يقدم الناقد المسرحي المغربي المرموق هنا تحليله التفصيلي لمسرحية بحرينية تمسرح الشفهي والحكائي، شاهدها في مهرجان المسرح العربي بالشارقة. ويتناول فيه بالقراءة النقدية المستبصرية مكونات النص/ العرض ومضمراته، بصورة تفكك شفرات العرض والنص معا، وتفتح المجال أمام قراءة مستويات المعنى فيه.

الحكاية والتأويل في المسرح

سالم اكويندي

1-              تقديم:
قدم عرض مسرحية عندما صمت عبد الله الحكواتي في إطار فعاليات المهرجان العربي السادس الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح، وقد تمت فعاليات هذه الدورة بالشارقة من 10 يناير إلى 16 يناير 2014 ، اعتبارا لكون هذا المهرجان يلتئم في شهر يناير من كل سنة احتفالا باليوم العربي للمسرح، والذي تقدم فيه رسالة المسرح العربي الموجهة لكل المسرحيين في العالم، وقد كانت كلمة هذا اليوم وفي هذه السنة لحاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي باعتباره مؤلفا مسرحيا ورئيسا للهيئة العربية للمسرح. ويعتبر عرض مسرحية (عندما صمت عبد الله الحكواتي)(1) ممثلا لمملكة البحرين بعد انتقائه من بين العروض المسرحية العربية المرشحة لهذه الدورة اعتمادا على معايير للجنة الانتقاء العربية بالهيئة، وبذلك جاء اختياره إلى جانب تسعة عروض مسرحية عربية أخرى وهي:

المسرحية

الفرقة / البلد

عندما صمت عبد الله الحكواتي

مسرح الصواري البحرين

ع الخشب

الأردن

الجميلات

مسرح جهوي عنابة الجزائر

حلم بلاستيك

مصر

نهارات علول

المسرح الحديث الشارقة

٨۰ درجة

٨ ونص لبنان

عربانة

الفرقة القومية للتمثيل العراق

ليلي داخلي

أشجار سوريا

دومينو

مسرح دبي الأهلي الإمارات

الدرس

أرتيستو تونس

ريتشارد الثالث

بلص وانتراكت تونس

 

2-              استهلال:
نستهل هذه القراءة من دلالات العنوان باعتبار العنوان هو العتبة الأولى لولوج العرض المسرحي، كما أن العناوين بصفة عامة هي عتبات مجاهل الأعمال الأدبية والفنية، ومداخل لمفاتيح مغالق هذه المجاهل، علما أن العناوين في بعض الحالات تبقى مراوغة لحقيقة ما يحمله العمل الفني ومنزاحة انزياح التباس عن مضامينه أو ما تريد أن تدل عليه هذه المضامين، وبذلك فإن العناوين في استنطاق دلالاتها قد لا توحي بما تنحوه القراءة، والقراءة هنا نأخذها بمعنى المقاربة او الاستشراف المنهجي في معنى القراءة والتأويل انبناء على ما يوحي به مفهوم التأويل من فهم وتفسير محتمل قد يحايث النص في كلماته ومفرداته واجناسيته، وهنا لا نحدد مفهوم النص فيما تدل عليه النصوص المقروءة وبمحمولها الثقافي وفي سياق لغة انكتابه، سواء كان عرضا مسرحيا أو منجزا فنيا أو عملا ابداعيا، مادام مقتضى القراءة ينشغل على النص بمعنى المتن أو المدونة حسب ما نستنتجه من تأّويلية نوروتوب فراي استيحاء من مفهوم التأويل عند سبينوزا.

إذن العرض المسرحي الذي أمامنا هو بمثابة متن في هذه القراءة، مع استحضار صعوبة هذه القراءة وزئبقيتها في انفلاتات المتواليات المشهدية، وما تتحكم فيه صيرورة هذه المتوالية التي هي من خاصية العرض المسرحي في انفلاته وزواله، كما أنه لا يمكن مشاهدة نفس العرض المسرحي مرتين، وهذه مسألة أخرى في استعصاء هذه القراءة والتي لها من جهة أخرى علاقة بمعطيات دراماتورجية، إن لم نقل دراماتورجيات يحتمها السياق الثقافي والتاريخي للعرض المسرحي واشتراطاته لهذه السياقات المحددة لإنبناء أنساقه وفق هذه الدراماتورجيات. سواء على مستوى الأداء التمثيلي أو مقامات تلفظاته وكذلك امتلاءات فضاءاته وفراغها في بعض الأحيان من صمت وإظلام التي يمتلئ بها وتعطيه شرط تحققه كمنجز في الأداء الفني، ومعنى الأداء الفني هنا لا نأخذه بمعنى التمثيل أو المحاكاة بل بمعنى العرض أو الاحتفال بعرض الذات خاصة الجسد.

ü                 أول ما يستوقفنا في عتبة العنوان الذي يحمله هذا العرض المسرحي هي ثنائية التناقض بين الصمت والحكي/ الكلام ( الحكواتي)، حيث لا تدل تسمية الحكواتي بما هي تسمية ينعت بها فاعل لفعل الحكي، والحكي لا يمكن أن يكون إلا بالنطق أي الكلام والتكلم. والتناقض الحاصل بين الصمت والكلام لا يتم إلا باعتباره حدثا قد وقع، ووقوع الحدث خاصة في المسرح بما هو كذلك دلالة على الحركة، بحيث لا نتصور المسرح إلا بالرؤية والمشاهدة وانبناء على قيام فعل والذي هو هنا الحدث، ولعل من أهميته في هذا العنوان/ العتبة هو الوقوع الذي تم به ما يعني تحديد سياق الفعلين التناقضين الكلام ثم الصمت وتقديمنا لفعل الكلام لا يتحدد إلا بحدوثه بمعنى أنه كان قائما وتاما فأصبح منقطعا ومنتفي الحدوث بالصمت والصمت لا يأتي متأخرا إلا باستعمال ظرف الزمان (عندما)، وبذلك يكون الحدث وحسب إيحاءات العنوان هو الصمت أي أن الصمت ورغم معنائيته في انقطاع الكلام وانحباسه بما يدل على اللا فعل، فإنه يصبح هنا وفي سياق العنوان وما يحمله العرض المسرحي فعلا دراميا وحدثا مسرحيا تنبثق منه كل محتويات العرض المسرحي ودلالاته.

