يقدم الناقد مسحاً للمسار الشعري في العراق منذ أواسط القرن الماضي. يتابع تقلباته الحادة ودوامة التيارات التي عصفت به أدبياً وسياسياً واجتماعياً على المستوى المحلي والعربي والعالمي. ولا يفوته إماطة اللثام عن علاقة المثقف بالشعرية والتاريخ والسلطة، وعن امتداد تأثيرات هذه العلاقة في الأنساق المتداعيّة شعراً.

الشعرية العراقية.. ثمة من يزيح الغبارعن الذاكرة

علي الفواز

الحديث في أسئلة الشعرية العراقية المعاصرة وقراءة أسئلتها يعني فتح أفق جديد في فضاء تلك الأسئلة، مثلما هو استشراف للبحث عن معطيات ومظاهر لما أسسته هذه الشعرية من علامات وما تركته من انزياحات في المشغل الشعري والنقدي. إذ أن تجليات هذه الشعرية وانزياحاتها، انعكست عبر الكثير من التحولات التي تتصل بتجاوز الراهن السائد، وعبر العديد من الإشكالات التي تجسّد في جوهرها إشكالات الثقافي والاجتماعي والسياسي بكل ما كان يعتورها من مؤثرات وانعطفات خطيرة عبّرت عنها مجموعة من التحولات الحادثة في الجسد الثقافي، والتي عبّرت في جوهرها عن تغاير فاعل في النظر إلى الوظيفة الشعرية وإلى جنسانية الشعري ذاته، ليس بحكم تراكم الوقائع والحوادث التاريخية التقليدية كما يحدث في النمو الطبيعي للظواهر التاريخية والاجتماعية وإنما بحكم عوامل قارّة امتزجت فيها مؤثرات الحراك الثقافي العالمي والعربي مع عوامل الذات الشعرية المتحولة مع عوامل التعرية السياسية والاجتماعية التي فرضتها آليات وضواغط خارجية وداخلية بدءاً من تداعيات مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء بتداعيات داخلية ارتهنت لأشكال القهر الاجتماعي والسياسي، تلك التي عمدت إلى تهشيم وحدات المكان والزمان العراقيين، والاصطدام بقيم التحول ذاته، ومظاهره وتفكيك العديد من البنيات الإطارية للفعل الإنساني الاجتماعي والثقافي، والتي مهدت الطريق لظهور أبرز مظاهر الأزمة ما بين السياسي/ السلطوي/ الاجتماعي وبين الثقافي/ الجمالي/ الحلمي، مثلما أسهمت في إبراز أنماط من الثقافات الباطنية والسرية والتي تعد من أبرز المظاهر التي اقترنت بإنتاج أطر غير متداولة في الشعرية العراقية، فضلاً عن صعود نجم ما يسمى بأنماط الثقافات الشعبية التي اقترنت بالحراك السياسي والاجتماعي في فورات صعوده ونكوصه وآثاره على التحويل الاجتماعي والتي اقترن بها أيضاً تشكيل أنماط أخرى من أيديولوجيات وخطابات الغياب والموت والبؤس الاجتماعي.

هذا المكونات الصادمة والمؤثرة في الواقع الثقافي العراقي عمدت إلى منع نشوء ما يمكن تسميته بالتراكم الحقيقي في المعارف والثقافات التي تواترت عبر تاريخ الثقافة العراقية وبنياتها وأشكالها وأجيالها والتي مهدت لـ (انقطاع الصلة بين أجيال الباحثين والكتاب وهي مشكلة تمنع التراكم المعرفي، فلا تقدم في المعرفة دون تراكم في منتجات المعرفة ولا تراكم في المنتجات من دون تواصل أجيال المنتجين)(1). إن غياب هذا التراكم وانقطاع التواصل بين الأجيال بسبب الطبيعة الصراعية المعقدة في الحياة العراقية وإغواءات الفخ السياسي وهيمنة الدولة القمعية وفروض الأيديولوجيات وصراعاتها، جعل الفعل الثقافي بمستوياته المتعددة عرضة لعوامل معقدة وخلافية من الصراعات والحساسيات فضلاً عن تأثيرات عوامل قهرية السياسية الانقلابية التي مارست منذ بداية الستينات فعلها الإقصائي على أية إمكانية لنشوء ظواهر وفضاءات للتنوع الثقافي في البيئة الثقافية العراقية وفي جدل الثقافات وصخبها وحراكها في سياق نشوء دوافع متعددة لتبني اتجاهات مختلفة تقترن بتنوع الفاعلية الثقافية ذاتها.

ولاشك أن هذه المعطيات تداخلت مع بعضها في إعطاء هذه السمات الحادة للأجيال الشعرية كظواهر ثقافية افترضها النقد الأدبي وبالطريقة التي جعلها وكأنها تستجيب للواقع والثقافة وتغايرات الوعي والصراع الاجتماعي والسياسي، إذ نجد أن أغلب شعراء هذه المرحلة قد خرجوا من معطف الأيديولوجيا، فضلاً عن كون هذه الأيديولوجيا مسؤولة بشكل أو بآخر مسؤولة عن إيجاد مجموعات من الشعراء والمثقفين المذعورين من الخارج المأزوم وكذلك مجموعات أخرى من المثقفين الاغترابيين والعاطلين والمغلولين إلى ظاهرة الاحتجاج السياسي والسجن السياسي، رغم أن ظاهرة المنفى الثقافي لم تكن بسبب هزيمة الأيديولوجيا لوحدها، قدر ما كان أيضاً نزوعاً للحرية، وهروباً من القمع والاستبداد الذي بدا طاغياً في الحياة العراقية. لقد أسهمت الأيديولوجيا بمعناها الحزبي في نشوء مجموعة من المثقفين الذين استمرأوا الوقوف خلف عقائدهم وأحزابهم وطوائفهم بعيداً عن تشكيلات الهويات الوطنية والثقافية وصيرورتها المضادة للمركزة العداونية العصابية.

إن نشوء ظواهر المثقف الحزبي والمثقف السلطوي والمثقف السجين والمثقف الصعلوك ونشوء الأطر الأيديولوجية والبيئية المضطربة لها، كانت من أبرز سمات الثقافة العراقية خلال مرحلة الستينات خاصة بعد عام 1961 حينما بدأت عوارض التصدع السياسي والثقافي في الجسد الرومانسي لثورة 1958 والتي تمظهرت من خلال بروز موجة من التصادمات والتجاذبات العنفية بين القوى السياسية والحزبية، والتي تسببت في تكريس الظاهرة العسكرية لـ (الثورة) وظهور ملامح الانشقاق في صفوف ما كان يسمى بحركة الضباط الأحرار خاصة بعد أحداث 1959 الدموية وبروز ظاهرة التصفيات الجسدية والاغتيالات الأيديولوجية!! فضلاً عن اعتقال أغلب قادة حركة اليسار السياسي العراقي مما نتج عنه نشوء فراغات ومشاكل وتوترات في الشارع العراقي، وأعتقد أن هذه الأحداث هي التي مهدت للأحداث المريعة في ما بعد عام 1963 بكل عنفها وهوسها وقهريتها وتداعياتها الاجتماعية والسياسية وحتى (الإثنية) والتي أفرزت اصطفافاً سياسياً واجتماعياً وعقائدياً وأيديولوجياً، له اليد الطولى في قسر مظاهر النمو الطبيعي في المشروع الحداثوي الثقافي والحدّ من ظاهرة (التثاقف) السلمي مع نماذج الثقافات المتعددة بكل تلاوينها القومية والأجنبية،تلك التي تعد من أكثر ملامح الإثارة والغواية في اشتغالات جوهر المشروع التجديدي في الشعرية العراقية.

