

 جلست معهم.. سألوني عن أخبار الحب.. ابتسمت بوصفي شخصا سعيدا يطفو فوق بحيرة الحب الصافية التي تتصاعد الموسيقى مع موجاتها الوديعة..اكتفيت بالقول:

-                     نتجه كل يوم نحو مزيد من الترابط والتفاهم

قال جوستاف فجأة: أنت لم تعلم بما جري لسنيور روسي

قلت: عالم الآثار؟

هناك دائما مطر يسقط في الوقت المناسب كي يطفئ النار.. وهناك ظلام يحل في الوقت المناسب كي يحاصر أنوار البهجة.

قال فيكتور: عثر أحد الأهالي على جثته في البر الغربي بالقرب من مقبرة للمصريين القدماء وفوقها ضبع يلتهم منها دون منافس وقال الرجل:

-                     يبدو أن بعض الطيور الجارحة قد نهشتها أيضا

تراجع سروري فجأة.. دائما هناك أخبار تعسة..قلت:

-                     ارتحت لهذا الرجل وقدرت اهتمامه بالآثار وشعرت من حديثه وغيابه التام في المعابد أنه راهب في محراب العلم

قال ساسي:

-                     يبدو أنه كان راهبا أكثر من اللازم

 

(21)

 استقبلتني أمي بالقبلات، وعادت تقبلنى.. ثم قالت:

-                     الآن فقط استقر قلبي في مكانه.. منذ جاءنا ابن الحلال، و أنا وأبوك لم نتوقف عن الصلاة شكرا لله.

-                     ابن الحلال؟!!

-                     نعم ابن الحلال.. ألا تعرفينه؟

-                     ما بك يا كاملة؟

-                     صبرت وإن شاء الله تنالي ما تتمنين

-                     يا أمي.. يا ست الكل أفهمينى.. واحدة واحدة

خرج أبي من حجرته.. أخذني بين أحضانه وقال:

-                     حمدا لله على السلامة

قلت بدهشة وتوجس:

-                     ما الحكاية ياأبي؟

-                     الحكاية أن يوسف جاء إلينا بالأمس وطلب يدك

-                     يوسف من؟

-                     جزيرة؟!.. يوسف زميل أخاك مدثر.. يوسف المترجم

شعرت بعدم الرضا.. توترت وقلت:

-                     طلب يدي وأنت وافقت؟

-                     نعم

-                     وأين البهيمة التى بعتها له؟

نظر إلىّ أبي بذعر، وارتعشت يده التى كانت منذ شهر قد توقفت.. استدار وعاد إلى حجرته.. صرخت أمي دون أن ترفع صوتها:

-                     أجننت؟.. كيف تتكلمين مع أبيك بهذه الطريقة؟

-                     ما كان يجب

-                     ولا كلمة..أنت تريدين موته

تركتنى ومضت وراء أبي..اضطربت.. لم أدر ماذا أفعل.. هل حقا أخطأت؟.. استعدت ما قلت.. ليس فيه ما يغضب.. لمحت هنومة تندفع إلى غرفة أبي.. تلفتُّ حوالي كأني غريبة عن البيت ويجب أن أغادر.. أسرعت بالدخول إلى أبي.. وقعت فوقه ودموعي تسبقنى.. زادت اهتزازات ذراعه.. أخذت أمي الدواء من هنومة وحاولت أن تسقيه فتسرب الدواء من شفتيه المعوجتين.. صرخت:

-                     أبي.. سامحنى يا أبي.. أرجوك لا تغضب منى..أنا فقط كنت أسأل

رُد علىّ يا حبيبى.. سامحنى أرجوك..

انحنيت وقبلت يده.. نزلت إلى قدميه وقبلتهما طويلا وأغرقتهما بدموعي..

توقعت أن يتحسن.. أنا أستحق الموت. لقد حذرنا الطبيب الذي بدأ معه رحلة العلاج من أي لحظة توتر.. مهما تقدم بالدواء سينهدم كل شيء ونبدأ من الصفر.. سنعود للخلف خمس سنوات مثل حالته عند تلقيه خبر موت مدثر.. قلت لهنومة:

-                     اذهبي بسرعة إلى الدكتور قرشي لو لم تجديه اذهبي إلى الأستاذ يوسف كي يطلب إلى الدكتور روجيه زيارة عاجلة

بعد نحو نصف ساعة حضر يوسف ومعه الدكتور روجيه.. كشف عليه وسأل عن الحالة ومختلف أعراضها.. سأل عن الطعام وقرأ التقرير الطبي السابق.. يوسف يترجم له ولنا ما يقال وقد بدت على ملامحه وصوته إشارات تكشف قلقه.. سأل الطبيب عن التوتر.. اعترفت له بأن أمرا أغضبه. مط شفتيه وسأل:

- أين الدواء الذي يأخذه؟

قدمته له فقال:

- جيد ومناسب فليأخذ منه الآن وكل ست ساعات جرعة.. هناك دواء أفضل لكنه غير موجود إلا في القاهرة، سأحاول طلبه.. سيحتاج على الأقل إلى أسبوعين.. العلاج الوحيد هو منع التوتر.. التوتر يهدده بشدة

غادر الدكتور وكنت أنوي استبقاء يوسف.. فضلت أن أتركه يغادر حتى أتفرغ لأبي.. الفرصة غير مناسبة لأعاتبه فهو السبب الحقيقي فيما أصاب أبي.. كيف يتصرف من نفسه ويتقدم لطلب يدي من أبي دون أن أوافق..هو أساسا لم يحدثنى في رغبته الارتباط بي.. كان لابد أن يأخذ رأيي أولا

.. سألتنى أمي بحدة:

-                     ماذا قلت لأبيك؟

-                     سألته لماذا لم ينتظرني حتى يسألنى عن رأيي

-                     أشك أن يكون هذا سؤالك

تركتها ومضيت إلى أبي.. رجوته عدة مرات أن يسامحنى.. قلت:

-                     لو لم تسامحنى فسوف أقتل نفسي

لم ينظر إلىّ وظل على حاله.. قلت مجددا:

-                     أقسم بالله العظيم لأقتل نفسي إذا لم

فتح عينيه ونظر إلىّ.. انهمرت دموعي وأنا أقبل يديه الاثنتين وكتفه..

هذا الرجل ذو قلب عامر بحنان يكفي ناس البلد كلهم.. قلب لا يعرف الكره أو الحقد أو الانتقام.. قلت عبر النشيج المحموم:

-                     أرجوك أن تسامحنى

مد كفه ومسح على رأسي.. فمسحت دموعي وتوازنت قليلا.. ابتسمت

وقلت له:

-                     كيف تغضب منى؟

قال بوهن شديد:

-                     راقبتك عندما كان هنا في آخر مرة.. لاحظت أنك مرحبة بوجوده

-                     ليس يا أبي لدرجة الزواج. أنت تعلم أن ترحيبنا كلنا كان بسبب حديثه عن مدثر

وجَّه إلىّ نظرة تعنى:

-                     لا تضحكى علىّ ولا على نفسك.

ابتسمت وقلت:

-                     مادمت توافق عليه أنا موافقة

-                     ربنا يسعدك

دخلت أمي وهي تقول:

-                     يا رب اسمع منه ومنى

تدريجيا بدأ أبي يتعافي.. في الصباح كان أفضل.. استطاع أن يخرج وحده ليجلس في صدر الدوار بحيث يري الشارع والعابرين. حملت إليه هنومة الشاي.. هممت بالمغادرة. قال:

-                     لا تتحركي حتى تحكي لي بالتفصيل أحوال حفصة وفاطمة وأولادهما

والسبب في عدم حضورهم في العيد

قصصت له كل ما رأيت وما سمعت وطمأنته عليهم جميعا وأكدت أن أخبارهم كلها جيدة.. استأذنت منه لسؤال سليمان النجار عن الكارتة.

على الباب التقيت بعبد الشهيد المراكبي. قال:

-                      خالك الأستاذ رمضان يطلب منكم تجهيز بيته لأنه قادم بعد أسبوعين

خالي رمضان قادم إلى الأقصر في شهر مارس والمدارس تعمل حتى يونيو.. غريبة!!.. ياه.. نسيت. لقد ترك التدريس ولزم الباشا الوالي لا يتركه.

 أعجبتنى الكارتة.. خطر ببالي عندما رأيتها أني تأخرت في قراري.. كان يجب أن تكون في البيت هذه الكارتة منذ سنوات.. نفعها كبير ومنظر. تتكون من قسمين.. علق سليمان فرستى الشهباء في العريش وأحكم السرج.. كان قد اشتري حزاما جلديا لإطالة اللجام حتى يبلغ الجالس على الكارتة..والأهم أنه كلف المنجد بصناعة شلتتين من القطن مكسوتين بقماش متين وجميل،واحدة للجلوس عليها والأخري للظهر.. صعدت إلى جانبه.. قدت الكارتة بحذر في البداية ثم تشجعت وهززت اللجام كي يسرع الحصان.. سألت سليمان:

-                     أين الجرس؟

أشار لي عليه.. ضربته..رضيت بصوته هادئ النبرة

-                     أحسنت لأنك غطيت العجلات بطبقة من الصاج

-                     تقلل الصوت وتسهل الحركة وتمنع سرعة تآكل الخشب

دُرت في جولة حول معبد الأقصر.. هللت النسوة عندما رأيننى من فوق الأسطح.. كل من مررت به حيانى وهنأنى.. الفرحة الصادقة غمرت وجه كل من رأى العروسة الجديدة.. بعد الجولة أوصلت سليمان إلى الباخرة ونزلت معه لأشكر المهندس ريشار..ترجم لي يوسف.. الجميع قدموا التهنئة والتمنيات الطيبة.. عدت إلى الدوّار. دعوت أبي وأمى لمشاهدة الكارتة. فرح الوالدان ورفعا رأسيهما إلى السماء. طلبا من الله في شبه إلحاح مصحوب ببعض العبرات أن يحفظنى ويوفقنى إلى ابن الحلال الذي يسعدنى.

 طلبت من سلام المزارع أن يكلف سلطان البنا بعمل فتحة بعرض مترين في سور الجنينة كي تبيت فيها الكارتة، ويركب لها باب خشب يكون ملاصقا الدوار بحيث أري الكارتة وأنا فوق السطح أو عبر أية نافذة.. فتح فمه.. أدركت أنه كعادته لم يفهم.. تلفت حوالي حتى أعثر على أي شيء أرسم له علامة..لم أجد.. فكرت في قطع عودين برسيم على السور يفصل بينهما ثم ضحكت لأن أية بهيمة ستمر لا يمكن أن تتركهما بل سيسقط عليهما الطيور التي تجوب السماء.. وجدت طوبتين وضعتهما فوق السور وبينهما مسافة تحدد عرض الباب. ضحك سلام وضحكت مرة أخري بتأثير ضحكته الطيبة.

استدرت لدخول الدوار.. صكت أذني طرقات خيول متعجلة. وقفت وتحولت بنظري إليها.. ستة خيول يمتطيها أربعة جنود بالصديريات الزرقاء والأحزمة الحمراء والسراويل البيضاء والطرابيش الحمراء، ورجلان في زي أنيق تبدو على ملامحهما الصفة الرسمية.. سأل أحدهما:

-                     أهذا دوار الحاج حكيم؟

-                     نعم

-                     وهل تقيم فيه ابنته جزيرة؟

-                     نعم

-                     هل هما موجودان؟

-                     نعم

-                     نرجو لقاءهما

-                     من أية جهة؟

-                     من حكمدارية قنا

-                     دقيقة لو سمحت

أسرعت بالدخول. أبلغت أبي. عدت إلى الجمع المنتظر.. دعوت الجميع للدخول.. هبط الرجلان وبقي الجنود في أزيائهم الملونة وشواربهم المبرومة.. سبقتهما إلى الدوار حيث الصالون الكبير الذي كان معدا لخاصة الضيوف.

طلبت من هنومة سرعة تقديم المشروب البارد وليكن الخروب، أو التمر هندي.. ظهر أبي فعرفته إليهما.. كان أبي قد تحسن كثيرا عن ذي قبل وأصبح بإمكانه أن يتحرك ويقف وحده ولا ترتعش ذراعه بالدرجة السابقة من الشدة، وقد لا يلاحظ البعض ما بها.. قال أكبر الضيفين الطافح بالمهابة:

-                     تتشرف حكمدارية قنا التي أمثلها بإبلاغ السيدة جزيرة حكيم أبو الحجاج

أنه قد وقع عليها الاختيار لتكون.. عمدة الأقصر الجديد تنفيذا لقرار مجلس الحكمدارية

تراجعت إلى الوراء قليلا وانفتحت عيوني دهشة..تحولت إلى أبي وبسطت كفيّ.. وسرعان ما بلغتنى زغرودة مدوية وطويلة لعلها هنومة.. أطلت من عينىّ الدموع غزيرة وسريعة شقت مجاريها على خدىّ وبللت طرحتى وعباءتي رغم محاولاتي منعها، واستطاع أن يكبحها ممثل الحكمدارية عندما استطرد:

-                     ويبدأ سريان العمل بهذا القرار من السبت القادم الموافق 11 فبراير 1832

تطلعت إلى أبي. اكتشفت أنه كان غارقا في دموعه أكثر منى.. بكاء صامت، لكن البدن ينتفض كأن أحدا يرجه رجا أو يجلس على كارتة تمر بأرض متعرجة منقوشة بالحفر العميقة. كان إلى جانبي فأمسكت يده وأمسك يدي.. لم ننطق بحرف حتى قال ممثل الحكمدارية الأشيب صاحب الفروة القطنية اللامعة على رأسه وهو يمد لي بعض الأوراق:

-                     هذا هو القرار وهذه الأوراق بها اللائحة والمسئوليات والنظام الضريبي ومواعيد اجتماعات المجلس القروي

كنت وأبي لا نزال عاجزين عن النطق.. لم أشعر بأن لسانا يمكن أن يشكر أو يرحب أو يسأل في أي شأن حتى وقف الضيفان وقال الأشيب:

-                     أنت لا شك تعلمين أنك أول عمدة في البلاد بل في الإمبراطورية العثمانية كلها وهي التي تحكم نصف الكرة الأرضية. تقبلي عميق التهنئة من الحكمدارية كاملة ومن سيادة الحكمدار شخصيا..

ابتلعت ريقي وتنهدت فعثرت على لساني.. قلت:

-                     شكرا

تبين لي أن أحدا لم يسمعنى وما حسبته لساني كان شيئا كبفرة السيجارة

قال الرجل الرسمى:

-                     ألف مبروك ونتمنى لك التوفيق.

وجد أبي لسانه فقال:

-                     هل أبلغتم أخى الحاج زهران؟

-                     جئنا من عنده

استئذنا في الانصراف وصحبناهما حتى الباب وهنومة التي تعشقنى يعمل لسانها بكل قوة في إطلاق الزغاريد.. عدنا بعد مغادرة الوفد إلى الصالون وانضمت لنا أمي.. قالت هنومة إن الحاجة سقطت مغشيا عليها وانشغلنا معها حتى أفاقت بعد أن شمّت البصل.. كانت هناك بالفعل فترة صمت تعطلت خلالها ماكينة الزغاريد عدة دقائق.. كانت الدموع هي السيدة المهيمنة على كل الجلسة التي لم نستطع أن ننطق فيها بكلمة غير الحمد لله.. حتى قالت هنومة الثرثارة:

-                     الكارتة لها دخل

ضحكنا وبكينا معا.. بلغتنا الزغاريد من كل بيوت البلد وعاد نهر الدموع من مآقينا يتدفق.. العمدية لم تكن مطلقا سبب الدموع ولكن فضل الله وحب الناس.. أخيرا عثرت على جملة مناسبة

-                     لو امتد الأجل بأخي مدثر كان هو الأحق

نويت أن أكحلها عميتها.. انهمرت من الجميع الدموع وأنا معهم وكان النشيج أعلى وانتفاض الأبدان أشد، لكن الزغاريد كانت تنطلق بدرجة أكبر وكأنها تعرف أن نيران الدموع لا تزال تندلع في العيون وعليها أن تطفئها.. الزغاريد بالفعل كانت بردا وسلاما على قلوبنا وأجسادنا.. فكرت:

-                     هل تحولت حالة الفرح إلى حالة حزن؟!!

قالت أمي:

-                     أخيرا الفرح عرف بيتنا

لم يعلق أحد.. الكل يعلم جيدا أن الأمر كله لله وأن ليس لنا منه شيء ولا يد لنا في هذا أو ذاك.. لا في الفرح أو الحزن ولا في السعادة والشقاء.

أخرجتنا من الحالة الأسيانة وفود الرجال والنساء الذين وقفوا خارج البوابة ورفضوا الدخول:

-                     جئنا نهنئكم فقط.. ألف مبروك على الأقصر.. أول شيء يأتي من جهة الحكومة يسر القلب.

لم تتوقف التهاني وعند العصر جاءنا عمى زهران نصف بائس.. التعاسة تتجول بأعماقه ويحاول كتمها فلا يملك.. ملامح وجهه تكشف أعماقه الموّارة بالأسي وجسمه يهتز بشدة تحت وقع المفاجأة..

