تحتفي (الكلمة) هنا بالمخرج المصري الكبير وبحصوله وعن جدارة على جواز السفر المصري، وليس على الجنسية المصرية، فقد كان محمد خان دوما مصريا حتى النخاع بإبداعه السينمائي المتميز، فهو أحد أعلام مصر المعاصرين، وأبرز مقطري روحها وتحولاتها على الشاشة، كما يشهد هذا التناول النقدي العاشق لفيلمه الجديد الجميل «فتاة المصنع».

رسالة القاهرة

محمد خان .. صانع البهجة

في فيلمه الجديد «فتاة المصنع» الذي خرج للعرض يوم 17 مارس في مصر

صلاح هاشم

أكتب بعد عودتي من مشاهدة فيلم «فتاة المصنع» لمحمد خان في عرض خاص، وأنا أشعر بعد الفيلم بسعادة غامرة، فلم أشاهد في «فتاة المصنع» فيلما جميلا وبديعا فحسب، بل أكثر من ذلك، عايشت "حالة" نادرة من الفرح و البهجة ، وكأني اكتشف "سحر" السينما ، وبراعة مايسترو في العزف لأول مرة، أجل تلك "الحالة" - حالة حب أكيد - التي افتقدناها منذ زمن طويل، في أفلام السينما المصرية الكئيبة المعتمة. وبخاصة تلك الافلام التي ذهبت الى العشوائيات، لتحكي لنا عن أهلها، لكي تخسف بهم الأرض، ولا تظهرهم لنا الا كحيوانات عدمية لا يهمها الا اشباع غرائزها الدونية الحيوانية، في غابة من التراب والحديد وعشش الصفيح والاسفلت، ومجرمين وقطاع طرق وسفلة، أي على شاكلة صنّاع تلك الافلام تماما: صورة من القبح والنهم والجشع، الذي صارت اليه بعض نفوس التجار الحقراء في بلادنا.


وهذه الحالة التي أنحاز اليها في فيلم "فتاة المصنع" وجعلتي أشعر كما لوكنت أنا صانعها ومشاركا لمحمد خان في ابداع فيلمه، هي "حالة وله وعشق" - البنت في الفيلم أسمها "هيام"- بمذاق صوفي تأملي، ليس فقط لكل الفتيات والنساء المصريات الجميلات في فيلمه، في فرحهن وحزنهن، اللواتي يمثلن "إيزيس" المرأة والربة والوطن، بل حالة عشق للسينما ايضا، اي حالة "الحب كله" النادرة للإنسانية جمعاء ، كما في تلك الاغنية بنفس الأسم، التي تشدو بها كوكب الشرق أم كلثوم في لقطة من الفيلم..

هذا الفيلم الذي يهديه محمد خان الى سعاد حسني (ايزيس محمد خان؟) ويجعله يذوب رقة وعذوبة، ويصبح مثل قطعة تورتة بالشوكلاته، فوريه نوار، أو قطعة كنافة بالعسل من عند عرفة الكنفاني، أشهر بائع كنافة وقطايف في مصر في حينا العريق السيدة زينب، وبمجرد التهامها، تذوب في الفم بطعمها وحلاوتها، تصبح قطعة منا، وتجعلنا نحب الحياة أكثر.

بل لقد استطاع محمد خان في (فتاة المصنع) أن ينصف سكان العشوائيات، وأن يحول كل عناصر الفيلم من قصة وأداء وتصوير وتمثيل الخ الى قطعة موسيقية عذبة وشجية في مديح وحب المرأة المصرية: بنت الحارات الشعبية في احياء مصر العريقة، بنت البلد في السيدة زينب، والمطرية وباب الشعرية، والدويقة وباب الخلق وداخل تلك البيوتات والنوافذ والشرفات المتلاصقة في أحياء العشوائيات، وسكانها المهمشين المكدسين في تلك الاماكن الضيقة الخانقة، لكن الواسعة أيضا .. بكرمهم .. ولهوهن وقلوبهن الرحيمة وتعاطفهن، وحبهن للحياة.

