كدأبها، تقدم يمنى العيد ـ صاحبة الكتب النقدية المؤسسة، مثل في معرفة النصّ، وتحوُّلٌ في التحوّل ـ في هذه الدراسة استقصاءاتها المستبصرة حول العلاقة بين الرؤية / الحداثة وتقنية القناع في القصيدة العربية.

حداثة القصيدة العربية وتقنية القناع

نقلٌ أمْ توظيف؟

يمنى العيد

 

تشكِّل الحداثةُ مهادًا نظريّاً وإطارًا تاريخيّاً لـ "قصيدة القناع" كما عَرفَها الشعرُ العربيُّ الحديث. ويمكن القولُ، بدايةً، بأنّ الحداثة فعلُ تجاوزٍ مستمرّ يفضي إلى نهوض الأدب أو الفنّ في بنيةٍ مفتوحة، وذلك على قاعدةِ علاقةِ ما هو فنٌّ أو أدبٌ بالإنسان في معناه المتجذِّر في الزمن والنافذِ إلى جوهر الحياة. على أنّ القول بأنّ الحداثة فعلُ تجاوزٍ ليس منعزلاً عن منظورٍ فكري تَحَكّم برؤية الحداثيين العرب إلى الإنسان في واقعه وتاريخه، وفي أشكال صراعه ضدّ الموت، ومن أجل حياةٍ لا يزال يَحْلم بها. وعليه، ينطوي فعلُ التجاوز على هدمٍ وبناء: إنّه هدمٌ لتقاليدِ بنيةِ الشكل المنغلقة على مضامينها؛ وبناءٌ لشكلٍ فنيّ قابلٍ باستمرارٍ للتجدُّد تعبيرًا عن حلم الإنسان ومسعاه إلى تحقيقه. ولا يستهدف الشكلُ المتجدِّدُ الوصولَ إلى بنيةٍ محدَّدة، أو إلى ما يعيد البنيةَ إلى ثوابتَ تُعرَّف بها؛ ذلك لأنّ مثلَ هذا الاستهداف يعني استهدافَ الوصولِ إلى ما يَكْتمل ويَقْبل انغلاقَه على اكتماله؛ وهو ممّا يَحْمل على الركون، ويشي بنهايةٍ أو ركودٍ للفاعليّة ولحركةِ تخلّقها. وفي حين يستدعي المكتمِلُ فكرةَ النموذج المنجَز، الذي يفترض التقليدَ، تستهدف الحداثةُ هدمَ النموذج بمعناه هذا،(1) فتفكِّك لغتَه لارتباطها بتكريس قيمه وثباتِ صورها في الوعي الجمعي.

تلتفت الحداثةُ إلى الإنسان، فتراه في ضوء طموحاته المفتوحة على الحلم، فتجعل من هذا الحلم ديناميةَ الصياغة اللغوية، وحركتَها الآيلةَ إلى ما يبني القصيدةَ شعرًا، بحيث تكون الرؤيا بديلاً من الرؤية، ويكون خلقُ الواقع بديلاً من نقله. فالرؤيةُ بقاءٌ في حدود الصورة التي يعكسها الأدبُ للواقع؛ وأما الرؤيا فتُفصح عن معنى الخلخلة والمغايرة: خلخلةِ الصورة المرئية، وبناءِ غيرِ المرئي المغايرِ، متجاوزةً بذلك الزمنَ الحاضرَ بفتحه على الآتي واحتمالاتِه المحمولةِ على مستوى الحلم. على هذا المعنى انطوتْ حداثةُ الشعر العربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، زمن ظهور "قصيدة القناع" بصفتها أحدَ أوجه هذه الحداثة الشعرية. ويقوم معنى الحداثة هذا على تقاطعٍ بين موقفٍ طُرح على مستوى الإنتاج الإبداعي، وآخرَ لا ينفصل عنه وتمثَّل في علاقة الشاعر بواقعه الاجتماعي. إنّه تداخلٌ تقتضيه عمليةُ إنتاج الأدب باعتبارها علاقةً بين المتخيَّل ومرجعيّاتِه؛ ومن ضمن هذه المرجعيات: الواقعُ المعيش. ولقد انبنى هذا الموقفُ بالنسبة إلى الشاعر العربي الحداثي على علاقته بموروثه الشعري من جهة، وعلى ما يعانيه على أرض الواقع من جهة ثانية. وهذا يعني أنّ الحداثة كانت تجربةً تاريخيةً، وأنّ ما تمثّلَ فيها من مثاقفةٍ لا يَسْمح باعتبارها نقلاً لحداثة الغرب أو تقليدًا لها. والحال أنّ التجارب لا تُنْقَل، وإنْ جرت الإفادةُ منها أو من تنظيراتٍ تفضي إليها التجاربُ الإنسانيةُ الكبرى. يكفي أن نشيرَ إلى أنّ الحداثة في الغرب، التي قالت بإعادة بناء العالم لا بنقله، هي حداثةُ شعرٍ توسَّلَ الرمز ليبني عالمًا مغلقًا يَهْرب إليه من واقعه؛ بينما هي في الشعر العربي حداثةٌ توسّلت الرمزَ لتثورَ على الواقع وتستشرفَ المستقبل.(2) ويمكن القول بأنّ حداثة الشعر العربي تميّزتْ بمنظورٍ انبنى على رفض السائد من القيم والتقاليد التي تعوِّق حركةَ التغيير. وهي، لذلك، عملتْ من أجل الحرية: حريةِ الإنسان، وحريةِ اللغة الشعرية. فعلى أساس هذه الحرية يتحقّق تجاوزُ الذات لذاتها، وتجاوزُ الشعرِ لبناه.

