الشاعر يكتب موت الشاعر، يكتب صليب المغيب، يمج الموت، يغمض عينيه كي لا يغوص في حمأة العالم الخارجي، يلبس القصائد "دموع إيروس"، يوغل في المسالك الخفية، ويسحق صور الشعر المنزوفة والغرائز ورسالات السماء وأزهار الشر في الشعر إلى أن يطلقه للموت.

عاد وحيداً كما يكون دائماً

منذر المصري

هذه المرة سأكتب عنه مباشرة، سأذهب إليه من أقصر الطرق، لن أقول له مجدداً: أستطيع أن آخذ للوصول إليك طريقاً طويلاً. لأنه، أولاً، ليس لديه وقت!؟ ولأنه، ثانياً، هذا ما كنت أفعله منذ أكثر من أربعين سنة، منذ أن أحضرت لي تلك الفتاة والتي أولع بها محمد سيدة وكتب عنها أشد قصائده تفجعاً، أول مجموعة وقع عليها ناظري لأنسي: (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) سنة /1972/، ورفضت رغم عوزها الشديد أن تأخذ ثمنه. ثم إني يوماً، خلال مؤتمر قصيدة النثر الذي أقيم في الجامعة الأميركية، في بيروت، عام /2006/، وقد جمعنا عشاء مشترك، آثرت أن أجلس بعيداً عنه، مع عباس بيضون ويوسف بزي ورشيد الضعيف .. لماذا؟ أستطيع الآن أن أدبّج كذا سبب، ولكني في الحقيقة لا أدري. كنت في آخر كتبي، قد قدمت له قصيدتي: (ثعلب بداخل مشمشة) من دون ذكر اسمه: (إلى من كان يسمّي أوراق الخريف مريم العذراء)، كما أنه قد ذكر اسمي وهو يعدد أسماء بعض الشعراء السوريين في مقال له في صحيفة النهار، آخر أيام رئاسته تحريرها، لا أذكر بخصوص ماذا. أذكر، وقتها، أنني شعرت بغرابة ذلك لدرجة أنني كنت موقناً بأن أحداً ما، زوده به، وكذلك بقية الأسماء! لم أقترب منه، ولم أصافحه حتى، وأظن أنه كان متاحاً لي معانقته، ولم أقل له: (أنا منذر مصري.. أحبك منذ الأزل!؟)، على أمل أنه سيعرفني من دون إضافة أوصاف أخرى، لماذا لم أفعل!؟
سآخذ عينة من دمه، عينة، لا على التعيين، صفحة قديمة ممزقة الأطراف، صفحة /39/ من مجلة لا أعرف عنها شيئاً سوى أنها صادرة عن دار النهار، يدل على هذا رأس الديك الصغير في زاويتها اليسرى. وليس عليها ولا على وجهها الثاني ما يشير إلى تاريخها، ربما في سبعينيات وربما في ثمانينيات القرن الماضي. عليها /14/ مقطعاً شعرياً، نثرياً، فلسفياً، لا يهم، لأنسي الحاج. أعرف أنها لأنسي الحاج، وليس عليها لا اسمه ولا صورته، احتفظت بها طوال هذه السنين وأنا أعرف أنها له، من سواه دمه هكذا. ليس لأن أحللها، من أنا لأفعل ذلك، بل لأنسج عليها، لأمسك منها بطرف هذا الخيط أو ذاك، وأربطه بخيط من ذكرياتي، من علاقتي الحميمة معه غائباً وبعيداً عني، من أول معرفتي به. أو إذا اعتبرتها يداً مدّها أنسي إليّ يوماً، وأبقاها عندي، فها أنذا، وبعد كل هذا الزمن، أحاول أن أمسك بطرف منها، أمسك بهذا الأصبع أو ذاك، وأذهب معه إلى حيث، إلى أيّ مكان في الكون، هو الآن ذاهب.
ترى، إذا كان بالمستطاع علمياً أن تستنسخ حيواناً بواسطة إحدى جيناته، هل من الممكن أن تستنسخ شاعراً بواسطة قصيدة مجهولة، أو مقطع من نص ضائع؟:
1ـ (تجسُّدكَ الأخير
.): تبدأ الصفحة بهاتين الكلمتين اللتين تحتلان الزاوية العليا. ترى من كان يخاطب حينها؟ أي إله؟ أي مسيح؟ أم أنه يخاطب نفسه كعادته، مشغولاً بآخر تجسداته الغامضة. فها هو الآن أمامي، من دون اسم أو وجه، متجسداً في كلماته.