والفاعل هو الحد الثالث في هذا المركب الإسمي "عبد الله" لكن من يكون عبد الله هذا؟
ألا يعني أنه فرد من أفراد في مجتمع يحدد مكوناته باسناده الإضافي لقوة لله، والله هو القوة المتعالية، وهي وحسب القراءة السطحية في تسمية المركب الإسمي "عبد الله" أي عبد السيد والسيد علاقة السائد بالمسود أو العبد والمعبود، أو السيد والعبد وهذه ثنائية أخرى في قراءة عتبة العنوان والمحدد هنا بالخضوع والاستسلام غير المجادل فيهما، وكأنه عبارة لعلاقة عبورية لمعنى الصمت الذي يعني الامتثال، لكن الامتثال غير واضح: أ هو الله أم بقوة أخرى غير الله قد تتلبس به، لكن الذي لا نجادل فيه في قيام الصمت وحدوثه لا يفهم إلا من دلالة معنى عبد، أي الخاضع لأي أمر، حتى ولو كان هذا الأمر يخفي الآمر به (العرض المسرحي يفصح عن ذلك)، مادام القائم بالصمت هو مجرد عبد ومغلوب على أمره ولا يمكنه إلا الاستسلام لهذا الأمر، علما أن عاطفة الخوف هنا واضحة وهذه العاطفة هي إحدى العاطفتين المبني عليهما قيام المسرح حسب أرسطو ازاء عاطفة الشفقة والتي يحمل العرض المسرحي مضامينها (تعاطف التجار وهم زبناء عبد الله الحكواتي في هذه السوق).

بل هم مساعدوه في الحصول على الهدايا الأربع الموعود بشرطهم لعودة الكلام واستئناف ممارسته كمحرك لفعل الحكي والذي كاد أن ينقطع إلا مما أعاد حكيه هؤلاء المساعدون من خلال حكي حكياتهم هم وليس حكايات الآخرين أي هو العودة للذات والآنا بدل الهو بما هو ضمير للغائب، لأن الغائب في الحقيقة هو حكي الذات أو حكي الآنا، لكن هذا الحكي وبهذه الدلالة كان سببا لأن يفرض على عبد الله الصمت، وكأن المسألة تتعلق بأن يصمت عبد الله الحكواتي ليبدأ عباد الله غير الحكواتيين، أي الذين فرض عليهم حكي عبد الله أن يصمتوا، وهي لعبة في تبادل امتلاك زمام الكلام والمبادرة به.

لكن عندما نعود لمنطق المسرح نجد أن البنية العميقة في هذا المنطق تعود إلى تفعيل هذين العاطفتين و(الخوف والشفقة)، وحسب ما يبدو لنا من قراءة عنوان العرض المسرحي. هذا أن الفاعل الأساسي في بنيته الدرامية هو عبد الله الحكواتي ومعارضه هو ما يحمله في دلالة اسمه أي ذلك المخفي في مركب اسمه بما هو عبد والمضاف إليه هو الله، أي تلك السلطة الآمرة والناهية والمقررة في نفس الآن بإعطاء شرعية الحكي، أي حق الكلام أو منعه، وما تمثله هذه القوة الآمرة والمثيرة لعاطفة الشفقة التي يعبر عنها أصدقاء وزبناء عبد الله الحكواتي. أليسوا هؤلاء من يمثلون المساعدين للفاعل الأساسي في بنية هذه الحكاية؟ ونشير فقط لحكايات ألف ليلة وليلة وعلاقة شهريار بشهرزاد، أليس كلام شهرزاد المباح هو وليد رغبة شهريار القوية الآمرة في السماع وفي استمرار الحكي. وضمن العرض المسرحي الذي أمامنا أليس الملك الصادق هو الآمر والراغب في سماع حكايات الكذب، بل هو الداعي للتباري من أجله.

ونخلص من هذه التساؤلات التي أثارتها لدينا مقاربة قراءة عنوان العرض المسرحي إلا أن بنية الحكي المركزية فيه يقوم بها عبد الله الحكواتي باعتباره فاعلا، ونقيضه في نفس الآن وبذلك يساهم فعل الحكي، والذي سلمه زمام الكلام في هذا الحكي أي ما يضاف إلى اسمه وما يضاف إلى اسمه شخص مجرد ويتصف بالخفاء، وقد يكون "الهو" المعارضة للأنا، لأن الأنا في مستهل هذا العرض أرادت أن تعيد سرد سيرتها الذاتية بخلاف ما هي عليه طبيعة الراوي ووظيفته أي حكي سير الآخرين وحكي حكاياتهم، وحكاينه هو الراوي هي بمتابة ذلك المحرم أو المنسي، وأثناء استرجاع لغته المنسية كان الخطر والتحذير المخصوص بعدد من الكلمات، قد لا تفي بالغرض المراد تحقيقه أي تحقيق ذاته من خلال حكي ذاته لا ذوات الآخرين.

ويمكننا القول إن عبد الله المنسي أي ذلك الذي أثبت حضوره من خلال حكي الآخرو نسيان نفسه، وعندما أراد حكي ذاته جاءه المنع لأنه قارب المحرم أو انتهكه عندما أراد خلق ذاته بحكيها وحكي الآخر هو مقام للخيال أكثر منه مقاما للحقيقة، لأن مكمن الحقيقة هو ما نعيشه وما نعيشه هو الذي تفصح عنه اللغة المنسية أي الحكاية ومجرد استعادة هذه اللغة والتي هي كلام فضلة يذهب في طي البوح وتداعي الذاكرة والتأمل فيها، بما هو كذلك تداع لمغالبة النسيان وإعطاء الآنا حقيقة وجودها وحضورها، لكن أين لسان ذلك بعد أن أخفته تكرارات العادة في تمارين حكي الكذب؟ أليست العادة وليدة التكرار؟ ثم أليس التكرار هو إحياء لطقس يولد إواليات امتلاك ذهنية الخنوع. بما يحدثه فعل الألفة وتوطيد مكامن الخوف من جديد؟ ألسنا عبيدا للعادة كما يقول بريشت ولهذا يدعونا لأن نكتشف في العادي غير العادي من أجل قول الحقيقة؟ وهنا تقوم الحكاية باستعادة دورها خاصة عندما تصبح حكاية الذات أو الأنا، أي عندما يصبح هذا الأنا هو مالك زمام الكلام، لكننا لا نملك زمامه مادمنا لم نعلن عن عودتنا للأصل، الذي اسماه مرسيا إلياد بالعود الأبدي.

