تسجل القاصة العراقية في نصها المكثف تجربةً مرة عن أوضاع المرأة الاجتماعية في بلد كالعراق تقيم فيه الأعراف العشائرية البدوية الشديدة التخلف في أذهان رجاله وحتى ممن تثقف وتحضر كما هو حال الزوج في النص الذي يحكم شريكته حكما قاسيا لا ذنب لها به، والنص يرصد بعيني البنت تراجيديا العلاقة تلك.

خلطة توابل

محاسـن حسـن

ثمان نساء في بيت واحد ، يتحركن فيه مثل المكوك ، يجلسن مع بعضهن، يتبادلن الأحاديث،    يأكلن ، يعملن أي شيء ولكن لا رابط بينهن .  

يعلو صوت الجرن الحديدي من زاوية المطبخ العتيق الذي اختفى لون حيطانه من آثار روائح الطبخ وذرات الزيت ، تفوح رائحة توابل تعبق في أرجاء البيت كله ، تطال الأصوات الضاجة وتهدئها . تشدني الرائحة فأقف عند باب المطبخ أراقبها وهي تدق بتواصل ،" ماما لولا الصوت العالي  لكنت ساعدتك أو على الأقل جلست معك تعرفينني لا أحتمل الصوت العالي " ترفع رأسها وترمقني بنظرة تعبة وكأنها لم تسمعني وتعود لجرنها وتدق .

تعالى صوته من الحجرة البعيدة في الطرف الآخر  " كفى لقد دخت، كفى دق " . ويستمر الجرن على الرغم من ألم رقبتها إلا إنها كانت تريد أن تنجز مهماتها بلا توقف وكأن ثمة من يحاسبها إن تركت شيئا للغد .

ثمان نساء ورجل ، ستة بنات وعمتي الأرملة وابنتها وبابا، كانت مسئولة عن الاهتمام بطعامهم وغسيل ملابسهم وعن كل تفصيلة تخصهم .

أكملت ما بدأت به ونهضت بصمت بظهر محني من فوق تختها الخشبي الصغير ، رمقتني بنظرة وكأنها تنتبه لوجودي . لم تعرف يوما أن تعبر عن ما في داخلها ، لم تشتك ، لم تغضب ، لم تتذمر إلا بصوت مكتوم وتكرر جملة واحدة " يا صبر أيوب صبرني على بلائي " .

أخذت الجرن منها ، أفرغت التوابل في صحن، نفذت رائحتها الى حواسي كلها " ماما ، كيف تعلمت هذه الخلطة " فتجيب " لا أعرف وكأني ولدت وأنا اعرفها " .

بين الحجرتين ، كن يتراكضن والضحكات تتناثر مثل عصافير جذلى بالحياة ، تنظر إليهن بعين محبة منهكة ، منهكة من كل شيء ، من عدم الشكوى ، من الاستهلاك ، من العمل المضني المتواصل ، من قول نعم طوال الوقت ، من الطلبات المتواصلة ، منه ، من الإهمال ، ومن كونها أصبحت لا مرئية ، لا أحد يحس بوجودها ، كائن ينفذ بلا اعتراض . ربما أنا من كانت تتوقف لبرهة لأرصد حالتها وألقي بكلمة طيبة وأساعد قليلا ومن ثم أذهب لمشاغلي .

كمنت فرحتها ، رضاها في الحياة التي تدور حولها، إحساسها أنها مسئولة عن هذا الدوران وانه لولا استمرارها في العمل منذ الفجر وحتى منتصف الليل لتوقفت الحياة في المنزل . كان هذا إحساسها وحدها ولم يكن لأحد أن يتوقف عنده . خلقت لها عالما تهرب منه لوهلة خارج المنزل ، أحبت الاعتناء بالحديقة وسقيها وإزالة الأعشاب منها ، وكان لها قفصا كبيرا ربت فيه عصافير الحب الملونة ، وكانت تعتني فيها كل يوم وتجلس على دكة عند عتبة باب المطبخ المؤدي إلى الحديقة لتستمع إلى زقزقتهم وتراقب حركاتهم .