الشيخ يونس اعترف لنا بسر لم نكن نتوقعه ولم نعلم به مطلقا.. الشعب الذي نحسبه سهلا ليس كذلك.. الناس التي نظن أنها غير مدركة لما يجري حولها ليست كما نظن.. الرضا الذي يتمتع به الفقراء والطيبون ليس رضا كاملا وغير قابل للامتداد حتى نهاية العمر.. الثورات كامنة والغضب مكمور ولا موعد محدد لانفجار البركان.

قال الشيخ يونس:

-                     وقعتُ على ورقة منذ شهر كتبها شخص رفض ذكر اسمه والكل حافظ له على ذلك وأنتم كذلك لابد أن تنسوا الموضوع تماما

سأله أبي:

-                     ما الذي وقعت عليه؟

-                     ورقة تطلب من الحكمدارية إقالة العمدة زهران وتكليف السيدة جزيرة ابنة حكيم لخلافته.. حمل الورقة أربعة رجال إلى الحكمدارية التي عملت بحثا وتقييما فثبت أن العريضة لا تخالف الواقع بالنسبة للاثنين، وهكذا اجتمع مجلس الحكمدارية وقرر ما تم.

سأله أبي:

-                     هل تظن أن نصر له علاقة بالموضوع؟

تمهل الشيخ يونس لحظات، ثم قال:

-                     العلم عند الذي لا يغفل ولا ينام

 لم أنم إلا عند الفجر.. جلست في الصالون وحدي أفكر في الأيام الأخيرة

.. علاقتى بيوسف واطمئناني إليه زوجا، وقد خفق قلبي له ورحّب به، بل يتمنى أن تضيق المسافات في وقت قصير.. العمدية.. الحدث الغريب جدا والأقرب إلى المستحيل.. كيف فكر هؤلاء الناس البسطاء في هذه الفكرة؟!.. لم يسبق أن سمعت بأن امرأة تولت العمدية.. لم أتصور شعبا لا يجد قوت يومه ويمشي أغلب أبنائه حفاة في الشوارع المتحجرة والملتهبة يمكن أن يطلب من حكامه إقالة مسئول، أما الأغرب أن يستجيب الباشوات الكبار للطلب الغريب.. الشعب لا يملك في العادة إصدار أي قرار أو التعبير عن رغبته بأية صورة.!!!!.. وإذا حدث هذا مع أي حاكم فحسب علمي لا يمكن حدوثه مع محمد على باشا.

 

(22)

 وصلت مركب كبيرة إلى مرسي الأقصر قبل الظهر وبدأ نحو عشرة من العمال ينقلون منها أسِرّة وموائد كبيرة وصغيرة ودواليب وسجاجيد وحقائب وأواني وكنب وكراتين. انفتحت احداها وتناثر ما بها ولم يكن غير كتب.. احتاج تنزيل هذه المنقولات ونقلها ما يقرب من ساعتين. تبين لنا من كلام الأهالي أنه أثاث خالي وأنه قد وصل وزوجته مع العفش، وكان برهامي شقيق زوجة خالي هو الذي علم وحده بموعد وصولهما مع منقولاتهما فاتفق مع العمال... خرجنا لاستقبال خالي الذي شكرنا على اهتمامنا ومضي إلى داره التي لا تبعد عن الدوار غير سبعين مترا.. تفصل بيننا وبينه ستة منازل.. حملت هنومة ورُقية لهما الغداء.... بعد المغرب قمنا بالزيارة، وقد نبّهت أمي على الخادمتين أن يحملا العشاء بعد صلاة العشاء.. لم تكن معهما خديجة ولا عائشة.. كان خالي قد أرسل لوالدي رسالة مع عبد الشهيد..أنبأه فيها بأن البنتين تزوجتا قبل شهور.. تزوجت خديجة أولا من مدرس يقيم في الغورية ثم تزوجت عائشة من مهندس في مصنع للأسلحة والذخائر في السبتية.. سألنا عن علي أصغر أبناء خالي وقد قارب الثامنة عشرة، فقال:

-                      فضّل الالتحاق بالمدرسة العسكرية وقد سعيت لدي الباشا لقبوله لأن إدارة المدرسة رفضته لصغر سنه حوالي ستة أشهر.

سألت الرجل الرائع:

-                     وأين يسكن؟

-                     في المدرسة

-                     أحسن شيء فعلته

سأله أبي:

-                     ما المدة التي ستمكثها معنا؟

ابتسم خالي نصف ابتسامة وقال:

-                     سأمكث معكم حتى أموت.

غطت وجوهنا جميعا سحابة غم.. قال أبي:

-                     أستغفر الله العظيم.. لكل أجل كتاب.. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا

قال خالي:

-                     لماذا حط الفزع عليكم؟.. يبدو أني أسأت التعبير..أقصد أن علاقتى بالقاهرة انتهت

-                     انتهت!!

-                     نعم.. أمر الباشا بعودتي إلى بلدي

-                     لا أفهم.. هل تسببت ولو دون قصد في مشكلة؟

-                     تقريبا

-                     وهل ما جري يستوجب النقل؟

-                     هذه قصة أخري سيأتي الموعد المناسب للحديث عنها.. وإذا كانت عودتي يعتبرها البعض ضررا فلا أري ذلك غير بُعد المسافة بينى وبين أولادي، لكن لننظر إلى النصف المملوء من الكوب..أولا:أنا عدت إلى بلدي وهذا أفضل ما يتمناه المرء، ثانيا: زوّجت بنتيّ وألحقت على بالمدرسة العسكرية قبل أن يصدر الأمر بنقلي..إذن من رحمة ربك أن كل شيء تم ترتيبه بفضل الله.. هل هناك أكثر كرما من هذا؟

-                     عندك حق.. ليس هناك أفضل من هذا.. قبل أن يصدر قرار الباشا أصدر الله قراره بترتيب البيت بالكامل

قبّل أبي يده ظهرا لبطن وحمد الله مرتين وترقرقت في عينيه أشباح دموع وكذلك حدث لخالي وزوجته. عاد أبي يسأل:

-                     سامحنى يا رمضان لن أقدر على الانتظار.. أريد أن أعرف لماذا أصدر الباشا هذا الأمر وأعلم أنك دائما كنت بالقرب منه لتعليمه وأولاده العربية ومضي على هذه المسألة سنوات كما أعلم أنك نادرا ما تخطئ.

-                     التحقت بالعمل مع الباشا عندما كانت جزيرة تزورنا في القاهرة قبل عشر سنوات.. في يوم أمر الباشا بقتل رجل من أفضل رجاله وكنت حاضرا في العوّامة، واسم هذا الرجل بوغوص يوسفيان

-                     ليس مصريا

-                     لا.. إنه أرمنى.. لكنه في الحسابات والماليات خبير من طراز رفيع وأمين أمانة الأنبياء

اندهشت للتناقض فقلت:

-                     غريبة

-                      أمر الباشا حاجبه بيزيد المقرب منه جدا أن يسلمه لمن يقتله وكنت أجلس قريبا من الباشا فقال لي:

-                     اذهب معه لتتأكد من قتله فلا أود أن أراه طالما حييت.

كان الأرمنى بوغوص هو من عيّن التركي بيزيد الذي انتقل بعد تعيينه من الفقر الكامل إلى الغنى وإلى السلطة والنعيم.. سرنا نحن الثلاثة والأرمنى لا يقدر على الحركة.. سار بيننا شبه مغشي عليه.. كنا نكاد نجره جرا.. قال بيزيد:

-                     الباشا يحب يوسفيان جدا وربما أكثر من أولاده لأنه الأكثر نفعا وأشك أن يسمح بالمساس به وما هي إلا لحظة غضب.

اقترح التركي أن يبقيه على قيد الحياة في مكان بعيد لا يراه فيه أحد حتى يري الباشا فيه رأيه.. سألنى رأيي فوافقته فورا وكنت أبحث عن وسيلة ننقذ بها الرجل. أسكنه التركي بيتا في صحراء حلوان لا تجاوره بيوت ولا تطأ المنطقة قدم. ومنذ شهر حدثت مشكلة مالية عصيبة ومعقدة ولها علاقة بفرنسا التي يعتمد عليها الباشا في كل أموره تقريبا.. استشار فيها كل حاشيته من العالمين بهذه الأمور فعجزوا عن الوصول إلى حل يخرج الباشا من الأزمة المستحكمة. كنت حاضرا فمنذ عام أمرني الباشا بحضور كل مجالسه

فجأة زعق في الجميع مثل وحش وقال:

-                     كلكم كلاب وقردة..هناك شخص واحد لو كان موجودا لكفاني وأغناني عنكم جميعا

سألوه جميعا: من يا ولي النعم؟

زعق مرة أخري وقال لهم:

-                     لا أريد أن أراكم.. هيا اخرجوا.. أنتم بغال لا تفهمون إلا في حشو الكروش

كان التركي بيزيد الحاجب حاضرا فدنا منه وهو يقدم رجلا ويؤخر رجلا وسأله:

-                     أتقصد يا سيدي بوغوص يوسفيان؟

-                     نعم يا شيطان

ابتلع ريقه واقترب أكثر وهو يرتعد كأن به الحمى.. سأل بتؤدة:

-                      هل حقا تتمنى لو كان موجودا؟

-                     نعم

-                     ألن تغضب علىّ لو أحضرته إليك؟

-                     بل سأعطيك مكافأة لم تحصل عليها يوما في حياتك

-                     امنحنى ساعة

سأل الوالي بلهفة كأنه طفل ضال عثر مؤخرا على أمه

-                     أهو حي؟

-                     نعم

حملت بيزيد كارتة يجرها جوادان ومعه عليها جنديان وأسرعا إلي حيث يوسفيان وعادا به معصوب العينين فقد توقع بيزيد أن يرفض الأرمنى لقاء الباشا خوفا منه.. ما إن رفع الحنوج العصابة ووقعت عينا المسجون منذ سنوات على الباشا حتى سقط مغشيا عليه.. أسرع العمال ينثرون عليه الماء والعطر حتى أفاق.. عجز عن القيام فتقدم منه الوالي ونظر إليه طويلا محاولا التأكد من أنه بوغوص.. بعد لحظات رفعه و أخذه بين أحضانه وقال له في تأثر شديد:

-                     أن أراك من جديد يا بوغوص يعادل انتصاري في معركة

مد الباشا يده وقال لرجله الأول:

-                     أنت مهم عندي جدا لذلك غضبت منك

منعت الدموع السيالة بوغوص من العثور على لسانه وعقله، إلى أن قال:

-                     كنت أثق أنك تحبنى وتحب هذه البلاد وتريد أن تحقق ما لم يحققه السابقون عليك

-                     أحسنت يا بوغوص.. هناك عمل كثير في انتظارك

-                     رهن إشارتك

قال الوالي:

-                      خذوه أولا ليستحم ويأكل ويرتدي ملابس جديدة تليق بالأمراء ثم يأتينى.

أخذه الخدم والجنود إلى غرف الخدمات ليجروا له عملية التأهيل.

وقف الوالي صامتا لدقائق، ثم سأل التركي:

-                     ألم أقل لك اقتله؟

توجس بيزيد وحدّق في الوالي وعاد يرتعد بأكثر مما كان قبل ذهابه إلى حلوان ثم قال بوهن بالغ:

-                     نعم يا باشا

-                     فلماذا لم تفعل؟

تضاءل الحاجب وانكمش وقَصُر، وتاه وتلجلج وهرش رأسه وتداخلت كل الأمور وحوّمت النهاية السوداء فوق رأسه وأمام عينيه وفي قلبه المرتعش الذي يدق ضلوعه بكل ما أوتي من قوة.. أخيرا قال:

-                     اعتقدت أنك أصدرت قرارك العالي في حالة غضب وأعلم أنك تحب بوغوص وسوف تعود فيه

زعق الوالي:

-                     هذا ليس عملك.. من كان معك؟

-                     المعلم

-                     أي معلم؟.. العربية؟

-                     نعم

-                     اخرج الآن وعد إلى بيتك ركضا ولا تنظر خلفك.. هيا بسرعة

لم أكن موجودا لكنى علمت بما جري..قال لي بيزيد عندما ذهبت لزيارته في بيته لأطمئن عليه وقد كنا نلتقي يوميا:

 - لم يستطع الباشا أن يتعرف على بوغوص فقلب فيه بعينيه كأنه يتذكر شيئا ثم أمسك ذراعه وعرّاه حتى عثر على أثر لجرح قديم في أعلى ظهره من جهة الذراع اليسري..كان ابن أحد المماليك الكبار ممن قتلوا في المذبحة قد أطلق النار على الوالي وأخطأ فأصابت بوغوص.

أسرع بيزيد إلى بيته ليصله بعد العصر قرار الوالي بترحيله إلى أنقرة

..سالت دموعه وارتعد ثم تداعي وأوشك على السقوط لحق به خادمه وحمله إلى فراشه.. ظل ساكنا لدقائق ثم انفتحت عيونه وإن ظل ممددا وزائغ النظرات، وعندما زرته.. قال لي:

-                     لا تغضب منى لأني ذكرتك

-                     لا لست بغاضب.. لقد عرفت الباشا جيدا وعرفت كيف كان يخرج الكلام من قلب محدثه حتى لو أقسم ألا يبوح.. المهم أن عليك ألا تفكر إلا في الله فقط وتطلب منه السلوي والرحمة والستر

-                     أملي الوحيد في الله

عادت دموعه تسيل بشدة وبدنه يهتز مع وطأة النشيج، قلت له:

-                     تماسك أرجوك.. لديك مهام كثيرة وترتيبات

-                     أنا حزين لأن ابنتى روكسلان كان قد رآها ابنه اسماعيل وقرر أن يتزوجها وحصل على موافقة مبدئية من الباشا..الآن لا أظنه..

عاد الرجل يبكي،إلى أن دخل علينا من أنبأه بأن الباشا قرر إعادة معلم العربية إلى بلده أيضا.. ابتسمت وحمدت الله الذي يختار لنا ما يناسبنا وما نعجز عن اختياره أو حتى التفكير فيه.

قال أبي:

-                     ليس لديه عزيز

-                     يري أن كلامه مُنزل ولابد من تنفيذه بحذافيره

-                     الحمد لله في كل الأحوال

قال خالي وهو يضحك:

-                     كسبنا الكثير وخير ما كسبنا النجاة والعودة إلى أهلنا سالمين يا حاج حكيم.. نحن في نعمة نادرا ما ينالها أحد من العباد في مثل هذه البلاد

قلت لخالي:

-                     نورت بلدك وبيتك

 

(23)

 كان شاغلي الأول بعد أن توليت العمدية هو رفع المعاناة عن الأهالي.. لن أسمح أبدا بأن يُجلد شخص ولا أن يُجر مع الآخرين بالحبال ولا أن يُطارد بالبنادق والهراوات..سوف أعمل بكل جهدى على إنهاء هذه المهزلة.. حق كل إنسان في الحياة الكريمة مسألة مصيرية تستحق التضحية والكفاح والصبر.

 اضطررت للسفر إلى قنا عدة مرات لمقابلة الحكمدار ومساعديه حتى يقبلوا بمقترحاتي ويوافقوا على أسلوبي في العمل الذي يعتمد على فكرة رفع يد الحكومة عن الأهالي، وعدم التعامل مع أي شخص منهم مباشرة.. كل طلب وكل أمر وكل مشكلة لابد أن يكون حلها من خلالي.. يجب وقف أية إهانة يتعرض لها أقصري.

 أبلغتهم ألا يتم طلب ضرائب من أحد عن طريق الجنود الأتراك أو الألبان ولا عن طريق الصيارفة أو الملتزمين.. على المالية تحديد المطلوب من ضرائب على الحيازات الفعلية بعد حسابها بحضوري و من اخترتهم كمساعدين متطوعين، و تتولي العمدة التحصيل والتسليم للصيارفة.. لابد من تحديد موعدين بينهما شهر على الأقل.. الأول للإبلاغ والثاني للسداد.. رفضت تماما جمع الشباب بالقوة للحروب وحفر الترع ولكن بالإعلان عن ذلك قبلها بشهر مع تحديد الأجور والمزايا.. قال الحكمدار:

-                     أتفق معك في كل ما عرضت وسوف أرفعه للباشا

 قرأنا الفاتحة بحضور خالي الذي سعد جدا بالخبر.. قلت له:

-                     أرجأنا قراءتها عندما علمنا بنيتك زيارة الأقصر

-                     هذا أجمل خبر سمعته منذ جئت

خطرت ببالي المدرسة فطلبت منه أن يتولي أمرها بعد أن يعد قائمة بمقترحاته للتطوير.. وعد بأن يفعل على ألا يكون عملا دائما ولكن بعض الوقت. اندهش وأغدق على ّ الثناء لما رأي من إضافات على البلد في السنة الأخيرة حتى من قبل العمدية. الطلمبات والإضاءة والأشجار.