ولهذا يكون الصمت محكيا وتقديرا لمقام من لا يملك لسانه/ لغته، اللغة الممتلكة هنا هي ما اعتبره هيدجر مسكنا لنا، لأنها تؤنسنا ونأتلف بها فيما نحكيه بها وتحكيه بنا، ولأن اللغة في الأخير هي نحن ومنها نستل خيوط ما يربطنا بالآخر، وهذا ما يعطي للحكاية قوتها ومن خلال فعل الحكي تزداد هذه الأواصر في ظفر أواشج خيوط الربط، أليس الراوي وبالتحديد راوي الجماعة والذي هو الراوي الشعبي في الملاحم والسيرة هو فاعل يقوم فعله في الحكي على خلق التواصل والاتصال. أو كما يقول فرانسيسكو جارثون ثيسبدس(2)، كما أن الحكاية هي الحاملة لكل محركات التعبير الجسدي والذي هو تعبير كما أسلفنا يضاعف معنى القول المحكي وايضاحه حسبما يلزم في مقامات الحكي أو السرد الشفهي.

3-              في بنيات العرض المسرحي:
قبل أن نجلو عن هذه البنيات التي يقوم عليها العرض المسرحي (عندما صمت عبد الله الحكواتي) لا بد من الإشارة للعلاقة التي تجعل من الحكاية الشعبية وفعل الحكي أو السرد الشفهي الشعبي فنا تمثيليا أي ممسرحا إن لم نقل عرضا مسرحيا مثله مثل باقي الفنون التمثيلية او فنون الأداء المسرحي، حيث يكتسب هذا التعريف مصداقيته من الإيماءات والحركات الجسدية للراوي والذي يعمل جاهدا من أجل أن يملأ فراغات المسرح حيث يؤدي عرض حكاياته مع الجمهور وليس للجمهور، لأن الجمهور في تتبعه لهذه الحركات والايماءات وتلوينات تلفظاته الحاملة لمنطوق الحكايات المشخصة وفق التعبير الجسدي للراوي تجعل منه ممثلا شفاهيا أكثر منه حكاء، وكل هذا هو ما يجعلنا أمام أداء فني مسرحي وفق ما تقتضيه مقامات السرد الشفهي التمثيلي الشعبي، حيث يكون الراوي هو محور ومحرك هذا السرد وهذا الفعل التمثيلي، كما أن هذه المعطيات هي التي تجعلنا في المسرح السردي الشفهي والذي هو مخالف لمعطيات المسرح بمفهومه التقليدي.

انطلاقا من هذا التقديم نستجلي بنيات العرض المسرحي (عندما صمت عبد الله الحكواتي): يقوم العرض المسرحي على مستويين: مستوى الحكي/السرد انطلاقا من بنية الحكاية (البنية السردية) أي مستوى منطوقها الشفاهي الذي ينهض على الملفوظ باعتباره كلاما ينطق ويسمع وبالتالي فإن فضاءه كمتخيل يكون فضاء لا مرئيا، ولهذا يستبد الكلام ومنطوقه بقول الحكاية، ويكون السمع هو الوسيلة الوحيدة والحاملة لكل محركات التعبير الجسدي عنه، والذي هو تعبير كما اسلفنا يضاعف معنى المقول المحكي وايضاحه حسبما يلزم في مقامات الحكي أو السرد الشفهي لتلقيه كمروي من قبل المروي لهم والراوي هو حامل قول المحكي في الحكاية يمثل المؤلف بقوة فعل الحكي هنا ومعاودته أي تكراره على السامعين والذي يكون حضورهم ضروريا ليمثلوا فعل المشاركة والتماهي مع الأحداث والوقائع والشخصيات التي يجري ذكرها أو الحكي عنها، وهذا الالزام والفرض في الحضور من شروط الحكاية الشفاهية والتي تقتضي حضور كل المكونات: الحكواتي أو الراوي وما يروى والمروي لهم، حتى يتحقق التواصل والابلاغ بما تحمله الحكاية من قيم ومثل.

ولنا في هذه الشروط لقيام الحكاية الشفاهية وهي في الأصل شفاهية وهذا هو الأساس في وجودها منذ القدم وفي كل المجتمعات البشرية، مما يؤكد هذا الحضور فيما نعرفه من حكايات مماثلة على مر العصور. وما نلاحظه في هذا العرض المسرحي أن الحكايات التي تحكى (يحكيها الحكواتي أو مساعدوه) سواء كانت في الأصل حكاية أو حكايات مكتوبة ثم حولت أثناء عرضها إلى أصلها الأول لتعود إلى شفاهيتها وهذا مقتضى آخر تفرضه مقامات المسرح في تداوليتها أو بأحسن تعبير مسرحي نقول هنا يحضر المعطى الدراماتورجي ليس على مستوى المقترح الدرامي في التثبت الكتابي لأنها تصبح بمثابة نص درامي معد للعرض رغم علمنا بأن معطيات السرد الشفهي او الحكي تؤدي إلى سرد شفهي تمثيلي كما سبقت الإشارة. والذي تحتمه معنى الدراماتورجية في إحدى تفريعاتها، بل حتى في إخراجها وتموقعات المؤدين فيها وتأثيثها في كل ما تتيحه فضاءات المسرح والعرض من فضاء للعب وفضاء للسينوغرافيا وفضاء الخشبة ... لضبط إيقاع العرض وإعطائه ما يستحق من تناغم حركي يساير سياق المعنى وانبنائه مما يجعلنا أمام دراماتورجيات تعتمد نقل المكتوب إلى منطوق ومرئي بكل مؤطراته الفنية والحركية وتلويناته الضوئية والموسيقية.