شكلّت ظاهرة الستينات في الثقافة العراقية ظواهر نكوص سياسي وثقافي حادة، مثلما أسهمت في أحداث ظواهر تحول اجتماعي وثقافي خطيرين وفاعلين في تاريخ الوعي الشعري ومظاهر تحديثه وحراكه الملموس والفاعل في أثره على تحولات القصيدة العراقية، وتغريبها من فضاءاتها الغامرة في الرومانسية والثورية المفرطة إلى اشتغالات مغايرة استثمرت طاقات أخرى في الشعرية تلك التي استعارت بنية الأسطورة والقناع وبعض البنى البلاغية والأسلوبية،وكذلك التغاير عن حساسية الكتابة إلى تغايرات مسّت الناس والمزاج والوعي، فضلاً عن الغوص في العوالم الداخلية للشارع، والتي أضحت مثار خلاف بين الكثير من الشعراء والنقاد إذ يرى الشاعر سامي مهدي أن الخطاب الشعري لهذه الظاهرة (اكتشف حقيقته الإنسانية، وطاف مع الحلم في ما وراء الواقع مغامراً في مطارد المجهول. وربما عزا بعض النقاد هذه العودة إلى الخيبات والانكسارات السياسية التي شهدتها الستينات، لكنها كانت في حقيقتها عودة طبيعية، لأنها عودة الشعر إلى ذاته، إلى منبعه الأصلي ومجاله المستقل لذلك أخذ الشاعر الستيني يكتشف ضيق الأشكال الشعرية الخمسينية وتكرار إيقاعاتها ونمطية أبنيتها)(2) ، ويرى نقاد آخرون أن شعرية هذه المرحلة لم تأت بجديد يتجاوز التوهج الشعري الذي جاء به الشعراء السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري. إذ يجد الناقدان علي عباس علوان وعبد الجبار داود البصري أن النموذج السيابي مازال هو النموذج الموجّه للكثير من مسارات الشعرية العراقية.

هذه الطروحات رغم خلافيتها فإنها تؤشر طبيعة هذه المرحلة بتعقيداتها، إذ أنها تعكس ظاهرة أزمة التحول الصادم في الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي وكذلك تعكس الظاهرة التي تعبّر عن اندحار اجتماعي وسياسي أيضاً، كما أنها بالمقابل تمثل ظاهرة في المغامرة الثقافية التي امتزجت فيها الكثير من عوامل التمرد والصخب والاحتجاج، وأشكالات التفكك الحادثة في المكان العراقي وعقائده الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال أسهم في فتح آفاق لم تكن مألوفة في إطار قراءة العديد من التغايرات والتحولات في الذات والتاريخ والخطاب، وكذلك البحث عن حلول واطمئنانات نفسية وثقافية إزاء الضغوط الاجتماعية السياسية والمعيشية الصعبة التي بات يفرضها الواقع الجديد.

لقد كشفت هذه المرحلة عن أزمة المثقف وقلقه الوجودي في التعاطي مع مفاهيم لم تكن مألوفة مثل الدولة والحزب والحرية والجنس والموت والحياة والوجود، لأن هذه المفاهيم هي شكل من أشكال الاتصال بالآخر أولاً، وشكل من أشكال التغاير داخل البيئة الثقافية والسياسية ثانياً، وربما لأنها عصفت بالكثير من التخيلات الثقافية المألوفة بحكم مرجعياتها الفلسفية والثقافية وفي إطار النظرية الأدبية، تلك التي كانت بالنسبة للمثقف الرومانسي أشبه بالتجريدات التي لم يمسسها هذا المثقف الحالم والباحث عن أشكال وجوده وحريته وسط مناخات محدودة مثلما كان بحثه عن التجديد في مجالات الكتابة الأدبية وسط مناخات ثقافية واقعية ورومانسيّة هي أقرب إلى إنتاج الصياغات الجاهزة والدعائية والتي وضعتها الأيديولوجيات الشعبية في سياق نضالها الاجتماعي وتكريس قيمها وشعاراتها وسط الجماهير المهيئة لأية عملية هيجان شعبي.

ومن هنا نجد أن شكلانية حضور المثقف العضوي بمفهومه الغرامشوي وبمرجعياته الأيديولوجية المتداولة في وسطنا الثقافي (الواقعية والثورية)، بدأت مع نشوء الدولة القمعية الشمولية ونشوء ظواهر السجن السياسي القهري ومفهوم الرقابة السياسية والثقافية والاغتيال السياسي بمعناه الأوسع والأكثر دموية، إذ كان هذا النموذج ممثلاً لثقافة الانتماء والرفض والحراك والجدل والتعبئة ومواجهة ثقافات العزل الاجتماعي والسياسي، مقابل ما كانت تطرحه الدولة القمعية التي استحوذت على مصادر الصناعة الثقافية، والتي أسهمت أيضاً في إنتاج سايكولوجيا الصدمة الثقافية التي أشاعت للهيمنة والقسر والسجن السياسي، تلك التي خلقت جيلاً مشوهاً مرتبكاً ضاجاً بالأسئلة وجد في البيئة الثقافية حلولاً تعويضية وفي البيئة السياسية حلولاً للاحتجاج الاجتماعي على مظاهر القهر والظلم.

إن تشكلات هذه الملامح وضعت الأساس النفسي والثقافي لأنماط ثقافية أكثر تعبيراً عن معطيات الواقع المجهض وأكثر استجابة لأسئلته المريعة وأكثر استغواراً لجوهر الفكرة الرومانسية التقليدية والتي بدت مائعة وشاحبة إزاء واقع يزحف بقسوته وأشكاله الضاغطة على شكل الحياة الواقعية واختياراتها وعلى كينونة الإنسان وأحلامه ووجوده وحريته. وأحسب أن تراكم هذا المثيرات المتعددة في أزمات الواقع السياسي والثقافي وبروز ملامح شاحبة عبّرت عن نضوب ما سعى إليه شعراء الريادة (السياب والملائكة والبياتي) خاصة ونمطية مؤثراتهم الشعرية وآليات اشتغالهم على مستوى مفاهيم التجديد البنائي/ كتابة قصيدة الشعر الحر والنظام التفعيلي المفتوح، وكذلك الاشتغال على الفضاءات الأسطورية والأقنعة التاريخية والصوفية ورموز الثقافات الباطنية في الثقافة العربية والإسلامية، فضلاً عن بروز أشكال أكثر إثارة من الترجمات الثقافية والفلسفية خاصة الأدب الوجودي عند سارتر والبير كامو وأدب اللامنتمي عند كولن ولسن وكتابات التمرد والفلسفة الذرائعية وترجمات الرواية الجديدة ومنها رواية تيار الوعي والشعرية الجديدة عبر طروحات شعرية النثر عند سوزان برنارد والتي روّج لها الشاعر أدونيس وكذلك ترجمات للشعراء سان جون بيرس ورينيه وشار وايف بونفوا وغيرهم. كما تأثرت هذه الاتجاهات التجريبية بحركات الهيبيز في الشكل والحركات الجيفاروية والماوية والفهود السود والألوية الحمراء والمقاومة الفلسطينية والحركات الطلابية فرنسا وكذلك مسرح العبث وحركة البوب آرت في التشكيل والسينما الطليعية في ايطاليا. كل هذا أعطى لما يسمى بالتجريب الستيني جرعة عالية في أن يشكّل تقعيداته النظرية والإجرائية، فضلاً عن الانفتاح الذي بات يشبه الإشاعة على ظواهر التحديث في الكتابة الشعرية العربية والغربية والتي كانت ملامحها واضحة في تجارب الأدباء اللبنانيين خاصة من خلال تجارب مجلة شعر وتجربة مجلة حوار ومجلة الآداب، فضلاً عن اندفاع الكثير من الأدباء للتعرف على الترجمات الجديدة التي بدأت تدخل المكتبة العراقية وتلامس القناعات القديمة وتزيح الكثير من تحفظاتها، لأن هذه الترجمات كانت تعبّر في أغلبها عن تشكلات الثقافي الجديد في ثورات التحول الاجتماعي في الغرب الاحتجاجي المتمرد على ذاكرة الحرب العالمية الثانية وبشاعاتها ومرحلة مابعد الثورات الاجتماعية في أوربا وصولاً إلى حركات التمرد التي رافقت الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968.