الحداثة العربية: الموسيقى والرمز

في مرحلةٍ أولى من حداثة الشعر العربي، سبقتْ ظهورَ "قصيدة القناع،" جرى التعرُّضُ لبنية موسيقى الشعر الكلاسيكي: موسيقى الشطريْن القائمة على سيمترية الإيقاع، وتكرارِ الوزن والقافية على مستوى البيت. فلئن كان الخطابُ الشعري يتميّز، في حدود نوعه، بمكوِّنيْن بنيوييْن أساسييْن هما الموسيقى والصورة، فإنّ التحديث تعرّضَ في مرحلةٍ أولى للموسيقى، وفي مرحلة ثانية للصورة التي بها ارتبط ظهورُ "قصيدة القناع." لكنْْ لماذا اعتُبِر التعرُّضُ لموسيقى الشعر الكلاسيكي بالتغيير أساسيّاً ووثيقَ الصلة بعملية التحديث؟ نعتقد أنّ الموسيقى ليست مجردَ وزن، بل إيقاعٌ يحاور نظامُه الشعريُّ إيقاعًا آخرَ يتمثّل في علاقة الشاعر بالعالم حوله. كأنّ الانتظام الموسيقي للشعر يستنهض ذاكرةً لإيقاعٍ آخر ينتظم، بدوره، حركةَ العلاقة بين أشياء العالم. أو كأنّ موسيقى الشعر هي موسيقى لجسد العالم، وكأنّ إيقاعاتِ هذه الموسيقى هي إيقاعاتُ الروح الشعرية التي هي روحُ الشاعر والعالم. يقول الشاعر عبد الوهاب البيّاتي بصدد التغيير الذي تناول موسيقى الشعر الكلاسيكي: "كان لا بدّ أن تختفي هذه الثنائيةُ الكامنةُ في القصيدة الكلاسيكية الحديثة حتى تصبح موسيقى الشعر جزءًا عضويّاً مكمِّلاً للتجربة الشعرية نفسها، وبعدًا ثالثًا يحمل نفسَ ملامح إيقاعها النفسي وأساسها الفكري والوجداني."(3)

على هذا الأساس بدا أنّ إيقاعَ الموسيقى السيمتريَّ لا يوائم الشاعرَ، أو لا يوائم نزوعَه إلى تشكيل أنفاس روحه وفق إحساسه بالعالم الذي يسعى ذلك الشاعرُ إلى تغييره عن طريق بنائه عالمًا طافحًا بالحلم. فإيقاعُ الرتابة لا يتصادى وإيقاعَ الرغبة في التغيير، وإحساسُ الشاعر بزمنه لم يعد يجد في التوازنات السيمترية المتكرّرة استجابةً لنبض منطوقاته وتوتُّرِ إيقاعاتها. أواخرَ الأربعينات، شهدت التجربةُ الشعريةُ خطوةً تحديثيةً تمثّلتْ في كسر موسيقى الشعر الموزون، ونقلِ القصيدة من نظام البيت إلى نظام السطر، وهو نظامٌ خَوَّلَ الشاعرَ التلاعُبَ الفنيّ بالوحدات الموسيقية (التفعيلات) بما يلائم انفعالاتِ دواخله إذ يواجه واقعًا ويحاول قراءته داخل ذاته. وقد عُرفتْ هذه المرحلة، كما هو معلوم، بمرحلة الشعر الحرّ، أو شعر التفعيلة. وكانت بدايتُها، كما هو معلوم أيضًا، مع نازك الملائكة (1923 ــ ...) وبدر شاكر السيّاب (1926 ــ 1964)، وأُرِّخ لبدايتها بالعام 1945. لكنْ من الخطإ، نقديّاً، أن نعتبر أنّ التحديثَ اقتصر حينذاك على مسألة الموسيقى. كما أنّه من غير الجائز، نقديّاً أيضًا، أن نعتقد بأنّ التقنّع برموزٍ أسطورية وشخصياتٍ تاريخية لم يكن امتدادًا لهذه التجربة، وأنّه كان أساسًا وليدَ التأثّر بالشعر الإنكليزي،(4) أو بشكلٍ من أشكال حداثته. فلقد كانت التجربة الشعرية العربية تتكشّف عن عوامل موضوعية وثيقةِ الصلة بالنقلة الحضارية التي شهدتْها البلدانُ العربيةُ بعد الحرب العالمية الثانية، كما بأحداثٍ كبرى وضعت الشعرَ العربيّ أمام سؤاله عن معنى الحياة وصراعِ الإنسان ضدّ الموت. فمن الناحية الحضارية كانت البلدان العربية تنتقل من بنيتها الريفية إلى بنيتها المدينية، أيْ إلى بنية اختلفتْ فيها "أصواتُها وإيقاعاتُها كلّيّاً عن ذي قبل، كما اختلفتْ تطلُّعاتُها وطموحاتُها، وتعقّدتْ علائقُها الإنسانيةُ على غيرِ ما كانت."(5) ومن ناحية الأحداث كانت نكبةُ فلسطين (1948)، وحربُ لبنان الأهلية (1958)، وهزيمةُ حزيران (1967).

وقد كان سؤالُ الشعر العربي يتشكّل حول تلك الحضارة التي غَيّرتْ شكلَ المدينة، وشَوّهتْ وجهَها، ولم تبنِ معنًى حقيقيّاً لها. فهي، كما يصفها البياتي، حضارةٌ "مزيّفة،"(6) غدت معها المدينةُ تُشْبه مومسًا عاقرًا. ولقد صَدمت المدينةُ، بصفتها رمزَ هذه الحضارة، معظمَ الشعراء، ووَلّدتْ في نفوسهم مشاعرَ من الاغتراب النفسي والاجتماعي: فالقاهرة صارت مصدرًا لمشاعر الغربة والخوف والضياع لدى عبد المعطي حجازي. ودمشق عند أدونيس "امرأةُ الضوضاء والذهول،" المليئة بالوحول، "العاريةُ الضائعةُ الفخذيْن."  وبغداد في نظر السيّاب مدينةُ "السجون والمقاهي والبارات ومستشفياتِ المجانين ودُور البغايا،" وهي الأمُّ العراقية، اللات، أمُّ تموز التي ثَكَلت ابنَها فأَرسلت اللعناتِ على حضارةٍ أفقدتها إياه.(7) كما كان سؤالُ الشعر يومذاك يتشكّل، أيضًا، حول أنظمة الاستقلال وعهودِ الثورات، أيْ حول سلطات وطنية وقومية، كانت النقلةُ الحضاريةُ تتحقّق في ظلِّها بما هو مستعارٌ ومزيَّف. وبدلَ البناء باتجاهِ ما يحقّق الحلمَ، كانت الهزائم تقع، وخيباتُ الأمل تتراكم، والحريةُ تُقْمع، ويزداد وضعُ الإنسان العربي سوءًا في وطنه. وكان السؤالُ الذي يتشكّل بعلاقةٍ مع الواقع الاجتماعي ومتغيّراته سؤالاً يُطرح على مستوى الشعر حول علاقةِ أنا الشعر الرومانسي بذاته، وحول علاقة صوت الأنا الغنائي بما هو خارج ذاته. كأنّ أنا الشاعر صار يتعدّد في مرآة الذات، وصار على الشعر أن يعيد النظرَ في ذاته كي يحقِّق على مستواه ما بدا صعبًا تحقُّقُه في الحياة. إنّها ذاتٌ متغرّبةٌ، شقيّةٌ، لم يعد الشعرُ الغنائي, شعرُ الأنا الواحد، بقادرٍ على التعبير عنها، ولم يعد شكلُه البنائي يتوفّر على ما يلبّي حاجاتِ قول هذه الذات الشعري.