2ـ (أن أكذبَ عليكَ لأنقذكَ، بناءُ خلاصٍ رائعٍ من الكذب): أذكر أنسي في مقابلة تلفزيونية نادرة، في أواخر التسعينيات، لم أر له سواها في حياتي، ماذا يجدي شخصاً مثله أشياء كهذه!، أنه رداً على سؤال: عمّ يشغله الآن؟ أجاب: (الخلاص). أيّ خلاص يبغيه صاحب (لن) وقتها تساءلت مستنكراً. ولكني هنا، أكاد لا أميز، هل أنسي يقرظ الكذب المنقذ، برغبته المعروفة بقلب المفاهيم السائدة والمعاني الرائجة للكلمات، إلى ضدها؟ أم أنه يبدي رفضه لأن يكذب أحد ما بحجّة إنقاذ أحد ما، فيبني له خلاصاَ من الأكاذيب، يصفه بالروعة ساخراً؟.
3ـ (بحيرةُ الظلمات تحبًّ ذويها): نعم هكذا تفعل بحيرة الظلمات، وكائنات الظلمات، وبشر الظلمات، يحبون ذويهم، وينادونهم، ليعملوا معاً في توليد الظلمة ونشرها .. أي أمثولة بودليرية سوداء هذه.
4ـ أحضرت لي حبيبة محمد سيدة وملهمته، كتاب أنسي (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة)، ورفضت أن تأخذ ثمنه /8/ ل.ل. أو ما يعادلها، مكتفية بكتابة كلمة (هدية) على زاوية صفحته الأولى، هي التي كان أبوها يبيع جسدها للحشاشين، مقابل بعض المال. في القبو الملاصق لقبو محمد سيدة: (تأكّد لي شيءٌ لم يفرد عليه طائر الشكّ جناحه بعد، بأني سأدخل الحلبة للفوز بقلب حبيبتي مع حشّاش، يريد أن يجعل من جسدها البريء مرحاضاً لشهواته، وسوف تلبس حبيبتي للحشاش ثوبها الجديد، على مرأى من عين قلبي الذائب). كان كتاب أنسي بغلافه الأزرق الفيروزي هدية حب، قدمتها لي فتاة، ما كان يمكن لي بذلك الظرف أن أبادلها أية عاطفة، سوى الشفقة، التي لم تكن في اعتبارها أبداً. لطالما فكرت وتساءلت عن معنى كل هذه الروابط بين الأشخاص والأشياء؟
5 ـ (ما يخيفني في أنظمة القوة العضلية والعسكرية أنها تتعامل مع الفكر كما تتعامل مع الموت: باحتقار .. إذا قبض النظام العضلي على شخص، فإنه عاجز عن تخيّل معاناته في لحظة التوقيف. نظام بلا خيال. الخوف من الموت في نظر نظام كهذا، عيب، انعدام رجولة. الرجولة لهذا النظام هي نباح قائد الجنود بأوامره، وامتثال الجنود للنباح. الرجولة هي الرأس الحليق من خارج ومن داخل، الثكنة. هي اختصار العالم إلى حدود ما يجهله المتعصب الأحمق. وما زاد كان الحذف والقتل): لا أستغرب أن يكتب أنسي شيئاً كهذا في نهاية عقد السبعينيات أو خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، رغم أن لبنان، يوماً، لم يحكمه هذا النوع من الأنظمة العضلية العسكرية، لكنه عرفها، عرفها وعاش تحت وطأتها خلال سنوات التدخل العسكري لأحدها حقبة طالت إلى ما يقارب الثلاثة عقود من الزمن! إلاّ أن ذلك كله، كما يبدو، لا يكفي ليعرف أنسي كل شيء عنها، أو لأقل ليعرفها فعلياً على نحو حياتي، لا صوري، لا ذهني، فالأنظمة الذي ينفخ جنودها عضلاتهم هذه الأيام كالبالونات، وإن كانت بلا خيال بالمعنى الأدبي للكلمة، فهي ذات خيال إجرامي بعيد، وتعرف جيداً، وبالتفصيل، أشياء كثيرة، أقربها معاناة من تقبض عليهم، وخوف المعتقلين من الموت لحظة اعتقالهم. لا بل تقوم بكل ما يلزم لتؤمن لهم هذا الخوف وهذه المعاناة بأعيرة وكميات تصل لحدود ما بعد الموت. كما أنه ما عاد لائقاً بهذه الأنظمة وقد تراكمت لديها كل هذه الخبرات، وبات لها كل هذا الباع، أن توصف بكونها متعصبة وجاهلة، بل، يمكن القول إنها، بأجهزتها الأمنية، التي لا حصر لعددها، ولا لمجالات اختصاصها، باتت وكأنها عالمة بكل شيء. ولكنه صحيح أيضاً، أن ما يزيد، ما يتخطى، ما يخالف، حدود هذا العلم الذي يرسم وجودها واستمرارها في الحكم، لا ريب مصيره الحذف بكل الوسائل الممكنة، وأقربها النفي والسجن والقتل.