إن مغامرة الثقافة الستينية خاصة في التجريب الشعري أطلقت فاعلية الوعي الثقافي من تابواته القديمة وحررته من ضواغط الرومانسية التقليدية التي ظلت مهيمنة على الكثير من أنماط الكتابات الشعرية ومنها تأثيرات مدارس الديوان وأبولو وشعراء المهجر والكتابات الإغوائية لجبران خليل جبران ومصطفى لطفي المنفلوطي وعلي محمود طه الذي وضعته نازك الملائكة نموذجاً متعالياً في كتابتها الشعرية، على الرغم من أن الرواد قد أنجزوا نصاً له شكله البصري المغاير والذي فيه الكثير من الخصوصية المتمردة على نموذج القصيدة التقليدية حيث تجاوزت البناء الأفقي والتراتبية الإيقاعية وحتى شكل الممارسة الشعرية في إطارها الفني (الاستعاري والمجازي والكنائي) باتجاه انطلاقة تجديدية لم تغفل عن الآثار الرومانسية التي كانت تحفل بها الشعرية، لكنها وضعت نفسها في إطار من التأثيرات ذات الأبعاد الأقرب إلى الرمزية والسريالية والأسطورية والوجودية خاصة عند البياتي في (ملائكة وشياطين) وعند السياب في (أزهار ذابلة وأساطير) وعند بلند الحيدري في (خفقة طين وأغاني المدينة الميتة) ورومانتيكية وجودية بودليرية لدى حسين مردان في (قصائد عارية واللحن الأسود)(3) .

ولكي نكون أكثر دقة فإن ثمة محاولات شعرية جادة وتجديدية كانت تتشكل خارج الكثير من الأطر القديمة والتي تحولت فيما بعد إلى موجهات باثة في المنجز الشعري التحديثي، والتي وجدت استجابتها وتشيؤها وإثارتها للانتباه عبر أنساق الأنماط التجديدية التي باتت الدوريات الثقافية العربية وحتى الإعلام الثقافي العربي يستقطب العديد من مظاهرها، ولعل أبلغ مظاهر هذا التلاقح والانبهار تمثل في مقاربة ظاهرة السياب الشعرية وظواهر التجديد في تجارب الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، إذ لم تجد هذه الظواهر اتساعها وحضورها وحتى فعلها الثقافي التجديدي في البيئة الثقافية العراقية المشغولة بصراعاتها وأزمات اضطرابها و تحولها في إطار الصراع السياسي والأيديولوجي وارهاصات تنامي الوعي الثوري الشعبي وليس النخبوي داخل أجندتها، بل كان صنيعة للبيئة الثقافية العربية النخبوية المشغولة هي الأخرى بين تجاذبات صراعية كانت واضحة بين جماعات شعر بريادة يوسف الخال وأدونيس ومن روائهما من تأثيرات أيديولوجية للحزب القومي السوري بتوجهاته المعروفة في كتابات أنطوان سعادة وبين جماعة الأداب بريادة سهيل إدريس ومن ورائها المدّ القومي العربي التقليدي المناقض للتوجهات الماركسية والنزعات اليسارية.

إن هذا لا يعني أن هذه المغامرة قد أقفلت الباب على أسماء معينة وعلى رموز مصنوعة بطريقة تناسب نخبوية الواقع الصراعي العربي في إطار تجاذباته الثقافية،مثلما لا يعني أنها أقفلت الباب أيضاً على أنماط شعرية كانت تتشكل في الظل من الظاهرة السياسية والاجتماعية وتطرح نماذجها المميزة والمؤثرة في التجارب الشعرية اللاحقة لكنها بعيدة عن التمترس المكرس للظواهر الصراعية والتي أظن أنها أكثر تأثير على صياغة السؤال الشعري الذي طرحه الستينيون فيما بعد ومنهم بلند الحيدري و(شعراء آخرون مختلفو المشارب نضعهم في هذه الفترة بسبب اقتراب همومهم ولغاتهم واستعاراتهم من هموم الفترة وبلاغتها، محمود البريكان باقتصاده المحسوب واندفاعه نحو المطلق والشمولي، سعدي يوسف بانحنائه منذ مجموعته الأولى (القرصان) عام 1952 على اليومي والسياسي مصعّداً إياه إلى مجال فاعلية أصيلة للكائن الشاعر، وكذلك مجموعته (51 قصيدة) التي أشارت إلى استخدامات جديدة ومنها (الرومانتيكية الواقعية)(4).

ولعل التجربة المميزة للشاعر يوسف الصائغ تمثل حضوراً فاعلاً في تعزيز الاتجاه الغنائي التأملي في الشعرية العراقية، ومقاربتها للهموم اليومية والقومية عبر قناع مالك ابن الريب الذي حملت مرثيته اسماً لمجموعته الشعرية المهمة، حيث تحول ابن الريب من رمز تاريخي وصعلوك متمرد إلى كشّاف لوحدة الإنسان وعزلته بمواجهة قدره الوجودي والإنساني، وربما كانت هذه المجموعة إعلاناً عن تحولات مهمة على مستوى الاهتمام بالقيمة الرمزية للمعنى من خلال مقاربة الروح السرية للتاريخ العربي وكذلك في مجموعته الأخرى (انتظريني عند تخوم البحر) التي حملت بتدفقها الغنائي روحاً تأملية أكثر إرهاصاً بأزمة المثقف الحالم والاحتجاجي إزاء عالم بدأ يفقد الكثير من رومانسيته وقوته، وأحسب أن مجموعته (سيدة التفاحات الأربع) تمثل جوهر الخاصية الغنائية في الشعرية العراقية والعربية، إذ حملت هذه المجموعة مزيجاً من كتابة القصيدة الصوتية مع قصيدة التأمل التي وجدت في ثيمة الموت مجساً للغوص في جسدانية لمكان/ الأثر، وجسدانية اللغة/ الصورة.

وقد عدّ الكثيرون هذه المجموعة بأنها أبرز علامات القصيدة الغنائية في الشعرية العربية.

إن خاصية الهوس الأديولوجي كانت علامة مميزة وحاضرة في المشهد الثقافي خلال الستينات، مثلما كان هوس التجريب والنزوع إلى التمرد هو علامة فارقة لبعض النخب الثقافية التي سعت إلى تشكيل بعض الجماعات الثقافية التي بدأت تنعزل في لقاءاتها وتجمعاتها في المقاهي وفي بعض الفعاليات الثقافية، وهذا ليس بسبب الأعمار المتقاربة لهذه الجماعات أو بسبب المؤثرات السياسية/ الأيديولوجية فحسب، وإنما بسبب طبيعة الوعي المستفز والنزوع الجديد للمغامرة والتمرد ومحاولة التخلص من الهيمنة الرومانسية القديمة وهيمنة الرموز الأبوية في الشعرية العراقية، وقد كان لصدور مجلة الكلمة النجفية التي أصدرها حميد المطبعي وموسى كريدي بداية الإعلان الرسمي عن وجود جيل الستينات، إذ جمعت هذه المجلة حولها العديد من الشعراء المندفعين إلى انجاز كتابة شعرية جديدة وأسئلة شعرية مثيرة للجدل، مثلما حاولت أن تقدمه فيما بعد مجلة الشعر 69 والتي نشرت في عددها الأول البيان الشعري للشعر الستيني بتوقيع أربعة شعراء هم (فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد على مصطفى وفوزي كريم) حيث قدّم هذا البيان استهلالات نظرية ورؤى متعالية للفهم الشعري وليس للإجراء الشعري، خاصة في مجال النظر لمنطقة الشعر وصناعة الحلم وطرق الوصول إليه وقوانين الشعر والنظر إلى الماضي والمستقبل وغيرها والتي ظلت اشتغالات تجريدية تشبه إلى حد كبير بيان السريالية وبيانات المدارس الفنية التي أرهصت بقدوم هزات جديدة في الوجود الشعري وصناعته وذائقته و تعدد زوايا النظر إليه.

ولاشك أن ما حفلت به الشعرية الجديدة تجاوز كثيراً ما كان يعتقده الكثيرون إزاء البيئة الشعرية الضاغطة بنوعيتها وهيمنة رموزها ونظرتها إلى مناخات التجديد الشعري الذي سبقهم إليها الشاعر الرائد بدر شاكر السياب والشاعر عبد الوهاب البياتي بقصيدته السهلة والمتوهجه في آن والتي انفتحت على استخدامات تقنية لم تكن متداولة في الشعرية العراقية وإلى حد ما الشاعرة نازك الملائكة التي عادت إلى بيئتها الثقافية القديمة وتقاليدها الصارمة بعد أن أدركت أن مغامرتها في التجديد وفي اجتراح البنية العروضية المفتوحة وحديث الموسيقى الداخلية قد أثارت قلقها وحساسيتها المحافظة أصلاً.