ولقد كان ما جرى البحثُ عنه من سبلٍ ووسائلَ يرتبط بالصورة الشعرية، وبمستوياتها الدلالية، وبما قد تنطوي عليه من تعدُّدٍ للأصوات. وكان الرمز، الذي اعتبره السيّابُ مظهرًا مهمّاً من مظاهر الشعر الحديث،(8) أبرزَ الوسائل التي استخدمها الشاعرُ في بناء الصورة وتوسيع دلالاتها وبناءِ عالمه الشعري المغاير الذي بإمكاننا أن نسمِّيه "عالَمَ شعرية الحلم،" بعد أن راحت "الأشياءُ التي كان في وسع الشاعر أن يقولَها، أن يحوِّلها إلى جزء من نفسه، تتحطّم واحدًا فواحدًا، أو تنسحب إلى هامش الحياة."(9) كأنّه لم يبقَ للشاعر من حطام الأشياء، التي كان يقولها، والتي انسحبتْ إلى هامش الحياة، سوى خلقِ عالمٍ يستعير له الأساطيرَ ويستخدم في بنائه الرموزَ. على أنّ هذا البحث، مستخدمًا الرمز، تمثّل في قصائد عدة،(10) وفي مرحلةٍ سبقتْ ظهورَ قصيدة القناع، وربما زامَنَتْها، ولكنْ من دون أن يتحوّل الرمزُ إلى قناع يحيل على شخصية تاريخيةٍ أو أسطوريةٍ أو مركّبةٍ يَنْطق الشاعرُ بصوتها طوال زمن انبناء القصيدة كما هو الحال في قصيدة القناع. ونحن بهذه الإشارة لا نقصد المسَّ بقيمة تقنيةِ القناع، ولا تجاوزَ القصيدة التي توسّلتْ هذه التقنيةَ، أو التقليلَ من أهميّتها. وإنّما رغبنا في تأكيدِ ما ذهبنا إليه في بداية كلامنا من أنّ الحداثة هي مهادٌ لما سمّي "قصيدة القناع،" وأنّ تاريخَنا كان شرطَ هذه الحداثة، وأنّ هذه القصيدة كانت تجلّيًا من تجلّيات هذه الحداثة. وهذا يعني أنّ ما كان يتشكّل على مستوى المتخيّل الشعري كان اعتمالاً داخل الذات، ومحاورَةً لمعاناةٍ متموضعةٍ في واقع اجتماعي، ومندرجةٍ في سياقِ ثقافةٍ لها تاريخُها.

"قصيدة القناع"

يُفْصح عبد الوهاب البيّاتي عن السبيل الذي قاده إلى أسلوبٍ شعري جديد للتعبير عن مأساة الواقع العربي الفاجعة، وعن معاناة الإنسان منها، تعبيرًا فنيّاً يتجاوز فيه الشاعرُ ذاتيّتَه، فيما تتجاوز معاني القصيدة محدوديةَ زمنها. وقد تمثّلَ هذا السبيلُ في اختياره، كما يقول، "بعضَ شخصيات التاريخ والأسطورة،"(11) وتوظيفِها في سياقات توسِّع دلالاتِها وتمدُّها بما هو كونيّ، أيْ بما يؤسِّس لديمومتها، وذلك بمحاولته التوفيقَ "بين ما يموت وما لا يموت، بين المتناهي واللامتناهي، بين الحاضر وتجاوز الحاضر."(12) وقد رأى أنّ ثمة شخصياتٍ تاريخيةً وأسطوريةً تَصْلح دون سواها للتعبير عن المحنة الاجتماعية والكونية، بسبب سماتها القابلةِ للدخول في غيرِ زمنها، ولكونها تُعِين على الربط "ربطًا موفَّقًا بينها وبين ما يريد أن يعبِّر عنه الشاعرُ من أفكار."(13) وقد سمّى البيّاتي هذه الشخصيات أقنعةً؛ وعَرّف القناعَ بأنّه ما "يتحدّث من خلاله الشاعرُ عن نفسه، متجرِّدًا من ذاتيّته، أيْ إنّ الشاعر يَعْمد إلى خلق وجودٍ مستقلٍ عن ذاته."(14) إنّه ما يَلْبسه الشاعرُ ويتكلّم من خلال شخصه.(15) إنّ ما يَشْغلني ليس سؤالاً عمّا إذا كانت هذه الشخصياتُ أقنعةً أَمْ لا؛ فالتسمية ليست هي المسألة. بل ما يَشْغلني هو تمييزُ القصيدة في حداثتها على أساس القناع، والدخولُ إلى قراءتها من منطلقه؛ حتى إذا ما اعتُبِر القناع مفهومًا "منقولاً" انزلقت القراءةُ إلى إلحاق حداثة القصيدة العربية به، بدلَ إلحاقه هو بها بصفته تقنيةً اصطلاحيةً قابلةً للتوظيف المتنوّع وفق مقتضيات حداثة القصيدة العربية وسياقِها التاريخي، ومن ثم قراءة هذه القصيدة على أساس خصائصها الحداثية، بما في ذلك توسُّلُها لتقنية القناع في تحقيق تخلُّقات القصيدة العربية، أيْ تجاوزُها لبنيتها التقليدية وبناءِ تشكُّلها الجديد. وهذا أمر يدعونا إلى التوقُّف عند معنى القناع والنظر في متغيّراته التاريخية.

