في سبيل الوصول إلى نظرية موحَّدة للترجمة، تنطلق الكاتبة من سؤال: هل يمكن التنظير في مجال الترجمة؟ لتطرح على بساط السجال التوجهات والمقاربات المختلفة في هذا المجال، سواء الذاتيّة أم الموضوعيّة، ولتقول بأن الوعي بمفهوم مصطلح "النظرية" كفيل بتبديد الاختلافات

اَلتَّنْظِيرُ فِي مَجَالِ التَّرْجَمَةِ

ت / يونس لشهب

جاكلين كيلمان فليشير

مُقَدِّمَةٌ

لقد اتسم النظر في الترجمة خلال قرون كثيرة، ولا يزال حتى اليوم، بقيامه على تقابلات ثنائية من نحو: اللسان الأصل/ اللسان الهدف، والنص الأصلي/ النص المترجَم، والنزعة الأدبية/ الترجمة الحرة، والترجمة الحرفية/ الترجمة المعنوية. وليست هذه التقابلات، كما تثبت المصطلحية (terminologie)، من نفس النظام تماماً. وبالرغم من الاختلافات، فإن ظاهرة التوجه شطر النص الأصلي، أو شطر النص المترجَم، تبقى أمراً مركزياً. ويُلاحظ التناوُب بين هذين التيارين في المواقف الفردية مثلما يلاحظ في المواقف الجماعية في بعض الحقب المحددة. ويبدو أن ثمة عاملين قد لعبا دوراً حاسماً في هذا الجدل. يتعلق أولهما بالعلاقة بين التطبيق والنظرية، فقد كان المترجمون يسوغون الاختيارات الْمُجْراةَ في نشاطهم الترجمي تسويغاً قبلياً، كما كانوا يشيّدون المبادئ، التي سوغت ما أقروه من حلول، في نظريات. وكان التعبير عن هذه المواقف في شكل مقدمات العمل المترجَم، أو رسائل المناظرات.

أما العامل الثاني فمتصل بطبيعة النصوص المترجمة، التي كانت تذكي هذا النظر. ويكاد الأمر يكون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنجيل من جهة، وبالأدب، وخاصة بالشعر، من جهة أخرى. 

اَلتَّرْجَمَةُ قَبْلَ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ
يعود منشأ هذا الجدل في الترجمة إلى العصور القديمة. وإذا كان تفضيل اللسان الأصل (المترجَم منه) أو اللسان الهدف (المترجَم إليه) انشغالاً جوهرياً وثابتاً منذ تلك العصور، فمن المستبعد، في المقابل، أن يكون مردّ ذلك إلى محض تواطؤ.

لقد كان سيسرون(1)، أول بادئ بطرح قضية الترجمة، وذلك لأمرين: لأنه أول من عبر عن مواقفه من نشاط الترجمة. ولأنه، موازاة مع ذلك، فتح الجدال في القطب الواجب تفضيله. وقد كان، في حقيقة الأمر، يريد "لَتْيَنَةَ" (latiniser) النصوص الإغريقية. وعبرت غايته التي كانت سياسية وثقافية في الآن ذاته، عن هاجس إثبات التفوق الروماني. وعلاوة على ذلك، أبان على المستوى اللساني عن وعي حاد بتغايُر الألسن (langues). ولا يمكن استبعاد إمكان أن يكون لهذا المعيار دخل في الموقف المتبنى. غير أن قاعدته المشهورة: "ينبغي ترجمة معنى بمعنى، وليس كلمة بكلمة"، قد أخذ بها المتحيزون إلى النص الأصلي والمتحيزون إلى النص المترجَم على حد سواء. وبالنظر إلى غياب معنى محدد تحديداً دقيقاً في كلامه هذا، فمن اليسير فهم علة الاختلاف في تفسير قاعدته تلك. وفي القرون الوسطى، كان الإبداع الأدبي والترجمة سيان. وعليه، لم يكن شوصي يقيم تفرقة قط بين أعماله الأدبية الأصلية والأعمال التي ترجمها، إذ كانت تعد بمثابة إبداع مستقل تماماً، وذي وضع مستقل في علاقته بالعمل الأصلي. أما في عصر النهضة، وبصفة أخص عند ترجمة "إنجيل لوثر"، فقد ظهر اهتمام جديد، ألا وهو جعل النصوص المترجمة مُبِينَةً، تفهمها عامة الناس. ومن أجل هذه الغاية، نوه لوثر باللسان الشائع، وسوّغ تبديل المصطلحات والبنى اللسانية التي لم تكن لتعرف بسهولة في ألمانيا. وفي القرن السابع عشر، وإلى حد كبير في القرن الذي بعده، شهد تصور الترجمة تحولاً جذرياً، ذلك أن المترجمين، متذرعين بالحرية، غيروا العمل الأصلي إلى درجة تجعل ترجمتهم غالباً اقتباساً، ومن هنا العبارة الفرنسية المشهورة: "الجميلات الخائنات".

وإذا كانت التيارات المذكورة، إلى حد الآن، تُفضِّل النص الهدف، تحت تسميات متنوعة، فإن التوجه إلى النص الأصل، هو أيضاً، وبالرغم من ذلك، كان مُمَثَّلاً تمثيلاً واسعاً. وهكذا، فإن هاجس عدم خيانة الكلام الإلهي، أثناء ترجمة الإنجيل، وفي مراحل من التاريخ متنوعة، قد أدى إلى احترام الشكل الأصلي، وهو احترام كان يذهب أحياناً إلى غاية النزعة الأدبية في الترجمة. ويمكن أن نذكر في هذا السياق ترجمات الإنجيل القديمة، مثل: (ترجمة الإنجيل المراجعة، 1881 ـ 1885) في إنجلترا، و(الترجمة المعيار، 1901) الأمريكية. وقد كان تثمين النص الأصلي، أيضاً، في صلب الإيديولوجية الألمانية في عصر الرومانسية. فكان في الأمر، إذن، تجديدٌ لمنابع لغتها الخاصة، وإثراءٌ لأدبها، بحجة النص الأصلي. 