لكن العمدية لم تمنعنى من لقاء يوسف سواء في المدرسة أو في الدوار أو في المركب، فبعد الخطبة لم أجد حساسية في الجلوس مع يوسف وبعض زملائه من الفرنسيين.. لقد انتهوا من عملهم تقريبا وقاموا بكل ما يلزم لتجهيز الباخرة للسفر. اتفقنا آخر مرة على الالتقاء بمعبد الكرنك بعد العصر.. كانت كل الأمور مستقرة، وليست هناك مشكلات عاجلة.. اشتقت أن أقضي لحظات في حديقة المشاعر والمناجاة والحياة الناعمة.. هل يمكن أن يكون هناك تعارض بين الحب والعمدية؟.. هل ستكون العمدية ضد الحب؟..أشعر أني بحاجة إليهما معا.. لقد حققت لي العمدية توازنا كبيرا حتى أنفذ بعض أفكاري لأهل بلدي، كما أن الحب وسادة رائعة للقلب المنهك.. كلما التقيت يوسف المخلوق خصيصا لأجلي استشعرت أهمية الحب.. أهمية أن تعثر الأنثى على قرينها وصنو روحها.. فولة وانقسمت نصفين ولا يستطيع نصف أن يهنأ دون الآخر.. حكمة الله في خلقه.. لكن السؤال الأهم.. كيف يمكن لطرف أن يعثر على شريكه أو نصفه المناسب تماما مثل المفتاح والقفل؟.. المفتاح الخشبي إذا وضعناه في بيته بالضبة يعجز تماما عن فتح الباب لو انكسرت منه سنة أو انحشرت فيه لأي سبب نصف حبة قمح.. لكي تزدهر الروح لابد من الانسجام الكامل بين الطرفين.. يوسف مريح للغاية وقابل للتشكيل ومتسامح ومثقف وقلبه متأهب دائما للاستماع إلىّ..أحب أن يكون قلبه قريبا منى. يُنصت إلىّ.. يتحرك حسب نبض قلبي. قلت له:

-                     عد مرة ثانية لتزويدى بالكلمات المنتقاة من الكتب، أو خلاصات لقراءاتك وخواطرك وأفكارك.

عاد فعلا إليها وكم أسعدني هذا!.. أفكار الكتاب والفلاسفة ملهمة بشكل غير عادي..أظن أن الناس بدونها تعيش في عماء..إضاءات رائعة تلك الأقوال والحكم..خاصة أنها خلاصة تجربة العقول الكبيرة مع الحياة وليست تأليفا مجردا.. أشكرك يا رب على ما غمرتنى به.

 تواعدنا على اللقاء عند المسلة المواجهة للمدخل.. كان المعبد خاليا تماما إلا من الأعمدة والتماثيل.. استقبلنى بالزهور.. قال:

-                      تظنين أنك أول عمدة.. كنت قد زرت هذا المعبد من قبل مرتين وحدي وتأملت ما على جدرانه من رسوم وأحسب أنها رسوم لملوك قدماء.. هل تعرفين ذلك؟

-                     حدثنى خالي عن شيء من ذلك

-                     كانت بينهم نساء.. إما ملكات أو أميرات

-                     أود من كل قلبي أن أعرف معنى المكتوب على هذه الآثار

-                     سنعرفها قريبا خاصة بعد أن كشف العالم الفرنسي شامبليون سر اللغة الهيروغليفية وهي اللغة المكتوبة على الجدران وتحت التماثيل

-                     انظري إلى هذا التمثال..أظن أنه لامرأة

-                     فعلا تبدو من ملامحها وجسدها أنها امرأة

-                     وطبعا لن تكون امرأة عادية.. ملكة مثلا أو أميرة

-                     ولماذا لا تكون حبيبة؟

ضحك وقال:

-                     وارد جدا

تنقلت نظراتي بين الأعمدة.. قلت:

-                     أعمدة كثيرة جدا وعالية

-                     مائة اثنان وعشرون عمودا، ارتفاع كل منها يزيد على واحد وعشرين مترا

اندهشت وسألته:

-                     هل أحصيتها؟

-                     نعم.. الأعمدة موزعة على تسعة صفوف وواضح للمتأمل أن هناك عدة معابد في معبد واحد كبير ربما تبلغ مساحته ستين فدانا أو أكثر بما فيها البحيرة

-                     بحيرة!!

-                     نعم.. هيا معي لتشاهديها

-                     فرصة أخري

قلت في نفسى.. لم نأت من أجل المعبد.. قلت له:

-                      لم أجد معابد في القاهرة

-                     القاهرة مدينة حديثة

رفعت رأسي عاليا.. اضطررت لثنى رأسي تماما إلى الخلف.. قلت:

-                     أظن معظم المعابد في الصعيد

-                     نعم..وأكثر قرية بها معابد هي الأقصر..هناك معابد كثيرة لم أرها بعد في البر الغربي، ويجب أن نزورها معا

-                     سنفعل بعد الزواج إن شاء الله

انقطع الكلام لحظات، ثم قال:

-                     من الضروري يا حضرة العمدة وجود مركب تصل بين البر الشرقي والغربي

أظنه على صواب، لكنى قلت:

-                     البر الغربي يا حضرة المواطن غير مسكون، ولا مزروع.. الأهالي كلهم هنا ولابد من تحسين أحوالهم أولا

-                     لك أن تفخري بما فعلت.. لقد أجريت بعض التطوير المهم على شكل الحياة هنا، ولا يزال مطلوبا الكثير.

-                     التطوير مرتبط بأشياء عديدة مثل الإمكانيات المالية والحكومة كما تعلم لا تساعد بمليم بل تأخذ فقط، والأهم أن التطوير مرتبط بالثقافة والتعليم. ومرتبط بعدد السكان

-                     سيتغير شكل الأقصر تماما لو تم رفع الأتربة المتراكمة علي الآثار ومعرفة المكتوب عليها وتعبيد الطرق

-                     كل شيء بوقته إن شاء الله

تناهي إلى سمعي صوت جميل صاف ورخيم.. عصفور ملون يطير في السماء بنعومة ومزاج ويكاد يرقص على الموال. عصفور غير متعجل على طعام أو سكن.. عرفت صوت بيبرس الذي يقيم بالقرب من بحيرة الكرنك.. صوت بديع.. منحة من رب العباد وونس للعبد الفقير تغنيه عن كل شيء إلا الأنثي التي يتمناها.. أعاد مواله وكأنه يلبي رغبتى دون أن يعلم:

يا بت جَمَلك هبشني

 والهبْشة جت في العبايا

 رُمان صدرك دوشني

 وخلى فطوري عشايا

أمسك يدي وطلب أن نسير قليلا لنبتعد عن حصار الأعمدة.. مضينا نحو عمق المعبد الكبير.. قال:

-                     أخشي أن يؤثر منصبك على خططنا

-                     لا أظن..

سحب أنفاسا شجعه عليها النسيم العليل للغروب الجميل بعد أن عبرت الشمس النيل ولامست أرض البر الغربي.. قال:

-                     متى تتوقعين أن يجمعنا بيت واحد؟

لم أفاجأ بالسؤال لكننى رأيت أنه جاء مبكرا قليلا.. قلت:

-                     لا تتعجل

قال:

-                     البعثة أنهت عملها وسترحل خلال أسابيع على الأكثر

تلفتُّ حولي لأرتب كلامي، قلت:

-                     لابد أن أتأكد من حبك

-                     نعم!

-                     لابد أن أتأكد أن لا أحد غيري في حياتك ولا حتى أمك

ضحكنا معا.. قلت له وأنا أبتعد قليلا وأختبئ خلف أحد الأعمدة:

-                     لا تزال لديّ هواجس حول صدق مشاعرك

-                     بجد؟

-                     بجد

-                     ما نوع الهواجس؟

-                     كما قلت لك لا يكفينى أن تحبنى بقلبك فقط

أسرع يقول:

-                     هل للإنسان وسائل أخري للحب؟

-                     نعم.. بالقلب والعقل والأعصاب والبطن والصدر والظهر

ضحك وقال:

-                     أنا سعيد بحالتك اليوم

-                     لا أداعبك ولا أقول نكتة.. يجب أن أطمئن أنك تحبنى في صحوك ومنامك وأنت تأكل وأنت مع الأصدقاء.. بخيالك وفكرك وأنت في الباخرة وفوق الجبال

-                     بنسبة كبيرة هذا يحدث

-                     هل أزورك في الأحلام؟

-                     نعم

-                     هل أخطر ببالك وأنت مع زملائك؟

-                     معظم الوقت

-                     وهل أظهر بين السطور عندما تقرأ كتابا

-                     يحدث كثيرا

-                     وماذا تفعل؟

-                     طبعا أتخلص بسرعة من طيفك حتى أواصل ما أنا فيه وحتى لا تسوء العواقب

 دنوت ولكمته في صدره فأمسك بي وأخذني بين أحضانه واعتصرني.. عانقته ولم أحاول الهرب.. انتفض جسدي في البداية فلم يعانقنى غير أبي والنساء من كل المستويات والأعمار.. لكن الغريب مستحيل يلمس يدي.. بقيت ساكنة وحالمة ومندهشة.. رقص قلبي لأول مرة في حياتي.. حضن مختلف تماما.. شعور جديد وجميل.. شعرت ببدني يخف حتى لم أعد أحس به..عزمت ألا أتخلص منه حتى لو ظهر أبي.. استقبلت أنفاسه بترحيب وشممت عطره الفواح الذي تتخلله رائحة الخوخ.. تصورت أني نمت أو ابتلعتنى غيبوبة.. لا أعي جيدا حالي ولا ماذا حولي وأين أنا.. شعور غريب ولذيذ وناعم.. وعندما حط شفتيه على شفتى كنت لا أزال غير مدركة ما يجري.. لكنى بعد لحظات تنبهت على طعم الشفاة وما يطلقانه من لذة وما يستفزانه من المشاعر والأحاسيس الجسدية العارمة.. حالة محمومة من المتعة التي لا يجب أن يتخلص منها أحد ولا يشبع منها.. مضيت أنهل من الحالة وأتذوق القبلة الشهية ونداها الذي يتسلل إلى كل أعصابي وخلاياي حتى تراخي جسدي وأدركت أني أوشك على التداعي والسقوط.. انسحبت بهدوء واستندت على قاعدة تمثال.. التقطت أخيرا أنفاسي وكأني كنت غارقة في بحر عميق لكنى لم أفقد الوعي تماما وإن كنت قد كتمت أنفاسي حتى لا أفقد حياتي.. همس يوسف ببعض الكلمات وهو لا يزال ممسكا بيدى فلم أتنبه ولم أفهم.. جلس إلى جواري وهو لا يزال ممسكا بكفي.. بدأت أسترد الوعي.

قلت بنصف شرود:

-                     هيا بنا

-                     ألا يجب أن نتحدث عن مستقبلنا؟

همست دون قصد:

-                     لا

ضحك..

قمت وتقدمته نحو المدخل الذي بدا بعيدا.. لحق بي وأمسك بكفي.. أوقفنى وحاول تقبيلي فرفضت برقة ومضيت.. بلغنى صوت بيبرس الشجي يشدو في الخلاء لحبيبه ويستعين بكل ما خلق الله ليحافظ له على محبوبه ويبقيه دائما إلى جواره
وحق من أطلعك يا فجر متحنى
تخلى قلبى على المحبوب متهنى
سايق عليك النبى يا ليل تحوش عنى
آدى أنا والحبيب وآدى المدام والكاس
لو كنت تعرف مقام الحب يا ابن الناس
ما كنت تجرى على التفريق متعنى

لا أدري لماذا أحسست بالرغبة في البكاء.. موال جميل وغناء كنسمة في الصيف ناعم ويمس القلب، لكنى - والشكر لله - لا أعاني من علاقتنا السامية، وأسأله أن يحفظ حبى ويحفظ يوسف وتكتمل التجربة بالسعادة وتبتعد تماما عنا رياح الاختلاف.

ركب معي الكارتة ونزل قبل الدوار بقليل،..مضيت كالمسحورة. رفضت الدعوة للعشاء.. سقطت على السرير ولم أستيقظ إلا عند الفجر فصليت وصعدت إلى السطح لأشهد الشروق وأفكر قليلا بصحبة يوسف الذي ما إن فتحت عينى حتى وجدته إلى جواري في الفراش.. يمر بأصابعه الرقيقة الطويلة على خدي..

أرسلت نظراتي إلى معبد الكرنك.. سألت الأعمدة:

-                     هل أفشيت سرنا المقدس أيتها الأعمدة المهيبة؟

سألت نفسي.. ما الذي جري وكيف؟.. حاولت استعادة ما جري.. تحولت المواقف والنظرات ولمسات الأكف ونبضات القلب إلى مشاهد ضبابية

.. ماذا قلت وماذا قال ملاكي الحارس الذي عاد مجددا متجسدا في شخص الشاب المصري الفرنسي الوسيم؟.. هل تجاوزت حدودى وهل تجاوز؟.. لا يجب أن أقترف ما يغضب الله منى.. فهل اقترفت ما يتعارض والحب، هو أيضا لا يجب أن أغضبه.. علىّ أن أفعل كل ما يرضيه.. لا أظن أن ما يرضيه يمكن أن يغضب الله.. سأفعل ما يرضى ربي وحبي.. هل أجاب يوسف عن سؤالي دون أن يقصد.. هل أنا فعلا أشغل كل قلبه وكيانه؟.. وهل هو يشغل كل قلبي وكياني؟.. أظن أنه يشغل قلبي وكياني لكنه بالطبع لن يشغل مساحة كبيرة في عقلي ولا وقتى لأنهما للناس وللمسئولية ولأهلي. يبدو لي صادق المشاعر.. أدركت ذلك من لقاء المعبد.. قبل هذا اللقاء كانت العلاقة في ظنى عابرة. طعام دون دسم ولحم.. علاقة تشبه مرور عصفور من فوق شجرة أو رؤية قمر بالنهار.. علاقة تشبه صلاة بغير خشوع وتهجد.. علاقة كأنها نملة تمر على الروح..أو مثل شخص نام دون حاجة عميقة للنوم توقظه همسة، ويصحو إذا رفت حوله أجنحة بعوضة. أصبحت الآن بحاجة إليه.. هذه بالضبط هي الحالة التي كنت أبحث عنها وأجهلها..أحس بها ولا أدري ما طبيعتها.. أتمناها رغم غموضها.. حالة تشبه ملاكي الحارس.أشعر به ولا أراه ولا أملك الفرصة للمسه. أنا الآن أعرف طعم حب يوسف، إذا كان للحب طعم.. أنا الآن أعيش دفء مشاعره..أنا الآن أحسه نائما في ردهات روحي.. مستسلما لخفقان قلبي.. الآن فقط صارت لي أجنحة أستطيع بها أن أطير إلى الجنة وإلى حدائق السعادة وإلى بحيرات العشق قبل أن أبلغ غابات الجنون.

 

(24)

 البحارة والعمال ينتشرون على الباخرة يوسعونها تنظيفا وترميما. احتاجت بعض الأجزاء من أجنابها الخشبية للاستبدال.. انكب عشرات العمال لتصميم وحياكة أشرعة جديدة بالقماش الغليظ الذي يصمد لأعتى الرياح تم جلبه من إسنا، كما لوحظ أن معظم الصواري قد تحطم فقام النجارون ببناء صواري جديدة أقوي وأكثر سُمكا وحلت الحبال الجديدة محل المهترئة.. غطس بعض العمال المصريين تحت الباخرة للمرور على القاع باللمس الدقيق في رحلة البحث عن الإصابات والشروخ والاطمئنان على سلامتها، لكن العمال العشرة الذين غطسوا وذاقوا الأمرين لم يستقبلهم الآخرون على السطح بالترحيب والتصفيق بعد إنجاز عملهم بل بضحكات دامت طوال الساعات الباقية من النهار وأعيد تذكرها في مناسبات مختلفة حتى في فرنسا، فقد خرج الجميع في حالة تختلف تماما عن حالتهم قبل النزول. كانوا محملين بكميات كبيرة من الطمى حتى لا تستطيع أن تعرف مهران من حمدان ولا محسب من جبريل.

 كانت الباخرة تستقر تقريبا على الوحل إلا من بقع صغيرة من بقايا الماء الموحل. لما ضحكنا لرؤية العمال ضحكوا هم أيضا فبدت لأول مرة عيونهم وأسنانهم فزاد ضحكنا.. ها أنا حتى كتابة هذه السطور أعود فأضحك.

 كانت هناك قائمة للإصلاحات، ومنها بالطبع كابلات الخطاطيف التي تمزقت أسلاكها فقام الماليون بصحبة المهندسين بشراء أسلاك جديدة ومتينة عكف العمال على تضفيرها لتشكيل كابلات قوية وغليظة قادرة على أن تجر قرية ببيوتها وأرضها.. بعد أن تم تجديد كل جزء في الباخرة بما فيها آلات القيادة والتوجيه وكذلك القوارب الصغيرة المتبقية بعد الأزمات التي عانت منها الباخرة وهي فى طريقها إلى الأقصر، وقام العمال بطلاء الباخرة بالكامل مرتين بينهما أسبوعان هبت خلالهما رياح الخماسين فأفسدت تماما كل ما تم من تنظيف وغسيل ودهانات وتغير لونها كلية بسبب كميات الرمال التي صبتها الرياح عليها بكثافة وتواصل ليل نهار.

 عشت رياح الخماسين في مصر عدة مرات ولاحظت كم هي شديدة وقاسية، ولعلها تكاد تكون غضبة الطبيعة الوحيدة في مصر، فلم أشهد في مصر العواصف والزلازل والأعاصير التي أسمع بها تضرب كثيرا من الدول، حتى الفيضانات التي تهاجم البلاد في أغسطس من كل عام لم تضر المدن أو القري القوية ولكنها تلحق الأذي بالقري المنخفضة أوالضعيفة أوالملاصقة للنيل.