القناع: المعنى ومتغيّراته

يرتبط وجودُ القناع بالمسرح الإغريقي، وقبل ذلك بالطقوس الدينية. والقناع، في كلا الحاليْن، قائم على تنكُّرِ مَنْ يَلْبسه بغيةَ التماهي مع مَنْ يمثِّله القناعُ واكتسابِ خصائصه الفاعلة. والقناع بذلك تجسيدٌ لمرجعية يتوخّى إظهارَها، علمًا بأنّ المرجعية كانت، بدايةً، ألوهيةً، أسطوريةً. ففي الطقوس الدينية كان القناع يجسِّد الإلهَ المعبودَ تجسيدًا يصبح معه القناعُ الإلهَ نفسَه. أما من يلبس القناعَ فلا حضور له، أو هو حاضرٌ بتماهيه مع الإله/القناع. وفي الطقوس الديونيسية (نسبةً إلى ديونيسوس) كان المتعبِّدون يلطّخون وجوهَهم بسلافة الخمر وبأوراقِ الكرمة. وانطلاقًا من هذه الاحتفالية الذبائحية تمّ الانتقالُ إلى استخدام أقنعة تُصنع لهذه الغاية. وفي التعريف فإنّ كلمة قناع في الإيطالية تعني "أسود،" وتعني (في اللاتينية) "الساحرة." ولهذيْن المعنييْن علاقةٌ بعادة تلطيخ الوجه باللون الأسود في طقوس السحر.   أما القناع المستعمل في التراجيديا فكان يُطلق عليه باللاتينية "برسونا", وهي كلمةٌ مأخوذةٌ من اليونانية, وتعني ما يواجه الوجهَ، والصورةَ التي يعطيها الإنسانُ عن نفسه للآخرين. وتدلّ كلمةُ "برسونا", على القناع، وعلى الدور الذي يلعبه الممثّلُ حين يضع القناعَ الخاصَّ به. وكان الممثّل يؤدِّي عدةَ أدوار بتبديل الأقنعة.(16)

وقد استمرّ تقليدُ ارتباط الدور بقناعٍ محدّدٍ في الكوميديا ديللارته في عصر النهضة في إيطاليا، حيث كان يُطلَقُ على الشخصيات النمطية اسمُ "الأقنعة." إنّ ارتباط القناع بالدور يجعلنا نرى فيه تقنيةً فنيةً قابلةً لأشكالٍ ومعانٍ من التوظيف ارتبطتْ بتطوّر الفن المسرحي. إذن، ليس القناع عنصرًا في تكوين العمل الفني بل هو تقنيةٌ للأداء، المحدَّدِ بمفهوم الشخصية أو بهويّتها في العمل المسرحي، وتبعًا لتطوّر نظرية المسرح: ففي القرون الوسطى مثلاً وَجَدتْ تقاليدُ الأقنعة اليونانية الرومانية استمراريةً لها في العروض التي كان يُطلق عليها اسمُ مسرحيات التنكّر الساخر، وهي مسرحياتٌ ذاتُ هوية شعبية احتفالية كرنفالية.(17) ومع انحسار أشكال الفرجة، وتطوّر النزعة الواقعية، غاب القناعُ عن المسرح. وعندما عاد إلى الظهور في القرن العشرين، صار يُستخدم بصفته إحدى وسائل التغريب في المسرح، أو للتمييز بين نوعية معيّنة من الشخصيات وبقية الشخصيات.(18) وللتأكيد على التوظيف المختلف للقناع، أو استخدامه كتقنية، وارتباطِ هذا التوظيف بتطور المسرح ومفهوم الشخصية الدلالي، نشير إلى أنّ المسرحي السويسري ماترلينك (1862 ــ 1949) والإنجليزي غوردن كريغ (1872 ــ 1966) لم يعتبرا القناعَ ما يُخْفي بل وسيلةٌ لطرح البعد الرمزي للمسرح وللعلاقة بين الموت والحياة. وقد ترافق ذلك مع إعادة النظر بمبدإ المحاكاة، منذ بدايات القرن العشرين، وتطوُّرِ الفن في اتجاهات جمالية مختلفة مثل الرمزية والتعبيرية والسريالية. وأدّى ذلك إلى كسر وحدة الشخصية وتماسكِها، وجعلها تبدو شكلاً فارغًا لا يدلّ على مضمونٍ محدّدٍ وثابتٍ، وإنّما هي قابلةٌ للتشكيل. وقد ظهر ذلك في مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية.(19) السؤال الذي يقودنا هذا الشرحُ إلى طرحه يدور حول إمكانية انتزاعِ معنى القناع من كل تاريخه المرتبط بالمسرح واستخدامِه في الشعر. فقد يقال إنّ هذا ممكن بحجّة انتقال مصطلح القناع في الغرب نفسه من فنّ المسرح إلى فنّ الشعر. وهذا صحيح، لكنْ هل بقي المصطلح يحمل المعنى نفسَه؟ أيْ هل صحيحٌ أنّ المصطلح نُقِل نقلاً؟ قد يكون من المهمّ أن نذكِّر بما يلي:

أولاً: انّ هذا الانتقال جرى على قاعدةٍ من التنظيرات شرّعتْ له الانتقال، مهما بدت خلافيةً.

ثانيًا: انّ ما برز من تنظيرات الغرب بخصوص القناع ارتكز، وبشكل أساسي، على الأنا من حيث علاقته بذاته. فالأنا، في ضوء كشوفات علم النفس، لم يَعُدْ جوهرًا روحيّاً بسيطًا ومطلقًا، بل هو:

ـ عند فرويد أنا ظاهرٌ واعٍ لذاته، وأنا باطنٌ غيرُ واعِ لذاته. إنّه أنا مزدوج، بين أحدِهما والآخر علاقةُ استكشافٍ وتعرُّفٍ وبحثٍ عن حقيقة الذات في مرآة ذاتها.

ـ وهو عند يونغ مزدوج أيضًا: فهو ذكوريٌ "أنيما" يمارس علاقةً مع هواماته الأنثوية, وأنا أنثويٌّ "أنيموس" يمارس علاقةً مع هواماته الذكورية.