اَلتَّرْجَمَةُ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ
لقد صارت الحال في القرن العشرين أكثر تعقيدا بكثير. فبالرغم من استمرار الجدل المركزي المذكور آنفاً، فقد طرأ، موازاة مع ذلك، تغيُّر جذري في كثير من المؤلفات النظرية. وقد سجل مجيء اللسانيات، حقاً، منعطفاً في المواقف المتبناة. لقد ظهر تأثير اللسانيات بداية في إطار البنيوية النظري، في كل من أوربا الشرقية مع حلقة براغ(2)، والولايات المتحدة الأمريكية، بدافع من أوجين نيدا، رئيس "جمعية ترجمة الإنجيل". وصارت الترجمة، التي عُدت حتى هذه المرحلة فنّاً، موضوعَ دراسة علمية. وإن مؤلفات نيدا: (نحو علم للترجمة، 1964)، و(بنية اللغة والترجمة، 1975)، وكتابه المشترك مع شارل طابر: (نظرية الترجمة وتطبيقها)، تشهد أن نظرية الترجمة كانت، ولأول مرة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظرية اللغة. ولاحقاً، تسرب تأثير اللسانيات إلى باقي أوربا، مع تنوع في الإطارات النظرية. وقد عبر كثير من المنظرين عن ضرورة الربط بين نظرية الترجمة ونظرية اللغة، ومنهم جورج مونان في (مشاكلُ الترجمةِ النظريةُ، 1963)، وهنري ميشونيك في (من أجل الشعرية II، 1973)، وجورج سطينر في (بعد بابل، 1975)، ولويس كيلي في (التأويل الصحيح، 1979)، وجون روني لادميرال في (الترجمة: مسائل من أجل الترجمة، 1979)، وبيتر نيوْمارك في (مقاربات في الترجمة، 1981)، وأنطوان برمان في (محنة الغريب، 1984)، وجون دون في (من أجل نقد الترجمات، 1995).

غير أن اختلافات واضحة ظهرت بين الكتاب المذكورين، وكانت في مواضيع شهى. وقد تجلّت هذه الاختلافات في الغالب في عبارات متعارضة، مثلها في ذلك مثل الْخُصومات حول اللسان الأصل/ اللسان الهدف. ويتعلق محل الخلاف الأول، وقد يبدو في الأمر تناقض، بالصلة بين اللسانيات ونظرية اللغة (langage). وإذا كان جمهور المنظرين لا يرى ضيراً في الربط بين المفهومين، فعند هنري ميشونيك أنهما منفصلان انفصالاً واضحاً، حيث إن اللسانيات أطُّرِحَتْ أنْ كانت غيرَ ملائمة لنظرية الترجمة. وتُعلِّلُ هذا الإطّراحَ قضايا جوهرية في كتابه (من أجل الشعرية، II)، عبر عنها بقوله: "إن ترجمة نص معين لا تعني ترجمة اللسان، فالترجمة والتنظير ينصبان على ارتباط نص بنص آخر، لا على ارتباط لسان بلسان آخر"، (ص: 314). ويؤكد ميشونيك، في المقابل، وجوب ربطِ التفكير في الكتابة والترجمة بنظرية في اللسان، وربطِ النظرية اللسانية، عكسياً، بنظرية في الكتابة والترجمة. إن ميشونيك عندما يهاجم اللسانيات، فهو يقصد أساساً البنيوية واللسانيات التحويلية، ومن هذا المنظور أدان مقترحات أوجين نيدا.

وقد كرر جورج سطينر هذه الانتقادات في كتابه (بعد بابل). وهو يندرج، مثل ميشونيك، في سلك معارضي اللسانيات المجردة، ويؤكد أهمية خصوصية اللغات والثقافات، قائلاً في (بعد بابل): "إن ثمة، في تقديري، مكاناً لمقاربةٍ ذات اهتمام متفرد يركز على الألسن أكثر من تركيزه على اللسان الواحد"، (ص: 107). إنه يتطلع إلى الترجمة في منظور رحب جداً، يدرج الترجمة في صلب اللسان نفسه، وينهض ضداً على التوجهات القصوى نحو القطب الأصل أو القطب الهدف، مقترحاً وضعاً ملتبساً متمحوراً على توازن بين القطبين. وسبق لـ جورج مونان أن تحدث في هذا الموضوع، حيث وضع تصوره بوضوح، منذ أول فصل من كتابه (مشاكل الترجمة النظريةُ)، بقوله: "لماذا دراسة الترجمة وكأنها اتصال بين الألسن؟ الجواب: لأن الترجمة أولاً اتصال بين الألسن". كما خصص جزءاً مهما من كتابه لدراسة المعيقات التي يمثلها، في فعالية الترجمة، تنظيم معطيات التجربة المختلفة حسب الألسن. أضف إلى ذلك أن الفصل الخامس من هذا المؤلف عنوانه: (الفعالية الْمُتَرْجِمَةُ وتعدد الحضارات).