ومن هنا نجد أن هذا النزوع إلى التجديد وإلى الانكشاف الحاد على موضات شعرية ومغامرات شعرية اقتربت في بعض جوانبها من مغامرات عالمية احتجاجية وتمردية مثل الحركات البارناسية والسريالية والتي أثرّت كثيراً على اصطناع بعض الكتابات الشعرية ذات الأشكال الغرائبية خاصة تجربة الشاعر صادق الصائغ في مجموعته الشعرية (نشيد الكركدن) التي اهتم فيها بهندسة القصيدة في الشكل والصورة البصرية و(فيها تقليد لقصائد سريالية كقصيدة "هذا قبر المرحوم" والتي تذكر بقصائد أبو للينير التي كتبها على بطاقات البريد بأشكال مختلفة، نافورة أو تساقط المطر)(5) .

فضلاً عن نشوء جماعات ثقافية مهمة أسهمت إلى حد كبير في تكريس ظاهرة التنوع في المشهد الستيني ومنهم جماعة كركوك الذين اشروا شيئاً مهما في الفاعلية الإبداعية،ولاشك أن هذه الجماعة التي ضمت (فاضل العزاوي، ومؤيد الراوي، وسركون بولص، وأنور الغساني، وجان دمو، ويوسف الحيدري) تملك خصوصية بيئية وثقافية نادرة، إذ أن أغلبهم كانوا من عوائل تعمل في الشركات النفطية التي تديرها مؤسسات أجنبية وهذا ما أسهم في خلق واقع ثقافي توفرت فيه حيوات ثقافية لم تكن متوفرة في البيئات الأخرى حيث كان هؤلاء الشعراء يطلّعون على المجلات والجرائد الأجنبية وبعض الكتب الثقافية والعلمية التي تصل إلى تلك الشركات وهو ما أسهم في خلق وعي قرائي وثقافي استثنائي مثلما خلق فرص حقيقية لتعلم وتداول اللغة الإنكليزية باعتبار أن أغلب الشركات العاملة هناك تنتمي إلى الدول الناطقة بالإنكليزية، وهذا ما خلق نوعا من الحساسية الايجابية إزاء ثقافات الغرب وقناعاته ورؤاه وقراءة العديد من الكتب والدوريات والصحف التي كانت ترد إلى العاملين في الشركات النفطية.

إن الظاهرة الشعرية الستينية وجدت نفسها أمام مشكلات حقيقية، مشكلات الواقع ومشكلات الأيديولوجيا ومشكلات التاريخ ومشكلات البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذا ما خلق حولها الكثير من الأوهام والالتباسات ناهيك عن مشكلاتها الداخلية الفنية والنفسية والتي وضعت الكثير من الشعراء الذين أرّخوا لهذه المرحلة أمام نزعات وتدوينات غير متجانسة جعلتها فعلاً بمستوى كتابة التاريخ/ لأزمة، حيث (صدرت بضعة كتب ومقالات طوال تعالج فرادة الشعر الستيني ووحدانية روحه نذكر منها كتابيّ سامي مهدي "أفق الحداثة وحداثة الأفق" و"الموجة الضاخبة: شعر الستينات في العراق" وكتاب فاضل العزاوي "الروح الحية:جيل الستينات في العراق" ومقالات فوزي كريم، كما أننا سنشهد محاولات من طرف البعض ممن لا علاقة وثقى لهم بهذه الحركة من أجل إيجاد موقع قدم لهم مثل عبد القادر الجنابي الذي أصدر أنطولوجيا لهذا الجيل تحمل عنوانا ذا دلالة استعلائية "انفرادة الشعر العراقي"(6)، على الرغم من أن شاعراً مهما من شعراء هذا الجيل هو فاضل العزاوي حاول أن يخفف من هذه التوصيف باتجاه توصيف هو أقرب إلى التاريخ (وإذا ما كنت أتحدث هنا عن جيل فانما لتحليل ظاهرة تاريخية معينة تركت تأثيرها العميق على الفكر والإبداع ولتوضيح روح جديدة ارتبطت ببزوغ مرحلة معينة في فهم الإنسان لنفسه وللعالم الذي يعيشه)(7).

إن سيرة الجيل الستيني لم تكن سيرة مثالية لأنها كانت سيرة لنخب شعرية وجدت نفسها إزاء عالم متغاير! عالم قلق ينتج أسئلته دون وازع من تراكات معرفية حقيقية سوى ما يمور به التاريخ الثقافي والسياسي الخاضع هو الآخر لإشكالات التدوين والكتابة!! إذ نجد أن أغلب تمظهرات الشعرية الخاصة بهذا الجيل ترتبط بشكل أو بآخر بطبيعة الأزمة السياسية الصراعية وعزلة الشعراء خارج دوامة عنفها وتداعياتها، وترتبط كذلك بزحمة التفاعلات والتثاقفات مع أشكال متعددة في الثقافات الإنسانية المتعددة الاتجاهات والتي وجد فيها الشاعر الجديد فضاءه الغامر الذي يغويه بالاندماج والاندفاع والبحث في تجاذبات أسئلته عن مثيرات لنمط من الكتابة المفارقة لبيئته ووعيه وحاضنته الاجتماعية وحتى رسالته القديمة في حضورية الشاعر كبطل شعبي منقذ ومحرك للإرادات الشعبية، يقول الشاعر شاكر لعيبي (ابان حقبة الستينات العراقية! كيف يمكن لثقافة كانت تخرج بصعوبات معتبرة من عمود الشعر لمجتمع نصف أمي، لا تقرأ أغلبيته المطلقة، كيف يمكن لساحة ثقافية تمور بالأقلام المحافظة المتخلفة من أن تتفق هكذا، كما لو بمصادفة خلاقة،عن نزعة تجريبية، جد معاصرة، صادمة ومستقبلية كم يقال لنا؟)(8) .

موروث الشعراء الستينيين كان موروثاً مثيراً للجدل والريبة والالتباس، فهولاء الشعراء عمدوا على الاحتجاج على كل شيء، تمرداتهم كانت خليطاً من الاجتماعي والسياسي والمعيشي تركتهم الأيديولوجيا مأخوذين بأحلام طاردة وأحياناً بوهيمية، لكنهم صنعوا لهم أشكالاً من الكارزمات الاجتماعية داخل الفعالية الشعرية واليومية والتي ظلت مهيمنة وضاغطة لعقود تالية، لكن هذا المركز والاستقطاب وجد نفسه أمام موجات جديدة من الشعراء الجدد محرجاً وباعثاً على إثارات جديدة وأسئلة جديدة تلامس لأول مرة اشكالية سايكولوجيا الصعود إلى المناخ الشعري الذي بدأ مع أعوام السبعينات قلقاً وحافلاً بالكثير من والأسئلة الجدالات والطقوس.

إن تركة الستينيين في أزمة الايديولوجيا صعدت مرة أخرى إلى السطح لتطلق بالوناتها من جديد ليس بحثاً عن الينابيع وإنما بحثاً عن اصطفافات تجاوزت الشعري إلى ماهو سياسي وأيديولوجي، وهو ما دفع الكثير من النقاد والباحثين إلى إعلان حساسيتهم من هذه (الموجة) واندفاعاتها، فكتب أكثر من ناقد ناعتاً هؤلاء الشعراء بأنهم مغامرون فاشلون أو أنهم مقتفو أثر، والبعض الآخر نعتهم بالشعراء الباحثين عن حلم أو أنهم مكتنزون بشهوة الحرية، كل هذه الآراء كانت تنطلق من مزاج أيديولوجي أكثر من انطلاقها من رؤية نقدية واضحة.

إن العودة إلى حديث ظواهر الشعرية العراقية في إطارها التاريخي والفني هو محاولة للبحث عن الأنساق التي تشكلت بها هذه الظواهر، من منطلق إعادة القراءة والبحث عن حلقات قد تشرعن فكرة التراكم الشعري الذي يمنح الأجيال الشعرية إحساساً بالتواصل والتنامي وليس الحديث عن انقطاعات وتشرذمات وضعتها الأيديولوجيا والبيئة الصراعية المعقدة بما فيها البيئات الانقلابية كمصدات أمام تلاقح وتفاعل التجارب الشعرية العراقية.