كانت أمي متوسطة الجمال، بيضاء بلون الحليب ، جسمها أملس لا شعرة فيه ، والشعر اسود كثيف، أنفها كان عريضا يغلب على سكان منطقة باب الشيخ التي تنحدر منها ، البغداديين الأصليين ، تملك عيني طفلة لم تكتشف العالم ، كل شيء حولها كان يبهرها ، والحياة التي تجري خارجا هي قصص تحكى لها .

امتلئ جسدها وأخذ شكل الأمكنة التي كانت تجلس طويلا فيها ، أثداء كبيرة ومؤخرة مكتنزة مثل الأمهات جميعا ، ولكن ما كان يتفرد فيه جسد أمي بطنها المدور . فبعد ستة ولادات وإجهاض واحد لم تتهدل بطنها بقيت قوية وصلبة وكأن طفلا علق داخلها . هذه البطن التي تشبه الكرة كانت هي ما يخجل أمي ، فأول ما تدخل عتبة بيت أقاربنا وقبل أن تسلم عليهم كانت تضحك واضعة كفها على فمها وتشير إلى بطنها المهتز لتلفت انتباه الجميع وكأنها تستغفرهم لحملها هذه البطن .

لم يكن يحلو لي إلا أن أداعب بطنها وأقبلها واضعة راسي عليها وأقول " لم تخجلين من حاضنة حيواتنا ، الأحرى بك أن تعتزي بها " .

لم تعترف يوما إنها أحبت أبي ولم تعرف أي منا تفصيلة عن علاقتهما وعن مشاعرها بالكلمات ، حولتها إلى طاعة وعمل يومي صامت امتد عمرها كله ، له ، لأمه ، لبناته . وهو لم يكن يردد إلا جملة واحدة يعبر فيها عن علاقته بها " إنها أمك التي ورطتني وجلبت لي البنات " ، كنت أتساءل من كان ينام معها ، لم يحملها المسئولية وحدها . أمضت حياتها مثقلة بالذنب لتعاسته .

جرت ساقيها المكتنزتين وصعدت السلم إلى الطابق العلوي الكبير ، تسحب جسدها المتعب درجة بعد أخرى . رتبت أسرة بناتها وفوضاهن ودخلت إلى غرفته، والتفت وراءها لتتأكد أنها لوحدها في المكان ، تمددت على الجانب الذي ينام فيه ، شمت رائحة المخدة ومرغت وجهها فيها، رائحة لم تألفها كثيراً ولكن هي ما عرفته عمرها كله ، رائحة رجل حسدنها النساء عليه ، لمركزه العلمي وللبيت الكبير الذي تسكن فيه ولكل المظاهر المترفة التي لم تعنيها البتة . استعادت ذكرى حملها الأخير الذي لم تكن تخطط له ، فسقطت دمعة من عينيها وانتفضت مبتعدة خارج الغرفة .

حملت أمي لسادس مرة لتجلب له الصبي الذي حلم به ، صمتَ بانتظار المولود وارتعب قلبها خوفا . وحين جاءت ساعة الوضع لم يذهب معها إلى المستشفى لم يقو قلبه على ما سيأتي به بطنها ، ففضل البقاء في البيت وقال لنفسه لو جلبت الولد سأذهب لآتي بها من المستشفى ولو.

ولم يذهب لجلبها وعندما عادت بسيارة أجرة تصطحبها بنتها الكبيرة ، صرخ أمام من في البيت ، منذ اللحظة لن تنامي معي في فراش واحد ، لم تنظر إلى وجهه ولم تكلم أحدا ، هرعت إلى الحديقة ، إلى قفص عصافير الحب التي كانت تربيها ، وجدتها ميتة نسي من في البيت أن يضع الطعام والماء لها ليومين ، جلست على دكة الباب وانفجرت في نحيب مرير .