ـ وهو عند إليوت أنا له معادلُه الموضوعي.

ثالثًا: انّ انتقال المصطلح من الدراما (المسرح) إلى الشعر الدرامي اعتمد لفظَ "برسونا" في الغالب، أي "الشخص،" الذي تمايَزَ مع الوقت عن مصطلح "قناع."  هكذا اختار عزرا پاوند (أوائلَ القرن العشرين) مصطلحَ "برسونا" بغرض الدلالة على الشخصية التي يجري على لسانها الشعرُ في القصيدة، والتي تَمْنح صوتَ الشاعر بعدًا تاريخيّاً. وهكذا بات الكلامُ على "الشخصية" التي اعتبرها إليوت مستقلةً في الدراما عن الشاعر، واعتبرها في القصيدة معادلاً موضوعيّاً لأنا الشاعر. كما أنّ "الصوت" صار بتعدُّده هو موضوعَ الكلام في الدراما، أيْ هو البديل لمصطلح "القناع." ويمكن القول إنّ مصطلح "القناع" وجد سبيلَه إلى تشعُّبات معانيه المستندة إلى تنظيرات علم النفس، والفلسفة، وعلم السرديات، وإلى تراث الأسطورة والمسرح. كما يمكن القول إنّ هذه التشعُّبات اتّسمتْ بنوع من الوضوح الذي تجسّد، مثلاً، في تمييز إليوت بين الشخصية المستقلّة في قصائد القناع الذي لا يعود صوتُها إلى الشاعر، وبين الشخصية في قصائد المونولوج الدرامي الذي يبقى صوتُها مسكونًا بصوت الشاعر (صوته الثاني).

"القناع" في النقد الأدبي

بالانتقال إلى استعمال مصطلح "القناع" في النقد العربي نجد ارتباكًا وعدمَ وضوح ينعكسان على القصيدة وقراءتها، الأمرُ الذي قد يتركَ أثرَه في منهجية هذه القراءة في نزوعها إلى وضع الحداثة الشعرية العربية موضعَ التبعية للحداثة الشعرية الغربية. ففي تعريف د. إحسان عبّاس للقناع يقول: "يمثّل القناعُ شخصيةً تاريخيةً ـ في الغالب ـ [يختبئ الشاعرُ وراءها] ليعبِّر عن موقفٍ يريده، أو ليحاكمَ نقائصَ العصر الحديث من خلالها. ويشترك الشعرُ مع المسرحية الشعرية (الحلاّج وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور مثلاً) في استخدام هذه الوسيلة..."(20) فهذا التعريف، الذي يبدو واضحًا، لا يعود واضحًا عندما نَعْلم أنّه يحيل على إليوت الذي عادل بين القناع والشخصيةِ المستقلةِ، لكنّه قَصَرَ هذه الأخيرةَ على المسرح، في حين اعتبر القناعَ في قصيدة المونولوج الدرامي المعادلَ الموضوعيّ للصوت الثاني للشاعر. فإنْ كان تعريفُ عباس للقناع يشير إلى الشخصية التي تؤدّي دورًا في المسرح، فكيف يمكن أن تكون هذه الشخصيةُ / القناعُ شخصيةً مشتركةً، أيْ تؤدِّي الوظيفة نفسَها بين ما هو بنيةٌ نصيةٌ مسرحية وما هو بنيةٌ نصيةٌ مونولوجية؟ يعلِّل عبّاس تعريفَه السابق باشتراك المسرحية والقصيدة في استخدام الشعر، وكأنّه يكفي أن يكون كلاهما شعرًا كي يصحّ القولُ بالمعنى المشترك للقناع بينهما.

ونتابع د. عبّاس لنتبيّن المآلَ الذي يمكن أن يؤدّي إليه تعريفُه. فهو يربط بين القناع والدور، وبالتالي بين الشخصية في قصيدة البياتي والشخصية في المسرحية الشعرية (الحلاج وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور). وهو ربطٌ يقوم على التماهي بين القناع ومَنْ يلبسه، لأنّ ذلك يعني حسنَ أداء الدور الذي على الشاعر (الممثِّل) أن يؤدِّيه. هكذا يأخذ على البيّاتي، في قصيدته "محنة أبي العلاء،" الذي اتّخذ فيها الشاعرُ من أبي العلاء قناعًا له، ظهورَه، أو عدمَ إحكام القناع على وجهه. يشبِّه عباس، هنا، الشاعرَ بالممثِّل "الذي ينسى دورَه في المسرحية، ويأخذ في مخاطبة الجمهور."  ويورد مثالاً على ذلك المقطعَ التالي من قصيدة البيّاتي: "كان زمانًا داعرًا يا سيدي، كان بلا ضفافْ / الشعراءُ غَرِقوا فيه وما كانوا سوى خرافْ / وكنتَ أنتَ بينهم عرّافْ / وكنتَ في مأدبة اللئامْ / شاهدَ عصرٍ سادهُ الكلامْ."  ثم يعلِّق بقوله: "وفي هذا الموقف، انتقض القناعُ، ولم يعد يؤدّي المهمةَ التي وُضِعَ من أجلها."(21) لكنْ عبّاس ينسى، كما يبدو، أنّ هذه المهمة التي يريد أن يقيِّد الشاعرَ بها، والتي، كما يقول، وُضِعَ القناعُ من أجلها، لم تكن في تاريخ القناع ثابتةً أو واحدةً. وينسى، كما يبدو، أنّ القناع في المسرح كان يوضع ويُنْزع؛ وأنّ تاريخَ القناع يجعل منه تقنيةً نقترح أن نميِّز بينها وبين ما تؤدِّيه من وظيفة قد لا تَثْبت على حالٍ داخل العمل نفسِه أو بين عملٍ وآخر.