وقد صرح جون روني لادميرال، متبنياً التمييز بين اللسان (langue) والكلام (parole): "إننا لا نترجم علامات بعلامات أخرى، ولا حتى وحدات لسانية بوحدات لسانية أخرى، ولكنا بالأحرى نترجم وحدات كلامية أو خطابية"، (الترجمة: مسائل من أجل الترجمة، ص: 206). ويضع أوجين نيدا نفسه على نحو صريح في منظور يتفكر في اللغة وفق بُعْدٍ كونيّ. وهو يربط، في كتاباته، على غرار العادة الأمريكية، اللسانيات بعلم السلالات (ethnologie). ويميز في العلاقة بين النصين الأصل/ المترجَم والهدف/ المترجِم، نوعين من أنواع التكافؤ: التكافؤ الحركي، والتكافؤ الصوري. يمثل التكافؤ الأول المعادِلَ الأقرب من رسالة اللغة الأصل، والنوع الثاني توافقَ الوحدات اللسانية على مستوى البنية التركيبية.

تشمل نظرية أوجين المؤلِّفَ والمتلقيَ، وفي هذا ترتبط بنموذج تواصلي ما. ويركز جورج سطينر، هو أيضاً، على ربط نظرية الترجمة بنموذج تواصُلي، إذ قال: "إن نموذجاً تواصلياً هو في آن واحد نموذج في الترجمة، ونموذج في النقل الأفقي أو العمودي للتدليل(3) (signifiance)، (بعد بابل، ص: 45). بيد أنه لا يحصر وظيفة اللغة (Langage) في التواصل فقط. والحق أن أخذ النموذج "التواصلي" في الحسبان أو عدمَه، أمرٌ مشروط على نحو كبير، بنوع الترجمة الذي تعلق به المنظرون. لكن معياراً ثانياً يفرض نفسه، وهو مرتبط بالأول إلى حد ما، وهو كون هدف الترجمة، عند جمهور المنظرين، لا يمثل رِهاناً. ويعد لويس كيلي هو الذي أكد ضرورة هذا الأمر تأكيداً صريحاً، حين قال: "ليس المتغير الأساسي موضوعاً من المواضيع، ولكنه مقصد من المقاصد. فالمترجم يقدم، بتعبير بوهلر، وظيفة النص الأصل، ويقضي أمر مسؤوليته في علاقته بقارئه، وإن كان يجهله، كما هو الشأن في حالة بنيامين"(4)، (التأويل الصحيح، ص: 220). ولما قال لاحقاً: "لقد طوَّر الأمريكيون نظرية الترجمة في سياق البحث الأنتروبولوجي، ونشاط البعثات المسيحية، فكانت الإنجليزية من أجل الاستجابة لحاجيات الإدارة الاستعمارية"، (نفسه، ص: 225).

وكثيراً ما انتُقِصَ من هذا المعيار، اللهم فيما تعلق بالترجمة التقنية، وفي هذا السياق تنظر مقالة نيكولا فروليجر، في هذا العدد من مجلة (اللسانيات التطبيقية). وفي حقيقة الأمر، يفسر هذا المعيار، إلى حد ما، توجُّه المترجمين الأدبيين، الذين يذهبون أحياناً إلى حد حجب المتلقي/ المرسَل إليه حجباً تاماً. وإن ما يحظى به شكل النص الأصل من الاهتمام، يتوقف أيضاً، إلى حد كبير، على طبيعة النص الذي سيُتَرْجَمُ. وفي الواقع، يتمرد كثير من المنظرين على تصور الشكل والمعنى تصوراً ثَنْوِيّاً(5)، (dualiste). وقد وصلت النزعة الثنوية عند بعض المنظرين مثل شارل طابير إلى حد اعتبار الأسلوب مجرد إضافة وتزويق. والحال أن فصل المعنى والأسلوب، ووضع المعنى أولاً، ثم الأسلوب بعده، كما قال ميشونيك ما هو بالعمل البريء ولا البسيط.

إن من تحصبل الحاصل، ودون الخوض في جدل نمذجة النصوص، الذي هو جدل إشكالي بالضرورة، أن صعوبات الترجمة، إذا جاوزنا عتبة معينة، ليست من نفس النظام في النص الأدبي وفي النص التقني. من أجل ذلك، لا يمكن وضع المشكل في صيغة ثُنائيَّةٍ (dichotomie)، سواء تعلق الأمر باشتغال اللغة أو بالترجمة. وفي أقصى الحالات، شأن جورج مونان في كتابه: (الخائنات الجميلات)، يكون الشعر مقابلاً للعِلم.

وعلى النقيض، يتصور منظرون آخرون اشتغال اللغة في إطار مجموعة مُتَّصِلِيَّةٍ (6)، وهم مصيبون في تصورهم. وممن يُحسبون على هذا المنظور جورج سطينر، في قوله: "إن قضية قابلية الترجمة، بين القصيدة الأكثر إشكالاً والتباساً، وبين النثر الأدبي الأكثر ابتذالاً، هي قضية درجة في تلك القابلية." (بعد بابل، ص: 144). ويضرب لويس كيلي في نفس الاتجاه مصرحاً: "إن تعدد أنواع النصوص لا يمثل عائقاً يحول دون النظرية الموحدة، فالوحدة في النظرية لا تعارض تعدد الأنواع (genres)"، (نفسه، ص: 219). 

تَطَوُّرُ التَّرْجَمَةِ
إذا كانت الترجمة قد ظلت ردحاً من الدهر مركَّزة على الأدب والإنجيل، فإن دفاع "لويس كيلي" عن ترجمة موحَّدة، لا يقل حصافة عما نلاحظه اليوم من تزايد الدفاع عن "تعدد الأنواع" في فعالية الترجمة، حيث نجد النصوص القانونية، والمصنفات العلمية والاقتصادية، ودليل استعمال آلة معينة، والمقالات الصحفية، ومنشورات المنظمات الدولية... وما دامت الميادين كثيرة، فمن الصعب تقديم استقصاء شمولي للأنواع.