 هبت الرياح عنيفة ومفاجئة فغطت الأقصر بكاملها وكل مصر بالتأكيد بالرمال التي مضت تهاجم كل ركن وكل ثقب وكل الأماكن وتنفذ من خصاص النوافذ بل تهاجم العيون والآذان كما تهاجم البيوت والحيوانات والنباتات والترع وتصعد حتى السماء.. طوت الرياح الأقصر كاملة في دوامة من الغبار االتي حملتها من الصحراء وطارت بها مثل أمواج البحر الثائرة، وغطت كل شبر كما وزعت الكآبة على الجميع.. أدي هذا إلى شعورنا بافتقاد الأوكسيجين تدريجيا وعدم القدرة على التنفس وارتفاع درجة الحرارة، وتهيج الأعصاب بسبب نفاذ الأتربة والرمال إلى داخل الأشداق والحناجر والأنوف، ومن ثم ازداد التمخط والبصق، والشعور بالتعاسة وسَدة النِفْس وعدم الرضا عن أي شيء. لكن الحظ الحسن لا يتأخر علينا كثيرا فعمر الخماسين في مصر ليس طويلا.. أيام قليلة تعسة أعقبها سقوط مطر غسل الطبيعة وأرقد الغبار وأضاء الفضاء وبدأت في المرور علينا نسمات عليلة تطيب خاطرنا كما تُربّت على جباهنا والخدود.

 ما إن هدأت الطبيعة حتى كلف ريشار العمال بإزالة الخيام والأحبال وكذلك هدم كل المباني الطينية التي سبق وبناها العمال داخل المعبد للإقامة بها، كما قاموا بهدم أية مبان خارج المعبد كدورات المياه وغرف الحراس، ثم قاموا بتنظيف كل الجدران والأعمدة والأرضيات، وطالبهم بسرعة تشجير شاطئ النيل لمسافة نصف كيلومتر، ثم عادوا مجددا للعمل بالباخرة التي احتاجت إلى غسيل شامل ثم دهانات جديدة ومعاودة الاطمئنان على كل ما تم عمله من صيانة. وهكذا انتهت علاقة الفلاحين المصريين بالعمل وبالمسلة والباخرة ورجالها الفرنسيين، وإن لم يمنعهم انتهاء العلاقة من المرور للتحية بين الحين والحين حتى لا يشعر الضيوف بالغربة بسبب البعد والفراغ.

 عندما كانت الخماسين تهب بغضب على مصر كانت فرنسا تعيش أجواء غاضبة أيضا بسبب التظاهرات والإضرابات التي اجتاحت مدينة ليون، حيث طالب عمال النسيج بتحسين الأجور، فاضطر الجيش أن يتدخل، وانتقلت الإضرابات إلى مدن أخري ثم امتدت إلى باريس حيث انتشرت حركات العصيان التي شجعت عليها جماعات الجمهوريين الذين يعارضون الحكم الملكي، وتعاظمت بسرعة أعداد الجمهوريين الذين أعلنوا ضرورة إسقاط الملكية حتى أصبح عرش الملك لويس فيليب مهددا من جوانب عدة.

 وقد صفعت الجميع بشدة تلك الأخبار التعسة عن هجوم الكوليرا على باريس وبعض المدن الفرنسية ولم تنصرف عن الوطن البعيد إلا بعد أن حصدت من الناس نحو عشرين ألف مواطن معظمهم من الفقراء، وقد قوي لديّ الإحساس بأن الفقراء يدفعون في كل العالم الكثير من تكاليف الحياة سواء في الأمراض والمجاعات والأعاصير والزلازل والضرائب والسجون وشتى المشروعات والموت في الحروب.

 انتهاء العمل وهبوب الخماسين ثم أخبار فرنسا التى أثارت القلق أوعز إلى الملل كي يحط على النفوس، وأن يشعر الجميع أنه ليس بالإمكان انتظار قدوم الفيضان في أغسطس.. طلب ريشار من وزير البحرية أن يرسل سفينة ذات محركات كي تجر الباخرة كما أرسل خطابا مماثلا إلى القنصل العام الذي تحدث إلى الباشا، وبعد أسبوع وصل رد الباشا مؤكدا أنه سيرسل طرادا يدار بريش معدنية كبيرة تديرها مجاديف لسحب الباخرة " الأقصر " حتى الإسكندرية. لكن ذلك لم يمنع من أن يستشري في النفوس الإحساس العميق بالحنين إلى الوطن.

 أرسل عدد من الفرنسيين رسائل إلى ذويهم يخبرونهم بأنهم أنجزوا المهمة التي جاءوا من أجلها إلى مصر وقد زاروا تقريبا كل المعالم الأثرية التي تناولها بالوصف والرسم علماء الحملة الفرنسية ونشرت في كتابهم الشهير " وصف مصر "، كما قاموا برحلات صيد وعرفوا عن مصر والمصريين ما يكفي حتى لم يعد هناك مجال لاحتمال الإقامة في مصر أكثر من هذا خاصة مع قدوم الصيف الحارق الذي يبعث بكل حرارته إلى أبناء الصعيد.

 يضطر البحارة أحيانا للنزول من الباخرة ومحاولة التسلي بالذهاب إلى الأسواق خاصة يوم الثلاثاء حيث يكون معظم أهل الأقصر هناك.. السوق تمتد لمسافات كبيرة في أرض قاحلة مغطاة بالشماسي المصنوعة من القماش القديم ومربوطة أطرافه بأحبال من التيل أو السعف.. السلع جميعها معروضة على الصناديق والموائد وعلى الأرض وفوق الحمير والبغال ومعلق بعضها على فروع الشجر.. النساء والرجال يعرضون منتجاتهم وبضائعهم من اللحم حتى الكوارع والعصافير، ومن الفساتين حتى المسامير.. الطشوت التى تعرض فيها النسوة أحشاء البهائم من الكرشة والمخ ولحمة الرأس والطحال والكبدة والأمعاء مع الدهن والعظم تحلق فوقها سحابة سوداء كثيفة من الذباب والنحل والدبابير والهوام.. وفي السوق العجيبة يباع كل شيء حتى العطر ذى الرائحة العطنة التي يبدو أن بول الحمير كان جزءا من مواده الأساسية.. النداءات تعلو من الباعة والمشترون كثيرون لكن الشراء الفعلي قليل.. ولو باع صاحب البضاعة ربع ما عرض فإنه يعجز عن التعبير عن سعادته.. كنا نقف عند الوشّام الذي يرسم السباع والعصافير والفرسان على أذرع الرجال وظهور أيديهم وعلى صدورهم وعلى أصداغهم... كما نتوقف عند باعة الأحجبة المعدة للعاقر والعقيم والمجنون وفاقد الذرية والمربوط والممسوس وغاوي النسا والحاسد.. وباعة البخور والعطور والكحل والتوابل والصمغ والمسك والعنبر وباعة الزيتون والليمون والحبوب وبذور المحاصيل والخضروات والتمر وأقفاص البرتقال المجموع معظمه من تحت الأشجاربعد أن لحق به العطب بعد أن اشتري التجار المحصول العفي الذي تيحرسه الرجال وما زال معلقا على أغصانه ليكمل نضجه.. تتراص في ركن بعض ثمار البطيخ والشمام و أعواد القصب والقرع العسلي الذي يربض على الأرض كعنزات أكلت ما يكفيها من التبن والبرسيم فتمددت مسترخية.

 لفت نظري أن هناك ركنا للحلاقين به ثلاثة يحلقون للرجال والأطفال، وقد يجزون صوف الخراف والنعاج، ووبر الحمير والخيل والبغال كما يقومون بختان الصبية من الفقراء،، أما الميسورون فيفضلون أن يتم الختان في البيوت مع حفل وزغاريد وطعام يوزع على الفقراء وقد يُدعي الشاعر لإحياء الحفل بسيرة عنترة أو أبي زيد الهلالي.

 ثمة ركن على أطراف السوق لعشار الحيوانات حتى لا يؤذى الضجيج مشاعرها وشهوتها.، حيث يخصب الثور البقر ويخصب الجواد العفي الفرسة تلو الفرسة.. وهناك باعة " البُلغ " والإسكافية لترميم كل ما هو جلد. وهناك باعة للسيوف وعصى التحطيب. وهناك باعة الفخار من القدور والقلل والأزيار وباعة الأقفاص والحقائب والمشنات والمقاطف المصنوعة من سعف النخيل وهناك باعة الأسماك من البلطي والقراميط والكراكير، وهناك باعة النايات المصنوعة من الغاب، ولا يكف صاحبها عن العزف بها والغناء، وهناك الحواة يجتذبون الجميع بألعابهم وبعضها غريب وصعب تصوره، لكنهم لا يتلقون إلا الملاليم، ومثل هذا يحدث مع القرد والقرداتي الذي قد لا يحصل على مال إلا السحاتيت، لكنه يكسب طعام القرد فقد يلقي المارة للقرد القليل من الطعام الهزيل الذي يضطر القرد لالتهامه فلن يجد ما يطمع فيه ويشتاق إليه كالموز والجزر والبندق والفستق والفول السوداني إلا نادرا، لكنه لا يتوقف عن تلبية دعوات صاحبه بتقليد الفلاحة حين تصنع العجين وتمثيل نوم العازب ورقص الغوازي.

 أصبح السوق لنا مثلما هو لأهل البلد مجرد تسلية خاصة بعد أن انتهي العمل.. ترويح وفرجة وقضاء الوقت الثقيل الذي يمضي بطيئا ومحاولة الهروب من الملل إلى الملل ومن الذباب إلى الذباب، أما البعوض في الصيف فلا مجال لمقاومته إلا أن يلوذ المرء بالغرف المغلقة وليست هناك غرف مغلقة ولا يمكن غلقها إذا وجدت. على أن بعض الفرنسيين كانوا يأملون في مشاهدة أية أنثى جميلة أو ذات مسحة من جمال، وقد وجدوا ما تمنوا لكن الجمال كان مقيدا ومحتشما ومحروسا.. لم يمل الضيوف الأجانب طوال مقامهم من البحث عن امرأة تقبل الاستجابة لغواياتهم مهما عرضوا من المال.. واحدة فقط قبلت عرض جوستاف بعد حوار طويل وإلحاح وإذعانه للشروط التي لا تتناسب مع نصيبها من الجمال حتى رضيت، فاصطحبها جوستاف إلى قاع المركب، وبعد أن تأهبت لمعانقته والاستسلام له بلغتها أصوات كثيرة لشباب يضحكون بالخارج فأدركت كذبه بأنه الوحيد.. أسرعت تصرخ وهي تصعد السلم.. حاول الشباب منعها فلطمت وجهها ودفعتهم بقوة لفك حصارهم، لكنهم أحاطوها فوق سطح المركب ودفعوها للخلف، وحاولوا لمسها فتراجعت تدريجيا حتى دنت من سور المركب الحديدي، وعندما أدركوا أنها قد حوصرت ولا مفر من خضوعها وأنها لن تصرخ أيضا كي لا تفضح نفسها استدارت وبخفة غريبة قفزت وألقت بنفسها في النيل..أخذت تضرب الماء تحت ضغط الحياة والارتباط الطبيعي بها.. اضطر الشباب للقفز فوقها في محاولة حثيثة لإنقاذها قبل أن تحدث الكارثة.. وخرج ريشار وروجيه والقبطان ووجهوا سبابا مقذعا للبحارة، وما كان أيسر أن يتبرأ الجميع ويصروا على اتهام جوستاف بوصفه رائد الكشوف الجنسية الفاشلة.

 

(25)

 قطعت طريق الكباش على مهل قبل الغروب. تأملت التماثيل المردوم نصفها.. تساءلت..ما دلالة هذه الكباش التي تصطف على الجانبين و تتجاوز المائتين وتمتد لنحو ثلاثة كيلومترات بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك؟.. لابد أن الكبش ذا القرنين كان من معبودات احدي الحضارات.. تحت ذقن كل كبش تمثال لرجل لعله ملك.. كل التماثيل لملك واحد ربما كان رمسيس الثاني كما قال شامبليون.. ولابد أن هذه الكباش كانت تحيط بموكبه الذي يمضي بهيبة من النهر أو من معبد الأقصر حتى معبد الكرنك.. قال شامبليون أيضا إن معبد الأقصر كان المقر السكنى للملك والكرنك قصر الحكم.

 لمحتها قادمة بالكارتة في طريق مقوس على شكل ربع دائرة يبدأ من بيتها ويمر ببيت خالها والمدرسة ثم ينثنى يسارا ليتقدم بحذاء الكرنك حتى يبلغ المدخل الذي أقف تحت سقفه الداخلي بجوار عمودين عريضين.. دخلت بالكارتة في الممر الذي يفضي إلى أول ردهات المعبد وتوقفت الفرسة الشهباء إلى اليمين بعيدا عن العيون العابرة. استقبلتها بابتسامة وأمسكت يدى اليمنى كفها اليسري ويدي اليسري كفها اليمنى.. ابتسمت.. كانت ترتدي عباءة بنية موشاة بالقصب والتطريز الذهبي على الصدر وعلى رأسها طرحة برتقالية شفافة.. القدمان تنامان في شبشب خفيف أزرق فاتح مزين من الأطراف بخيوط صفراء.. رفعت الوشاح من فوق رأسها وقبلت جبينها.. جمعت الوشاح الشفاف في يدها وهزت شعرها بقوة فانسدل كالشلال المندفع من فوق الجبال..بدا كم هو كثيف وطويل!.. دفست أنفي في خصلاته العطرة وقبلتها في مواضع كثيرة ولففتها حول رقبتى.. قالت:

-                     لست المسئولة.. أنت الذي حولت شعرى إلى مشنقة

قلت:

-                     أجمل مشنقة في الوجود.

-                     لا تمت في الكرنك وليكن موتك في معبدي

-                     معبدك ليس للموتي بل للأحياء السعداء

-                     هل هم كثرٌ؟

-                     أنا وحدى أمثل في معبدك كل الرجال

-                     حين لا ألقاك لمدة يومين أفقد القدرة على التفكير والنظر في أية مشكلة

-                     وأنا لا أكف عن تطلعي إليك في الكتب

-                     يا بختك.. عندك كتب

-                     عيناك أهم كتبي

-                     هل تجد فيهما ما يستحق؟

-                     فيهما كل الدنيا.. فيهما السماوات والأرض.. فيهما الجمال والحب والحنان والشراسة

-                     شراسة؟!

-                     نعم

-                     الشراسة اللذيذة التي يتألق على لهيبها الهوي

-                     لم أكن أعرف أنك تجيد الكلام

-                     أستقيه من عينيك. من شفتيك. من روحك المتشوقة للحياة

أحنت رأسها وقالت:

-                     كفي يا يوسف.. طلبت لقاءك اليوم لأسألك سؤالا لم نتوقف عنده

-                     اسألي يا روح الروح

سارت متجهة إلى عمق معبد صغير مستطيل تملؤه تماثيل مقطوعة الرؤوس.. قالت:

-                     أين تحب أن يكون عش الزوجية؟.مع العائلة أم نقيم بيتا جديدا على النيل؟

تنهدت وشردت.. خرجت من البوابة الجنوبية التى تفضي إلى البحيرة.. لماذا لم نفكر في هذه المسألة من قبل؟.. بيتنا لابد أن يكون مرتبطا بعملي.. فماذا سأعمل؟.. الأغلب أن نشاطى العملي سيكون في باريس.. سألتنى:

-                     لم تجبنى

-                     يا حياتي.. عملي سيكون في باريس وعلينا أن نرحل بعد كتب الكتاب مع الباخرة الفرنسية " الأقصر ".

