يصور القاص المصري الشاب في هذا النص المكثف لوعة الإنسان وهو يتأرجح على حافة فقدان شريك حياته من خلال التركيز على تفاصيل الرجل وهو يدور في أرجاء شقته وسط القاهرة ويتأمل جحيم حياته في حالة الفقدان مستنجدا بالصحراء والسماء بلغة شفافة تضيء الشخصية وتكشف عن أصغر وأعمق خلجاتها الخفية

الصحراء

محمد محمد مستجاب

استيقظتُ الآن .. وربما لم أنم بعد، عاجزاً بين النوم واليقظة.. كل ما أتذكره أن أشعة الشمس تداعبُ عينيّ منذ لحظات.. أزحتُ الغطاءَ وسط ضجيج الشارع الذي لا يهدأ، حاولتُ أن أبدو مرحاً ونشطاً في هذا اليوم الذي سترحلين فيه عني..

فكرة الرحيل منذ أن صعدتْ على سطح عقلي وهي تؤرقني.. نعم يجب أن ننفصل.. هكذا كنتِ ترددين في الآونة الأخيرة..

دخلتُ المطبخ، ووضعتُ البرادَ على النارِ، وسحبتُ كوباً فارغاً.

تحيطني أشيائك وكأنها ترفض هذا الانفصال، تطلب مني في هدوء السماح والصفح. كوب الشاي الآن سوف يدمر النوم واضطراب الأشياء ويُصمت ضجيج الشارع.

أول رشفة مع أول نفس سيجارة في شرفتي..

تذكرتُ الآن أنني حدثتك عن الصحراء.. تلك التي لم يسير فيها أحدٌ قبلنا..

قلت لكِ؛ هناك في الصحراء لا يوجد محصل كهرباء ولا يوجد انترنت.. لا يوجد بها شيء إلا الله. في الصحراء؛ رمال وتلال وجبال.. نبات عقول وصبار.. بئر مهجورة.. وأصوات ذئاب تعوي.. أسمع الآن صوت ذئب يطلق سيمفونيته قبل أن يلتهمنا..

- شبرا ..شبرا..

هكذا هي سيمفونية الشارع الذي أراه الآن.. أغلقتُ الشرفة وتركت الصحراء والذئب والله وعدت إلى داخلي.. داخلي الممتلئ بالهزائم والأوجاع والانكسارات وبعض الأفراح التي لا تكفي كوب شاي.. داخلي الذي لا يوجد به صورة زفافنا أو أقلام كتابة أو أوراق بيضاء أقوم بمغامراتي عليها..

منذ متي وأنا أقف وسط الغرفة أنظر إلى أشياءك التي تحيطني.. حقائب ملابسك .. صناديق كتبك.. أحذيتك.. نظارتك المكسورة..

طرقات على الباب نبهتني وأخرجتني مما أنا فيه..

الباب الآن يحجز عني كل شيء، خائفٌ منه.. لن افتح الباب!.. حتى ولو جاءت كل جيوش العالم كي تحطمه.. لن افتح هذا الباب وسأتوجه إلى السماءِ طالباً معونتها.. أعلم إنها لن تخذلني..

في النهاية فتحتُ البابَ.. لأنه يجب أن يُفتح.. فأي باب في هذا العالم صنع كي يفتح.

دخل عدد كبير من الأقارب والأصدقاء.. البعض يناصبني العداء والبعض يشفق لحالي.. الوجوه التي أحبها والتي أكرهها اجتمعت.. وصوّبَ الجميع نظراتهم نحوي..

أن تكون مركز الكون شيء صعب.. قاتل..

البعض تناثر على باقي المقاعد.. والبعض الآخر وقف مستنداً إلى الحائط.. دخان السجائر المرتبكة ملأ الشقة وأختلط مع غبار الصحراء التي تداهمني الآن.

النجاة في الصحراء.. هكذا قال لي أبي قبل رحيله..

أن تترك كل هذا.. أشياءك وفقدك وأقاربي واللعنات وتذهب للصحراء.. سيتهمونك بالجنون كما اتهموك من قبل..

أي صحراء تلك التي ستذهب إليها وسط كل هذه المشاكل..

أغلقتَ باب الشقة ونظرتَ للجميع..

وبدأت في إخراج أشياءك. أعدتها إلى أماكنها.. كانت فرحة وجزلة وتتقافز..

طرقات أخري على الباب..

افتح الباب..

أجدك..أنتِ.. أنتِ.. بكل طاقتك وجمالك وابتسامتك..أنتِ.. تطلبين مني الدخول وتمدين يديك وتخرجين معي للشرفة كي نري الصحراء.