وقد نشأت الترجمة الآلية (automatique) بفعل عاملين، وهما: تزايد مقدار المعلومات، وضرورة نشرها على صعيد دولي. وكانت غاية المجموعة الأوربية من إطلاق برنامج "أوروطرا"(7) ، (Eurotra) ترجمةُ النص نفسه إلى ألسن كثيرة ترجمة مباشرة. وهو ما حفز بحوثاً شتى في البلدان الْمَعْنِيَّةِ. لكن النتائج المحصل عليها حتمت على الباحثين توجيه هذا المنظور توجيهاً جديداً. وبدل الحديث عن الترجمة الآلية، صاروا يتحدثون الآن عن "الترجمة بمساعدة الحاسوب". ولا شك في أن بحثهم قد اتجه إلى الجانب التطبيقي في الترجمة أكثر من اتجاهه نحو التفكير النظري. وبالرغم من ذلك، فإن الفشل الذي تعترف بعضُ المحاولات، يكشف حقيقة عجز الترجمة الآلية عن أن تأخذ في الحسبان كل المعايير التي تضبط مرور النص من لسان إلى لسان آخر. وعلى نحو غير مباشر، يُثَبِّتُ بحثُهم تعقيد فعالية الترجمة.

ومن جانبه، حَفَزَ كون الترجمة قد اكتسبت في النصف الثاني من القرن العشرين وضعاً مؤسسياً، منشورات غزيرة في مجال الترجمة. وهكذا، أنشئت (شركة المترجمين الفرنسية) سنة 1947، و(فيدرالية المترجمين الدولية) سنة 1953، و(جمعية المترجمين الأدبيين) سنة 1973. ويُدلل إنشاء مراكز الترجمة، من أجل الترجمة الأدبية في شطرالين بألمانيا، وفي أرليس بفرنسا، ومن أجل الترجمة التقنية في باريس، تدليلاً كبيراً على الاهتمام المطرد بهذه الفعالية.

تَعَدُّدُ التَّيَّارَاتِ النَّظَرِيَّةِ فِي التَّرْجَمَةِ
تكاثرت التيارات النظرية وتعددت، موازاة مع التطور المشهود في المجال التطبيقي. وبغض النظر عن الخصوصيات، نميز حاليا ثلاث مقاربات: النموذج المثالي المبني على نقد الترجمات، وعلى حكم كيفي. والنموذج العلمي المبني على تنسيق ظواهر قابلة للملاحظة، تنسيقاً صورياً (systematisation). والنموذج المنكب على عملية الترجمة في لحظة الترجمة نفسها. يستند أتباع المقاربة الأولى "التقييمية" إلى "والتر بنيامين". وقد أثرت المعايير التي اقترحها في كتابه "مهمة المترجم" (1923)، والتي يمكن ربطها بجهة نظر الرومانسية الألمانية، تأثيراً واسعاً في تيار فكري في الترجمة بكاملة. ينظر "بنيامين" إلى الترجمة بوصفها تحويلاً يغيِّرُ المؤلَّف الأصلي ويثري اللغة الأم بفضل اللغة الأجنبية، في نفس الوقت.ويعتمد هنري ميشونيك على بنيامين في رفضه "الترجمة الإلحاقية"(8). وفي المقابل، قام "ميشونيك" ضداً على نزعة "ندري شوراقي الأدبية الشكلية في ترجمته الإنجيل، (ترجمتَيْ 1951 و1952)، والتي تشكل عنده انتهاكاً للسان، على حدّ قوله في دراسته: (من جوناس إلى يوناه)، سنة: 1981(9).

ويؤكد ميشونيك على ضرورة نظرية تقوم على التطبيق، وتأخذ بعين الاعتبار بُعد الخطاب الشمولِيَّ. ويشدد تشديدا خاصا أهمية الإيقاع و"الطابع الشفوي" في النص المكتوب. وقد وقف أنطوان برمان، أيضاً، في صف بنيامين، وخصص كتابه الأول (محنة الغريب) للرومانسية الألمانية في علاقاتها بالثقافة. ونهض، مثل ميشونيك ضداً على نفي غرابة النتاج (oeuvre) الأجنبي نفياً تنسيقياً، مؤكداً ضرورة استخلاص أخلاقيات للترجمة. ودرس برمان في كتابه الثاني "من أجل نقد الترجمة: جون دون نموذجاً"، إمكان تقييم الترجمات وفقا لمعايير توافُقية، مقدماً معيارين لتأسيس حُكم يتجاوز البعد الذاتي: الأول ذو طابع أخلاقي، وهو يشكل، إذن، ترجيعاً لمعايير قد قدمها سلفاً في عمله الأول. والثاني ذو طابع شِعري. ويركز برمان في تحليله على نقد الترجمات، وبخاصة ترجمات جون دون. وهو، إلى ذلك، يبين المزايا الخاصة بالمقاربات النظرية، سواء المتجهة نحو النص الأصل أو المتجهة نحو النص الهدف.

وعندما باشر جون لابلاش وفريقه ترجمة مؤلفات فرويد إلى الفرنسية، تبنوا موقفا قَبْلِيًّا في علاقته بالمؤلفات المترجمة، وذلك خلافاً لجمهور المنظرين. فأوجبوا باسم الانسجام، ترجمة توارُدات نفس الكلمة عند الكاتب كلها، بنفس الكلمة الفرنسية. وهُم في ذلك مستندون إلى أتباع برمان، ولكن تمثلهم هذا يبدو فيه بعض الغلو، حيث إن برمان نفسَه طعن في هذا التصريح، وفي الحقيقة، ما اتخذ موقفه تجاه النص الأجنبي شكل نزعة أدبية معجمية قط. ولما صدر الجزء الثالث عشر، وهو أول ما ظهر من سلسلة إصداراتهم، سنة 1988، أثار جدلاً بين المترجمين، كان استئنافاً للاختلافات السابقة في هذا الموضوع، بين المحللين النفسيين والنحاة، إذ يرى المحللون النفسيون، بدعم من فرويد، ضرورة "ألمنة" (germaniser) الفرنسية. ويرى النحاة، على العكس، "فرنسة" (francisation) الألمانية. وتقودنا هذه الاختلافات مرة أخرى، إلى الجدل في القطب الأصل والقطب الهدف.