تغير قليلا لون بشرتها وغلب على وجهها الجمود..سافرت نظراتها إلى اللامكان. بدا الشرود ممزوجا بالحيرة.. سألتنى:

-                     ماذا تقول يا يوسف؟

-                     يا جزيرتي.. سكنى وعملي وأموالي ومستقبلي وأهلي في باريس

-                     أهلك وسكنك وعملك ومستقبلك حيث تكون زوجتك

شملنا الصمت المتوتر.. الحوار بلا أب ولا أم. حوار يختنق.. أحسست أن هناك لبسا في الفهم.. تحايلت على الموقف باحثا عن باب للخروج..سألت جزيرة:

-                     أتمزحين؟

-                      بل أنت الذي تمزح

تنهدت من أعماق رئتىّ وصدري.. وزعتُ نظراتي فيما حولي. كانت البحيرة الصغيرة تمتد أمامنا في شبه دائرة من المياه الصافية الساكنة قليلة العمق.. في الضفة الشرقية للبحيرة كانت هناك مدرجات لجلوس المشاهدين.. لعل هاهنا كانت تقام حفلات مائية.. قلت لها:

-                     تعالي نجلس على هذه المدرجات

مضت بحذائي وعندما امتدت يدي لتمسك يدها. سحبتها وادعت أنها تسوي شعرها.. تغاضيت وانشغلت بما يجب أن أقول، وإن استشعرت فجأة أننى بلا حجة كافية فلم أستقر على نشاط، ومع ذلك قلت:

-                     يا حبيبتى.. أنا مصري حقا لكن العمل في مصر محدود للغاية، ولا وجود له من الأساس في الأقصر

-                     هذه حجة كي تعيش في فرنسا على حل شعرك.. أي كما تشاء.. العمل موجود في كل مكان.. يمكنك أن تعمل بالتجارة. أو بالتدريس..أو بالترجمة

-                     مصر بلد غير ثقافي واهتماماتي تعليمية وثقافية.. فماذا أعمل في مصر؟.. كل ما قلتيه رائع لكن لا وجود له في مصر.. مصر دون أن تغضبي بلد ميت.. حتى التجارة التي تتحدثين عنها خدعة أومتواضعة لا تناسبنى العمل الوحيد المتوفر موجود في الجيش..فهل توافقين؟

-                     بالطبع لا

-                     إذن فأنت تريدين أن أعمل لديك زوجا للهانم العمدة؟

رفعت كفيها وحاولت تسوية شعرها الذي يفيض على جانبي وجهها.. قالت:

-                     واضح أنك فكرت في نفسك فقط ولم تفكر في ّ

-                     أنا لم أفكر في أي شيء غير مستقبل حبنا

-                     مستقبل حبنا مُهدد

-                     لا تقولي هذا أرجوك

-                     لو كنت فكرت في مستقبل حبنا كنت عرفت أننى لا أستطيع ترك الأقصر لأى سبب

-                     كيف خطر ببالك أن تقيمي هنا دون أن تتعرفي على العالم وعلى ناس جدد وحياة مختلفة؟..سبق أن حدثتنى عن أحلامك ورغبتك في أن تتغير الأقصر سبق أن حدثتنى عن زيارتك للقاهرة. باريس أفضل من القاهرة. باريس مدينة مضيئة وبها عمل كثير ونزهات ومجالات كثيرة للبهجة. مصر مخنوقة. حتى الإسكندرية مهملة. أريدك أن تعيشي في مكان متجدد يحرك خيالك وأفكارك

تنهدت وأشاحت بوجهها لكنى لمحت بذور لدموع وليدة تترقرق في العينين..قالت:

-                     يوسف

لم تكمل عبارتها..عادت تتنهد وبدا أنها لا تستطيع التقاط أنفاسها.. قالت في شبه أسف:

-                     يوسف..أنا لا أستطيع التخلي عن أبي المريض ولا عن أمي السمينة كبيرة السن ولا عن بركة وله ظروفه الخاصة ولا عن الأرض ولا عن العمدية ومسئولية البلد خاصة أن الأهالي هم الذين اختاروني وثاروا من أجل إزاحة عمي وتنصيبى.. أقدموا على خطوة غير مسبوقة وكان يمكن أن يتعرضوا للأذي الشديد.. ليس من المقبول أن أخذلهم من أجل الزواج

-                     يا جزيرة.. ألم تسمعى كلامي عما أتمناه لك؟

-                     شكرا لأمنياتك وأحلامك لي ولك، لكننا لسنا في الدنيا وحدنا.. نحن جزء من تركيبة اجتماعية متماسكة تعتمد على بعضها ويحمل كل منها الكل.

مر أمامي خنفس أسود كبير.أدركت أنه يزدرينى إذ صعد فوق حذائي دون أن يعبأ بي.. عزمت على دهسه.. الضوء يتأهب للرحيل. لعله عائد إلى بيته وأهله. تركته يمضي.

لاحظت انشغالي عنها. تركتنى فجأة وسارت خطوات في اتجاه الكارتة.. ثم توقفت وقالت:

-                      فكر أولا فيما قلته، ربما تكون معذورا لأن ظروفي التي حدثتك عنها لم تخطر ببالك،أو لعلك لم تتأملها بصورة كافية،.. عُد إليها الآن وقلبها في عقلك وقلبك ثم نلتقي فسوف نجد ما يستحق المناقشة

-                     انتظري يا جزيرة.. لم نكمل كلامنا.. ابقى لنفكر معا

غذت السير ولم ألحقها. أحسست بثقل في قدمىّ ورأسى..عندما وصلتُ إلى حيث تركت الكارتة كانت قد اختفت.. سرت على مهل.. لا أكاد أتحكم في حركة قدميّ غير المستقرتين على الأرض.. أشعر أني أجوف.. كلى أجوف.. عقلي وقلبي وبطنى.. رفعت إلى السماء رأسى أبحث عن القمر الذي كان فوقنا يكافح الضوء منذ قليل. عثرت عليه وكان مسحوقا تحت غيمة غبية وثقيلة تتبعه بإلحاح وتكاد تحاصره مُصرةً على ركوبه والنيل منه. بدا شاحبا ومنهزما.

 

(26)

 فكرت في كلامها. وجدته يمثل بالفعل عبئا عليها.. ثورتها مشروعة لكنها لا تخصنى ويتعذر الإذعان لها أو قبولها كأسلوب حياة.. علىّ كرجل أن أقود أسرة وأكون قد المسئولية..لابد أن يكون لي كزوج عمل يناسبنى ويناسب مواهبى وعلمي وخبرتي.. على الأقل إذا لم أجد أي عمل في الحياة العامة فالجيش في انتظاري ولا أرغب في العودة إليه..أكره الأوامر ونظام السمع والطاعة الذي لا يطيقه غير العبيد.. كيف أقبل أن أكون مجرد زوج؟.. رجل يأكل ويشرب ويعيش على حساب زوجته حتى لو حرصت على أن أتولي كامل النفقة فمن أنا؟.. إذا سألت شخصا عمن يكون.. سيذكر لك عمله ومكانته الاجتماعية.. فمن أنا؟.. لا شيء.. عاطل يقيم إلى جانب زوجته في الأقصر. لن أقبل مطلقا ولن أخضع لرغبتها مهما كنت أحبها.. حبي ليست مهمته ليّ عنقي ومحو شخصيتى ووضع نهاية قاتلة لكل مستقبل أفكر فيه.

 قلت هذا الكلام عندما دعاها ودعاني خالها الأستاذ رمضان.. أوضحت وجهة نظري ورفضتها جزيرة بإصرار غريب.. أكدت لها اقتناعي بوجهة نظرها.. ختمت كلامى للأستاذ رمضان:

-                     واضح أستاذ رمضان أننا لن نلتقي مع أننى من جانبي أقدر ظروفها وهي على العكس لا تقدر ظروفي، لذلك أتصور أنها إرادة الله أو كما يقول أهلنا: لا يوجد نصيب رغم توفر المشاعر الطيبة والتفاهم والعوامل المشجعة.. الزواج قسمة ونصيب وأتمنى لها السعادة والهناء

دعاني الأستاذ رمضان هامسا لمعاودة التفكير:

-                     لابد من حل وسط.. نقاط الاتفاق بينكما أكثر بكثير من نقاط الاختلاف

قمت ومضيت إلى الباخرة.. جلست صامتا بين الأصدقاء.. بعد دقائق سألنى روجيه عن أخبار ارتباطي بالعمدة.. أوضحت له الموقف بالكامل وختمت بقولي:

-                     معنى أن توجد أسباب كثيرة وعميقة تفرق فلا يمكن أن يتم الزواج حتى لو جمع الشابين الحب الكبير ومهما عمل القلبان على تذليل العقبات

سألنى ريشار:

-                     حسب كلامك تبدو المشكلة عندك وليس عندها بدليل أنك تتعاطف مع ظروفها لكنك لا تستطيع أن تستسلم لها وتتخلي عن كيانك الشخصي وهذا حقك

قال روجيه:

-                     وحقها أيضا

استطرد ريشار:

-                     إذن المطلوب أن تجد عملا تطمئن إليه بصرف النظر عن الدخل.. عمل يتوافق مع فكرك وثقافتك وعلمك

أسرعت أقول:

-                     بالضبط

-                     هذا ممكن ولكنه يحتاج إلى وقت لتجهيزه أو العثور عليه

-                     نعم

تدخل القبطان وقال:

-                     إذن كنت تغرق في الحب بالتدريج متناسيا مسألة العمل على أساس أنها يمكن أن تسافر معك إلى باريس ويكفي أن تعرض عليها هذا لتوافق على عرضك وتفرح به فسوف تري بلادا متقدمة وعوالم أخري

-                     نعم

هنا قال روجيه بثقة:

-                     لديها الحق أن تتهمك بأنك لم تفكر فيها وفي ظروفها

-                     يا دكتور لسنا الآن بصدد من لديه الحق.. نحن بإزاء موقف محدد وهو أني لن أقبل بزواجي وبقائي عاطلا في مصر، ولا أقبل أن أعمل لا بالزراعة ولا الصناعة ولا التجارة.. لن أعمل في مجال لا أجيده أو لا أحبه

سأل القبطان:

-                     فماذا تحب من عمل؟

-                      أظننى أميل لدراسة الآثار المصرية

فجأة توقف الجميع عن الكلام.. ساد صمت كئيب..اعتقدت أنهم حزانى لأجلي.. المودة بيننا عميقة وهم يحملون لي مشاعر طيبة وأكدنا في ليال كثيرة أهمية أن نتواصل ونترابط عندما نعود إلى باريس.. بعضنا اقترح تكوين جمعية اسمها " رابطة الأقصر الفرنسية " تبدأ بعضوية المشاركين في البعثة وينضم إليها كل محبي مصر والآثار المصرية ومحبي الأقصر..

سوف يكون أول من نعرض عليه الانضمام عالم الآثار الشهير شامبليون.. الصمت طال وامتد أكثر من اللازم.. قلت لهم:

-                     سألتموني لكنكم لم تعلقوا ولم تنصحوني بما يجب عمله

عاد الصمت يهيمن وانحنت الرءوس.. سألت:

-                     ثمة شيء تخفونه عنى

قال روجيه بعد لحظات:

-                     رحل صديقك

تفجر في قلبي رعب غامض.. حدّقت فيهم.. لم أستطع أن أسأل عن الصديق الذي رحل.. خشيت على نفسي من كارثة.. قال روجيه:

-                     عالم الآثار الشهير

ضربتُ كفي اليسرى بقبضتى اليمنى ورفعت رأسى إلى السماء بحركة لا إرادية كأني أطلب العون من رب السماء والأرض ضغطت على أسناني قبل أن أصرخ:

-                     مستحيل!.. توقيت غير مناسب.. أستغفر الله.

قال روجيه:

-                     تعلم أنه كان يعاني من مرض السكر وكان قد أصيب بالسل

تنهدت وقلت:

-                     شاب صغير يموت في الواحدة والأربعين والعالم كله ينتظره

سادت لحظات صمت معتم ومحتقن.. قال القبطان في نبرة مشوبة بالسخرية:

-                     هل هذه طريقة المصريين في الحزن على الراحلين حتى لو كانوا عظماء؟.. شاب صغير.. العالم ينتظره.. مستحيل!.. توقيت غير مناسب

نظرت إلى القبطان نظرة جعلته يحمد الله أني لا أحمل مسدسا.

 تركتهم وأسرعت إلى الغرفة..ارتميت على السرير.. سالت دموعي بغزارة.. قبل أن أعرفه ومنذ اكتشف الهيروغليفية وأنا أقدره وأعتز به كفرنسي عاشق لمصر وللعلم.. بخبطة واحدة قفز إلى المقدمة.. أسس الكوليج دي فرانس مؤخرا كرسي شامبليون للآثار المصرية.. لا يجب أن يموت أمثاله.. عادت الدموع تنهمر أكثر من ذي قبل. فجأة تنبهت أن ثمة سبب شخصي لبكائي..هل أبكي عليه أم أبكي على نفسي؟!!.. هل دموعي وجبل الأسى الذي يحط ثقيلا على صدري حزنا على ضياع المعلم الذي كان يمكن أن يأخذ بيدي لأبدأ طريقي في المجال النادر؟ أم هو حزن خالص من أجل العلم والعبقرية؟

 قال لي الشاب العبقري المجنون:

-                     وأنا في العاشرة أتقنت اللغة اليونانية وكذلك اللاتينية، واستطعت أن أعمل على تأليف معجم للغة القبطية في السابعة عشرة

سألته عند لقائي به ومرافقتى له إبان زيارته لمصر قبل أربع سنوات:

-                     متى كانت بداية اهتمامك بحجر رشيد؟

دار حول نفسه دورة ثم قال:

-                     قليلون من يعرفون أن حجر رشيد في متحف لندن بعد أن اختطفه الجيش الإنجليزي من مصر، وأننى لم أشتغل على الحجر إلا من خلال صورة أعطانيها أحد كبار القادة الفرنسيين وكان يحتفظ بها في مجموعته، وكنت في نحو الخامسة عشرة. امتدت محاولاتي لمعرفة اللغة الهيروغليفية لأكثر من عشر سنوات خاصة أن بعض الحروف لم تكن واضحة.

 أدهشتنى كلماته بالفعل.. أمثاله هم الذين يصنعون العالم والمستقبل.. تسلل إلى بدني الخمول واليأس..أوشكت على التحلل.. جفت دموعي وبقيت آثارها على خديّ.. لم أحس أن نوما عميقا غيبنى.

بعد ساعات تنبهت على صوت قطرات من الماء تسقط قريبا من رأسي. قطرة تتلوها قطرة. لكل منها صوت يسقط على جزء خشبي من السرير يدوي في الليل الساكن..هل السماء تمطر؟ الفجر يوشك على البزوغ. أسرع البورص يجري فوق صدري متجها إلى الجانب الآخر باتجاه الحائط. فزعت فقد كان كبيرا. اختفي. أعرف صوت البورص. تلك القطرات التي اقشعر لها بدني. حدثنى عنها أحد أبناء أسوان الذي انضم إلينا في المدرسة العسكرية.. اكتملت إفاقتى.. تلال الحزن والأسي متغلغلة في روحي وتمثل ثقلا في رأسى.. قلت لنفسي:

-                     بدلا من مواصلة البكاء على القدر الذي لا يجب أن نبكي لطرقاته العنيفة والصادمة علينا أن نفكر فيما بعد هجمته الشرسة.. لا أدري السر في أننى كلما واجهت موقفا تعسا أطلت برأسها الحشرات..إذا كان شامبليون قد رحل وترك فراغا مؤكدا في مجاله فلماذا لا أفكر في أن أحل محله؟.. نعم.. لست قطعة لحم جامدة، ولا أنا شخص خال تماما من المواهب..أظن أن لديّ ما يستحق أن يلتفت الناس إليه بعد أن يُرفع عنه الغبار المتراكم.. هل أنا واهم؟..لا..أنا مثل الآثار المصرية المردومة تحت الركام والحطام والزمن الميت وأكداس النسيان والجهل.. لن تري النور ويدرك العالم عظمتها إلا بعد رفع هذه الجبال التعسة من الغبار والتجاهل.. لابد أن ينشغل بها أحد وينبه الناس إلى أسرارها التي لم تكتشف بعد.. استطاع شامبليون أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بجهد علمى وحيد ومُركز وهو اكتشاف معنى اللغة المصرية القديمة.. لغة الملوك والمعابد.. أظن أني مثل تلك الآثار.. لقد كان شامبليون عبقريا ومجنونا، وأنا لا هذا ولا ذاك، لكنى ذو إرادة وطموح فهل يكفيان؟.. وهل يمكن أن يفجرا العبقرية؟.. تذكرت فجأة أن روسي عالم الآثار الإيطالي توفي منذ شهرين منطرحا في الصحراء والضباع والطيور الجارحة تنهش لحمه.. لابد أن الظمأ بلغ به حدا بعيدا حتى سقط وسوته الحرارة الشديدة.. ومنذ أيام رحل العبقري شامبليون..ماذا يعنى أن يموت علماء الآثار بسرعة؟.. أرجو ألا تكون ظاهرة.. لا.. لن يؤثر هذا على ما أفكر فيه وأسعى إليه...ربما كان موت شامبليون مشجعا لي على الاندفاع في التجربة.. لابد أنها رسالة من السماء. من لا يتنبه إلى لغة الرب سوف تفوته الفرص الذهبية. يجب أولا أن أتفرغ للعلم والدراسة والبحث والتأمل وزيارة الآثار.. يحتاج الأمر إلى عدد من السنوات سوف تبدأ في اليوم الأول الذي أصل فيه إلى باريس.. سوف أصبح شامبليون آخر.. جوزيف روبير البقلي سينجز ما يفوق إنجاز شامبليون.. فوداعا للدموع، وأهلا بالعمل.. لقد وجدتها.. وجدت البوابة الملكية التي تفضي إلى المجد.. وداعا للحزن ووداعا للزواج.. سامحينى يا جزيرة.. أيتها الغالية. العطاء المذهل والمجد أهم ما في الوجود.. لا يجب أن أعيش حياة القطيع.. ثمة مهمة تدعوني بإلحاح إليها..المستقبل ينتظرني بشغف.. أتمنى أن أكون على قدر أمله فيّ. سوف أعمل بدأب وفي صمت وأسعى بإصرار وجسارة نحو الغاية الأسمى.. مجددا سامحينى يا جزيرة.