هذا الاقتراح أجد صدًى له في تعريف البيّاتي للقناع(22) الذي عرضناه سابقًا، والذي يوصي باعتباره تقنيةً فنيةً تسمح للشاعر بتلبّس شخصية تاريخية وبالكلام من خلالها. غير أنّ الشاعرَ الذي يَلْبس القناع إنّما يَلْبسه ليستخدمه من أجل توليد معاني ذلك المنظور، والتي هي، بحسب البيّاتي، التوفيقُ "بين ما يموت ولا يموت، بين المتناهي واللامتناهي، بين الحاضر وتجاوزه."(23) إنّ القناع وسيلة يعبِّر بها الشاعرُ عن أفكاره. أما غايةُ هذا التوظيف فهي، بكلام الشاعر، تقديمُ "البطل النموذجي في عصرنا هذا." فهل التوظيفُ، الذي أَنجز القناعُ مهمّته في ممارسته، هو الذي سَمَحَ للشاعر بترك قناعه؟ أمْ هو الشاعر الذي يقوم بما يقوم به المؤلِّفُ الضمني في العمل السردي، ويعود إلى إظهار نفسه بصفته شاعرًا، مؤكِّدًا أنّ قصيدته ليست عملاً سرديّاً، وأنّ ما استعارته من السرد لم يكن إلاّ لتأكيدِ نوعها الأدبي؟ قد لا يكون سؤالانا موجوديْن في مقاصد الشاعر أو وعيه، لكنْ يبقى في وعيه أنّ ما يفيد منه الشاعرُ من فنون أخرى لا يجعل من القصيدة مسرحًا، وإنْ زوّدها ببعدٍ درامي، وضاعف صوتَ الشاعر بأصواتٍ أخرى.

لم يكن تعريفُ البيّاتي للقناع واضحًا لجهة التمييز بين المصطلح في تعريفه العامّ وفي توظيفه الخاصّ، أو بين التقنية بصفتها أداةً معرَّفةً بمعناها العامّ وبين توظيفها الذي ينوِّع على هذا المعنى ويخصِّصه وربما أفضى إلى اختلافه. ويتمثّل عدمُ وضوح البيّاتي في تأكيده أنّ لُبْس القناع يعني أنْ "أستبطن مشاعرَ هذه الشخصية [التاريخية] في أعمق حالات وجودها،"(24) ثم في قوله، في التعريف نفسه، بأنّه يودّ تقديمَ "البطل النموذجي في عصرنا هذا."  أما كيف يكون التوفيق بين القناع بصفته قناعَ شخصيةٍ تاريخيةٍ وبين البطل النموذجي بصفته بطلاً "في عصرنا هذا،" أو كيف تكون العلاقة ثُلاثيةَ الأبعاد فيما يرى إليها الشاعرُ في ثنائيةٍ هي بين الممثل وقناعه علاقةُ تماهٍ، فذلك مما لا نجد له جوابًا في تعريف البياتي.

أما في تعريف د. جابر عصفور فنجد جوابًا، لكنّه ليس على أساس التمييز الذي اقترحناه بين التقنية والتوظيف، أو بين العامّ والخاصّ باعتبار الممارسة التاريخية ومتغيِّراتها، بل على أساس الشمولية التي يعرِّف بها القناع. فالقناع في تعريفات عصفور هو:

ـ "رمز يتّخذه الشاعرُ العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرةً موضوعيةً شبهَ محايدة..."

ـ "وسيطٌ يتيح للشاعر أن يتأمّل ــ من خلاله ــ ذاتَه في علاقاتها بالعالم".

ـ "استعارة موسّعة..."

ـ "صوت جديد متميز.."(25)

هذه التعريفات تركِّز على الصوت (القناع) باعتباره محصلةَ تفاعلٍ بين صوتيْن مختلفيْن، هما صوتُ الشاعر وصوتُ الشخصية التاريخية أو الأسطورية. وبهذا، ينزع عصفور إلى شمولية تؤهِّل مصطلحَ "القناع" لأن يكون ميزةً عامةً للقصيدة العربية المعاصرة لأنّه "أحدُ الوسائط الأساسية التي يحاول بها الشاعرُ المعاصرُ اقتناصَ الواقع."(26) وهكذا تصبح قصيدةُ "المسيح بعد الصلب" للسيّاب، التي تقوم على المونولوج، وقصيدةُ "الأخضر بين يوسف ومشاغله" لسعدي يوسف، التي تقوم على تعدُّد الأصوات، وكذلك قصيدةُ "محنة أبي العلاء" للبيّاتي، و"مذكرات بشر الحافي" لصلاح عبد الصبور، قصائدَ قناع، بحسب عصفور.(27) يتجاوز معنى القناع في تعريفات عصفور معنى الدور الذي هو للممثِّل، وبالتالي معنى التماهي بين الممثِّل ودوره، أو معنى اختباء الممثِّل خلف الشخصية التي يمثِّلها. فالشاعر غيرُ الممثِّل؛ إنَّه صوتٌ ضمنيٌّ يحمل موقفًا من عصره ورؤيةً لزمنه. والقناع لا يُخفي وجهَه، لأنّه رمزٌ يتمثّل في شخصية "تنطق القصيدةُ صوتها" لا لتكونه بل لتكشفَ عالمَ الشخصية. هذا الصوت، صوتُ القصيدة، هو محصّلةُ العلاقة التفاعلية بين صوت الشخصية المباشر وصوتِ الشاعر الضمني، وهو الذي يحدِّد، حسب عصفور، معنى القناع في القصيدة. هكذا يرى عصفور أنّ مهيار في قصيدة أدونيس قناع مختلف عن قناع السيّاب في "المسيح بعد الصلب،" وعن قناع البيّاتي في "الذي يأتي ولا يأتي،" وعن سواهما من الأقنعة.