أما ثانية المقاربات، المذكورة من قبل، فلا تنهض على نقد الترجمات، ولا على حُكم نوعي، وإنما تقوم على ملاحظة النصوص المترجمة ملاحظة مُحايدة. وفي كلتا الحالتين، فإن العلاقة بين التطبيق والنظرية علاقة مركزية، غير أنها ليست من النظام نفسه البتة، فالمقاربة الأولى (التقييمية) تقترح نموذجاً مثالياً. وينعكس هذا الموقف في الجهاز المصطلحي المستعمل، إذ نجد: (مهمة المترجم)، و(و. بنيامين)، و(مقصدية المترجِم)، و(أ. برمان). وتصبو المقاربة الثانية إلى تحديد "المعايير" المستبطنة، التي تتحكم في النص الهدف، تحديداً موضوعياً، وذلك انطلاقاً من مجموعة من النصوص المترجمة. وهذا ما يجعل منهجها استنباطياً، وليس معيارياً. ويتجلى هذا المنهج أساساً في مقاربتين: مقاربة جيدون طوري في كتابه: (بحثاً عن نظرية في الترجمة، 1980)، ومقاربة "مدرسة تل أبيب"، وجوزي لامبير في كتاب (الأدب والترجمة، 1970)، الذي أكد مظهر الترجمات التاريخي والاجتماعي والثقافي، والمعايير المتحكمة في قبول الترجمات في ثقافة معينة، في حقبة معينة. إضافة إلى مقاربة جاكلين كيلمين فليشر في كتابها (التركيب الفرنسية والإنجليزية المقارن: مشاكل الترجمة، 1981)، وفي كتابها المشترك (سلسلة اللسانيات التبايُنية (contrastive) والترجمة، 1992)، ومقاربة ميشيل بالار في (الترجمة: من النظرية إلى التعليم، 1984)، والتي تتصل اتصالاً مباشراً بنظرية في اللغة تبحث عن تحديد المعايير المستبطنة، التي تحكم نشاط المترجمين، انطلاقاً من الاختيارات المتواترة، أثناء الترجمة، والتي تكاد تكون أحياناً مُكْرِهة مُلزِمة.

وتقع المقاربة الثالثة خارج حدود جدل النص الأصل/ النص الهدف، بيد أنها تنتظم، مع ذلك، في السلك المعياري. يتعلق الأمر بنظرية دانيكا سيليسكوفيتش وماريان لوديري، المعروضة في: (التأويل من أجل الترجمة، 1984). وتدور نظريتهما هاته، وهي تشمل النصوص المكتوبة، في فلك التأويل، وتسعى إلى حصر المراحل التي تسم فعل الترجمة، خلال لحظة الترجمة نفسها. وعند المؤلفتين أن عملة الترجمة تتجزأ إلى ثلاث مراحل:

مُوَازَنَةٌ بَيْنَ نَظَرِيَّاتِ التَّرْجَمَةِ
هل يمكن، في نهاية هذا العرض، تقييم النظريات المختلفة، التي كانت موضوع المناقشة؟

تبدو المهمة عسيرة، أنْ كانت الاختلافات ناتجة، في أغلب الحالات، عن اختلاف الغايات، ونتيجة لذلك، عن اختلاف تصور مفهوم النظرية. وقد ولدت هذه الوضعية خلافات ثابتة، حيث يأخذ البعض على البعض الآخر غالباً، أنهم لم يفعلوا ما لم يحاول فعله قط. من أجل ذلك، يبدو من الحكمة استحضار مصدر هذه الخلافات، أو بالأحرى مصادرها. ولنأخذ، بداية، الجدلَ المركزي في التوجهات نحو القطب الأصل/ القطب الهدف. فقد ارتبط هذا الجدل منذ بداية القرن العشرين ارتباطاً مباشراً بالمجال المتعلق بالتنظيرات الآتية: الأدب والتحليل النفسي من جهة، وعلم الاجتماع واللسانيات من جهة أخرى. وتأثرت بها العلاقات بين التطبيق والنظرية تأثراً مباشراً، طالما أن الأمر يتعلق في الحالة الأولى بنظرية معيارية، وفي الثانية بنظرية استنباطية.