وهذا لا يعني أن تأمل المشهد الشعري العراقي وتفحص مراحله سيكون عملية قريبة إلى اشتغالات البحث التاريخي الذي يعتمد المصادر والوثائق والشهادات، لأن الكثير من شعراء اللحظة الشعرية العراقية الحرجة كما سماهم ذات مرة الناقد عباس عبد جاسم يختلفون حول الكثير من المعايير والتوصيفات والشهادات وحتى الأسماء التي شكلت أنطولوجيا المشهد، وهذا ما أثار لغطاً واسعاً بين الكثير من المعنيين في إعادة تأمل التاريخ الشعري العراقي المعاصر، خاصة وأن هذا التاريخ قد وضع نفسه أمام أزمات بنيوية حادة اصطنعت لها مجالات خاصة وجغرافيا انشطارية بدءاً من ظاهرة العزلات الاحتماعية وظاهرة المنفى وما رافقه من تسميات مثل أدب الخارج وأدب الحرية مقابل أدب الداخل بكل فجائعه وانتهاء بظواهر الحروب وظواهر اللجوء الإنساني الذي صنع لنا أماكن قهرية وأماكن موغلة في عزلتها الإضافية. ولاشك أن وجود هذه الجغرافيا المباحة والقهرية في آن والتي ظهرت فجأة في الحياة العراقية وخلال سنوات معدودة لم تصنع لها تقاليد وأحكام ومناخات قد تؤثر على صناعة منجز شعري جديد، واعتقد أن الكثير من الأحكام التي يطلقها البعض من الشعراء والنقاد عن خصوصية هذه المرحلة أو تلك أو حتى البعض من ادعى تقسيم الواقع الشعري إلى شعراء منفى وشعراء حرب بكل ما تعنيه التسمية الأخيرة من وساوس وخلط أوراق والتباسات، تعوزها الدقة والموضوعية والعمق الإنساني والأخلاقي.

وإزاء هذه الطروحات نتبين أن ثمة اشكالات ظلت غائبة عن الكثيرين في قراءة المشهد الشعري في تفاصيله ويومياته والتي يستلها البعض من ذاكرته ليجعلها جاهزة في إجرائه التوصيفي وأحياناً في حكمه النقدي، والتي جعلت من فضاءات مراحل معينة من تاريخ شعريتنا العراقية مفتوحة على قراءات وتجاذبات اختلطت فيها الأوراق والظواهر، ولم يجد النقد العراقي سانحة جادة للتعاطي مع هذه الأشكالات المتعددة في تعقيداتها الحادثة إلاّ في إطار ما يعزز إعادة تداول التصورات الانطباعية وأحيانا الأقكار المسيسة لهذه الظاهرة أو تلك. بدءاً لا أجد ضرورة في إعادة إثارة الحديث بهذه الطريقة المزاجية والثأرية، وتكرار تداول ذات القناعات القديمة، كما أني أجد أن هذا الحديث (بطريقة النقاد الانطباعيين والأيديولوجيين) قد فات أوانه ولم يعد مناسباً وفاعلاً حتى في إطار فعل المراجعة وفحص هذه التجربة تحديداً، لأنه سيكون خاضعاً لحسابات ومقاربات غير شعرية حتماً وخاضعاً لنوايا قصدية، مثلما لا أجده ضرورياً في التعاطي الإشكالي مع المشهد الشعري العراقي الضاج والمحتشد بالكثير من الالتباسات والذي يحتاج أصلا إلى وقفات وتأملات عميقة تنحو باتجاه إعادة قراءة الكثير من أوراقه وملفاته وربما أسراره ومعاركه وفحص منجزه في ضوء ما تركه هذا المنجز من آثار حية في الفاعلية الشعرية منذ الخمسينيات وإلى اليوم وفي ضوء تشكلات ملامح هذا المنجز وفاعليته في الجسد الشعري العراقي تاريخاً وتجريباً، بعيداً عن الحساسيات وسايكولوجيا السيطرة على الينابيع كما سماها الشاعر أحمد عبد الحسين، أي الشروع باعتماد أسس نقدية ومناهجية فاعلة في القراءة والفحص والتقييم، في إطار السياق كتاريخ له ضروراته ومؤثراته وكذلك في ضوء الاشتراطات المنهجية والرؤيوية التي تفترض المعاصرة، التي قد تكشف عن جوهر الاشتغال التجديدي الشعري الذي كثر اللغط حوله، مثلما يكون هذا الاشتغال في مناخات جديدة غابت عنها الكثير من المهيمنات القسرية في الأيديولوجيا والسلطة ووظائفية الخطاب الحزبي التقليدي بكل شروطها الفاضحة التي كانت تقسر إعادة فحص النتاج الشعري العراقي إلاّ ما يناسب مزاجها وأنماط تداول خطابها، وبالتالي طرد كل الظواهر الخلافية عن السياق والتداول مهما كان إبداعها من حاضنة التاريخ والقراءة وحتى الحاضنة النقدية ذاتها، فضلاً عن أن هذه القراءة المفترضة في موضوعيتها ربما ستسعفنا في تأشير الكثير من خطوط الوهم وتموضعات وعيها الزائفة وتشوهات الجسد الكينوني وإغواءات النموذج الشعري والنقدي المرتهن بظواهر السلطوي والحزبي وحتى الثللي الخارج من غريزة الذاكرة القهرية والاستعلائية للحزب وغريزة المقهى الأبوية التي طالما تحدث عنها الشاعر حسين مردان في كتابه (الأزهار تورق داخل العاصفة) والشاعر سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة) إذ نجد أن الكثير من الأفكار والتصورات (الأنوية) قد فرضت كارزميتها وحضورها الإيهامي على الكثير من وقائع التدوين التاريخي والشهادات النقدية وفي قراءة يوميات الحاضنة الثقافية، حيث سنجد أيضاً أن الكثير من مهيمنات (البروبكندا الشعرية) جاءت من خارج الشعري واجترحت لها سياقات وشواغل ذهبت بعيدا بالزمن الشعري ويومياته وعلاماته.

إن شعراء الظاهرة الشعرية الستينية لم يكونوا كلهم شعراء طرد وإقصاء للظواهر التي تشكلت بعدهم، إذ استشرف البعض منهم جوهر فكرة التواصل الشعري بين الأجيال والظواهر، وأن اشتغالات الحداثة الشعرية تقوم على أساس نظري وإجرائي ينطلق من حيوية الشعري وقدرته على النمو والتجديد والتثاقف، وأشار إلى ذلك الشاعر عبد الرحمن طهمازي في مقالة له بعنوان "مابعد السياب" في مجلة بغداد عام 1966 يقول فيها (أننا نعتقد أن الشكل الجديد سيتطوركثيراً، سيتمرد كثيرون على هذا الشكل الجديد أيضاً، سيستعملون أشكالاً جديدة، وسيحاولون استخدام التراث العروضي كله)(9) .

لقد انعكست كل هذه المعطيات على جغرافيا الشعرية وعلى طبيعة أنماط الكتابة الشعرية وتأشير موجهات منجزها الحداثوي/ التجديدي ليس عبر دراسة الظاهرة الشعرية وإنما عبر استقراء أسماء معينة وتكريسها في الوسط الإعلامي/ الثقافي، وبالاتجاه الذي جعل البيئة الشعرية بيئة صراعية متوهجة بالكثير من التحولات والانفعالات والمواقف المفرطة في أنويتها خاصة من شعراء الجيل الستيني (فاضل العزاوي، وعبد الرحمن طهمازي، وسامي مهدي) إزاء الشعراء الرواد، ولعل هذه المواقف وإعلانها واستعراضيتها هي التي أسهمت في تكريس ظاهرة الغلو في المواقف من ظاهرة الأبوة في شعريتنا العراقية.

إن هذه المعطيات والتشكلات الظاهرة في جدل شعريتنا تؤشر لنا هي الأخرى الطبيعة الإشكالية التي يواجها الدرس النقدي والدرس الثقافوي التاريخي، إذ نلحظ أن أجيالنا الجديدة تعاني كثيراً من آثار هيمنة تلك الموجّهات وآثاراها الاجتماعية وهيمنة سياقاتها في إنتاج مثقفي الإشاعة ومثقفي الغرائز والكارزمات التي افترضتها ومنها ما له علاقة بالبحث منجزات الشعرية العراقية وعن القيم الإبداعية التي حملتها التجربة السبعينية ذاتها بكل خارطتها الملتبسة وضجيجها الذي تحوّل إلى حديث في العزلة الشعرية، وحديث الفوضى والتجاوز على (أملاك الأسلاف) بنوع من المغامرة غير المحسوبة النتائج أو ربما إلى حديث في صراع الخنادق المتقابلة.