و ما يهمنا في هذه الملاحظة هو هذه العودة إلى شفاهية الحكاية، لأن هذه العودة تعيد المعنى لمفهوم الحكواتي كما نعرفه في تقاليدنا الحكائية، ولعل ضرورة المسرحة كانت حاضرة هنا خاصة في بعدها النصي، وهي ضرورة تفرضها كذلك خاصية الحكاية المكتوبة بالأساس، وهذه الخاصية ليست بذات الشروط التي تفرضها الحكاية الشفاهية، لأن الحكاية المكتوبة تتألف من "محاكاة" أي تمثيل لكل من الراوي وحكايته والمتلقي الضمني تبعا لما يعرفها به د. عبد الله ابراهيم، وهكذا نجد دائما وحسب د. عبد الله ابراهيم أن المرويات الكتابية تستبدل مكونات بنية المرويات الشفاهية والتي تكون بارزة بروزا واضحا اي بحضور جلي لراو/حكواتي، ومروي/حكاية، ومروي له/متلقي، تستبدلها بنوع من المحاكاة أو التمثيل لتلك المكونات علما بأن هذا الاستبدال لا يلغي هذه المكونات(3)

إن العودة بالحكايات في العرض المسرحي (عندما صمت عبد الله الحكواتي) من مكتوبها أو من انكتابها إلى شفاهيتها ليست بداعي العودة إلى الأصل فقط، بل لأن مقتضى العرض المسرحي وخاصة عندما تستوقفنا فيه معنائية الأداء المسرحي أي ذلك الظهور الجلي للاحتفاء بالممثل وعرض ذاته، ثم هناك معطى المحاكاة التي تكون الحكاية المكتوبة حاملة لدلالاتها كما سبقت الإشارة إلى ذلك بالإضافة لعنصر التمثيل الذي تفرضه مجازات الكتابة وطبيعة السرد، والتي هي في العرض تقدم شفاهيا كما هي في أداءات العروض المسرحية المرتكزة في معطياتها القولية (التلفظية) على نصوص مكتوبة وفق ما تقترحه دراماتورجيتها، لكن حكاية عبد الله الحكواتي وبما هو وارد في تسميته عبد لله تفرض علينا التأمل في معطى آخر يتعلق بالوحي أي ذلك الإلهام الرباني والذي هو نفسه سرد شفاهي أي أنه محكي ترتيلا أو قراءة من لوح لا نراه وما يجعلنا في مقام رواية تلاوته، أي التلفظ به وتحسس أثره في السمع، وهو بذلك مقام من مقامات الاعلان والبروز عنه لأن تلاوته غير منهي عنه،ا ولا تفرض شرط الطهارة مثلما هي حال النهي في حالة المكتوب الذي يعطي ذلك الاحساس المادي في ملامسته، وهذه الملاحظة في نظري ترتكز على مقتضى أخر يتعلق بتحويل ما هو في حوزة اللاهوتي إلى ما يجعله في متناول الناسوتي، وهذه إزاحة مستنتجة حول قدسية الكتاب والمكتوب في ثقافتنا العربية الإسلامية. وهناك بعد آخر يتعلق بالتمثيل، حيث رأينا أن السرد الشفهي الشعبي هو فن تمثيلي وفق ما يتحكم في أداء الراوي اثناء روايته لهذا السرد من خلال ايماءاته وملامحه التعبيرية الجسدية لإعطاء المزيد من امتلاء الساحة المتاحة كمسافة لرواية الحدث وتقريب صوره إلى إدراك الجمهور الذي يكون متمايلا ومتحركا مادام يحكي معه.

4- الاشتغال الدراماتورجي في العرض المسرحي:
أركز في هذه القراءة على الاشتغال أو الاشتغالات الدراماتورجية في هذا العرض وذلك للاعتبارات التالية:
أ. تتضح هذه الاشتغالات الدراماتورجية في بنية العرض المسرحي العميقة والتي كانت هي بؤرة تحققه كعرض مسرحي أولا، وكمتن يفتح الاشتغال عليه في بناءات دراماتورجية بالجمع وليس بالمفرد، أي أن لكل مستوى من مستوييه الحكي والتمثيل كما يقول المخرج تفريعات مترابطة مما يفرض اشتغالات دراماتورجية، إن لم نقل دراماتورجيات تعطي لهذه التفريعات البنائية ما يؤسس كيان العرض كمنجز فني متكامل في الأداء هنا والذي ليس هو التمثيل.

ب. اعتبار ثان يتعلق بكون هذه الاشتغالات الدراماتورجية حاضرة ومتأتية من كون كتابة النص أو إعداده الدراماتورجي كان استيحاء من ثلاث مصادر حكائية خاصة إذا استرجعنا ما تمت الإشارة إليه وتوضيحه في أن السرد او الحكي الشعبي هو فن تمثيلي يقوم فيه الراوي بدور الممثل من جهة وبدور المؤدي ( الأداء الفني أو فن الأداء) من جهة أخرى، أي في محكي الراوي وطريقة حكيه ما يقتضي التشخيص وهنا يحضر التمثيل أو ما يقتضي السرد/الحكي، حيث يحضر فن الأداء من أجل تحقيق التواصل مع الجمهور/المتلقين، والذين يكونون مشاركين في مثل هذه الفرجات المسرحية، لأن ( السرد الشفهي التمثيلي احدى وسائل الاتصال التي يقوم فيها الراوي بتوصيل رسالة إلى الجمهور ويتلقى الرد...) ودائما نستحضر هنا تصريحات المخرج (لجريدة الوطن، الوسيط...)

ج. اعتبار ثالث في هذه الاشتغالات الدراماتورجية يتمثل في صياغة النص الدرامية، وهذه الصياغة اعتمد فيها المخرج وهو المعد الدراماتورجي له كنص درامي مركب على اربع حكايات تتواشج فيما بينها لتعطينا الأحكية الكبرى وهي حكاية عبد الله الحكواتي والتي لم تنته من جراء صمته بل استمر حكيه في حكايات الأخرين، وهذا ما تظافرت في استكماله حكايات مساعديه أو بالأحرى زبنائه في السوق (البزاز والحلاق ونادل المقهى...) وهذه الحكايات هي معنى لتيمة العرض أو موضوعته المركزية وهي الكذب من اجل قول الحقيقة أي الحقيقة المتخفية في طي الكذب وهذا القول هو ما يفضح الكذب بأنه كذب ويثبت نقيضه كمطلب أساسي في عملية الحكي وتبادل امتلاك زمام الكلام فيه، وكأن هؤلاء الممثلين الحكائين لا يتسلمون الكلام إلا ليقولوا نقيضه وتأكيد ما عجز عبد الله الحكواتي عن قوله أي أنه ليس هو الحكاء فيما كان يحكيه بل هناك من كان يحكي له ما يحكيه أي أن حامل الحكاية وحاكيها ليس هو من يقول حقيقتها بل من يتخفى وراء ذلك وهنا نعود مرة أخرى للهو الكامن فينا بما هو لا وعينا الجمعي، حيث يختزن اللغة/الكلام، وكأنه كلام منسي ولا توقظه إلا مرارة التذكر والتداعي مع الذكريات والحفر فيها عن هذا المنسي ولعل الرجوع إلى الحكواتي وإعادة حكايته هي عودة إلى ما تبقى من اللغة حيث تمارس اللغة عنفها في الحكاية باعتبارها فضلة أي أنها ما فاض من الكلام وترسب كذكرى في لا وعينا والحكاية باعتبارها محكي شفاهي تعيدنا إلى هذا الكلام المتبقي أو ما بقي منه. وهنا نعود مرة أخرى إلى خاصية من خاصيات الراوي، حيث يقول فرانسيكو جارتون تيسبدس: " يستطيع الراوي الصادق خلال فن السرد الشفهي التمثيلي [جعل] الحدث التخيلي ليس فقط إحداث انعكاس للحقيقة، لكن خلق الحقيقة التي يستطيع من خلالها عرض أحداث الأمس، وتأكيد أحداث اليوم، وتوقع أحداث الغد، حتى يتلمس كل واحد من الجمهور طريق الحاضر والمستقبل ( 4)، والاشتغال الدراماتورجي ركز على تنضيد وبناء منطوق الكلام هذا في انكتابه من جديد وكأنه سرد مكتوب يمارس قوة محاكاته وتمثيله، باعتبار مفهوم المحاكاة هنا لا يعني استرجاع الماضي/الواقع كما كان أو حتى التنبؤ لما ينبغي أن يكون عليه حتى ولو أخذ سياقه مسارا آخر بل إننا نعني بها تمثل واسترجاع ما تبقى من هذا الواقع والتنبؤ ببعض ما ترمي إليه إشراقات التمني وحكي الحكاية هو هذا المتبقي منها.