6 ـ (كلما أردتُ أن أهدم حدوداً .. أجدني استعمل كلمة الله، أو الجنون، أو الموت، أو الجنس بأقوى حالاته. كلها أبواب مفتوحة على اللانهاية ـ أو العدم، أو الغياب، أو الهوة، أو الهاوية .. التي نبدأ بتعلم مذاقها من خوف الليل): إنها وظيفة الشاعر، هدم الحدود. أنسي شاعر يتنكب مهامه إلى أبعد حد. مستعيناً بالله، والجنون، والموت، والجنس. ولكن لماذا لم يقل الحب، أو العشق؟ لماذا فضل الجنس بأقوى حالاته؟. أ لأنه بالنسبة له، باب مفتوح على العدم، أو الغياب الكلي، أو الهاوية .. التي نبدأ بتذوق طعم السقوط بها من خوفنا من الليل. أي تدريب على الموت هذا!؟
7 ـ (الشر قوته في يأسه. في نشوة يأسه) لا أدري إذا كان أنسي في فتوته قد تلبس الشر؟ هل قالوا يوماً إن شاعر (لن) شرير؟ شرير يائس؟ حيث لا قوة للشر إلاّ في نشوة يأسه، أو كأنه يقول: (الشر نشوة اليأس).
لست أنسي الحاج (لن)، فأنا لم أقرأها، ولم أقرأ أيضاً مقدمتها الشهيرة، إلاّ بعد صدورها عن دار الجديد، في أواسط التسعينيات، وحين فعلت كان أغلب ما فيها منتهي الصلاحية بالنسبة لي، لكني أيضاً لست أنسي الحاج (الرأس المقطوع) الذي أبتعته مع (ماضي الأيام الآتية) بطبعتيهما الأصليتين، من مكتبة السائح في طرابلس، في أواسط السبعينيات، أنا أنسي الحاج (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة)، مع اعتبار (ماضي الأيام الآتية) تمهيداً له، و(الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) ملحقاً طويلاً له. أما (الوليمة) في تجميع فتات شاعر، تحول لنبي بطريقة أو بأخرى. أو لأقل بتعبير أدق، صار إلى نبي، لأن هذا الطريق الذي مضى به من (لن) إلى (الوليمة) لم يكن ليؤدي إلى أي مصير آخر. إلى نبي برسالة غامضة، مضطربة. إلى نبي ألقى بنبوءته على رؤوس قلة من الأشهاد، وصعد الجبل لا يلوي على شيء.
8 ـ (أيتها الوردة الحمراء ذات القلب ابيض كالموت): لا شيء كالموت يشغل أنسي. لكن موته أبيض، كالموت!
9 ـ (جمال مؤلم، حارق، شبيه بالنعرة المفاجئة التي تصيب القلب عند التماع ذكرى عنيفة): نعم، أعرف هذا عنه، أخبرتني به امرأة!. أنسي يؤلمه الجمال، يحرقه، يهزه بعنف كالتماعة رب، هو الذي أحفظ له: (الجمال.. ما أن ينام حتى يستيقظ)!؟
10 ـ (كم من ضحكة أجبرتني على العفو عن صاحبها أكثر مما لو كان بكى): لماذا لا؟ أ ليس أنسي القائل: (زنبقة الكآبة الزرقاء الضاحكة الضاحكة الضاحكة).
11 ـ (أرفض صورة التي تظهر الله مشيئةً ضد رغبتي، وحدّاً مانعاً إرادتي. أريده معي في كل رغباتي، في روحانيتي وفي وحليتي. لا أريد أن أهجره لأتحرر من قمعه، بل أريده أن يتحرر من لعنته لي، لنتبارك في خطانا، على مدى الحرية. أريدكَ، كهذه المرأة، متأطئاً، لا ديّاناً): في الدرب الذي اتخذه أنسي إلى الخلاص، كان لا بد من الله. كان لا بد أن يطلب نجدته ومؤازرته. إلاّ أنه يريده، أريد، يكرر، معه في رغباته!، وكما في روحانيته في وحليَّته! يريده معه على مدى الحرية، الذي لا يحده أفق، لا على الطريق الضيقة، التي تحفُّ بها جدران اللعنة والقمع والدينونة. يريده مورطاً، كهذه المرأة، التي أحضرت لي كتابه، يريده، متواطئاً، مثلي، عندما أخفيت علاقتنا عن صديقي، إلا أنه كما مرة أخبرتني، كان يشكّ بنا، وربما كان هذا السبب الحقيقي لمعاركه المستمرة معي.