 

(27)

 تحركت الباخرة من مرسي الأقصر فجر الخميس الأول من إبريل عام 1832.. كان فجرا رماديا محملا بالضباب ولا أثر فيه للندي.. الضوء شحيح.. الأفق مكتوم..لا تمسح على الوجوه نسمة.. الصباح يبدو مختلفا تشوبه مسحة من الجمود ولا أريد أن أقول نفحة من التعاسة..المياه في النهر منخفضة وتكاد الباخرة تزحف على الطين. ما كان بالإمكان أن تتحرك من مربضها لولا الطراد ذو الريش الذي أرسله الوالي لسحب الباخرة حتى الإسكندرية.. لم أحاول أن أنظر إلى الأقصر أو أودع معالمها من النخيل والأبراج والمعابد والحمير والصمت المجلل بالمهابة.. حتى لو حاولت الالتفات إليها فلم أكن لألحظ شيئا.. كل المعالم تقريبا مختفية خلف ستارة غليظة من الضباب.. لم ألمح رجلا واحدا يتوجه إلى حقله ولا امرأة تتجه إلى طلمبة المياه.. تآمر ناس البلدة جميعا على سفري فلم يكلفوا خواطرهم حضور لحظات ابتعادي.. كان بيننا عيش وملح طوال ثمانية أشهر.. ما هذا الكلام الخالي من المعنى والطعم؟.. لماذا تلتفت إلى الوراء ولو لمسافة قصيرة.. أنت حددت مصيرك، وتحولت للنظر بكل جوارحك نحو الشمال.

 انتهى العمل منذ ثلاثة أشهر ونحن نعاني في الأقصر من الشمس العفية التي لم يؤثر فيها قدوم موسم الشتاء، ونعاني من الملل والانتظار.. الغريب أن وزير البحرية الفرنسي نصحنا بالاستمتاع بوقتنا والتمهل حتى يصل الفيضان وترتفع المياه في النهر العجوز في أغسطس.. يريدنا أن نبقي خمسة أشهر أخري.. طلب القبطان وريشار من القنصل العام الفرنسي التحدث إلى الوالي بشأن ضرورة توفير سفينة صغيرة وقوية لجر الباخرة في النيل حتى البحر المالح.

 أيا كانت حسابات الربح والخسارة فقد كانت مهمة تلك التجربة التي عشتها في الأقصر.. لا أظنها ذهبت سدى. تعرفت على أعضاء البعثة وهذا مكسب كبير وتعرفت عن قرب على شامبليون الذي رحل بقسوة..تعرفت على بعض المعابد ومعالمها الرائعة التي تحتاج إلى عمل كثير ومنى أنا بالذات.. تعرفت إلى جزيرة وأهلها.. لكنها المرة الأولي التي كذبت فيها.. كان بالفعل هناك جندي في البحرية معي في اليونان سمعت زميله يناديه واسمه مدثر.. لم أعرفه ولا تعاملت معه..لا أدري السر في أني أسفت لأن أباه يعاني من مرض ثقيل أزاحه عن منصبه كعمدة وألزمه الفراش وأحاطه بالتعاسة.. العائلة التي كانت كما أجمع الكل ملء السمع والبصر انكمشت وتحللت. مات الكبير ومرض الأب ولديهم ولد شبه أبله وبنتان أخفاهما الزواج وبقيت وحدها جزيرة. ما السبب في أني فكرت في مساعدة هذه الأسرة؟!.. لم أجد ما أقدمه لها غير أن أحاول مساعدة الأب.. جمعت وأنا في الأقصر بعض المعلومات عنه وهيمنت على ّ فكرة أن أحكى له شيئا طيبا عن ولده فقد يتعافي. فكرة إنسانية بحتة، وقد حققت بعض النجاح.. لم تكن جزيرة قد لفتت نظري إلى درجة الركض وراءها.. كان ذلك من أجل الرجل الطيب.. سلمت عليه منذ أيام واعتذرت عن عدم قدرتي على البقاء في الأقصر دون عمل ورفض جزيرة السفر معي.. كان واقفا وشامخا وحزينا لفراقي ولأول مرة تسحق يده القوية يدي.. جرني إليه وعانقنى بصدق شديد ومحبة عميقة.

 قلت:

-                     لن أنساكم

انتظرتها طويلا وكانت في جولة.. لمّا وَصَلت لم تسلم على ّ

قالت لأبيها فقط:

-                     السلام عليكم يا أبي

قال لها:

-                     يوسف خلاص.. مسافر

مضت إلى الداخل كأني غير موجود وكأن أباها لم ينطق بكلمة..

ألقيت وراءها كلماتي حتى تسمعها:

-                     لن ننساكم

لم تعلق أو ترد أو تصفع الباب، أو تكسر ورائي القلل والزير..

حدقت في مياه النهر البعيدة الموحلة.. سألتها:

-                     هل أعجبك تصرف جزيرة؟

 صعدت بعض الأسماك الرمادية فوق الماء ورقصت رقصة مقتضبة وناقصة ثم اختفت.. سألتها مجددا فأطلت سمكتان برأسيهما ثم اختفتا.. سألت من جديد فلم يهتم كائن في الوجود بسؤالي ولا بحالي.. اعتدلت وتطلعت إلى الشمال.. كان الضباب قد تلاشي وانفتح الأفق، أحضرت كتابا وورقا وقلما وكرسيا وكوبا من الشاي.. جلست لحظات أبحث عن النغمة المناسبة لروحي الهاربة.. أشفقت علىّ بعض الطيور الصغيرة، حوّمت حولي.. دنت منى ولمّا لم تجد حَبا أو فتات طعام أو بقايا خضرة رفرفت وابتعدت.. وعدتها أن أتذكرها و أجهز لها الطعام عند الغداء.

 كانت خطة السير الملاحي تتطلب قضاء استراحة في القاهرة لمدة يومين لمراجعة الصيانة للباخرة وللطراد الذي سيتابع رحلته معها حتى البحر الأبيض.. المقربون منى بين أعضاء البعثة يعرفون أني سأنزل في القاهرة لنقل أمتعتى من شقة أمي في الغورية ومقابلة خالي واستئذانه في السفر على أمل العودة بعد عام أو عامين.

 الباخرة تزحف كسيدة سمينة.. حملها ثقيل.. المسلة المتوجة تتمدد مثل نخلة هائلة تشغل كل سطح الباخرة تقريبا.. حوت حجري اصطادته البعثة من أعالي البحار.. حوت لا يموت أبدا.. حوت لا ينتج اللحم لكنه ينتج الحضارة والجمال.. اللحم يفيد البدن أحيانا ويكتم على نفس صاحبه أحيانا أما المسلة فترتقي بصاحبها وبلدها والبلد التي تنتقل إليه.. المسلة منارة تضيء للعالم طريق الخلود.. المسلة عنوان الرشاقة. شقيقة السيف لكن السيف دوره الوحيد القتل. إذا نظرنا إلى الهرم فعلينا تصور أنه مسلة لكنها مضغوطة.. النخلة شقيقة المسلة وبرج الحمام والأبراج عموما.. كان الإنجليز والإيطاليون أسبق من الفرنسيين بنقل مسلات مصرية إلى بلادهم.. عدت إلى المسلة الممددة باعتزاز وشموخ..شعرت بالغيظ والعجز لأني تأملت طويلا الكلمات المكتوبة على بدنها الحي وقاعدتها السامقة فلم أفهم.. من الذي سوف يساعدني بعد أن رحل المكتشف؟.. هل حقا انتهيت في تفكيري إلى أن دراسة الآثار سبيلي؟.. أظن أنها فعلا هي الأنسب والأقدر على تحقيق مكانة بوصفها مجالا بكرا.. أخشي أن يكون هدفي المكانة لا العلم.انقضى النهار كله بلا أي حوار بين الشباب كأنهم غرباء تماما ولا يعرف أي منهم لغة الآخر.. منهم من نام طويلا ومنهم من قرأ كثيرا ومنهم من انكب على الورق يسجل خواطره وذكرياته ويومياته. ومنهم من قضي أغلب الوقت مع جسده ينزع الشعر ويشذب الشوارب ويقص الأظافر ويستحم ثم يستحم كأنه سيدخله بعروسه الليلة.

 بعد منتصف الليل صحوت علي همس نسائي.. دهشت وخرجت من الغرفة.. كانت المسلة مستغرقة في نومها ولا أحد على السطح.. الجو بديع..نسمة برد خفيفة ولطيفة تشجع على اليقظة والغناء.. تمددت إلى جانب المسلة.. تطلعت إلى السماء.. صفحة سوداء شاسعة تنقشها ملايين النجوم التي تشبه حبات اللؤلؤ المرصعة على فستان أسود لسيدة ضخمة الجثة.. لمحت طائرا يحوم عن بعد.. هل تحلق الطيور في المساء العميق؟..لا أظن.. أخذ الطائر يدنو ويكبر حتى استوي امرأة حطت على سطح المركب على بعد أمتار.. نهضَت.. تقدمت منها.. تراجعت حتى سكنت في ركن وأسندت ذراعيها على السور الحديدي للباخرة. تعرفت إليها.. كانت جزيرة.. منكسة الرأس مرسلة الشعر.. عابسة.. تلف وشاحها مطويا حول رقبتها.. سألتها:

-                     ما بك؟

لم تجبنى.. تحسستُ ذقنها ورفعتُ وجهها الذي لم يهب حزنها بجماله.. قالت:

-                     أبهذه البساطة تغادر؟

-                     ليس هناك ما يدعوني للبقاء

-                     الحب

لم أجد في نفسي حماسا للتعليق..عادت تسأل:

-                     ما الأهم بنظرك.. الحب أم العمل؟

اضطربت.. سؤال مهم وحرج.. الحب أحيانا يكون الأهم وأحيانا العمل.. اكتشفت الآن أن الحب فعلا يستحق الترجيح ليس بمعنى الأهمية فقط ولكن أيضا من حيث الترتيب الزمنى.. لا.. ليست الحسبة على هذا النحو على الأقل في حالتي.

تنفست من أعماقي وتحولت عنها لأنظر إلى المسلة التي استشعرت أنها تتنفس وصوت تنفسها كالفحيح..أقرب إلى مياه تغلي. انحنيت بخدي على المسلة.. لا يزال هناك ذلك الفحيح الهامس. ربتُّ على الحجر الجرانيتى الذي استشعرت له طراوة ورقة ونبضا.. هدأ الفحيح تدريجيا فتحولت إلى جزيرة.. تنقلت بنظري في أرجاء المكان فلم أجدها.دُرت حول الباخرة. لا أثر لها. شعرت بخدر في عينىّ. دخلت الغرفة واستسلمت للنوم واستبعدت ما رأيت وما لمست. مجرد هواجس أو بقايا أفكار وهموم مشردة بأعماقي المضطربة.

 لماذا هجرني طيفها بسرعة؟.. هل يريد أن يشعرني بأنى تخليت عنها فتخلت؟.. هل حقا تخليت؟.. فجأة نسيت الحب.. بسرعة تجاهلت اللحظات الجميلة.. كثيرا ما قال جدي:

-                      الأنثى الطيبة والمطيعة ثروة، أما الأصيلة الجميلة فهي كنز

سألت نفسي:

-                     أي النساء جزيرة؟

أجبت:

-                     جزيرة أكثر من هذا

سألتنى نفسي: ولماذا تركتها؟

لم أجبها، فقالت: لتبحث عن نفسك

هل حقا تركتها لأبحث عن نفسي؟.. لا..كيف أتركها بحثا عن نفسي وهي نفسي؟.. جزيرة شخصية نادرة.. الظروف هي التي تحُول بيننا.. ماذا أريد؟.. واجه نفسك.. سوف تعجز تماما عن مواصلة العمل دون زوجة ودون أسرة، ولا تنس أنك كبرت.. لابد من الأنثى وإن طال الزمن، وإذا عزمت على العمل بالآثار فلابد من مصر وإن طال الزمن.. وجزيرة في مصر ومصر في جزيرة.. الأنثى التى تملك عليك قلبك وفكرك يمكن أن تلهمك الأعمال العظيمة.. يمكن أن تكون دافعك ومعينك وسندك لتتفوق.. جزيرة أنثى محبة للحياة والناس ولن تعوقك بل ستكون المحرضة والمشيرة لفتح الآفاق. هل يمكن أن تتزوج ثم تنطلق؟.. لا شيء يمنع.. شهر واحد يتأخر فيه مشروعك لكي ترسم خريطة مستقبلك الاجتماعي والعاطفي ثم تتنقل بين فرنسا ومصر.. بين العلم والرؤية.. بين الكتب والآثار.. بين الماضي والمستقبل حتى يتحول الماضي إلى مستقبل. الخلاصة.. الزواج وهو تجسيد للحب لن يحتاج إلا لشهر والعلم والعمل يحتاجان إلى سنوات.. أيهما أهم؟.. كلاهما مهم.. على فرض تساويهما في الأهمية فأيهما الذي يسبق؟

 

(28)

 أهكذا فجأة تهجر عشك؟!.. أبهذه البساطة تتخلي عن أثمن ما تملك؟!.. هل كان حبك شجيرة نعناع تأخرت عليها نقطة ماء أو مرت عليها نسمة فأسرعت بالذبول.. هل كان حبك مخلوق من فرار ورمال وضباب؟.. هل شكلت حبك على هواك؟

 أمررت بنا فقط لتسأل عن اسم البلد وموعد الفيضان ولون الشفق، ثم امتطيت جواد الرحيل؟.. ألم تتنبه نفسك إلى حال من مررت بهم؟.. ألم تسألك نفسك عمن تعلق قلبها بك ورَعَت حُبك وزرعت ملامحك في قلب روحها؟.. أما سألت نفسك عن شعور تلك الشابة التي رأت فيك حلما وسفينة وأملا وغدا ملهما وجميلا لا يناسبه غير التحليق بأجنحة الحب والثقة والأشواق التي لا تعرف الذبول مهما تعرضت للحرمان.. قوتها فيها وهي نبع الخلود.

ها هي الكائنات من حولي تنتحب.

 أما علمت أننى بقيت أغزل ثوب الزفاف شهور طويلة حتى يليق بك؟.. أما علمت أنك كنت البوابة الوحيدة للبهجة والأنس والدنيا جميعها؟. كانت السماء من أجلك قد بدأت تمطر قطرات خفيفة تكفي لإيقاظ روحي الظامئة وترقيع أطرافها المتشققة..كنتُ كالبومة فوق شجرة عجفاء هجرها النماء فتحطبت حتى جئت أنت فَحَولتنى إلى بلبلة لا تعرف غير الشدو والغناء.. ها هو النخيل من حولي ينتحب.

 ألم يخطر ببالك أني قد هيأت نفسي كي أفنى فيك عشقا وولعا؟، فإذا بك مجرد خطوط بيضاء على صفحة النهار فلا تكاد تترك علامات تدل عليك فأتبعك حيث تكون؟.. وما كان مرورك بي إلا سيرا على الماء لا يذكره النهر الهادر؟.. هل كل ما خلفته وراءك من آثار لا يتجاوز ذكري لقاءاتنا في الأماكن المنعزلة؟.. ألا تشعر بالخزي إذا أنت سألت نفسك عن جدوي أيامك التي حرثتها وبذرت فيها بذور المحبة فاخضرت قليلا ثم انسحب منها الجمال والندي والنضرة الواعدة؟.. أكنت وهما وحلما وإشارة أم أملا وشوقا وعشقا وروحا تمسح عن القلب صدأ الأيام التعسة؟..أيها كنت؟

هاهو كل شيء من حولي ينتحب.

 اسأل نفسك ولا تندم على رجل لم تكنه يوما.. اسأل نفسك عن زهرة روحك التي استطاعت عبر أيام خاطفة أن تحيل الكون حديقة فواحة العطر دائمة الابتسام لا تكف عن الفرح.. اسأل نفسك عما صنعته بي وقد أشرق قلبي بحب الحياة والناس والكتب، وهام بالجمال والأطفال والطيور والقمر. اسأل نفسك ماذا أصنع وقد صرت غير ما كنت عليه؟.. ماذا سأفعل بما أنبَته في أعماقي من تصورات عن المستقبل والحياة والنور ومعاني التسامي والسرور. أنا لم أعد أنا.. لقد أطلقت أجنحتى إلى السماوات لأحلق فكيف لي أن أعود إلى الأرض لأعانق ذرات الغبار والجدب والسكون والوحشة والذبول؟..أي ذنب جنيت أنا، وأي إثم اقترفته أنت؟.. فكر.. فكر، فكل شيء من حولي ينتحب.

 أخشى عليك مما صرتُ إليه.. هل تعلم أني تخليت عن محاولاتي البدائية الساذجة لتذكر ملامحك؟.. وهل تعلم أنني عندما حاولت مرات تذكرها اكتشفت أني نسيتها وانمحت من الذاكرة وأخشي قريبا أن تتعمق ثقتى ويقينى بأنك لم تكن موجودا أصلا. هل تعلم أني صحوت بالأمس فإذا وجهى غارق في الدموع المتبقية من كوابيسي المحتقنة؟

كم هو بشع أن يضيع الحب!.. كم هو بشع أن يختطف روحك من بين ضلوعك كائن بري مجهول وغريب التكوين!.. كم هو بشع أن تهرب من بين يديك الدنيا بكاملها والأحباب والحدائق والسماوات وتنسحب الأرض من تحت أقدامك فجأة لتصبح وحيدا في صحراء ليس فيها غير الرياح والغبار والقحط!!.. هذا بالتأكيد ما يعنيه افتقادك للحب الذي كنت على وشك أن تباهي به العالم. لقد أدركت مؤخرا فقط أن الحب هو الكنز الحقيقى والثروة التي ليس بعدها ثروة، وهو الذي يجعلك قويا وعزيزا لا تشكو من الحرمان

ولا تطمع في أي شيء إلا أن تقيم إقامة كاملة تحت شجرة الحب الظليلة.