د. اعتبار رابع يتعلق بنوعية اختيار المحكي/ المروي، وهو اختيار يستجيب لرؤيا المخرج، إن لم نقل رؤيا فريق العمل مادمنا قد تحدثنا عن اشتغالات دراماتورجية، حيث إن هذا الاشتغال ينطلق من اقتراح محدد لصوغ هذه الرؤيا والتي هي رؤيا تحكم بنية العمل في عرضه مسرحيا أداء وتشكيلا حركيا وتلفظا بما يجب أن يكون عليه العرض في مفهوم الأداء، وليس الأداء بمعنى التمثيل، رغم أن الإحالة في منطوق المحكي هنا بما هو سرد مكتوب أي أنه يستضمر باقي مكونات المحكي ولا يغيبها وهذا الاختيار وكما سبق القول يتم التركيز فيه على الحكاية الشعبية الملغزة أو حكاية الألغاز الشعبية. ويعتبر بعض الدارسين للحكاية الشعبية، أن حكاية الألغاز هي الأقدم في الظهور من كل أنواع الحكايات الشعبية، لأنها مرتبطة بحياة الانسان ومصير مستقبله. كما ان أرسطو كثيرا ما اهتم باللغز حيث أشار إلى علاقة اللغز بالإستعارة البلاغية، ومن أهمية الألغاز أنها ظهرت إلى الوجود قبل المأثور، والباحث في الحكاية الشعبية العربية يجد في مقومات اللغز كمحور رئيسي لتجسيم الصراع... وهذا النوع من الحكاية الشعبية تلتقي فيه وظائف شتى، منها ما هو تفسيري شارح للظواهر والمعضلات كالأسطورة، ومنها كذلك ما هو تعليمي ومنها ما هو اختباري... وتعتبر حكاية اللغز الشعبية ملجأ أمنيا أو الرمز الغامض الذي يلجأ إليه الضعفاء والأميون "المغلوبون" للإعلان عن عدم رضاهم عن احتكار السلطة، حيث يبرز الصراع الطبقي جليا في غلبة إنسان عاد على حاكم قوي في مجال المبارزة(5).

وهكذا نجد العرض المسرحي (عندما يصمت عبد الله الحكواتي) في نصه الحكائي الشعبي المركب ينبني على حكايات الألغاز الشعبية انبناء يقوم من جهة أخرى على اختيار درامي ومن جهة على اختيار الانفتاح الحكائي وما يمنحه من امكانيات في التشويق والاثارة وهو ما يعطي عنصر اللعب والمحاكاة والتمثيل مقتضياتها في فن السرد الشعبي التمثيلي وفن الأداء في العرض والاستعراض لتراتب الأحداث المروية وسبك حبكتها الفنية في محمول العرض المسرحي، مما يساعد على ابراز قدرات الممثلين الذين يلعبون هنا دور أو أدوار الحكواتي وكما يجب أن يكون عليه، وهذا المعطى هو ما يقربنا من المسرح ويفتح أبوابه أمام فريق العمل في فرقة مسرح الصواري. والحكايات الشعبية الملغزة تقتضيها كذلك مقامات الحكي واجراءاته في السرد والتمثيل ، كما أن طبيعة المقترح الدراماتورجي في الاشتغال النصي بما هو محكي شفاهي يفرض مثل هذا النوع من الحكايات ليس لأن الحكاية هي جوهر المروي فقط، بل ولأن الحكاية بصفة عامة هي جوهر المسرح أيضا وبالضبط المسرح الملحمي على حد تعبير برتولد بريشت والذي يأخذ في بناءات مسرحه الدراماتورجية بمعنى من معاني الراوي، رغم أن المسألة في هذا الاختيار البنائي في الكتابة الدرامية يهتم كذلك بتأكيد ضرورة حضور المروي له أي الجمهور المتلقي، وهذا ما نستنتجه في كون المبنى والمتن في المروي يشكلان وجهين متلازمين لأن المروي له لا يستدعي راويا فحسب، إنما مرويا له أيضا.(6)

وهذا الاستدعاء لا يعني في الكتابة الدرامية النصية وفي بناء العرض المسرحي المقدم أمام الجمهور إلا حضور التناقض المحدد للصراع وضبط ايقاع العرض في أداء الممثل/ الراوي وفي موقعة الجمهور كمتلق فاعل في توقعاته لما سيحدث في سياق مشهدية العرض المسرحي كمركب من جهة وكمقول محكي في تلفظات الحوار الذي يأتي متناقضا حسب طبيعة الحكاية الشعبية الملغزة والمساهمة من خلال هذه التوقعات في ايجاد الحل والذي لن يكون حلا يسيرا ولكنه يدل على توقعه وهنا مكمن بناء الحبكة الدرامية وتحريك اواليات/ميكانيزم الاشتغال الذهني في متخيل المتفرج وحسب تداعي مرجعياته الثقافية وخلفياتها التاريخية والتراثية، أي أن صناعة الفرجة هنا مبنية أساسا على هذا الاشتغال وخلق هذه الفاعلية في المشاركة التي تحقق الفرجة المسرحية، وهذا ما يعطي للعرض المسرحي قوته واستمرار مواصلة تتبع مشهدياته وفي تظافر الجهد بين جهد المؤدي والمؤدى له أو معه.