ومن دون ان ينسى محمد خان واقع القهر الذي يمارسه عليهن المجتمع المصري البرجوازي المحافظ المنافق المحفلط ، وقيمه الرجعية المعفنة المتخلفة، وأن يكشف في فيلمه عن العلاقة بين جيل الحاضر الذي تمثله هيام بطلة الفيلم (جيل 21 سنة ونار العشق المشبوبة في اجسادهن، ولا قدرة لهن أو رغبة في اطفائها) وبين جيل نساء الماضي من سن الاربعين فما فوق ،الذي تمثله الجدة والأم والخالة، بين قيم وتناقضات جيلين اذن، وأن يبين في ذات الوقت العلاقة بين طبقة السادة: ومنهم المشرف الذي يترك البلد ويهاجر في أول الفيلم، وأم صلاح المشرف الجديد، وبين طبقة الخدم من سكان العشوائيات: كالخالة وبنت اختها هيام، ويحرص محمد خان في تنقلاته بين الجيلين والطبقتين باحترافية عالية أن يربط بينهما من خلال "وصلة" سينمائية رائعة.

"وصلة" تظهر على شكل مقاطع سريعة، أشبه ما تكون بالهمس الخفيف، من اغنيات لسعاد حسني، ومشاهد من فيلم "السفيرة عزيزة" تظهر فيها سعاد وهي تتبادل القبلات مع شكري سرحان، ونتمنى أو نحلم بأن نكون في محله، فنعانق ايزيس محمد خان سعاد حسني، ولا نغادرها، أو نتركها تذهب.

وهذه "الوصلة" بقدر ما تمثله كتحية الى سعاد حسني، وعصور من السينما المصرية وافلامها الجميلة التي صنعت وجدان شعب، بقدر ما تكثف وتعمق من احساس ومشاعر هيام بالحب، وتجعلها لا تخجل من أن تفصح عن حبها لصلاح – ويا ليتني كنت هذا الصلاح الجحش في الفيلم، ابن أمه، الذي ينتهي به المطاف الى الزواج من عنزة - معزة - بورجوازية، لكنت اختطفتها وحلقت بها بعيدا.

ومن أجمل مشاهد الفيلم مشهد الام التي تلقي بشعر بنتها في النيل، وتطلب منه ان يساعد بنتها في استرداد شعرها، وأن يشفيها، ويذهب بعلتها، ومشهد قص شعر هيام في الفيلم بقسوة ووحشية لاحد لهما بواسطة الجدة، ومشهد المواجهة بين هيام وصلاح خارج محل جروبي، أثناء مرور مظاهرة تنادي بأن المرأة ليست عورة، وكذلك عندما تخرج هيام الى شرفة منزلهم في العشوائيات، وهى ترتدي ثوب عرس أمها، وتظهر في الشرفة كأميرة، ومشهد الفتاة التي تتحدث مع حبيبها في كابينة التليفون، وتقول لها الخالة انه سيضحك عليها، ويفقعها زومبة، في النهاية، ولن يعود، وقد ذكرني هذا المشهد بمشهد البنت التي تتحدث مع حبيبها في محطة مصر في فيلم "باب الحديد" الأثير ليوسف شاهين.

كما يستلهم محمد خان في فيلمه، وينهل من أساليب السينما الحديثة، وروح الافلام الموسيقية عند الامريكي مينيللي، والفرنسي جاك دومي، وبخاصة في الجزء الأول من الفيلم، وكذلك مشهد الختام الرائع الذي ينهي به محمد خان فيلمه الأثير، وتنفذ فيه هيام "ندرا" أو عهدا قطعته على نفسها: أن ترقص في فرح حبيبها، وسط دهشة وصمت وغيظ أهل الفرح البرجوازي التقليدي المعفن، وتكتسب بهذا "الندر" حريتها المطلقة، وانطلاقتها، مثل زوربا اليوناني في فيلم مايكل كاكويانس عندما يرقص، حطمت قيودي ، ويكاد ينتزع نفسه من الجاذبية الأرضية، ويحلق بعيدا..

والجدير بالذكر أن الفيلم ينطلق للعرض التجاري في مصر اعتبارا من يوم الأثنين 17 مارس . آذار وكان عرض في مهرجان دبي السينمائي الفائت، وحصل مخرجه على جائزة "الفبريسي" – الاتحاد الدولي لنقابات وجمعيات النقاد، كما حصلت ممثلته ياسمين رئيس على جائزة أحسن ممثلة.

تحية لمحمد خان على فيلمه العذب (فتاة المصنع) أو "عودة الروح الى إيزيس" الذي أسعدنا، وأعاد الينا بهجة اللقاء مع أعمال السينما المصرية الجميلة "إيزيس" التي افتقدناها منذ زمن طويل، حتى كدنا نحسب انها قد ماتت، واختفت والى الابد من حياتنا.