ها هو كل شيء من حولي ينتحب.

 

(29)

 صرخت جزيرة عندما رأتنى فوق الجواد البنى ذي الجبهة الشقراء.. كانت تصعد لتستقل الكارتة أمام الدوار.

نطقت اسمى بحنان ونعومة واشتياق معتق:

-                     يوسف

ابتسمتُ وتبدلتُ..خفق القلب الذي كان معلقا بخيط رهيف.. قلت من قلب قلبي:

-                     عيون يوسف

-                     أهون عليك تسيبنى؟

-                     استحالة يا روح الروح

عانقتني وغمرت وجهي كله بشفتين محمومتين ورغبة مرتعشة بالشوق واللهفة ثم سالت دموعها وهي تتمسك بي بقوة. ضممتها باشتياق وتنهدت. ثم تنبهت للطريق فأخذت برأسها وقبلت جبينها..أفاقت وجففت منابع الدمع الأسيان. أسرعت تخفينى عن الطريق وتجرني حتى أدخلتنى الدوار.. لمحت الجواد يتسلل متهاديا نحو الفرسة الشهباء..هبّ أبوها واستقبلنى بين أحضانه..ترقرقت في عينيه الدموع وسرعان ما قبض عليها ولم تفلت منه إلا دمعتان لؤلؤيتان كبيرتان. لا أدري ما الذي أخرج الحاجة كاملة.. تنهدت من أعماقي.. شعرت أنني في المكان الصحيح والمريح الذي يحتضن الروح ويُربًت عليها ويهمس في أذني قائلا:

-                     لا تشغل بالك بشيء.. سلم نفسك لله وللحب وللبساطة والناس الطيبين.

ها هنا مكاني الذي لا مكان لي غيره..ها هنا جذوري وبقية عمري وأسرتي وكل ما أنتمى إليه وينتمى إلىّ.. قلت:

-                     لن أترك جزيرة

طفرت الدموع من عيون الحاجة كاملة وتبعها الحاج حكيم ثم تبعتهما.. منعت جزيرة نفسها ثم أجهشت فاندفعت إلى الداخل.. تفوقت على الجميع وأسكتتهم زغاريد هنومة ورقية.. لحظات وعادت جزيرة وقد مسحت دموعها وبقيت عيناها الحمراوان.. قلت:

-                     هل يمكن أن نتزوج بعد أسبوع على الأكثر؟

قال أبوها:

-                     ممكن

ارتبكت جزيرة واحمر خداها وقالت بصوت منخفض:

-                     صعب

ضحك الجميع وعادت المرأتان تزغردان.. قلت مداعبا:

-                     جزيرة

أدركت جزيرة شبهة التهديد بالغضب فقالت بدلال:

صعب يا يوسف

قال أبوها ونبرة الفرح تلاحق كلماته:

-                     ستتزوج الليلة

-                     شكرا ياعمي.. بعد أسبوع

قال بحسم وحنان:

-                     انتهينا.. ستتزوج بعد أسبوع.. هيا ضعوا خطتكم ونفذوها،وأنا مستعد لأية تكاليف. العشاء يا رقية.

 ظهر بركة.. سلم علىّ.. قال:

-                      رأيت المسلة تهرب من المركب وتسبح فوق الماء وهي الآن تقف على باب المعبد كما كانت بجوار أختها

جذبنى من ذراعي بقوة.. وهو يقول:

-                     أعلم أنك لا تصدق. تعال وانظر

قلت وأنا أعانقه:

-                     هذه أول مرة أصدقك

مضي نحو الباب وهو يقول:

-                     لا يجب أن أتركها.. سأجلس معها حتى الصباح لأحرسها.. ربما يعود الأغراب لخطفها.. سأحمل لها السمك من بحر النيل

سمعنا خبطات قدميه على الطريق وهو يركض بإيقاع راقص ويغنى:

-                     المسلة رجعت يا أولاد.. المسلة رجعت يا أولاد

قالت جزيرة لوالديها وهي تجذبنى من يدي:

-                     عن إذنكم؟

جرتنى إلى الحديقة الخلفية. قالت:

-                     لن أنسي ما حييت ما فعلته بي

-                     كنت أود أن أتأكد من حبك

لكمتنى في صدري وتنفست من أعماقها، ثم قالت:

-                     في أحيان كثيرة أسأل نفسي: مما صنع الرجال؟

-                     هل وجدت إجابة؟

قالت وهي تمط شفتيها:

-                      لا..

-                     والعمل؟

-                     مرعب جدا الشعور بأن شخصا يهمك وكلما احتجته اختفي

-                     لا تقصديننى بالطبع

سحبت يدها وقبلتها.. حاولت أن أحدد مدي سعادتي ففشلت. أثنيت على نفسي لأننى عدت.قالت:

-                     بعد الفجر صعدت إلى السطح أطمئن على وجود الباخرة وأنك لا زلت في الأقصر

قلت لها ساخرا:

-                     لماذا التعب؟

لكمتنى لكمة خفيفة في صدري وهي تقول:

-                     عندي بعيد عنك إحساس

ضحكنا معا.. قالت:

-                     لو كنت وجدت الباخرة لتوقعت وجود أمل أن تراجع نفسك

-                     ألم تجدي الباخرة؟

-                     اكتشفت عيبا جديدا فيك

-                     هو

-                     قسوة قلبك

تنهدت وحدقت في عينيها بكل حب وشوق وندم.. قلت:

-                      شكرا لقسوة قلبي التي أعادتنى إليك

أحنت رأسها قليلا وابتسمت ثم انسالت دموعها مجددا وسألت من خلال نشيجها المحموم:

-                     كيف سمح لك قلبك إذن أن تطعننى بسكين بارد.. أنت لا تعرف ماذا يعنى الحب وما معناه؟

هممت بالرد فقاطعتنى:

-                     الحب أهم من الأبناء..الابن يتكون في البطن ويغذيه الحبل السري ودماء الأم لكن الحب يتكون في القلب وتغذيه الروح وترعاه المشاعر.. كيان مختلف.. الحب أجمل ما في الحياة.. كيف تخليت عنه بسهولة كأنه باب فتحته وأغلقته.. ركبت فوق الحصان ثم نزلت.. مثل ما فعلت سافرت في المركب ثم عدت. لا يا سي يوسف..لا

احتضنتها وأنا أقول:

-                     سامحينى..أرجوك

قالت:

-                     لازم تدخل المدرسة أولا لتتعلم

-                     ممكن تسمعينى؟

-                     عندما لم أجد أثرا للباخرة اسودت الدنيا في عينى..كنت فرحانة بك وبحبى.. لكن يا خسارة.. صدقت البدوية التي قالت لاحدي قريباتي:

-                     احذري الرجال فأسهل شيء لديهم البيع والنسيان

استطردت:

-                      وأكد هذا ما قاله المثل الشعبي: يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال

أدركت أخيرا أنها توازنت قليلا وتخلصت إلى حد ما من غضبها المكدس..تنهدتُ بعمق وضممتها إلى قلبي.. سألتنى:

-                     كيف رجعت؟

-                     حكاية طويلة

-                     يا سيدى أعرف.. ماهذه الحكاية؟

-                     قائد الصندل الذي كان يجرنا أنبأنا أن الريش ساخنة ويجب الراحة بعض الوقت وفحصها.

-                     أين وقفتم؟

-                     في قرية اسمها أبو تشت

-                     أظنها قبل سوهاج

-                     تمام

كحّت رُقية قبل أن تقترب حاملة صينية عليها كوبان من الشاي وفايش وطبق تمر وقطعة من العصيدة التركية

جلسنا على دكة خشبية وحطت رقية الصينية بيننا.. قلت:

-                     كنتِ معي طوال الليل ودعوتنى للعودة..فجأة قلت لريشار سأنزل هنا.

زعق:

-                      أنت مؤكد مجنون.

 سمع الآخرون فاندهشوا وانهمرت أسئلتهم.. تركت أسئلتهم تطاردني بينما كنت أخطو في الصباح الباكر جدا فوق أرض طينية صلبة. سيئة التضاريس وليس هناك مخلوق في المشهد المتجهم..لمحت مأذنة مسجد تظهر عن بعد.. مضيت نحوها.. في مصلاة رأيت رجلا ينتهي من صلاته. سألته عن مراكب تسافر إلى الأقصر قال:

-                      ليس قبل يومين

-                     متأكد

-                     أنا صياد وبيتى النيل

.. قررت ألا أنتظر وسوف أعود إليك اليوم ولو ماشيا.. قالت الحبيبة ضاحكة وهي تحاول كتم ضحكتها:

-                     لو على حمار يكون أفضل

قلت لها ساخرا:

-                     كنت أصل إليك العام القادم

-                     ساعتها يكون عندي ولد جميل مثل أبيه

لم أستطع منع نفسي من خطف قبلة من الجميلة التي كان يجب أن تكافئنى بعد عذابي الذي لم تعلم به بعد.. دفعتنى عنها:

-                     ليس من حقك أن تلمسنى إلا بعد أسبوع.. هيا أكمل

-                     سألت على أية ركوبة، فلم أجد.. سرت على ضفاف الحقول حتى سمعت صوت خيول فمضيت نحوها. بيت كبير من طابقين.. درت حوله حتى عثرت على حظيرة خيول أمام بابها خفير نائم. أيقظته بقلب جامد وسألته عن صاحب المكان. طلب منى الانتظار حتى صعود الشمس قلت له:

-                     أيقظه الآن..أنا في حاجة ماسة إلى جواد.

أيقظ صاحب البيت الذي رحّب بي نصف منزعج. دهشت عندما سألنى:

-                     هل أنت مصري؟

قلت له:

-                     لابد أن أكون قبل الغروب في الأقصر. سوف يزوجون الفتاة التي أحبها لغريب ولا توجد مراكب

ضحكت وقالت:

-                     آه منك.. أنت لست سهلا كما تصورت

-                     وافق الرجل وسألته عن المسافة التي تفصلنا عن الأقصر فقال في حدود مائة كيلومتر.. طلب من الحارس تجهيز الجواد البنى بكل ما يلزمه.. قال:

-                      دعه يرتاح كل عشرين كيلو على الأكثر.. خذ هذا الكيس به غداؤه من الفول والتبن.. على طول الطريق ستجد الماء والخضرة.. عامله بمنتهى الرقة. أرجوك.. رفض الرجل قبول النقود لكنى ألححت بشدة فقبل مذعنا ومؤكدا:
- كنت أريد أن أساهم في قصة الحب.

شكرته وأسرعت بامتطاء الحصان الذي لم يتحرك إلا بعد أن تحسسه الرجل الكريم وتلمس كفليه بحنان، ثم خبط برقة عليهما.. تحرك الحصان وئيدا ثم توقف وحوّل رأسه إلى الرجل فلوّح له مودعا. لكزته بكعبىّ فتحرك ببطء. لكزته مجددا فتقدم بحماس نسبي ثم أسرع.. حدثته في بداية الرحلة عن الغرض منها والمهمة المطلوب منه إنجازها في أسرع وقت ممكن. وعدته أن أكون معه نعم الصديق والشقيق.

-                     أكلت بعقله حلاوة مثل ما فعلت معي

-                     عقلك يا حبيبتى مازال حجرا وقلبك لازال غير راض عنى

-                     دعك من هذا الكلام الناعم الذي ثبت أنه كالزبد عندما طلع عليه النهار ساح وتبدد وأسرعت بالفرار..أكمل

-                     السكك كلها كانت عبارة عن مدقات ترابية. بعضها على حواف الترع وفوق تلال ووسط أحراش و عبرنا ترعا جافة ليس فيها غير طين، ومررنا من بعض الحقول مضطرين ولم يكن أمامنا في مسافات كثيرة إلا مسافة ضيقة لا تزيد عن متر على النيل.. سرنا مسافات في صحراء قاحلة وأحيانا وسط أطلال لبيوت متهدمة وأحيانا بين أكواخ.

استرحنا عدة مرات ليأكل البرسيم والحشائش وعند الظهر تناول غداءه من الكيس،وعندما اجتزنا حقلا للكرنب أوقفته وانتزعت له كرنبتين ودعوته لالتهامهما وما أن بدأ حتى نظر إلىّ بامتنان وكان لأسنانه صوت قوي وهو يحطم جذر الكرنبة الغليظ، وقد شاركته تناول جزء من الجذر الثاني بعد أن أزحت الطبقة الخضراء القوية بمطواتي وأخذت أقضم من قلب الجذر الأبيض وكان يصدر عن أسناني صوت مشابه لصوت أسنانه فضحكت وغمز بعين واحدة وأظنه ضحك.

كلما وقفنا مسحت له عرقه وغرفت له من ثلاثة مساجد ليشرب.. أصب الماء على وجهه ورقبته وظهره وساقيه وكفليه، فيهز شعر رقبته وشعر ذيله الذهبي الطويل راضيا وشاكرا فنتابع.. كم أسعدتنى صحبته وكم كان أمينا، حتى قلت له:أتمنى أن تكون جزيرة مثلك

-                     ماذا تقصد؟

-                     أي أن تكون مطيعة ومتعاونة ولطيفة وصابرة وغير عصبية

-                     يا لسوء حظك.. كل ما تمنيته لن تجد منه خردلة

-                     هكذا إذن.. أنا مضطر للزواج من سلامة

-                     نهارك أسود من قرن الخروب.. من سلامة هذه؟

-                     الحصان

-                     أليس ذكرا؟

-                     بلي

-                     اخص

وقفت وقد التقطت أصابعها تمرة وابتعدت خطوات واستندت إلى شجرة دوم.. قالت بجدية:

-                     على أي أساس رجعت؟

-                     لنتزوج

-                     هل فكرت في حل لمشكلتك؟

-                     نعم

-                     كن صريحا

-                     سأذهب إلى فرنسا ثلاثة أشهر كل سنة.. موافقة؟

-                     موافقة.. المهم ألا تلمس أنثى

دنوت منها. وددت لو أضمها لكن الحديقة مفتوحة. تأملت عينيها الخضراوين الواسعتين الجميلتين.. سبحانك ربي ما أجمل خلقك.طلع عليّ عطرها الطبيعي الفواح..دنوت منها.. ابتعدت وكررت عبارتها:

-                     إياك أن تلمس أنثى

-                     لن يحدث مطلقا..أعدك

-                     بعد أن نكتب الكتاب ستقسم أن أكون طالقا منك بالثلاثة وأكون محرمة عليك مثل أمك إذا لمست غيري

-                     حبك يحمينى

-                     سوف تقسم

-                     رغم عدم اقتناعي سوف أقسم

-                     ماذا ستفعل هناك؟

-                     سأزور مكتبات وأشتري كتبا وأزور بعض المعاهد ثم أعود إلى الأقصر لزيارة كل آثارها ومحاولة كشف أسرار القدماء المدونة عليها

-                     ستعمل في الآثار

-                     أليس هذا مناسبا؟

-                     جدا

-                     فماذا تريدين مهرا لك؟

-                      تساعدني في بناء مستشفي يعالج كل الأمراض.

-                     هذا عمل الوالي

-                      الوالي لا يعنيه إلا جمع الأموال اللازمة للحروب ودفع رشاوي للسلطان العثماني.

-                     سيكون لك مستشفي خلال سنة.

وقفت هنومة علي باب الحديقة من جهة الدوار ودعتني للقاء الأستاذ رمضان.. علم بوجودي فجاء للتعبير عن فرحته بلم الشمل ودعوتي للإقامة الدائمة عنده حتى إتمام الزواج.. قال الحاج حكيم:

-                     سيتم تجهيز الدور الثاني ليكون مقركما بعد الزواج لحين بناء دار للعروسين

قلت:

-                     سوف نسافر بعد الزواج إلى القاهرة ونبقي أسبوعين

قال الحاج حكيم بنبرة مشوبة بالرجاء:

-                     لابد من قضاء يومين على الأقل معنا

تنهدت من أعماقي وغادرت مع الأستاذ رمضان.. استشعرت الراحة النفسية مع هذه العائلة.. حمدت الله أن وفقنى إلى ترتيب بداية حياتي العائلية والعملية في ساعات قليلة شغلت المسافة بين الأقصر وأبي تشت. لم أذق طعم النوم حتى الفجر رغم حاجتى إليه.. كنت منشرح الصدر أقلب في أطباق السعادة التي تصطف أمامى.. أحس لأول مرة معنى الاستقرار الذي يلزم لكل إنسان بعد طول حركة وسفر وتجارب وتفكير وصراع وعواصف وحيرة واختيارات بين أمور معقدة وصعبة حتى يهدأ الغبار وتتوقف الرياح العاصفة وتتضح الرؤية ويطل النهار وئيدا وباسما مع عصافيره ونداه ودعوته للصحو وطي الصفحة القاتمة والنهوض برضا لمعانقة الحياة.