 انطلاقا من هذه المعطيات نجد اللجوء في هذا العرض المسرحي للحكايات الشعبية الملغزة ما يبررها وذلك تبعا للاعتبارات التالية:

ü                 حكاية عبد الله الحكواتي والتي هي محكي الحكواتي نفسه ومحدد فعله الأساس في العرض المسرحي كشخصية محورية وشجرة سلالة نسب الحكي الذي تتوالى أمامنا، واللغز في حكايته يتمثل في التساؤل التالي: هل هو فعلا من يحكي؟ أي هل هو الحاكي أو أنه المحكي له؟ لكنه وبهذه الصفة يتولى عملية الحكي وكأنه الحكواتي فعلا وعندما نعلم أن فعل الحكي هو فعل لممارسة حق الكلام والأخذ بناصيته تصبح شرعية ممارسته هذه مثار سؤال، لكن السؤال المأخوذ به هنا يفرض علينا أن نتساءل عن مصدر الحكي ومن هو الحكواتي فعلا؟ أليس عبد الله الذي كان حاضرا أمامنا في حلقة الحكي التي هي مساحة حقه في الكلام والاجهار به؟ ثم لماذا أصابه الخرس فأحجم عن الكلام المباح والذي لم يعد مباحا له، إلا بعد أن يأتي بأربع هدايا كشرط لاستئناف الحكي؟ لكن من الذي أوعز له بذلك؟ ألم يعبر هذا الواعز على انه من كان يلازمه طيلة خمس عشرة سنة وهي المدة الزمانية التي مارس فيها حق الكلام؟ ثم الا يعني أن عبد الله الحكواتي ليس شخصية واقعية كما أراد ان يؤكد ذلك عندما شرع في حكي سيرة حياته وأراد بها العودة إلى الواقع؟ لكن من أراد له أن يبقى مجرد شخصية خيالية يعبر من خلالها الاخرون المحكي عنهم أو حتى المحكي لهم حكايات الخيال هاته، أو هل هذا من بنات الخيال حقا؟ أم أن استغراقه في حكي سير الآخرين ووقائعهم في الماضي أو حتى في الحاضر هو ما أحدث له الالتباس للخلط بمن يكونه في الحقيقة؟ لكن الحكي هو استمرار للحياة والتشبت بها حتى الرمق الأخير؟ ولعل هذا ما مارسته متواليات الحكي، وتناسل الحكايات، فيما قام به زبناء ومساعدو عبد الله الحكواتي، بل وتعدد حكائيها تبعا لمواقعهم في هذه الحياة، رغم كل هذه التساؤلات فإن الأمر المقضي به جاء ليقول لنا إن عبد الله الصياد خبير البحار وعملاق الكون هو نفسه عبد الله الحكواتي وبهذه الصفة أصبح بحار الأعماق الإنسانية، وبهذا الإقرار الحاسم اعادنا منطق الحكي إلى ضرورة مواصلته وفي موقع الحاضر الذي تمثله مجازيا ساحة السوق، ويستمر مع ذلك لغز عبد الله الحكواتي إلى حين تحقيق الشروط الأربعة (الهدايا). وعملية الحكي هي مفتاح الوصول إليها لحل لغز حكايته.

ü                 حكاية لغز الصديق العاشق والتي تنتهي بأن هذا الصديق كان متوهما في عشقه لأن من يعشقها صارت متزوجة من الشيخ ابراهيم، وبعد مسعى صديقه للتوسط له تبين أن الشيخ ابراهيم وهو الفقيه لم يكن متزوجا، لكن اللغز لماذا أنكر الفقيه زواجه من العشيقة هل هو الخوف من الفضيحة أم أنه يمعن في إطالة عذاب وشوق الصديق المحب وممانعته من الوصول إلى عشيقته وهذا في نظره من أكبر المستحيلات، أم أن اللغز يفترض في إكبار الجفوة والفراق بما نحب والامعان في الحرام؟ أم هو تحقيق لحكمة تقول كل مطلوب هو ممنوع وبذلك نتيه في التساؤل أمام غياب حقيقة ما نطمح إليه، أم أن حقيقة العشيقة هي نفسها حقيقة حبنا لمعرفة الحقيقة، الحقيقة التي أخرجتنا من الجنة، ونلاحظ أن الأمر له ارتباط بالمرأة!

ü                 لغز حكاية التفاحات الثلاث، وتحكي هذه الحكاية عن رجل يبحث عن علاج زوجته من مرض، حيث يهديه بحثه إلى أن ذلك يتطلب الحصول على ثلاث تفاحات بمواصفات معينة، وعندما يهتدي إلى ذلك يفرح وهو يزف بها إلى زوجته، غير أن فرحته تنقلب إلى نكسة بعدما يكتشف أن إحدى التفاحات الثلاث أصبحت بيد رجل آخر يتباهى بها أمامه وهو يقضمها، وهنا يتساءل الزوج في حرج مفاجئ من أين حصل الرجل على هذه التفاحة والتي عرف أنها إحدى تفاحاته الثلاث، وتكبر نكسته وخيبة مسعاه عندما يخبره هذا الرجل أن التفاحة هي هدية قدمتها له عشيقته وبشكل من الغيرة المريبة ينقلب إلى زوجته التي لم تعطه جوابا عن فقدان التفاحة الثالثة فيزداد غضبه ويكبر شكه في خيانة زوجته التي يحبها فلم يكن له من بد إلا قتلها (ذبحها من الوريد إلى الوريد) وعندما ينفذ فعلته يعرفه ابنه أن أحد اللصوص سرق منه التفاحة الثالثة. أي أن حقيقة فقدان التفاحة ليس هو الخيانة أو حتى كونها هدية كما ادعى ذلك الرجل، بل بفعلة السرقة والاحتيال حصل على التفاحة. وهي حقيقة تخفي حقائق أخرى قد لا نعلمها أو على الأقل نسبية امتلاكنا للحقيقة كما هي وذلك بفعل الكذب والايغال في التمويه لإخفائها عمن يطلبها حقيقة واضحة.