إن تحديد المعطى الشعري لتجربة مهمة في التاريخ الثقافي والشعري عبر تمثل انجاز بعض الأسماء وفي (مقطع زمني معين) يخلو من الدقة ومسؤولية القراءة الفاعلة، لأنه سيكون محدداً أصلاً وباعثاً على انحياز وتمثل فيهما الكثير من المقاربات غير الدقيقة وغير الموضوعية في تأشير المنجز الشعري وتميزه، إذ أن البعض يرى أن انجاز الشعراء هاشم شفيق وشاكر لعيبي وعقيل علي وخليل الأسدي هو القدحة الأولى في ما سمي بالمغامرة السبعينية الشعرية والبعض الآخر يرى غير ذلك تماماً، إذ يجد في انجاز الشعراء الخمسة خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني ورعد عبد القادر وفاروق يوسف وسلام كاظم هو الفاعل العضوي في تكريس شعرية السبعينات والمؤشر الحيوي والحضوري الفاعل الذي انعكس على انتاج نصها الجديد، رغم أن هذا المنجز الشعري حفل بأسماء عديدة بعضها كان مهماً وفاعلاً لكنه وقع في شباك الأيديولوجيا أو الاهمال النقدي والإعلامي أمثال الشعراء ناجي الحازب، ويحيى السماوي، وبرهان شاوي، ورعد مشتت، وعبد الكريم كاصد، وهاتف جنابي، وكاظم جهاد، وكمال سبتي، وشوقي عبد الأمير وغيرهم، كما كان هناك العديد من الشعراء غير الفاعلين، لكنهم كانوا الأكثر ضجيجاً في إبراز حضورهم الشعري وصناعة النموذج المغاير داخل فضاءات الفاعلية الشعرية.

إن الحديث عن هذا (الجيل) يقودنا بالضرورة إلى الحديث الإشكالي عن مفاهيم الحداثة الشعرية وعن تاريخ المغامرة الشعرية وتقعيد منجزها الشعري الفني في إطار ما استشرفه العديد من النقاد والشعراء، والذي رآه الشاعر عبد الرحمن طهمازي على أن هذا الشكل الجديد للشعر سيتطور وأن هناك كثيرين سيتمردون عليه، أو في إطار قراءة الشعرية في عبر تاريخها وألواح منجزاتها أولاً ومقايستها مع تاريخ الانزياحات والتجديدات في تاريخنا الشعري ثانياً، إذ أن هذا الحديث وتواتره، يكشف حجم خطورة وضغط (الحداثة الشعرية) وتحولاتها الملموسة كما يكشف اتساع دائرة إعادة قراءة الكثير من المفاهيم الشعرية والنقدية وحيوية التجارب الجديدة التي أثارت أمام شعراء هذا الجيل وأعوامهم الغضة الكثير من الأسئلة الملتبسة.

لقد فتحت أمامهم هذه التغايرات الباب دون حساسيات للتعاطي مع مشكلة التاريخ والمعاصرة والتجريب بنوع من الغواية والتمرد أحياناً، وبنوع من المبالغة ومحدودية الخبرة أحياناً أخرى ولكن حديث الشعري كوعي نظري وإجراء في آليات كتابة النموذج الشعري الجديد، واجه الكثير من الإشكالات، ليس بسبب طبيعة هؤلاء الشعراء الجدد ونزعتهم للخروج من ثياب الأب الرمزي، وإنما بسبب مجموعة من المعطيات التي اقترنت بمجموعة من الرؤى الخلافية التي ظلت محوراً لأسئلة شتى، منها ما كان قريباً من اشتغالات الأجيال السابقة التي كانت تملأ المشهد الشعري حضوراً وحيوية شعرية وكارزمات تحولت إلى نوع من المهيمنات على تفاصيل السياسة الثقافية والمواقف ومنها ما كان يقترن بطبيعة المهيمن المديني المركزي الانحياز إليه من خلال وجود المراكز المدنية والسياسية والإعلامية والثقافية، والتي أسهمت في خلق أنواع من المناخات الشعرية التي التف حولها العديد من الشعراء الذين وجدوا في أثرة بعض المؤسسات لهم تصعيداً لفعل وجودهم الشعري مقابل التغافل عن شعراء مهمين من المحافظات ومنهم كزار حنتوش، وخليل المعاضيدي وابراهيم البهرزي، ورعد فاضل وغيرهم من الشعراء الذين أخرجتهم الثقافة المدينية ومراكزها المهيمنة خارج ظاهرة البروبكندا الشعرية.

إن الانجاز الشعري التجديدي الذي حاولت أن تحققه هذه الظاهرة عبر تجلياتها ومعطياتها والحديث الساخن حولها في مجال الاصرار على تواصلهم في الفاعلية الشعرية والتأكيد على تميز أصواتهم، هو الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط النقدية والشعرية العراقية والعربية خاصة خلال مهرجانات المربد في بداية الثمانينيات وعلى صفحات المجلات العربية ومنها مجلة الوطن العربي والدستور وكل العرب، ناهيك عن كتابات الناقد د. حاتم الصكر في جريدة الجمهورية التي انحنت على الكثير من تجارب الشعراء الجدد والتي عرض بعضها في كتابه مواجهات الصوت القادم، وكذلك كتابات الشعراء سامي مهدي، وخالد على مصطفى، وطراد الكبيسي، وعبد الجبار عباس، وخزعل الماجدي، وزاهر الجيزاني، وسلام كاظم، وكمال سبتي، وفاروق يوسف، فضلاً عن البيان الذي أصدره الناقد يوسف نمر ذياب والذي أعلن موت هذا الشعر الجديد في مهده لأنه يبّشر بالخروج عن القيم المكرسة للشعرية العراقية التقليدية، والذي يعكس في جوهره أزمة التعاطي مع الظواهر الشعرية الجديدة التي تؤسس وجودها ونصها خارج السياق المألوف والمكرس.

إن هذه الطروحات والأفكار هي التي أسهمت إلى حد ما في تكريس الحديث وتوجيه النقود الشعرية رغم سلبيتها و(أبويتها) غير الواضحة لشعراء مهمين ومنهم الشعراء الذين كتبوا مبكرين وأفصحوا عن شعرية مميزة ومنهم شاكر لعيبي، وهاشم شفيق، وكاظم جهاد، وزاهر الجيزاني، وخزعل الماجدي على سبيل المثال لا الحصر، رغم أن البعض من النقاد حاول مقاربة هذه المغامرة الجديدة بنوع من التروي والبعض الآخر أيضاً وجد فيها قيما فنية وجمالية وأسلوبية قارن فيها مع ما انجزه الرواد من اشتغالات شعرية خاصة في توظيف البنيات الغنائية على المستوى البناء التفعيلي والصوتي والتي ذكرها الناقد عبد الجبار عباس في كتابه المهم (مرايا جديدة) في إشارة مبكرة وغير دقيقة إلى أن مرحلة السبعينات قد حملت في شعريتها بعض السمات التي (ورثت رومانسيتها من جيل الرواد)، من منطلق قراءته للكتابات الأولى للشعراء الشباب الذين عمدوا إلى تجاوز عقدة الآباء القريبين والذهاب بعيداً في مقاربة إغواءات أدونيس المبكرة التي انحازت إلى الغنائية المتوهجة،ولكن هذا لا يعني انحسار هذه التجربة في إطار هذه المؤثرات المعروفة التي كانت نقطة جذب ليس للشعراء العراقيين حسب وإنما لأغلب الشعراء العرب في تلك المرحلة.