ويستلزم هذا التمييز أن يكون ملتبساً، إذ تظهر وسط الموقف المعياري مذاهب كثيرة، فالمترجمون الأدبيون يبنون، في الواقع، معاييرهم على نقد الترجمات الموجودة، بينما يحدد مترجمو فرويد المعايير التي ينبغي لها أن توجه ممارستهم، تحديدا قبليا يسبق فعل الترجمة. ولا بد من تقدير الفريقين، لأن هاجسهم هو احترام النص الأصلي. وبالرغم من ذلك، فإن انشغالهم باحترام النص الأصلي، يخفي في بعض الحالات جهلاً باشتغال اللغة. وإذا كان بعض المدافعين عن هذا الموقف يتحدث عن تعويض الآثار الأسلوبية للنص المنطلق منه، فإن فريقاً آخر يرى وجوب رد كل أثر أسلوبي في نص الانطلاق، في النص المترجَم. ويقترب هذا الموقف من موقف مترجمي فرويد، لكنه أكثر مغالاة، بحكم أنه يقوم على ترجمة كل توارُدات (occurrences) الكلمة الواحدة في النص الأصل، بنفس الكلمة من اللغة المترجم إليها. وتبين ملاحظة مجموعة من النصوص المترجمة بياناً واضحاً أن تبديل نفس الأثر الأسلوبي بأثر أسلوبي تبديلاً تنسيقياً، لا يمكن إلا أن يفضي إلى نص غير لائق، فمن جهة، يخضع كل أثر أسلوبي لنحو اللسان المترجَم منه، ومن جهة أخرى، تشكل بعض الآثار الأسلوبية جزءً من الاستخدام العام في لسان معين، ولا تشكله في لسان آخر. ومن هنا، قد يكون الأثر الأسلوبي ناتجاً على نحو طبيعيّ تماماً في حالة معينة، بينما هو موسوم (marque) أو ربما هو غير لائق في الحالة الأخرى.

إن ترجمة كلمة ترجمة تنسيقية بنفس الكلمة، لا تأخذ في حسبانها كون الحقول الدلالية ليست متماثلة في مختلف الألسن. ولا شك في أن من الطبيعي أن يُعنى المنظرون الأدبيون أخص العناية بما في النتاج (oeuvre) من مظهر إبداعي. ومن ناحية أخرى، يستحيل، عند اللسانيين، الذين يندرجون في نظرية ترمي إلى تنسيق الظواهر الملاحَظة تنسيقا صورياً، ومن هنا السعي إلى التنبؤ بها، يستحيل أن يؤخذ بعين الاعتبار كل ما هو خاص بكل نتاج على حدة. ويستتبع هذا أن يتوقف تفكيرهم تحديدا عند العتبة التي تبدأ فيها نظرية الترجمة الأدبية. وخلافاً لما يُفترض غالبا، لا ينطوي هذا الأمر بحال من الأحوال، على أنهم ينكرون وجود الآثار الأسلوبية. إنهم على العكس، يعدونه وكأنه جزء تام من اللغة، لا "انزياحاً بالنظر إلى معيار معين". وإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى تعلُّق النظريات المعيارية بنوع من النصوص بعينه تعلقاً يكاد يكون تنسيقياً، وعليه، فهي لا تستطيع أن تشكل نظرية ترجمة موحَّدة. وعلى سبيل المثال، لا يسعنا إلا أن نجاري ميشونيك في الأهمية التي يعلقها على الإيقاع في الترجمات الإنجيلية أو الأدبية. وإن كانت فعالية هذا المعيار تبدو أقل وضوحاً في النصوص التقنية.

ومن المبادئ الممعنة في الصرامة، المبدأ القاضي بأن تُقارَبَ المعايير المتدخلة في الترجمة كلها، ويعني ذلك: الظواهر اللسانية، والأدبية، والاجتماعية وغيرها. ولا يمكن تطبيق منظور كهذا إلا في نظرية معيارية. كما أن محاولة إدماج كل هذه الأبعاد في نظرية هدفها تنسيق الوقائع الملاحظة تنسيقاً صورياً، في أفق تفسيرها، لا يمكن أن تُفضي إلى خلاصات منسجمة، لأن كل واحدة من تلك المظاهر تتعلق بمجال نظري مختلف.

وتشكل النظرية التأويلية في الترجمة حالة متميزة، بالنظر إلى تركيزها على سيرورة الترجمة نفسها. ومن الضروري أي يكون للإلحاح على تشكيل المعنى المستخلص تشكيلاً جديداً، انطلاقاً من تأويل النص الأصل، مع مراعاة العوامل الخارجية غير الصريحة، مكانه في نظرية راسخة في الترجمة الشفوية أساساً، وتنطبق إلى حد ما، في الترجمة الكتابية. على أنه يبدو ألا سبيل إلى فهم هذين النوعين من العمليات فهما تاماً. وإذا قصرنا الحديث على النصوص الأدبية فقط، فإن مراعاة الإيقاع والخاصية الشعرية في نص ما، ينطوي على أكثر من مجرد تشكيل المعنى تشكيلاً جديداً. ومن نظر مصطلحي، يبدو استعمال عبارة "التجريد اللغوي" وعبارة "المراد قوله" من طرف المتكلم، استعمالاً لا يخلو من الاعتساف. ومن الثابت أن الضرورة غالبا ما تقتضي العُدول عن بنية النص الأصل التركيبية وعن معجمه، من أجل الوصول إلى ترجمة ناجحة. ولكن، هل يمكن لبناء المعنى، من أجل ذلك، أن يكون منفصلاً عن اللغة؟ وإلى ذلك، هب أننا ندرك ما يقوله المتكلم (locuteur) أو مؤلف نص مكتوب، فهل يمكننا حقا إدراك ما "يريد قوله"؟ يبدو من العسير الحديث عن خاصية التواطؤ واللاغموض في اللغة، بسبب انعدام الأدلة الموضوعية.