ü                 وهذه الحكاية تضمر بعدا رمزيا في متخيلنا الديني والاقتراب من المقدس المنهى على الوصول إليه لأنه من الأسرار المقدسة ألا وهي المعرفة والمعرفة كذلك في مجرى هذه الرمزية إحالة على حقيقة وجودنا وسره ونشير هنا إلى آدم وحواء واقترابهما من الشجرة المحرمة والتي هي هنا شجرة المعرفة لكنها معرفة تتعلق بسر وجود الانسان ذاته. فهل معرفة هذه الحقيقة تعني طرد الانسان من النعيم والحكم عليه بالشقاء الذي هو فيه، وسر التفاحة في حياتنا لا يقتصر على هذا، بل إنها سبب كذلك في اكتشاف حقائق علمية أخرى، تفاحة نيوتن وقبلها تفاحة آدم، وهنا نشير إلى ارتباط التفاحة بالحقيقة، وارتباط الحقيقة والسعي إلى اكتشفاها بالمحرم أو المنع الذي هو منع لبذل المزيد من الجهد والمعاناة لإدراك هذه الرمزية التي تكون عليها التفاحة وانبنائها كلغز هو ما يثير الرغبة لدينا في المعرفة، لكن معرفتنا المدركة تبقى دائما معرفة نسبية إن لم تكن حقيقة غير مدركة مهما بذلنا من جهد، رغم أن بذل هذا الجهد هو المطلوب، الشيء الذي نسعى إليه بشتى الوسائل ومنها الحكي وما يضمره فعل الحكي من مصادفات، حيث تكون الصدفة عتبة لازمة لإثارة الدهشة والاكتشاف وهذا ما يجعل الحكايات الشعبية في هذا المجال تنوع محكيها لا للتسلية فقط بل وللمعرفة أيضا وهذا هو المهم في مسعى هذه الحكاية، ثم أليست هذه الهدية هي ما يحقق شرط إعادة امتلاكنا لزمام الكلام لمعاودة فعل الحكي، حكي حياتنا. ومعاودة سيرتها

ü                 حكاية الحلاق والسلطان الصادق الباحث عن أكبر كذبة لم يسبق له سماعها (معرفتها). وصدق السلطان هنا يطرح من خلال جهله بالكذب وهذا الجهل به هو ما دفعه لمعرفته، كما أنه بمجرد تعرفه عليه في محكي المترشحين لابداع الكذب يظهر نقيض ما ادعى السلطان أنه يجهله، لأن السماع لمحكيات الكذب ومحاولة تميزه في غرابته تتاكد معرفته له وبه إن لم نقل بممارسته وهو ما تدفعنا هذه الحكاية للوقوف عليه خاصة الكذب الذي يرتبط بالحقيقة أو البحث عن الحقيقة المرتبطة بالكذب، فعن طريق الكذب يريد هذا السلطان أن يعرف الحقيقة وليس له من حيلة لبلوغ ذلك إلا بإعلانه عن هذه الحيلة لخلق صعوبة وعائق، وعلى البطل في الحكاية الشعبية الملغزة تحديه لبلوغ المراد وتحقيق الانتصار، لكن الذي انتصر في هذه الحكاية هو الكذاب لأنه بلغ الفوز في حين أن السلطان فاز بالمعرفة وتأكد من ان الحقيقة تتخفى دائما وراء ستار الكذب، بل إن هذا الأخير هو المفتاح للوصول إلى الحقيقة، لكن حقيقة عبد الله الحكواتي تبقى هي الأخرى في سراديب الخيال وسحره والذي لا يشبه إلا سحر ذلك الكذاب الذي أخذ غمار الخيال من أجل ابداع كذبه، لكنه كذب يعتق الرقاب كما انعتقت شهرزاد من سيف شهريار، وهنا نكمن قوة الحكي وإبداعه. فهل صمت عبد الله الحكواتي ناتج عن نهايته في تناول زمام كلام الحكي باعتباره كذبا وممارسته عندما انكفأ على ذاته وأراد حكي سيرة حياته، وسيرة حياته هي الحقيقة التي يجب أن يخفيها ولا يبوح بها هكذا علانية وفي محفل الحكي، مادام محفلا للكذب؟

بعد هذه الحكايات الأربع التي جاءت ممهدة للعرض المسرحي ككتابة دراماتورجية وكمقترح عملي يتم تنفيذ مجريات العرض المسرحي وبناء مشهدياته.

5-              قراءة العرض المسرحي عندما يصمت عبد الله الحكواتي:
بعد القراءة الدراماتورجية في صياغة النص والذي هو نص كما رأينا مركب من ثلاثة نصوص سردية مكتوبة بعد أن اعيدت صياغتها من الشفاهية إلى الكتابية، وتبين مستويات السرد فيها، مع التركيز على بنيتها العميقة في الصياغة الكتابية بما يلزم ذلك من شروط هذه الكتابة السردية وفاعليتها اعتمادا على وظائف الحكاية الشعبية.

وقد اعطت عملية الاشتغال الدراماتورجي في هذه الكتابة الجديدة محورة العرض في التصور الدراماتورجي المقترح علينا في هذا العرض على الحكواتي باعتباره شخصية محورية في لعبة السرد والتمثيل وقد سبق ورأينا أن جوهر البنية يكمن في الحكاية وهي هنا وكما هي ممحورة أمامنا في العرض المسرحي حكاية الحكواتي القائم بين لعبتي السرد والحكي، فتارة يصير ذلك الشاعر الحكاء كما هي عليه الحال في الحكايات الشعبية الشفاهية المتداولة في بنية ثقافتنا العربية الاسلامية، كما أنه ذلك الممثل الذي يقوم من ثنايا الفعل الدرامي وما يفرضه عليه دور الممثل في المسرح وفي الحكاية الشعبية المكتوبة أي باعتبارها في حالة انكتابها هاته كما في السردية العربية قائمة على المحاكاة والتمثيل.