لقد تمثلت المناخات الثقافة الشعرية السبعينية هي الأخرى إلى مجموعة من التحولات الفكرية والمعرفية العالمية والعربية في إطارها المفهومي والنقدي، والتي يرى فيها الناقد عبد الجبار عباس أنها (استندت إلى مفاهيم نقدية غامضة غموض الطريق الشعري آنذاك وتوزعت بين الولاء السياسي المحض وبين رفض القناعات السائدة بدعوى أنها جميعاً أصداء للأوهام ظهرت أواسط للأوهام الفكرية التي ظهرت في أواسط الستينات)(10) . فضلاً عن مؤثرات أخرى استقدم فيها البعض من الشعراء رؤى جديدة عبر إعادة قراءة المثيولوجيات والأساطير الشعبية والكونية وبعض المرجعيات الغنوصية والسحرية والأساطير القديمة البابلية والسومرية... وإزاء هذا فان التحديد الإجرائي للكثير من آثارات الجدل الشعري خارج هذا الإطار وفي سياق قراءة ظاهرة (الجيل السبعيني) ولأسماء شعرية بعينها ليس تحديداً بريئاً بالكامل طبعاً، إذ أن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ ثقافي ولم تكن خضوعاً لدواع سياسية كثر الحديث واللغط حولها، بقدر ما تعبّر عن صيرورات خضعت في جوهرها إلى ضغوط متعددة ولمرجعيات أيديولوجية ونقدية ومزاجية لم يكن لها علاقة أسلوبية وفنية بالخصائص الشعرية التجديدية لهذا الجيل، ولا علاقة لها بقراءة وتفحص القيم النقدية والبنائية والأسلوبية لشعراء هذا الجيل باستثناءات قليلة، لكنها كانت حاضرة بقوة، وتقوم على أساس طرد الكثير من تشكلات هذه الظاهرة الشعرية لأنها ترتبط بخاصية أيديولوجية معينة، والتي تم ربطها فيما بعد بظاهرة المنفى الواسعة التي تشكلت ملامحها في بداية الثمانينات، إذ حاول النقد الرسمي في الإعلام الثقافي أن يعدّ ظاهرة المنفى بأنها ظاهرة سياسية وليست ثقافية، وبالتالي عمد إلى حصر الظاهرة الشعرية العراقية بأسماء معينة ومحددة مقابل طرد وإقصاء كل الأسماء التي ارتبطت بظاهرة الأيدويولجيا وظاهرة المنفى ومنهم الشعراء الفاعلين في تشكيل جوهر المغامرات المبكرة عند هذا الجيل الشعري (شاكر لعيبي، هاشم شفيق، خليل المعاضيدي، منعم الفقير، آدم حاتم، عبد الكريم كاصد، برهان الشاوي، عواد ناصر، وغيرهم) إذ سعى هذا النقد إلى عزل هؤلاء الشعراء في إطار تشكيل الذاكرة، وإن الجدل حولها وحول قيمة منجزها، هو جزء من إشكالية تاريخية وليس شعرية، لكن الواقع العياني يؤكد أن محاولة اقصاء هؤلاء الشعراء كان محاولة في اقصاء ظاهرة سسيوثقافية بدأت تتشكل ملامحها في الفضاء السياسي!! كما أن اعتبار هؤلاء شعراء، مهاجرون وبعيدون عن جدل اللحظة الشعرية العراقية ليس لاغترابهم المكاني والوجداني عن المكان الشعري المحلي وإنما بسبب ما يمثلونه من ظاهرة ثقافية/ اجتماعية وكذلك ظاهرة سياسية مضادة للحاكمية وغير منسجمة مع توجهاتها العقائدية والحزبية في الداخل، فضلاً عن التغييب القصدي في التعاطي مع أية شارة لاحقة لمنجز هؤلاء الشعراء في منافيهم الجديدة أولاً رغم احتفاء بعض الأوساط الثقافية العربية بهم ومنع وصول كتبهم إلى القارىء العراقي وربما ملاحقة من يروج لقصائدهم وكتبهم ثانيا، وهذا ما جعل غياب الشعراء هاشم شفيق وشاكر لعيبي وبرهان شاوي وكاظم جهاد وعبد الكريم كاصد الذين غادروا العراق مبكراً أمراً يدخل في تغييب القراءة الإجرائية لمغامرات هؤلاء الشعراء ومتابعة منجزهم الشعري، إذ افترض بعض النقاد أن تشكيل وجهات النظر والرؤى النقدية تفترض ضرورة وجود النصوص الشعرية وأحياناً المجموعات الشعرية، علماً أن بعض هؤلاء الشعراء كان قد أصدر مبكراً العديد من المجموعات الشعرية ومنهم كاظم جهاد وشاكر لعيبي.

إن السبب الحقيقي في عزل جزء مهم من جسد الشعرية العراقية يعود إلى حسابات أخرى تدخل في إطار السياسي أكثر من غيره كما أسلفنا، ضمن اتجاه كان يسعى إلى صياغة معطى ثقافي خاص ومحدد لهوية للنظام السياسي بطروحاته العقائدية واتجاهاته المغلقة والتي وضعت أجندته المؤسسة الثقافية السرية كما كان يسميها الكاتب حسن العلوي، من خلال تأطير الفعل الثقافي بأطر وأسئلة جديدة وغامضة والتعتيم على جزء مهم وحيوي من الذاكرة الشعرية العراقية، وهذه الظاهرة القهرية استمرت طويلاً رافقها اختفاء الكثير من الأسماء الشعرية الحيوية في الداخل، إذ اختفى صوت الشاعر خليل الأسدي خلال الحروب واستسلامه لازماته اليومية مثلما عاش عقيل على نكوصاته النفسية والشعرية، وعاش عدنان العيسى هزائمه الروحية، واصطنع البعض من الشعراء المنافي السياسية مجالاً للهروب من صعود القمع السياسي والديكتاتورية الغاشمة، واغتالت السلطة الشاعر خليل المعاضيدي المعارض للسلطة بأحلامه الكبيرة.

إن قراءة الطبيعة الإشكالية التي كانت تحيط بمرحلة السبعينات و(جيلها) المتشظي!! تقتضي قراءة أكثر شمولية وأكثر موضوعية في رصد مراحل صعود ظاهرته الشعرية تاريخياً وفنياً،إذ كان هناك من يرى أن مفهوم هذا الجيل ومغامرته يحتمل أكثر من قراءة وأكثر من تأويل، لأنه كان جيلاً إشكالياً مختلفاً وأحياناً غير متجانس ضمن أطر مرحلة تحول سياسي معقد في العراق وفي المنطقة العربية، وزخمها في التأثير على المتن الاجتماعي والثقافي، وربما هو ذاته الذي جعل هذا الجيل موسوماً بمواصفات سياسية وربما حزبية أكثر مما هو موسوم بمزايا إبداعية وجمالية، إذ خرج من معطفه شعراء كثر، أغلبهم ترك هذا الاندفاع وعاد إلى سكونه القديم، وفي ضوء شهادة ما قدمته مجلة الكلمة عام 1973 في عددها الثالث تحت عنوان شعراء مابعد الستينات والذي هو مثير للجدل كثيراً والذي ضم أسماء عدد من الشعراء منهم (كاظم جهاد، وعلي الأنباري، وصاحب الشاهر، وفرج ياسين) والذي أوحت مقدمته بدلالة الاختلاف التي يحملها هذا الجيل وخصائص قصيدتهم الجديدة إذ نجد (في شعر هؤلاء الشباب نكهة خاصة بهم وعلى الرغم من أن هذه النكهة لم تتخلص من تأثيرات جيلين من شعرائنا إلا أنها تحاول أن تدفع قصائدهم إلى وجه القصيدة ـ البطل ـ الأزمة)(11).

كما نشرت مجلة الكلمة في عددها الخامس سنة 1973 إشارة أكثر عمومية واتساعا لدعاوى شعرية هذه المجموعة والتبشير بها،حاول البعض من الشعراء أن يقدموها باستهلال تعريفي تحت يافطة البيان الشعري للقصيدة اليومية الذي بشرّت به هذه المجلة وربما بدعوى منها للإثارة فقط لأن هذا البيان كان عاماً وفضفاضاً ودعائياً، ولم يحظ باتفاق الشعراء من هذا الجيل والذي كتبه الشعراء (غزاي درع الطائي، وخزعل الماجدي، وعبد الحسين صنكور) وأن (الشعراء السبعينيين أنذاك بحكم أعمارهم الصغيرة وخبرتهم الشعرية القليلة، كانت تصنع دوافعه السياقات، ولعل البيان اليومي فذلكة من صنع مجلة الكلمة أو هو ايحاء من الشعراء الثلاثة وهو فنياً لا قيمة له)(12)، في سياق الدعوة (لكتابة القصيدة اليومية: تحويل الحلم الفردي إلى حلم جماعي) وبمسمى خاص يحمل عنوان جيل مابعد الستينات. وقد جاء هذا البيان باتجاه وضع مقترح لصيغة تعريفية للقصيدة وإعلانها والدعوة لتكريسها على أنها (انتقالة نوعية في مسار الحركة الشعرية، تضع القصيدة بمستوى التعليم السياسي والأسلحة المقاتلة، أنها لا تعني السقوط بما هو جزئي ورفض ما هو كوني متكامل)(13) وأن أحلام الشاعر فيها (يعيش حتى بأحلامه شكلاً جماعياً،لأنه يلغي اعتبارات الحلم الفردي أو المطلق إذا كان منتفياً مع الآخرين)(14)، وعمد الشعراء إلى وضع دعوتهم تلك بمستوى الخطاب السياسي الذي يحاول أن يجد لنفسه حضوراً في تفعيل الواقع الجديد ومنحه قوة فاعلة لأن هذه القصيدة جزء حيّ منه إذ (أن قصيدة اليوم تبدأ من الواقع وتنتهي به لتعطيه بعداً ضرورياً جديداً تحاول من خلاله وعبر تحولات مكشوفة الوصول إلى ناحية الحلم الجماعي الذي بدوره يوصلنا نحو ضفة القصيدة ـ الموقف ـ الحلم)(15)