لقد أسس بُنيان النظرية التأويلية تأسيسا متينا على مساءلة اللسانيات، وإن لم تُمحَّص إلا بعض الأطر اللسانية فقط، من مثل: البنيوية واللسانيات التوليدية واللسانيات النفسية. وقد اتجه السعي، بصفة خاصة، إلى مظهرين لسانيين اثنين: الأول خاصية اللسان المجردة والافتراضية والمنفكة عن السياق، على عكس الخطاب. وحق لنا أن نندهش من كون هذا النقد بقي ثابتا في النسخة المراجعة والمصححة من كتاب: (التأويل من أجل الترجمة، 2001)، في حين أن تيار بحث في الترجمة برمته يرتكز، منذ ما يزيد على عشرين عاما، على لسانيات الخطاب، ويؤكد على القيم السياقية، وعلى بناء القيم المرجعية انطلاقاً من ربط كلمات الملفوظ، ومن وسم العلاقة الإسنادية بالنظر إلى المتلفِّظ ومقام التلفُّظ (enonciation). وتقدم النظرية التأويلية اعتراضا ثانياً، يتمثل في كون اللسانيين لا يرون في عملية الترجمة سوى "انعكاس لاستبدال من لسان إلى آخر". وإن يتعلق اللسانيون بملفوظات النص الأصلي والنص المترجَم، فليس ذلك بتاتا لأنهم يتصورون المرور بينها مروراً مباشراً من "لسان إلى لسان آخر" دون بناء المعنى بناء جديدا، وإنما لأن تلك الملفوظات تمثل الوقائع الوحيدة التي يمكن تأكيدها. أضف إلى ذلك أن هدفهم يختلف اختلافا جوهريا عن هدف النظرية التأويلية، فهم لا يسعون إلى إدراك عملية الترجمة في الوقت الذي تُنجز فيه، ولكن هدفهم استخلاص الظواهر القابلة للتعميم في فعالية الترجمة. 

فَعَّالِيَّةُ التَّرْجَمَةِ وَالإِكْرَاهَاتُ الِّلسَانِيَّةُ
في البداية لا بد من الإجابة عن السؤال الآتي: ما المقصود من قولنا "الظواهر القابلة للتعميم"؟

إن الأمر يتعلق بمعايير ثقافية تنعكس في تنظيم الخطاب. ولو صح أن الترجمة لا تعدو كونها ترجمة نصوص، وليست ترجمة لسان، لبدا، مع ذلك، الاعتقاد بإمكان ترجمة "الموسوم بالموسوم، وغير الموسوم بغير الموسوم" ضرباً من التوهم. ويفترض هذا، أ، يكون المستوى الإبداعي في اللغة مستقلاً عن النحو وعن الاستعمال. وعليه، فلن تُدْرَك الترجمة آنئذ بوصفها إبداع النص الأصلي إبداعاً جديدا، ولكن تدرك، حسب الحالات، بوصفها غريبة وشاذة. وقد طرح جورج سطينر القضية على نحو واضح حين قال: "هل يشترط في الترجمة الجيدة أن تضرب صفحاً عن لغتها الأم، وتتجهَ صوب اللغة المترجَم منها، فتخلقَ في وعي منها، فضاءً من الغرابة وجوانبَ معتمة؟ أم أن عليها تحييد (neutraliser) الخصائص اللسانية المستوردة من اللغة المترجم منها، كما لو أنها من بيئة المترجِم الكلامية ومن بيئة قرائه؟). (بعد بابل، ص: 266).

لقد عبر الكُتاب عن مواقفهم من هذه القضية، أكثر من المنظرين. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال ميشيل طورنيي، إذ ألمع إلى تجربته بوصفه مترجما في دراسة له عنوانها: (ريح روح القدس)، قائلاً: "إن الترجمة يقيناً من أنفع التمارين التي يمكن أن يخضع لها كاتب مبتدئ. وهدفها صياغة فكر أجنبي بلغة فرنسية سلسلة ومرنة ومألوفة ما أمكن. ويَلزم المترجِم أن يتعلم التعامل بمهارة مع العبارات الثابتة (cliches)، والأقوال، والصيغ الجاهزة، والتعابير المبتذلة، وسائر التعابير الاصطلاحية (idiotismes) الأخرى، التي تمثل عمق اللسان الذي يترجم منه، وغيابها أو ندرتها خاصية تميز اللغة الخاصة التي سميناها: (الْمُتَرْجَمَ مِنْ)". ويستأنف لاحقاً القول: "هذا، وإن التمرين المذكور يهيئ تهييئاً جيدا لتلقي العمل الأصلي. وفي الحقيقة، لا يعلمنا التمرس المثابر بالأجزاء الرئيسة التي تكوّن الآلية اللسانية، مجرد استخدامها، بل يعلمنا أيضاً أن نلوي أعناقها، وأن نلغيها من العمل الأصلي". (ريح روح القدس، ص: 164).

كما يمكن أن نستشهد بدراسة إيف بونوفوي (شكسبير والشاعر الفرنسي، 1962)، أو بتأملات جوليان كرين في كتابه: (اللغة وضِعفها، 1985). فقد عبر كل واحد منهما بطريقته، عن مدى صعوبة التعبير عن فكر ورؤية للكون بلسان يوافق ثقافة أخرى.

خُلاصَةٌ
يمكن أن نختم بالسؤال الذي بدأنا به: هل يمكن التنظير في مجال الترجمة؟ بالنظر إلى تعقد المشكل. ويقود اختلاف المواقف المهيمنة إلى مجموعة من الأسئلة. ويبدو التوفيق بين التيارات المختلفة، في الواقع، أمراً صعباً. وعلة ذلك أن مفهوم النظرية نفسَه يختلف اختلافاً جذرياً حسب كل حالة. وهذا الواقع لا يؤخذ في الحسبان، بل ولا يدرك إلا لماماً. وإلى العلة نفسها، مرجع الاختلافات بين المنظرين، فهؤلاء يضعون المبادئ مبنية في أغلب الحالات على نقد الترجمات، وعلى تقييم جودتها تقييماً ذاتياً. ويسعى التيار المبني على ملاحظة النصوص المترجمة ملاحظة محايدة، ما وسعه السعي، إلى تنسيق الوقائع (faits) تنسيقاً صورياً، وبالنتيجة إلى التنبؤ بها. وفي غمرة ذلك، يصير التمفصل بين التطبيق والنظرية متغيِّراً على نحو جلي، إذ ينهض تفكير المنظر في حالة على ممارسته الشخصية، وفي الحالة الأخرى يقوم على ممارسة مجموعة من المترجمين. ويسوغ المقاربة الثانية هاجس مضاعف: الاعتماد على معايير موضوعية، وتمحيص مجموعة متنوعة من النصوص، في سبيل الوصول إلى نظرية موحَّدة، وإلى التعميم.