إذن العنصر الأساس في بنية العرض المسرحي عندما يصمت عبد الله الحكواتي هي الحكواتي ولكي ينتقل هذا الحكواتي أو هذه الشخصية المحورية بالربط بين شفاهية الأداء المسرحي عرضا أو تمثيلا ثم اللجوء إلى تعدد الحكي أو إن شئنا تشذره بحيث تمثل كل شذرة من شذراته عملا دراميا مسرحيا متكاملا وكأنه بنية مستقلة وهنا نصادف مصطلحين يستعملهما المؤلف او المعد المسرحي هما: الاقتباس والمسرحة.

v                فالاقتباس تحصيل حاصل بما هو تحوير أو إعداد لكن في حالته التاليفية حتى لا أقول التوليفية يمثل نوعا من الاستنبات وهذا مصطلح تمت صياغته فنيا من قبل كاتب مسرحي مغربي في أعمال تم الاشتغال عليها ليعطيها بعدا محليا/مغربيا، لكن في حالة هذا العمل لا نجد هذا المعنى مستقيما كما ذهب فيه النموذج المغربي عند محمد قاوتي، بل كما نحته توفيق الحكيم في مفهوم القالب المسرحي وهو على كل مفهوم قائم على نظرية التناص كما قعدت لها الباحثة الفرنسية جوليا كريستيفا، بما يمكن القول فيه بأنه عملية نقل من مستوى إلى مستوى أخر من الشفاهية إلى الكتابية أو العكس كما هو حاصل في حالة هذا العرض أي من الكتابية إلى الشفاهية في لعبة تراوح بين الكتابة الدرامية والكتابة الركحية بما هي مجال المسرح والمسرحة، حيث تتمظهر تجليات الحكي بفعل ايقاع الممثل وآلته الجسدية في انتلج المعنى وتلقيه تبعا لمفهوم الفرجة كمشاركة فاعلة في العرض المسرحي.

v                والمصطلح الثاني هو المسرحة وهو مصطلح يتعلق بالمرئي أي الانتقال من المحكي والمقول والملفوظ إلى المشخص والممثل تمثيلا وتشخيصا حركيا وبإيقاع درامي مؤطر سينوغرافيا ليصبح فعلا مشهديا أي تحقيق فعله الدرامي المسرحي، ولا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة إلا بعد المرحلة الأولى والتي تتجاوز في كونها إعدادا أو اقتباسا بل إنها عمل دراماتورجي لا يقوم على مفهوم الدراماتورجي بمعناها المفرد بل بمفهومها الجمعي أي تضافر جهود المخرج والممثل والسينوغراف، ولعل هذا المعطى نجده واضحا فيما تحمله البطاقة الفنية للعرض، أي أن حسين عبد العلي خليل هو المؤلف/ المعد الدراماتورجي وهو المخرج والسينوغراف...

v               توظيف أدوات المسرح بكل حرفية في العرض من تمثيل واكسوسوارات خاصة تركيزها على أداتين أساسيتين بل محوريتين في بنية العرض وايقاعه المطوي/ السكين والستائر/ الأردية، قماشات الثوب الكرسي الطاولة.

v               توظيف الساحة وتشغيلها كمكان وموقع للحكي والتمثيل والتي هي هنا الحوش أو فناء الدار او الحلقة الكور. Algora (الدائرة)

v               ضبط إيقاع العرض حركيا (جسد الممثل وحركيته وايماءاته وإنارته)، حيث يظهر معنى السينوغرافيا أي البعد التشكيلي.

v               ضبط تناغم الجهد الجماعي في الأداء المسرحي على مستوى عرض الحالات من خلال عرض تموقعات الممثل وحركية أدائه تلفظا وتشخيصا، مع ملاحظة الاغراق في بعض المشاهد إلى حد كاد معه هذا الضبط أن ينفلت بالتكرار في القيام ببعض الحركات وعودته إلى لحظة من لحظات الضجر أي عدم الحفاظ على نفس سرعة الحركة كما كانت محكمة في المشاهد السابقة ونخص بهذه الملاحظة مشهد أداء الحراس في حكاية السلطان صادق. خاصة لحظات تأنيب المرشح.

كما أن هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بتوظيف الحلقة وكيفية انبنائه في أمسيات الحكي خاصة وانها لا تؤدي دورها في إعطاء دلالة ومعنى الحكي كما يفترض في الحكواتي والذي خرج وكأنه خرج ليحكي بدون غصن ذهبي أو أداة الحكي المعتمدة أصلا في مثل هذه الحالات وبما يعوضها إضافة إلى كيفية تشكل الحلقة ذاته وانتظام جهودها والذي مثل في نظري جمهورين: جمهور مشارك وبفاعلية وهو ما يمثله جمهور الممثلين والذين هم في نفس الآن أصحاب الدكاكين في السوق والجمهور الفعلي والذي بقي ساكنا يتلقى الفرجة بدون مشاركة وفاعلية وهنا يغيب معنى الفرجة التي يتوخى العرض بلوغها ويعود بنا إلى التلقي المسرحي الصرف والقائم على مفردات أخرى ليست هي ما كان يجب أن تكون في مقصدية عرض يريد العودة بنا إلى تقليد فرجوي من تقاليدنا في مثل هذه الفرجات.

6-          تبقى الإشارة في الأخير إلى قوة الأداء المسرحي بما هو أداء يجمع بين التمثيل والأداء الفني عند الممثلين الذين أدوا هذا العرض، رغم لحظات التماهي التي أحدثوها بقوة أدائهم هذا والذي كان يمكن الا يستغرقه جهد التمثيل ليبقي ذلك البعد بين الشخصية المؤداة والشخصية المؤدية، خاصة وأن قوة العرض المسرحي تكمن في حدود هذه المسافة وهذه المراوحة هو كون الاختيار الدراماتورجي أراد ان يجعلنا أمام مفارقة مسرحية تحتمها طبيعة المسرح الدائري وما تلزمنا بها الحكاية وكيفية أدائها الحكائي ولعل دائرية المسرح حاضرة في هذه القراءة.

الهوامش:
1. عرض مسرحية (عندما صمت عبد الله الحكواتي)، لفرقة الصواري من البحرين، وقد قدم هذا العرض في إطار المهرجان العربي للمسرح الدورة السادسة بالشارقة.

1-                   ان فن السرد الشفهي هو فعل اتصالي... ومن الممكن أن يصبح بديلا للايصال...] ص23

2-                   د. عبد الله ابراهيم، السردية العربية

3-                    ص7 من كتاب مسرح السرد التمثيلي ترجمة د. سمير متولي، مركز اللغات والترجمة-أكاديمية الفنون وحدة الاصدارات مسرح(107) القاهرة سنة 1996

4-                    من كتاب خطوة على طريق المسرح للمخرج مرسي مرعي، طباعة بروس برس، طرابلس لبنان، الطبعة الأولى سنة 1991، ص27 وما بعدها.

5-                    برانس عن عبد الله ابراهيم ص 20