لكنّ هذه الشمولية التي حاولنا استخلاصَها من تعريفات عصفور تعود لتوقعَ قارئَ بحثه في الارتباك، وذلك عندما ينهي الباحثُ القسمَ النظري من بحثه موضحًا بأنّ القناع في قصيدة "الصقر" لأدونيس، وفي صرخة الصقر "وافرتاه كنْ لي جسرًا وكنْ لي قناع،" هو "الرمز [الذي] يبعث الخصبَ ويعيد الخلقَ في عالمٍ يكتنفه الموتُ والجدب"(28)؛ وأنّ القناع في قصيدة سعدي يوسف "الأخضر بن يوسف ومشاغله" وفي قول الشاعر: "سأستخدم اسمك / معذرة / ثم وجهك / أنت ترى أنّ وجهك في الصفحة الثانية / قناع لوجهي" هو "مرآة يجتلي فيها الثائرُ الإنسانُ ذاتَه"(29)؛ وأنّ القناع في استخدام أدونيس له "أحدُ الوسائط" لإدخال الواقع في شبكة الرمز ولـ "توسيع حقل الإشارات." وهو، بذلك، يعيد القناع إلى تعريفه بالاستعارة الموسّعة. هكذا يبدو التعريف قابلاً للاستبدال. وهو، إذ يصبح مرآةً، يفضي إلى ارتباك يخرج عن إطار بحث عصفور إلى إطار المبحث النقدي العربي نفسه. فعبّاس يفضّل مثلاً مصطلح "المرآة" على "القناع" حين الكلام على شعر أدونيس وما اعتُبِر منه قصائد قناع: فالمرآة، كما يقول، هي "من الوجهة النظرية أشدّ واقعيةً من القناع وأشدُّ حياديةً... وأوسعُ مجالاً، لأنّها تَصْلح أن تُرفَعَ للماضي، كما تصلح أن تُرفَعَ في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشياءَ مثلما تعكس الأشخاصَ، بينما لا يصلح القناعُ إلاّ للماضي، ولاستحضار شخصيات أصبحتْ في تضاعيف التاريخ نموذجيةً."(30) كذلك يعتبر عبّاس الأخضرَ بن يوسف في قصائد سعدي يوسف قرينًا،(31) في حين يعتبره عصفور قناعًا.

يعود هذا الارتباك، حسب اعتقادنا، إلى نقل مصطلح "القناع" من سياق تاريخي فني إلى سياق تاريخي أدبي مختلف. فلئن كان الغرب قد نقل هذا المصطلح من فن المسرح إلى فن الشعر ضمن سياق تاريخي لثقافته، فنحن نقلنا هذا المصطلح من ثقافة إلى ثقافة، ومن تاريخ إلى تاريخ. إنّ انتقال القصيدة العربية الغنائية الكلاسيكية القائمة بالصوت المنفرد إلى قصيدة المونولوج الدرامي، وإنْ كان بأثرٍ من فن المسرح الذي ينتمي إلى الغرب، إلاّ أنّ هذا الفن كان قد دخل منذ بدايات النهضة في ثقافتنا. وهذا يعني أنّ ذلك الانتقال تمّ في إطارٍ ثقافي عربي نهضوي. أضف أنّ سبل نهوض القصيدة العربية ببعدها الدرامي ارتبط بالإفادة من تراثٍ محلي تمثّل في الرموز الدينية والأسطورية والشخصيات التاريخية. ولعلّه بإمكاننا أن نذهب مذهبَ خلدون الشمعة حين لازم بين "الالتفات إلى تقنية القناع" و"ظهور الحركة التموزية في الشعر العربي الحديث"(32) باعتبارها حركةً ذاتَ أصولٍ ثقافية تنتمي إلى تاريخنا. فلقد اعتبر الشمعة أنّ ترجمة جبرا لفصل من كتاب الغصن الذهبي لفريزر بمثابة تأكيد ـ لا نقلٍ ـ لاهتمام "الشعراء التموزيين بدور الأسطورة في الأدب."(33) تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الربط بين ما أَنْتجته الحركةُ التموزية وبين المصادر التراثية القديمة لمنطقة الهلال الخصيب وبلاد الرافدين يَهْدف إلى تأصيل المنحى الحداثي للقصيدة العربية. هكذا نلاحظ أنّ جبرا مثلاً لا يستعمل مصطلح "القناع" مطلقًا، ويعتبر الشخصيات الأسطورية رموزًا استخدمها الشاعرُ في "فترة تنامي الحداثة" لتصوير "النزاعات الجائحة بعواطفها وحرقاتها عند الإنسان الحديث"(34): فالشعراء التموزيون الذين التفتوا إلى هذا التراث الثري، أو إلى هذا الكنز "من الرموز والإشارات المتمثِّلة في أبطال الأساطير ووقائعها،"(35) حقَّقوا مع مَنْ تأثّر بهم لاحقًا "توسيعًا مذهلاً للمخيلة العربية."(36) وهكذا تعتبر د. خالدة سعيد أنّ شخصيةَ مهيار كما ابتدعها أدونيس تحيل على "خاصةٍ من خصائص الحداثة في شعره؛"(37) وهي في إضاءة شخصية مهيار، وكشفِ معناها ودلالاتها، لا تستخدم مصطلحَ القناع، بل تتكلّم على الأساطير والرموز وكيفية استخدام أدونيس لها استخدامًا ينقل "التجربة الشخصية والقومية إلى المسرح الكوني."(38)

خاتمة

نَخْلص إلى القول بأنّ ما يتميّز به الشعرُ العربي الحديث في مرحلته الثانية، خلال عقدي الستينات والسبعينات، يرتبط بالتوظيف البنائي ودلالاته لهذه الرموز التاريخية والأسطورية، سواء شكّلتْ أقنعةً للشاعر أو اعتُبرتْ مرايا أو قرائنَ، أو اعتُبر صوتُ الرمز/الشخصية صوتًا ثانيًا للشاعر. ولعلَ أهمّ ما ميّز الشعرَ الحديث في مرحلته تلك هو انتقالُه من كونه نوعًا أدبيّاً مغلقًا على شكله الذي تتحدّد جماليّتُه، وبشكلٍ أساسي، بعنصر الموسيقى، إلى كونه نوعًا أدبيّاً مفتوحًا على أنواعٍ أدبيةٍ أخرى (المسرح) وتتحدّد جماليّتُه، بشكل أساسي، بالصورة. فبعد أن انتهى الشعرُ الكلاسيكي إلى أن تكون الموسيقى أو الوزنُ أساسَ شعريّته، برزت الصورةُ مكوِّنًا أساسيّاً لهذه الشعرية المتّسمة بالتبعيد والتغريب واستيعاب رموزٍ وشخصياتٍ وأساطيرَ تبني علاقاتِ عالم القصيدة وفق نظامٍ جديدٍ وسّع حقلَ دلالاتها، وعَدّد أصواته الناطقةَ بخطابه، ومنحه بعدًا دراميّاً اقترب به من المشهد. لقد اختلف فضاءُ القصيدة الحديثة. وباقترابه من الفضاء المسرحي كان يقترب من فضاء الحياة، ويعالج زمنًا لم يعد يقتصر على الحاضر، بل صار زمنًا كونيّاً هو زمنُ الإنسان في صراعه التاريخي العميق ضدّ الموت ومن أجل الحياة.