وختاماً، فإن الوعي بمفهوميْ مصطلح "نظرية" لكفيل، في أقل تقدير، بتبديد الاختلافات. 

أستاذ باحث وشاعر من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اَلتَّنْظِيرُ فِي مَجَالِ التَّرْجَمَةِ:
Theoriser la traduction, Jacqueline Guillemin ـ Flesher, Publication linguistique, Revue francaise de Linguistique Appliquee, 2/2003, volume VIII, pp: 7 a 18.
(1) ـ ماركوس توليوس سيسرون (106 ـ 43 ق م): فيلسوف وشاعر وخطيب روماني.
(2) ـ حلقة براغ: أسست بمبادرة من فيليم ماتيسيوس سنة 1926. ومن روادها رومان جاكبسون، ونيكولا تروبيتسكوي، وروني ويليك، وجون ماكاروفسكي. أصدرت أعمالها في ثمانية أجزاء نُشرت بين 1929 وَ1939.
(3) ـ التدليل (signifiance): مفهوم يجمع البعد التصوري للدليل/ النص، مع كل ما يتعلق بما يتأثر به المتلقي، من عواطف ورغبات ومقصد. ينظر:
Langage, connaissance et pratique, Noël Mouloud et Michel Venne, pu, 1982, p: 104.
(4) ـ والتر بنديكس شونفلي بنيامين (1982 ـ 1940): فيلسوف وناقد ومترجم ألماني، من رواد "مدرسة فرانكفورت". صاحب نظرية في الترجمة، من مبادئها أن الترجمة تبعث العمل الأصل وفق رؤية جديدة، مما يغني لغة المترجِم الأم. وأن من المباح للمترجم خرق قواعد لغته الأم. وترى أن الهدف من الترجمة هو البحث عن لغة كلية وفوقية تتضمن كل اللغات. ينظر:
Sur Walter Benjamin, Theodor W. Adorno et al. Ed. Allia, p: 82.
(5) ـ الثنوية (dualiste): نسق فكري ينطلق من افتراض وجود مبدأين أو جزأين أو عنصرين حتميين وخالدين، يتعايشان في الكون والإنسان والأشياء. ينظر:
Le dualisme des ordre de la modernite, Christian Barrere, Lavoisier, vol. 6, 2004/3, pp: 243 a 263.
(6) ـ اَلْمُتَّصِلِيَّةُ الترجمة التي نقترحها للمصطلح الفرنسي (continuum): يدل المصطلح في اللغة على مجموعة من العناصر المتجانسة، من الهين الانتقال فيها، دائماً، من عنصر إلى عنصر آخر. وتختلف دلالة المفهوم الاصطلاحية باختلاف الحقول المعرفية، فهو يعني في اللسانيات الاجتماعية مثلا، مجموع الاختلافات اللسانية الملاحظة في مجموعة لسانية، تكونت من تمازج لسانين مختلفين. ويعني في علم الاجتماع مجموع السلوكات الغريزية، التي جُبِل الإنسان عليها، والتي توجه تعامله مع الآخر ومع المحيط. ينظر:
An introduction to continuum mechanics, Junuthala Narasimha reddy, Cambridje University Press, 2005, et Introduire a la linguistique: le point de vue de Narcisse, Olivier Soutet, Langue francaise, annee 1998,volume 117,numero 1, pp: 109-110-111.
(7) ـ برنامج "أروطرا" (Eurotra): من أنظمة الترجمة الآلية الأولى. وكان إطلاقه سنة 1982، وتوقف العمل به منذ 1992. وللإشارة، يُعَدُّ أندريو بوث، ووارين وافر أول من أنشأ برنامجا للترجمة الآلية، وذلك سنة 1945. ينظر: Ordinateurs et traduction: survol d'un demi siecle, Langages, n: 116, v:28, 1994, pp: 111-118.
(8) ـ الترجمة الإلحاقية: تقوم على إلغاء الاختلافات الثقافية والتاريخية واختلاف البنى اللغوية عند الإقدام على الترجمة، ينظر:
Image et ecriture du corps dans l'oeuvre romanesque de Tahar Ben Jelloun, these de doctorat, Axel Hammas, pu, 2002, p:398.
(9) ـ عنوان الدراسة كاملاً: Traduire la Bible: de Jonas a Jona, H. Meschonnic, Langue francaise, 1981, v. 51, n. 1, pp: 35 a 52.
ويناقش فيها ميشونيك ترجمة أندري شوراقي "كتاب يونس" من "التناخ". ويرى في الترجمة تأثير خلفية المترجم اليهودية بدءً من الاسم "يوناه" "Jona" الذي اقترب به المترجم إلى العبرية، مبتعداً عن الاسم الفرنسي لسيدنا يونس "Jonas".
(10) ـ التجريد اللغوي (deverbalisation): يقصد به الاحتفاظ بالتمثيل الدلالي للجملة فقطّ. للتوسع ينظر:
La forme logique et les processus de deverbalisation et de reverbalisation en traduction, Claude Boisson, Journal des traducteurs, v. 50, n.