 

 قبل منتصف الليلة التالية وكنت لا أزال مستيقظا سمعت طرقا خفيفا على نافذة غرفتى في بيت الأستاذ رمضان.. كانت مطلة على حارة خلفية.. اندهشت. مستحيل تكون جزيرة.. تنصت لحظات قليلة فعاد الطرق الخفيف الواثق. فتحت النافذة فوقعت عينى على شبح رجل ملثم.. قال بنبرة تهديد لا تخطئها الأذن:

-                     ارجع إلى بلدك أفضل لك. لو صممت على الزواج من جزيرة ستموت.. سحبت ضلفة النافذة لأغلقها فالتقطها وجذبها نحوه بشدة، وكرر عبارته:

-                     لو صممت على الزواج من جزيرة ستقتل.. لعلك تلحظ أنى أعاملك حتى الآن باللين وأكتفي بتنبيهك.. هذا آخر كلام معك ولا يبقي غير الرصاص..لابد أنه نصر.بقيت واقفا أحدق في الضوء الشحيح.. رفعت رأسي إلى السماء.. لمحت نجوما كثيرة تختفي وبعضها يسقط في الفضاء المعتم..العقرب يقف حارسا على طبق العسل..هل أخطأت برجوعي؟.. هذا هو الجبل يوشك على السقوط فوق القرية.. ما العمل؟.. هل القدر يسحب وعده أم هي أوهامي التي صورت وعده لي ببدء طريق الهناء؟. ألا يمكن للأمل أن يتحقق على الأرض أم يظل مجرد فراشة حائرة لا تستقر على شجيرة ورد أو حتى على صبارة؟.. أغلقت النافذة وانحط بدني على السرير.. لا شيء مستبعد على المجرمين والقتلة المحترفين الذين نشأوا في مهاد الجريمة وتذوقوا طعم الترويع وإزهاق الأرواح دون أن يهتز لهم جفن. كلمات المجرم قاطعة.. ما الحل؟.. كل ما أعددته ستهب عليه رياح الحقد.. عندما تغلي النفوس الحاقدة بأغراضها الدنيئة تعمى العقول.. كيف أنقذ حبي وأنقذ فرحة جزيرة من الاغتيال. لو نفذ نصر وعيده الآثم ستتحطم الفتاة التي تنظر إلى الأيام المقبلة بسعادة وأمل.

 فوجئت بالوقت. يبلغنى صوت المؤذن يدعو للصلاة:

-                     حي على الصلاة. حى على الفلاح. الصلاة خير من النوم.. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله

بعد أن عاد الأستاذ رمضان من المسجد أنبأته بتهديد نصر. علت وجهه الكآبة وأظلمت عيناه. مضي إلى زهران والد نصر وطالبه بالتصرف العاجل. عندما علت الشمس قليلا في السماء توجهت إلى الحاج حكيم لأخبره وأسأله.. ما العمل؟

.. لبس الحاج حكيم عمامته البيضاء الكبيرة وجلبابه السمنى، وخرج لأول مرة منذ سنوات من بيته.. عفيا واثق الخطو معتدل القامة حسب رواية جزيرة.. مضي إلى زهران وإلى كل رجال العائلة وشيوخ البلد وحدّثهم عن تهديد نصر وقال للجميع:

-                     لو مس نصر زوج ابنتى بجرح بسيط سأقتله.. نصر ابنى.. لكنى لن أسمح بأن يقتل الأخ أخته وهو بالتأكيد سيقتل جزيرة إذا ألحق الأذي بيوسف.. ربنا أراد لي الشفاء ربما من أجل هذه اللحظة..نصر لن يقتل أخته فقط بل سيدمر عائلة الحجاجية جميعها ويزرع بينها العداوة والثأر ليوم الدين.

كل شهرين ثلاثة يظهر ويطلب جزيرة وقلنا له عدة مرات أصلح نفسك أولا وتصرف برجولة واحترام مع الناس ومع الدولة.. لكنه كان يزداد كل يوم سوءا...أبلغتكم وعليكم أن تحموا العائلة من المجانين.

 

(30)

 الاستعداد لحفل الزواج يجري على قدم وساق.. بعض العائلات تحمل الهدايا من الزبد والحبوب واللحوم والدقيق إلى بيت العمدة.. الأسرة الحجاجية كلها مشغولة بتوفير ما تطلبه العروس.. أما أنا فكنت في شغل شاغل بالتهديد الذي وجهه بقوة نصر بن زهران..أسمع عن قسوته وجبروته وصخرية قلبه حتى مع أهله، وأنا تقريبا عاجز عن الإقدام على أية خطوة لمواجهة التهديد.. مستسلم تقريبا للقدر الذي لا أعرف عنه شيئا غير الخطر المحدق والذي لا أظن أن ثمة قوة يمكن أن تصده عنى.

ليس عندي مسدس ولو كان عندي لن أستخدمه، ولو كنت مستعدا لاستخدامه فليس شرطا أن أري القاتل.. ربما يقنصنى وهو وراء ساتر أو فوق شجرة أو من ورائى أو من فوقى أو أثناء تقبل التهنئة والمعانقة.

 يوم الفرح.. الكل سعيد إلا أنا.. التجهيزات تتم باهتمام زائد. العمدة غالية جدا على أهل البلد.. قال لي الأستاذ رمضان أنه كان عند جزيرة وقد قالت له:

-                     قابلنى أمس مجاهد الذراع الأيمن لنصر ومستشاره الأول ووعدني أن يمنع نصر من التصرف الهمجي ولو قتله. لم يوجد بعد من أبناء البلد من يسمح لنفسه أو لغيره أن يغضب جزيرة

طلب منى الاطمئنان، فمجاهد رجل حكيم وليس طائشا بالصورة التي يظهر عليها ويفكر بها نصر.

يوم الفرح كان يوما مختلفا.. الشمس ناعمة والجو بديع.. النسمات التي لا تزور الأقصر إلا بالليل زارتها بالنهار وفي عز الشمس.. الناس تضحك والحمير تركض والخيول ترقص والعصافير زادت أعدادها والأشجار تتمايل.. الأرض والسماوات وكل مفردات الطبيعة تغمرها البهجة إلا أنا.. كل من مررت به من الأهالي يهنئوننى وأنا أرد بتمتمة لا معنى لها. أصبحوا جميعا يعرفوننى ويحملون لي الكثير من الحب والاحترام.. مشاعرهم النبيلة وعواطفهم النقية تتجلى في عيونهم وتسطع علي ملامحهم.

تمنيت لو كان أصدقائي الفرنسيون معي الليلة ليشاركوا في حفل زواجي من "جزيرة ".. الزهرة الرائعة التي لا تذبل أبدا.. تحضر بلا مقدمات في خاطري رحلة المركب الفرنسية إلى الأقصر.. وصلت ودارت دورة زمانية في البلد ثم رجعت بعد أن غيرتها وغيرتني، بل وغيرت باريس أيضا.. سبحانك يا رب.. يجب أن أعود كثيرا إلى فكرة صناعة المصائر.. ولكن متى سأعاود تأمل الفكرة وأنا الليلة فوق المذبح.. الليلة سيتحدد مصيري الذي يكاد يكون معروفا مسبقا وأنا محمول على المحفة أستعد للموت في احتفال غير تقليدي لكى تزفنى الحياة إلى الموت.

 دبت فجأة حركة غريبة في البلد وظهر العشرات من الجنود الأتراك فوق خيولهم، ومضوا يلقون القبض على الشباب القوي ويحملونه أو يجرونه حتى المركب الكبيرة الراسية في النهر قبالة معبد الأقصر.. سألت أحد الجنود فقال:

-                     الجيش في الشام يحتاج إلى قوات جديدة

كنت قد سمعت بأنباء الجيش المصري الذي فقد الكثير من جنوده إبان حصار عكا.. أرسل إبراهيم باشا يطلب المدد السريع فقام الباشا الوالي بإصدار أوامره بجمع عشرة آلاف من شباب الصعيد الأقوياء ونقلهم بالسفن إلى ولده بالشام الذي يحرص على النصر أكثر من أبيه حتى يوافق الباب العالي على توليته حكم الشام.. يشتري الرجل كرسي الشام بدماء المصريين.

 كانت عملية الجمع قاسية وعنيفة ولا مجال فيها حسب ما رأيت لأي حوار ولا لأي اعتذار ولا لأي سبب مثل رعاية الأسرة أو الأم المريضة أو الابن الغائب أو الزوجة التي بلا عائل أو الأبناء اليتامي الذين غيّب الموت أمهم، ولم يقبلوا وساطة جزيرة العمدة ولا الحاج حكيم ولا الشيخ يونس ولا الحاج زهران ولا شيوخ البلد والأساتذة.. لم يترك الجنود مترا أو شبرا أو سطحا أو حظيرة أو عشة أو حقلا دون أن يبحثوا فيه عن الشباب حتى الصحراء.

 عند العصر توقف الهرج والمرج والصراخ والجر والعويل والصخب وتحركت الباخرة بحمولتها من الشباب دون الأربعين والجنود من حولهم بالصديريات الزرقاء والقمصان السمنية والسراويل البيضاء والأحزمة والطرابيش الحمراء وبأيديهم البنادق متأهبة للإطلاق مع أي حركة، ومطاردة من يترك موضعه ولو ألقى بنفسه في الماء فإنه مقتول لا شك بالرصاص أو بالغرق.

 بعد المغرب أقيم الحفل رغم ذلك.. من بقي من الناس يغنون ويرقصون ومن بقيهم الكبار السن والأطفال والنساء والبنات.. بركة لم يكف عن الغناء والرقص والدوران هنا وهناك، وكلما دار دورة دنا من أبيه وقال له بتضرع:

-                     أتزوج مستورة

ثم يعود بعد دقائق ليقول لخاله:

-                     أتزوج مستورة يا رمضان

يوافقه ويعده بتلبية طلبه

يبلغ أسماعنا في الخارج حيث حولي يجلس الرجال أغاني البنات اللائي يحطن بالعروس في داخل الدوار:
أنا مالى أنا.. لما يخاصمنى سنة
ألبس له بدلة بيضا واخلع له بدلة بيضا
جُلت له رايحة الأوضة
جاللى مخاصمك سنة
ألبس له بدلة بمبى واخلع له بدلة بمبى
ومِلت له على جنبى
جاللى مخاصمك سنة
ألبس له بدلة كاكى واجلع له بدلة كاكى

 وأخدته على وراكى
 جاللى مخاصمك سنة

 وأنا مالي أنا.. أنا مالي أنا

يعقب كل مقطع ارتفاع دق الطبلة وأصوات البنات

مع المقطع الأخير هب الشيخ يونس وقال:

-                     هيه حَصّلت..هذه الأغاني عيب..

وقف الحاج حكيم على باب قاعة الحريم وزعق دون غضب حقيقي، وقال:

-                     احتشمي يا بنت منك لها لها لها

علا صوت البنات بالضحك وواصلن الغناء

طلعت فوج السطوح السطح وجّعنى
كسر دراعى اليمين والتانى يوجعنى
جالولى تاخدى ابن عمك
جُلت لا والله
جالولى تاخدى ابن خالك
جُلت حد الله
جالولى تاخدى الغريب

جُلت أي والله

يذهب بركة لأبيه ويقول له:

-                     وأنا مالي أنا

يعانقه أبوه فيضحك ثم يذهب لأمه ويكرر عليها ما قال ثم يذهب إلى الشيخ يونس ويعيد عليه ما قاله لأهله ويأتينى ليقول ما قاله عشر مرات من قبل.. كان نجم الحفل دون جدال.. النظرات جميعها تتابعه والأفواه والقلوب تضحك من حركاته، وضجوا جميعا بالضحك والتهليل عندما قال:

-                     أنا النهار ده استحميت

حسب ما سمعت من جزيرة كان حمامه اليوم بالماء الساخن والليفة والصابونة والكرباج..أقسم أبوه أن يضربه بكرباج جده إذا لم يهدأ ويتقبل الحمام.. كان الأمر قد تطلب تكليف سلام ورزق واثنين آخرين من المزارعين ليمسكوا به.. لم يتحقق لجزيرة ما أرادته، فقد رفض أبوها أن يكون الفرح جامعا للرجال والنساء معا.. قال لها:

-                     هذا سِلو بلدنا ويستحيل أغيره.. فكري في جدك الشيخ أبو الحجاج.. لن يسامحنا

كان الحاج حكيم قد اقترح أن يتم الفرح في شعبان بعد شهر في يوم مولد سيدي أبو الحجاج لكنه قال

-                      احتراما لك ولظروفك تعجلنا.

استمر بركة يدور بعد أن اختطف الطبلة من الطبال ومضي يدق عليها دقات لا تتبع أي إيقاع ويقول:

-                     أنا النهار ده استحميت

الكل كان سعيدا إلا أنا.. الكل مبتهج بحركات وكلمات بركة إلا أنا..كنت أستعد للموت المحقق، وكلما تأخر أيقنت أنه قادم.. كتب الشيخ يونس الكتاب وتعالت الزغاريد والتهاني وأطلق بعض الرجال الرصاص وكان أكثرهم وأسعدهم بيبرس الراعي الذي حدثتنى عنه جزيرة بمناسبة طلبه يد هنومة.. كنت أجلس بين الرجال وأبتسم وأرد على المهنئين بآلية شبه فاقد للوعي.. ظل بركة يدخل عند النساء ويخرج إلينا.. مضي يضحك ويقلد الراقصة التي تحنى ظهرها وتتلوي بالداخل عند النساء وأمام العروس، ثم اقترب من أخته ليطلب إليها تنفيذ رغبته في إقناع أبيه ليوافق على زواجه من مستورة. دنا منى وقال:

-                     جزيرة سوف تلون كفي بالحنة مثلك.. هات أذنك

دنا أكثر و استند بكفه على فخذي وقبل أن ينطق بكلمة واحدة سقط على صدري.. كانت الرصاصة قد أخطأت طريقها فأصابت قلبه. أصابت قلبه.

حدث هرج ومرج وأسرع القاتل بالعدو كالريح وابتعد بسرعة غريبة لكن رصاصة بيبرس طالته في الثانية الأخيرة قبل أن ينحرف في شارع جانبيقبل الكرنك

اندلعت الولولة كاللهب وانتقلت من امرأة لأخري وإلى كل الأطفال الذين عشقوا بركة كما تنتقل النار في الهشيم والأكواخ المتداعية. لابد أن السمك في النيل والحمائم في الأبراج كانت ثائرة. ولأول مرة في حياتها سوف تعرف معنى الصراخ والعويل..

 أسرع الحاج حكيم إلى ولده ولحقت به أمه.. بدا مكلومين بشدة.. الحزن يعصركبديهما.. سقطت جزيرة مغشيا عليها، بينما كانت هنومة ورقية تتعالي بقسوة ولولاتهما المحمومة كأنه شقيقهما المقرب والوحيد.. بقيت متجمدا في كرسي العرس.. أكاد أكون قد غبت عن الوعي. كنت أتمنى إذا قرر الموت أن يأتي أن يأخذ أي أحد حتى أنا ولا يمس بركة. أحب بركة جدا بصرف النظر عن القصص التي تُحكى عنه..أحب البراءة والطهر والنقاء.. أميل إلى كل من لا يهيم بالحياة المادية وأعشق كل من يخذلها ويهمل مطالبها ويتجه نحو الطبيعة والحرية والجمال والبساطة والخلو من الأطماع والعقد والخطط... بركة.. سالت دموعي بغزارة وأنا لا زلت في موضعي عاجزا عن الحركة.لا أكاد أحس بما يجري من حولي حتى حملوني حمْلا إلى غرفتي في الدوار مع عروس لا تكف عن البكاء..

لم يكن نصر مُطلق النار..شاب من العربان اسمه قاسم أحد أصدقاء نصر المخلصين المؤمنين بزعامته وصّاه قبل أن يجره الأتراك إلى المركب لحرب الشام بقتل العريس نيابة عنه وسوف يدفع له كل ما يطلبه. هذا ما اعترف به التعس بعد أن عاد إليه وعيه. الحماقة مرض عضال يودي بأصحابه إلي المهالك.

كل الأقصر كانت تبكي فقد كانت لدي الجميع أسباب كثيرة للبكاء وقد تأجلت ساعتين لتهنئة جزيرة وتهنئتى.. بركة.. أنت حي يا بركة وسوف يظهر يوما من يماثلك ويزرع البراءة في البيوت والطرقات وكل فضاءات القرية الطيبة. لم يكن هناك من بقي في بيته ولا حتى الرُضّع، فقد خرج كل أهل القرية قبل منتصف الليل وبعد الغُسْل مباشرة حاملين المشاعل صوب الجبانة البعيدة في حضن الجبل تصاحبهم دموع وتمتمات الوداع والدعاء بطلب الرحمة من الرحمن الرحيم. هل ستُحْرم الأقصر من أحد معالمها المهمة كما حُرمَت من المسلة؟؟!!.. سمعت من قال:

-                     سوف يكون قبره مضاء دائما

قال آخر:

-                     لن يقترب منه الملكان إلا للسلام والترحيب وليس للأسئلة والحساب.

 اندهش المتوافدون على الجبانة لقطرات المطر الرقيقة التي توالي سقوطها على الأرض في غير موعدها. تهمس في سمع الأشجار والحقول. كانت السماء تشارك في العزاء بطريقتها حزنا على رحيل أحد الأبرياء وهو من كانت روحه مغسولة بالمطر. نقرت بمودة حبات المطر على رؤوس السائرين. تزايد هطول المطر دون أن يسبب إزعاجا لأحد. مضي الجميع يكملون مناسك الوداع برضا وامتثال حيث نام بركة ومدده الرجال داخل مستقره الأخير.. نزل المطر على غبار الحزن فأسكنه وطمأن القلوب العابسة.

 

العجوزة في الخامس من أكتوبر2013