إن هذه الاندفاعات المبكرة التي انغمر فيها الشعراء الشباب كانت مدعاة للإثارة أولاً ومدعاة للريبة ثانياً فضلاً عن كونها لا تبتعد كثيراً عن يوميات الخطاب السياسي ذي التوجهات القومية والثورية السائدة الذي طرح نفسه كشكل من أشكال التغيير الشمولي في النظر إلى الواقع والثقافة والتاريخ والتراث خاصة ما حاولت أن تكرسه مجلة الطليعة الأدبية التي صدر عددها الأول في تشرين الثاني عام 1974 والذي حمل مع كلمة التحرير توجهاً يعكس خاصية المناخ السياسي والثقافي الذي تتشكل به الظاهرة الشعرية الجديدة (تطرح الطليعة الأدبية القصيدة التي تكشف عن وضوح في الوعي وأصالة في التجربة وقدرة على استلهام الرؤية العربية وإثرائها، كما تكشف عن تمكن في تطويع الأداة الشعرية. لذا فهي تستبعد نمط القصيدة الذي لا يتبنى إلاّ هموم شكلية مجردة)(15). ولقد ورد ذلك في عددها الخاص الذي صدر في بداية العقد السبعيني من القرن الماضي، والذي ضمّ عدداً واسعاً من الشعراء الذين اختلفت مستوياتهم الفنية والجمالية وقوة نزوعهم للمغامرة، لكنهم التقوا عند زمنية العمر الشعري!!! وانتقائية القيّمين في الحاضنة السياسية والثقافية على إعداد الملف الشعري المريب.

وبقطع النظر عن إجازية هذه الأسماء وقدرتها في تأسيس مناخات شعرية جديدة بمواجهة هيمنات ثقافية وشعرية ونقدية فرضتها شروط الواقع الثقافي والسياسي ومزاجية الإعلام الثقافي الذي لا يطمئن أصلاً للمغامرات الجديدة، فإن الحديث عن التجربة السبعينية مع جواز التسمية يمثل حديثاً عن أخطر ظاهرة شعرية في ثقافتنا المعاصرة،،لأن هذه الظاهرة كانت أشبه بالصدمة الشعرية أولاً، ولأنها أيضاً أثارت ولأول مرة أسئلة فاضحة في ضرورة السؤال الشعري وأهمية المغامرة الشعرية بعيداً عن إغواءات ما هو مكرس من ظواهر وتقاليد وكارزمات مهيمنة، مثلما هو محاولة للانزياح عما تركته التجربة اللبنانية في بداية الخمسينات على الجسد الشعري العراقي ثانياً، وتشكّل ملامحها مع تدفق طوفان الثقافات الغربية في مستوياتها الفلسفية والفكرية والأسلوبية والحداثوية، وتنامي بشكل خاص ثقافة الترجمات الشعرية التي خلقت لنفسها هامشاً غرائبياً في التجريب الشعري غير واضح الملامح ثالثاً ابتدأت منذ أواخر الستينات والذي كشف عنه البيان الشعري الستيني الذي أشرنا إليه والذي يبدو لي بياناً فضفاضاً فيه الكثير من التقليد للبيانات السريالية التي كتبها وجمعها أندريه بريتون، فضلاً عن أن هذه التجارب قد بشرّت بأسماء جديدة تنتمي إلى هاجس النموذج السياسي وتمظهرات الصراعات الحزبية الواضحة أنذاك.

لقد امتدت هذه الظاهرة حتى مابعد مرحلة الستينيات خاصة في المدة مابين 1973 و 1979 وهي ورغم التزامها الأولي بإغواءات المزاج السياسي الرومانسي المفروز بشكل واضح بعد تشكل الجبهة الوطنية العراقية في أواسط السبعينيات وانهيارها في نهايتها، إلاّ أنها ورغم ضجيجها المدوي في المشهد الشعري والسياسي الباحث عن صدمات بنيوية حقيقية في جسده المترهل، إلاّ أنها لم تكشف عن ارهاص شعري مغاير باستثناء بعض الشعراء الذين نتلمس في بعض قصائدهم هاجساً شعرياً تتكشف عنه بعض الملامح الخاصة والمميزة فيما بعد، خاصة بعد الخروج من المأزق الدعائي الفاضح الذي رافق صيرورة هذه التجربة والحديث عن وهم ما سمي بـ (القصيدة اليومية) التي تتمثل في جوهرها للخطاب السياسي الرومانسي الذي حاولت أن تسوقه المؤسسة السياسية كجزء من تداول من خطابها، وكذلك بعد تشظي ظاهرة (الحشد الشعري) الذي رافق لحظة ولادة هذه المغامرة، وتشيئ الظاهرة الشعرية في مناخات غير عمومية، فضلاً عن الانكشاف على مجموعة من المتغيرات التي دفعت الكتابة الشعرية ذاتها باتجاه قصيدة أخرى أكثر معرفة بهويتها وتحمل نزوعات كونية واستشرافات معرفية وجمالية أكثر قلقاً وأكثر انفتاحاً وتساؤلاً حول إشكالية الصناعة الشعرية.

وبصدد الأسماء التي يختلف حولها الكثيرون في الأجندة القرائية والنقدية، فإن ذلك يحتاج إلى تتبع دقيق يتجاوز هنات ما تركته الإشاعات وغرائز المقهى والمؤسسة التي عملت على وضع مقايسات معينة في فرز تشكلات الخارطة الشعرية، والتي كانت تضج بأصوات (أبوية) لها مهيمنها السياسي والشعري والأيديولوجي والتي أكلت كثيراً من جرف أبناء الظاهرة الجديدة تحت قسوة طاعنة ولغة متعالية وصفتهم بالأبناء العاقين تارة أو أنها عمدت إلى تكريس ظاهرة وجودهم كشعراء شباب والتي رافقتهم لسنوات طويلة رغم أن بعضهم تجاوز الأربعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ فالح عبد الجبار: مقدمة كتاب المستبد، تأليف زهير الجزائري، معهد الدراسات الاستراتيجية، بيروت، 2006، ص 7.
(2) ـ سامي مهدي: الموجة الصاخبة، شعر الستينات في العراق، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1994.
(3) ـ طراد الكبيسي: الاتجاهات الفنية لحركة الشعر العراقي الجديد، مجلة الشعر 69، العدد الأول، 1969.
(4) ـ شاكر لعيبي: الشاعر الغريب في المكان الغريب، دار المدى، دمشق، 2003.
(5) ـ ذات المصدر ص 39.
(6) ـ زاهر الجيزاني: الشعراء السبعينيون في العراق، مشهد شعري جديد، مجلة الطليعة الأدبية، العدد 1/ 2، 1989.
(7) ـ فاضل العزاوي: الروح الحية، جيل الستينات في العراق، دار المدى، 1997، ص 349.
(8) ـ شاكر لعيبي: الشاعر الغريب... مرجع مذكور.
(9) ـ سامي مهدي: الموجة الصاخبة، شعر الستينات في العراق، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1994.
(10) ـ عبد الجبار عباس: مرايا جديدة، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، ص 215.
(11) ـ ذات المصدر، ص 216.
(12) ـ حاتم الصكر: مواجهات الصوت القادم، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، 1986، ص 178.
(13) ـ زاهر الجيزاني: الشعراء السبعينيون في العراق. مشهد جديد، مجلة الطليعة الأدبية، العدد 1/ 2، 1989.
(14) ـ حاتم الصكر: مواجهات الصوت القادم... مرجع مذكور، ص 179.
(15) ـ ذات المصدر، ص 180.