بيروت

تنشر هذه الدراسة بالاتفاق مع مجلة (الآداب) البيروتية، وبالتزامن مع عددها الأخير

1 ـ يؤكِّد أدونيس أنّ ما ترفضه الحداثةُ هو النموذجُ، لا الشكلُ كشكل. يقول: "لا نَقصد أن نرفض الشكلَ كشكل، بل كنماذج مسبّقةٍ وأصولٍ تقنيةٍ قَبْلية." راجع: زمن الشعر (بيروت: دار العودة، ط 2، 1978)، ص 15.

2 ـ راجع: أحمد عبد المعطي حجازي في مقالة له عن قصيدة خليل حاوي، "السندباد في رحلته الثامنة،" ديوان حاوي (بيروت: دار العودة، 1972)، ص 114؛ حيث يقول: "لقد كان الرمزُ الأوروبي نتيجةَ الهروب من الواقع إلى الغيب، بينما ينشأ الرمزُ العربي نتيجةَ الثورةِ على الواقع الفاسد والطموحِ إلى واقعٍ أمثل."

3 ـ ديوان البياتي، الجزء الثاني (بيروت: دار العودة، 1972)، ص 387.

4 ـ يوضح د. إحسان عبّاس أسبابَ "استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث" فيقول: "... ثمة أسبابٌ كثيرةٌ ربما كان في أولها ـ وإنْ لم يكن أقواها ـ التقليد للشعر الغربي الذي اتّخذ الأسطورةَ ـ منذ القِدم ـ سداه ولحمتَه. ولكنْ منذ دراسات جيمس فريزر (في الغصن الذهبي) للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونج لدورها في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجزُ التي كانت تقوم دون تقبّلها في الشعر العربي الحديث."  أنظرْ كتابه، اتجاهات الشعر العربي المعاصر (عمّان: دار الشروق، 1992، ط 2)، ص 128.

5 ـ جبرا إبراهيم جبرا، "الحداثة في الشعر والجمهور: جدليةُ القطيعة والتواصل،" مجلة فصول، المجلّد 15 عدد 2، صيف 1996، ص 12.

6 ـ أنظر ديوان البياتي، الجزء الثاني، مصدر مذكور، ص 378.

7 ـ مرجع مذكور، ص 95. ونلفت نظر القارئ إلى الفصل الخامس الذي تناول فيه موقفَ الشعراء الحداثيين من المدينة، ص 89 ــ 108.

8 ـ 9 ـ هذا ما أورده ناجي علّوش على لسان السيّاب نقلاً عن مجلة شعر، وذلك في تقديمه لـ ديوان السيّاب (بيروت: دار العودة، 1971).

10 ـ نذكر على سبيل المثال قصيدةَ "المومس العمياء" (1954) لبدر شاكر السيّاب التي أَكْثرَ فيها من استخدام الرموز والأساطير.

11 ـ12 ـ 13 ـ 14 ـ 15 ـ عبد الوهاب البيّاتي، "تجربتي الشعرية" في ديوانه، الجزء الثاني، مصدر مذكور، ص 406 ـ 409.

16 ـ من أهم هذه الأقنعة: قناعُ الشخص الجلف، والفاسق، والشيخ، والشابّ، والابن الأكبر، والجدّ، والمترف الفاسد، والعاقل، والرزين، والعبد، والمتطفّل، والمنافق... وقد أحصي وجودُ 9 أقنعة للمسنّين، و11 للفتيان، و7 للرقيق، و14 للنساء. وتشكِّل هذه الأقنعة تراثَ الكوميديا الجديدة "بالياتا،" أي المستعارة.

17 ـ نشير إلى عروض الكوميديا ديللارته التي كانت الأكثر اكتمالاً، حيث كانت كلُّ شخصية من شخصيات الخدم تضع قناعًا نصفيّاً مضحكًا إلى درجة الرعب، بما يذكِّر بالأصول الكرنفالية لهذه الأقنعة.

18 ـ في مسرحية دائرة الطباشير القوقازية لبرشت (1898 ـ 1956) مثلاً، تضع الشخصياتُ ماكياجًا كثيفًا يُشْبه القناعَ، الأمرُ الذي يعطيها طابعًا مصطنعًا ينفي إمكانيةَ تطوّرها؛ في حين بقيت الشخصياتُ الإيجابيةُ القابلةُ للتطوّر بلا أقنعة.

19 ـ للحصول على هذه المعلومات عدتُ إلى الصديقة ميسون علي، التي تدرّس في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. فشكرًا لها.

20 ـ 21ـ عبّاس، مصدر مذكور، ص 121 ــ 123.

22 ـ يُعتبر عبد الوهاب البياتي أولَ من عرَّفَ القناعَ في كتابه، تجربتي الشعرية، الذي صدر في طبعته الأولى سنة 1968.

23 ـ 24 ـ تجربتي الشعرية، ديوان البياتي، مرجع مذكور، ص 406، 409.

25 ـ 26 ـ27 ـ 28 ـ 29 ـ مجلة فصول، مرجع مذكور، ص 123 ــ 125، مع الإشارة إلى أنّ علامات التأكيد منّي.

30 ـ 31 ـ اتجاهات الشعر العربي المعاصر، مرجع مذكور، ص 125 ـ ص 60/61.

32 ـ 33 ـ مجلة فصول؛ مرجع مذكور، ص 73 ــ 74.

34 ـ 35 ـ 36 ـ جبرا إبراهيم جبرا، "الحداثة في الشعر والمجهور: جدلية القطيعة والتواصل،" مجلة فصول، المجلد 15؛ العدد 2، صيف 1996.

37 ـ 38 ـ خالدة السعيد، حركية الإبداع (بيروت: دار العودة، ط 1، 1979)، ص 121 و122.