12 ـ (لم أجد الله كما وجدته حين لم أعد أحتمل أفكاري) وجد أنسي الله الذي يبحث عنه، لا الله الذي كان يعرفه سابقاً، بل الله الذي عرفه، حين ما عاد يحتمل أفكاره، حين توحد، حين تولّه، حين جنّ.
ماذا صنعت بالذهب
كتبت مرة عن (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة)، بأنه كتاب أكرهه وكأنه كتابي. ذلك لأني أعرف بدقة وتفصيل كل شيء فيه، بأية قصيدة يبدأ، وكيف تتسلسل قصائده، وبأي كلمة ينتهي!. مثله مثل أي كتاب من كتبي، وربما أكثر، وخاصة الأخيرة منها. قلت إنه علمني، ليس الشعر فقط، ليس الحب فقط، بل تقريباً كلّ شيء. وإنه في كلّ ما كتبت كنت أودُّ أن أكتب شيئاً خاصاً بي جميلاً ومؤثراً مثله. منذ (آمال شاقة) كان علي الاعتراف بديني له، فأهديته، كما فعلت مع شوقي أبي شقرا، ومحمد الماغوط، وتوفيق الصايغ، أحد أقسامها: (يلتصق بي الحب كثياب مبللة - إليك يا أنسي)، من دون ذكر بقية الاسم، فأي أنسي آخر يمكن أن يكون، ذاك الذي آثار خطواته تعبر على طول الكتاب. وحين يقول البعض بأن الشعر الحديث لا يحفظ، أو إذا كنت تحب شاعراً ما، أقصد تحب شعره، فإنه محتم عليك أن تكون ذاكراً، إن لم أقل حافظاً، لبعض قصائده، وإلاّ فأنت كاذب!!؟ كما مرة وصفني أحدهم وأنا أقول إني أحب شعر سعدي يوسف!؟ أجدني، أقرأ لهم، كما أحفظها عن ظهر القلب، وليس تماماً كما في الكتاب:
(اذهبْ إلى الطبيعةِ، أنتَ، هوَ، هيَ. يتحابان. وأنتَ وحدَك، تتحاب، وتعشقك الطبيعة.): التي أسميها (الفاتحة) لأنها مثل (بسم الله الرحمن الرحيم)، و(بسم الآب والابن والروح القدس)، سورة، مؤلفة من خمس آيات، تشرح الثالوث المقدس.
(بحثَ عنها كثيراً ولَمّا وجدها، احتار ماذا يفعل بها، فتركها تذهب. ثم عاد وبحث عنها كثيراً، ولَمّا وجدها، قال: يا إلهي، اجعلْ نظري كبيراً فيحويها، وحجري ماءً فيسقيها، طوِّقها بي كسجن، وطوِّقها بي كشكران، واكسرني يا إلهي عليها، كالصاعقة في البحر.): آه يا أنسي، الجميع يعلم أنك عندما وجدتها، للمرة الثانية، استجاب الله لدعواتك، وكسرك عليها كالصاعقة في البحر!؟.
13 ـ (إذا أنتِ شبيهتي، فلكِ أيضاً ما ينقصني. وإذا أنتِ نقيضي، فأنا هو من له صفات نقيضه...): إذن هو من نقائص وأضاد. ومن المحتم أنها، أنا، أنتَ، أن نكون هو. لأن لنا أيضاً نواقصه، ولأننا نقيضه الذي هو. من تأثري بهذه الآية! أ لم أقل إنه نبي؟ كتبت بدوري: (أكره من يشبهني، إنه يكشف عيوبي، التي عشت دهراً أحاول إخفاءها).
14 ـ (لم يعودوا، حين أقرأهم، يوقفونني على قدميّ: ساد، بودلير، بروتون، سارتر، كامو، نيتشه. ولا موسيقى بيتهوفن وفاغنر. كانوا يُنهضونني. اليوم أشعر أني أكثر يأساً، وفي الوقت نفسه أكثر قدرة ذاتية على القيام من دون مساعدة كتاب أو موسيقى.) مرة أخرى يمدح أنسي اليأس. وكأن ليس لديه سواه!. كونه أكثر يأساً صار يغنيه عن مساعدة كتب بودلير وبروتون، وموسيقى بيتهوفن وفاغنر، لينهض.
ما عاد بحاجة أحد.. فقد:
(عدت وحيداً كما أكون دائماً وأنا أموت)..
اللاذقية 18/2/2014

 

(عن السفير الثقافي)